يزيد بن الطثرية

يزيد بن الطثرية الشاعر المشهور

أبو المكشوح يزيد بن سلمة بن سمرة بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر، المعروف بابن الطثرية، الشاعر المشهور؛ هكذا ساق نسبه أبو عمرو الشيباني، وإنما قيل لجده " سلمة الخير " لأنه كان لقشير ولد آخر يقال له سلمة الشر، قال: وقد قيل إنه يزيد بن المنتشر بن سلمة. وذكر ابن الكلبي أنه يزيد بن الصمة أحد بني سلمة الخير بن قشير.

وذكر البصريون أنه من ولد الأعور بن قشير.

ذكر أبو الحسن علي بن عبد الله الطوسي في أول ديوان يزيد بن الطثرية المذكور، وكان الطوسي قد اعتنى به وجمعه، فقال: كان ابن الطثرية شاعراً مطبوعاً عاقلاً فصيحاً كامل الأدب وافر المروءة لا يعاب ولا يطعن عليه، وكان سخياً شجاعاً له أصل ومحل في قومه من قشير، وكان من شعراء بني أمية مقدماً عندهم.

وقال غير الطوسي: كان يزيد بن الطثرية يسمى مودقا، سمي بذلك لحسن وجهه وحسن شعره وحلاوة حديثه، فكانوا يقولون إنه إذا جلس بين النساء ودقهن - يقال استودقت المرأة وودقت إذا مالت إلى الفحل لأجل الجماع - والأصل في هذه اللفظة أن تكون لذوات الحافر، ثم نقلت إلى بني آدم، وهي بالدال المهملة والقاف، والمودق: هو الذي يجعل النساء يملن عليه - وكان يزيد كثيراً ما يجلس عند النساء ويتحدث معهن، ويقال إنه كان عنيناً لا يأتي النساء. وليس له عقب، وهو من أعيان الشعراء، ذكره أبو تمام الطائي في كتاب " الحماسة " في عدة مواضع، فمن ذلك قوله في باب النسيب:

عقيلية أمـا مـلاث إزارهـا

 

فدعص وأما خصرها فبتـيل

تقيظ أكناف الحمى ويظلـهـا

 

بنعمان من وادي الأراك مقيل

أليس قليلاً نظرة إن نظرتـهـا

 

إليك؟ وكل ليس منك قـلـيل

فيا خلة النفس التي ليس دونهـا

 

لنا من أخلاء الصفاء خـلـيل

ويا من كتمنا حبه لم يطع بـه

 

عدو ولم يؤمن علـيه دخـيل

أما من مقام أشتكي غربة النوى

 

وخوف العدا فيه إليك سبـيل

فديتك أعدائي كثير، وشقـتـي

 

بعيد، وأشياعي لـديك قـلـيل

فلا تحمل ذنبي وأنت ضعـيفة

 

فحمل دمي يوم الحساب ثقـيل

وكنت إذا ما جئت جئت بعـلة

 

فأفنيت علاتي فكـيف أقـول

فما كل يوم لي بأرضك حـاجة

 

ولا كل يوم لي إليك رسـول

 

وكان أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب " الأغاني " قد جمع شعر يزيد بن الطثرية أيضاً في ديوان، وأورد له قوله.

ألا بأبي قد برى الجـسـم حـبـه

 

ومن هو مومـوق إلـى حـبـيب

ومن هـو لا يزداد إلا تـشـوقـاً

 

ولـيس يرى عـلـيه رقـــيب

وإني وإن أحموا علي كـلامـهـا

 

وحالت أعـادٍ دونـنـا وحـروب

لمثنٍ على ليلـى ثـنـاءً يزينـهـا

 

قوافٍ بأفواه الـرجـال تـطـيب

أليلى أحذري نقض القوى لا يزل لنا

 

على النأي والهجران منك نصـيب

وكوني على الواشين لداء شـغـبةً

 

كما أنا للـواشـي ألـد شـغـوب

فإن خفت ألا تحكمي مرة الهـوى

 

فردي فؤادي والـمـزار قـريب

 

