يعقوب بن صابر المنجنيقي

أبو يوسف يعقوب بن صابر بن بركات بن عمار بن علي بن الحسين بن علي بن حوثرة، الحراني الأصل البغدادي المولد والدار المنجنيقي، الملقب نجم الدين، الشاعر المشهور، ذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد المعروف بابن الدبيثي في تاريخه الذي جعله ذيلاً لتاريخ الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني الذي ذيله على تاريخ بغداد تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي وقد سبق ذكر كل واحد من هؤلاء الثلاثة في هذا التاريخ فقال ابن الدبيثي: كان يعقوب المذكور متقدماً على أهل صناعته، يعني في صنعة المنجنيق وما يتعلق به، وكان فيه فضل ويقول الشعر، سمع شيئاً من الحديث من أبي المظفر ابن السمرقندي وأبي منصور ابن الشطرنجي، علقت عنه شيئاً من شعره، أنشدني أبو يوسف يعقوب بن صابر لنفسه:

قبلت وجنته فألـفـت جـيده

 

خجلاً ومال بعطفه المـياس

فانهل من خديه فوق عـذاره

 

عرق يحاكي الطل فوق الآس

فكأنني استقطرت ورد خدوده

 

بتصاعد الزفرات من أنفاسي

 

سألته عن مولده فقال: في ضحى نهار الاثنين رابع محرم سنة أربع وخمسين وخمسمائة.


وقال غير ابن الدبيثي: كان صابر المنجنيقي جندياً في ابتداء أمره مقدماً على المنجنيقيين بمدينة السلام ببغداد، ولم يزل مغرى بآداب السيف والقلم وصناعة السلاح والرياضة، واشتهر بذلك، ولم يلحقه - أحد من أبناء زمانه في درايته وفهمه لذلك، وصنف فيه كتاباً سماه عمدة السالك في سياسة الممالك ولم يتممه وهو مليح في معناه، يتضمن أحوال الحروب وتعبيتها وفتح الثغور، وبناء المعاقل وأحوال الفروسية والهندسة والمصابرة على القلاع والحصار والرياضة الميدانية والحيل الحربية، وفنون العلاج بالسلاح وعمل أداة الحرب والكفاح، وصنوف الخيل وصفتها، وقد قسم هذا الكتاب ورتبه أبواباً، كل باب منه يشتمل على فصول.


وكان شيخاً هشاً مليحاً لطيفاً فكهاً طيب المحاورة، شريف النفس متواضعاً، فيه تودد وبشر وسكون، وهو مع ذلك شاعر مكثر مجيد ذو معان مبتكرة، يقصد الشعر ويعمل المقاطيع، وجمع من شعره كتاباً مختصراً سماه مغاني المعاني ومدح الخلفاء، وكانت له منزلة لطيفة عند الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد خليفة العصر ذلك الوقت.


قلت: وكانت أخباره في حياته متواصلة إلينا وأشعاره تنقلها الرواة عنه، ويحكون وقائعه وما جراياته وما ينظم في ذلك من الأشعار الرائقة والمعاني البديعة، ولم تتفق لي رؤيته مع المجاورة وقرب الدار من الدار، لأنه كان ببغداد ونحن بمدينة إربل، وهما متجاورتان، لكن لكثرة اطلاعي على أخباره وما يتفق له من النظم المنقول عنه في وقته كأني كنت معاشره، وما زلت مشغوفاً بشعره مستعذباً أسلوبه فيه. واجتمعت بخلق كثير من أصحابه والناقلين عنه، منهم صاحبنا الشيخ عفيف الدين أبو الحسن علي بن عدلان المعروف بالمترجم الموصلي، فإنه أنشدني له شيئاً كثيراً، فمن ذلك قوله:

كلفت بعلم المنـجـنـيق ورمـيه

 

لهدم الصياصي وافتتاح المرابـط

وعدت إلى نظم القريض لشقوتـي

 

فلم أخل في الحالين من قصد حائط

 

وأنشدني عنه أيضاً وذكر أنه لم يسبق إليه:

لا تكن واثقاً بمن كظـم الـغـي

 

ظ اغتيالاً وخف غرار الغـرور

فالظبا المرهفات أقتـل مـا كـا

 

نت إذا غاض ماؤها في الصدور

 

وأنشدني له أيضاً في جارية سوداء كان يهواها، وهي حبشية:

وجارية من بنات الحـبـوش

 

