يزيد بن المهلب

أبو خالد يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي - قد تقدم ذكر أبيه في حرف الميم ورفعت نسبه وتكلمت عليه فأغنى عن الإعادة هاهنا؛ ذكر ابن قتيبة في كتاب " المعارف " وجماعة من المؤرخين: أنه لما مات أبوه - في التاريخ المذكور في ترجمته - كان قد استخلف ولده يزيد مكانه، ويزيد ابن ثلاثين سنة يومئذ، فعزله عبد الملك بن مروان برأي الحجاج بن يوسف الثقفي، وولى مكانه في خراسان قتيبة بن مسلم الباهلي - قلت: وقد تقدم ذكره في حرف القاف - وصار يزيد في يد الحجاج - قلت: وكان الحجاج زوج أخته هند بنت المهلب - وكان الحجاج يكره يزيد لما يرى فيه من النجابة فيخشى منه لا يترتب مكانه، فكان يقصده بالمكروه في كل وقت كي لا يثب عليه، وكان الحجاج في كل وقت يسأل المنجمين ومن يعاني هذه الصناعة عمن يكون مكانه، فيقولون: رجل اسمه يزيد، فلا يرى من هو أهل لذلك سوى يزيد المذكور، والحجاج يومئذ أمير العراقين، وكذا وقع، فإنه لما مات الحجاج ولي يزيد مكانه، هذا قول المؤرخين.

نعود إلى تتمة ما ذكره في " المعارف " - قال: فعذبه الحجاج، وهرب يزيد من حبسه إلى الشام يريد سليمان بن عبد الملك، فأتاه فشفع له إلى أخيه الوليد بن عبد الملك، فأمنه وكف عنه، ثم ولاه سليمان خراسان حين أفضت إليه الخلافة، فافتتح جرجان ودهستان وأقبل يريد العراق، فتلقاه موت سليمان بن عبد الملك، فصار إلى البصرة، فأخذ عدي بن أرطأة، فأوثقه وبعث به إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فحبسه عمر، فهرب من حبسه وأتى البصرة، ومات عمر، فخالف يزيد -وخلع يزيد- بن عبد الملك، فوجه إليه أخاه مسلمة فقتله.

وقال الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر في تاريخه الكبير: يزيد بن المهلب ولي إمرة البصرة لسليمان بن عبد الملك، ثم نزعه عمر بن عبد العزيز وولى عدي بن أرطأة، وقدم به إلى عمر مسخوطاً عليه، حكى عن أنس بن مالك وعمر بن عبد العزيز وأبيه المهلب، وروى عنه ابنه عبد الرحمن وأبو عيينة ابن المهلب وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم، وقال الأصمعي: إن الحجاج قبض على يزيد وأخذه بسوء العذاب، فسأله أن يخفف العذاب عنه على أن يعطيه كل يوم مائة ألف درهم ليشتري بها عذابه، فإن أداها وإلا عذبه إلى الليل، قال: فجمع يوماً مائة ألف درهم ليشتري بها عذابه، فدخل عليه الأخطل الشاعر فقال:

أبا خالد بادت خراسان بعـدكـم

 

وصاح ذوو الحاجات أين يزيد

فلا مطر المروان بعدك مطرةً

 

ولا اخضر بالمروين بعدك عود

فما لسرير الملك بعدك بهـجة

 

ولا لجواد بعـد جـودك جـود

 

- قوله في البيت الثاني " فلا مطر لمروان، ولا اخضر بالمروين " هما تثنية مرو، إحداهما مرو الشاهجان، وهي العظمى، والأخرى مرو الروذ، وهي الصغرى، وكلتاهما مدينتان مشهورتان بخراسان، وقد تكرر ذكرهما في هذا الكتاب - قال: فأعطاه مائة الألف، فبلغ ذلك الحجاج، فدعا به وقال: يا مروزي، أكل هذا الكرم وأنت بهذه الحالة؟ قد وهبت لك عذاب اليوم، قلت: هكذا ذكر ابن عساكر، والمشهور أن صاحب هذه الواقعة والأبيات هو الفرزدق، ثم إني رأيت هذه الأبيات في ديوان زياد الأعجم، والله أعلم بالصواب.


وذكر الحافظ أيضاً أن يزيد لما هرب من الحجاج قاصداً سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ بالرملة، فاجتاز في طريقه بالشام على أبيات عرب، فقال لغلامه: استقنا هؤلاء لبناً، فأتاه بلبن فشربه، فقال: أعطهم ألف درهم، فأعطاهم.


وقال الحافظ أيضاً: حج يزيد بن المهلب فطلب حلاقاً، فجاء فحلق رأسه، فأمر له بألف درهم، فتحير ودهش، وقال: هذا الألف أمضي إلى أمي فلانة وأشتريها، فقال: أعطوه ألفاً آخر، فقال: امرأتي طالق إن حلقت رأس أحد بعدك، فقال: أعطوه ألفين آخرين. وقال المدائني: وكان سعيد بن عمر بن العاص مؤاخياً ليزيد بن المهلب، فلما حبس عمر بن عبد العزيز يزيد منع الناس من الدخول إليه، فأتاه سعيد فقال: يا أمير المؤمنين، لي على يزيد خمسون ألف درهم، وقد حلت بيني وبينه، فإن رأيت أن تأذن لي فأقتضيه، فأذن له، فدخل عليه، فسر به يزيد وقال: كيف دخلت إلي؟ فأخبره سعيد، فقال: والله لا تخرج إلا وهي معك، فامتنع سعيد، فحلف يزيد ليقبضها، فوجه إلى منزله، حتى حمل إلى سعيد خمسون ألف درهم.


وزاد ابن عساكر فقال: وفي ذلك قال بعضهم:

فلم أر محبوساً من الناس ماجداً

 

حبا زائراً في السجن غير يزيد

سعيد بن عمرو إذ أتاه أجـازه

 

بخمسين ألفاً عجلت لسـعـيد

 

-وذكر أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني في كتاب " الجليس والأنيس " عن عبد الله الكوفي قال: أغرم سليمان بن عبد الملك عمر بن هبيرة عن غزاة في البحر ألف ألف درهم، فمشى إلى يزيد بن المهلب، وقد ولي العراق، عثمان بن حيان المري والقعقاع بن خالد العبسي والهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي وغيرهم من قيس، فلما انتهوا إلى باب سرادق يزيد أذن لهم الحاجب في دخولهم وأعلمهم أنه يغسل رأسه، فلما فرغ خرج في مستقة فألقى نفسه على فراشه ثم قال: ما ألف بينكم؟ فقال عثمان: هذا ابن هبيرة شيخنا وسيدنا، كان الوليد حمل معه مالاً حيث وجهه إلى البحر فأعطاه جنده فخرج عليه من غرمه ألف ألف درهم، فقلنا يزيد سيد أهل اليمن ووزير لسليمان وصاحب العراق ومن قد يحمل أمثالها عمن ليس بأمثالنا، ووالله لو وسعتها أموال قيس لاحتملناها. ثم تكلم القعقاع فقال: -يا- ابن المهلب، هذا خير ساقه إليك وليس أحد أولى به منك، فافعل به كبعض فعلاتك الأولى، فلن يصدك عن قضاء هذا الحق ضيق، ولا تبخل وقد أتيناك مع ابن هبيرة فيما حمل، فهب لنا أموالنا واستر في العرب عورتنا، ثم تكلم الهذيل بن زفر فقال: يا ابن المهلب، إني لو وجدت من الممشى إليك بداً لما مشيت إليك، لأن أموالك بالعراق، وإنما اتيتنا خائفاً ثم أقمت فينا ضعيفاً، ثم تخرج من عندنا محروساً، وايم الله لئن تركناك بالشام لنأتينك بالعراق، وما هاهنا أقرب في الحظوة واوجب للذمام؛ ثم تكلم ابن خيثمة فقال: إني لأقول لك يا ابن المهلب ما قال هؤلاء، أخبرني إن أنت عجزت عن احتمال ما على ابن هبيرة فعلى من المعول؟ لا والله ما عند قيس له مكيال، ولا في أموالهم متسع، ولا عند الخليفة له فرج، ثم تكلم ابن الهبيرة فقال: أما أنا فقد قضيت حاجتي، رددت أم نجحت، لأنه ليس لي أمامك متقدم ولا خلفك متأخر، وهذه حاجة كانت في نفسي فقضيتها،. فضحك يزيد بن المهلب وقال: إن التعذر أخو البخل، ولا اعتذار فاحتكموا، فقال القعقاع: نصف المال، فقال يزيد: قد فعلت، يا غلام: يا غلام غداءك، قال: فجيء بالطعام فأبقينا أكثر مما أفرغنا، فلما فرغنا أمر بتطييبنا وأجاد الكسوة لنا، وقال: ثم خرجنا حتى إذا مررنا، قال ابن هبيرة، فأخبروني عما بقي، من يحمله بعد ابن المهلب، لقد صغر الله قدركم وأخطاركم، والله ما يدري يزيد ما بين النصف والتمام، وما هما عنده سواء، ارجعوا إليه فكلموه في الباقي، قال: وقد كان يزيد ظن بهم أن سيرجعون إليه في التمام، فقال للحاجب: إذا عادوا أدخلهم، فقال لهم يزيد، إن ندمتم أقلناكم وإن استقللتم زدناكم، فقال له ابن هبيرة: يا ابن المهلب، إن البعير إذا أوقر أثقلته أذناه، وأنا بما بقي مثقل، فقال: قد حملتها عنك، ثم ركب إلى سليمان فقال: يا أمير المؤمنين، إنك إنما رشحتني لتبلغ بي، وإني لا أضيق عن شيء اتسع له مالك، وما في أيدينا فواضلك يصطنع بها الناس وتبنى بها المكارم، ولولا مكانك قلقنا بالصغير، ثم قال له إنه أتاني ابن هبيرة بوجوه أصحابه، فقال له سليمان: أمسك اياك في مال الله عنده، خب ضب، جموع منوع، جزوع هلوع، هيه، فصنعت ماذا؟ قال: حملتها عنه، قال: احملها إذن إلى بيت مال المسلمين، قال: والله ما حملتها خدعة وأنا حاملها بالغداة، ثم حملها، فلما خبر سليمان بذلك دعا يزيد فلما رآه ضحك وقال: ذكت بك ناري، ووريت بك زنادي، غرمها علي وحمدها لك، قد وفت لي يميني، فأرجع المال إليك، ففعل-. وقال يزيد يوماً: والله للحياة أحب من الموت، ولثناء حسن أحب إلي من الحياة، ولو أنني أعطيت ما لم يعطه أحد لأحببت أن يكون لي أذن أسمع غداً ما يقال في إذا أنا مت كريماً، وقد سبق ذكر هذا الكلام في ترجمة أبيه المهلب وأنه من كلامه، لا من كلام ابنه يزيد، والله أعلم.


