يوسف بن عمر الثقفي

أبو عبد الله يوسف بن عمر بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي وقد تقدم ذكر بقية نسبه في ترجمة الحجاج بن يوسف الثقفي، فإنه ابن ابن عم الحجاج، يجتمعان في الحكم بن أبي عقيل؛ قال خليفة بن خياط: ولى هشام بن عبد الملك يوسف بن عمر اليمن، فقدمها لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست ومائة، فلم يزل والياً بها حتى كتب إليه هشام في سنة عشرين ومائة بولايته على العراق، فاستخلف على اليمن ابنه الصلت ابن يوسف.وقال البخاري: كانت ولاية يوسف بن عمر العراق سنة إحدى وعشرين ومائة إلى سنة أربع وعشرين. وقال غيره: لما أراد هشام بن عبد الملك صرف خالد بن عبد الله القسري عن العراق، وكان قد جاءه رسول يوسف ابن عمر الثقفي من اليمن، فدعا هشام بالرسول وقال له: إن صاحبك قد تعدى طوره وسأل فوق قدره. وأمر بتخريق ثيابه وضربه أسواطاً، وقال له: امض إلى صاحبك، فعل الله به وصنع، ودعا بسالم اليمامي مولى سالم بن عنبسة بن عبد الملك، وكان على ديوان الرسائل وقال له: اكتب إلى يوسف ابن عمر، بشيء أمره به، واعرض الكتاب علي، فمضى سالم ليكتب ما أمره به، وخلا هشام بنفسه، وكتب كتاباً صغيراً بخطه إلى يوسف بن عمر وفيه: - سر إلى العراق فقد وليتك إياه، وإياك أن يعلم بك أحد، واشفني من ابن النصرانية، يعني خالداً، ومن عماله - وأمسك الكتاب بيده، وحضر سالم بالكتاب الذي كتبه وعرضه عليه، فغافله وجعل الكتاب الصغير في طيه، وختمه ودفعه إلى سالم وقال له: ادفعه إلى رسول يوسف، ففعل ذلك، وانفصل الرسول. فلما وصل إلى يوسف قال له: ما وراءك؟ قال: الشر، أمير المؤمنين ساخط عليك، وقد أمر بتخريق ثيابي وضربي، ولم يكتب جواب كتبك، وهذا كتاب بخط صاحب الديوان، ففض الكتاب وقرأه، فلما بلغ إلى آخره وقف على الكتاب الصغير، فاستخلف ابنه الصلت وسار إلى العراق.

وقد كان يخلف سالماً الكاتب على ديوان الرسائل بشير بن أبي طلحة من أهل الأردن، وكان فطناً، فلما وقف على ما كان من هشام قال: هذه حيلة، وقد ولى يوسف بن عمر العراق، فكتب إلى عياض عامل أجمة سالم، وكان واداً له: إن أهلك قد بعثوا إليك بالثوب اليماني، فإذا أتاك فالبسه واحمد الله تعالى، وأعلم طارقاً بذلك، وكان عامل خالد بن عبد الله القسري على الكوفة وما يليها، ثم ندم بشير على ما كان منه فكتب إلى عياض: إن القوم قد بدا لهم في البعثة إليك بالثوب اليماني، فعرّف عياض أيضاً طارقاً بذلك، فقال طارق: الخبر في الكتاب الأول، ولكن صاحبك ندم وخاف أن يظهر أمره، وركب من ساعته إلى خالد فخبره الخبر، فقال له: فما ترى؟ قال: أرى أن تركب من ساعتك هذه إلى أمير المؤمنين، فإنه إذا رآك استحيا منك وزال شيء إن كان في نفسه عليك، فلم يقبل ذلك، فقال له: فتأذن لي أن أصير إلى حضرته وأضمن له مال جميع هذه السنة؟ قال: وما مبلغ ذلك؟ قال: مائة ألف ألف درهم، وآتيك بعهدك قال: ومن أين هذه الأموال؟ والله ما أملك عشرة آلاف درهم، فقال: أتحمل أنا وسعيد بن راشد أربعين ألف ألف درهم وكان سعيد يتقلد سقي الفرات والزنيبي وأبان بن الوليد عشرين ألف ألف درهم ونفرق الباقي على باقي العمال، فقال له: إني إذاً للئيم أن أسوغ قوماً شيئاً ثم أرجع عليهم به، فقال له: إنما نقيك ونقي أنفسنا ببعض أموالنا، وتبقى النعمة عليك وعلينا بك ونستأنف طلب الدنيا، خيرٌ من أن نطالب بالأموال، وقد حصلت عند تجار أهل الكوفة فيتقاعسوا عنا ويتربصوا بنا فنقتل وتذهب أنفسنا، وتحصل الأموال لهم يأكلونها، فأبى خالد ذلك عليه، فودعه وقال: هذا آخر العهد بك. ووافاهم يوسف بن عمر، فمات طارق في العذاب، ولقي خالد وجميع عماله كل شر، ومات منهم في العذاب بشرٌ كثير، وكان ما استخرج يوسف من خالد وأسبابه تسعين ألف ألف درهم.