بذات جفون صحاح مراض

تعشقتها للتصابي فـشـبـت

 

غراماً ولم أك بالشيب راض

وكنت أعيّرهـا بـالـسـواد

 

فصارت تعيرني بالبـياض

 

وأنشدني عنه أيضاً:

وجارية عبرت للـطـواف

 

وعبرتهـا حـذراً تـدمـع

فقلت ادخلي البيت لا تجزعي

 

ففيه الأمان لـمـن يجـزع

سدانـتـه لـبـنـي شـيبة

 

فقالت: ومن شـيبة أفـزع

 

وأنشدني عنه في غلامٍ يتعلم السباحة في دجلة بغداد، وقد لبس تباناً أزرق وشد على ظهره شكوة منفوخة كما جرت عادة من يتعلم العوم. فقال في ذلك:

يا للرجال شكايتي من شـكـوة

 

أضحت تعانق من أحب وأعشق

جمعت هوىً كهواي إلا أنـهـا

 

تطفو ويثقلني الغرام فأغـرق

ويغيرني التبان عـنـد عـنـاق

 

أردافه فهـو الـعـدو الأزرق

 

وقال صاحبنا الكمال ابن الشعار الموصلي صاحب كتاب عقود الجمان: أنشدني ابن صابر لنفسه هذه الأبيات، لكنه روى البيت الثاني منها على صورة أخرى فقال:

حملت هوى كهواي فهي بوصله

 

تطفو ويبكيني الغرام فأغـرق

 

وهذا من المعاني النادرة، فإن العرب إذا وصفت العدو بشدة العداوة قالت: هو عدو أزرق، وقد جاء هذا في كلامهم وأشعارهم كثيراً، واستعمله الحريري في المقامة الرابعة عشرة فقال: فمذ اغبرّ العيش الأخضر، وازور المحبوب الأصفر، اسودَّ يومي الأبيض، وابيضَّ فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر. ورأيت في بعض الرسائل، ولا أتحقق الآن صاحبها: قد أوردنا ظبا الحديد الأخضر، في ماء الوريد الأحمر، من عدو الله الأزرق، من بني الأصفر، وهو باب متسع فلا حاجة إلى الإطالة في ذكر شواهده.


وأنشدني عنه أيضاً في جماعة من الصوفية أضافهم فأكلوا جميع ما قدمه لهم فكتب إلى شيخهم يذكر حاله معهم:

مولاي يا شيخ الرباط الـذي

 

أبان عن فضل وعـلـياء

إليك أشكو جور صـوفـية

 

باتـوا ضـيوفـي وأودائي

أتيتهم بالزاد مـسـتـأثـراً

 

وبت تشكو الجوع أحشائي

مشوا على الخبز ومن عادة

 

الزهاد أن يمشوا على الماء

وهم إلى الآن ضيوفي فجد

 

لهم بخـبـز وبـحـلـواء

أولا فخذهم واكفنيهم فـمـا

 

يحسن في مثلـهـم رائي

 

وأنشدني عنه في الصوفية أيضاً:

قد لبس االصوف لترك الصفا

 

مشايخ العصر لشرب العصير

الرقص والشاهد من شأنـهـم

 

شر طويل تحت ذيل قصـير

 

وأنشدني عنه أيضاً، وهو من المعاني المستطرفة:

قالوا نراه يسل شـعـر عـذاره

 

وسباله مستهـتـراً بـزوالـه

فتسل عنه وخذ حبـيبـاً غـيره

 

فأجبتهم لازلت عبد وصـالـه

هل يحسن السلوان عن حب يرى

 

أن لا يفارقني بنتف سـبـالـه

 

وأنشدني له غير ابن عدلان وقال: لما كبر ابن صابر وضعفت حركته صار إذا مشى يتوكأ على عصا، فقال في ذلك:

ألقيت عن يدي العـصـا

 

زمن الشبيبة لـلـنـزول

وحملتـهـا لـمـا دعـا

 

داعي المشيب إلى الرحيل

 

وكان ببغداد شخص يقال له ابن بثران، وكان كثير الأراجيف، فمنع من ذلك، فقعد على الطريق ينجم، فقال فيه ابن صابر:

إن ابن بشـران ولـسـت ألـومـه

 

من خيفة السلطان صار منـجـمـاً

طبع المشوم على الفضول فلم يطـق

 

في الأرض إرجافاً فأرجف في السما

 

