يعقوب بن كلس

أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن إبراهيم بن هارون بن داود بن كلس، وزير العزيز نزار بن المعز العبيدي صاحب مصر المقدم ذكرهما، كان يعقوب أولاً يهودياً يزعم أنه من ولد هارون بن عمران أخي موسى بن عمران، عليهما السلام، وقيل إنه كان يزعم أنه من ولد السموأل بن عاديا اليهودي صاحب الحصن المعروف بالأبلق، وهو المشهور بالوفاء، وقصته مع امرئ القيس الكندي الشاعر المشهور مشهورة مستفيضة بين العلماء في الوفاء له في ودائعه.

وكان يعقوب المذكور قد ولد ببغداد ونشأ بها عند باب القز، وتعلم الكتابة والحساب، وسافر به أبوه من بغداد إلى الشام، وأنقذه إلى مصر سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة فانقطع إلى بعض خواص الأستاذ كافور الإخشيدي المقدم ذكره فجعله كافور على عمارة داره، ثم صار ملازماً لباب داره، فرأى كافور من نجابته وشهامته وصيانته ونزاهته وحسن إدراكه ما نفق عليه، فاستحضره وأجلسه في ديوانه الخاص، وكان يقف بين يديه ويخدم ويستوفي الأعمال والحسابات، ويدخل يده في كل شيء، ثم لم تزل أحواله تتزايد مع كافور حتى صار الحجاب والأشراف يقومون له ويكرمونه، ولم تتطلع نفسه إلى اكتساب مال، وأرسل له كافور شيئاً فرده عليه وأخذ منه القوت خاصة، وتقدم كافور إلى سائر الدواوين أن لا يمضي دينار ولا درهم إلا بتوقيعه، فوقع في كل شيء. وكان يبر ويصل من اليسير الذي أخذه، هذا كله وهو على دينه. ثم إنه أسلم يوم الاثنين لثماني عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ست وخمسين وثلثمائة، ولزم الصلاة ودراسة القرآن الكريم، ورتب لنفسه رجلاً من أهل العلم شيخاً عارفاً بالقرآن المجيد والنحو حافظاً لكتاب السيرافي، فكان يبيت عنده ويصلي به ويقرأ عليه، ولم تزل حاله تزيد وتنمي مع كافور إلى أن توفي كافور في التاريخ المذكور في ترجمته.

وكان أبو الفضل جعفر بن الفرات المقدم ذكره في حرف الجيم وزير كافور يحسده ويعاديه، فلما مات كافور قبض ابن الفرات على جميع الكتاب وأصحاب الدواوين، وقبض على يعقوب بن كلّس في جملتهم، فلم يزل يتوصل ويبذل الأموال حتى أفرج عنه، فلما خرج من الاعتقال اقترض من أخيه ومن غيره مالاً وتجمل به وسار مستخفياً قاصداً بلاد المغرب فلقي القائد جوهر بن عبد الله الرومي مولى المعز العبيدي المقدم ذكره في الطريق، وهو متوجه بالعساكر والخزائن إلى الديار المصرية ليملكها، فرجع في الصحبة، وقيل إنه استمر على قصده وانتهى إلى إفريقية وتعلق بخدمة المعز العبيدي المقدم ذكره ثم رجع إلى الديار المصرية، ولم يزل يترقى إلى أن ولي الوزارة للعزيز نزار بن المعز معد، وعظمت منزلته عنده وأقبلت عليه الدنيا، وانثال الناس عليه ولازموا بابه، ومهّد قواعد الدوله وساس أمورها أحسن سياسة، ولم يبق لأحد معه كلام. وكان في أيام المعز يتصرف في الخدم الديوانية، ثم انتقل إلى العزيز من بعده وتولى وزارة العزيز يوم الجمعة ثامن عشر رمضان سنة ثمان وستين ثلثمائة.

وقال ابن زولاق في تاريخه، بعد ذكر المعز وتاريخ وفاته، ما مثاله: وممن وزر للمعز الوزير يعقوب بن كلّس، وهو أول من وزر للدولة الفاطمية في الديار المصرية، وكان من جملة كتاب كافور، فلما وصل المعز أحسن في خدمته وبالغ في طاعته إلى أن استوزره؛ هذا آخر كلام ابن زولاق.

وقال غيره: كان يعقوب يحب أهل العلم ويجمع عنده العلماء، ورتب لنفسه مجلساً في كل ليلة جمعة يقرأ فيه لنفسه مصنفاته على الناس، وتحضره القضاة والفقهاء والقراء والنحاة وجميع أرباب الفضائل وأعيان العدول وغيرهم من وجوه الدولة وأصحاب الحديث، فإذا فرغ من مجلسه قام الشعراء ينشدونه المدائح.