وأورد له أيضاً:

بنفسي من لو مر برد بنـانـه

 

على كبدي كانت شفاءً أناملـه

ومن هابني في كل شيء وهبته

 

فلا هو يعطيني ولا أنا سائلـه

 

أما أبو الحسن الطوسي فإنه أورد له:

وإني لأستحيي من الله أن أرى

 

رديفاً لوصل أو علـي رديف

وأن أرد الماء الموطا حـنـيه

 

وأتبع وصلاً منك وهو ضعيف

 

قلت: ورأيت في موضع آخر بعد البيت الأول:

وإني للماء المخالطه القذى

 

وإن كثرت وراده لعيوف

 

وأورد له الطوسي أيضاً:

ألا رب راج حاجةً لا ينالـهـا

 

وآخر قد تقضى له وهو جالس

يجول لها هذا وتقضى لـغـيره

 

وتأتي الذي تقضى له وهو آيس

 

وأورد له أيضاً من جملة أبيات:

برغمي أطيل الصد عنها إذا نأت

 

أحاذر أسماعاً عليهـا وأعـينـا

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

 

فصادف قلباً خالياً فتـمـكـنـا

 

وأورد له أيضاً أبياتاً منها قوله:

وقولا إذا عدت ذنوباً كـثـيرة

 

علينا تجناها ذري ما تغـيبـا

هبيني امرأ إما بريئاً ظلمـتـه

 

وإما مسيئاً تاب بعد وأعتـبـا

فلما أبت لا تقبل العذر وارتمى

 

بها كذب الواشين شأوا مغربا

تعزيت عنها بالسلو ولم أكن

 

لمن ضن عني بالمودة أقربا

وكنت كذي داء تبغى لـدائه

 

طبيباً فلما لم يجده تطبـبـا

 

وأورد له أبو عبد الله المرزباني في كتاب " معجم الشعراء " وهي في " الحماسة " أيضاً، وقد رويت أيضاً لعبد الله بن الدمينة الخثعمي، والله أعلم:

بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له

 

ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب

ولم يعتذر عذر البرئ ولم تـزل

 

به رعدة حتـى يقـال مـريب

 

وأورد له المرزباني في " المعجم " أيضاً:

حننت إلى ريا ونفسك بـاعـدت

 

مزارك من ريا وشعباكما معـا

فما حسن أن تأتي الأمر طائعـا

 

وتجزع أن داعى الصبابة أسمعا

قفا ودعا نجداً ومن حل بالحمى

 

وقل لنجد عنـدنـا أن يودعـا

ولما رأيت البشر أعرض دوننـا

 

وجالت بنات الشوق يحنن نزعا

بكت عيني اليمنى فلما زجرتهـا

 

عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

تلفت نحو الحي حتى وجدتنـي

 

وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا

وأذكر أيام الحمى ثم أنـثـنـي

 

على كبدي من خشية أن تقطعا

وليست عشيات الحمى برواجـع

 

عليك ولكن خل عينيك تدمعـا

 

قلت: وهي أبيات في غاية الرقة واللطافة، وذكرها أبو تمام الطائي في كتاب " الحماسة " في أول باب النسيب وقال إنها للصمة بن عبد الله القشيري، والله أعلم بالصواب في ذلك.


وقال أبو عمر يوسف بن عبد البر - صاحب كتاب " الاستيعاب " في أخبار الصحابة رضي الله عنهم، وقد تقدم ذكره - في كتاب " بهجة المجالس " ما مثاله: للصمة بن عبد الله القشيري:

أما وجلال الله لو تـذكـرينـنـي

 

كذكريك ما كفكفت للعين مدمعـا

فقالت بلى والله ذكـراً لـو أنـه

 

يصب على الصخر الأصم تصدعا

 

ثم قال بعد ذلك: وأكثرهم ينسبون إليه في هذا الشعر:

حننت إلى ريا ونفسك باعـدت

 

مزارك من ريا وشعباكما معا

 

وذكر الأبيات بكمالها كما ذكرها في " الحماسة " وبعد الفراغ منها قال: ومنهم من ينسبها إلى قيس بن ذريح وإلى المجنون أيضاً، والأكثر أنها للصمة، والله أعلم.


