يزيد بن مفرغ الحميري

أبو عثمان يزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرغ بن ذي العشيرة بن الحارث بن دلال بن عوف بن عمرو بن يزيد بن مرة بن مرثد بن مسروق بن يزيد بن يحصب الحميري - وبقية النسب من يحصب معروفة فلا حاجة إلى ذكرها - هكذا ساق هذا النسب ابن الكلبي في كتاب " جمهرة النسب " غير أنه لم يذكر كنية يزيد، بل ذكرها صاحب " الأغاني "، وأكثر العلماء يقولون: هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ ويسقطون زياداً.

وقال صاحب " الأغاني ": إنما لقب جده مفرغاً لأنه راهن على سقاء من لبن يشربه كله، فشربه حتى فرغه فسمي مفرغاً. وذكر في ترجمة حفيده السيد الحميري في كتاب " الأغاني " أيضاً أن ابن عائشة قال: مفرغ هو ربيعة، ومفرغ لقبه، ومن قال ربيعة بن مفرغ فقد أخطأ، والله أعلم. وقال الفضل بن عبد الرحمن النوفلي: كان مفرغ المذكور حداداً باليمن، فعمل لامرأة قفلاً وشرط عليها عند فراغه منه أن تجيئه بلبن كرش، ففعلت، فشرب منه ووضعه، فقالت له: رد علي الكرش، فقال: ما عندي شيء أفرغه فيه، قالت: لا بد منه، ففرغه في جوفه فقالت: إنك لمفرغ، فعرف به، وهو من حمير فيما يزعم أهله. وذكر ابن الكلبي وأبو عبيدة أن مفرغاً كان شعاباً بتبالة.

قلت، تبالة: بفتح التاء المثناة من فوقها وبعدها باء موحدة ثم ألف ولام وفي آخرها هاء، وهي بليدة على طريق اليمن للخارج من مكة، وهذا المكان كثير الخصب، له ذكر في الأخبار والأمثال والأشعار، وهي أول ولاية وليها الحجاج بن يوسف الثقفي، ولم يكن رآها قبل ذلك، فخرج إليها، فلما قرب منها سأله عنها، فقيل له إنها وراء تلك الأكمة، فقال: لا خير في ولاية تسترها أكمة، ورجع عنها محتقراً لها وتركها، فضربت العرب بها المثل وقالت للشيء الحقير: أهون من تبالة على الحجاج.

قال الراوي: فادعى يزيد أنه من حمير، وهو حليف آل خالد بن أسيد بن أبي العيص الأموي، وقيل إنه كان عبداً للضحاك بن عوف الهلالي، فأنعم عليه.

وكان يزيد شاعراً غزلاً محسناً.

والسيد الحميري الشاعر المشهور من ولده، وهو إسماعيل بن محمد بن بكار بن يزيد المذكور، كذا ذكره ابن ماكولا في كتاب " الإكمال " ولقبه السيد وكنيته أبو هاشم، وهو من كبار الشيعة، وله في ذلك أخبار وأشعار مشهورة.

ومن محاسن شعر يزيد المذكور قوله من جملة قصيدة يمدح بها مروان بن الحكم الأموي، وكان قد أحسن مروان إليه:

وأقمتم سوق الثناء ولم تـكـن

 

سوق الثناء تقام في الأسـواق

فكأنما جعـل الإلـه إلـيكـم

 

قيض النفوس وقسمة الأرزاق

 

والبيت الأول من هذين البيتين تقدم ذكره في ترجمة يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني منسوباً إلى أحمد بن أبي فنن يمدح به خالد بن يزيد بن مزيد المذكور من جملة أبيات، والله أعلم بالصواب في ذلك.


ولما ولي سعيد بن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، خراسان عرض على يزيد بن مفرغ أن يصحبه فأبى ذلك، وصحب عباد بن زياد بن أبيه، فقال له سعيد: أما إذ أبيت أن تصحبني وآثرت صحبة عباد فاحفظ ما أوصيتك به: إن عباداً رجل لئيم فإياك والدالة عليه وإن دعاك إليها من نفسه، فإنها خدعة منه لك عن نفسك، وأقلل زيارته فإنه ملول، ولا تفاخره وإن فاخرك فإنه لا يحتمل لك ما كنت أحتمله. ثم دعا سعيد بمال فدفعه له وقال له: استعن به على سفرك فإن صح لك مكانك من عباد، وإلا فمكانك عندي ممهد فائتني.


ثم سار إلى خراسان وخرج ابن مفرغ مع عباد، فلما بلغ عبيد الله بن زياد العراقين أمير العراقين صحبة يزيد أخاه عباداً شق عليه، فلما سار عباد شيعه أخوه عبيد الله وشيعه الناس وجعلوا يودعونه، فلما أراد عبد الله أن يودع أخاه دعا ابن مفرغ فقال له: إنك سألت عباداً أن يصحبك فأجابك، وقد شق علي، فقال له: ولم أصلحك الله؟ قال: لأن الشاعر لا يقنعه من الناس ما يقنع بعضهم من بعض، لأنه يظن فيجعل الظن يقيناً ولا يعذر في موضع العذر، وإن عباداً يقدم على أرض حرب فيشتغل بحروبه وخراجه عنك، فلا تعذره أنت وتكسونا شراً وعاراً، فقال له: لست كما ظن المير، وإن لمعروفه عندي لشكراً كثيراً، وإن عندي إن أغفل أمري عذراً ممهداً، فقال: لا، ولكن تضمن لي إن أبطأ عنك ما تحبه أن لا تعجل عليه حتى تكتب إلي، قال: نعم، قال: امض إذاً على الطائر الميمون. قال: فقدم عباد خراسان، وقيل سجستان، فاشتغل بحروبه وخراجه، فاستبطأه ابن مفرغ ولم يكتب لأخيه عبيد الله بن زياد يشكوه كما ضمن له، ولكنه بسط لسانه فذمه وهجاه.


وكان عباد كبير اللحية كأنها جوالق، فسار ابن مفرغ مع عباد فدخلت الريح فيها فنفشتها، فضحك ابن مفرغ وقال لرجل من لخم كان إلى جانبه:

ألا ليت اللحى كانت حشيشا

 

فنعلفها خيول المسلمينـا

 

فسعى به اللخمي إلى عباد، فغضب من ذلك غضباً شديداً، وقال: لا تجمل بي عقوبته في هذه الساعة مع صحبته لي، وما أؤخرها إلا لأشفي نفسي منه، فإنه كان يقوم فيشتم أبي في عدة مواضع.


وبلغ الخبر ابن مفرغ فقال: إني لأجد ريح الموت من عباد، ثم دخل عليه فقال: أيها الأمير، إني قد كنت مع سعيد بن عثمان، وقد بلغك رأيه في وجميل أثره علي، وقد اخترتك عليه فلم أحظ منك بطائل، وأريد أن تأذن لي بالرجوع فلا حاجة لي في صحبتك، فقال له: أما اختيارك إياي فقد اخترتك كما اخترتني، واستصحبتك حين سألتني، وقد أعجلتني عن بلوغ حجتي فيك، وطلبت الإذن لترجع إلى قومك فتفضحني فيهم وأنت على الإذن قادر بعد أن أقضي حقك.