قلت: وأنشدني الأديب شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سالم المعروف بابن التلعفري لنفسه في بعض ليالي شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وستمائة بالقاهرة المحروسة، وهو من شعراء العصر المجيدين:

يا شيب كيف وما انقضى زمن الصبا

 

عاجلت منـي الـلـمة الـسـوداء

لا تعجلن فوالذي جـعـل الـدجـى

 

من ليل طرّتي الـبـهـيم ضـياء

لو أنها يوم الحساب صـحـيفـتـي

 

ما سرّ قلبي كـونـهـا بـيضـاء

 

فقلت له: قد أغرت على بيت نجم الدين ابن صابر، حتى إنك قد أخذت معظم لفظه وجميع معناه والوزن والروي، وهو قوله:

لو أن لحية من يشيب صحيفة

 

لمعاده ما اختارها بيضـاء

 

فحلف أنه لم يسمع هذا البيت إلا بعد عمله للأبيات المذكورة، والله أعلم بذلك. وهذا البيت لابن صابر من جملة أبيات وهي:

قالوا بياض الشيب نور ساطـع

 

يكسو الوجوه مهـابة وضـياء

حتى سرت وخطاته في مفرقي

 

فوددت أن لا أفقد الظلـمـاء

وعدلت أستبقي الشباب تعلـلا

 

بخضابها فصبغتـهـا سـوداء

لو أن لحية من يشيب صحيفة

 

لمعاده ما اختارها بيضـاء

 

وأخبرني بعض الأدباء أن ابن صابر كتب إلى بعض الرؤساء ببغداد:

ما جئت أسألك المواهب مادحاً

 

إني لما أوليتني لـشـكـور

لكن أتيت عن المعالي مخبراً

 

لك أن سعيك عندها مشكور

 

ووقفت بالقاهرة على كراريس فيها شعره، وقد أجاد في كل ما نظمه، ورأيت فيها البيتين المشهورين المنسوبين إلى جماعة من الشعراء، ولا يعرف قائلهما على الحقيقة، وهما:

ألقني في لظىً فإن أحرقتني

 

فتيقن أن لست بالـياقـوت

جمع النسج كل من حاك لكن

 

ليس داود فيه كالعنكبـوت

 

فعمل ابن صابر جوابهما:

أيها المدعي الفخار دع الفخ

 

ر لذي الكبرياء والجبروت

نسج داود لم يفسد ليلة الغـا

 

ر وكان الفخار للعنكبوت

وبقاء السمند في لهب النـا

 

ر مزيل فضيلة الياقـوت

وكذاك النعام يلتقم الـجـم

 

ر وما الجمر للنعام بقوت

 

قلت: وعلى البيتين الأولين نظم جماعة من الشعراء المعاصرين لنا أبياتاً، فمن ذلك قول الكمال أبي محمد القاسم بن القاسم بن عمرو بن منصور الواسطي نزيل حلب صاحب شرح المقامات:

حق دود القز يبنـي

 

فوقه ثـم يمـوت

بعد ما سدى وقد صا

 

ر يسدي العنكبوت

 

وقول المهذب أبي عبد الله محمد بن أبي الحسن بن يمن الأنصاري المعروف بابن الأردخل الموصلي نزيل ميافارقين:

أقول وقد قالوا نراك مقـطـبـاً

 

إذا ما ادّعى دين الهوى غير أهله

يحق لدود القز يقتـل نـفـسـه

 

إذا جاء بيت العنكبوت بمـثـلـه

 

وهذا ينظر إلى قول بعضهم:

إذا شوركت في أمـر بـدون

 

فلا يلحقك عـار أو نـفـور

ففي الحيوان يشترك اضطراراً

 

أرسطاليس والكلب العقـور

 

وقول الآخر:

وللزنبور والبازي جميعـاً

 

لدى الطيران أجنحة وخفق

ولكن بين ما يصطاد بـاز

 

وما يصطاده الزنبور فرق

 

قلت: وعلى ذكر دود القز ينبغي أن يذكر ما يقال عن السرفة، بضم السين المهملة وبعدها راء ساكنة ثم فاء، قال الجوهري في كتاب الصحاح هي دويبة لنفسها بيتاً مربعاً من دقاق العيدان تضم بعضها إلى بعض بلعابها على مثال الناووس، ثم تدخل فيه وتموت، يقال في المثل: هو أصنع من سرفة، وذكر لي بعض الفضلاء أن السرفة هي الأرضة، والله أعلم.


