يوسف بن عبد المؤمن

يوسف بن عبد المؤمن صاحب المغرب

أبو يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي صاحب المغرب وقد تقدم ذكر أبيه عبد المؤمن في حرف العين، وذكر ولده يعقوب قبل هذا؛ ولما توفي والده في التاريخ المذكور في ترجمته وخلع محمد بن عبد المؤمن استقل ولده يوسف بالملك، وكان ولي العهد قبله أخوه محمد بن عبد المؤمن، ونقش على الدنانير اسمه، وكان ذلك باستخلاف أبيه وتحليفه الجند له، فظهرت منه اشتغال بالراحة وانهماك في البطالة فخلعه يوسف، وكان له أخ آخر اسمه أبوحفص عمر ولاه جزيرة الأندلس.

وكان يوسف المذكور فقيهاً حافظاً متقناً لأن أباه هذبه وقرن به وباخوته أكمل رجال الحرب والمعارف، فنشأوا في ظهور الخيل بين أبطال الفرسان، وفي قراءة العلم بين أفاضل العلماء. وكان ميله إلى الحكمة والفلسفة أكثر من ميله إلى الأدب وبقية العلوم، وكان جمّاعاً مناعاً ضابطاً لخراج مملكته عارفاً بسياسة رعيته، وكان ربما يحضر حتى لا يكاد يغيب ويغيب حتى لا يكاد يحضر، وله في غيبته نواب وخلفاء وحكام قد فوض الأمور إليهم لما علم من صلاحهم لذلك، والدنانير اليوسفية المغربية منسوبة إليه.

فلما مهدت له الأمور واستقرت قواعد ملكه، دخل إلى جزيرة الأندلس لكشف مصالح دولته وتفقد أحوالها. وكان ذلك في سنة ست وستين وخمسمائة وفي صحبته مائة ألف فارس من العرب والموحدين، فنزل باشبيلية.

فخافه الأمير أبو عبد الله محمد بن سعد بن محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش صاحب شرق الأندلس: مرسية وما انضاف إليها، وحمل على قلبه فمرض مرضاً شديداً ومات، وقيل إن أمه سقته السم، لأنه كان قد أساء العشرة مع أهله وخواصه وكبراء دولته، فنصحته وأغلظت عليه في القول فتهددها وخافت بطشه، فعملت عليه فقتلته بالسم. وكان موته في التاسع والعشرين من رجب سنة سبع وستين وخمسمائة باشبيلية، ومولده في سنة ثماني عشرة وخمسمائة في قلعة أعمال من طرطوشة يقال لها بنشكله، وهي من الحصون المنيعة. ولما مات محمد بن سعد جاء أولاده، وقيل إخوته، إلى الأمير يوسف ابن عبد المؤمن وهو باشبيلية فسلموا إليه جميع بلاد شرق الأندلس التي كانت لأبيهم وقيل لأخيهم، فأحسن إليهم الأمير يوسف وتزوج أختهم، وأصبحوا عنده في أعز مكان.

ثم إن الأمير يوسف شرع في استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج، وكانوا قد استولوا عليها، فاتسعت مملكته بالأندلس وصارت سراياه تصل مغيرة إلى باب طليطلة، وهي كرسي بلادهم وأعظم قواعدهم. ثم إنه حاصرها، فاجتمع الفرنج كافة عليه واشتد الغلاء في عسكره، فرجع عنها وعاد إلى مراكش.

وفي سنة خمس وسبعين قصد بلاد إفريقية وفتح مدينة قفصة، ثم دخل جزيرة الأندلس في سنة ثمانين ومعه جمع كثيف، وقصد غربي بلادها فحاصر مدينة شنترين شهراً فأصابه مرض فمات منه في شهر ربيع الأول سنة ثمانين وخمسمائة، وحمل في تابوت إلى إشبيلية، رحمه الله تعالى، وكان قد استخلف ولده أبا يوسف يعقوب بن يوسف المقدم ذكره.

وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه أن يوسف مات من غير وصية بالملك لأحد من أولاده، فاتفق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليك ولده يعقوب، فملكوه في الوقت الذي مات فيه أبوه، لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم لقربهم من بلاد العدو.

