بهاء الدين عرف بابن شداد

أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة بن محمد بن عتاب الأسدي، قاضي حلب، المعروف بابن شداد، الملقب بهاء الدين، الفقيه الشافعي، توفي أبوه وهو صغير السن، فنشأ عند أخواله بني شداد فنسب إليهم، وكان شداد جده لأمه، وكان يكنى أولاً أبا العز، ثم غير كنيته وجعلها أبا المحاسن كما ذكرته.

ولد بالموصل ليلة العاشر من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وحفظ بها القرآن الكريم في صغره، ثم قدم الشيخ أبو بكر يحيى بن سعدون القرطبي المقدم ذكره إلى الموصل فلازمه وقرأ عليه بالطرق السبع، وأتقن عليه فن القراءات. وقال أبو المحاسن المذكور في بعض تواليفه: أول من أخذت عنه شيخي الحافظ صائن الدين أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد الأزدي القرطبي، رحمه الله تعالى، فإني لازمت القراءة عليه إحدى عشرة سنة، فقرأت عليه معظم ما رواه من كتب القراءات، وقراءة القرآن العظيم، ورواية الحديث وشروحه، والتفسير، حتى كتب لي خطه، شهد لي بأنه ما قرأ عليه أحد أكثر مما قرأت، وعندي خطه بجميع ما قرأت عليه في قريب من كراسين، وفهرست ما رواه جميعه عندي وأنا أرويه عنه. ومما يشتمل عليه فهرست البخاري ومسلم من عدة طرق، وغالب كتب الحديث، وغالب كتب الأدب وغيره، وآخر روايتي عنه - شرح الغريب - لأبي عبيد القاسم بن سلام، قرأته عليه في مجالس، آخرها في العشر الأخير من شعبان سنة سبع وستين وخمسمائة قلت: وهي السنة التي مات فيها الشيخ القرطبي، حسبما ذكرته في ترجمته.
ثم قال: ومنهم الشيخ أبو البركات عبد الله بن الخضر بن الحسين بن المعروف بابن الشيرجي، سمعت عليه بعض تفسير الثعلبي، وأجازني أن أروي عنه جميع ما رواه على اختلاف أنواع الروايات، وكتب لي خطه بذلك في فهرست سماعي مؤرخاً بخامس جمادى الأولى سنة ست وستين وخمسمائة، وكان مشهوراًً بعلمي الحديث والفقه، ولي قضاء البصرة ودرس بالأتابكية القديمة، يعني بالموصل.
ومنهم الشيخ مجد الدين أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي الخطيب بالموصل، وهو مشهور بالرواية حتى يقصد لها من الآفاق، وعاش نيفاً وتسعين سنة قلت: وكانت ولادة أبي الفضل ابن الطوسي الخطيب المذكور في منتصف صفر سنة سبع وثمانين وأربعمائة ببغداد بباب المراتب، وتوفي ليلة الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بالموصل، ودفن بمقبرة باب الميدان، رحمه الله تعالى.

وسمعت عليه يعني على الخطيب المذكور كثيراً من مسموعاته، وأجاز لي جميع ما رواه في السادس والعشرين من رجب، سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.

ومنهم القاضي فخر الدين أبو الرضا سعيد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، سمعت عليه مسند الشافعي رضي الله عنه، ومسند أبي عوانة، ومسند أبي يعلى الموصلي، وسنن أبي داود،وكتب لي خطه بذلك، وهو في فهرستي، وسمعت عليه - الجامع - لأبي عيسى الترمذي، وأجاز لي رواية ما رواه، وكتب لي خطه بذلك في شوال سنة سبع وستين وخمسمائة.

ومنهم الحافظ مجد الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي الأشيري الصنهاجي، أجاز لي جميع ما يرويه على اختلاف أنواعه، وفي فهرستي خطه بذلك مؤرخاً بشهر رمضان سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وفهرسته عندي بذلك قلت: توفي أبو محمد عبد الله الأشيري المذكور في شوال سنة إحدى وستين وخمسمائة بالشام، ودفن ببعلبك رحمه الله تعالى ظاهر باب حمص شمالي البلد.
ومنهم الحافظ سراج الدين أبو بكر محمد بن علي الجياني، قرأت عليه - صحيح مسلم - من أوله إلى آخره بالموصل، و- الوسيط - للواحدي، وأجاز لي رواية ما يرويه في تاريخ سنة تسع وخمسين وخمسمائة.