 وبلغ عباداً أنه يسبه ويذكره وينال من عرضه، فدس إلى قوم كان لهم عليه دين أن يقدموه إليه، ففعلوا فحبسه وأضر به، ثم بعث إليه بعني الراكة وبرداً، وكانت الراكة قينة لابن مفرغ، وبرد غلامه، رباهما وكان شديد الضن بهما، فبعث إليه ابن مفرغ مع الرسول: أيبيع المرء نفسه وولده؟ فأخذهما عباد منه، وقيل أنه باعهما عليه، فاشتراهما رجل من أهل خراسان. فلما دخلا منزله قال له برد، وكانت داهية أديباً: أتدري ما اشتريت؟ قال: نعم اشتريتك وهذه الجارية، قال: لا والله، ما اشتريت إلا العار والدمار والفضيحة أبداً ما حييت، فجزع الرجل وقال له: كيف ذاك ويلك؟ قال: نحن ليزيد بن مفرغ، ووالله ما أصاره إلى هذه الحال إلا لسانه وشره، أفتراه يهجو عباداً وهو أمير خراسان، وأخوه عبيد الله أمير العراقين، وعمه الخليفة معاوية بن أبي سفيان في أن استبطأوه، ويمسك عنك وقد ابتعتني وابتعت هذه الجارية وهي نفسه التي بين جنبيه؟ ووالله ما أرى أحداً أدخل بيته أشأم على نفسه وأهله ما أدخلته منزلك، فقال: أشهدك أنك وإياها له، فإن شئتما أن تمضيا إليه فامضيا، وعلى أني أخاف على نفسي إن بلف ذلك ابن زياد، وإن شئتما أن تكونا له عندي فافعلا، قال: فاكتب إليه بذلك، فكتب الرجل إلى ابن مفرغ إلى الحبس بما فعله، فكتب إليه يشكر فعله، وسأله أن يكونا عنده حتى يفرج الله عنه.


وقال عباد لحاجبه: ما أرى هذا، يعني ابن مفرغ، يبالي بالمقام في الحبس، فبع فرسه وسلاحه وأثاثه واقسم ثمنها بين غرمائه، ففعل ذلك وبقيت عليه بقية حبسه بها، فقال ابن مفرغ في بيعهما:

شريت برداً ولو ملكت صفقته

 

لما تطلبت في بيعٍ له رشـدا

لولا الدعي ولولا ما تعرض لي

 

من الحوادث ما فارقتـه أبـدا

يا برد ما مسنا دهر أضر بنـا

 

من قبل هذا ولا بعنا له ولـدا

 

معنى شريت: بعت، وهو من الأضداد يقع على الشراء والبيع. والأبيات أكثر من هذا فتركت الباقي.


وعلم ابن مفرغ أنه إن أقام على ذم عباد وهجائه وهو في حبسه زاد في نفسه شراً، فكان يقول للناس إذا سألوه عن حبسه ما سببه: رجل أدبه أميره ليقوم من أوده ويكف من غربه، وهذا لعمري خير من جر الأمير ذيله على مداهنة صاحبه. فلما بلغ ذلك عباد رق له وأخرجه من السجن، فهرب حتى أتى البصرة ثم خرج منها إلى الشام، وجعل يتنقل في مدنها هارباً ويهجو زياداً وولده، فمن ذلك قوله في ترك سعيد بن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وأتباعه عباد بن زياد ويذكر بيع برد عليه:

أصرمت حبلك من أمامـه

 

من بـعـد أيامٍ بـرامـه

فالريح تبكـي شـجـوهـا

 

والبرق يضحك في الغمامه

لهفي علـى الأمـر الـذي

 

كانت عواقـبـه نـدامـه

تركي سعـيداً ذا الـنـدى

 

والبيت ترفعه الدعـامـه

ليثـاً إذا شـهـد الـوغـى

 

ترك الهوى ومضى أمامه

فتحت سـمـرقـنـد لـه

 

وبنى بعرصتهـا خـيامـه

وتبعت عبـد بـنـي عـلا

 

جٍ، تلك أشراط القـيامـه

جاءت بـه حـبـشـــية

 

سكاء تحسبهـا نـعـامـه

من نسـوةٍ سـود الـوجـو

 

ه ترى عليهن الـدمـامـه

وشـريت بـرداً لـيتـنـي

 

من بعد بردٍ كنت هـامـه

هامة إذ تـدعـو صــدى

 

بين المشقر والـيمـامـه

فالهول يركبـه الـفـتـى

 

حذر المخازي والمـآمـه

والعبد يقرع بـالـعـصـا

 

والحر تكفيه الـمـلامـه

 

قلت، قوله: وتبعت عبد بني علاج، بنو علاج بطن من ثقيف - وسيأتي ذكره عند ذكر الحارث بن كلدة في هذه الترجمة إن شاء الله - قاله أبو بكر بن دريد في كتاب " الاشتقاق " وأنشد عليه:

آل أب بكارة استفـيقـوا

 

هل تعدل الشمس بالسراج

إن ولاء النبـي أعـلـى

 

من دعوةٍ في بني عـلاج

 

وهذا القول له سبب يذكر عند أبي بكرة نفيع بن الحارث في هذه الترجمة، إن شاء الله تعالى. وقوله في البيت الآخر: سكاء تحسبها نعامة، يقال أذن سكاء، إذا كانت صغيرة، والسكاء أيضاً التي لا أذن لها، والعرب تقول: كل سكاء تبيض، وكل شرفاء تلد، والشرفاء: التي لها أذن طويلة، والسكاء، بفتح السين المهملة وتشديد الكاف، والشرفاء، بفتح الشين المعجمة وسكون الراء وبعدها فاء، والضابط عندهم فيه أن كل حيوان له أذن ظاهرة فإنه يلد، وكل حيوان ليست له أذن ظاهرة فإنه يبيض.

 

قال الراوي: ثم إن ابن مفرغ في هجاء بني زياد، حتى تغنى أهل البصرة في أشعاره، فطلبه عبيد الله طلباً شديداً حتى كاد يؤخذ، فلحق بالشام واختلف الرواة فيمن رده إلى ابن زياد، فقال بعضهم: رده معاوية بن أبي سفيان، وقال بعضهم: بل رده زيد بن معاوية، والصحيح أنه يزيد لأن عباداً إنما ولي سجستان في أيام يزيد.