وكان خلع أخيه أبي عبد الله محمد بن عبد المؤمن في شعبان سنة ثمان وخمسين، واستبد يوسف حينئذ بالأمر، واجتمع أكابر أصحابهم على خلعه وتولية الأمير يوسف، وقد روي له شعر لكنه ليس بالجيد، فلم أذكر منه شيئاً.
وأما محمد بن سعد ابن مردنيش المذكور فيروى له:

وحقها إنهـا جـفـون

 

تسل من لحظها المنون

لا صبر عنها ولا عليها

 

الموت من دونها يهون

لأركبن الهوى إلـيهـا

 

يكون في ذاك ما يكون

 

قلت: ثم وجدت هذه الأبيات في كتاب - الملح - لابن القطاع وقد نسبها إلى أبي جعفر أحمد بن صمادح البني، والله أعلم. وقال البياسي في - حماسته -: هو أبو جعفر أحمد بن الحسين بن خلف بن البني اليعمري الأبدي، والله أعلم، إلا أنه لم يذكر هذه الأبيات، ثم أورد البياسي لأبي جعفر المذكور:

صدني عن حلاوة التـشـييع

 

اجتنابي مـرارة الـتـوديع

لم يقم أنس ذا بوحـشة هـذا

 

فرأيت الصواب ترك الجميع

وله في صفة قنديل:

وقنديل كأن الضـوء فـيه

 

محاسن من أحب وقد تجلى

أشار إلى الدجى بلسان أفعى

 

فشمر ذيله فرقـاً وولـى

 

ولما مات أبو يعقوب المذكور رثاه الأديب أبو بكر يحيى بن مجبر الشاعر المقدم ذكره في ترجمة يعقوب بن يوسف هذا بقصيدة طويلة أجاد فيها، وأولها:

جل الأسى فأسل دم الأجفـان

 

ما ذي الشؤون لغير هذا الشان

 

ومردنيش: بفتح الميم وسكون الراء وفتح الدال المهملة وكسر النون وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها شين معجمة وهو بلغة الفرنج اسم العذرة.


وبُنُشْكُله: بضم الباء الموحدة والنون وسكون الشين المعجمة وضم الكاف وفتح اللام، وبعدها هاء؛ والباقي معروف لا حاجة إلى ضبطه.


والبني في نسب الشاعر المذكور: بكسر الياء الواحدة وتشديد النون.


والأبدي: بضم الهمزة وتشديد الباء الموحدة وبعدها دال مهملة، هذه النسبة إلى بلدة بالأندلس من كورة جيان، بناها عبد الرحمن بن الحكم وجددها ابنه محمد.


قلت: ولما فرغت من ترجمة يوسف بن عبد المؤمن صاحب هذه الترجمة وجدت مجموعاً بخط العماد بن جبريل أخي العلم المصري ناظر بيت المال بالديار المصرية وقد تقدم ذكره في ترجمة أبي إسحاق العراقي الفقيه المذكور في أوائل هذا الكتاب وفيه فوائد من أخبار المغاربة وغيرهم، فنقلت منه ما يضاف إلى هذه الترجمة، وهو: أن عبد المؤمن كان في حياته قد عهد إلى أكبر أولاده وهو محمد، وبايعه الناس وكتب ببيعته إلى البلاد، فلما مات عبد المؤمن لم يتم له الأمر لأنه كان على أمور لا يصلح معها للمملكة من إدمان شرب الخمر واختلال الرأي وكثرة الطيش وجبن النفس ويقال إنه مع هذا كله كان به ضرب من الجذام. واضطرب أمره واختلف الناس عليه فخلع، وكانت مدة ولايته خمسة وأربعين يوماً، وذلك في شعبان من سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وكان الذي سعى في خلعه أخويه يوسف وعمر ابني عبد المؤمن. ولما تم خلعه دار الأمر بين الأخوين المذكورين، وهما من نجباء أولاد عبد المؤمن ومن ذوي الرأي وتأخر عنهما أبو حفص عمر، وسلم الأمر إلى أخيه يوسف فبايعه الناس واتفقت عليه الكلمة.


 وكان أبيض تعلوه حمرة، شديد سواد الشعر مستدير الوجه أفوه أعين، إلى الطول ما هو، في صوته جهارة، رقيق حواشي اللسان حلو الألفاظ حسن الحديث طيب المجالسة أعرف الناس كيف تكلمت العرب وأحفظهم لأيامها في الجاهلية والإسلام، صرف عنايته إلى ذلك، ولقي فضلاء إشبيلية أيام ولايته لها، ويقال إنه كان يحفظ صحيح البخاري. كان شديد الملوكية بعيد الهمة سخياً جواداً استغنى الناس في أيامه، وكان يحفظ القرآن العظيم مع جملة من الفقه، ثم طمح إلى علم الحكمة وبدأ من ذلك بعلم الطب وجمع من كتب الحكمة شيئاً كثيراً.