فهذه أسماء من حضر في خاطري، وقد سمعت من جماعة لم يحضرني روايتهم عند جمع هذا الكتاب، كشهدة الكاتبة في بغداد وأبي المغيث في الحربية، والشيخ رضي الدين القزويني المدرس بالنظامية وجماعة شذت عني طرقهم، فلم أذكرهم، إذ كان في هؤلاء غنية؛ هذا آخر ما ذكره عن نفسه.

وقال غيره: إنه قرأ الفقه على أبي البركات عبد الله ابن الشيرجي المذكور فقيه الموصل، وكان عالماً زاهداً متقشفاً، وتوفي في جمادى الأولى سنة أربع وسبعين وخمسمائة بالموصل ودفن بظاهرها.

ثم اشتغل بالخلاف على الضياء ابن أبي حازم صاحب محمد بن يحيى الشهيد النيسابوري. ثم باحث في الخلاف متفنني أصحابه، كالفخر النوقاني والبروي والعماد النوقاني والسيف الخواري والعماد الميانجي.

ثم انحدر إلى بغداد بعد التأهل التام ونزل بالمدرسة النظامية وترتب فيها معيداً بعد وصوله إليها بقليل، وأقام معيداً نحو أربع سنين، والمدرس بها يوم ذاك أبو نصر أحمد بن عبد الله بن محمد الشاشي. وكانت ولاية ابن الشاشي المذكور التدريس بالنظامية في شهر ربيع الآخر من سنة ست وستين وخمسمائة، وعزل عنها في سلخ شهر رجب سنة تسع وستين، وتولاها بعده رضي الدين أبو الخير أحمد بن إسماعيل القزويني في التاريخ المذكور، وأبو المحاسن المذكور مستمر بها على الإعادة. وكان رفيقه في الإعادة السديد محمد السلماسي وقد تقدم ذكره ثم أصعد إلى الموصل في سنة تسع وستين فترتب مدرساً في المدرسة التي أنشأها القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشهرزوري المقدم ذكره ولازم الاشتغال، وانتفع به جماعة.

وله كتاب في الأقضية سماه - ملجأ الحكام عند التباس الأحكام - ذكر في أوائله أنه حج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وزار البيت المقدس والخليل عليه أفضل الصلاة والسلام، بعد الحج والزيارة للرسول صلى الله عليه وسلم. ثم دخل دمشق والسلطان صلاح الدين محاصر قلعة كوكب، فذكر أنه سمع بوصوله فاستدعاه إليه، فظن أنه يسأله عن كيفية قتل الأمير شمس الدين ابن المقدم، فإنه كان أمير الحاج في تلك السنة من جهة صلاح الدين، وقتل على جبل عرفات لأمر يطول شرحه، وليس هذا موضع ذكره. فلما دخل عليه ذكر أنه قابله بالإكرام التام، وما زاد على السؤال عن الطريق، ومن كان فيه من مشايخ العلم والعمل، وسأله عن جزء من الحديث ليسمعه عليه، فأخرج له جزءاً جمع فيه أذكار البخاري، وأنه قرأه عليه بنفسه، فلما خرج من عنده تبعه عماد الدين الكاتب الأصفهاني وقال له: السلطان يقول لك: إذا عدت من الزيارة وعزمت على العود تعرفنا بذلك فلنا إليك مهم، فأجابه بالسمع والطاعة، فلما عاد عرفه بوصوله فاستدعاه، وجمع له في تلك المدة كتاباً يشتمل على فضائل الجهاد وما أعد الله سبحانه وتعالى للمجاهدين، يحتوي على مقدار ثلاثين كراسة، فخرج إليه واجتمع به على بقيعة حصن الأكراد، وقدم له الكتاب الذي جمعه، وقال إنه كان عزم على الانقطاع في مشهد بظاهر الموصل إذا وصل إليها.

ثم إنه اتصل بخدمة صلاح الدين في مستهل جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وخمسمائة، ثم ولاه قضاء العسكر والحكم بالقدس الشريف.

ولما كنت متولي الحكم بدمشق المحروسة جاءني في بعض شهور سنة ست وستين وستمائة إسجال قد ثبت مضمونه عند القاضي أبي المحاسن المذكور، وهو يومئذ قاضي العسكر الصلاحي، وقد انقطع ثبوته بموت شهوده، فتعذر إثباته عندي لذلك، وتأملته إلى آخره، لأنني استغربته، فقد كان شيخنا وأخذنا عنه كثيراً وحصل الانتفاع بصحبته.

