المنصور الواحدي

أبو يوسف يعقوب بن أبي يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي، القيسي الكومي صاحب بلاد المغرب قد تقدم ذكر جده عبد المؤمن، وسيأتي ذكر أبيه يوسف إن شاء الله تعالى.

كان صافي السمرة جداً، إلى الطول ما هو، جميل الوجه أفوه أعين شديد الكحل ضخم الأعضاء جهوري الصوت جزل الألفاظ، من أصدق الناس لهجة وأحسنهم حديثاً وأكثرهم إصابة بالظن، مجرباً للأمور، ولي وزارة أبيه، فبحث عن الأحوال بحثاً شافياً وطالع مقاصد العمال والولاة وغيرهم مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور. ولما مات أبوه في التاريخ الآتي في ترجمته إن شاء الله تعالى اجتمع رأي أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمه فبايعوه وعقدوا له الولاية ودعوه أمير المؤمنين كأبيه وجده ولقبوه بالمنصور، فقام الأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أبهة ملكهم ورفع راية الجهاد ونصب ميزان العدل وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع ونظر في أمور الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات.

ولما مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبير المملكة من هناك، وأول ما رتب قواعد بلاد الأندلس، فأصلح شأنها وقرر المقاتلين في مراكزها ومهد مصالحها في مدة شهرين. وأمر بقراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلوات وأرسل بذلك إلى سائر بلاد الشام التي في مملكته. فأجاب قوم وامتنع آخرون. ثم عاد إلى مراكش التي هي كرسي ملكهم، فخرج عليه علي بن إسحاق بن محمد بن علي بن غانية الملثم من جزيرة ميورقة في شعبان سنة ثمانين وملك بجاية وما حولها، فجهز إليه الأمير يعقوب عشرين ألف فارس وأسطولاً في البحر ثم خرج بنفسه في أول سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فاستعاد ما أخذ من البلاد ثم عاد إلى مراكش.

وفي سنة ست وثمانين بلغه أن الفرنج ملكوا مدينة شلب وهي في غرب جزيرة الأندلس، فتجهز إليها بنفسه وحاصرها وأخذها، وأنفذ في الوقت جيشاً من الموحدين ومعه جماعة من العرب، ففتحوا أربع مدن من بلاد الفرنج كانوا قد أخذوها من المسلمين قبل ذلك بأربعين سنة، وخافه صاحب طليطلة وسأله الصلح، فصالحه خمس سنين وعاد إلى مراكش. فلما انقضت مدة الهدنة ولم يبق منها سوى القليل خرجت طائفة من الفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين فنهبوا وسبوا وعاثوا عيثاً فظيعاً، فانتهى الخبر إلى الأمير يعقوب وهو بمراكش، فتجهز لقصدهم في جحفل عرمرم من قبائل الموحدين والعرب، واحتفل وجاز إلى الأندلس، وذلك في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. فعلم الفرنج به، فجمعوا خلقاً كثيراً من أقاصي بلادهم وأدانيها. وأقبلوا نحوه.

