موفق الدين ابن يعيش

أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش بن أبي السرايا بن محمد بن محمد بن علي بن المفضل بن عبد الكريم بن محمد بن يحيى بن حيّان القاضي بن بشر بن حيان الأسدي، الموصلي الأصل، الحلبي المولد والمنشأ، الملقب موفق الدين النحوي ويعرف بابن الصائغ؛ قرأ النحو على أبي السخاء فتيان الحلبي، وأبي العباس المغربي النيروزي وسمع الحديث على أبي الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي بالموصل، وعلى أبي محمد بن عبد الله بن عمر بن سويدة التكريتي، وبحلب من أبي الفرج يحيى بن محمود الثقفي والقاضي أبي الحسن أحمد بن محمد بن الطرسوسي وخالد بن محمد بن نصر بن صغير القيسراني، وبدمشق على تاج الدين الكندي، وغيرهم، وحدث بحلب وكان فاضلاً ماهراً في النحو والتصريف.

رحل من حلب في صدر عمره قاصداً بغداد ليدرك أبا البركات عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن الأنباري المقدم ذكره وتلك الطبقة بالعراق وبلاد الجزيرة، فلما وصل إلى الموصل بلغه خبر وفاته، وقد ذكرت تاريخ موته في ترجمته، فأقام بالموصل مديدة وسمع الحديث بها، ثم رجع إلى حلب. ولما عزم على التصدر للإقراء سافر إلى دمشق واجتمع بالشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي الإمام المشهور وقد تقدم ذكره في حرف الزاي وسأله عن مواضع مشكلة في العربية، وعن إعراب ما ذكره أبو محمد الحريري في المقامة العاشرة المعروفة بالرحيبة، وهو قوله في أواخرها - حتى إذا لألأ الأفق ذنب السرحان، وآن انبلاج الفجر وحان - فاستبهم جواب هذا المكان على الكندي: هل الأفق وذنب السرحان مرفوعان أو منصوبان، أو الأفق مرفوع وذنب السرحان منصوب، أو على العكس؟ وقال له: قد علمت قصدك، وأنك أردت إعلامي بمكانتك من هذا العلم، وكتب له خطه بمدحه والثناء عليه، ووصف تقدمه في الفن الأدبي.

قلت: وهذه المسألة يجوز فيها الأمور الأربعة، والمختار منها نصب الأفق ورفع ذنب السرحان، وقد ذكر ذلك تاج الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المقدم ذكره المعروف بالبندهي في كتاب - شرح المقامات - ولولا خوف الإطالة لبينت ذلك.

ولما وصلت إلى حلب لأجل الاشتغال بالعلم الشريف، وكان دخولي إليها يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة سنة ست وعشرين وستمائة، وهي إذ ذاك أم البلاد مشحونة بالعلماء والمشتغلين، وكان الشيخ موفق الدين المذكور شيخ الجماعة في الأدب، لم يكن فيهم مثله، فشرعت في القراءة عليه، وكان يقرئ بجامعها في المقصورة الشمالية بعد العصر، وبين الصلاتين بالمدرسة الرواحية، وكان عنده جماعة قد تنبهوا وتميزوا به، وهم ملازمون مجلسه لا يفارقونه في وقت الإقراء وابتدأت بكتاب - اللمع - لابن جني، فقرأت عليه معظمها مع سماعي لدروس الجماعة الحاضرين، وذلك في أواخر سنة سبع وعشرين، وما أتممتها إلا على غيره لعذر اقتضى ذلك.

وكان حسن التفهيم لطيف الكلام طويل الروح على المبتدئ والمنتهي، وكان خفيف الروح ظريف الشمائل كثير المجون، مع سكينة ووقار، ولقد حضرت يوماً حلقته، وبعض الفقهاء يقرأ عليه - اللمع - لابن جني، فقرأ بيت ذي الرمة في باب النداء:

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل

 

وبين النقا آأنت أم أمّ سالـم

 