عدنا إلى بقية ما ذكره أبو المحاسن المذكور فقال: إنه كان قد حضر إلى خدمة صلاح الدين في صحبة شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل والقاضي محيي الدين ابن الشهرزوري لما وصلا إليه في رسالة، واتفق في تلك الدفعة وفاة البهاء الدمشقي المدرس كان بمصر في مدرسة منازل العز وخطيب مصر، وأن صلاح الدين عرض عليه تدريس المدرسة المذكورة فلم يفعل، وأنه حضر عند السلطان دفعة ثانية في رسالة من الموصل وهو على حران، وكان صلاح الدين مريضاً يومئذ.

وذكر أنه لما توفي صلاح الدين كان حاضراً، وتوجه إلى حلب لجمع كلمة الإخوة أولاد صلاح الدين وتحليف بعضهم لبعض، وأن الملك الظاهر غياث الدين بن صلاح صاحب حلب كتب إلى أخيه الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين صاحب دمشق، يطلبه منه، فأجابه إلى ذلك، فأرسله الظاهر إلى مصر لاستحلاف أخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان بن صلاح الدين، وعرض عليه الظاهر الحكم بحلب فلم يوافق على ذلك، فلما عاد من هذه الرسالة كان القاضي بحلب قد مات، فعرض عليه فأجاب، هكذا ذكره في كتابه - ملجأ الحكام - وذكر القاضي كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد المعروف بابن العديم في تاريخه الصغير الذي سماه - زبدة الحلب في تاريخ حلب - ما مثاله: وفي سنة إحدى وتسعين، يعني وخمسمائة، اتصل القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بخدمة الملك الظاهر، وقدم إليه إلى حلب وولاه قضاءها ووقوفها، وعزل عن قضائها زين الدين أبا البيان نبا ابن البانياسي، نائب محيي الدين ابن الزكي، وحل عنده بهاء الدين في رتبة الوزارة والمشاورة؛ انتهى كلامه.

قلت: وهذا القاضي نبا هو ابن الفضل بن سليمان الحميري، ويعرف بيتهم بدمشق ببيت البانياسي، وكان السلطان صلاح الدين قد ولى القاضي محيي الدين أبا المعالي محمد بن الزكي الدمشقي المقدم ذكره القضاء بحلب فاستناب فيها زين الدين نبا ابن البانياسي المذكور، واستمر بها إلى التاريخ المذكور.

وكانت حلب في ذلك الزمان قليلة المدارس، وليس بها من العلماء إلا نفر يسير، فاعتنى أبو المحاسن المذكور بترتيب أمورها وجمع الفقهاء بها، وعمرت في أيامه المدارس الكثيرة. وكان الملك الظاهر قد قرر له إقطاعاً جيداً يحصل منه جملة مستكثرة، ولم يكن له خرجٌ كثير، فإنه لم يولد له ولا كان له أقارب، فتوفر له شيء كثير، فعمر مدرسة بالقرب من باب العراق قبالة مدرسة نور الدين محمود بن زنكي، رحمه الله تعالى، الشافعية. ورأيت تاريخ عمارتها مكتوباً على سقف مسجدها، وهو الموضع المعد لإلقاء الدروس، وذلك في سنة إحدى وستمائة. ثم عمر في جوارها داراً للحديث النبوي، وجعل بين المكانين تربة برسم دفنه فيها، ولها بابان: باب إلى المدرسة وباب إلى دار الحديث،، وشباكان إلى الجهتين، وهما متقابلان بحيث إن الذي يقف في أحد المكانين يرى من يكون في المكان الآخر.

ولما صارت حلب على هذه الصورة قصدها الفقهاء من البلاد وحصل بها الاشتغال والاستفادة، وكثر الجمع بها.