وكان ممن صحبه من العلماء بهذا الشأن أبو بكر محمد بن الطفيل، كان متحققاً لجميع أجزاء الحكمة، قرأ على جماعة من أهلها منهم أبو بكر ابن الصائغ المعروف بابن باجة وغيره. ولابن الطفيل هذا تصانيف كثيرة، وكان حريصاً على الجمع بين علم الشريعة والحكمة وكان مفنناً.


ولم يزل يجمع إليه العلماء من كل فن من جميع الأقطار ومن جملتهم أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي.


ولما استوثق ليوسف الأمر وملك بلاد مردنيش من الأندلس خرج من إشبيلية قاصداً بلاد الأذفونش من الأندلس أيضاً فنزل على مدينة له تسمى وبذة فأقام محاصراً لها شهوراً إلى أن اشتد عليهم الحصار وعطشوا، فراسلوه في تسليم المدينة وأن يعطيهم الأمان على نفوسهم، فامتنع من ذلك فلما اشتد بهم العطش سمع لهم في بعض الليالي لغط عظيم وأصوات هائلة، وذلك أنهم اجتمعوا بأسرهم ودعوا الله تعالى، فجاءهم مطر عظيم ملأ ما كان عندهم من الصهاريج، فارتووا وتقووا على المسلمين، فانصرف عنهم إلى إشبيلية بعد أن هادنهم مدة سبع سنين.


وكان يرتفع إليه في كل سنة من خراج إشبيلية وقر مائة وخمسين بغلاً، خارجاً عما يرتفع إليه من خراج بقية البلاد في بر العدوة وفي بر الأندلس.


وفي سنة تسع وسبعين تجهز للغزو في جيش عظيم وعبر إلى جزيرة الأندلس ونزل إشبيلية كعادتهم في إصلاح شأنهم، ثم رحل إلى شنترين، وهي بليدة في غرب الأندلس، وهي في غاية المنعة والحصانة، فحاصرها وضيق عليها، فلم يقدر عليها، وهجم الشتاء، وخاف المسلمون من البرد وزيادة مد النهر فلا يقدرون على العبور وتنقطع عنهم المادة، فأشاروا عليه بالرجوع إلى إشبيلية، فإذا طاب الزمان عاد إليها، فقبل ذلك منهم وقال: نحن راحلون غداً إن شاء الله تعالى، ولم ينتشر هذا الحديث لأنه قاله في مجلس الخاصة، فكان أول من قوض ورحل أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الرحمن الخطيب المالقي، وكان من أهل العلم والفضل، فلما رآه الناس قد قوض خباءه قوضوا أيضاً ثقة به، لمكانه من الدولة ومعرفته بأسرارها، فعبر تلك الليلة أكثر العسكر على النهر خشية الزحام وطلباً لجيد المنازل، ولم يبق إلا من كان بقرب خباء الأمير يوسف بن عبد المؤمن، ولا علم له بذلك، فلما رأى الروم عبور العسكر وبلغهم من جواسيسهم ما عزم عليه الأمير يوسف وأصحابه خرجوا منتهزين الفرصة وحملوا حتى انتهوا إلى جهة الأمير يوسف، فقتل على بابه خلق كثير من أعيان الجند، وخلصوا إلى الأمير يوسف فطعنوه تحت سرته طعنة كانت سبب منيته، وتداركهم الناس، فانهزم الروم، وجعل الأمير يوسف في محفة، وعبر به النهر، ولم يسر به سوى ليلتين ومات في الثالثة، فلما وصلوا به إلى إشبيلية صبروه وصيروه في تابوت وحملوه إلى تين مل، ودفن هناك عند أبيه عبد المؤمن والمهدي محمد بن تومرت.


