يموت بن المزرع

أبو بكر يموت بن المزرع بن يموت بن عيسى بن موسى بن سيّار بن حكيم بن جبلة بن حصن بن أسود بن كعب بن عامر بن عدي بن الحارث بن الديل بن عمرو بن غنم بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، العبدي البصري.

قلت: وجدت في كتاب - جمهرة النسب - تأليف ابن الكلبي عند ذكره حكيم بن جبلة المذكور، وقد ساق نسبه على هذه الصورة، وفي الحاشية مكتوب ما مثاله: من ولد حكيم بن جبلة المذكور يموت بن المزرع ابن يموت، وقد ساق نسبه على هذه الصورة حتى ألحقه بحكيم بن جبلة المذكور، والعهدة عليه في ذلك. ورأيت بخطي في مسوداتي: يموت بن المزرع بن يموت بن عدس بن سيار بن المزرع بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن ضمرة بن دلهاث بن وديعة بن بكر بن وديعة بن لكيز بن أفصى المذكور، والله أعلم بالصواب في ذلك وكان يموت قد سمى نفسه محمداً، وذكره الخطيب البغدادي في تاريخه الكبير في المحمدين، ثم ذكره في حرف الياء وقال، هو يموت وهو ابن أخت أبي عثمان الجاحظ، وقد وتقدم ذكره.

قدم يموت بن المزرع بغداد في سنة إحدى وثلثمائة وهو شيخ كبير، وحدث بها عن أبي عثمان المازني وأبي حاتم السجستاني وأبي الفضل الرياشي ونصر بن علي الجهضمي، وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، ومحمد بن يحيى الأزدي وأبي إسحاق إبراهيم بن سفيان الزيادي وغيرهم؛ روى عنه أبو بكر الخرائطي وأبو الميمون ابن راشد، وأبو الفضل العباس بن محمد الرقي، وأبو بكر ابن مجاهد المقرئ وأبو بكر ابن الأنباري وغيرهم.

وكان أديباً أخبارياً، وله ملح ونوادر، وكان لا يعود مريضاً خوفاً أن يتطير من اسمه، وكان يقول: بليت بالاسم الذي سماني أبي به، فإني إذا عدت مريضاً فاستأذنت عليه، فقيل من هذا؟ قلت أنا ابن المزرع، وأسقطت اسمي.

ومدحه منصور الفقيه الضرير الشاعر المشهور بقوله:

أنت تحيا والـذي يك

 

ره أن تحـيا يمـوت

أنت صنو النفـس أن

 

ت لروح النفس قوت

أنت للحـكـمة بـيت

 

لا خلت منك البيوت

 

فمن أخباره أنه قال، أخبرني أبو الفضل الرياشي قال، سمعت الأصمعي يقول: كان سخط هارون الرشيد على عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه، في سنة ثمان وثمانين ومائة، ولقد كنت عند الرشيد وقد أتي بعبد الملك يرفل في قيوده، فلما نظر الرشيد إليه قال له: هيه يا عبد الملك، كأني والله أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وإلى عارضها قد لمع، وكأني بالوعيد قد أقلع عن براجم بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم، مهلا مهلا بني هاشم، فبي والله سهل لكم الوعر وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمتها، فخذوا حذاركم مني قبل حلول داهية خبوطٍ باليد والرجل، فقال له عبد الملك: أفذاً أتكلم أم وتوأما، فقال: بل توأما، فقال: اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك، وراقبه في رعاياك التي استرعاك، فقد سهلت والله لك الوعور، وجمعت على خوفك ورجائك الصدور، وكنت كما قال أخو بني جعفر بن كلاب:

ومقامٍ ضـيقٍ فـرجـتـه

 

بلـسـانٍ وبـيانٍ وجـدل

لو يقوم الفـيل أو فـيّالـه

 

زلّ عن مثل مقامي وزحل

 

قال: فأراد يحيى بن خالد البرمكي أن يضع من مقدار عبد الملك عند الرشيد، فقال له: يا عبد الملك بلغني أنك حقود، فقال له: أصلح الله الوزير، إن يكن الحقد هو بقاء الخير والشر عندي فإنهما لباقيان في قلبي.