وقال أبو الحسن المدائني: باع وكيل ليزيد بن المهلب بطيخاً جاءه من مغل بعض أملاكه بأربعين ألف درهم، فبلغ ذلك يزيد فقال له: تركتنا بقالين، أما كان في عجائز الأزد من تقسمه فيهن؟ ومدحه عمر بن لجأ بشعر يقول فيه:

آل المهلب قوم إن نسبتـهـم

 

كانوا الأكارم آبـاء وأجـدادا

كم حاسدٍ لهم يعيا بفضلـهـم

 

وما دنا من مساعيهم ولا كادا

إن العرانين تلقاها محـسـدةً

 

ولا ترى للئام الناس حسـادا

لو قيل للمجد حد عنهم وخلهم

 

بما احتكمت من الدنيا لما حادا

إن المكارم أرواح يكون لهـا

 

آل المهلب دون الناس أجسادا

 

وقال الأصمعي: قدم على يزيد بن المهلب قوم من قضاعة، فقال رجل منهم:

والله ما ندري إذا ما فـاتـنـا

 

طلب لديك من الذي نتطلـب

ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد

 

أحداً سواك إلى المكارم ينسب

فاصبر لعادتك التي عودتـنـا

 

أو لا فأرشدنا إلى من نذهب

 

فأمر له بألف دينار، فلما كان في العام المقبل وفد عليه فأنشده:

ما لي أرى أبوابهم مهـجـورةً

 

وكأن بابك مجمـع الأسـواق

حابوك أم هابوك أم شاموا الندى

 

بيديك فانتجعوا مـن الآفـاق

إني رأيتك للمكارم عـاشـقـاً

 

والمكرمات قليلة الـعـشـاق

 

فأمر له بعشرة آلاف درهم.


وأجمع علماء التاريخ على أنه لم يكن في دولة بني أمية أكرم من بني المهلب، كما لم يكن في دولة بني العباس أكرم من البرامكة، والله أعلم، وكان لهم في الشجاعة أيضاً مواقف مشهورة.


وحكى ابن الجوزي في كتاب " الأذكياء " أن يزيد بن المهلب وقعت عليه حية فلم يدفعها عن نفسه، فقال له أبوه: ضيعت العقل من حيث حفظت الشجاعة.


ولما خرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي على الحجاج، وقصته المشهورة، أتى تستر فاجتمع إليه جماعة، فذكروا يوماً آل المهلب ووقعوا فيهم، فقال عبد الرحمن لحريش بن هلال القريعي، وكان في القوم: ما لك يا أبا قدامة لا تتكلم؟ فقال: والله ما أعلم أحداً أصون لنفسه في الرخاء ولا أبذل لها في الشدة منهم.


وقدم عبد الرحمن بن سليم الكلبي على المهلب، فرأى بنيه قد ركبوا عن آخرهم، فقال: أنس الله الإسلام بتلاحقكم، أما والله لئن لم تكونوا أسباط نبوة إنكم أسباط ملحمة.


ومات ابن لحبيب بن المهلب بن أبي صفرة، فقدم أخاه يزيد ليصلي عليه، فقيل له: أتقدمه وأنت أسن منه والميت ابنك؟ فقال: إن أخي قد شرفه الناس وشاع فيهم له الصيت، ورمته العرب بأبصارها، فكرهت أن أضع منه ما رفعه الله تعالى.
ونظر مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى يزيد بن المهلب وهو يمشي وعليه حلة يسحبها، فقال له: ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟ فقال يزيد: أما تعرفني؟ فقال: بلى، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك حامل عذرة، قلت: وقد نظم هذا المعنى أبو محمد عبد الله بن محمد البسامي الخوارزمي فقال:

عجبت من معجبٍ بصورتـه

 

وكان من قبل نطـفة مـذره

وفي غدٍ بعد حسن صـورتـه

 

يصير في الأرض جيفة قذره

وهو على عجبه ونـخـوتـه

 

ما بين ثوبيه يحمل الـعـذره

 

وذكر الحافظ المعروف بابن عساكر في تاريخه الكبير في ترجمة أبي خداش مخلد بن يزيد بن المهلب أن مخلداً أحد الأسخياء الممدوحين، وفد على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يكلمه في أمر أبيه يزيد، وقد حبسه عمر، وكان أبوه قد ولاه جرجان، فاجتاز في طريقه بالكوفة، فأتاه حمزة بن بيض الحنفي الشاعر المشهور في جماعة من أهل الكوفة فقام بين يديه وأنشده:

أتيناك في حاجة فاقضهـا

 

وقل مرحباً يجب المرحب

ولا لا تكلنا إلى معـشـرٍ

 

متى يعدوا عدة يكـذبـوا

فإنك في الفرع من أسـرةٍ

 

لهم خضع الشرق والغرب

وفي أدبٍ فيهم ما نـشـأت

 

فنعم لعمـرك مـا أدبـوا

بلغت لعشرٍ مضت من سنيك

 

ما بلـغ الـسـيد الأشـيب

فهمك فيها جسـا الأمـور

 

وهم لداتـك أن يلـعـبـوا

وجدت فقـلـت ألا سـائل

 

فيسأل أو راغـب يرغـب

فمنك العطية للـسـائلـين

 

وممن ببابك أن يطـلـبـوا

 

فقال له: هات حاجتك، فقضاها، وقيل أمر له بمائة ألف درهم.


وقدم على مخلد رجل كان قد زاره قبل ذلك فأجازه وقضى حقه، فلما عاد إليه قال له مخلد: ألم تكن أتيتنا فأجزناك؟ قال: بلى، قال: فماذا ردك؟ قال: قول الكميت فيك:

سألناه الجزيل فما تلـكـا

 

وأعطى فوق منيتنا وزادا

فأعطى ثم أعطى ثم عدنا

 

فأعطى ثم عدت له فعادا

مراراً ما أعـود إلـيه إلا

 

تبسم ضاحكاً وثنى الوسادا

 

فأضعف له ما كان أعطاه.


وقال قبيصة بن عمر المهلبي: كان يزيد بن المهلب قد فتح جرجان وطبرستان وأخذ صول، وهو رئيس من رؤسائهم - قلت: كان صاحب جرجان، وهو جد إبراهيم بن العباس الصولي وأبي بكر محمد بن يحيى الصولي الأديبين الشاعرين المشهورين - قال: فأصاب يزيد أموالاً كثيرة وعروضاً كثيرة، فكتب إلى سليمان بن عبد الملك: إني قد فتحت طبرستان وجرجان، ولم يفتحهما أحد من الأكاسرة ولا أحد ممن كان بعدهم غيري، وإني باعث إليك بقطران عليها الأموال والهدايا يكون أولها عنك وآخرها عني. فلما مات سليمان وأفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعده، أخذه عمر بهذه العدة لسليمان فحبسه، فقدم ابنه مخلد على عمر - قال قبيضة المهلبي: وهب مخلد من لدن خروجه من مرو الشاهجان إلى أن ورد دمشق ألف ألف درهم - فلما أراد مخلد الدخول على عمر لبس ثياباً مستنكرة وقلنسوة لاطية، فقال له عمر: لقد شمرت، فقال له: إذا شمرتم شمرنا وإذا أسبلتم أسبلنا، ثم قال له: ما بالك قد وسع الناس عفوك حبست هذا الشيخ، فإن تكن عليه بينة عادلة فاحكم عليه وإلا فيمينه، أو فصالحه على ضياعه، فقال يزيد: أما اليمين فلا تتحدث العرب أن يزيد صبر عليها، ولكن ضياعي فيها وفاء لما يطلب.