قلت: وقد تقدم طرف من خبر خالد بن عبد الله القسري في ترجمته، فتطلب منه، وقد تقدم في ترجمة عيسى بن عمر الثقفي النحوي ذكر يوسف ابن عمر المذكور، وما جرى له معه في الوديعة.

وقال أبو بكر أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في كتاب - أنساب الأشراف وأخبارهم -: إن هشام بن عبد الملك كان قد تغير على خالد بن عبد الله القسري أمير العراق لأمور نقلت عنه، فحقد عليه، منها: كثرة أمواله وأملاكه؛ ومنها: أنه كان يطلق لسانه في حق هشام بما يكرهه، وغير ذلك من الأسباب، فعزم على عزله وأخفى ذلك. وكان يوسف بن عمر الثقفي عامله على اليمن، فكتب هشام إليه بخطه يأمره أن يقبل في ثلاثين من أصحابه إلى الكوفة، وكتب مع الكتاب بعهده على العراق، فخرج يوسف حتى صار إلى الكوفة في سبعة عشر يوماً، فعرس قريباً منها، وقد ختن طارقٌ خليفة خالد القسري على الخراج ولده، فأهدي إليه ألف عتيق وألف وصيف وألف وصيفة سوى المال والثياب وغير ذلك، فجاء رجل إلى طارق فقال له: إني رأيت قوماً أنكرتهم وزعموا أنهم سُفّار. وصار يوسف بن عمر إلى دور بني ثقيف، فأمر بعض الثقفيين، فجمع له من قدر عليه من مضر، ففعل، فدخل يوسف المسجد مع الفجر فأمر المؤذن بالإقامة فقال: حتى يأتي الإمام، فانتهره، فأقام، وتقدم يوسف فصلى، وقرأ " إذا وقعت الواقعة" - الواقعة: 1 - و" سأل سائل " - المعارج: 1 - ثم أرسل إلى خالد وطارق وأصحابهما فأخذوا وإن القدور لتغلي.

وقال أبو عبيدة: حبس يوسف خالداً، فصالحه أبان بن الوليد عنه وعن أصحابه على تسعة آلاف ألف درهم، ثم ندم يوسف، وقيل له لو لم تقبل هذا المال لأخذت منه مائة ألف ألف درهم، فقال: ما كنت لأرجع عن شيء رهنت به لساني وأخبر أصحاب خالد خالداً فقال: أسأتم حين أعطيتموه هذا المال في أول وهلة، ما يؤمنني أن يأخذها ثم يرجع عليكم؟ فارجعوا إليه، فأتوه فقالوا: إنا أخبرنا خالداً بما فارقناك عليه من المال، فذكر أنه ليس عنده، فقال: أنتم أعلم وصاحبكم، فأما أنا فلا أرجع عليكم وإن رجعتم لم أمنعكم، قالوا: فإنا قد رجعنا، قال: فوا لله لا أرضى بتسعة آلاف "ألف" ولا بمثلها ومثلها، فذكر ثلاثين ألف ألف، ويقال مائة ألف ألف.