قلت: ثم ذكر صاحب " الأغاني " عقيب هذا الفصل أن سعيد بن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، دخل على معاوية بن أبي سفيان فقال له: علام جعلت ولدك يزيد ولي عهدك دوني؟ فوالله لأبي خير من أبيه وأمي خير من أمه وأنا خير منه، وقد وليناك فما عزلناك وبنا نلت ما نلت، فقال له معاوية: أما قولك إن أباك خير من أبيه فقد صدقت، لعمر الله إن عثمان لخير مني، وأما قولك إن أمك خير من أمه فحسب المرأة أن تكون في بيت قومها وأن يرضاها بعلها وينجب ولدها، وأما قولك إنك خر من يزيد، فوالله يا بني ما يسرني أن لي بيزيد ملء الغوطة مثلك، وأما قولك: إنكم وليتموني فما عزلتموني، فما وليتموني وإنما ولاني من هو خير منكم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فأقررتموني، وما كنت بئس الوالي لكم، لقد قمت بثأركم وقتلت قتلة أبيكم وجعلت الأمر فيكم، وأغنيت فقيركم ورفعت الوضيع منكم، فكلمه يزيد في أمره فولاه خراسان.


رجعنا إلى حديث ابن مفرغ: قال الراوي: ولم يزل يتنقل في قرى الشام ويهجو بني زياد، وأشعاره تنقل إلى البصرة. فكتب عبيد الله بن زياد أمير العراقين إلى معاوية - وقيل يزيد وهو الأصح - يقول: إن ابن مفرغ هجا زياداً وبني زياد بما هتكه في قبره وفضح بنية طول الدهر، وتعدى إلى أبي سفيان فقذفه بالزنا وسب ولده، وهرب من سجستان وطلبته حتى لفظته الأرض، وهرب من الشام يتمضغ لحومنا ويهتك أعراضنا، وقد بعثت إليك بما هجانا به لتنتصف لنا منه. ثم بعث بجميع ما قاله ابن مفرغ فيهم، فأمر يزيد بطلبه، فجعل يتنقل في البلاد حتى لفظته الشام، فأتى البصرة ونزل على الأحنف بن قيس - قلت: وهو الذي يضرب به المثل في الحلم، وقد سبق ذكره واسمه الضحاك - قال: فاستجار به، فقال له الأحنف: إني لا أجير على ابن سمية فأغرك، وإنما يجير الرجل على عشيرته وأما على سلطانه فلا. ثم إنه مشى على غيره فلم يجره أحد، فأجاره المنذر بن الجارود العبدي، وكانت ابنته تحت عبيد الله بن زياد، وكان المنذر من أكرم الناس عليه، فاغتر بذلك وأدل بموضعه منه، وطلبه عبيد الله وقد بلغه وروده من البصرة، فقيل له: أجاره المنذر بن الجارود، فبعث عبيد الله إلى المنذر فأتاه، فلما دخل عليه بعث عبيد الله بالشرط فكبسوا داره وأتوه بابن مفرغ، فلم يشعر ابن الجارود إلا بابن مفرغ قد أقيم على رأسه، فقام ابن الجارودي إلى عبيد الله فكلمه فيه، فقال: أذكرك الله أيها الأمير أن تخفر جواري فإني قد أجرته، فقال عبيد الله: يا منذر، الله، ليمدحن أباك ويمدحنك وقد هجاني وهجا آبي ثم تجيره علي!! لاها الله، لا يكون ذلك أبداً ولا أغفرها له، فغضب المنذر، فقال له: لعلك تدلي بكريمتك عندي، إن شئت والله لأبيتها بتطليق البتة؛ فخرج المنذر من عنده.


 وأقبل عبيد الله على ابن مفرغ فقال له: بئس ما صحبت به عباداً، فقال: بل بئس ما صحبني عباد، اخترته على سعيد بن عثمان وأنفقت على صحبته جميع ما أملكه، وظننت أنه لا يخلو من عقل زياد وحلم معاوية وسماحة قريش، فعدل عن ظني كله، ثم عاملني بكل قبيح وتناولتني بكل مكروه من حبس وغرم وشتم وضرب، فكنت كمن شام برقاً خلباً في سحاب جهام فأراق ماءه طمعاً فيه فمات عطشاً، وما هربت من أخيك إلا لما خفت أن يجري في ما يندم عليه، وقد صرت الآن في يديك فشأنك فاصنع بي ما شئت. فأمر بحبسه وكتب إلى يزيد بن معاوية يسأله أن يأذن له في قتله، فكتب إليه يزيد: إياك وقتله، ولكن تناوله بما ينكله ويشد سلطانك ولا يبلغ نفسه، فإن له عشيرة هي جندي وبطانتي ولا ترضى بقتله مني ولا تقنع إلا بالقود منك، فاحذر ذلك واعلم أنه الجد منهم ومني وأنك مرتهن بنفسه، ولك في دون تلفها مندوحة تشفي من الغيظ. فورد الكتاب على عبيد الله، فأمر بابن مفرغ فسقي نبيذاً حلواً قد خلط معه الشبرم، وقيل التربذ فأسهل بطنه فطيف به وهو على تلك الحال، وقرن بهرة وخنزيرة، فجعل يسلح والصبيان يتبعونه ويصيحون، وألح عليه ما يخرج منه حتى أضعفه فسقط، فقيل لعبيد الله: لا نأمن أن يموت، فأمر به أن يغسل، ففعلوا، فلما اغتسل قال:

يغسل الماء ما فعلت وقولـي

 

راسخ منك في العظام البوالي

 

فرده عبيد الله إلى الحبس، وقيل لعبيد الله: كيف اخترت له هذه العقوبة؟ فقال: لأنه سلح علينا، فأحببت أن تسلح الخنزيرة عليه.


وكان مما قال ابن مفرغ في عباد بن زياد من جملة أبيات عديدة:

إذا أودى معاوية بن حرب

 

فبشر شعب تغبك بالصداع

فأشهد أن أمك لم تبـاشـر

 

أبا سفيان واضعة القنـاع

ولكن كان أمراً فيه لبـس

 

على وجلس شديدٍ وارتياع

 

وقال أيضاً:

ألا أبلغ معاوية بن صـخـر

 

مغلغلة عن الرجل اليمانـي

أتغضب أن يقال أبوك عـف

 

وترضى أن يقال أبوك زاني

فأشهد أن رحمك مـن زياد

 

كرحم الفيل من ولد الأتـان

وأشهد أنـهـا ولـدت زياداً

 

وصخر من سمية غير دان

 

قلت، قوله: فأشهد أن رحمك من زياد، البيت الثالث، أخذه من قول أبي الوليد، وقيل أبي عبد الرحمن، حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، في بيت من جملة أبيات وهي قوله:

لعمرك إن إلك من قريشٍ

 

كإل السقب من رأل النعام

 

الإل: بكسر الهمزة وتشديد اللام، وهو الرحم، والسقب: بفتح السين المهملة وسكون القاف وبعدها باء موحدة، وهو الذكر من ولد الناقة، والرأل: بفتح الراء وبعدها همزة وفي آخره لام، وهو ولد النعام.


