تاج الدين ابن الجراح

أبو الحسين يحيى بن أبي علي منصور بن الجراح بن الحسين بن محمد بن داود بن الجراح المصري، وهذه الزيادة في نسبه وجدتها بخط بعض الأدباء ولا أتحققها، والأول أصح، الكاتب المنعوت تاج الدين؛ كتب في ديوان الإنشاء بالديار المصرية مدة طويلة. وكتب الكثير، وكان خطه في غاية الجودة، وكان فاضلاً أديباً متقناً، له فطرة حسنة وشعر فائق ورسائل أنيقة، وسنع الحديث بثغر الإسكندرية المحروسة على الحافظ أبي طاهر السلفي وأبي الثناء حماد بن هبة الله الحراني، وحدث وسمع الناس عليه.

وله لغز في الدملج الذي تلبسه النساء، وهو بديع في بابه فأحببت ذكره، وهو نثر: ما شيء قلبه حجر، ووجهه قمر، إن نبذته صبر، واعتزل البشر وإن أجعته رضي بالنوى، وانطوى على الخوى، وإن أشبعته قبل قدمك، وصحب خدمك، وإن غلفته ضاع، وإن أدخلته السوق أبى أن يباع، وإن أظهرته جمل المتاع، وأحسن الإمتاع، وإن شددت ثانيه، وحذفت منه القافية، كدر الحياة وأوجب التخفيف في الصلاة، وأحدث في وقت العصر الضجر، ووقت الفجر الخدر، وجمع بين حسن العقبى وقبح الأثر، هذا وإن فصلته دعا لك، وأبقى ما إن ركبته هالك، وربما بلغك آمالك، وكثر مالك، وأحسن بعون المساكين مآلك، والسلام.

قلت: وهذا اللغز قد يقف عليه من لا يعرف طريق حله، فيعسر عليه تفسيره، فيحتاج إلى الإيضاح، فأقول: أما قوله " ما شيء قلبه حجر " فمراده قلب حروف دملج، فإنا إذا قلبنا هذه الحروف يخرج منها " جلمد " وهو الحجر، وقوله " ووجهه قمر " يريد أنه مستدير كالقمر، وقوله " إن نبذته صبر واعتزل البشر " فالبشر جمع بشرة، فالإنسان إذا ألقى الدملج عنه صبر واعتزل بشرته إذ ليس فيه أهلية المنع فهو يصبر ويعتزل المكان الذي كان فيه. وقوله " وإن أجعته رضي بالنوى " فالنوى لفظ مشترك يقع على البعد وعلى نوى التمر، وعادتهم في بلاد العراق أن يطحنوا نوى التمر والرطب والبسر ويعلفوا به البقر، وقصد هاهنا هذه التورية، فإن الدملج إذ أخرج من العضد أو من الساق فقد جاع، لأنه يكون فارغ الجوف، ويرضى بالنوى الذي هو البعد عن عضو صاحبه، ويقولون: فلان يرضى بالنوى، إذا كان فقيراً لا يجد ما يتبلغ به، فهو يجتزئ بمص النوى، وهذا يفعله أهل الحجاز والبلاد المجدية، لقلة الأقوات عندهم، فقد استعمل صاحب هذا اللغز لفظة النوى في هذين المعنيين، وهذه هي التورية، وقوله " وانطوى على الخوى " فالخوى هو الخلو، وإذا كان فارغ الجوف فهو خاوٍ، وقوله " وإن أشبعته قبل قدمك " مراده بالإشباع هنا لبس الدملج، فإن صاحبه إذا لبسه فقد ملأ جوفه، ويكون فوق القدم فكأنه يقبله. وقوله " وصحب خدمك " فيه تورية أيضاً فإن الخدم جمع خادم، وهذا الجمع قليل الاستعمال لهذا الواحد فإنه لا يقال فاعل وجمعه فعل إلا في ألفاظ مسموعة مثل خادم وخدم وغائب وغيب، وحارس وحرس، وجامد وجمد، وغير ذلك، فهو موقوف على السماع، وخدم جمع خدمة أيضاً، وهو سير يشد في رسغ البعير تشد إليه سريحة النعل وبه سمي الخلخال خدمة لأنه ربما كان من سيور يركب فيه الذهب والفضة ويجمع على خدام أيضاً. وقوله " وإن غلفته ضاع " هذا فيه تورية أيضاً، فإن التغليف أن يجعل للشيء غلافاً، والتغليف استعمال الطيب أيضاً. وقوله " ضاع " فيه تورية أيضاً، فإنه يقال ضاع الشيء من الضياع، وضاع الطيب إذا عبقت رائحته. وقوله " وإن أدخلته السوق أبى أن يباع "فالسوق جمع ساق، وفيه التورية أيضاً لأن السوق موضع البيع والشراء، والسوق كما ذكرناه. وقوله " أبى أن يباع " لأن العادة أنه لا يباع إلا إذا أخرج من العضو الذي هو فيه، ولا يباع قبل إخراجه، فكأنه قبل الإخراج أبى البيع، وقوله " وإن أظهرته جمل المتاع، وأحسن الإمتاع " فهذا ظاهر لا حاجة له إلى تفسير. وقوله " وإن شددت ثانيه " وهو الميم، و" حذفت منه القافية " وهي الجيم، فيبقى الدمل، وهو يكدر الحياة بألمه، ويوجب التخفيف في الصلاة للألم أيضاً. وقوله " وأحدث في وقت العصر الضجر " فالعصر فيه التورية أيضاً، لأنه اسم الصلاة، وهو مصدر لفعل عصر، وكذلك الفجر، لأنه اسم للصبح وهو مصدر لفعل فجر، فالإنسان في وقت عصر الدمل يحصل له الضجر والقلق وإذا فجره وخلص منه حصل له الخدر والراحة. وقوله " وجمع بين حسن العقبى وقبح الأثر " فقصد المقابلة بين الحسن والقبح، ولا شك أن عقبى انفجار الدمل حسنة، وإن كان الأثر الذي يبقى في المكان قبيحاً. وقوله " وإن فصلته دعا لك " معناه أنك إذا فصلت أحد النصفين من لفظ الدملج من النصف الآخر، فالنصف منه " دُم " وهو الدعاء للإنسان بالدوام، وقوله " وأبقى ما إن ركبته هالك " فالباقي منه " لج " واللج هو لج البحر، وإن كان النصف من الدملج مخففاً، ولج البحر مشدداً، لكنهم يغتفرون مثل هذا في الألغاز والتصاحيف والأحاجي، ولا يبالون به، ولا شك أن ركوب البحر أمر هائل، فلهذا قال " هالك وربما بلغك آمالك " لأنه يوصل الإنسان إلى الموضع الذي يقصده. وقوله " وكثر مالك " معناه إذا ركبه الإنسان للتجارة، وقوله " وأحسن بعون المساكين مآلك "، فعون المساكين هو السفينة، كما قال الله تعالى "أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر" "الكهف: " فهي عون لهم على حاجتهم وسد خلتهم، ومآل الشيء عاقبة أمره، والله تعالى أعلم.