وقال أشرس مولى بني أسد، وكان تاجراً ليوسف بن عمر: أتانا كتاب هشام، فقرأه يوسف، فكتمنا ما فيه وقال: أريد العمرة، فخرج وأنا معه، واستخلف ابنه الصلت على اليمن، فما كلم أحداً منا بكلمة واحدة حتى انتهى إلى العذيب فأناخ وقال: يا أشرس أين دليلك؟ فقلت: هوذا، فسأله عن الطريق، فقال: هذه طريق المدينة وهذه طريق العراق، فقلت: والله ما هي بأيام عمرة، فلم يتكلم حتى أناخ بين الحيرة والكوفة في بعض الليل، ثم استلقى على ظهره ورفع إحدى رجليه على الأخرى وقال:

فما لبثتنا العيس أن قذفت بنا      نوى غربةٍ والعهد غير قديم

ثم قال: يا أشرس ابغني إنساناً أسائله، فأتيته برجل فقال: سله عن ابن النصرانية، يعني خالداً القسري، فقلت: ما فعل خالد؟ قال: في الحمة، اشتكى فخرج إليها، فقال: سله عن طارق، فقال: ختن بنيه فهو يطعم الناس بالحيرة، وخليفته عطية بن مقلاص يطعم الناس بالكوفة، قال: خل عن الرجل، ثم ركب فأناخ بالرحبة، ودخل المسجد فصلى يوسف ثم استلقى على ظهره، فمكثنا ليلاً طويلاً، ثم جاء المؤذنون وزياد بن عبيد الله الحارثي يومئذ على الكوفة خليفة لخالد، فأذنوا ثم سلموا، وخرج زياد فأقيمت الصلاة، فذهب زياد ليتقدم فقال يوسف، يا أشرس نحه، فقلت: يا زياد تأخر، الأمير، فتأخر زياد وتقدم يوسف، وكان حسن القراءة فصيحاً، فقرأ "إذا وقعت الواقعة" و" سال سائل بعذاب واقع" فصلى الفجر، وتقدم القاضي فحمد الله وأثنى عليه ودعا للخليفة وقال: ما اسم أميركم؟ فأخبر، فدعا له بالصلاح، فما تفرق أهل الصلاة حتى جاء الناس، ولم يبرح يوسف حتى بعث إلى خالد وإلى أبان ابن الوليد بفارس، وإلى بلال بن أبي بردة بالبصرة، وإلى عبد الله بن أبي بردة بسجستان، وأمر هشام أن تعزل عمال خالد جميعهم، إلا الحكم بن عوانة، وكان على السند، فأقره حتى قتل هو وزيد بن علي في يوم واحد، فقتله ناكهر.

ولما أتى خالد قيل له: الأمير يوسف، قال: دعوني من أميركم، أحي هو أمير المؤمنين؟ قيل نعم، فقال: لا بأس علي. فلما قدم بخالد على يوسف حبسه، وضرب يزيد بن خالد ثلاثين سوطاً، فكتب هشام إلى يوسف: أعطي الله عهداً لئن شاكت خالداً شوكة لأضربن عنقك، فخلّ سبيله بثقله وعياله، فأتى الشام فلم يزل مقيماً به يغزو الصوائف حتى مات هشام