وكان في داره قوم يكتبون القرآن الكريم وآخرون يكتبون كتب الحديث والفقه والأدب، حتى الطب، ويعارضون ويشكلون المصاحف وينقطونها. وكان من جملة جلسائه الحسين بن عبد الرحيم المعروف بالزلازلي مصنف كتاب الأسجاع. ورتب في داره القراء والأئمة يصلون في مسجد اتخذه في داره؛ وأقام في داره مطابخ لنفسه ولجلسائه، ومطابخ لغلمانه وحاشيته وأتباعه، وكان ينصب كل يوم خواناً لخاصته من أهل العلم والكتاب وخواص أتباعه ومن يستدعيه، وينصب موائد عديدة يأكل عليها الحجاب وبقية الكتاب والحاشية. وصنع في داره ميضأة للطهور بثمانية بيوت تختص بمن يدخل داره من الغرباء. وكان يجلس كل يوم عقب صلاة الصبح ويدخل عليه الناس للسلام. وتعرض عليه رقاع الناس في الحوائج والظلامات. وقرر عند مخدومه العزيز جماعة جعلهم قواداً يركبون بالمواكب والعبيد، ولا يخاطب واحد منهم إلا بالقائد، وكان من جملة هؤلاء القواد القائد أبو الفتوح فضل بن صالح الذي تنسب إليه منية القائد فضل، وهي بليدة بالأعمال الجيزية من الديار المصرية.

ثم إن الوزير المذكور شرع في تحصين داره ودور غلمانه بالدروب والحرس والسلاح والعدد، وعمرت ناحيته بالأسواق وأصناف ما يباع من الأمتعة ومن المطعوم والمشروب والملبوس. ويقال إن داره كانت بالقاهرة في موضع مدرسة الوزير صفي الدين أبي محمد عبد الله بن علي المعروف بابن شكر المختصة بالطائفة المالكية، وإن الحارة المعروفة بالوزيرية التي بالقاهرة داخل باب سعادة منسوبة إلى أصحابه، لأنهم كانوا يسكنونها.

وكان الوزير أبو الفضل ابن الفرات المقدم ذكره يغدو إليه ويروح ويعرض عليه محاسبات القوم الذين يريد محاسبتهم ويعول عليه فيها ويجلس معه في مجلسه وربما حبسه لمؤاكلته فيأكل معه بعد أن جرى عليه منه ما سبق ذكره.

وكانت هيبته عظيمة وجوده وافراً، وأكثر الشعراء من مدائحه. ولقد نظرت في ديوان أبي حامد أحمد بن محمد الأنطاكي المنبوز بأبي الرقعمق الشاعر المقدم ذكره فوجدت أكثر مديحه في الوزير المذكور، والقصيدة التي نقلت بعضها في ترجمته مدح بها الوزير المذكور. ورأيت في تاريخ الأمير المختار عز الملك محمد بن أبي القاسم المعروف بالمسبحي المقدم ذكره فضلاً طويلاً يتعلق بشرح حال الوزير المذكور، معظم ما ذكرته ها هنا نقلته منه.

وصنف الوزير المذكور كتاباً في الفقه مما سمعه من المعز وولده العزيز، وجلس في شهر رمضان سنة تسعة وستين وثلثمائة مجلساً حضره العام والخاص وقرأ فيه الكتاب بنفسه على الناس، وحضر هذا المجلس الوزير أبو الفضل ابن الفرات المذكور، وجلس في الجامع العتيق جماعة يفتون الناس من هذا الكتاب.

وسمعت من جماعة من المصريين يقولون: إن الوزير المذكور كانت له طيور فائقة أصيلة مختارة تسبق كل طائر يسابقها، وكان لمخدومه العزيز طيور أيضاً سابقة فاخرة، فسابقه العزيز يوماً ببعض الطيور فسبق طائر الوزير، فعز ذلك على العزيز، ووجد أعداؤه سبيلاً إلى الطعن فيه، فقالوا للعزيز: إنه قد اختار من كل صنف أجوده وأعلاه ولم يبق منه إلا أدناه، حتى الحمام، وقصدوا بذلك الإغراء به حسداً منهم لعله يتغير عليه، فاتصل ذلك بالوزير فكتب إلى العزيز:

قل لأمير المؤمنين الذي

 

له العلا والنسب الثاقب

طائرك السابق لكـنـه

 

جاء وفي خدمته حاجب

 

فأعجبه ذلك منه وسرّي عنه ما كان وجده عليه؛ هكذا ذكره القاضي الرشيد ابن الزبير المقدم ذكره في كتاب الجنان وذكر غيره أن هذين البيتين لولي الدولة أبي محمد أحمد بن علي المعروف بابن خيران الكاتب الشاعر المصري، وقد سبق ذكره في ترجمة أبي الحسن علي بن أحمد بن نوبخت الشاعر وإنما لم أفرده بترجمة لأني لم أظفر بتاريخ وفاته، وقد التزمت في هذا الكتاب أني لا أذكر إلا من وقفت على تاريخ وفاته.