ومما ينبغي أن يلحق بالأبيات المقدم ذكرها قول بعضهم:

إن أعوز الحاذق فاستبدلـوا

 

مكانه أخـرق لـم يحـذق

فلاعب الشرنج مـن دأبـه

 

وضع حصاة موضع البيدق

 

والأصل في هذا كله قول المتنبي:

وشر ما قنصته راحتي قنص

 

شهب البزاة سواء فيه والرخم

 

ويقرب منه قول أبي العلاء المعري أيضاً:

وهل يدخر الضرغام قوتاً ليومه

 

إذا ادخر النمل الطعام لعامـه

 

قلت: وفي هذه الأبيات الأوائل ما يحتاج إلى زيادة إيضاح، فليس كل من يقف عليها يفهم معناها: أما البيت الأول وما ذكره من أمر الياقوت فإن الياقوت من خاصيته أن النار لا تؤثر فيه، وإلى هذا أشار الحريري في المقامة السابعة والأربعين بقوله من جملة ثلاثة أبيات:

وطالما أصلي الياقوت جمر غضاً

 

ثم انطفا الجمر والياقوت ياقوت

 

وقال آخر في غلام له اسمه ياقوت:

ياقوت ياقوت قلبي المستهام بـه

 

من المروءة أن لا يمنع القوت

سكنت قلبي وما تخشى تلهـبـه

 

وكيف يخشى لهيب النار ياقوت

 

وقد جاء هذا كثيراً في الشعر، لكن الاختصار أولى. وأما قول ابن صابر في الجواب في البيت الثاني: نسج داود لم يفد ليلة الغار إلى آخره، فهذا إشارة إلى مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم، معه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فإنهما خافا من مشركي مكة أن يتبعوهما فدخلا غار ثور، بالثاء المثلثة وثور جبل بين مكة والمدينة وبالقرب من مكة ونسج العنكبوت في الحال على باب الغار، فلما وصل المشركون إليه ورأوا أثر العنكبوت على الباب قالوا: ليس ها هنا أحد؛ فإنه لو دخله أحد ما كان العنكبوت نسج عليه في الحال؛ لأن المشركين بادروا إليهما ليلحقوهما، فأخفى الله سبحانه وتعالى أمرهما، وهي من جملة معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.


وقوله في البيت الثالث: وبقاء السمند في لهب النار إلى آخره: السمند، بفتح السين المهملة والميم وبعد النون الساكنة دال مهملة، ويقال السمندل أيضاً بزيادة اللام، ذكروا أنه طائر يقع في النار فلا تؤثر فيه، ويعمل من ريشه مناديل وتحمل إلى هذه البلاد، فإذا اتسخت المنديل طرحت في النار فتأكل النار الوسخ الذي عليها، ولا تحترق المنديل ولا تؤثر النار فيها، ولقد رأيت منه قطعة ثخينة منسوجة على هيئة حزام الدابة، وهي في طول الحزام وعرضه، فجعلوها على النار فما عملت فيه، فغمسوا أحد جوانبه في الزيت ثم تركوه على فتيلة السراج فاشتعل وبقي زماناً طويلاً يشتعل ثم اطفأوه وهو على حاله ما تغير فيه شيء، ويقولون إنه يجلب من بلاد الهند، وإن هذا الطائر يكون هناك، وفيه نكتة ينبغي أن تذكر ها هنا، وهي أن طرف تلك القطعة لما وضعوه على السراج تركوه زماناً طويلاً والنار لا تعلق فيه، فقال بعض الحاضرين: هذا ما تعمل فيه النار، ولكن اغمسوا هذا الطرف في الزيت ثم اجعلوه على النار، ففعلوا ذلك فاشتعل؛ فظهر من هذا أن النار لا تؤثر فيه على تجرده بل لابد من غمسه في شيء من الأدهان.


ثم رأيت بخط شيخنا موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي في كتابه الذي جعله لنفسه سيرة أنه قدم للملك الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب قطعة سمندل، عرض ذراع في طول ذراعين، فصاروا يغمسونها في الزيت ويوقدونها حتى يتقد الزيت وترجع بيضاء كما كانت، والله أعلم.