وقيل إن يوسف استأذن هشاماً في بسط العذاب على خالد فلم يأذن له، حتى ألح عليه بالرسل واعتل بانكسار الخراج لما صار إليه وإلى عماله منه، فأذن له فيه مرةً واحدة وبعث حرسياً يشهد ذلك، وحلف لئن أتى على خالد أجله ليقتلنه به، فدعا به يوسف وجلس على دكان بالحيرة وحضر الناس، وبسط عليه العذاب، فلم يكلمه خالد حتى شتمه يوسف وقال: يا ابن الكاهن، يعني شقاً أحد أجداد خالد وهو الكاهن المشهور قلت: كما تقدم في ترجمة خالد قال فقال له خالد: إنك لأحمق، تعيرني بشرفي، لكنك ابن السباء، إنما كان أبوك يسبأ الخمر قلت: معناه يبيع الخمر قال: ثم رد خالداً إلى محبسه فأقام ثنانية عشر شهراً، ثم كتب إليه هشام يأمره بتخلية سبيله في شوال سنة إحدى وعشرين ومائة، وخرج خالد ومعه جماعة من أهله وغيرهم حتى أتى القرية، وهي من أرض الرصافة، فأقام بها بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم وصفر، لا يأذن له هشام في القدوم عليه.

قال الهيثم بن عدي: وخرج زيد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على يوسف بن عمر، فكتب يوسف إلى هشام: إن أهل هذا البيت من بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعاً، حتى كانت همة أحدهم قوت يومه، فلما ولي خالد العراق قواهم بالأموال حتى تاقت أنفسهم إلى طلب الخلافة، وما خرج زيد إلا بإذن خالد، وما مقامه بالقُرية إلا لأنها مدرجة الطريق، فهو يسأل عن أخباره، فقال هشام للرسول: كذبت وكذب صاحبك، ومهما اتهمنا به خالداً فإنا لا نتهمه في طاعته، وأمر بالرسول فوجئت عنقه، وبلغ الخبر خالداً فصار إلى دمشق.

وقال أبو الحسن المدائني: أمر يوسف بن عمر ببلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وكان بلال عامل خالد القسري على البصرة، فعذب، فضمن ثلاثمائة ألف درهم، وأخذ منه كفلاء، فأخفرهم وهرب إلى الشام، فيقال إن غلامه أراد أن يشتري له دراجاً فعرف، ويقال بل شوى له غلامه دراجاً فأحرقه، فضربه فسعى به، فأتي به يوسف بن عمر، فأمر به فأقيم في الشمس فقال: أدنوني من أمير المؤمنين فله عليّ ما طلب، فأبى ورده إلى يوسف فعذبه حتى قتله، وقال أخوه عبد الله بن أبي بردة للسجان: ارفع اسمي في الموتى فرفعه، فقال يوسف: أرنيه ميتاً، فغمه السجان حتى مات؛ ويقال بل كان بلال الذي سأل السجان رفع اسمه في الموتى، والمقتول في العذاب عبد الله، والله أعلم بذلك. وقال يونس النحوي: وما قتل بلالاً إلا دهاؤه، سأل السجان أن يرفع اسمه في الموتى ويعطيه مالاً، فقال يوسف: اعرض الموتى علي، فغمه حتى مات وعرضه عليه ميتاً.

وقال المدائني: ولي يوسف بن عمر صالح بن كريز ولاية، فخرجت عليه ثلاثون ألفاً فحبس بها، وبلال بن أبي بردة يومئذ محبوس، فقال له بلال: إنّ على العذاب سالماً، ويلقب رتبيل، فإياك أن تقول له رتبيل فإنه يكره ذلك، وجعل بلال يردد عليه القول في ذلك، فعذبه سالم، فنسي اسمه وكنيته وجعل يقول له: يا رتبيل اتق الله، وكرر عليه القول في ذلك من ألم العذاب، وهو يقول اقتل، من غيظه عليه، فلما خلي عنه قال له بلال: ألم أنهك عن رتبيل؟ فقال: وهل أوقعني في رتبيل غيرك!! أنا ما كنت أعرف رتبيل لولا أنت، وما تدع شرك في سراء ولا ضراء.