فقال له الشيخ: إن هذا الشاعر لشدة ولهه في المحبة وعظم وجده بهذه المحبوبة أم سالم وكثرة مشابهتها للغزال كما جرت عادة الشعراء في تشبيههم النساء الصباح الوجوه بالغزلان والمها، اشتبه عليه الحال، فلم يدر هل هي امرأة أم ظبية، فقال: آأنت أم أمّ سالم؛ وأطال الشيخ موفق الدين القول في ذلك وبسطه بأحسن عبارة، بحيث يفهمه البليد البعيد الذهن، وذلك الفقيه منصت مقبل على كلامه بكليته، حتى يتوهم من يراه على تلك الصورة أنه قد تعقل جميع ما قاله، فلما فرغ الشيخ من شرحه قال له الفقيه: يا مولانا أيش في المرأة الحسناء يشبه الظبية؟ فقال له الشيخ قول منبسط: تشبهها في ذنبها وقرونها، فضحك الحاضرون، وخجل الفقيه، وما عدت رأيته حضر مجليه.


قلت: وجلاجل، بفتح الجيم وضمها، اسم مكان والثانية جيم أيضاً. وكنا يوماً نقرأ عليه بالمدرسة الرواحية، فجاءه رجل من الأجناد وبيده مسطور بدين، وكان الشيخ له عادة بالشهادة في المكاتيب الشرعية، فقال له: يا مولانا اشهد عليّ في هذا المسطور، فأخذه الشيخ من يده وقرأ أوله: أقرت فاطمة، فقال له الشيخ: أنت فاطمة؟ فقال له الجندي: لا يا مولانا، الساعة تحضر، وخرج إلى باب المدرسة، فأحضرها وهو يتبسم من كلام الشيخ.


ويقرب من هذا ما تقدم ذكره في ترجمة عامر الشعبي أن شخصاً دخل عليه وعنده امرأة، فقال: أيكما الشعبي؟ فقال له هذه.
وكنا يوماً نقرأ عليه في داره، فعطش بعض الحاضرين وطلب من الغلام ماء فأحضره له، فلما شرب قال: ما هذا إلا ماء بارد، فقال له الشيخ: لو كان خبزاً حاراً كان أحب إليك.


وكنا يوماً عنده بالمدرسة الرواحية، فجاء المؤذن وأذن قبل العصر بساعة جيدة، فقال له الحاضرون: أيش هذا يا شيخ وأين وقت العصر؟ فقال الشيخ موفق الدين: دعوه عسى أن يكون له شغل فهو مستعجل.


وكان يوماً عند القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد قاضي حلب الآتي ذكره إن شاء الله تعالى فجرى ذكر زرقاء اليمامة، وأنها كانت ترى الشيء من المسافة البعيدة، حتى قيل تراه من مسيرة ثلاثة أيام، فجعل الحاضرون يقولون ما علموه من ذلك، فقال الشيخ موفق الدين: أنا أرى الشيء من مسافة شهرين، فتعجب الكل من قوله وما أمكنهم أن يقولوا شيئاً، فقال له القاضي: كيف هذا يا موفق الدين؟ فقال: لأني أرى الهلال، فقال له: كان قلت مسافة كذا كذا سنة، قال: لو قلت هذا عرف الجماعة الحاضرون غرضي، وكان قصدي الإبهام عليهم. وله نوادر كثيرة يطول ذكرها.


وكنت يوماً عنده وقد قدم من الموصل رجل من فضلاء المغاربة في علم الأدب، فحضر حلقته وبحث في دروسه بحث رجل فاضل، وجرى ذكر مباحث جرت له في الموصل مع جماعة من أدبائها وقال: كنت عند ضياء الدين نصر الله بن الأثير الجزري قلت: وقد سبق ذكره قال فتحاورنا وتناشدنا، فأنشدته قول بعض المغاربة قلت: هذه الأبيات ذكر أبو اسحاق الحصري أنها لبعض مشايخ القيروان، رواها عنه ولم يعينه؛ وهي:

ومعذرين كأن نبت خدودهـم

 

أقلام مسك تستمد خـلـوقـا

قرنوا البنفسج بالشقيق ونضدوا

 

تحت الزبرجد لؤلؤاً وعقيقـا

فهم الذين إذا الخلـيّ رآهـم

 

وجد الهوى بهم إليه طريقـا

 

 قلت: ونصف البيت الثاني مثل قول ابن الذروي المصري في أبياته التي سبق ذكرها في ترجمة المبارك بن منقذ وهو قوله:

جلا تحت ياقوت اللمى ثغر لؤلؤ

 

رطيبا وأبدى شارباً من زمـرذ

 