وكان بين والدي، رحمه الله تعالى، وبين القاضي أبي المحاسن المذكور مؤانسة كثيرة وصحبة صحيحة المودة من زمن الاشتغال بالموصل، فجئت إليه، وكان أخي قد سبقني بمدة قليلة، وكتب سلطان بلدنا الملك المعظم مظفر الدين أبو سعيد كوكبوري بن علي بن بكتكين، رحمه الله تعالى المقدم ذكره في حرف الكاف كتاباً بليغاً في حقنا يقول فيه: أنت تعلم ما يلزم من أمر هذين الولدين، وأنهما ولدا أخي وولدا أخيك، ولا حاجة مع هذا إلى تأكيد وصية، وأطال القول في ذلك، فتفضل القاضي أبو المحاسن وتلقانا بالقبول والإكرام وأحسن حسب الإمكان وعمل ما يليق بمثله، وأنزلنا في مدرسته ورتب لنا أعلى الوظائف، وألحقنا بالكبار، مع الشبيبة في السن والابتداء في الاشتغال وقد تقدم في ترجمة الشيخ موفق الدين ابن يعيش النحوي تاريخ دخولي إلى حلب فأغنى عن الإعادة ولم نزل عنده إلى أن توفي في التاريخ الآتي ذكره، ولم يكن بمدرسته في ذلك الزمان درس عام، لأنه كان المدرس بنفسه، وكان قد طعن في السن وضعف عن الحركة وحفظ الدروس وإلقائها، فرتب أربعة من الفقهاء الفضلاء برسم الإعادة، والجماعة يشتغلون عليهم. وكنت أنا وأخي نقرأ على الشيخ جمال الدين أبي بكر الماهاني، لأنه كان من بلدنا، ورفيق والدنا في الاشتغال عند الشيخ عماد الدين أبي حامد محمد بن يونس المقدم ذكره فمات في ثالث شوال سنة سبع وعشرين وستمائة، وقد نيف على ثمانين سنة، فترددت إلى الشيخ نجم الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن علي المعروف بابن الخباز الموصلي الفقيه الإمام، وهو إذ ذاك مدرس المدرسة السيفية، فقرأت عليه من أول كتاب - الوجيز - للغزالي إلى الإقرار.

وعلى الجملة فقد خرجنا عما نحن بصدده بسبب اتصال الكلام.

وكان القاضي أبو المحاسن المذكور بيده حل الأمور وعقدها، لم يكن لأحد معه في الدولة كلام، وكان سلطانها الملك العزيز أبا المظفر محمد بن الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين، وهو صغر السن، تحت حجر الطواشي شهاب الدين أبي سعيد طغرل، وهو أتابكه ومتولي تدبير الدولة بإشارة القاضي أبي المحاسن لا يخرج عنهما شيء من الأمور.

وكان للفقهاء في أيامه حرمة تامة ورعاية كبيرة خصوصاً جماعة مدرسته فإنهم كانوا يحضرون مجالس السلطان ويفطرون في شهر رمضان على سماطه، وكنا نسمع عليه الحديث ونتردد إليه في داره فقد كانت له قبة تختص به، وهي شتوية لا يجلس في الصيف والشتاء إلا فيها، لأن الهرم كان قد أثر فيه حتى صار كفرخ الطائر من الضعف، لا يقدر على الحركة للصلاة وغيرها إلا بمشقة عظيمة؛ وكانت النزلات تعتريه في دماغه فلا يفارق تلك القبة، وفي الشتاء يكون عنده منقلٌ كبير عليه من الفحم والنار شيء كثير، ومع هذا كله فلا يزال مزكوماً وعليه الفرجية البرطاسي والثياب الكثيرة، وتحته الطراحة الوثيرة فوق البسط ذوات الخمائل الثخينة، بحيث إنا كنا نجد عنده الحر والكرب، وهو لا يشعر به لكثرة استيلاء البرودة عليه من الضعف. وكان لا يخرج لصلاة الجمعة إلا في شدة القيظ، وإذا قام إلى الصلاة بعد الجهد يكاد يسقط، ولقد كنت أنظر إلى ساقيه إذا وقف للصلاة وكأنهما عودان رقيقان لا لحم عليهما. وكان عقيب صلاة الجمعة يسمع المصلون عنده الحديث عليه، وكان يعجبه ذلك. وكان حسن المحاضرة جميل المذاكرة، والأدب غالب عليه، وكان كثيراً ما ينشد في مجالسه:

إن السلامة من ليلى وجارتها

 

أن لا تمر على حال بناديها

 

وكان يتمثل أيضاً كثيراً بقول صردر الشاعر المقدم ذكره في حرف العين وهذا البيت من جملة قصيدة طويلة وهو:

وعهودهم بالرمل قد نقضت

 

وكذاك ما يبنى على الرمل

 

فأنشده في بعض الأيام، فقال له بعض أصحابنا الحاضرين: يا مولانا قد استعمل ابن المعلم العراقي هذا المعنى استعمالاً مليحاً، فقال: ابن المعلم هو أبو الغنائم؟ فقال: نعم، فقال: صاحبنا كان، كيف قال؟ فأنشده:

نقضوا العهود، وحق ما يبنى على

 

رمل اللوى بيد الهوى أن ينقضا

 

فقال: ما أقصر، ولقد تلطف في قوله - بيد الهوى -،فقال له: يا مولانا وقد استعمله في قصيدة أخرى، فقال: هات، فأنشده:

ولم يبن على الرمل

 

فكيف انتقض العهد

 

فاستحسنه وكان كثيراً ما ينشد أبيات أبي الفوارس سعد بن محمد المعروف بحيص بيص المقدم ذكره وكان يقول إنه سمعها منه ويرويها عنه، وقد تقدم ذكرها في ترجمة الحيص بيص، فأغنى عن الإعادة، وأولها:

لا تضع من عظيم قدر وإن كن

 

ت مشاراً إليه بالـتـعـظـيم

وكان يقول: أنشدني القاضي الفاضل لبعضهم، ونحن نزول على قلعة صفد:

 

قلت للنزلة لمـا

 

أن ألمت بلهاتي

بحياتي خلّ حلقي

 

فهو دهليز حياتي

 

قلت: هذان البيتان منسوبان إلى ابن الهبارية المقدم ذكره والله أعلم.


وكان كلما نظر إلى نفسه على تلك الحال من الضعف والعجز عن القيام والقعود والصلاة وسائر الحركات، ينشد:

من يتمن العمر فلـيدرع

 

صبراً على فقد أحبـائه

ومن يعمر يسر في نفسه

 

ما يتـمـنـاه لأعـدائه

ثم وجدت هذين البيتين للظهير أبي إسحاق إبراهيم بن نصر بن عسكر، قاضي السلامية المقدم ذكره في هذا الكتاب، والله أعلم؛ ذكر ذلك صاحبنا الكمال ابن الشعار الموصلي في كتابه - عقود الجمان - في ترجمة الظهير المذكور. وهذا ينظر إلى قول أبي العلاء المعري.

تدعو بطول العمر أفواهنا

 

لما تناهى القلب في وده

يسر إن مدّ بـقـاء لـه

 

وكلّ ما يُكره في مـده

 

والأصل في هذا قول لبيد بن ربيعة العامري:

كانت قناتي لا تلين لغـامـزٍ

 

فألانها الإصباح والإمسـاء

ودعوت ربي بالسلامة جاهداً

 

ليصحّني فإذا السـلامة داء

 

ودخل عليه يوماً رجل من أهل الغرب يقال له أبو الحجاج يوسف، ووكان قريب العهد ببلاده، ورد حلب في تلك الأيام، وكان فاضلاً في الأدب والحكمة، فلما رآه على تلك الهيئة من الهزال والنحافة أنشده:

لو يعلم الناس ما في أن تعيش لهم

 

بكوا لانك من ثوب الصبا عاري

ولو أطاقوا انتقاصاً من حياتـهـم

 

لما فدوك بشيء غير أعـمـار

فأعجبه ذلك ودمعت عيناه وشكر له.


 وقال لي بعض أصحابنا: سمعته يوماً وهو يحكي للجماعة الحاضرين عنده، قال: لما كنا في المدرسة النظامية ببغداد اتفق أربعة خمسة من الفقهاء المشتغلين على استعمال حب البلاذر، لأجل سرعة الحفظ والفهم، فاجتمعوا ببعض الأطباء، وسألوه عن مقدار ما يستعمل الإنسان منه وكيف يستعمله ثم اشتروا القدر الذي قال لهم الطبيب وشربوه في موضع خارج عن المدرسة، فحصل لهم الجنون، وتفرقوا وتشتتوا ولم يعلم ما جرى عليهم، وبعد أيام جاء إلى المدرسة واحد منهم، وكان طويلاً، وهو عريان ليس عليه شيء يستر عورته، وعلى رأسه بقيار كبير له عذبة طويلة خارجة عن العادة، وقد ألقاها وراءه فوصلت إلى كعبه، وهو ساكت عليه السكينة والوقار لا يتكلم ولا يعبث، فقام إليه من كان حاضراً من الفقهاء وسألوه عن الحال، فقال لهم: كنا قد اجتمعنا وشربنا حبّ البلاذر، فأما أصحابي فإنهم جنوا وما سلم منهم إلا أنا وحدي، وصار يظهر العقل العظيم والسكون، وهو يضحكون منه وهو لا يشعر بهم، ويعتقد أنه سالم مما أصاب أصحابه، وهو على تلك الحالة لا يفكر فيهم ولا يلتفت إليهم.