وهذه الأبيات قالها حسان في أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن الهاشم، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أخاه من الرضاعة، أرضعتهما حليمة ابنة أبي ذؤيب السعدية، وكان من أكثر الناس شبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له فيه هجاء، وكان حسان يجاوب عنه، فمن ذلك الأبيات الميمية - المقدم ذكرها - ومنها قوله:

ألا أبلغ أبا سفيان عـنـي

 

مغلغلةً فقد برح الخفـاء

هجوت محمداً فأجبت عنه

 

وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكـفءٍ

 

فشركما لخيركما الفـداء

فإن أبي ووالده وعرضي

 

لعرض محمدٍ منكم وقاء

 

وقوله: فشركما لخيركما الفداء، فيه كلام لأهل العلم لأجل شر وخير لأنهما من أداة التفضيل، وتقتضي المشاركة.


وإنما أجابه حسان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.


قلت: والجماعة الذين كانوا يشبهون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهله خمسة: أبو سفيان المذكور والحسن بن علي بن أبي طالب وجعفر بن أبي طالب وقثم بن العباس بن عبد المطلب والسائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، وهو جد الإمام الشافعي، رضي الله عنهم أجمعين.


ثم إن أبا سفيان أسلم عام الفتح، وكان ذلك في السنة الثامنة من الهجرة، وحسن إسلامه، وخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وحنين. ولما انهزم المسلمون يوم حنين كان أبو سفيان أحد السبعة الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى رجع إليهم المسلمون وكانت النصرة لهم وكسبوا من الغنائم ستة آلاف رأس من الرقيق. ثم منّ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فأطلقهم، والشرح في ذلك يطول وليس هذا موضعه. وكان أبو سفيان المذكور يومئذ ممسكاً لجام بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفارقها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إني لأرجو أن يكون فيه خلف من حمزة بن عبد المطلب، وشهد له بالجنة فقال: أبو سفيان بن الحارث من شباب أهل الجنة، أو سيد فتيان أهل الجنة، والله أعلم. وأكثر العلماء يقولون: اسمه كنيته ليس له اسم سواها، وقيل إن اسمه المغيرة، وقيل المغيرة أخوه، وهو أبو سفيان لا غير. ويقال إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه لما تقدم من هجائه.
رجعنا إلى حديث ابن مفرغ: وهو من شعراء الحماسة، وهو القائل:

ألا طرقتنا آخر اللـيل زينـب

 

عليك سلام هل لما فات مطلب

 

قيل أراد بالليل الشباب.

وقالت تجنبنا ولا تـقـربـنـنـا

 

فكيف وأنتم حاجتي أتـجـنـب

يقولون: هل بعد الثلاثين ملعـب

 

فقلت: وهل قبل الثلاثين ملعـب

لقد جل خطب الشيب إن كان كلما

 

بدت شيبة يعرى من اللهو مركب

 

وذكر المظفري الأندلسي في تاريخه الكبير في جملة هذه الأبيات:

فلو أن لحمي إذ وهى لعبت به

 

كرام ملوكٍ أو أسـود وأذؤب

لهون من وجدي وسلى مصيبتي

 

ولكنما أودى بلحمي أكـلـب

 

ولما بلغ الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، وفاة معاوية بن أبي سفيان وبيعة ولده يزيد بن معاوية عزم على قصد الكوفة بمكاتبة جماعة من أهلها كما هو مشهور في هذه الواقعة التي قتل فيها الحسين رضي الله عنه، فكان في تلك المدة يتمثل كثيراً بقول يزيد بن مفرغ المذكور من جملة أبيات:

لا ذعرت السوام في غلس الصب

 

ح مـغـيراً ولا دعـيت يزيدا

يوم أعطي على مخافة ضـيمـاً

 

والمنايا يرصدنـنـي أن أحـيدا

فعلم من سمع ذلك منه أنه سينازع يزيد بن معاوية في الأمر. فخرج الحسين إلى الكوفة وأميرها يومئذ عبيد الله بن زياد، فلما قرب منها سير إليه جيشاً مقدمه عمر بن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه فقتل الحسين رضي الله عنه بالطف، وجرى ما جرى.


وروي أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى الحسين رضي الله عنه: إني لأظن في رأسك نزوة، ولا بد لك من إظهارها، وددت لو أدركتها فأغتفرها لك. وروي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قال: لو كنت من قتلة الحسين وغفر الله لي وأدخلني الجنة لما دخلتها حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عبيد الله بن زياد لحارثة بن بدر الغداني: ما تقول فيّ وفي الحسين يوم القيامة، قال: يشفع له أبوه وجده صلى الله عليه وسلم، ويشفع لك أبوك وجدك، فاعرف من هاهنا ما تريد.


نقلت من كتاب تاريخ شمس الدين أبي المظفر يوسف بن قزعلي المعروف بسبط الحافظ جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي الواعظ الذي سماه " مرآة الزمان " ورأيته بخطه في أربعين مجلداً بدمشق، وقد رتبه على السنين فقال، في السنة التاسعة والخمسين للهجرة، بعد أن قص حديث يزيد بن مفرغ مع بني زياد، فقال في آخر الحديث: ومات يزيد بن مفرغ في سنة تسع وستين يعني للهجرة، والله أعلم.


وقال أبو اليقظان في كتاب " النسب ": مات عباد بن زياد في سنة مائة للهجرة بجرود. قلت، وجرود: بفتح الجيم وضم الراء وسكون الواو وبعدها دال مهملة، وهي قرية من أعمال دمشق من جهة حمص، ويكون في أرضها من حمير الوحش شيء كثير يجاوز الحصر، ولما وصل بعض عسكر الديار المصرية إلى الشام في أثناء سنة ستين وستمائة وتوجهوا بعسكر الشام إلى أنطاكية، وكنت يومئذ بدمشق، أقاموا عليها قليلاً، ثم عادوا فدخلوا دمشق في سلخ شعبان من السنة، وأخبرني بعضهم بقضية غريبة يصلح أن تذكر هاهنا لغرابتها، وهي أنهم نزلوا على جرود المذكورة، واصطادوا من الحمر الوحشية شيئاً كثيراً على ما قالوا، فذبح واحد من الجماعة حماراً وطبخ لحمه الطبخ المعتاد، فلم ينضج ولا قارب النضج، فزاد في الحطب والإيقاد فلم يؤثر فيه شيئاً، ومكث يوماً كاملاً يفعل ذلك وهو لا يفيد، فقام شخص من الجند واخذ الرأس يقلبه فوجد على أذنه وسماً فقرأه، فإذا هو " بهرام جور" فلما وصلوا إلى دمشق أحضروا تلك الأذن عندي، فوجدت الوسم ظاهراً، وقد رق شعر الأذن إلى أن بقي كالهباء وبقي موضع الوسم أسود، وهو بالقلم الكوفي.