قال الأصمعي: فالتفت الرشيد إليّ وقال: يا أصمعي حررها، فوالله ما احتج أحد للحقد بمثل ما احتج به عبد الملك، ثم أمر به فرد إلى محبسه.


قال الأصمعي: ثم التفت الرشيد إلي وقال: يا أصمعي والله لقد نظرت إلى موضع السيف من عنقه مراراً، ويمنعني من ذلك إبقائي على قومي في مثله.


قلت: وعبد الله بن صالح قد ذكرته في ترجمة أبي عبادة الوليد البحتري الشاعر المشهور ونبهت على تاريخ وفاته.


وروى يموت بن المزرع أيضاً أن أحمد بن محمد بن عبيد الله أبا الحسن الكاتب المعروف بابن المدبرّ الضبي الرستيساني، كان إذا مدحه شاعر فلم يرض شعره قال لغلامه: امض به إلى المسجد الجامع ولا تفارقه حتى يصلي مائة ركعة ثم أطلقه، فتحاماه الشعراء إلا الأفراد المجيدين، فجاءه أبو عبد الله الحسين بن عبد السلام المصري المعروف بالجمل، فاستأذنه في النشيد فقال له: قد عرفت الشرط؟ قال: نعم، ثم أنشده:

أردنا في أبي حسنٍ مديحاً

 

كما بالمدح تنتجع الولاة

وقلنا أكرم الثقلين طـرا

 

ومن كفاه دجلة والفرات

فقالوا يقبل المـدحـات لـكـن

 

جوائزه عـلـيهـن الـصـلاة

فقلت لهم وما تغنـي صـلاتـي

 

عيالي، إنما الـشـأن الـزكـاة

فيأمر لي بكسر الصاد مـنـهـا

 

فتصبح لي الصلاة هي الصلات

 

فضحك ابن المدير واستظرفه، وقال: من أين أخذت هذا؟ فقال: من قول أبي تمام الطائي:

هن الحمام فإن كسرت عيافةً

 

من حائهن فإنهـن حـمـام

 

فاستحسن ذلك وأحسن صلته.


وكان أحمد بن المدبر يتولى الخراج بمصر، فحبسه أحمد بن طولون في سنة خمس وستين ومائتين، ومات في حبسه في صفر سنة سبعين ومائتين، وقيل بل قتله ابن طولون، والله أعلم، والمدبر: بكسر الباء الموحدة المشدة.


وحدث ابن المزرع أيضاً عن خاله أبي عثمان الجاحظ أنه قال: طلب المعتصم جاريةً كانت لمحمود بن الحسن الشاعر المشهور المعروف بالوراق، وكانت تسمى نشوى وكان شديد الغرام بها، وبذل في ثمنها سبعة آلاف دينار، فامتنع محمود من بيعها لأنه كان يهواها أيضاً، فلما مات محمود اشتريت الجارية للمعتصم من تركته بسبعمائة دينار، فلما دخلت عليه قال لها: كيف رأيت؟ تركتك حتى اشتريتك من سبعة آلاف بسبعمائة، قالت: أجل إذا كان الخليفة ينتظر لشهواته المواريث، فإن سبعين ديناراً لكثيرة في ثمني فضلاً عن سبعمائة، فخجل المعتصم من كلامها.


وقال ابن المزرع: حدثني من رأى قبراً بالشام عليه مكتوب: لا يغترن أحد بالدنيا فإني ابن من كان يطلق الريح إذا شاء ويحبسها إذا شاء، وبحذائه قبر عليه مكتوب: كذب الماص بظر أمه، لا يظن أحد أنه ابن سليمان بن داود عليهما السلام،إنما هو ابن حداد يجمع الريح في الزق ثم ينفخ بها الجمر، قال: فما رأيت قبلها قبرين يتشاتمان، والله أعلم.


لابن المزروع أخبار وحكايات ونوادر، ولسنا نقصد الإطالة بل الإيجاز حسب الإمكان إلا أن ينتشر الكلام.