ومن المنسوب إلى أبي محمد الحسن بن علي المعروف بابن وكيع التنيسي المقدم ذكره في حرف الحاء:

جوهري الأوصاف يقصر عنه

 

كلّ فهم وكـل ذهـن دقـيق

شارب مـن زمـرذ وثـنـايا

 

لؤلؤ فوقها فم مـن عـقـيق

 

وذكرت بهذه الأبيات بيتين كنت أحفظهما، ويحسن ذكرهما بعد هذا وهما:

لما وقفنا للوداع وصـار مـا

 

كنا نظنّ من النوى تحقـيقـا

نثروا على ورق الشقائق لؤلؤاً

 

ونثرت من فوق البهار عقيقا

 

وكذلك بيت الوأواء الدمشقي:

فأمطرت لؤلؤاً من نرجس فسقت

 

ورداً وعضت على العناب بالبرد

 

وكذا قول محمد بن سعيد العامري الدمشقي، وقيل إنها لابن كيغلغ:

لما اعتنقنا للوداع وأعربـت

 

عبراتنا عنا بدمع نـاطـق

فرّقن بين معاجر ومحاجـر

 

وجمعن بين بنفسج وشقائق

وأنا الفداء لظبية أحداقـنـا

 

موصولة من وجهها بحدائق

 

وينسب إلى أبي الفتح الحسن بن أبي حصينة الحلبي الشاعر المشهور من هذا أيضاً:

ولما وقفنا للـوداع وقـلـبـهـا

 

وقلبي يفيضان الصبابة والوجـدا

بكت لؤلؤاً رطباً وفاضت مدامعي

 

عقيقاً فصار الكل في نحرها عقدا

 

وأنشدني صاحبنا الحسام عيسى بن سنجر بن بهرام الحاجري الإربلي المقدم ذكره لنفسه:

ولما التقينـا ومـنّ الـزمـان

 

رأى دمع عيني دماً في المآقي

فقال وعـهـدي بـه لـؤلـؤاً

 

أيجري عقيقاً وهذا التـلاقـي

فقلت حبيبـي لا تـعـجـبـن

 

جعلت فدى لك ميتاً وبـاقـي

فتـلـك أوائل دمـع الـوداع

 

وهذي أواخر دمع الـفـراق

 

وكان الشيخ موفق الدين المذكور كثيراً ما ينشد منسوباً إلى أبي علي الحسن ابن رشيق المقدم ذكره ثم كشفت ديوانه، فلم أجد هذه الأبيات فيه، والله أعلم وهي:

وقد كنت لا آتي إلـيك مـخـاتـلاً

 

لديك ولا أثني عليك تـصـنـعـا

ولكن رأيت المدح فـيك فـريضة

 

عليّ إذا كان المـديح تـطـوعـا

فقمت بما لم يخف عنك مـكـانـه

 

من القول حتى ضاق مما توسعـا

فلا تتخالجك الظـنـون فـإنـهـا

 

مآثم واترك فيّ للصلح موضـعـا

فلو غيرك الموسوم عنـدي بـريبة

 

لأعطيت فيه مدعي للقول ما ادعى

فوالله ما طولت بالـقـول فـيكـم

 

لساناً ولا عرضت للذم مسمـعـا

ولكنني أكرمت نفسي فلـم تـهـن

 

وأجللتها من أن تذلّ وتخـضـعـا

فباينـت لا أن الـعـداوة بـاينـت

 

وقاطعت لا أن الوفاء تقـطـعـا

قلت: وقد قيل في هذا الباب شيء كثير ولا حاجة إلى الإطالة.

وشرح الشيخ موفق الدين كتاب - المفضل - لأبي القاسم الزمخشري شرحاً مستوفىً، وليس في جملة الشروح مثله، وشرح - تصريف الملوكي - لابن جني شرحاً مليحاً، وانتفع به خلق كثير من أهل حلب وغيرها، حتى إن الرؤساء الذين كانوا بحلب ذلك الزمان كانوا تلامذته.

وكانت ولادته لثلاث خلون من شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة بحلب؛ وتوفي بها في سحر الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة، ودفن من يومه بتربته بالمقام المنسوب إلى إبراهيم الخليل، صلوات الله عليه وسلامه، ورحمه الله تعالى