ومات مخلد وهو ابن سبع وعشرين سنة، فقال عمر: لو أراد الله بهذا الشيخ خيراً لأبقى هذا الفتى. ويقال إن مخلد بن يزيد أصابه الطاعون فمات، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ثم قال: اليوم مات فتى العرب، وأنشد متمثلاً:

على مثل عمرو تذهب النفس حسرةً

 

وتضحي وجوه القوم مغبرةً سـودا

 

ورثاه حمزة بن بيض الحنفي - المقدم ذكره - بأبيات منها:

وعطلت الأسرة منـك إلا

 

سريرك يوم تحجب بالثياب

وآخر عهدنا بك يوم يحثـى

 

عليك بدابقٍ سهل التـراب

 

وقال الفرزدق يرثيه:

وما حملت أيديهم من جـنـازةٍ

 

ولا ألبست أثوابها مثل مخـلـد

أبوك الذي تستهزم الخيل باسمه

 

وإن كان فيها قيد شهر مطـرد

وقد علموا إذ شهد حقـويه أنـه

 

هو الليث ليث الغاب لا بالمعرد

 

قلت: وهذا يدل على أن مخلد بن يزيد مات في حدود سنة مائة للهجرة لأن عمر بن عبد العزيز ولي الخلافة في صفر سنة تسع وتسعين وتوفي في رجب سنة إحدى ومائة، وقد مات عنده وصلى عليه، ويدل على أن موت مخلد كان بدابق ما تقدم من مرثية حمزة بن بيض، ودابق: قرية من أعمال حلب من جانبها الشمالي، وإليها ينسب المرج الذي يقال له " مرج دابق " وبه كانت وفاة سليمان بن عبد الملك، وقبره هناك مشهور.


ونعود إلى ذكر يزيد: قال أبو جعفر الطبري في تاريخ الكبير: إن المغيرة بن المهلب كان نائباً عن أبيه وعمله كله، ومات في رجب سنة اثنتين وثمانين - كما ذكرناه في ترجمة المهلب- فأتى الخبر يزيد، وعلم أهل المعسكر ولم يعلموا المهلب، وأحب يزيد أن يعلمه من النساء فصرخن، فقال المهلب: ما هذا؟ فقيل: مات المغيرة، فاسترجع وجزع حتى ظهر عليه، فلامه بعض خاصته، فدعا يزيد فوجهه إلى مرو وجعل يوصيه بما يعمل ودموعه تنحدر على لحيته، وكتب الحجاج إلى المهلب يعزيه عن المغيرة، وكان سيداً.
 قلت: وكان للمغيرة ابن اسمه بشر ذكره أبو تمام الطائي في كتاب " الحماسة " في الباب الأول، وأورد من شعره قوله في يزيد:

جفاني يزيد والمغيرة قد جـفـا

 

وأمسى يزيد لي قد أزور جانبه

وكلهم قد نال شبعاً لـبـطـنـه

 

وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه

فيا عمِّ مهلاً واتخذنـي لـنـوبة

 

تنوب فإن الدهر جـمٌّ نـوائبـه

أنا السيف إلا أن للسيف نـبـوةً

 

ومثلي لا تنبو عليك مضاربـه

على أي بابٍ الإذن بـعـد مـا

 

حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه

 

رجعنا إلى تتمة كلام الطبري: وكان المهلب يوم مات المغيرة مقيماً بكش وراء النهر لحرب أهلها، فسار يزيد في ستين فارساً، فلقيهم خمسمائة من الترك في المفازة، وحاصل الأمر أنه بينهم قتال شديد، ورمي يزيد في ساقه، ثم إن المهلب صالح أهل كش على فدية وانصرف عنهم متوجهاً إلى مرو، فلما وصل إلى زاغول، قرية من أعمال مرو الروذ، أصابته الشوصة، فدعا ولده حبيباً ومن حضر من ولده، ودعا بسهام فحزمت، وقال: أفترونكم كاسريها مجتمعة؟ فقالوا: لا، قال: أفترونكم كاسريها مفترقة، قالوا: نعم، قال: هكذا الجماعة، ثم أوصاهم وصية طويلة لا حاجة إلى ذكرها، ثم قال في آخرها: وقد استخلفت يزيد، وجعلت حبيباً على الجند حتى يقدم بهم على يزيد، فلا تخالفوا يزيد، فقال له ولده المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه، ومات المهلب - حسبما شرحناه في ترجمته - وأوصى إلى حبيب، فصلى عليه حبيب ثم ساروا إلى مرو، فكتب يزيد إلى عبد الملك بوفاة المهلب واستخلافه إياه، فأقره الحجاج، ثم إنه عزله في سنة خمس وثمانين واستعمل أخاه المفضل.


وكان سبب ذلك أن الحجاج وفد على عبد الملك فمر في منصرفه بدير فنزله، فقيل له: إن بهذا الدير شيخاً من أهل الكتب عالماً فدعا به وقال: يا شيخ، هل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟ فقال: نعم، نجد ما مضى من أمركم وما أنتم فيه وما هو كائن، قال: أفمسمى أم موصوفاً؟ قال: كل ذلك موصوف بغير اسم واسم بغير صفة، قال: فما تجدون صفة أمير المؤمنين قال: نجده في زماننا الذي نحن فيه أنه ملك أقرع، من يقم لسبيله يصرع، قال: ثم من؟ قال: رجل يقال له الوليد، قال: ثم ماذا؟ قال: رجل اسمه نبي يفتح به على الناس - قلت: وهو سليمان بن عبد الملك - قال: أفتعلم ما ألي؟ قال: نعم، قال: فمن يليه بعدي؟ قال: رجل يقال له يزيد، قال: في حياتي أم بعد موتي؟ قال: لا أدري، قال: أفتعرف صفته؟ قال: يغدر غدرة، لا أعرف غير هذا.


قال: فوقع في نفسه أنه يزيد بن المهلب، وارتحل فسار سبعاً وهو وجل من قول الشيخ، وقدم فكتب إلى عبد الملك يستعفيه من العراق، فكتب إليه: قد علمت الذي تغزو، وأنك تريد أن تعلم رأيي فيك. ثم إن الحجاج أجمع على عزل يزيد فلم يجد لذلك سبباً، حتى قدم الخيار ابن سبرة، وكان من فرسان المهلب، وكان مع يزيد، فقال له الحجاج: أخبرني عن يزيد، فقال: حسن الطاعة لين السيرة، قال: كذبت، اصدقني عنه، فقال: الله أجل وأعظم، قد أسرج ولم يلجم، قال: صدقت، واستعمل الخيار على عمان بعد ذلك.


ثم كتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب، وخلاصة الأمر أنه كرر القول مع عبد الملك في ذلك إلى أن كتب إليه عبد الملك: قد أكثرت في يزيد وآل المهلب، فسم لي رجلاً يصلح خراسان، فسمى له مجاعة بن سعد السعدي، فكتب إليه عبد الملك: إن رأيك الذي دعاك إلى استفساد آل المهلب هو الذي دعاك إلى مجاعة بن سعد السعدي، فانظر لي رجلاً حازماً ماضياً لأمرك، فسمى قتيبة بن مسلم الباهلي، فكتب إليه وله، فبلغ يزيد أن الحجاج عزله فقال لأهل بيته: من ترون الحجاج يولي خراسان؟ قالوا: رجلاً من ثقيف، قال: كلا والله، ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعهده، فإذا قدمت عليه ولى غيره، وأخلق بقتيبة بن مسلم.