وأخبرني جماعة مما كانوا عنده قبل وصولنا إليه أنه قدم عليه الأديب نظام الدين أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف بن مسعود القيسي القرطبي المعروف بابن خروف الشاعر المعروف، فكتب إليه رسالة، وفي أولها أبيات يستجديه فروة قرظ، وهي:

بهاء الـدين والـدينـا

 

ونور المجد والحسب

طلبت مخافة الأنـوا

 

ء من نعماك جلد أبي

وفضلك عالـمٌ أنـي

 

خروفٌ بارع الأدب

حلبت الدهر أشطـره

 

وفي حلبٍ صفا حلبي

 

- ذو الحسب الباهر، والنسب الزاهر، يسحب ذيول سيراء السراء، ويحب النحاة من أجل الفراء، ويمن على الخروف النبيه، بجلد أبيه، قانىء الصباغ، قريب عهدٍ بالدباغ، ما ضل طالب قرظه ولا ضاع، بل ذاع ثناء صانعه وضاع، أثيث خمائل الصوف، يهزأ من الرياح بكل هو جاء عصوف، إذا طهر إهابه، يخافه البرد ويهابه، ما في الثياب له ضريب، إذا نزل الجليد والضريب، ولا في اللباس له نظير، إذا عري من ورقه الغصن النضير، لا كطيلسان ابن حرب، ولا جلد عمرو الممزق بالضرب، كأنه من جلد حمل الجرباء، الذي يراعي البدر والنجم، لا من جلد السخلة الجرباء التي ترعى الشجر والنجم، فرجيّ النوع، أرجي الضوع، ليكون تارة لحافاً وتارة برداً، وهو في الحالين يحيى حراً ويميت برداً، لازال مهديه سعيداً، ينجز للأولياء وعداً وللأعداء عيداً، إن شاء الله تعالى، والسلام -.


قلت: وقد ذكرت في ترجمة أبي الفتح محمد سبط ابن التعاويذي رسالة كتبها إلى عماد الدين الكاتب الأصفهاني المقدم ذكره يطلب منه فروة قرظ أيضاً، وكل واحدةٍ من الرسالتين بديعة في بابها.


وفي هذه الرسالة كلام يحتاج إلى إيضاح، وهو قوله - لا كطيلسان ابن حرب - وهو مثل مشهور بين الأدباء، فإذا كان الشيء بالياً شبهوه بطيلسان ابن حرب، ولذلك سبب لابد من ذكره، وهو أن أحمد بن حرب ابن أخي يزيد المهلبي أعطى أبا علي إسماعيل بن إبراهيم بن حمدويه البصري الحمدوي، الشاعر الأديب، طيلساناً خليعاً، فعمل فيه الحمدوي مقاطيع عديدة ظريفة سارت عنه وتناقلتها الرواة، فمن ذلك قوله من أبيات:

يا بن حرب كسوتني طيلساناً

 

ملّ من صحبة الزمان فصدّا

طال ترداده إلى الرفو حتـى

 

لو بعثناه وحده لـتـهـدى

 

وقوله أيضاً من أبيات:

لقد حالف الرفاء حتى كأنه

 

يحاول منه أن يعلمه الرفوا

 

وقوله أيضاً:

يا ابن حرب كسوتني طيلساناً

 

أنحلته الأزمان فهو سـقـيم

فإذا ما رفوته قال سـبـحـا

 

نك محيي العظام وهي رميم

 

وقوله أيضاً:

يا ابن حرب أطلت وتري برفـوى

 

طيلساناً قد كنت عـنـه غـنـيا

فهو في الرفو آل فرعون في العر

 

ض على النار بكـرة وعـشـيا

 

وله فيه أيضاً:

رأينا طيلسانك يا ابن حـرب

 

يزيد المرء ذا الضعة اتضاعا

إذا الرفاء أصلح منه بعضـاً

 

تداعى بعضه الباقي انصداعا

يسلّم صاحبي فيقـدّ شـبـراً

 

به وأقدّ فـي ردّي ذراعـا

أجـيل الـطـرف فـي طــرفـــيه طـــولاً

 

وعــرضـــاً مـــا أرى إلا رقـــاعـــا

فلـسـت أشـــك أن قـــد كـــان دهـــراً

 