وذكر أبو القاسم علي بن منجب بن سليمان الكاتب المعروف بابن الصيرفي المصري في جزء سماه الإشارة إلى من نال الوزارة ذكر فيه وزراء المصريين إلى عصره، وابتدأ بذكر يعقوب المذكور فقال: كان كاتباً يهودياً صائناً لنفسه محافظاً على دينه، جميل المعاملة مع التجار فيما تولاه، واتصل بخدمة كافور الإخشيدي فحمد خدمته، وردّ إليه زمام ديوانه بمصر والشام فضبطه له على حساب إرادته. وكان سبب حظوته عنده أن يهودياً قال له: إن في دار ابن البلدي بالرملة ثلاثين ألف دينار مدفونة، وقد توفي، فكتب يعقوب إلى كافور رقعة يقول فيها: إن في دار ابن البلدي بالرملة عشرين ألف دينار مدفونة في موضع أعرفه وأنا أخرج أحملها، فأجابه إلى ذلك، وأنفذ معه البغال لحملها، وورد الخبر بموت بكير بن هرواز التاجر، فجعل إليه النظر في تركته. واتفق موت يهودي بالفرما ومعه أحمال كتان، فأخذها وفتحها فوجد فيها عشرين ألف دينار، فكتب إلى كافور بذلك، فتبرك به وكتب إليه بحملها، فباع الكتان وحمل الجميع وسار إلى الرملة، فحفر الدار التي لابن البلدي وأخرج المال، وهو ثلاثون ألف دينار، فكتب إلى كافور: عرفت الأستاذ أنها عشرون ألف دينار ووجدت ثلاثين ألف دينار، فازداد محله من قلبه، وتصوره بالثقة، ونظر في تركة ابن هرواز واستقصى وحمل منها مالاً كثيراً، فأرسل إليه كافور صلةً كثيرة، فأخذ منها ألف درهم ورد الباقي وقال: هذه كفايتي، فزاد أمره عنده، حتى إنه كان يشاوره في أكثر أموره.


وقال عبد الله أخو مسلم العلوي: "رأيت يعقوب قائماً يسار كافور، فلما مضى قال لي: أيّ وزير بين جنبيه؟! ".


وسار إلى المغرب وخدم المعز، وتولى أمور العزيز في مستهل شهر رمضان سنة ثمان وستين وثلثمائة، ولقبه بالوزارة وأمر أن لا يخاطبه أحد إلا بها، ولا يكاتب إلا بذلك. ثم اعتقله في سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة في القصر، فأقام معتقلاً شهوراً ثم أطلقه في سنة أربع وسبعين ورده إلى ما كان عليه.


ووجدت رقعة في دار الوزير المذكور في سنة ثمانين وثلثمائة، وهي السنة التي توفي فيها، ونسختها:

احذروا من حوادث الأزمان

 

وتوقوا طوارق الحدثـان

قد أمنتم من الزمان ونمتـم

 

رب خوف مكمن في أمان

 

فلما قرأها قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، واجتهد أن يعرف كاتبها فلم يقدر على ذلك. ولما اعتل علة الوفاة آخر السنة المذكورة ركب إليه العزيز عائداً وقال له: وددت أنك تباع فأبتاعك بملكي أو تفدي فأفديك بولدي، فهل من حاجة توصي بها يا يعقوب؟ فبكى وقبل يده وقال: أما فيما يخصني فأنت أرعى لحقي من أن أسترعيك إياه، وأرأف على من أخلفه من أن أوصيك به، ولكني أنصح لك فيما يتعلق بدولتك: سالم الروم ما سالموك، واقنع من الحمدانية بالدعوة والسكة، ولا تُ بق على مفرج بن دغفل بن جراح إن عرضت لك فيه فرصة. ومات فأمر العزيز أن يدفن في داره، وهي المعروفة بدار الوزارة بالقاهرة داخل باب النصر، في قبة كان بناها، وصلى عليه وألحده بيده في قبره، وانصرف حزيناً لفقده، وأمر بغلق الدوايين أيامأً بعده.