قلت: ورأيت بدمشق في أواخر سنة ثمان وستين وستمائة جزءاً بخط الشيخ تاج الدين عبد الله بن حمويه شيخ الشيوخ كان بها، وكان قد سافر إلى مراكش وأقام بها مدة، وكتب فصولاً تتعلق بتلك الدولة فمن ذلك فصل يتعلق بهذه الوقعة فينبغي ذكره ها هنا، فقال: لما انقضت الهدنة بين الأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب المملكة الغربية وبين الأذفونش الفرنجي صاحب غرب جزيرة الأندلس، وقاعدة مملكته يومئذ طليطلة، وذلك في أواخر سنة تسعين وخمسمائة، عزم الأمير يعقوب وهو حينئذ بمراكش على التوجه إلى جزيرة الأندلس لمحاربة الفرنج وكتب إلى ولاة الأطراف، وقواد الجيوش بالحضور، وخرج إلى مدينة سلا ليكون اجتماع العساكر بظاهرها،. فاتفق أنه مرض مرضاً شديداً حتى أيس منه أطباؤه، فتوقف الحال عن تدبير ذلك الجيش. فحمل الأمير يعقوب إلى مراكش، فطمع المجاورون له من العرب وغيرهم في البلاد وعاثوا فيها وأغاروا على النواحي والأطراف. وكذلك فعل الأذفونش فيما يليه من بلاد المسلمين بالأندلس، واقتضى الحال تفرقه جيوش الأمير يعقوب شرقاً وغرباً، واشتغلوا بالمدافعة والممانعة، فكثر طمع الأذفونش في البلاد، وبعث رسولاً إلى الأمير يعقوب يتهدد ويتوعد، ويطلب بعض الحصون المتاخمة له من بلاد الأندلس، وكتب إليه رسالة من إنشاء وزير له يعرف بابن الفخار، وهي: باسمك اللهم فاطر السموات والأرض، وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته الرسول الفصيح، أما بعد فإنه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب ولا ذي عقل لازب، أنك أمير الملة الحنيفية كما أني أمير الملة النصرانية، وقد علمت الآن ما عليه رؤساء أهل الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية، وإخلادهم إلى الراحة، وأنا أسومهم بحكم القهر وجلاء الديار وأسبي الذراري وأمثل بالرجال، ولا عذر لك في التخلف عن نصرهم إذا أمكنتك يد القدرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، فالآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا لا تستطيعون دفاعاً ولا تملكون امتناعاً، وقد حكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة القتال، وتماطل نفسك عاماً بعد عام، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فلا أدري أكان الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما وعد ربك، ثم قيل لي إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلاً لعلةٍ لا يسوغ لك التقحم معها، وها أنا أقول لك ما فيه الراحة لك وأعتذر لك وعنك، على أن تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهان، وترسل إليّ جملة من عبيدك بالمراكب والشواني والطرائد والمسطحات، وأجوز بجملتي إليك، وأقاتلك في أعز الأماكن لديك، فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جلبت إليك وهدية عظيمة مثلت بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحقيت إمارة الملتين والحكم على البرين، والله تعالى يوفق للسعادة ويسهل الإدراة، لارب غيره ولا خير إلا خيره، إن شاء الله تعالى.

فلما وصل كتابه إلى الأمير يعقوب مزقه وكتب على ظهر قطعة منه: "ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون". النمل: 37، الجواب ما ترى لا ما تسمع:

ولا كتب إلا المشرفية عـنـده           ولا رسل إلا الخميس العرمرم

قلت: وهذا البيت للمتنبي.

ثم أمر بكتب الاستنفار واستدعى الجيوش من الأمصار، وضرب السرادقات بظاهر البلد من يومه وجمع العساكر، وسار إلى البحر المعروف بزقاق سبتة فعبر فيه إلى الأندلس، وسار إلى أن دخل بلاد الفرنج، وقد أعتدوا واحتشدوا وتأهبوا، فكسرهم كسرة شنيعة، وذلك في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، انتهى ما نقلته من الجزء المذكور.

قلت: ثم وجدت في كتاب تذكير العاقل وتنبيه الغافل تأليف أبي الحجاج يوسف بن محمد بن إبراهيم الأنصاري البياسي هذه المكاتبة وجوابها، قد كتبها الأذفونش بن فرذلند إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الآتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى وجواب يوسف على هذه الصورة أيضاً، والله أعلم.

قلت: وذكر البياسي بعد هذا ما يدل على أنه نقلها من خط ابن الصيرفي الكاتب المصري، فإن كان كذلك فما يمكن أن تكون هذه الرسالة إلى يعقوب ابن يوسف، لأن ابن الصيرفي متقدم التاريخ على زمان يعقوب بكثير، والله أعلم.