لنـوحٍ فـي سـفـينـــتـــه شـــراعـــا

وقـد غـنـيت إذ أبـــصـــرت مـــنـــه

 

بقـاياه عـلـى كـتـــفـــي تـــداعـــى

قفي قبل التفرق يا ضباعاولا يك موقف منك الوداعا

 

 

 

وقال فيه أيضاً، وكتبها إلى بعض الرؤساء:

دعني أبكي كسوتي إذا ودّعت

 

فلأزمعن على البكا إذ أزمعت

يا ابن الحسين أما ترى دراعتي

 

سملاً تردّت بالبلى وتدرعـت

فيها من التمزق مـا لـو أنـه

 

مرت بها ريح الصبا لتقشعت

تحكي تخرق طيلساني إنـهـا

 

منه تعلمت البلى فتضعضعت

لا فرّج الرحمن عـنـه إنـه

 

أعدى ثيابي كلها فتقطـعـت

فلتحمد الله الجبـال فـإنـهـا

 

لو قارنته تخشعت وتصدعـت

 

وله فيه أيضاً:

يا ابن حرب كسوتني طيلسانا

 

يُزرع الرفو فيه وهو سباخ

مات رفاؤه ومـات بـفـوه

 

وبدا الشيب في بينهم وشاخوا

 

وقال فيه أيضاً:

طيلسانٌ لو كان لفظاً إذن مـا

 

شك خلقٌ في أنه بـهـتـان

فهو كالطور إذا تجلى له الله

 

فدكـت قـواه والأركــان

كم رفوناه إذ تمزق حـتـى

 

بقي الرفو وانقضى الطيلسان

 

وله فيه أيضاً:

يا ابن حرب إنـي أرى فـي زوايا

 

بيتنا مثل من كسوت جـمـاعـه

طيلسانٌ رفـوتـه ورفـوت الـر

 

فو منه وقد رقـعـت رقـاعـه

فأطاع البلى فـصـار خـلـيعـاً

 

ليس يعطي الرفاء في الرفو طاعه

فإذا ســائلٌ رآنـــي فـــيه

 

ظن أني فتىً من أهل الصنـاعـه

 

وله فيه أيضاً:

قل لابن حربٍ طـيلـسـا

 

نك قوم نوح منـه أحـدث

هو طـيلـسـانٌ لـم يزل

 

عمن مضى من قبل يورث

فإذا العـيون لـحـظـتـه

 

فكأنه باللـحـظ يحـرث

يودي إذا لــم أرفـــه

 

فإذا رفوت فليس يلـبـث

كالكلب إن تحمـل عـلـي

 

ه الدهر أو تتركه يلهـث

 

ويقال إنه عمل في هذا الطيلسان مائتي مقطوع، في كل مقطوعة معنى بديع.


وكان الأصل الذي حمل الحمدوي المذكور على عمل هذه المقاطيع، أنه وقف على أبيات عملها أبو حمران السلمي، بضم الحاء المهملة، في طيلسانه، وكان قد أخلق حتى بلي، فقال فيه:

يا طيلسان أبي حمران قد برمت

 

منك الحياة فما تلتذ بالعـمـر

في كل يومـين رفـاء يجـدده

 

هيهات يتفع تجديدٌ مع الكبـر

إذا ارتداه لعيدٍ أو لجمـعـتـه

 

تنكب الناس لا يبلى من النظر

 

وهذا البيت الثالث أخذه من قول النظام، بفتح النون وتشديد الظاء المعجمة، أبي إسحاق إبراهيم بن سيار البلخي المتكلم المعتزلي في وصف غلام رقيق البشرة:

رقّ فلو بُزت سرابيله

 

علقه الجو من اللطف

يجرحه الناس بألحاظهم

 

ويشتكي الإيماء بالكف

 

وأنشدني بعض الأدباء بمدينة الموصل في شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة في هذا المعنى لبعض الشعراء:

توهمها طرفي فأصبح خـدهـا

 

وفيه مكان الوهم من نظري أثر

وصافحها قلبي فأدمى بنانـهـا

 

فمن لمس قلبي في أناملها عقر

 

وأنشدني الشيخ أيدمر الصوفي المسمّى إبراهيم لنفسه دوبيت في هذا المعنى:

كلفت صبا العراق لما خطرت

 

أن تحمل لي تحيةً ما قـدرت

قالت لي خيفتي على وجنـتـيه

 

إن جزت بها جرحتها فاعتذرت

 

ولبعض الأدباء الفقراء من جملة أبيات شكا فيها رقة حاله ورثاثة ثيابه، ما يقرب من هذا المعنى، وهو قوله:

ولي ثيابٌ رثاثٌ لست أغسلـهـا

 

أخاف أعصرها تجري مع الماء

وقد قيل في هذا المعنى شيء كبير، والاختصار أولى والله أعلم.