وكان إقطاعه من العزيز في كل سنة مائة ألف دينار، ووجد له من العبيد والمماليك أربعة آلاف غلام، ووجد له جوهر بأربعمائة ألف دينار، وبزّ من كل صنف بخمسمائة ألف دينار. وكان عليه للتجار ستة عشر ألف دينار فقضاها عنه العزيز من بيت المال وفرقت على قبره.


وذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق فقال: كان يهودياً من أهل بغداد خبيثاً ذا مكر، وله حيل ودهاء وفيه فطنة وذكاء. وكان في قديم أمره خرج إلى الشام فنزل الرملة، وصار بها وكيلاً، فكسر أموال التجار وهرب إلى مصر، فتاجر كافوراً الإخشيدي، فرأى منه فطنة وسياسة ومعرفة بأمر الضياع فقال: لو كان مسلماً لصلح أن يكون وزيراً، فطمع في الوزارة، فأسلم يوم جمعة في جامع مصر، فلما عرف الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات أمره قصده فهرب إلى المغرب، واتصل بيهود كانوا مع الملقب بالمعز، وخرج معه إلى مصر، فلما مات الملقب بالمعز وقام ولده الملقب بالعزيز استوزر ابن كلّس في سنة خمس وستين وثلثمائة، فلم يزل مدبر أمره إلى أن هلك في ذي الحجة سنة ثمانين وثلثمائة.


وقال غيره: ابتدأ المرض بالوزير المذكور يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة ثمانين وثلثمائة، وأخذته سكتة، ثم تزايد به المرض واشتد، وانطلق لسانه، ثم توفي ليلة الأحد على صباح الاثنين لخمس خلون من ذي الحجة من السنة المذكورة، وكفن في خمسين ثوباً، واجتمع الناس كلهم من القصر إلى داره. وخرج العزيز وعليه الحزن ظاهر، وركب بغلته بغير مظلة، وكانت عادته أنه لا يركب إلا بها، وصلى عليه وبكى، وحضر مواراته.


ويقال إنه كفن وحنط بما مبلغه عشرة آلاف دينار، وذكر من سمع العزيز وهو يقول: واطول أسفي عليك يا وزير، وبكى عليه القائد جوهر بكاء شديداً، وإنما كان بكاؤه على نفسه لأنه عاش بعده سنة واحدة، وغدا الشعراء إلى قبره، ويقال إنه رثاه مائة شاعر، وأخذت قصائدهم وأجيزوا.


وقيل إنه مات على دينه، وكان يظهر الإسلام والصحيح أنه أسلم وحسن إسلامه. وقال يوماً وقد ذكر اليهود في مجلسه كلاماً يسوء اليهود سماعه، ثم بين عوراتهم وفساد مذهبهم، وأنهم على غير شيء، وأن اسم النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وهم يجحدونه.


وكانت ولادته في سنة ثماني عشرة وثلثمائة ببغداد، عند باب القز، رحمه الله تعالى.


وكلس: بكسر الكاف واللام المشددة وبعدها سين مهملة.


والسموأل بن عادياء: بفتح السين المهملة والميم وسكون الواو وبعدها همزة مفتوحة ثم لام.


وعادياء: بعين مهملة وبعد الألف دال مهملة مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها وبعدها همزة ممدودة.


وأما القائد جوهر فقد تقدم ذكره في ترجمته وأما القائد فضل فإنه كان رجلاً نبيلاً كريماً ممدحاً وإليه تنسب منية القائد فضل البليدة التي في أعمال الجيزة التي قبالة مصر، وفيه يقول أبو القاسم عبيد الغفار شاعر دولة الحاكم بن العزيز المذكور:

إنما الفضل غُـرّةٌ

 

في وجوه المدائح

أريحـي رياحـه

 

عبقات الـروائح

كعبة الجود كفـه

 

بين غــادٍ ورائح

إنما تصلح الأمـو

 

ر برأي ابن صالح

وكان مكيناً في دولة الحاكم المذكور، ثم نقم عليه وحبسه وضربت عنقه في محبسه يوم السبت عشية لإحدى وعشرين ليلة خلت من ذي القعدة سنة تسع وتسعين وثلثمائة، ولم يظهر منه جزع، ولفّ في حصير، وأُخرج من الحجرة التي كان محبوساً بها، رحمه الله تعالى. وأما أبو القاسم الشاعر المذكور، فإن الحاكم قتله مع جماعة من الأعيان في يوم الأحد السادس والعشرين من المحرم سنة خمس وتسعين وثلثمائة، وأحرقهم بالنار وكان قتل الجميع في حجرة واحدة، والله أعلم.