وهذا بهرام جور من ملوك الفرس، وكان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بزمان طويل، وكان من عاداته أنه إذا كثر عليه ما يصطاده وسمه وأطلقه، والله أعلم كم كان عمر ذلك الحمار لما وسمه، والله يعلم لو تركوه ولم يذبحوه كم كان يعيش. وعلى الجملة فإن حمار الوحش من الحيوانات المعمرة، وهذا الحمار لعله عاش ثمانمائة سنة أو أكثر.
وهذه جرود في أرضها جبا المدخن المشهور، وقد ذكره أبو نواس في قصيدته التي ذكر فيها المنازل لما قصد الخصيب بمصر فقال:

ووافين إشراقاً كنائس تدمـرٍ

 

وهن إل رعن المدخن صور

 

والمدخن: بضم الميم وبالدال المهملة وفتح الخاء المعجمة المشددة وبعدها نون، وسمي المدخن لأنه لا يزال عليه مثل الدخان من الضباب.


ثم بعد هذا وجدت في كتاب " مفاتيح العلوم " تأليف محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الخوارزمي بن بهرام بن سابور الجنود بن سابور ذو الأكتاف، سمي بهرام حور لأنه كان مولعاً بصيد العير، وهو الحمار الوحشي والأهلي أيضاً، انتهى كلامه، ثم إني حسبت مدة ملكهم بعد هذا فكانت إلى سنة الهجرة النبوية مقدار مائتين وست عشرة سنة، فقد عاش هذا الحمار منذ وسمه بهرام جور إلى أن ذبح في سنة ستين وستمائة مقدار ثمانمائة وأكثر، والله أعلم.


قلت: وقد تكرر في هذه الترجمة حديث زياد وبنيه وسمية وأبي سفيان ومعاوية، وهذه الأشعار التي قالها يزيد بن مفرغ فيهم، ومن لا يعرف هذه الأسباب قد يتشوف إلى الاطلاع عليها، فنورد منها شيئاً مختصراً، فأقول: إن أبا الجبر الملك الذي ذكره أبو بكر ابن دريد في المقصورة المشهورة في البيت الذي يقوله فيها، وهو:

وخامرت نفس أبي الجبر الجوى

 

حتى حواه الحتف فيمن قد حوى

 

كان أحد ملوك اليمن واسمه كنيته، وقيل هو أبو الجبر يزيد بن شرحيبل الكندي، وقيل أبو الجبر بن عمرو، وتغلب عليه قومه فخرج إلى بلاد فارس يستجيش كسرى عليهم فبعث معهم جيشاً من الساورة، فلما صاروا إلى كاظمة ونظروا إلى وحشة بلاد العرب وقلة خيرها قالوا: إلى أين نمضي مع هذا؟ فعمدوا إلى سم فدفعوه إلى طباخه، ووعدوه بالإحسان إليه إن ألقى ذلك السم في طعام الملك ففعل ذلك، فما استقر الطعام في جوفه حتى اشتد وجعه، فلما علم الأساورة ذلك دخلوا عليه فقالوا له: إنك قد بلغت إلى هذه الحالة، فاكتب لنا إلى الملك كسرى أنك قد أذنت لنا في الرجوع، فكتب لهم بذلك؟.


ثم إن أبا الجبر خف ما به، فخرج إلى الطائف، البليدة التي بالقرب من مكة، وكان بها الحارث بن كلدة طبيب العرب الثقفي، فعالجه فأبرأه، فأعطاه سمية - بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء المثناة من تحتها وفي آخره هاء - وعبيداً - بضم العين المهملة تصغير عبد - وكان كسرى قد أعطاهما أبا الجبر في جملة ما أعطاه، ثم ارتحل أبو الجبر يريد اليمن، فانتفضت عليه العلة فمات في الطريق. ثم إن الحارث بن كلدة الثقفي زوج عبيداً المذكور سمية المذكورة فولدت سمية زياداً على فراش عبيد، وكان يقال له زياد بن عبيد، وزياد بن سمية، وزياد بن أبيه، وزياد بن أمه، وذلك قبل أن يستلحقه معاوية - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - وولدت سمية أيضاً أبا بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة المذكور، ويقال نفيع بن مسروح، وهو الصحابي المشهور بكنيته رضي الله عنه، وولدت أيضاً شبل بن معبد ونافع بن الحارث، وهؤلاء الإخوة الأربعة هم الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا - وسيأتي خبر ذلك بعد الفراغ من حديث زياد إن شاء الله تعالى، وكان أبو سفيان صخر بن حرب الأموي والد معاوية بن أبي سفيان يتهم في الجاهلية بالترداد إلى سمية المذكورة، فولدت سمية زياداً في تلك المدة، لكنها ولدته على فراش زوجها عبيد. ثم إن زياداً كبر وظهرت منه النجابة والبلاغة، وهو أحد الخطباء المشهورين في العرب بالفصاحة والدهاء والعقل الكثير حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قد استعمل أبا موسى الأشعري رضي الله عنه على البصرة، فاستكتب زياد ابن أبيه ثم إن زياداً قدم على عمر رضي الله عنه من عند أبي موسى، فأعجب به عمر رضي الله عنه، فأمر له بألف درهم، ثم تذكرها بعدما مضى فقال: لقد ضاع ألف أخذها زياد، فلما قدم عليه بعد ذلك قال له: ما فعل ألفك يا زياد؟ قال: اشتريت بها عبيداً فأعتقته، يعني أباه، قال: ما ضاع ألفك يا زياد، هل أنت حامل كتابي إلى أبي موسى في عزلك عن كتابته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن لم يكن ذلك عن سخطة، قال: ليس عن سخطة، قال: فلم تأمره بذلك؟ قال: كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك.


واستكتب أبو موسى بعد زياد أبا الحصين ابن أبي الحر العنبري، فكتب إلى عمر رضي الله عنه كتاباً فلحن في حرف منه، فكتب إليه أن قنع كاتبك سوطاً.


وكان عمر رضي الله عنه إذا وفد إليه من البصرة رجل أحب أن يكون زياداً ليشفيه من الخبر. وكان عمر رضي الله عنه قد بعثه في إصلاح فساد وقع باليمن، فرجع من وجهه، وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها، فقال عمرو بن العاص: أما والله لو كان هذا الغلام من قريش لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان: والله إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه، فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ومن هو يا أبا سفيان؟ قال: أنا، قال: مهلاً أبا سفيان، فقال أبو سفيان:

أما والله لولا خوف شخـصٍ

 

يراني يا علي من الأعـادي

لأظهر سره صخر بن حربٍ

 

ولم يكن المقالة عـن زياد

وقد طالت مجاملتي ثقـيفـاً

 

وتركي فيهم ثمر الـفـؤاد

 