وأما قوله: ولا جلد عمرو الممزق بالضرب، فيريد قول النحاة: ضرب زيداً عمراً، فإنهم أبداً يستعملون هذا المثال ولا يمثلون بغيره، فكأنهم يمزقون جلده بكثرة الضرب. وكان القاضي أبو المحاسن المذكور يسلك طريق البغاددة في ترتيبهم وأوضاعهم وحتى إنه كان يلبس ملبوسهم، والرؤساء الذين يترددون إليه كانوا ينزلون عن دوابهم على قدر أقدارهم، لكل واحد منهم مكان معين لا يتعداه.

ثم إنه تجهز إلى الديار المصرية لإحضار ابنة الملك الكامل ابن الملك العادل للملك العزيز صاحب حلب، وكان قد عقد نكاحه عليها، فسافر في أول سنة تسع وعشرين أواخر سنة ثمان وعشرين وستمائة، وعاد وقد جاء بها في شهر رمضان من السنة. ولما وصل كان قد استقل الملك العزيز بنفسه ورفعوا عنه الحجر، ونزل الأتابك طغرل من القلعة إلى داره تحت القلعة، واستولى على الملك العزيز جماعة من الشباب الذين كانوا يعاشرونه ويجالسونه، فاشتغل بهم، ولم ير القاضي أبو المحاسن وجهاً يرتضيه، فلازم داره إلى حين وفاته، وهو باقٍ على الحكم وإقطاعه جارٍ عليه، غاية ما في الباب أنه لم يبق له حديث في الدولة، ولا كانوا يراجعونه في الأمور، فصار يفتح بابه لإسماع الحديث كل يوم بين الصلاتين، وظهر عليه الخرف بحيث إنه صار إذا جاءه الإنسان لا يعرفه، وإذا عاد قام يسأل عنه ولا يعرفه، واستمر على هذه الحال مديدة، ثم مرض أياماً قلائل وتوفي يوم الأربعاء رابع عشر صفر سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، رحمه الله تعالى، بحلب، ودفن في التربة المقدم ذكرها، وحضرت الصلاة عليه ودفنه وما جرى بعد ذلك.

وصنف كتاب - ملجأ الحكام عند التباس الأحكام - يتعلق بالأقضية في مجلدين، وكتاب - دلائل الأحكام - تكلم فيه على الأحاديث المستنبط منها الأحكام في مجلدين، وكتاب - الموجز الباهر - في الفقه، وغير ذلك، وكتاب - سيرة صلاح الدين ابن أيوب -، رحمه الله تعالى.

وجعل داره خانقاه للصوفية، لأنه لم يكن له وارث، ولازم الفقهاء والقراء تربته مدة طويلة، يقرأون عند قبره. وكان قد قرر قدام كلّ واحدٍ من الشباكين المذكورين اللذين للتربة سبة قراء، وكان غرضه أن يقرأ عنده كل ليلة ختمة كاملة، فكان كل واحد من القراء الأربعة عشر يقرأ نصف سبع بعد صلاة العشاء الآخرة. وفارقت حلب متوجهاً إلى الديار المصرية في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وستمائة، والأمور جارية على هذه الأوضاع، ثم بعد ذلك تغيرت تلك الأمور وانتفضت قواعدها وزال جميع ذلك على ما بلغني.

وتوفي الشيخ نجم الدين ابن الخباز المذكور في السابع من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وستمائة بحلب، ودفن ظاهرها خارج باب أربعين، وحضرت الصلاة عليه ودفنه، رحمه الله تعالى. وكان مولده في التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وخمسمائة بالموصل.

وتوفي الأتابك شهاب الدين طغرل المذكور ليلة الاثنين الحادية عشرة من محرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة بحلب، ودفن بمدرسته الحنفية خارج باب أربعين، وكان خادماً أرمني الجنس أبيض، حسن السيرة محمود الطريقة، وحضرت الصلاة عليه ودفنه. رحمه الله تعالى.
وتوفي أبو الحسن ابن خروف الأديب المذكور بحلب في سنة أربع وستمائة متردياً في جبٍّ.