وكانت وفاته يوم السبت لسبع خلون من رجب سنة ثمانين وخمسمائة، وكان قبل موته بأشهر ينشد هذا البيت ويردده في أوقات كثيرة:

طوى الجديدان ماقد كنت أنشره

 

وأنكرتني ذوات الأعين النجل

 

وقام بعده بالأمر ولده أبو يوسف يعقوب، بويع في حياة أبيه، وقيل إن أشياخ الدولة اتفقوا على تقديمه بعد وفاة أبيه، والله أعلم.
 وكان الأديب أبو العباس أحمد بن عبد السلام الكورايي وكورايا قبيلة من البربر منازلهم بضواحي مدينة فاس، وقيل إن هذه القبيلة إنما يقال لها جراوة: بفتح الجيم وقد تبدل الجيم كافاً فيقال لها كرواة، والنسبة إليها جراوي وكراوي وكان هذا الأديب نهاية في حفظ الأشعار القديمة والمحدثة، وتقدم في هذا الشأن وجالس به عبد المؤمن، ثم ولده يوسف ثم ولده يعقوب، وجمع كتاباً يحتوي على فنون الشعر على وضع - الحماسة - لأبي تمام الطائي، وسماه - صفوة الأدب وديوان العرب - وهو كثير الوجود بأيدي الناس، وهو عند أهل المغرب كالحماسة عند أهل المشرق. والمقصود من ذكر هذا الأديب أنه كانت له نوادر نادرة وملح مستظرفة عند أهل الأدب، فمن ذلك أنه حضر يوماً إلى باب دار الأمير يوسف المذكور، وهناك الطبيب سعيد الغماري وغمارة، بضم الغين المعجمة، قبيلة من البربر أيضاً فقال الأمير يوسف لبعض خدمه: انظر من الباب من الأصحاب، فخرج الخادم إلى الباب ثم عاد إليه فقال: أحمد الكورايي وسعيد الغماري، فقال الأمير يوسف: من عجائب الدنيا شاعر من كواريا وطبيب من غمارة، فبلغ ذلك الكورايي فقال "وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه" - يس: 78 - أعجب منهما والله خليفة من كومية، فيقال إن الأمير يوسف لما بلغه ذلك قال: أعاقبه بالحلم عنه والعفو ففيه تكذيبه.


ومن شعره من جملة قصيدة مدح بها الأمير يوسف المذكور، وهو بديع غريب:

إن الإمام هو الطبيب وقد شفـى

 

علل البرية ظـاهـراً ودخـيلا

حمل البسيطة وهي تحمل شخصه

 

كالروح توجد حاملاً محـمـولا

 

ومن شعره أيضاً في ذم أهل فاس، وهي مدينة بالمغرب فيما بين سبتة ومراكش:

مشى اللؤم في الدنيا طريداً مشرداً

 

يجوب بلاد الله شرقاً ومغـربـا

فلما أتى فاساً تلـقـاه أهـلـهـا

 

وقالوا له: أهلا وسهلا ومرحبـا

 

وله كل شعر مليح. وكان شيخاً مسناً جاوز الثمانين سنة، وتوفي في آخر أيام الأمير يعقوب ابن الأمير يوسف وقد ذكرت وفاة الأمير يعقوب في ترجمته فيكشف منه وله مديح في الأمير عبد المؤمن بن علي وأولاده إلى آخر زمنه، رحمه الله تعالى.


وأما شنترين: بفتح الشين المعجمة وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوقها وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، فهي مدينة في غرب الأندلس؛ وذكر ابن حوقل في كتاب - المسالك والممالك - أن شنترين على البحر المحيط، وبها يقع العنبر، ولا يعلم ببلد الروم والمحيط عنبر يقع في غير هذا الموضع وشيء وقع بالشام. ويقع بشنترين في وقت من السنة دابة تحك الحجارة في وسط البحر، فيقع بها وبرة في لين الخز ولون الذهب، فيجمع منه ما يغزل وينسج ثياباً، ويتلون الثوب ألواناً، وتحجر عليه ملوك بني أمية بالأندلس، فلا ينقل ولا يشترى، فتزيد قيمة الثوب على ألف دينار لعزته وحسنه، والله أعلم.


قلت: وحكى لي بعض الفضلاء من أهل الأندلس أنه رأى قطعة من هذه الثياب هناك، وأراد أن يصفها لي فما قدر أن يعبر عنها، ثم قال: لكنها أرفع وأنعم من نسج العنكبوت، فتعالى الله ما أجل قدرته وألطف حكمته وأحسن صنعته، وكيف خص كل صقع بنوع من الغرائب سبحانه وتعالى، ولله در أبي نواس حيث قال:

وفي كل شيء له آية

 

تدلّ على أنه واحـد