ورأيت جماعة من فضلاء المغاربة ينكرون هذا التاريخ ويذكرون ما نشرحه إن شاء الله تعالى: وهو أن الفرنج جمعوا جمعاً عظيماً وقصدوه، وبلغ الأمير يعقوب خبر مسيرهم وكثرة جموعهم، فما هاله ذلك، وجدّ في السير نحوهم حتى التقوا في شمال قرطبة على قرب قلعة رباح في مرج الحديد، وفيه نهر يشقه، فعبر إلى منزلة الفرنج وصافهم، وذلك يوم الخميس التاسع من شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، واقتفى في ذلك طريقة أبيه وجده فإنهما أكثر ما كانوا يصافون يوم الخميس، ومعظم حركاتهم في صفر، ووقع القتال وبرزت الأبطال وصبرت الرجال، فأمر الأمير يعقوب فرسان الموحدين وأمراء العرب أن يحملوا ففعلوا، وانهزم الفرنج وعمل فيهم السيف فاستأصلهم قتلاً، وما نجا ملكهم إلا في نفر يسير، ولولا دخول الليل لم يبق منهم أحد، وغنم المسلمون أموالهم، حتى قيل إن الذي حصل لبيت المال من دروعهم ستون ألف درع، وأما الدواب على اختلاف أنواعها فلم يحصرها لها عدد، ولم يسمع في بلاد الأندلس بكسرة مثلها.

ومن عادة الموحدين أنهم لا يأسرون مشركاً محارباً إن ظفروا به ولو كان ملكاً عظيماً، بل تضرب رقابهم كثروا أو قلوا، فلما أصبح جيش المسلمين اتبعوهم فألفوهم قد أخلوا قلعة رباح لما داخلهم من الرعب، فملكها الأمير يعقوب وجعل فيها والياً وجيشاً. ولكثرة ما حصل له من الغنائم لم يمكنه الدخول إلى بلاد الفرنج في ذلك الوقت، فعاد إلى مدينة طليطلة وحاصرها وقاتلها أشد قتال وقطع أشجارها وشن الغارات على بلادها، وأخذ من أعمالها حصوناً كثيرة وقتل رجالها وسبى حريمها وخرب مبانيها وهدم أسوارها، وترك الفرنج في أسوأ حال، ولم يبرز إليه أحد من المقاتلة.

ثم رجع إلى إشبيلية وأقام إلى أثناء سنة ثلاث وتسعين، فعاد إلى بلاد الفرنج مرة ثالثة وفعل فيها كفعله المتقدم، فلم يبق للفرنج قدرة على لقائه وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فأرسلوا إليه يلتمسون منه الصلح، فأجابهم إلى ذلك لما اتصل به من أخبار علي بن إسحاق الميورقي المقدم ذكره في هذه الترجمة فإنه كان قد خرج على بلاد إفريقية وخرب أكثر بلادها وتوجه نحو الغرب، وسولت له نفسه النزول على بجاية لما علمه من اشتغال الأمير يعقوب بجزيرة الأندلس والجهاد فيها وتأخره عن بلاد المغرب مدة ثلاث سنين. فأوقع الصلح بينه وبين ملوك الأندلس جميعاً على ما اختاره لمدة خمس سنين، ثم عاد إلى مراكش في أواخر سنة ثلاث وتسعين ولما وصل إليها أمر باتخاذ الأحواض والروايا وآلات السفر للتوجه إلى بلاد إفريفية، فاجتمع إليه مشايخ الموحدين وقالوا له: يا سيدنا قد طالت غيبتنا بالأندلس، فمنا من له خمس سنين ومنا من له ثلاث سنين وغير ذلك، فتنعم علينا بالمهلة هذا العام وتكون الحركة في أول سنة خمس وتسعين، فأجابهم إلى سؤالهم وانتقل إلى مدينة سلا وشاهد ما فيها من المتنزهات المعدة له، وكان قد بنى بالقرب من المدينة المذكورة مدينة عظيمة، سماها رباط الفتح على هيئة الإسكندرية في اتساع الشوارع وحسن التقسيم وإتقان البناء وتحسينه وتحصينه، وبناها على البحر المحيط الذي هناك، وهي على نهر سلا مقابلة لها من البر القبلي، وطاف تلك البلاد وتنزه فيها ثم رجع إلى مراكش.