وقال المدائني أيضاً: كان على شرط يوسف بن عمر العباس بن سعد المري، وكان كاتبه قحذم بن سليمان بن ذكوان وزياد بن عبد الرحمن مولى ثقيف، وعلى حرسه وحجابته جندب، وفيه يقول الشاعر:

أتانا أمير شديد النكال       لحاجب حاجبه حاجب

وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في - تاريخ دمشق -: بلغني أن يوسف بن عمر كان قد أخذ مع آل الحجاج بن يوسف الثقفي ليعذب، ويطلب منه المال، فقال: أخرجوني لأسأل، فدفع إلى الحارث بن مالك الجهضمي يطوف به، وكان مغفلاً، فانتهى به إلى دار لها بابان، فقال يوسف: دعني أدخل هذه الدار فإن فيها عمة لي أساءلها، فأذن له، فدخل وخرج من الباب الآخر وهرب، وذلك في خلافة سليمان بن عبد الملك. وكان يوسف يسلك طرائق ابن عم أبيه الحجاج بن يوسف في الصرامة والشدة في الأمور وأخذ الناس بالمشاق، ولم يزل على ذلك إلى حين عزله.

وذكر عمر بن شبة النميري في كتاب - أخبار البصرة - أن يوسف بن عمر وزن درهماً فنقص حبة، فكتب إلى دور الضرب بالعراق فضرب أهلها، فأحصي في تلك الحبة مائة ألف سوط ضربها الناس. وكان يوسف مذموماً في عمله أخرق سيء السيرة، وكان جواداً، فكان يطعم الناس على خمسمائة خوان، أقصاها وأدناها سواء، يأكل منها الشامي والعراقي، وعلى كل خوان مزينة عليها السكر، فنفد السكر من فرنية، فتكلم أهلها، فضرب الخباز ثلثمائة سوط والناس يأكلون، فكان الخباز يتخذ الخرائط فيها السكر، فكلما نفد زادوا.

وروى الحكم بن عوانة الكلبي عن أبيه قال: لم يؤيد الملك بمثل كلب، ولم تعل المنابر بمثل قريش، ولم تطلب الترات بمثل تميم، ولم ترع الرعايا بمثل ثقيف، ولم تسد الثغور بمثل قيس، ولم تهج الفتن بمثل ربيعة، ولم يجب الخراج بمثل اليمن.

وقال الأصمعي: قال يوسف بن عمر لرجل ولاه عملاً: يا عدو الله، أكلت مال الله، فقال له: فمال من آكل منذ خلقت وإلى الساعة؟ والله لو سألت الشيطان درهماً واحداً ما أعطانيه.

وكان يوسف بن عمر قد استعمل على خراسان نصر بن سيار الليثي، وبقي إلى آخر أيام بني أمية، وقضاياه ووقائعه مع أبي مسلم الخراساني مشهورة في مواضعها، وفيه وفي يوسف يقول سوار بن الأشعر:

أضحت خراسان بعد الخوف آمنة       من ظلم كل غشوم الحكم جبـار
لما أتى يوسفاً أخبار ما لـقـيت        اختار نصراً لها، نصر بن سيار

وقال سماك بن حرب: بعث إليّ يوسف بن عمر وهو أمير العراق، أن عاملاً لي كتب إليّ: إني قد زرعت لك كل خُق ولُق، فما هما؟ فقلت: إن الخق: ما اطمأن من الأرض، واللق: ما ارتفع منها، انتهى كلامه؛ قلت: وذكر الجوهري في كتاب - الصحاح -: أن الخق الغدير، إذا جف وتقلع، واللق: الشق المستطيل، وقيل: الخق حفرة غامضة في الأرض، والخق: بضم الخاء المعجمة وتشديد القاف، واللق: بضم اللام وتشديد القاف، والله أعلم.

وكان يوسف بن عمر من أعظم الناس لحية، وأصغرهم قامة، كانت لحيته تجوز سرته.