 قال: فلما أذن عبد الملك للحجاج في عزل يزيد كره أن يكتب بعزله فكتب إليه أن استخلف أخاك المفضل وأقبل، فاستشار يزيد حصين بن المنذر، فقال له: أقم واعتل فإن أمير المؤمنين حسن الرأي فيك، وإنما أتيت من الحجاج، فإن أقمت ولم تعجل رجوت إليه أن يقر يزيد، فقال: إنا أهل بيت بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره المعصية والخلاف، وأخذ في الجهاز فأبطأ ذلك على الحجاج، فكتب إلى أخيه المفضل: إني قد وليتك خراسان، فجعل المفضل يستحث يزيد، فقال له يزيد: إن الحجاج لا يقرك بعدي، وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن أمتنع عليه، قال: بل حسدتني، قال يزيد: أنا لا أحسدك ولكن ستعلم. وخرج يزيد في شهر ربيع الآخر سنة خمس وثمانين، فعزل الحجاج المفضل وولى قتيبة بن مسلم الباهلي، وقيل فيروز بن حصين، وقال حصين بن المنذر ليزيد المذكور:

 

أمرتك أمراً حازماً فعصيتنـي

 

فأصبحت مسلوب الإمارة نادما

فما أنا بالباكي عليك صـبـابة

 

وما أنا بالداعي لترجع سالمـا

 

فلما قدم قتيبة خراسان قال لحصين: كيف قلت ليزيد؟ قال قلت:

أمرتك أمراً حازماً فعصيتنـي

 

فنفسك ولِّ اللوم إن كنت لائما

فإن يبلغ الحجاج أن قد عصيته

 

فإنك تلقى أمره متفـاقـمـا

 

قال: فماذا أمرته به فعصاك؟ قال: أمرته أن لا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير.


وفي تولية قتيبة وعزل يزيد قال عبد الله بن همام السلولي:

أقتيب قد قلنا غـداة أتـيتـنـا

 

بدل لعمرك من يزيد أعـور

إن المهلب لم يكن كـأبـيكـم

 

هيهات شأنكم أدق وأحـقـر

شتان من بالصنج أدرك والذي

 

بالسيف شمر والحروب تسعر

حولان باهلة الألى في ملكهـم

 

مات الندى فيهم وعاش المنكر

 

فوله " بدل أعور " هذا مثل يضرب للمذموم يتولى بعد الرجل المحمود، يقال بدل أعور، وخلف أعور، وقوله " من بالصنج أدرك " يقال: إن قتيبة كان يضرب بالصنج في بدء أمره؛ وقوله " حولان باهلة " جمع أحول، وكان قتيبة أحول، وهذا بالجمع مثل قولهم: أسود وسودان، وأحمر وحمران، وغير ذلك.


وقد قيل: إن هذه الأبيات ليست لعبد الله بن همام، وإنها لنهار بن توسعة اليشكري، والله أعلم.


ثم ذكر الطبري في سنة تسعين أن الحجاج خرج إلى الأكراد الذين غلبوا على عامة أرض فارس، فخرج بيزيد معه وأخويه المفضل وعبد الملك، وجعل عليهم في العسكر كهيئة الخندق وجعلهم في فسطاط قريباً منه، وجعل عليهم حرساً من أهل الشام، وأغرمهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، وكان يزيد يصبر صبراً حسناً، وكان الحجاج يغيظه ذلك، فقيل له أنه رمي بنشابة فثبت أصلها في ساقه، فهو لا يمسها شيء إلا صاح، فإن حركت أدنى شيء سمعت صوته، فأمر أن يعذب به ويرهق ساقه، فلما فعل به ذلك صاح، وأخته هند عند الحجاج، فلما سمعت صياح يزيد صاحت وناحت فطلقها.


ثم إنه كف عنهم وأقبل يستأديهم، فأخذوا يؤدون وهم يعملون في المخلص من مكانهم، فبعثوا إلى مروان بن المهلب وهو بالبصرة يأمرونه أن يضمر لهم الخيل ويري الناس أنه إنما يريد بيعها ويعرضها على البيع ويغلي بها كي لا تشترى، فتكون لنا عدةً إن نحن قدرنا أن ننجو من هاهنا، ففعل ذلك مروان بن المهلب، وحبيب بالبصرة يعذب أيضاً، فأمر يزيد بالحرس فصنع لهم طعام كثير فأكلوا، وأمر لهم بشراب فسقوا، وكانوا متشاغلين به، ولبس يزيد ثياب طباخه، ووضع على لحيته لحية بيضاء وخرج، فرآه بعض الحرس فقال: كأن هذه مشية يزيد، فجاء حتى استعرض وجهه ليلاً فرأى بياض اللحية فانصرف عنه، وقال: هذا شيخ. وخرج المفضل على أثره ولم يفطن له، فجاؤوا إلى سفينة وقد هيؤوها في البطائح وبينهم وبين البصرة ثمانية عشر فرسخاً، فلم انتهوا إلى السفينة أبطأ عليهم عبد الملك وشغل عنهم، فقال يزيد للمفضل: اركب، فإنه لاحق، فقال المفضل، وكان عبد الملك أخاه لأمه: لا والله لا أبرح حتى يجيء عبد الملك ولو رجعت إلى السجن، فأقام يزيد حتى جاءهم عبد الملك، وركبوا في السفينة، وساروا ليلتهم حتى أصبحوا. ولما أصبح الحرس علموا بذهابهم، فرفع ذلك إلى الحجاج، ففزع لذلك الحجاج وذهب وهمه أنهم ذهبوا قبل خراسان، وبعث البريد إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم ويأمره أن يستعد لهم، وبعث إلى أمراء الثغور والكور أن يرصدهم ويستعدوا، وبعث إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بهم، وأنه لا يراهم أرادوا إلا خراسان. ولم يزل الحجاج يظن بيزيد ما صنع، كان يقول: إني لأظنه يحدث نفسه بمثل الذي صنع ابن الأشعث - قلت: ابن الأشعث هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، وكان قد خرج على عبد الملك بن مروان، وقصته مشهورة مذكورة في التواريخ - قال الطبري: ولما دنا يزيد من البطائح استقبلته الخيل، وقد هيئت لهم، فخرجوا عليهم ومعهم دليل، فأخذ بهم على السماوة، وأتي الحجاج بعد يومين فقيل له: إنما أخذ الرجل طريق الشام، وهذه الخيل حسرى في الطريق، وقد أتى من رآهم متوجهين في البر، فبعث إلى الوليد يعلمه بذلك، ومضى يزيد حتى قدم فلسطين، فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي، وكان كريماً على سليمان بن عبد الملك، وجاء وهيب حتى دخل على سليمان فقال: إن يزيد واخوته عندي، وقد أتوا هراباً من الحجاج متعوذين بك، فقال: آتني بهم فهم آمنون لا يوصل إليهم أبداً وأنا حي، فجاء بهم حتى دخلوا عليه، فكانوا في مكان أمنٍ. وكتب الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك: إن آل المهلب خانوا مال الله، وهربوا مني ولحقوا بسليمان، فلما بلغ الوليد مكانه عند سليمان أخيه هون عليه بعض ما كان في نفسه، وطار غضباً للمال الذي ذهبوا به، وكتب سليمان إلى أخيه الوليد: إن يزيد بن المهلب عندي وقد آمنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف، كان الحجاج أغرمهم ستة آلاف ألف، فأدى ثلاثة آلاف ألف، وبقيت ثلاثة آلاف ألف، فهن علي، فكتب إليه: لا والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلي، فكتب إليه: لئن أنا بعثت به لأجيئن معه، فانشدك الله أن لا تفضحني ولا أن تخفرني، فكتب إليه الوليد: والله لئن جئتني به لا أؤمنه، فقال يزيد: ابعثني إليه، فوالله ما أحب أن أوقع بينك وبينه عداوةً وحرباً، ولا أن يتشاءم بي لكما الناس، ابعث إليه بي وأرسل معي ابنك، واكتب إليه بألطف ما قدرت عليه، فأرسل ابنه أيوب معه، وكان الوليد أمره أن يبعث به إليه في وثاق، فبعثه إليه وقال لابنه: إذا أردت أن تدخل عليه فادخل أنت ويزيد في سلسلة على الوليد، ففعل ذلك حتى انتهيا إلى الوليد فدخلا عليه، فلما رأى الوليد ابن أخيه مع يزيد في سلسلة قال: والله لقد بلغنا من سليمان. ثم إن الغلام دفع كتاب أبيه إلى عمه وقال: يا أمير المؤمنين، نفسي فداؤك، لا تخفر ذمة أبي وأنت أحق من منعها، ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك، وقرأ الكتاب: " لعبد الله الوليد أمير المؤمنين من سليمان بن عبد الملك، أما بعد يا أمير المؤمنين فوالله إني لأظن لو استجار بي عدو قد نابذك وجاهدك فأنزلته وأجرته، فإنك لا تذل جاري ولا تخفر جواري، بل إني لم أجر إلا سامعاً مطيعاً حسن البلاء والأثر في الإسلام هو وأبوه وأهل بيته، وبعد فقد بعثت به إليك، فإن كنت إنما تعزو قطيعتي والإخفار لذمتي والإبلاغ في مساءتي، فقد قدرت إن أنت فعلت ذلك، وأنا أعيذك بالله من اجترار قطيعتي وانتهاك حرمتي وترك يدي وصلتي، فوالله يا أمير المؤمنين ما تدري مل بقائي وبقاؤك، ولا متى يفرق الموت بيني وبينك، فإن استطاع أمير المؤمنين، أدام الله سروره أن لا يأتي علينا أجل الوفاة إلا وهو لي واصل ولحقي مؤد وعن مساءتي نازع، فليفعل؛ والله يا أمير المؤمنين ما أصبحت لشيء من أمور الدنيا بعد تقوى الله تعالى فيها بأسر مني برضاك وسرورك، ولرضاك مما ألتمس به رضوان الله، فإن كنت يا أمير المؤمنين تريد يوماً من الدهر مسرتي وصلتي وكرامتي وإعظام حقي فتجاوز لي عن يزيد، وكل ما طلبته به فهو علي "، فلما قرأ كتابه قال: لقد شققنا على سليمان، ثم دعا ابن أخيه فأدناه منه، ثم تكلم يزيد فحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء، فمن ذلك فلسنا ناسيه، ومن يكفر فلسنا كافريه، وقد كان من بلائنا، أهل البيت، في طاعتكم والطعن في أعين أعدائكم في المواطن العظام في المشارق والمغارب ما إن المنة فيه عظيمة، فقال له: اجلس، فجلس فآمنه وكف عنه، ورجع إلى سليمان، وسعى إخوته في المال الذي عليه، وكتب إلى الحجاج: إني لم أصل إلى يزيد وأهل بيته مع سليمان، فاكفف عنهم، واله عن الكتاب إلي فيهم، فلما رأى ذلك الحجاج كف عنهم،. وكان أبو عيينة عند الحجاج عليه ألف ألف درهم فتركها له، وكف عن حبيب بن المهلب، وأقام يزيد عند سليمان تسعة أشهر في أرغد عيش وأنعم بال لا تأتي سليمان هدية إلا أرسل نصفها إليه.