قلت: فقد وقع الاختلاف في أن هذه الأبيات العينية هل هي ليزيد بن الطثرية أم للصمة بن عبد الله القشيري أم لقيس بن ذريح أم للمجنون، والله أعلم.


قلت: وذكره المرزباني أيضاً في كتاب " المونق " فقال: أنشدني أبو الخنبش لابن الطثرية:

وحنت قلوصي بعد هذا صبابةً

 

فيا روعةً ما راع قلبي حنينها

فقلت لها صبراً فكل قـرينة

 

مفارقها، لا بد يوماً، قرينهـا

 

وأورد له أيضاً:

كيف العزاء وأنت أومق من مشى

 

والنفس مـعـولة ودارك نـائيه

بيديك قتلي إن أردت مـنـيتـي

 

وشفاء نفسي إن أردت شـفـائيه

ولقد عرفت فما أويت لمـدنـفٍ

 

ما النفس عنك وإن نأيت بسالـيه

 

وأورد له أيضاً:

إذا نحن جئنا لم تجـمـل بـزينة

 

حذار العادي وهي بادٍ جمالهـا

ولا نبتديها بالسـلام ولـم نـقـل

 

لهم من توقي شرهم: كيف حالها

وأورد له أشياء كثيرة غير هذا فنقتصر على هذا القدر.

وقال أبو بكر أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في كتاب " أنساب الأشراف " بعد ما ذكر مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي الحكمي ووقائع جرت في سنة ست وعشرين ومائة: فكان في أثناء ذلك وقعة قتل فيها المندلث بن إدريس الحنفي، وقتل معه يزيد بن الطثرية المذكور على قرية يقال لها الفلج - بفتح الفاء واللام وفي آخره - وأظنها من قرى اليمامة.

ثم وجدت في كتاب أبي بكر الحازمي الذي صنفه في أسماء المواضع أن فلج بفتح الفاء واللام وآخره جيم قرية عظيمة لبني جعدة بها منبر يقال لها فلج الأفلاج من ناحية اليمامة، وقال غيره: فلج بينها وبين هجر التي هي قصبة البحرين ستة أيام وبينها وبين مكة تسعة أيام، والله أعلم.

وذكر أبو إسحاق الزجاج في كتاب " معاني القرآن الكريم " في سورة الفرقان أن الرس قرية باليمامة يقال لها فلج، فتكون وهي هذه القرية على ما قال، وأما الذي جاء في قول الشاعر:  

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم

 

هم القوم كل القوم يا أم خالد

فإنه بفتح الفاء وسكون اللام، وهو واد بين البصرة وحمى ضرية، وضرية قرية على القرب من مكة شرفها الله تعالى. وأما فلجة الذي جاء في شعر بعض العرب:

ألا حبذا أعلام فلجة بالضـحـى

 

وخيم روابي جلهتيها المنصـب

يقولون ملح ماء قـلـجة آجـن

 

أجل هو مملوح إلى القلب طيب

 

فهذا الاسم يقع على موضعين، أحدهما منزل بين مكة والبصرة، والثاني موضع بالعقيق، وكانت به الواقعة في السنة التي قتل فيها الوليد بن يزيد الأموي المذكور.


رجعنا إلى ما كنا فيه: وكان قتل الوليد في جمادى الآخرة يوم الخميس لليلتين بقيتا منها من سنة ست وعشرين ومائة بالبخراء - بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وبعد الراء ألف ممدودة. وذكر أبو الحسن الطوسي المذكور في هذه الواقعة أن الراية كانت مع يزيد بن الطثرية، فلما قتل المندلث وهر بأصحابه ثبت يزيد بن الطثرية بالراية، وكانت عليه جبة خز فتشبثت في عشرة - قلت: وهي بضم العين المهملة وفتح الشين وبعدها راء مفتوحة ثم هاء، وهي الشجرة لها صمغ من شجر العضاه - قال: فعثر فضربه بنو حنيفة حتى قتلوه.