فلما صار الأمر إلى علي رضي الله عنه وجه زياداً إلى فارس، فضبط البلاد وحمى وجبى وأصلح الفساد، فكاتبه معاوية يروم إفساده على علي، رضي الله عنه، فلم يفعل ووجه بكتابه إلى علي وفيه شعر تركته، فكتب إليه علي: إنما وليتك ما وليتك وأنت أهل لذلك عندي، ولن تدرك ما تريده مما أنت فيه إلا بالصبر واليقين، وإنما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر رضي الله عنه لا تستحق بها نسباً ولا ميراثاً، وإن معاوية يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه فاحذره ثم احذره، والسلام. فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد لي أبو الحسن ورب الكعبة، فذلك الذي جرأ زياداً ومعاوية على ما صنعا. فلما قتل علي رضي الله عنه، وتولى ولده الحسن رضي الله عنه، ثم فوض الأمر إلى معاوية كما هو مشهور، أراد معاوية استمالة زياد إليه وقصد تأليف قلبه ليكون معه كما كان مع علي، رضي الله عنه، فتعلق بذلك القول الذي صدر من أبيه بحضرة علي وعمرو بن العاص، فاستلحق زياداً في سنة أربع وأربعين للهجرة، فصار يقال له زياد بن أبي سفيان. فلما بلغ أخاه أبا بكرة أن معاوية استلحقه وأنه رضي ذلك حلف يميناً أن لا يكلمه أبداً، وقال: هذا زنى أمه وانتفى أبيه، والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قط، ويله ما يصنع بأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أيريد أن يراها، فإن حجبته فضحته وإن رآها فيا لها مصيبة، يهتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمةً عظيمة. وحج زياد في زمن معاوية ودخل المدينة، فأراد الدخول على أم حبيبة لأنها أخته على زعمه وزعم معاوية، ثم ذكر قول أخيه أبي بكرة، فانصرف عن ذلك. وقيل إن أم حبيبة حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها، وقيل إنه حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة، وقال: جزى الله أبا بكرة خيراً، فما يدع النصيحة على حال. وقدم زياد على معاوية وهو نائب عنه وحمل معه هدايا جليلة، من جملتها عقد نفيس، فأعجب به معاوية، فقال زياد: يا أمير المؤمنين، دوخت لك العراق، وجبيت لك برها وبحرها وحملت إليك لبها وسرها، وكان يزيد بن معاوية جالساً فقال له: أما إنك إذ فعلت فإنا نقلناك من ثقيف إلى قريش، ومن عبيد إلى أبي سفيان، ومن القلم إلى المنابر، فقال له معاوية: وريت بك زنادي.


وقال أبو الحسن المدائني: أخبرنا أبو الزبير الكاتب عن ابن إسحاق قال: اشترى زياد أباه عبيداً، فقدم زياد على عمر رضي الله عنه، فقال له: ما صنعت بأول شيء أخذت من عطائك؟ قال: اشتريت به أبي، قال: فأعجب ذلك عمر رضي الله عنه، وهذا ينافي استلحاق معاوية إياه، والله أعلم.


ولما ادعى معاوية زياداً دخل عليه بنو أمية، وفيهم عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان بن الحكم الأموي، فقال: يا معاوية، لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلةً وذلة، فأقبل معاوية على أخيه مروان بن الحكم وقال: أخرج عنا هذا الخليع، فقال مروان: والله إنه لخليع ما يطاق، قال معاوية: والله لولا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق، ألم يبلغني شعره فيّ وفي زياد؟ ثم قال لمروان: أسمعنيه، فقال:

ألا أبلغ معاوية بن صخـر

 

لقد ضاقت بما تأتي الـيدان

أتغضب أن يقال أبوك عف

 

وترضى أن يقال أبوك زان

 

وقد تقدم ذكر بقية هذه الأبيات منسوبةً إلى يزيد بن مفرغ، وفيها خلاف هل هي ليزيد بن مفرغ أم لعبد الرحمن بن الحكم، فمن رواها لابن مفرغ روى البيت الأول على تلك الصورة، ومن رواها لعبد الرحمن بن الحكم رواها على هذه الصورة.


 ولما استلحق معاوية زياداً وقربه وأحسن إليه وولاه، صار من أكبر الأعوان على بني علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، حتى قيل إنه لما كان أمير العراقين طلب رجلاً من أصحاب الحسن بن علي رضي الله عنهما يعرف بابن سرح وكان في الأمان الذي كتب لأصحاب الحسن رضي الله عنه لما نزل عن الخلافة لمعاوية، فكتب الحسن إلى زياد: من الحسن إلى زياد، أما بعد، فقد علمت ما كنا أخذنا لأصحابنا من الأمان، وقد ذكر لي ابن سرح أنك عرضت له فأحب أن لا تعرض له إلا بخير، والسلام. فلما أتاه الكتاب وقد بدأ فيه بنفسه، ولم ينسبه إلى أبي سفيان غضب وكتب إليه: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن، أما بعد، فإنه أتاني كتابك في فاسق تؤويه الفساق من شيعتك وشيعة أبيك، وايم الله لأطلبنه ولو كان بين جلدك ولحمك، وإن أحب الناس إلي لحماً أن آكله للحم أنت منه. فلما قرأه الحسن رضي الله عنه بعث به إلى معاوية، فلما قرأه غضب وكتب إلى زياد: من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد، أما بعد، فإن الحسن بن علي بعث إلي كتابك إليه، جواب كتابه إليك في ابن سرح، فأكثرت التعجب منه، وقد علمت أن لك رأيين: رأي من أبي سفيان، ورأي من سمية، فأما رأيك من أبي سفيان فحلم وحزم، وأما رأيك من سمية فكما يكون رأي مثلها، ومن ذلك كتابك إلى الحسن تسميه وتعرض له بالفسق، ولعمري لأنت أولى بذلك منه، فإن كان الحسن بدأ بنفسه ارتفاعاً عنك فإن ذلك لن يضعك، وأما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك، فإذا أتاك كتابي فخل ما بيدك لابن سرح ولا تعرض له فيه، فقد كتبت إلى الحسن يخيره: إن شاء أقام عنده وإن شاء رجع إلى بلده، وإنه ليس لك عليه سبيل بيد ولا لسان. وأما كتابك إلى الحسن باسمه ولا تنسبه إلى أبيه، فإن الحسن ويحك ممن لا يرمى به الرجوان، أفاستصغرت أباه، وهو علي بن أبي طالب؟ أم إلى أمه وكلته وهي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فذلك أفخر له إن كنت عقلت، والسلام.


قوله: لا يرمى به الرجوان، بفتح الراء والجيم، وهو لفظ مثنى، ومعناه المهالك.


قلت: وقد رويت هذه الحكاية على صورة أخرى وهي: كان سعيد بن سرح مولى كريز بن حبيب بن عبد شمس من شيعة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فلما قدم زياد بن أبيه الكوفة والياً عليها أخافه وطلبه، فأتى المدينة ونزل على الحسين بن علي، رضي الله عنه، فقال له الحسين: ما السبب الذي أشخصك وأزعجك؟ فذكر له قضيته وصنيع زياد به، فكتب إليه الحسين: أما بعد فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، فهدمت داره وأخذت ماله وعياله، فإذا أتاك كتابي هذا فابن له داره واردد عليه ماله وعياله، فإني قد أجرته فشفعني فيه، فكتب إليه زياد: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسين بن فاطمة، أما بعد، فقد أتاني كتابك تبدأ فيه باسمك قبل اسمي وأنت طالب حاجة، وأنا سلطان وأنت سوقة، وكتابك إلي في فاسق لا يؤويه إلا فاسق مثله، وشر من ذلك توليه أباك، وقد آويته إقامةً منك على سوء الرأي ورضىً بذلك، وايم الله لا تسبقني إليه ولو كان بين جلدك ولحمك، فإن أحب لحم إلي أن آكله للحم أنت منه، فأسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك، فإن عفوت عنه لم أكن في شفعتك، وإن قتلته لم أقتله إلا بحبه أباك.