وقال بعض جلساء يزيد له: لم لا تتخذ لك داراً؟ فقال: وما أصنع بها ولي دار حاصلة مجهزة على الدوام؟ فقال له: وأين هي؟ قال: إن كنت متولياً فدار الإمارة، وإن كنت معزولاً فالسجن.


ومن كلام يزيد: ما يسرني أن أكفى أمور دنياي كلها ولي الدنيا بحذافيرها، فقيل له: ولم ذاك؟ فقال: لأني أكره عادة العجز.


ثم إن الحجاج مات في شوال سنة خمس وتسعين للهجرة، وقيل كانت وفاته لخمس ليال بقين من شهر رمضان من السنة، وعمره ثلاث وخمسون سنة، وقيل أربع وخمسون. ولما حضرته الوفاة استخلف يزيد بن أبي كبشة على الحرب والصلاة بالمصرين: البصرة والكوفة، وولى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، فأقرهما الوليد، وكذلك فعل بكل من استخلف الحجاج، وقيل بل الوليد هو الذي ولاهما، وكانت ولاية الحجاج بالعراقين عشرين سنة
. ثم توفي الوليد بن عبد الملك يوم السبت النصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين للهجرة، بدير مران - قلت: وهو بسفح جبل قاسيون ظاهر دمشق - ودفن في مقابر باب الصغير ظاهر دمشق، وبويع سليمان بن عبد الملك في اليوم الذي مات فيه أخوه الوليد.


وفي هذه السنة أعني سنة ست وتسعين، عزل سليمان بن عبد الملك يزيد بن أبي مسلم عن العراق، وأمر عليه يزيد بن المهلب، وقال خليفة بن خياط: جمع ليزيد المصران، يعني الكوفة والبصرة، سنة سبع وتسعين، والله أعلم.


وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج، وأمره أن يعذب آل أبي عقيل - قلت: هم رهط الحجاج - قال: ويبسط عليهم العذاب، فأخذ صالح آل أبي عقيل فكان يعذبهم، وكان يلي عذابهم عبد الملك بن المهلب.


وكان الوليد قد عزم على خلع أخيه سليمان عن ولاية العهد، ويجعل ولي عهده ولده عبد العزيز -بن الوليد- وتابعه على ذلك الحجاج وقتيبة بن مسلم الباهلي والي خراسان الذي تولى بعد يزيد بن المهلب - كما سبق ذكره قبل هذا - فلما ولي سليمان الخلافة خافه قتيبة بن مسلم، وتوهم أن يعزله ويولي خراسان يزيد بن المهلب، فكتب إلى سليمان كتاباً يهنئه بالخلافة ويعزيه عن الوليد، ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه على مثل ما كان لهما عليه من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان، وكتب إليه كتاباً آخر يعلمه فيه فتوحه ومكانه وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم، ويذم المهلب وآل المهلب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه، وكتب كتاباً ثالثاٍ فيه خلعه، وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة وقال له: ادفع إليه هذا الكتاب، فإن كان يزيد بن المهلب حاضراً فقرأه ثم ألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب، وإن قرأ الأول فاحتبسه ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين، قال: فقدم رسول قتيبة بن مسلم على سليمان وعنده يزيد بن المهلب، فدفع إليه الكتاب فقرأه ثم ألقاه إلى يزيد، فدفع إليه الكتاب الآخر، فقرأه ثم رماه إلى يزيد، فأعطاه الكتاب الثالث، فقرأه، فتعمر لونه، ثم دعا بطين فختمه ثم أمسكه بيده.


وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان في الكتاب الأول وقيعة في يزيد بن المهلب وذكر غدره وكفره وقلة شكره، وفي الكتاب الثاني ثناء على يزيد، وفي الكتاب الثالث: لئن لم تقرني على ما كنت عليه وتؤمنني لأخلعنك خلع النعل، ولأملأنها عليك خيلاً ورجلاً.


ثم إن سليمان أمر برسول قتيبة أن ينزل بدار الضيافة، فلما أمسى دعا به سليمان وأعطاه صرة فيها دنانير وقال: هذه جائزتك وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر وهذا رسول معك بعهده. فخرج الباهلي ومعه رسول سليمان، فلما كان بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة، فرجع رسول سليمان ودفع العهد إلى رسول قتيبة، فوصل به إليه، فاستشار اخوته فقالوا: لا يثق بك سليمان بعد هذا.


ثم إن قتيبة قتل - كما ذكرته في ترجمته في حرف القاف مع الاختصار لأن الشرح في ذلك يطول-. ثم إن يزيد بن المهلب نظر في نفسه لما تولى العراق فقال: إن العراق قد أخربها الحجاج، وأنا اليوم رها أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم عليه صرت مثل الحجاج أدخل على الناس الحرب وأعيد عليهم تلك الشجون التي قد عافاهم الله منها، ومتى لم آت سليمان بمثل ما جاء به الحجاج لم يقبل مني. فأتى يزيد سليمان فقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه إياه وهو صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم. فقال: قد قبلنا رأيك، فأقبل يزيد إلى العراق، وكان صالح قدم العراق قبل قدوم يزيد ونزل واسطاً، ولما قدم يزيد خرج الناس يتلقونه، فلم يخرج صالح حتى قرب يزيد من المدينة، ثم خرج إليه وبين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقي يزيد وسايره، فلما دخل المدينة قال له صالح: قد فرغت لك هذه الدار، فنزل يزيد، ومضى صالح حتى أتى منزله، وضيق صالح على يزيد فلم يملكه شيئاً، واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها فأخذها صالح، فقال له يزيد: اكتب ثمنها علي؛ واشترى متاعاً كثيرة وصك صكاكاً إلى صالح لباعتها منه، فلم ينفذه، فرجعوا إلى يزيد فغضب وقال: هذا عملي بنفسي، فلم يلبث أن جاء صالح فأوسع له يزيد فجلس وقال ليزيد: ما هذه الصكاك؟ إن الخراج لا يقوم لها، ولقد أنفذت لك منذ أيام صكاكاً بمائة ألف وعجلت لك أرزاقك وسألت مالاً فأعطيتك، فهذا لا يقوم له شيء، ولا يرضي أمير المؤمنين، وتؤخذ به، فقال له يزيد: يا أبا الوليد أجز هذه الصكاك هذه المرة، وضاحكه فقال: إني أجيزه فلا تكثرن علي، قال: لا.


