يعقوب بن داود

أبو عبد الله يعقوب بن داود بن عمر بن طهمان، السلمي بالولاء، مولى أبي صالح عبد الله بن خازم السلمي والي خراسان؛ كان يعقوب المذكور كاتب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي خرج هو وأخوه محمد على أبي جعفر المنصور بالبصرة ونواحيها وقتلا في سنة خمس وأربعين ومائة، وقصتهما مشهورة في التواريخ وليس هذا موضع ذكرها.

وكان أبوه داود بن طهمان وإخوته كتاباً لنصر بن سيار عامل خراسان من جهة بني أمية، ولما مات داود نشأ ولداه علي ويعقوب المذكور أهل أدب وفضل وافتنان في صنوف العلوم. ولما ظهر المنصور على إبراهيم بن عبد الله المذكور ظفر بيعقوب بن داود فحبسه في المطبق في سنة أربع وأربعين ومائة، وقيل في سنة ست وأربعين ومائة.

قلت: ولعله الأصح، لن إبراهيم قتل في سنة خمس وأربعين كما ذكرناه، إلا أن يكون قد ظفر بيعقوب قبل قتل إبراهيم، وذلك في أول خروجه، والله أعلم.

وكان يعقوب سمحاً جواداً كثير البر والصدقة واصطناع المعروف، وذكره دعبل بن علي الخزاعي الشاعر المشهور في كتابه الذي جمع فيه أسماء الشعراء، وكان مقصوداً ممدحاً، مدحه أعيان شعراء عصره، مثل أبي الشيص الخزاعي وسلم الخاسر وأبي حنش، وغيرهم ولما مات المنصور وقام بالأمر ولده المهدي جعل يعقوب يتقرب إليه حتى أدناه، واعتمد عليه وعلت منزلته عنده وعظم شأنه، حتى خرج كتابه إلى الدواوين أن أمير المؤمنين المهدي قد آخى يعقوب بن داود، فقال في ذلك سلم بن عمرو المعروف بالخاسر:

قل للإمام الذي جاءت خلافتـه

 

تهدى إليه بحقٍّ غـير مـردود

نعم القرين على التقوى أعنت به

 

أخوك في الله يعقوب بـن داود

 

وحج المهدي في سنة ستين ومائة ويعقوب معه، وفي سنة إحدى وستين تقدم إليه بتوجيه الأمناء إلى العمال في جميع الآفاق ففعل ذلك، فلم يكن ينفذ شيء من الكتب للمهدي حتى يرد كتاب من يعقوب إلى أمينه بإنفاذه، وكان وزير المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبد الله بن يسار الأشعري الطبراني صاحب مربعة عبيد الله ببغداد، وكان جده يسار مولى عبد الله بن عضاه الأشعري، فلم يزل الربيع بن يونس المقدم ذكره في حرف الراء يسعى به إلى المهدي وصحح على ابنه الزندقة فقتله المهدي، وكان الربيع بعد ذلك يقبح أمره عنده ويقول له: لا تثق به بعد قتلك ابنه، ويذكر كفاية يعقوب ابن داود، حتى عزله عن الوزارة وأفرده في ديوان الرسائل. واستوزر يعقوب في سنة ثلاث وستين.


ثم إن المهدي عزل أبا عبيد الله عن ديوان الرسائل في سنة سبع وستين، ورتب فيه الربيع بن يونس المذكور، وكان أبو عبيد الله يصل إلى المهدي على عادته رعايةً منه لخدمته، فقال في ذلك علي بن الخليل الكوفي من جملة أبيات:

قل للوزير أبي عبـيد

 

الله هل من بـاقـية

يعقوب يلعب بالأمـو

 

ر وأنت تنظر ناحيه

أدخلته فعلا عـلـي

 

ك كذاك شؤم الناصية

وأخذت حتفك جاهـداً

 

بيمينك المتـراخـية

 

وغلب يعقوب على أمور المهدي كلها، وكان المنصور قد خلف في بيوت المال تسعمائة ألف ألف درهم وستين ألف درهم، وكان الوزير أبو عبيد الله يشير على المهدي بالاقتصاد في الإنفاق وحفظ الأموال، فلما عزل وولي يعقوب زين له هواه، فأنفق الأموال وأكبّ على اللذات والشرب وسماع الغناء، واشتغل يعقوب بالتدبير، ففي ذلك يقول بشر بن برد الشاعر المشهور المقدم ذكره في حرف الباء:

بني أمية هبّطوا طال نومكـم

 

إن الخليفة يعقـوب بـن داود

ضاءت خلافتكم يا قوم فالتمسوا

 

خليفة الله بين الزق والـعـود

 