فلما قرأ الحسين، رضي الله عنه الكتاب كتب إلى معاوية يذكر له حال ابن سرح وكتابه إلى زياد فيه وإجابة زياد إياه، ولف كتابه في كتابه وبعث به إليه، وكتب الحسين إلى زياد: من الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زياد بن سمية عبد بني ثقيف " الولد للفراش وللعاهر الحجر ".


 فلما قرأ معاوية كتاب الحسين، رضي الله عنه، ضاقت به الشام، وكتب إلى زياد: أما بعد، فإن الحسين بن علي بعث إلي بكتابك جواب كتابه إليك في ابن سرح، فأكثرت التعجب، وعلمت أن لك رأيين: أحدهما من أبي سفيان، وآخر من سمية، فأما الذي من أبي سفيان فحلم وحزم، وأما الذي من سمية فكما يكون رأي مثلها، ومن ذلك كتابك إلى الحسين تشتم أباه وتعرض له بالفسق، ولعمري لأنت أولى بالفسق من الحسين، ولأبوك إذا كنت تنسب إلى عبيد أولى بالفسق من أبيه، وإن كان الحسن بدأ بنفسه ارتفاعاً عنك فإن ذلك لم يضعك، وأما تشفيعه فيما شفع إليك فيه فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك، فإذا قدم عليك كتابي هذا فخل ما في يدك لسعيد بن سرح وابن له داره ولا تعذر له واردد عليه ماله، فقد كتبت إلى الحسين أن يخبر صاحبه بذلك، فإن شاء أقام عنده وإن شاء رجع إلى بلده، فليس لك عليه سلطان بيد ولا لسان. وأما كتابك إلى الحسين باسمه واسم أمه، لا تنسبه إلى أبيه، فإن الحسين ويلك ممن لا يرمى به الرجوان، إلى أمه وكلته لا أم لك؟ فهي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتلك أفخر له إن كنت تعقل، والسلام.


وقال عبيد الله بن زياد: ما هجيت بشيء أشد علي من قول ابن مفرغ:

فكر ففي ذاك إن فكرت معتبـر

 

هل نلت مكرمةً إلا بـتـأمـير

عاشت سمية ما عاشت وما علمت

 

أن ابنها من قريشٍ في الجماهير

 

وقال قتادة، قال زياد لبنيه وقد احتضر: ليت أباكم كان راعياً في أدناها وأقصاها ولم يقع بالذي وقع به.


قلت: فبهذا الطريق كان ينظم ابن مفرغ هذه الأشعار في زياد وبينه ويقول إنهم أدعياء، حتى قال في زياد وأبي بكرة ونافع أولاد سمية:

إن زياداً ونـافـعـاً وأبـــا

 

بكرة عندي من اعجب العجب

هم رجال ثـلاثة خـلـقـوا

 

في رحم أنثى وكلـهـم لأب

ذا قرشي كـمـا يقـول، وذا

 

مولى، وهذا بزعمه عربـي

وهذه الأبيات تحتاج إلى زيادة إيضاح فأقول، قال أهل العلم بالأخبار: إن الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن غيرة بن عوف بن قسي، وهو ثقيف - هكذا النسب ابن الكلبي في كتاب " الجمهرة " - وهو طبيب العرب المشهور، ومات في أول الإسلام، وليس يصح إسلامه؛ وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن أبي وقاص أن يأتي الحارث يستوصفه في مرض نزل به، فدل ذلك على أنه جائز أن يشاور أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله. وكان ولده الحارث بن الحارث من المؤلفة قلوبهم، وهو معدود في جملة الصحابة، رضي الله عنهم؛ ويقال، الحارث بن كلدة كان رجلاً عقيماً لا يولد له، وإنه مات في خلافة عمر رضي الله عنه.

ولما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف، قال: أيما عبد تدلى إلي فهو حر، فنزل أبو بكرة رضي الله عنه من الحصن في بكرة.

قلت: وهي بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف وبعدها راء ثم هاء، وهي التي تكون على البئر، وفيها الحبل يستقى به، والناس يسمون بكرة، بفتح الكاف، وهو غلط، إلا أن صاحب كتاب " مختصر العين " حكاها بالفتح أيضاً، وهي لغة ضعيفة لم يحكها غيره؛ قال: فكناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكرة لذلك، وكان يقول: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأراد أخوه نافع أن يدلي نفسه في البكرة أيضاً، فقال له الحارث بن كلدة: أنت ابني فأقم، فأقام ونسب إلى الحارث، وكان أبو بكرة قبل أن يحسن إسلامه ينسب إلى الحارث أيضاً. فلما حسن إسلامه ترك الانتساب إليه. ولما هلك الحارث بن كلدة لم يقبض أبو بكرة من ميراثه شيئاً تورعاً، هذا عند من يقول: إن الحارث أسلم، وإلا فهو محروم من الميراث لاختلاف الدين.

فلهذا قال ابن مفرغ الأبيات الثلاثة البائية، لأن زياداً ادعى أنه قرشي باستلحاق معاوية له، وأبو بكرة اعترف بولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونافع كان يقول إنه ابن الحارث بن كلدة الثقفي، وأمهم واحدة، وهي سمية المذكورة. وهذا سبب نظم البيتين في آل أبي بكرة - كما تقدم ذكره - وعلاج جد الحارث بن كلدة كما ذكرته. هذه قصة زياد وأولاده ذكرتها مختصرة. قلت: إلا أن قول ابن مفرغ في البيت الثاني " وكلهم لأب "، ليس بجيد، فإن زياداً ما نسبه أحد إلى الحارث بن كلدة، بل هو ولد عبيد، لأنه ولد على فراشه. وأما أبو بكرة ونافع فقد نسبا إلى الحارث، فكيف يقول: " وكلهم لأب " فتأمله.

وذكر ابن النديم في كتابه الذي سماه " الفهرست ": أن أول من ألف كتاباً في المثالب زياد ابن أبيه، فإنه لما طعن عليه وعلى نسبه عمل ذلك لولده، وقال لهم: استظهروا به على العرب فإنهم يكفون عنكم.

وأما حديث المغيرة بن شعبة الثقفي والشهادة عليه، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قد رتب المغيرة أميراً على البصرة، وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار، وكان أبو بكرة المذكور يلقاه فيقول: أين يذهب الأمير؟ فيقول: في حاجة، فيقول: إن الأمير يزار ولا يزور.