وكان يُضرب به المثل في التيه والحمق، ذكر ذلك حمزة الأصبهاني في كتاب - الأمثال -، فقال: قولهم - أتيه من أحمق ثقيف - هو يوسف ابن عمر، كان أتيه وأحمق عربي أمر ونهى في دولة الإسلام، فمن حمقه أن حجاماً أراد أن يحجمه فارتعدت يده، فقال لحاجبه: قل لهذا البائس، لا تخف، وما رضي أن يقول له بنفسه. وكان الخياط إذا أراد أن يفصل ثيابه فإن قال: يحتاج إلى زيادة ثوب آخر، أكرمه وحباه، وإن فضل شيء أهانه وأقصاه، لأنه يكون قد نبه على قصره ودمامته.

واستمر يوسف على ولاية العراق بقية مدة هشام بن عبد الملك، فلما توفي في يوم الأربعاء لست خلون من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة بالرصافة من أرض قنسرين وبها قبره، وكان عمره خمساً وخمسين سنة، وقيل أربعاً وخمسين، وقيل اثنتين وخمسين سنه، والله أعلم، وكنيته أبو الوليد، تولى ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك بعده فأقر يوسف ابن عمر على ولايته بالعراق. وقتل الوليد المذكور يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وكان قد عزم على عزل يوسف ابن عمر وتولية عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف الثقفي.

وكانت أم الوليد بن يزيد المذكور أم الحجاج بنت محمد بن يوسف، فالحجاج عمها، فكتب الوليد إلى يوسف بن عمر: إنك قد كنت كتبت إليّ تذكر أن خالد بن عبد الله القسري أخرب العراق، وكنت مع ذلك تحمل إلى هشام ما تحمل، وينبغي أن تكون قد عمرت البلاد حتى ردتها إلى ما كانت عليه، فاشخص إلينا وصدق ظننا بك فيما تحمله إلينا بعمارتك البلاد حتى نعرف فضلك على غيرك لما بينا وبينك من القرابة، فإنك خالنا وأحق الناس بالتوفير علينا، وقد علمت ما زدنا لأهل الشام في العطاء، وما وصلنا أهل بيتنا به لجفوة هشام إياهم، حتى أضر ذلك ببيوت الأموال؛ فخرج يوسف بن عمر بنفسه إلى الوليد بن يزيد وحمل من الأموال والأمتعة والآنية ما لم يحمل من العراق مثله، فقدم وخالد بن عبد الله القسري محبوس، فلقيه حسان النبطي ليلاً وأخبره أن الوليد قد عزم على تولية عبد الملك بن محمد بن الحجاج، وأنه لابد له من إصلاح أمر وزرائه، فقال يوسف ليس عندي شيء، فقال له حسان: عندي خمسمائة ألف درهم فإن شئت فهي لك، وإن شئت فارددها إذا تيسرت، فقال له يوسف: أنت أعلم بالقوم ومنازلهم من الوليد، ففرقها على قدر علمك فيهم، ففعل، فقدم يوسف والقوم يعظمونه، وقرر يوسف بن عمر مع أبان بن عبد الرحمن النميري أن يشتري خالد بن عبد الله القسري بأربعين ألف ألف درهم، فقال الوليد ليوسف، ارجع إلى عملك، فقال أبان له: ادفع إليّ خالداً وادفع إليك أربعين ألف ألف درهم، فقال الوليد، ومن يضمن عنك هذا المال؟ فقال: يوسف، فقال ليوسف: أتضمن عنه؟ فقال يوسف: ادفعه إلي فأنا أستأديه خمسين ألف ألف درهم، فدفعه إليه، فحمله في محمل بغير وطاء، وقدم به إلى العراق فقتله، كما شرحته في ترجمته.