قلت: وبعد هذا اختلفت الروايات في أمره، فمن الناس من يقول: إنه ترك ما كان فيه وتجرد وساح في الأرض حتى انتهى إلى بلاد الشرق وهو مستخفٍ لا يعرف، ومات خاملاً، ومنهم من يقول: إنه لما رجع إلى مراكش كما ذكرناه توفي في غرة جمادى الأولى، وقيل في شهر ربيع الآخر في سابع عشره، وقيل في غرة صفر، سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمراكش، وقيل إنه مات بمدينة سلا، والله أعلم. وكانت ولادته على ما ذكر هو ليلة الأربعاء رابع شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالى، ولم ينقل شيء من أحواله بعد ذلك إلى حين وفاته.

قلت: ثم حكى لي جمع كثير بدمشق في شهر شوال سنة ثمانين وستمائة أن بالقرب من المجدل، البليدة التي من أعمال البقاع العزيزي، قرية يقال لها حمّارة، وإلى جانبها مشهد يعرف بقبر الأمير يعقوب ملك المغرب، وكل أهل تلك النواحي متفقون على ذلك وليس عندهم فيه خلاف، وهذا القبر بينه وبين المجدل مقدار فرسخين من جهتها القبلية بغرب، والله أعلم.

وكان ملكاً جواداً عادلاً متمسكاً بالشرع المطهر، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما ينبغي من غير محاباة ويصلي بالناس الصلوات الخمس، ويلبس الصوف، ويقف للمرأة وللضعيف ويأخذ لهم بالحق. وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق ليترحم عليه من يمر به.
وسمعت عنه حكاية يليق أن نذكرها ها هنا وهي: أن الأمير الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص عمر والد الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد صاحب إفريقية كان قد تزوج أخت الأمير يعقوب المذكور وأقامت عنده، ثم جرت بينهما منافرة فجاءت إلى بيت أخيها الأمير يعقوب، فسير الأمير عبد الواحد طلبها فامتنعت عليه، فشكا الأمير عبد الواحد ذلك إلى قاضي الجماعة بمراكش، وهو القاضي أبو عبد الله محمد بن علي بن مروان، فاجتمع القاضي المذكور بالأمير يعقوب وقال له: إن الشيخ أبا محمد عبد الواحد يطلب أهله، فسكت الأمير يعقوب، ومضى على ذلك أيام، ثم إن الشيخ عبد الواحد اجتمع بالقاضي المذكور في قصر الأمير يعقوب بمراكش، وقال له: أنت قاضي المسلمين، وقد طلبت أهلي فما جاءوني، فاجتمع القاضي بالأمير يعقوب وقال له: يا أمير المؤمنين، الشيخ عبد الواحد قد طلب أهله مرة وهذه الثانية، فسكت الأمير يعقوب؛ ثم بعد ذلك بمدة لقي الشيخ عبد الواحد القاضي بالقصر المذكور وقد جاء إلى خدمة الأمير يعقوب فقال له: يا قاضي المسلمين، قد قلت لك مرتين وهذه الثالثة: أنا أطلب أهلي وقد منعوني عنهم، فاجتمع القاضي بالأمير يعقوب وقال له: يا مولانا إن الشيخ عبد الواحد قد تكرر طلبه لأهله، فأما أن تسير إليه أهله وإلا فاعزلني عن القضاء، فسكت الأمير يعقوب، وقيل إنه قال له: يا أبا عبد الله ما هذا إلا جد كبير. ثم استدعى خادماً وقال له في السر: تحمل أهل الشيخ عبد الواحد إليه، فحملت إليه في ذلك النهار، ولم يتغير على القاضي ولا قال له شيئاً يكرهه، وتبع في ذلك حكم الشرع المطهر وانقاد لأوامره، وهذه حسنة تعد له وللقاضي أيضاً، فإنه بالغ في إقامة منار العدل.