قالوا: وكان يذهب إلى امرأة يقال لها أم جميل بنت عمرو، وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن وهب الجشمي. وقال ابن الكلبي في كتاب " جمهرة النسب ": هي أم جميل بنت الأفقم بن محجن بن أبي عمرو بن شعيثة بن الهزم، وعدادهم في الأنصار. وزاد غير اببن الكلبي فقال: الهزم بن رؤيبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، والله أعلم.

قال الراوي: فبينما أبو بكرة في غرفة مع إخوته، وهم نافع وزياد المذكوران وشبل بن معبد، والجميع أولاد سمية المذكورة فهم إخوة لأم، وكانت أم جميل المذكورة في غرفة أخرى قبالة هذه الغرفة، فضربت الريح باب غرفة أم جميل ففتحته، ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع، فقال أبو بكرة: هذه بلية قد ابتليتم بها فانظروا، فنظروا حتى أثبتوا، فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة فقال له: إنه قد كان أمرك ما قد علمت فاعتزلنا، قال: وذهب المغيرة ليصلي بالناس الظهر، ومضى أبو بكرة فقال: لا والله لا تصلي بنا وقد فعلت ما فعلت، فقال الناس: دعوه فليصل فإنه الأمير، واكتبوا بذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتبوا إليه، فأمرهم أن يقدموا عليه جميعاً المغيرة والشهود، فلما قدموا عليه جلس عمر رضي الله عنه، فدعا بالشهود والمغيرة فتقدم أبو بكرة فقال له: رأيته بين فخذيها؟ قال: نعم والله لكأني أنظر إلى تشريم جدري فخذيها، فقال له المغيرة: لقد ألطفت في النظر، فقال له أبو بكرة: لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به، فقال عمر رضي الله عنه: لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة، فقال: نعم أشهد على ذلك، فقال: فاذهب عنك مغيرة ذهب ربعك، ثم دعا نافعاً فقال له: علام تشهد؟ قال: على مثل شهادة أبي بكرة، قال: لا، حتى تشهد أنه ولج فيها ولوج الميل في المكحلة، قال: نعم حتى بلغ قذذه - قلت، القذذ بالقاف المضمومة وبعدها ذالان معجمتان وهي ريش السهم - قال الراوي: فقال له عمر رضي الله عنه: اذهب مغيرة ذهب نصفك، ثم دعا الثالث فقال له: على ما تشهد؟ فقال: على مثل شهادة صاحبي، فقال له عمر رضي الله عنه: اذهب عنك مغيرة ذهب ثلاث أرباعك. ثم كتب إلى زياد، وكان غائباً فقدم، فلما رآه جلس له في المسجد واجتمع عنده رؤوس المهاجرين والأنصار، فلما رآه مقبلاً قال: إني أرى رجلاً لا يخزي الله على لسانه رجلاً من المهاجرين. ثم إن عمر رضي الله عنه رفع رأسه إليه فقال: ما عندك يا سلح الحبارى؟ فقيل إن المغيرة قام إلى زياد فقال: لا مخبأ لعطر بعد عروس - قلت: وهذا مثل للعرب لا حاجة إلى الكلام عليه، فقد طالت هذه الترجمة كثيراً، قال الراوي: فقال له المغيرة: يا زياد، اذكر الله تعالى واذكر موقف يوم القيامة، فإن الله تعالى وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي، إلا أن تتجاوز إلى ما لم تر مما رأيت، فلا يحملنك سوء منظر رأيته على أن تتجاوز إلى ما لم تر، فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أن يسلك ذكري فيها، قال فدمعت عينا زياد واحمر وجهه وقال: يا أمير المؤمنين أما إن أحق ما حق القوم فليس عندي، وكن رأيت مجلساً وسمعت نفساً حثيثاً وانتهازاً ورأيته مستبطنها، فقال عمر رضي الله عنه: رأيته يدخل كالميل في المكحلة؟ فقال: لا، وقيل قال زياد: رأيته رافعاً رجليها فرأيت رجليها خصييه تتردد إلى بين فخذيها ورأيت حفزاً شديداً وسمعت نفساً عالياً، فقال عمر رضي الله عنه رأيت يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟ فقال: لا، فقال عمر رضي الله عنه: الله أكبر قم إليهم فاضربهم، فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين، وأعجبه قول زياد، ودرأ الحد عن المغيرة. فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا، فهم عمر رضي الله عنه أن يضربه حداً ثانياً، فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن ضربته فارجم صاحبك، فتركه. واستتاب عمر أبا بكرة فقال: إنما تستتيبني لتقبل شهادتي، فقال: أجل، فقال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا. فلما ضربوا الحد قال المغيرة: الله أكبر، الحمد لله الذي أخزاكم، فقال عمر رضي الله عنه: بل أخزى الله مكاناً رأوك فيه.

وذكر عمر بن شبة في كتاب " أخبار البصرة " أن أبا بكرة لما جلد أمرت أمه بشاة فذبحت وجعلت جلدها على ظهره، فكان يقال ما ذاك إلا من ضرب شديد. وحكى عبد الرحمن بن أبي بكرة أن أباه حلف لا يكلم زياداً ما عاش، فلما مات أبو بكرة كان قد أوصى أن لا يصلي عليه زياد وان يصلي عليه أبو برزة الأسلمي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما، وبلغ ذلك زياداً فخرج إلى الكوفة. وحفظ المغيرة بن شعبة ذلك لزياد وشكره.

ثم إن أم جميل وافقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالموسم، والمغيرة هناك فقال له عمر: أتعرف هذه المرأة يا مغيرة؟ قال: نعم هذه أم كلثوم بنت علي، فقال له عمر: أتتجاهل علي؟ والله ما أظن أبا بكرة كذب عليك، وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء.

قلت: ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في أول باب عدد الشهود في كتاب " المهذب ": وشهد على المغيرة ثلاثة: أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد، وقال زياد: رأيت استاً تنبو ونفساً يعلو ورجلين كأنهما أذنا حمار، ولا أدري ما وراء ذلك، فجلد عمر الثلاثة ولم يحد المغيرة.

قلت: وقد تكلم الفقهاء على قول علي رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه إن ضربته فارجم صاحبك، فقال أبو نصر ابن الصباغ - المقدم ذكره - وهو صاحب كتاب " الشامل " في المذهب: يريد أن هذا القول إن كان شهادة أخرى فقد تم العدد، وإن كان هو الأول فقد جلدته عليه، والله أعلم.

وذكر عمر بن شبة في " أخبار البصرة " أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعني البحرين، فقال: ومن يشهد لك بذلك؟ قال: المغيرة بن شعبة، فأبى أن يجيز شهادته.

قلت وقد طالت هذه الترجمة، وسببه أنها اشتملت على عدة وقائع، فدعت الحاجة إلى الكلام على كل واحدة منها فانتشر القول لأجل ذلك، ما خلا عن فوائد.