ولما ولى سليمان يزيد العراق لم يوله خراسان، فقال سليمان لعبد الملك بن المهلب: كيف أنت يا عبد الملك إن وليتك خراسان؟ قال: يجدني أمير المؤمنين حيث يحب، ثم أعرض سليمان عن ذلك، وكتب عبد الملك إلى رجال من خاصته بخراسان: إن أمير المؤمنين عرض علي ولاية خراسان، فبلغ الخبر إلى أخيه يزيد وقد ضجر بالعراق، وقد ضيق عليه صالح بن عبد الرحمن، فليس يصل معه إلى شيء، فدعا يزيد عبد الله بن الأهتم فقال: غني أريدك لأمر قد أهمني، وقد أحببت أن تكفينيه، قال: مرني بما أحببت، قال: أنا فيما ترى من الضيق وقد أضجرني ذلك، وخراسان شاغرة، وقد بلغني أن أمير المؤمنين ذكرها لعبد الملك بن المهلب، فهل من حيلة؟ قال: نعم سرحني إلى أمير المؤمنين فإني أرجو أن آتيك بعهده عليها، قال: فاكتم ما أخبرتك به، وكتب إلى سليمان كتابين: أحدهما يذكر له فيه أمر العراق، وأثنى فيه على ابن الأهتم، وذكر له علمه بها، ووجه ابن الأهتم وحمله على البريد، وأعطاه ثلاثين ألفاً وسار سبعاً فقدم بكتاب يزيد على سليمان، فدخل عليه وهو يتغدى، فجلس ناحية فأتي له بدجاجتين فاكلهما، ثم قال له سليمان: لك مجلس بعد هذا تعود إليه، ثم دعا به بعد ثالثة، فقال له سليمان: إن يزيد بن المهلب كتب إلي يذكر علمك بالعراق وبخراسان ويثني عليك، فكيف علمك بها؟ قال: أنا أعلم الناس بها، بها ولدت، وبها نشأت، قال: ما أحوج أمير المؤمنين إلى مثلك يشاوره في أمرها، فأشر علي برجل أوليه خراسان، قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يريد يولي، فإن ذكر منهم أحداً أخبرته برأيي فيه هل يصلح أم لا؟ فسمى سليمان رجلاً من قريش، فقال: ليس من رجال خراسان، فسمى عبد الملك بن المهلب، فقال: لا، حتى عدد رجالاً، فكان آخر من ذكر وكيع بن أبي سود، فقال: يا أمير المؤمنين وكيع رجل شجاع صارم مقدان وليس بصاحبها، ومع هذا إنه لم يقد ثلثمائة قط فرأى لأحد عليه طاعة، قال: صدقت ويحك! فمن لها؟ قال: رجل أعلمه لم تسمه، قال: فمن هو؟ قال: لا أبوح باسمه إلا أن يضمن لي أمير المؤمنين ستر ذلك وأن يجيرني منه إن علم، قال: نعم، سمه لي، قال: يزيد بن المهلب، قال: ذلك بالعراق والمقام بها أحب إليه من المقام بخراسان، قال: قد علمت يا أمير المؤمنين، ولكن تكرهه فيستخلف على العراق رجلاً ويسير، قال: أصبت الرأي، فكتب عهد يزيد بن المهلب على خراسان، وكتب إليه إن ابن الأهتم كما ذكرت من عقله ودينه وفضله ورايه، ودفع الكتاب وعهد يزيد إليه، فسار سبعاً فقدم على يزيد فقال له: ما وراءك فأعطاه الكتاب فقال: ويحك! خبر، فأعطاه العهد، فأمر يزيد بالجهاز للمسير من ساعته ودعا ابنه مخلداً فقدمه إلى خراسان فسار من يومه.


 ثم سار يزيد إلى خراسان فأقام بها ثلاثة أشهر أو أربعة، ثم غزا جرجان وطبرستان ودهستان وفتحها، وذلك في سنة ثمان وتسعين. وقتل من أصحاب يزيد على حصار بعض قلاع جرجان خمسة آلاف رجل، فحلف يزيد يميناً مغلظة أنه ليقتلهم حتى تطحن الرحى بدمائهم، فأكثر من قتلهم، وكانت الدماء لا تجري حتى صب عليها الماء فجرت فطحنت، وأكل مما طحنت بدمائهم.
ثم مات سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لشعر ليال بقين من صفر سنة تسع وتسعين للهجرة، وقيل لعشر ليال مضين من صفر، والله أعلم بالصواب، بدابق، قرية شمالي حلب، وعهد إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فعزل عمر في هذه السنة يزيد بن المهلب عن العراق، وجعل مكانه عدي بن أرطاة الفزاري، فأخذ يزيد وأوثقه، وبعث به إلى عمر بن عبد العزيز، وقد كان عمر يبغض يزيد وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة ولا أحب أمثالهم، وكان يزيد يبغض عمر ويقول: إني لأظنه مرائياً. ولما وصل يزيد سأله عمر عن الموال التي كتب بها إلى سليمان فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني بشيء مما سمعت، ولا بأمر أكرهه، فقال عمر: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك فإنها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها، فرده إلى محبسه.


وذكر البلاذري في كتاب " فتوح البلدان " في الفصل المتضمن حديث جرجان وطبرستان، أن يزيد بن المهلب لما فرغ من أمر جرجان سار إلى خراسان فتلقته الهدايا، ثم ولى ابنه مخلداً خراسان، وانصرف إلى سليمان، فكتب إليه إن معه خمسة وعشرين ألف ألف درهم، فوقع الكتاب في يد عمر بن عبد العزيز، فأخذ يزيد به وحبسه، والله أعلم.


وبعث عمر إلى الجراح بن عبد الملك الحكمي فسرحه إلى خراسان، ثم قدم مخلد بن يزيد على عمر، وجرى بينهما ما سبق ذكره، فلما خرج مخلد بن يزيد على قال عمر: هذا عندي خير من أبيه، فلم يلبث مخلد إلا قليلاً حتى مات. ولما أبى يزيد أن يؤدي المال إلى عمر ألبسه جبة صوف وحمله على جمل، ثم قال: سيروا به إلى دهلك - قلت: وهي جزيرة في بحر عيذاب بالقرب من سواكن كان الخلفاء يحبسون بها من نقموا عليه - قال: فلما أخرج يزيد مروا به على الناس، فجعل يزيد يقول: ما لي عشيرة؟ يذهب بي إلى دهلك؟ إنما يذهب إلى دهلك بالفاسق المريب، سبحان الله، أما لي عشيرة؟ فدخل على عمر سلامة بن نعيم الخولاني، وقال يا أمير المؤمنين، أردد يزيد إلى محبسه، فإني أخاف إن أمضيته أن ينتزعه قومه، فإني رأيت قومه قد غضبوا له، فرده إلى محبسه ولم يزل في محبسه حتى بلغه مرض عمر.


وقيل إن عدي بن أرطأة سلمه إلى وكيع بن حسان بن أبي حسان بن أبي سود التميمي مغلولاً مقيداً في سفينة ليوصله إلى عين التمر حتى يحمل إلى عمر، فعرض لوكيع ناس من الأزد لينتزعوه منه، فوثب وكيع وانتضى سيفه وقطع قلس السفينة، وأخذ سيف يزيد بن المهلب، وحلف بطلاق امرأته ليضربن عنقه إن لم يتفرقوا عنه، فناداهم يزيد وأعلمهم بيمين وكيع، فتفرقوا، ومضى به حتى سلمه إلى الجند بعي التمر، وحمله الجند إلى عمر فحبسه.


ولما كان يزيد في حبس عمر دخل عليه الفرزدق، فرآه مقيداً فأنشده:

أصبح في قيدك السماحة وال

 

جود وحمل الدايات والحسب

لا بطر إن ترادفـت نـعـم

 

وصابر في البلاء محتسـب

 

فقال له يزيد: ويحك ماذا صنعت؟ أسأت إلي، قال: ولم ذاك؟ قال: تمدحني وأنا على هذه الحالة؟ فقال له الفرزدق: رأيتك رخيصاً فأحببت أن أسلف فيك بضاعتي، فرمى يزيد إليه بخاتمه وقال: شراؤه ألف دينار، وهو ربحك إلى أن يأتيك رأس المال.


 واستمر في حبسه إلى أن مرض عمر في سنة إحدى ومائة، فخاف يزيد بن المهلب من يزيد بن عبد الملك بن مروان أن يلي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن المهلب لما ولي العراق قد عذب آل أبي عقيل، - وهم رهط الحجاج كما سبق ذكره - وكانت أم الحجاج بنت محمد بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل عند يزيد بن عبد الملك، وهي أم الوليد بن يزيد فاسق بني أمية، وهي بنت أخي الحجاج، وكان يزيد بن عبد الملك قد عاهدها لئن أمكنه الله من يزيد بن المهلب ليقطعن منه طابقاً، فكان يخشى ذلك، فأخذ يعمل في المهرب، فبعث إلى مواليه فأعدوا له إبلاً، وكان مرض عمر في دير سمعان، فلما اشتد مرض عمر نزل يزيد من محبسه وخرج حتى أتى المكان الذي فيه إبله، وقد واعدهم إليه، فاحتمل وخرج، فلما جاز كتب إلى عمر: إني والله لو علمت أنك تبقى ما خرجت من محبسي، ولكني لم آمن يزيد بن عبد الملك، فقال عمر: اللهم إن كان يريد بهذه الأمة شراً فاكفهم شره واردد كيده في نحره.