قلت: وفي اللغز ثماني لغات، لغز بضم اللام وسكون الغين، ولغز بضمهما، ولغز بضم اللام وفتح الغين، ولغز بفتح اللام وسكون الغين، ولغز بفتحهما، وألغوزة الهمزة وسكون اللام وضم الغين، ولغيزي بضم اللام وتشديد الغين مع القصر، ولغيزاء مثل الأول إلا أن الغين مخففة ومفتوحة والألف ممدودة، والله أعلم.

وقد طال الكلام لكن الحاجة دعت إليه كي لا يبقى فيه التباس على سامعه، ورأيت في مجموع بخط بعض الفضلاء بيتين منسوبين إليه، وهما هذان:

أمد كفي إلى البيضاء أقلعـهـا

 

من لحيتي فتفديهـا بـسـوداء

هذي يدي وهي مني لا تطاوعني

 

على مرادي فما ظني بأعـدائي

وكانت ولادة المذكور في ليلة السبت خامس عشر شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. وتوفي في خامس شعبان سنة ست عشرة وستمائة بدمياط، والعدو المخذول محاصرها، رحمه الله تعالى.

وجراح: بفتح الجيم وتشديد الراء وبعد الألف حاء مهملة.

ثم إن العدو ملك دمياط يوم الثلاثاء السابع والعشرين من الشهر المذكور، والله أعلم.

ونقلت من خط الشيخ مهذب الدين أبي طالب محمد بن علي اللغوي المعروف بابن الخيمي الحلي نزيل مصر أن العدو نزل قبالة دمياط يوم الثلاثاء ثاني عشر ربيع الأول سنة خمس عشرة وستمائة، ونزل البر الشرقي يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة من السنة، وأخذ الثغر يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة، واستعيدت منهم يوم الأربعاء تاسع عشر رجب سنة ثماني عشرة وستمائة، ومدة نزولهم عليها إلى أن انفصلوا عنها ثلاث سنين وثلاثة أشهر وسبعة عشر يوماً، ومن الاتفاق العجيب نزولهم عليها يوم الثلاثاء وإحاطتهم بها يوم الثلاثاء وملكهم لها يوم الثلاثاء، وقد جاء في الخبر أن الله تعالى خلق المكروه يوم الثلاثاء.

ولفظة دمياط سريانية، وأصلها بالذال المعجمة، ويقولونه ذمط، وتفسيره القدرة الربانية، وكأنه إشارة إلى مجمع البحرين العذب والملح، والله تعالى أعلم.