قلت: وذكر هذه الواقعة بعد قتل الوليد في التاريخ المذكور، فيكون قتل يزيد بن الطثرية بين تاريخ قتل الوليد بن يزيد وبين آخر سنة ست وعشرين ومائة والله أعلم.


وذكر أبو الفرج الأصبهاني في أول الديوان الذي جمعه من شعر يزيد بن الطثرية أن بني حنيفة قتلته في خلافة بني العباس، والأول أصح.


ولما قتل ابن الطثرية رثاه القحيف بن حمير بن سليم الندى بن عبد الله العقيلي بقوله:

ألا تبكي سراة بـنـي قـشـيرٍ

 

على صنديدها وعلى فتـاهـا

أبا المكشوح بعدك من يحامـي

 

ومن يرجي المطي على وجاها

 

ورثى القحيف أيضاً الوليد بن زياد.


ورثاه أخوه ثور بن سلمة بقوله:

أرى الأثل من بطن العقيق مجاوري

 

مقيماً وقد غالـت يزيد غـوائلـه

 

وهي من الشعر المختار. وذكر أبو تمام الطائي في " الحماسة " أن هذه الأبيات لأخته زينب بنت الطثرية وقيل إنها لأمه، والله أعلم.


وذكر الطوسي المذكور أن هذه الواقعة كانت بالعقيق، وقال ياقوت الحموي في كتاب " المشترك وضعاً ": إن العقيق عشرة مواضع، قال الأصمعي: الأعقة الأودية التي تشقها السيول، ثم عد المواضع فقال: الثالث " عقيق عارض " بأرض اليمامة، وهو واد واسع مما يلي العرمة تندفق فيه شعاب العارض، وفيه عيون وقرى، ثم قال: والعقيق من قرى اليمامة لبني عقيل، وهو عقيق نمرة في طريق اليمن من اليمامة.


قلت: فيحتمل أن يكون المراد بقوله " بطن العقيق " في هذا البيت العقيق الأول، ويحتمل العقيق الثاني، والله أعلم.


وإنما كني ابن الطثرية بأبي المكشوح لأنه كان على كشحه كي نار، والكشح - بفتح الكاف وسكون الشين المعجمة وبعدها الحاء المهملة - وهي الخاصرية.


والطثرية: بفتح الطاء المهملة وسكون الثاء المثلثة وبعدها راء ثم ياء النسب وهاء التأنيث، وهي أمه، ينسب يزيد المذكور إليها، وهي من بني طثر بن عنز بن وائل، والطثر: الخصب وكثرة اللبن يقال إن أمه ولدت في عام هذا وصفه، وقيل بل ولدته في عام هذا شأنه، ويقال إن أمه كانت مولعة بإخراج زبد اللبن، فسميت الطثرية، وطثرة اللبن زبدته، والله أعلم.


قلت: وهذا الكلام في النفس منه شيء، فإنهم قالوا: إن أمه من بني طثر بن عنز بن وائل، فعلى هذا تكون أمه منسوبة إلى هذه القبيلة، في معنى حينئذ لقولهم: إن أمه ولدت في عام هذا وصفه، أو ولد هو في عام هذا شأنه، أو كانت أمه تخرج الزبد من اللبن، فتأمله، إلا أن يكون عندهم فيه خلاف: هل هو منسوب إلى القبيلة أم إلى هذا المعنى الثاني، والله أعلم بالصواب في ذلك.


ويروى لزينب بنت الطثرية أخت يزيد المذكور شيء كثير من الشعر، فمن ذلك قولها في المديح:

أشم إذا ما جئت للعرف طالبـاً

 

حباك بما تحنو عليه أنامـلـه

ولو لم يكن في كفه غير روحه

 

لجاد بها فليتق اللـه سـائلـه

وينسب هذان البيتان إلى زياد الأعجم أيضاً، والبيت الثاني منهما يوجد في ديوان أبي تمام الطائي أيضاً في قصيدته التي أولها:  

أجل أيها الربع الذي خف آهلـه

 

لقد أدركت فيك النوى ما تحاوله