ومضى يزيد بن المهلب، وزعم الواقدي أن يزيد بن المهلب: إنما هرب من سجن عمر بعد موت عمر - قلت: وجدت في مسودة تاريخ القاضي كمال الدين بن العديم الحلبي، أن عمر حبس يزيد بن المهلب وابنه معاوية بحلب وهربا منها، والله أعلم.


ثم توفي عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة، وقيل الأربعاء، لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة، رحمه الله تعالى، بدير سمعان، وقل أنه مات لعشر بقين من رجب من السنة، وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وقيل أنه مات بخناصرة. وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وكان يقال له " أشج بني أمية "، وذلك أن دابة من دواب أبيه كانت شجته. قال نافع مولى ابن عمر: كنت أسمع ابن عمر كثيراً يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلاً، قال سال الأفطس: إن عمر بن عبد العزيز رمحته دابة وهو غلام بدمشق، فأتى أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فضمته إليها وجعلت تمسح الدم عن وجهه، ودخل أبوه عليها على تلك الحال، فأقبلت عليه تعذله وتلومه وتقول: ضيعت ابني، ولم تضم إليه خادماً ولا حاضناً يحفظه من مثل هذا، فقال لها: اسكتي يا أم عاصم، فطوبى لك إن كان أشج بني أمية.


وقال حماد بن زيد: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بعجوز تبيع لبناً معها في سوق اللبن، فقال لها: يا عجوز لا تغشي المسلمين وزوار بيت الله تعالى ولا تشوبي اللبن بالماء، فقالت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم مر بها بعد ذلك، فقال لها: يا عجوز، ألم أتقدم إليك أن لا تشوبي اللبن بالماء؟ فقالت: والله ما فعلت، فقالت ابنة لها من داخل الخباء: أغشاً وكذباً جمعت على نفسك؟ فسمعها عمر رضي الله عنه فهم بمعاقبة العجوز، فتركها لكلام ابنتها، ثم التفت إلى بنيه فقال: أيكم يتزوج هذه، فلعل الله عز وجل يخرج منها نسمة طيبة مثلها؟ فقال عاصم بن عمر: أنا أتزوجها، فزوجها إياه، فولدت له أم عاصم، فتزوج أم عاصم عبد العزيز بن مروان، فولدت، فولدت له عمر بن عبد العزيز. ثم تزوج بعدها حفصة وفيها قيل: ليست حفصة من نساء أم عاصم.


-وذكر الشيخ شمس الدين أبو المظفر بن قزغلي بن عبد الله، سبط الشيخ جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي في كتاب " جوهرة الزمان في تذكرة السلطان " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما أبي يعس بالمدينة إذ سمع امرأة وهي تقول لابنتها: يا بنية، قومي فشوبي اللبن بالماء، فقالت: يا أماه أما سمعت منادي أمير المؤمنين أنه نادى: أن لا يشاب اللبن بالماء؟ فقالت: وأين أنت من مناديه الساعة؟ فقالت: إذا لم يرني مناديه ألم يرني رب مناديه؟ - وفي رواية أخرى، قالت: والله ما كنت لأطيعه في الملا وأعصيه في الخلا، قال: فبكى عمر رضي الله عنه. فلما أصبح دعا بالمرأة وبابنتها وسأل: هل لها زوج؟ فقالت: ليس لها زوج، فقال: يا عبد الله، تزوج هذه، فلو كانت بي حاجة إلى النساء لتزوجتها، فقلت: أنا في غنى عنها، فقال: يا عاصم تزوجها فتزوجها، فجاءت بابنة فحملت بعمر بن عبد العزيز-.


 ولما مات عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، ولي مكانه يزيد بن عبد الملك بن مروان. ثم إن يزيد بن المهلب لحق بالبصرة فغلب عليها، وأخذ عامل يزيد بن عبد الملك وهو عدي بن أرطأة الفزاري فحبسه، وخلع يزيد بن عبد الملك ورام الخلافة لنفسه، فجاءته إحدى حظاياه وقبلت الأرض بين يديه وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فأنشدها:

رويدك حتى تنظري عم تنجلي

 

عماية هذا العارض المتألـق

 

قلت: وهذا البيت من جملة أبيات لبشر بن قطية الأسدي.


قلت: ولا حاجة إلى تفصيل الحال فيه فإن شرحه يطول، وهذه خلاصته، ثم إن يزيد بن عبد الملك جهز لقتاله أخاه مسلمة بن عبد الملك، وابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك، ومعهما الجيش، وخرج يزيد بن المهلب للقائهم، واستخلف على البصرة ولده معاوية بن يزيد وعنده الرجال والأموال والأسرى، وقدم بين يديه أخاه عبد الملك بن المهلب وسار حتى نزل العقر - قلت: هي عقر بابل، وهي عند الكوفة بالقرب من كربلاء، الموضع الذي قتل فيه الحسين، رضي الله عنه، والعقر: بفتح العين المهملة وسكون القاف وبعدها راء، وهو في الأصل اسم القصر، والمواضع المسماة بالعقر أربعة: أحدها هذا ولا حاجة إلى ذكر الباقي، وقد ذكرها ياقوت الحموي في كتابه الذي سماه " المشترك وضعاً ".


قال الطبري: ثم أقبل مسلمة بن عبد الملك حتى نزل على يزيد بن المهلب فاصطفوا، ثم اقتتل القوم، فشد أهل البصرة على أهل الشام فكشفوهم، ثم إن أهل الشام كروا عليهم فكشفوهم، وكان على مقدمة جيش بن يزيد أخوه عبد الملك، فلما انكشف حاء إلى أخيه يزيد، وكان الناس يبايعون يزيد بن المهلب، وكانت مبايعته على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن لا تطأ الجنود بلادهم ولا بيضتهم، ولا تعاد عليهم سيرة الفاسق الحجاج، وكان مروان بن الملهب بالبصرة يحرض الناس على حرب أهل الشام ويسرح الناس إلى أخيه يزيد.


وكان الحسن البصري، رضي الله عنه يثبط الناس عن يزيد بن المهلب، فقال يوماً في مجلسه: يا عجباً لفاسق من الفاسقين ومارق من المارقين غير برهة من دهره، يهتك الله في هؤلاء القوم كل حرمة، ويركب له فيهم كل معصية ويأكل ما أكلوا ويقتل ما قتلوا، حتى إذا منعوه لماظةً كان يتلمظها قال: أنا لله غضبان فاغضبوا، ونصب قصباً عليها خرق، وتبعه رجراجة رعاع هباء ما لهم أفئدة وقال: أدعوكم إلى سنة عمر بن عبد العزيز، ألا وإن من سنة عمر أن توضع رجلاه في قيد ثم يوضع حيث وضعه عمر، فقال له رجل: أتعذر أهل الشام يا أبا سعيد؟ يعني بني أمية، فقال: أنا أعذرهم؟ لا عذرهم الله! والله لقد حدث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إني حرمت المدينة بما حرمت به بلدك مكة " فدخلها أهل الشام ثلاثاً لا يغلق لها باب إلا أحرق بما فيه، حتى إن الأقباط والأنباط ليدخلون على نساء قريش فينتزعون خمرهن من رؤوسهن وخلاخلهن من أرجلهن، سيوفهم على عواتقهم، وكتاب الله تحت أرجلهم، أنا أقتل نفسي لفاسقين تنازعا هذا الأمر؟ والله لوددت أن الأرض أخذتهما خسفاً جميعاً.


فبلغ ذلك يزيد بن المهلب فأتى الحسن، هو وبعض بني عمه إلى حلقته في المسجد متنكرين، فسلما عليه ثم خلوا به، فاشرأب الناس ينظرون إليهم، فلاحاه يزيد، فدخل في ملاحاتهما ابن عم يزيد، فقال له الحسن: وما أنت وذاك يا ابن اللخناء؟ فاخترط سيفه ليضربه به، فقال يزيد: ما تصنع؟ قال: أقتله، فقال له يزيد: اغمد سيفك فوالله لو فعلت لانقلب من معنا علينا.