وكان أبو حارثة النهدي يتقلد خزن بيوت الأموال، فلما خلت من المال دخل إلى المهدي ومعه المفاتيح وقال له: إذا كنت قد أنفقت جميع الأموال فما معنى هذه المفاتيح معي؟ مر من يقبضها مني، فقال له المهدي: دعها معك فإن الأموال تأتيك. ثم سير في استحثاث الأموال فوردت عليه في مدة يسيرة، وقصر في النفقات قليلاً فتوفرت الأموال، وتشاغل أبو حارثة في قبض ما ورد عليه وتصحيحه، فلم يدخل إلى المهدي ثلاثة أيام، فقال المهدي: ما فعل هذا الأعرابي الأحمق؟ فخبر بالسبب في تأخره، فدعا به وقال له: ما أخرك عنا؟ فقال: ورود الأموال، فقال: يا أحمق توهمت أن الأموال لا تأتينا؟. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الحادث لو حدث واحتيج إلى المال ولم يصلح إلا به لم ينتظر حتى يوجه في حمل الأموال.


وروي أن المهدي حج في بعض السنين فمر بميلٍ وعليه كتابة، فوقف وقرأه فإذا هو:

لله درك يا مهدي من رجلٍ

 

لولا اتخاذك يعقوب بن داود

 

فقال لمن معه: اكتب تحته على رغم أنف الكاتب لهذا وتعساً لجده! فلما انصرف وقف على الميل فقلنا: لم يقف عليه إلا لشيء قد علق بقلبه من ذلك الشعر، فكان كذلك لأنه أوقع بيعقوب بعد قليل.


وكثرت الأقوال في يعقوب ووجد أعداؤه مقالاً فيه وذكروا خروجه على المنصور مع إبراهيم بن عبد الله العلوي، وعرفه بعض خدمه أنه سمعه يقول: بنى هذا الرجل مستنزهاً أنفق عليه خمسين ألف ألف درهم من أموال المسلمين، وكان المهدي قد بنى عيسى باد. وأراد المهدي أمراً فقال له يعقوب: هذا يا أمير المؤمنين من السرف، فقال له: ويلك، وهل يحسن السرف إلا بأهل الشرف؟ وكان يعقوب قد ضجر مما كان فيه وسأل المهدي الإقالة وهو يمتنع.


ثم إن المهدي أراد أن يمتحنه في ميله إلى العلوية. فدعا به يوماً وهو في مجلسٍ فرشه موردة وعليه ثياب موردة وعلى رأسه جارية على رأسها ثياب موردة وهو مشرف على بستان فيه شجر فيه صنوف الأوراد. فقال له: يا يعقوب، كيف ترى مجلسنا هذا؟ قال: على غاية الحسن، فمتع الله أمير المؤمنين به، فقال له: جميع ما فيه لك وهذه الجارية لك ليتم سرورك، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم، فدعا له، فقال له المهدي: ولي إليك حاجة، فقام يعقوب قائماً وقال: يا أمير المؤمنين ما هذا القول إلا لموجدة وأنا أستعيذ بالله من سخطك، فقال: أحب أن تضمن لي قضاءها، فقال: السمع والطاعة، فقال له: الله، فقال: والله، ثلاثاً، فقال له: ضع يدك على رأسي واحلف به، ففعل ذلك، فلما استوثق منه قال له: هذا فلان بن فلان، رجل من العلوية، أحب أن تكفيني مؤونته، وتريحني منه فخذه إليك، فحوله إليه وحول إليه الجارية ما كان في المجلس والمال، فلشدة سروره بالجارية جعلها في مجلس تقرب منه ليصل إليها، ووجه فأحضر العلوي فوجده لبيباً فهماً فقال له ويحك يا يعقوب تلقى الله تعالى بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة رضي الله عنها بنت محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له يعقوب: يا هذا أفيك خير؟ فقال: إن فعلت خيراً معي شكرت ودعوت لك، فقال له: خذ هذا المال وخذ أي طريق شئت، فقال: طريق كذا وكذا آمن لي، فقال له امض مصاحباً. وسمعت الجارية الكلام كله، فوجهت مع بعض خدمها به وقالت: قل له: هذا فعل الذي آثرته على نفسك بي، وهذا جزاؤك منه؛ فوجه المهدي فشحن الطريق حتى ظفر بالعلوي وبالمال، ثم وجه إلى يعقوب فأحضره، فلما رآه قال: ما حال الرجل؟ قال: قد أراحك الله منه، قال: مات؟ قال: نعم، قال: والله؟ قال: والله، قال: فضع يدك على رأسي، فوضع يده على رأسه وحلف له به، فقال: يا غلام أخرج إلينا من في ذها البيت، ففتح بابه عن العلوي والمال بعينه، فبقي يعقوب متحيراً وامتنع الكلام عليه فما درى ما يقول، فقال له المهدي: لقد حل دمك، ولو آثرت إراقته لأرقته، ولكن احبسوه في المطبق، فحبسوه وأمر بأن يطوى عنه خبره وعن كل أحد. فأقام فيه سنتين وشهوراً في أيام المهدي وجميع أيام الهادي موسى بن المهدي وخمس سنين وشهوراً من أيام هارون الرشيد، ثم ذكر يحيى بن خالد البرمكي أمره وشفع فيه فأمر بإخراجه، فأخرج وقد ذهب بصره. فأحسن إليه الرشيد، وردّ ماله، وخيره المقام حيث يريد فاختار مكة، فأذن له في ذلك، فأقام بها حتى مات في سنة سبع وثمانين ومائة.