وكان له ولد، يدعى أبا نضلة مهلهل بن يموت بن المزرع، وكان شاعراً مجيداً، ذكره المسعودي في كتاب - مروج الذهب ومعادن الجوهر - فقال في حقه: هو من شعراء هذا الزمان، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وفيه يقول أبوه مخاطباً له:

مهلهل قد حلبت شطور دهـري

 

وكافحني بها الزمن العـنـوت

وحاربت الرجـال بـكـل ريع

 

فأذعن لي الحثالة والـرتـوت

فأوجع ما أُجنّ علـيه فـلـبـي

 

كريمٌ غنتـه زمـن غـتـوت

كفى حزناً بـضـيعة ذي قـديم

 

وأبناء العبيد لهـا الـبـخـوت

وقد أسهرت عيني بعد غمـض

 

مخافة أن تضـيع إذا فـنـيت

وفي لطف المهيمن لـي عـزاء

 

بمثلك إن فنـيت وإن بـقـيت

فجب في الأرض وابغ بها علوماً

 

ولا تقطعك جـائحة سـبـوت

وإن بخل العليم عـلـيك يومـاً

 

فذل له وديدنـك الـسـكـوت

وقل بالعلـم كـان أبـي جـواداً

 

يقال ومن أبوك فـقـل يمـوت

يقـرّ لـك الأبـاعـد والأدانـي

 

بعلمٍ ليس يجحـده الـبـهـوت

 

وكان يموت قد قدم مصر مراراً، وآخر قدومه إليها في سنة ثلاث وثلثمائة، وخرج في سنة أربع وثلثمائة. قال أبو سعيد ابن يونس الصدفي المصري في تاريخه المختص بالغرباء: مات يموت بن المزرع سنة أربع وثلثمائة بدمشق؛ وقال أبو سليمان بن زبر في تاريخه: إنه مات في سنة ثلاث وثلثمائة بطبرية الشام، والله أعلم.


وأما ولده مهلهل فإن الخطيب ذكره في - تاريخ بغداد - وقال: هو شاعر مليح الشعر في الغزل وغيره، وسكن بغداد وسمع منه، وكتب عنه شعره أبو بعضة إبراهيم بن محمد المعروف بتوزون. ثم قال الخطيب: أخبرني التنوخي قال، قتا لنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن العباس الأخباري: حضرت في سنة ست وعشرين وثلثمائة مجلس تحفة القوّالة جارية أبي عبد الله ابن عمر البازيار، وإلى جانبي عن يسرتي أبو نضلة مهلهل بن يموت بن المزرع، وعن يميني أبو القاسم بن أبي الحسن البغدادي، فغنت تحفة من وراء الستارة بهذه الأبيات:

بي شغلٌ به عن الشغل عنـه

 

بهواه وإن تشاغـل عـنـي

ظن بي جفوةً فأعرض عني

 

وبدا منه ما تخوف مـنـي

سره أن أكون فـيه حـزينـاً

 

فسروري إذا تضاعف حزني

 

 فقال لي أبو نضلة: هذا الشعر لي، فسمعه أبو القاسم، وكان ينحرف عن أبي نضلة فقال: قل له: إن كان هذا الشعر له يزيد فيه بيتاً، فقلت له ذلك على وجه جميل فقال:

هو في الحسن فتنةٌ قد أصارت

 

فتنتي في هواه من كل فـن

ومن المنسوب إلى مهلهل أيضاً:

جلت محاسنه عن كـل تـشـبـيه

 

وجل عن واصفٍ في الناس يحكيه

انظر إلى حسنه واستغن عن صفتي

 

سبحان خالقه، سبـحـان بـاريه

النرجس الغض والورد الجني لـه

 

والأقحوان النضير النضر في فيه

دعا بألحاظه قلبي إلى عـطـبـي

 

فجاءه مسرعاً طـوعـاً يلـبـيه

مثل الفراشة تأتي إذ ترى لـهـبـا

 

إلى السراج فتلقي نفسـهـا فـيه

وذكر له الخطيب شعراً غير هذا فأضربت عن ذكره.