قلت: ويزيد بن المهلب المذكور، هو الذي عناه بن دريد في مقصورته المعروفة بالدريدية بقوله:

وقد سما قبلي يزيد طالـبـاً

 

شأو العلا فما وهى ولا وّنى

 

وكل من شرح الدريدية تكلم على هذا البيت وشرح قصته. وكانت إقامة يزيد بن المهلب منذ اجتمع هو ومسلمة بن عبد الملك ثمانية أيام، حتى إذا كان يوم الجمعة لأربع عشرة مضت من صفر سنة اثنتين ومائة أمر مسلمة أن تحرق السف فأحرقت، والتقى الجمعان وشبت الحرب، فلما رأى الناس الدخان قيل لهم: أحرق الجسر، انهزموا، فقيل ليزيد: قد انهزم الناس، فقال: مم انهزموا؟ فقيل له: أحرق الجسر فلم يلبث أحد، فقال: قبحهم الله بقٌّ دخِّن عليه فطار. وكان يزيد لا يحدث نفسه بالفرار، وجاءه من أخبره أن أخيه حبيباً قد قتل فقال: لا خير في العيش بعد حبيب، قد كنت والله أبغض الحياة بعد الهزيمة فوالله ما ازددت لها إلا بغضاً، امضوا قدماً، قال: أصحابه: فعلمنا أن الرجل قد استقتل. وأخذ من يكره القتال ينكص، وأخذوا يتسالون، وبقيت معه جماعة حسنة، وهو يزدلف، فكلما مر بخيل كشفها أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه وعن سنن أصحابه، فجاء أبو رؤبة المرجئ وقال: ذهب الناس، فهل لك أن تنصرف إلى واسط فإنها حصن تنزلها ويأتيك أهل البصرة ويأتيك أهل عمان والبحرين في السفن وتضرب خندقاً؟ فقال له: قبح الله رأيك، ألي تقول ذا؟ الموت أيسر علي من ذلك، فقال له: فغني أتخوف عليك، أما ترى ما حولك من جبال الحديد؟ فقال له: فأنا أباليها أجبال حديد كانت أم جبال نار؟ اذهب عنا إن كنت لا تريد قتالاً معنا.


وأقبل على مسلمة لا يريد غيره، حتى إذا دنا منه دعا مسلمة بفرسه ليركبه، فعطفت عليه خيول أهل الشام وعلى أصحابه، فقتل يزيد بن المهلب، وقتل معه أخوه محمد وجماعة من أصحابه، وقال القحل - بفتح القاف وسكون الحاء المهملة وآخره لام - ابن عياش الكلبي، لما نظر إلى يزيد: يا أهل الشام هذا والله يزيد، لأقتلنه أو ليقتلني، إن دونه ناساً، فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتى أصل إليه؟ فقال له ناس من أصحابه: نحن نكمل معط، فحملوا بأجمعهم، فاضطربوا ساعة وسطع الغبار وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلاً، وعن القحل بن عياش بآخر رمق، فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد، وجاء برأس يزيد مولى لبني مرة، فقيل له: أنت قتلته؟ فقال: لا. وفي أثناء الوقعة نظر الحواري بن زياد إلى برذون عائر فقال: الله أكبر، هذا برذون الفاسق ابن المهلب، قد قتله الله إن شاء الله، فطلبوه، فأتي مسلمة برأسه، فلم يعرف الرأس، فقال حسان النبطي: مهما ظننتم فلا تظنوا أن الرجل هرب، ولقد قتل، فقال مسلمة وما علامة ذلك؟ فقال: إني سمعته أيام ابن الأشعث يقول: قبح الله ابن الأشعث، هبوه غلب على أمره أكان يغلب على الموت؟ ألا مات كريماً؟ قلت: ذكر الأمير أبو نصر ابن ماكولا في باب " الفحل والقحل والعجل " ما مثاله: وأما القحل فمثل الفحل إلا أن أوله قاف فهو القحل بن عياش بن حسان بن عثمير بن شراحيل بن عزيز، قتل يزيد بن المهلب وقتله يزيد، ضرب كل واحدٍ منهما صاحبه فقتله. فلما أتي به إلى مسلمة لم يعرف ولم ينكر، فقيل له: مر برأسه فليغسل ثم ليعمم، ففعل ذلك به فعرفه، فبعث به إلى أخيه يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط.


وقال خليفة بن خياط: ولد يزيد بن المهلب سنة ثلاث وخمسين وتوفي مقتولاً يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة اثنتين ومائة، والله أعلم بالصواب.


 ولما جاءت هزيمة يزيد واسط أخرج معاوية بن يزيد بن المهلب اثنين وثلاثين أسيراً كانوا في يديه فضربوا أعناقهم، منهم عدي بن أرطأة، ثم خرج وقد قال له القوم: ويحك، إنا لا نراك تقتلنا إلا أن أباك قد قتل، ثم أقبل حتى أتى البصرة معه المال والخزائن، وجاء المفضل بن المهلب، واجتمع جميع أهل المهلب بالبصرة وقد كانوا يتخوفون الذي كان، فأعدوا السفن البحرية وتجهزوا بكل الجهاز. وأراد معاوية بن يزيد أن يتأمر على آل المهلب، فاجتمعوا وأمروا عليهم المفضل بن المهلب. وقالوا: المفضل أكبرنا سناً، وإنما أنت غلام حدث السن كبعض فتيان أهلك، فلم يزل المفضل عليهم حتى خرجوا إلى كرمان، وبكرمان فلول كثيرة، فاجتمعوا إلى المفضل، وبعث مسلمة بن عبد الملك في طلب آل المهلب وطلب الفلول، فأدركوهم في عقبة بفارس، فاشتد قتالهم، فقتل المفضل وجماعة من خواصه، ثم قتل آل المهلب من عند آخرهم، إلا أبا عيينة وعثمان بن المفضل فإنهما نجوا ولحقا بخاقان ورتبيل، وبعث مسلمة برؤوسهم إلى أخيه يزيد وهو على حلب، فلما نصبوا خرج لينظر إليهم، فقال لأصحابه: هذا رأس عبد الملك، هذا رأس المفضل، والله لكأنه جالس معي يحدثني.


وقال غير الطبري: لما حمل رأس يزيد بن المهلب إلى يزيد بن عبد الملك نال منه بعض جلسائه، فقال له: مه إن يزيد طلب جسيماً، وركب عظيماً، ومات كريماً.


ولما فرغ مسلمة من حرب آل المهلب جمع له أخوه يزيد ولاية الكوفة والبصرة وخراسان في هذه السنة.


ولما قتل يزيد بن المهلب رثاه شاعره ثابت قطنة بمراثٍ كثيرة حسنة، منها قوله:

كل القبائل بايعوك على الذي

 

تدعو إليه وتابعوك وسـاروا

حتى إذا اشتجر القنا وتركتهم

 

وهن الأسنة أسلموك وطاروا

إن يقتلوك فإن قتلك لم يكـن

 

عاراً عليك، ورب قتلٍ عار

 

قلت: وهذا ثابت قطنة من شعراء خراسان وفرسانهم، وذهبت عينه فكان يحشوها قطنة، وقد كان يزيد بن المهلب استعمله على بعض كور خراسان فلما علا المنبر أرتج عليه، فلم ينطق حتى نزل فدخل عليه الناس فقال:

فإن لا أقم فيكم خطيباً فإننـي

 

بسيفي إذا جد الوغى لخطيب

 

فقالوا: لو كنت قلت هذا على المنبر لكنت أخطب الناس، ذكره ابن قتيبة في كتاب " طبقات الشعراء " وقال ابن الكلبي في " جمهرة النسب ": هو ثابت بن كعب بن جابر بن كعب بن كزمان بن طرفة بن وهب بن مازن بن يم بن الأسد بن الحارث بن العتيك بن الأسد بن عمران بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء "وفيه يقول صاحب الفيل الحنفي، وكانا يتهاجيان:

أبا العلاء لقد لاقيت معـضـلةً

 

يوم العروبة من كرب وتخنـيق

تلوي اللسان إذا رمت الكلام بـه

 

كما هوى زلق من شاهق النيق

لما رمتك عيون الناس ضاحـيةً

 

أنشأت تجرض لما قمت بالريق"

 

وقال غير الطبري: إن الذي قتل يزيد بن المهلب هو الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي.


وقال الكلبي: نشأت والناس يقولون: ضحى بنو أمية بالدين يوم كربلاء وبالكرم يوم العقر، وقال محمد بن واسع لما جاء نعي يزيد: أشتهي باكية عمانية تندب لي قتلى آل المهلب، وقال عباد بن عباد: مكثنا نيفاً وعشرين سنة بعد قتلى آل المهلب لا تولد فينا جارية ولا يموت منا غلام.


وقال خليفة بن خياط، سنة اثنتين ومائة: فيها قتل يزيد بن المهلب يوم الجمعة لاثنّتي عشرة ليلة خلت من صفر، وهو ابن تسع وأربعين سنة، رحمه الله تعالى، فلقد كان من النجباء الكرماء العظماء الفرسان.


وروي أن مسلمة بن عبد الملك دخل على أخيه يزيد بن عبد الملك حين خلعه يزيد، فرآه في ثوب مصبوغ فقال له: أتلبس مثل هذا وأنت ممن قال فيه:

قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم

 

دون النساء ولو باتت بأطهار

فقال مسلمة: ذاك ونحن نحارب أكفاءنا من قريش، فأما إن نعق ناعق فلا ولا كرامة.

قلت: وهذا البيت للأخطل التغلبي النصراني الشاعر المشهور.