ولما أطلق يعقوب سأل عن جماعة من إخوانه فأخبر بموتهم فقال:

لكل أناس مقبرٌ بفنـائهـم

 

فهم ينقصون والقبور تزيد

هم جيرة الأحياء أما محلهم

 

فدانٍ، وأما الملتقى فبعـيد

 

قلت: هذان البيتان في باب المرائي في كتاب الحماسة.


قلت: هكذا ذكر تاريخ وفاته بن عبدوس الكوفي المعروف بالجهشياري في كتابه تاريخ الوزراء وذكر غيره أن يعقوب بن داود مات في سنة اثنتين وثمانين ومائة، والله أعلم بالصواب.


وقال عبد الله بن يعقوب بن داود: أخبرني أبي أن المهدي حبسه في بئر وبنى عليها قبة، قال: فمكثت فيها خمس عشرة سنة، وكان يدلى لي فيها كل يوم رغيف خبز وكوز ماء وأوذن بأوقات الصلوات، فلما كان في رأس ثلاث عشرة سنة أتاني آت في منامي فقال:

حنا على يوسف رب فأخرجه

 

من قعر جبٍ وبيتٍ حوله غمم

قال: فحمدت الله تعالى وقلت: أتاني الفرج، ثم مكثت حولاً لا أرى شيئاً، فلما كان رأس الحول الثاني أتاني ذلك الآتي فأنشدني:  

عسى فرج يأتي به الله إنه

 

له كل يوم في خليقته أمر

 

قال: ثم أقمت حولاً آخر لا أرى شيئاً، ثم أتاني ذلك الآتي بعد الحول فقال:

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

 

يكون وراءه فـرجٌ قـريب

فيأمن خـائفٌ ويفـك عـانٍ

 

ويأتي أهله النائي الغـريب

 

فلما أصبحت نوديت، فظننت أني أوذن بالصلاة، فدلي لي حبل أسود وقيل لي: اشدد به وسطك، ففعلت وأخرجت، فلما قابلت الضوء عشي بصري، فانطلقوا بي، فأدخلت على الرشيد فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، المهدي، فقال الرشيد: لست به، فقلت: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الهادي، فقال: لست به فقلت: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: الرشيد، فقلت: الرشيد، فقال: يا يعقوب بن داود، إنه والله ما شفع فيك أليّ أحد، غير أني حملت الليلة صبية لي على عنقي فذكرت حملك إياي على عنقك، فرثيت لك من المحل الذي كنت به فأخرجتك، وكان يعقوب يحمل الرشيد وهو صغير يلاعبه.


ولما حبس المهدي يعقوب وتب في الوزارة أبا جعفر الفيض بن أبي صالح، وكان من غلمان عبد الله بن المقفع، وكان شديد الكبر، وكان أبوه نصرانياً، وفيه يقول الشاعر:

يا حابسي عن حاجتي ظالماً

 

أحوجك الله إلى الفـيض

ذاك الذي يأتيك معروفـه

 

كأنما يمشي على البـيض

 

وطهمان: بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء وبعدها ميم وبعد الألف نون.


وكانت ولادة أبي عبيد الله معاوية الأشعري في سنة مائة، وتوفي سنة سبعين ومائة، وقيل في سنة تسع وستين، وقيل مات في الوقت الذي مات فيه موسى الهادي، وكانت وفاته ببغداد، ودفن في مقابر قريش، وتوفي الفيض في سنة ثلاث وسبعين ومائة.


وتولى الوزارة بعده الربيع بن يونس وقد سبق ذكره في ترجمة بشار بن برد الشاعر وذكر أن يعقوب بن داود أعان على قتله.


ولما مات يعقوب رثاه أبو حنش الهلالي، وقيل النميري، واسمه حضير ابن قيس البصري وعاش مائة سنة، بأبيات هي في كتاب الحماسة أولها:

يعقوب لا تبعد وجنّبت الردى

 

فليبكين زمانك الرطب الثرى