والمزرع: بضم الميم وفتح الزاي وبعدها راء مشددة مفتوحة ثم عين مهملة، هكذا قاله لي الشيخ الحافظ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري، رحمه الله تعالى.

وأما حكيم بن جبلة المذكور في عمود هذا النسب فإنه بفتح الحاء المهملة وكسر الكاف، ويقال أيضاً بضم الحاء وفتح الكاف، ويقال جبلة وجبل، وكان من أعوان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولما بويع علي الخلافة بايعه طلحة بن عبيد الله التيمي والزبير بن العوام الأسدي رضي الله عنهما، فعزم علي رضي الله عنه على تولية الزبير البصرة وتولية طلحة اليمن، فخرجت مولاة لعلي فسمعتهما يقولان: ما بايعناه إلا بألسنتنا وما بايعناه بقلوبنا، فأخبرت مولاها بذلك، فقال: أبعدهما الله تعالى، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وبعث إلى البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري، وإلى اليمن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، فاستعمل ابن حنيف حكيم بن جبلة المذكور على شرطة البصرة.

ثم إن طلحة والزبير لحقا بمكة وفيها عائشة رضي الله تعالى عنها، فاتفقوا وقصدوا البصرة، وفيها ابن حنيف المذكور، فأتى حكيم بن جبلة إلى ابن حنيف، وأشار عليه بمنعهم من دخول البصرة، فأبى وقال: ما أدري ما رأي أمير المؤمنين في ذلك، فدخلوها وتلقاهم الناس، فوقفوا في مربد البصرة وتكلموا في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وبيعة علي رضي الله تعالى عنه، فرد عليهم رجل من عبد القيس، فنالوا منه ونتفوا لحيته، وترامى الناس بالحجارة واضطربوا، فجاء حكيم بن جبلة إلى ابن حنيف ودعاه إلى قتالهم فأبى، ثم أتى عبد الله بن الزبير إلى مدينة الرزق ليرزق أصحابه من الطعام الذي فيها، وغدا حكيم بن جبلة في سبعمائة من عبد القيس فقاتله فقتل حكيم وسبعون رجلاً من أصحابه.

وروي أن ابن جبلة قال لامرأته وكانت من الأزد: لأعملنّ بقومك اليوم عملاً يكونون به حديثاً للناس، فقالت له: أظن قومي سيضربونك اليوم ضربة تكون حديثاً للناس، فلقيه رجل يقال له سُحيم فضرب عنقه، فبقي معلقاً بجلدةٍ، فاستدار رأسه، فبقي مقبلاً بوجهه على دبره، وكان ذلك قبل وصول علي رضي الله عنه بجيوشه إليهم، ثم قدم عليهم وتقابل الجيشان يوم الخميس النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين للهجرة عند موضع قصر عبيد الله بن زياد، ثم كانت الوقعة العظمى المشهورة بوقعة الجمل يوم الخميس لعشر بقين من الشهر المذكور، وكان أول قدومهم، وقتل حكيم بن جبلة قبل ذلك بأيام في هذا الشهر أيضاً، وقتل بين الفريقين مقدار عشرة آلاف، وقتل طلحة والزبير رضي الله عنهما في ذلك اليوم، لكنه بغير قتال، ولولا خوف الإطالة لشرحته.

وقال المأموني في تاريخه: وقيل إن أهل المدينة علموا بيوم الجمل يوم الخميس قبل أن تغرب الشمس، وفيه كان القتال، وذلك أن نسراً مر بما حول المدينة ومعه شيء معلق، فتأمله الناس فوقع فإذا كف فيها خاتم نقشه: عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد. ثم إن كل من بين مكة والمدينة ممن قرب من البصرة أو بعد علموا بالوقعة مما نقلت النسور إليهم من الأيدي والأقدام. قلت: وذكر كشاجم في كتاب - المصايد والمطارد - أن العقاب ألقت كف عبد الرحمن بمكة، وكذلك ذكره في كتاب - المهذب - في الفقه في باب الصلاة على الميت، وذكر ابن الكلبي وأبو اليقظان في كتابيهما أن العُقاب ألقتها باليمامة، والله أعلم بالصواب.