وكان الأمير أبو يوسف يعقوب المذكور يشدد في إلزام الرعية بإقامة الصلوات الخمس، وقتل في بعض الأحيان على شرب الخمر، وقتل العمال الذين تشكو الرعايا منهم، وأمر برفض فروع الفقه، وأن العلماء لا يفتون إلا بالكتاب العزيز والسنة النبوية، ولا يقلدون أحداً من الأئمة المجتهدين المتقدمين، بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم القضايا من الكتاب والحديث والإجماع والقياس. ولقد أدركنا جماعة من مشايخ المغرب وصلوا إلينا إلى البلاد وهم على ذلك الطريق: مثل أبي الخطاب بن دحية وأخيه أبي عمر ومحيي الدين ابن العربي نزيل دمشق وغيرهم.

وكان يعاقب على ترك الصلاة ويأمر بالنداء في الأسواق بالمبادرة إليها، فمن غفل عنها أو اشتغل بمعيشته عزره تعزيراً بليغاً.وكان قد عظم ملكه واتسعت دائرة سلطنته حتى إنه لم يبق بجميع أقطار بلاد المغرب من البحر المحيط إلى برقة إلا من هو في طاعته وداخلٌ في ولايته، إلى غير ذلك من جزيرة الأندلس. وكان محسناً محباً للعلماء مقرباً للأدباء مصغياً إلى المدح مثيباً عليه، وله ألف أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي كتابه الذي سماه صفوة الأدب وديوان العرب في مختار الشعر، وهو مجموع مليح أحسن في اختياره كل الإحسان.

وإلى الأمير يعقوب تنسب الدنانير اليعقوبية المغربية.

وكان قد أرسل إليه السلطان صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب الآتي ذكره إن شاء الله تعالى رسولاً من بني منقذ في سنة سبع وثمانين وخمسمائة ليستنجده على الفرنج الواصلين من بلاد المغرب إلى الديار المصرية وساحل الشام، ولم يخاطبه بأمير المؤمنين بل خاطبه بأمير المسلمين، فعز ذلك عليه، ولم يجبه إلى ما طلبه منه.

والرسول المذكور هو شمس الدولة أبو الحارث عبد الرحمن بن نجم الدولة أبي عبد الله محمد بن مرشد وقد سبق في ترجمة عمه أسامة بن منقذ تتمة نسبه هكذا ذكره الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري في كتاب الوفات وقال: توفى في سنة ستمائة بالقاهرة، ومولده في شيزر سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وله نظم ونثر.

رجعنا إلى حديث يعقوب.

وكان من شعراء دولته أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن عبد الرحمن بن مجبر الأندلسي المرسي. ولقد نظرت في ديوانه فوجدت أكثر مدائحه في الأمير يعقوب، فمن ذلك قوله:

أتـراه يتـرك الـغـزلا

 

وعليه شب واكتـهـلا

كلفٌ بالغيد ما عقـلـت

 

نفسه السلوان مذ عقـلا

غير راض عن سجية من

 

ذاق طعم الحب ثم سـلا

أيها الـلـوام ويحـكـم

 

إن لي عن لومكم شغلا

ثقلت عن لومـكـم أذن

 

لم يجد فيها الهوى ثقـلا

تسمع النجوى وإن خفيت

 

وهي ليست تسمع العذلا

نظرت عيني لشقوتـهـا

 

نظرات وافقـت أجـلا

غادةً لما مثـلـت لـهـا

 

تركتني في الهوى مثلا

هي بزّتني الشباب فقـد

 

صار في أجفانها كحـلا

أبطل الحق الـذي بـيدي

 

سحر عينيها وما بطـلا

عرضت دلاً فإذ فطنـت

 

بولوعي أعرضت خجلا

وبدا لي أنهـا وجـلـت

 

من هناتٍ تبعث الوجـلا

حسبت أني سأحرقـهـا

 

إذ رأت رأسي قد اشتعلا

يا سراة الحي مثـلـكـم

 

يتلافى الحادث الجلـلا

قد نزلنا في جـواركـم

 

فشكرنا ذلـك الـنـزلا

ثم واجهنـا ظـبـاءكـم

 