ومثله السرفوت: دويدة تعشش في كور الزجاج في حال توقده واضطرامه وتبيض فيه وتفرخ، ولا تعمل بيتها إلا في موضع النار المستمرة الدائمة، فسبحان خالق كل شيء وهي بفتح السين المهملة والراء وضم الفاء وسكون الواو وبعدها تاء مثناة من فوقها.


وأما البيت الرابع الذي ذكر فيه النعام وأنه يلتقم الجمر، فهذا شيء شاهدناه كثيراً، وهو معروف بين الناس وليس بغريب. وبالجملة فقد خرجنا عن المقصود، لكن الكلام اتصل بعضه ببعض فانتشر.


وتوفي ابن صابر المذكور في ليلة الثامن والعشرين من صفر من سنة ست وعشرين وستمائة ببغداد، ودفن يوم الجمعة غربيها بالمقبرة الجديدة، بباب المشهد المعروف بموسى بن جعفر، رضي الله عنهما.


وأخبرني الشهاب ابن التلعفري المذكور أن مولده في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة بالموصل سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، وتوفي في عاشر شوال سنة خمس وسبعين وستمائة بمدينة حماة، وأنشد قبيل موته لنفسه وهو آخر شعره:

إذا ما بات من ترب فراشـي

 

وبتُّ مجاور الرب الكـريم

فهنوني أصيحابي وقـولـوا

 

لك البشرى قدمت على رحيم

وحوثرة: بفتح الحاء المهملة وسكون الواو وفتح الثاء المثلثة وبعدها راء ثم هاء، وهي في الأصل اسم لحشفة الذكر، وبها سمي الإنسان. قال ابن الكلبي في كتاب جمهرة النسب: سمي ربيعة بن عمرو بن عوف بن بكر بن وائل حوثرة لأنه حج فمر بامرأة معها قعب لها، فاستامها فأكثرت فقال: والله لو أدخلت حوثرتي فيه، يعني كمرته، لملأته، فسمي حوثرة. والمنجنيقي: بفتح الميم وسكون النون وفتح الجيم وكسر النون الثانية وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها قاف، هذه النسبة إلى المنجنيق، وهو معروف. وإذ قد جرى ذكره ينبغي الكلام عليه ففيه أشياء غريبة: منها: انه من جملة الآلات المنقولة المستعملة، والقاعدة في هذا الباب: أن تكون ميمه مكسورة، إلا ما شذَّ عن ذلك في ألفاظٍ قليلة مثل منخل ومدهن ومسعط، وغير ذلك، مع أن ابن الجواليقي في كتاب المعرب حكى فيه أربع لغات: فتح الميم، وكسرها على القاعدة، ومنجنوق بالواو بدل الياء، ومنجليق باللام عوض النون الثانية، وحكى في الميم والنون الأولى ثلاثة أقوال، قيل إنهما أصليتان، وقيل زائدتان، وقيل الميم أصلية والنون زائدة، والله أعلم. وهو اسم أعجمي، فإن الجيم والقاف لا يجتمعان في كلمة عربية، مثل الجرموق والجردق والجوسق والجلاهق والقبج وغير ذلك، وهذا باب مطرد، وكذلك الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة عربية مثل الصهريج والجص والصاج والجصطل وغير ذلك، وهو أيضاً باب مطرد. وإذا جمعناه حذفنا إحدى النونين، فإن حذفنا النون الأولى قلنا: مجانيق، وإن حذفنا النون الثانية قلنا مناجيق، وقال الجوهري في كتاب الصحاح الأصل في المنجنيق: من جي نيك تفسيره بالعربي: ما أجودني؛ قلت: فتفسير (من) أنا، وتفسير (جي) أيش، وتفسير (نيك) جيد، أي أنا أيش جيد. قال الجوهري: ثم عرب فقيل منجنيق.

وذكر ابن قتيبة في كتاب المعارف وأبو هلال العسكري في كتاب الأوائل أن أول من وضع المنجنيق جذيمة الأبرش ملك العرب وبلد الحيرة في ذلك الزمان. وقال الواحدي في تفسيره الوسيط في سورة الأنبياء: إن المشركين لما عزموا على إحراق إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وأضرموا النار، لم يدروا كيف يلقونه فيها، فجاءهم إبليس لعنه الله تعالى، فدلهم على المنجنيق، وهو أول منجنيق وضع، فوضعوه فيه ثم رموه، والله أعلم.

وهذا الفصل كله وإن كان خارجاً عن المقصود لكنه ما يخلو عن فائدة، فلذلك بسطت القول فيه.