ولما قتل الوليد بن يزيد وتولى بعده ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك وأطاعه أهل الشام وانبرم له الأمر، ندب لولاية العراق عبد العزيز بن هارون ابن عبد الملك بن دحية بن خليفة الكلبي، فقال له عبد العزيز: لو كان معي جند لقبلت، فتركه وولاها منصور بن جمهور. وأما أبو مخنف فإنه قال: قتل الوليد بن يزيد بالبخراء في التاريخ المذكور، وبويع يزيد بن الوليد بدمشق، وسار منصور بن جمهور من البخراء في اليوم الذي قتل فيه الوليد إلى العراق، وهو سابع سبعة، فبلغ خبره يوسف بن عمر فهرب، وقدم منصور بن جمهور الحيرة في أيام خلت من رجب، فأخذ بيوت الأموال وأخرج العطاء لأهل العطاء والأرزاق، وولى العمال بالعراق، وأقام بقية أيام رجب وشعبان ورمضان، وانصرف لأيام بقيت منه.

ولما هرب يوسف بن عمر سلك طريق السماوة حتى أتى إلى البلقاء فاستخفى بها، وكان أهله مقيمين فيها، فلبس زي النساء وجلس بينهن، وبلغ يزيد بن الوليد خبره فأرسل إليه من يحضره، فوصلوا إليه فوجدوه بعد أن فتشوا عليه كثيراً جالساً على تلك الهيئة بين نسائه وبناته، فجاء به في وثاق، فحبسه يزيد عند الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد، وكان يزيد ابن الوليد قد حبسهما عند قتله أباهما في الخضراء، وهي دار بدمشق مشهورة قبلي جامعها وقد خربت الآن ومكانها معروف عندهم. ثم إن يزيد بن الوليد عزل منصور بن جمهور عن ولاية العراق وولاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فأقام يوسف بن عمر في السجن بقية مدة يزيد بن الوليد إلى أن مات في ذي الحجة على الخلاف الكثير فيه: هل مات في أول الشهر أو في عاشره أو بعد العاشر أو في سلخ ذي القعدة سنة ست وعشرين ومائة، وجعل ولي عهده أخاه إبراهيم بن الوليد، ومن بعده عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك. واستمر يوسف بن عمر في سجنه مدة ولاية إبراهيم بن الوليد، فجاء مروان بن محمد آخر ملوك بني آمية بأهل الجزيرة الفراتية وقنسرين وغلب على الأمر وخلع إبراهيم بن الوليد وتولى مكانه، وقتل عبد العزيز بن الحجاج ابن عبد الملك، وكانت ولاية إبراهيم أربعة أشهر، وخلع في شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل كانت ولايته سبعين يوماً لا غير، وكان يزيد بن خالد بن عبد الله القسري مع إبراهيم بن الوليد.

فلما ظهر أمر مروان بن محمد والتقى عسكره وعسكر إبراهيم، وهرب عسكر إبراهيم ودخلوا دمشق، ومروان وراءهم، خافت جماعة إبراهيم أن يدخل مروان فيخرج الحكم وعثمان ابني الوليد من السجن ويجعل لهما الأمر فلا يستبقيا أحداً ممن أعان على قتل أبيهما، فأجمع رأيهم على قتلهما، فأرسلوا يزيد بن خالد القسري ليتولى ذلك فانتدب يزيد المذكور مولى أبيه، وهو أبو الأسد، في جماعة من أصحابه، فدخلوا السجن وشدخوا الغلامين بالعمد وأخرجوا يوسف بن عمر فضربوا عنقه، لكونه قتل خالد ابن عبد الله القسري والد يزيد المذكور كما شرحناه في ترجمة خالد وذلك في سنة سبع وعشرين ومائة، وهو ابن نيف وستين سنة. ولما قتل أخذوا رأسه عن جسده وشدوا في رجليه حبلاً، فجعل الصبيان يجرونه في شوارع دمشق، فتمر المرأة به فترة جسداً صغيراً فتقول: في أي شيء قتل هذا الصبي المسكين؟ لما ترى من صغر جثته.

قال بعضهم: رأيت يوسف بن عمر وفي مذاكيره حبل وهو يجر بدمشق، ثم رأيت بعد ذلك يزيد بن خالد القسري قاتله وفي مذاكيره حبل وهو يجر في ذلك الموضع. وقد قيل إنه قتل في العشر الوسط من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، والله أعلم.