فلقينا الهول والـوهـلا

أضمنتم أمن جـيرتـكـم

 

ثم ما آمنتـم الـسـبـلا

وأردتم غصب أنفسـهـم

 

فبثثتم بينهـا الـمـقـلا

ليتنا خضنا السيوف ولـم

 

نلق تلك الأعين النجـلا

عارضتنا منـكـم فـئة

 

أحدثت في عهدنا دخـلا

ثُعَلـيّاتٌ جـفـونـهـم

 

وهم لم يعرفوا ثُـعـلا

أشرعوا الأعطاف ناعمة

 

حين أشرعنا القنا الذبـلا

واستفزتنـا عـيونـهـم

 

فخلعنا البيض والأسـلا

ورمتنا بالسـهـام فـلـم

 

نر إلا الحلي والحـلـلا

نصروا بالحسن فانتبهـوا

 

كل قلب بالهوى جـذلا

عطلتني الغيد من جلـدي

 

وأنا حليتهـا الـغـزلا

حملت نفسي على فتـن

 

سمتها صبراً فما احتملا

ثم قالت سوف نتركـهـا

 

سلباً للحـب أو نـفـلا

قلت أما وهي قد علقـت

 

بأمير المؤمـنـين فـلا

ما عدا تأميلها مـلـكـاً

 

من رأه أدرك الأمــلا

أودع الإحسان صفحتـه

 

ماء بشر ينقع الغـلـلا

فإذا ما الجـود حـركـه

 

فاض من يمناه فانهمـلا

 

قلت: وهي قصيدة طويلة عدد أبياتها مائة وسبعة أبيات، فنقتصر منها على هذا المقدار.


وكانت وفاة الشاعر في سنة سبع وثمانين وخمسمائة بمراكش. وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. ودخل الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي الأسود الشاعر على الأمير يعقوب فأنشده:

أزال حجابه عني وعينـي

 

تراه من المهابة في حجاب

وقربني تفضلـه ولـكـن

 

بعدت مهابةً عند اقترابـي

وكانم: بكسر النون، جنس من السودان وهم بنو عم تكرور، وكل واحدة من هاتين القبيلتين لا تنسب إلى أب ولا أم، وإنما كانم اسم بلدة بنواحي غانة، وهي دار ملك السودان الذين بجنوب الغرب، فسمي هذا الجنس باسم هذه البلدة، وتكرور اسم للأرض التي هم فيها، وسمي جنسهم باسم أرضهم، والجميع من بني كوش بن حام بن نوح عليه السلام، والله أعلم.

ولما حضرت الوفاة الأمير يعقوب المذكور وقضى نحبه بايع الناس ولده أبا عبد الله محمد بن يعقوب وتلقب بالناصر، ونهض إلى إفريقية فهزم الميورقي المذكور وارتجع المهدية من نوابه، وقد كان استولى عليها في مدة اشتغال الأمير يعقوب بالأعداء، ثم تحرك محمد بن يعقوب إلى جزيرة الأندلس، فكانت وقعة العقاب في سنة تسع وستمائة. وتوفي محمد سنة ست عشرة وستمائة " لعشر خلون من شعبان " ومولده في سنة ست وسبعين وخمسمائة والمغاربة يقولون: إن محمد بن يعقوب المذكور أوصى عبيده المشتغلين بحراسة بستانه بمراكش أن كل من ظهر لهم بالليل فهو مباح الدم لهم. ثم أراد أن يختبر قدر أمره لهم، فتنكر وجعل يمشي في البستان ليلاً، فعندما رأوه جعلوه غرضاً لرماحهم، فجعل يقول: أنا الخليفة، أنا الخليفة، فما تحققوه حتى هلك،والله أعلم بصحة ذلك.

ثم ولي بعده ولده أبو يعقوب يوسف بن محمد بن الأمير يعقوب، وتلقب المستنصر بالله، ومولده أول شوال سنة أربع وتسعين، ولم يكن في بني عبد المؤمن أحسن وجهاً منه ولا أبلغ في المخاطبة، إلا أنه كان مشغوفاً براحته، فلم يبرح عن حضرته، فضعفت الدولة في أيامه. ومات في شوال أو ذي القعدة سنة عشرين وستمائة، ولم يخلف ولداً.

فاتفق أراب الدولة على تولية أبي محمد عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن لكبر سنه ووفور عقله، فلم يحسن التدبير،ولا دارى أهل دولته فخلعوه وخنقوه بعد تسعة أشهر من ولايته. ولما تولى عبد الواحد بمراكش كان بالأندلس أبو محمد عبد الله بن الأمير يعقوب المذكور، فامتنع بمرسية، ورأى أنه أحق بالأمر من عبد الواحد، وخرج إلى ما في جهته من بلاد الأندلس فاستولى عليها بغير كلفة وتلقب بالعادل، فلما خنق عبد الواحد بمراكش، ثارت الفرنج بالأندلس على عبد الله المذكور وتواقعوا، وانهزم أصحابه هزيمة شنيعة وهرب هو وركب البحر يريد مراكش، وترك بإشبيلية أخاه أبا العلا إدريس بن الأمير يعقوب، وقاسى عبد الله شدائد في طريقه إلى مراكش من العربان، فلما وصلها اضطربت أحواله وقبض عليه أهل مراكش.

وتفاوضوا فيمن يقدمونه، فوقع اختيارهم على أبي زكريا يحيى بن الناصر محمد بن يعقوب، وهو إذ ذاك كما بقل وجهه غرّ لم يجرب الأمور، فلم يلبث إلا أياماً قلائل حتى ورد الخبر من الأندلس أن أبا العلا إدريس بن الأمير يعقوب ادعى الخلافة باشبيلية وبايعه أهل الأندلس، ثم آل أمره إلى أن حصره العرب بمراكش وهزموا عسكره مرة بعد أخرى، حتى ضجر منه أهل مراكش وتشاءموا به وأخرجوه عنهم، فهرب إلى جبل درن، ثم راسل في الباطن جماعة من أهل مراكش ليعود إليها ويقتل من بها من أعوان أبي العلا إدريس، فحضر إليها وقتل المذكورين.

وجاء أبو العلا من الأندلس، وقد خرج عليه بها الأمير محمد بن يوسف ابن هود الجذامي، ودعا إلى بني العباس فمال إليه الناس ورجعوا عن أبي العلا إدريس، فانتهى إلى مراكش، ويحيى بها، فتواقعوا وانهزم يحيى من أبي العلاء إلى الجبل، واستولى أبو العلا على مراكش.
وجمع يحيى رجالاً وقصد أبا العلا بمراكش فهزمه أبو العلا مراراً وأضعف جماعته، فألجأته الضرورة إلى الاستجارة بقوم في حصن بجهة تلمسان، وكان لغلام منهم عنده ثأر بأبيه، فرصده يوماً وهو راكب فطعنه فقتله، واستبد أبو العلا بالأمر وتلقب بالمأمون وكان شجاعاً جازماً صارماً فتاكاً. ثم إن أبا العلا مات في الغزة حتف أنفه، ولم أتحقق تاريخ وفاته ثم أخبرني بعض أهل بلادهم أنه توفى سنة ثلاثين وستمائة، والله أعلم. وأخفى ولده موته حتى دبر أمره وبلغ مأمنه، وهو أبو محمد عبد الواحد بن أبي العلا إدريس، وتلقب بالرشيد، وتقدم بعد موت أبيه وغلب على أخيه الأكبر واستبد بالأمر. وكان أبوه أبو العلاء قد أزال اسم المهدي أبي عبد الله محمد بن تومرت المقدم ذكره من الخطبة يوم الجمعة، فأعاده ولده الرشيد المذكور، واستمال به قلوب جماعته وتحبب إليهم.

وكان إلى سنة إحدى وأربعين وستمائة ملك المغرب الأقصى وبعض الأندلس، ولم أعلم ما وراء ذلك حتى أذكره.

وبعد تسطير هذه الترجمة كتب لي بعض أهل مراكش ممن عنده فضيلة ومعرفة، وكان قريب عهدٍ ببلاده، فأخبرني أن الرشيد المذكور توفي غريقاً في صهريج بستان له بحضرة مراكش في سنة أربعين وستمائة، وكتم حاجبه أمره مدة فجعل لذلك شهر وفاته.

وولي بعده أخوه لأبيه المعتضد ويعرف بالسعيد، وهو أبو الحسن علي ابن إدريس. ثم خرج إلى ناحية تلمسان، وحاصر قلعة بينها وبين تلمسان مسافة يوم واحد، وقتل هناك على ظهر فرسه في صفر سنة ست وأربعين وستمائة.

وللي بعده المرتضى أبو حفص عمر بن أبي إبراهيم بن يوسف في شهر ربيع الآخر من السنة. وفي الحادي والعشرين من المحرم سنة خمس وستين وستمائة دخل الواثق أبو العلا إدريس بن أبي عبد الله يوسف بن عبد المؤمن المعروف بأبي دبوس، مراكش وهرب المرتضى إلى آزمور، وهي من نواحي مراكش، فقبض عليه عامله بها وبعث إلى الواثق بذلك، فأمره الواثق بقتله، فقتله في العشر الأخير من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وستمائة بموضع يقال له كتامة، بُعده عن مراكش ثلاثة أيام.

وأقام الواثق ثلاث سنين وقتل في الحرب التي كانت بينه وبين نبي مرين ملوك تلمسان، وانقرضت دولة بني عبد المؤمن، وكان قتل الواثق في المحرم سنة ثمان وستين، بموضع بينه وبين مراكش مسيرة ثلاثة أيام في جهتها الشمالية. واستولى بنو مرين على ملكهم، وملكهم الآن أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق بن حمامة، والله تعالى أعلم.

وأما علي بن إسحاق الميورقي فقد تكرر ذكره في هذه الترجمة، وكان أبوه أبو إبراهيم إسحاق بن حمو، بفتح الحاء المهملة وبعدها ميم مشددة مضمومة ثم واو، ابن علي، ويعرف بابن غانية الصنهاجي صاحب ميورقة ومنورقة ويابسة، وهي ثلاث جزائر متجاورة في البحر الغربي، فتوفي في سنة ثمانين وخمسمائة، وخلف أربعة بنين، وهم: أبو عبد الله محمد، توجه بعد موت أبيه إلى الموحدين بالأندلس فأعطوه مدينة دانية وأحسنوا إليه غاية الإحسان، وأبو الحسن علي وأبو زكريا يحيى، خرجا إلى بلاد إفريقية وفعلا الأفاعيل العجيبة المشهورة بين الناس من الحروب والعيث في البلاد، فمات عليّ ولا أعلم تاريخ وفاته، لكنه كان حياً في سنة إحدى وتسعين.

واستمر يحيى علي فطالت مدته، وذكره الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري في كتاب الوفيات فقال: خرج من ميورقة في شعبان سنة ثمانين وخمسمائة واستولى على بلاد كثيرة، وكان مشهوراً بالشجاعة والإقدام وتوفي في أواخر شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة في البرية من قطر تلمسان، وكان خروجه على بني عبد المؤمن.

وبقي أصغر الاخوة، وهو أبو محمد عبد الله ملك ميورقة إلى سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فجهز إليه الناصر محمد بن يعقوب المذكور أسطولاً نزل بساحل ميورقة، فبرز إليهم وكان شجاعاً كريماً، فعثر به فرسه فسقط إلى الأرض فقتلوه، وحملوا رأسه إلى مراكش، وعلقوا جثته على السور، وأخذوا ميورقة وبقيت بأيديهم إلى أن تغلب الفرنج عليها في سنة سبع وعشرين وستمائة، وفعلوا فيها العظائم من القتل والأسر، وغير ذلك.

والأذفونش: بضم الهمزة وسكون الذال المعجمة وضم الفاء وسكون الواو وبعدها نون ثم شين معجمة، وهو اسم لأكبر ملوك الفرنج، وهو صاحب طليطلة.