الموفق بن الخلال الكاتب

أبو الحجاج يوسف بن محمد المعروف بابن الخلال، الملقب بالموفق، صاحب ديوان الإنشاء بمصر في دولة الحافظ أبي الميمون عبد المجيد العبيدي - المقدم ذكره - ومن بعده؛ قال عماد الدين الكاتب الأصبهاني في كتاب "الخريدة" في حقه: "هو ناظر مصر وإنسان ناظره، وجامع مفاخره، وكان إليه الإنشاء، وله قوة على الترسل يكتب كما يشاء، عاش كثيراً وعطل في آخر عمره وأضر، ولزم بيته إلى أن تعوض منه القبر، وتوفي بعد ملك الملك الناصر مصر بثلاث أو أربع سنين" وذكر له عدة مقاطيع من الشعر نورد شيئاً منها بعد هذا إن شاء الله تعالى.

وذكره ضياء الدين أبو الفتح نصر الله المعروف بابن الأثير الجزري ثم الموصلي - المقدم ذكره - في الفصل الأول من كتابه الذي سماه "الوشي المرقوم في حل المنظوم" فقال: حدثني القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني، رحمه الله تعالى، بمدينة دمشق في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وكان إذ ذاك كاتب الدولة الصلاحية فقال: كان فن الكتابة بمصر في زمن الدولة العلوية غضاً طرياً، وكان لا يخلو ديوان المكاتبات من رأس يرأس مكاناً وبياناً، ويقيم لسلطانه بقلمه سلطاناً، وكان من العادة أن كلا من أرباب الدواوين إذا نشأ له ولد وشدا شيئاً من علم الأدب أحضره إلى ديوان المكاتبات ليتعلم فن الكتابة ويتدرب ويرى ويسمع قال: فأرسلني والدي، وكان إذ ذاك قاضياً بثغر عسقلان، إلى الديار المصرية في أيام الحافظ، وهو أحد خلفائها، وأمرني بالمصير إلى ديوان المكاتبات، وكان الذي يرأس به في تلك الأيام رجلاً يقال له "ابن الخلال"؛ فلما حضرت الديوان ومثلت بين يديه وعرفته من أنا وما طلبتي، رحب بي وسهل، ثم قال لي: ما الذي أعددت لفن الكتابة من الآلات؟ فقلت: ليس عندي شيء سوى أني أحفظ القرآن الكريم، وكتاب " الحماسة " فقال: في هذا بلاغ، ثم أمرني بملازمته، فلما ترددت إليه وتدربت بين يديه، أمرني بعد ذلك أن أحل شعر الحماسة، فحللته من أوله إلى آخره، ثم أمرني أن أحله مرة ثانية فحللته؛ انتهى ما ذكره ابن الأثير.

قلت: وبعد أن نقلت ما قاله ضياء الدين بن الأثير على هذه الصورة، اجتمع بي من له عناية بالأدب خصوصاً هذا الفن. وهو من أعرف الناس بأحوال القاضي الفاضل، وقال لي: هذا الذي ذكره ابن الأثير ما يمكن تصحيحه ولعله قد غلط في النقل، فإن القاضي الفاضل لم يدخل إلى الديار المصرية إلا في أيام الظافر ابن الحافظ، وكان وصوله إليها مع أبيه في أمر يختص بهم. ثم إني وجدت في بعض تعاليقي بخطي، وما أدري من أين نقلته، أن القاضي الأشرف والد القاضي الفاضل كان من أهل عسقلان، وكان ينوب في الحكم والنظر بمدينة بيسان، فدخل إلى مصر في زمان الظافر بن الحافظ لكلام جرى بينه وبين والي الناحية من أجل كند كبير كان عندهم له قيمة كبيرة، فداجى الوالي في حقه واطلقه، فاستدعي الوالي إلى مصر لذلك وطولب بمال طائل، فاحتمى ببعض أمراء الدولة، وجعلوا الأقاويل في حق القاضي الأشرف، فاستدعي وصودر إلى أن لم يبق له شي، ولم يكن معه من الأولاد سوى القاضي الفاضل، فحمل على قلبه وتوفي بالقاهرة ليلة الأحد حادي عشر شهر ربيع الأول من سنة ست وأربعين وخمسمائة، ودفن بسفح المقطم. ثم توجه القاضي الفاضل إلى ثغر الإسكندرية، وحضر عند ابن حديد قاضي البلد وناظره، فعرفه بوالده، فعرفه بالسمعة واستكتبه، وأخذ الفرنج عسقلان فحضر إخوته إليه. وكانت مكاتبات ابن حديد ترد إلى مصر بخطه، وهي في غاية البلاغة، فحسده كتاب الإنشاء بها على فضله وخافوا من تقدمه عليهم، فسعوا إلى الظافر به فقالوا: إنه قصر في المكاتبة، وكان صاحب ديوان الإنشاء القاضي الأثير ابن بنان، فيحكى أنه دخل على الظافر فقال له: تكتب إلى ابن حديد بقطع يد كاتبه، فتعصب له ابن بنان وقال: يا مولانا هذا الرجل ما منه تقصير، وإنما حسده هؤلاء الكتاب فسعوا به ليؤذيه مولانا، قال له الظافر: فتكتب إلى ابن حديد ليرسله إلينا ويكتب لنا.

قال ابن بنان: وكنت بعد ذلك في مجلس الظافر، فرأيت القاضي الفاضل وقد حضر وهو قائم بين يديه، ثم استخدمه، والله أعلم.
وقال العماد في - الخريدة -؛ أنشدني مرهف بن أسامة بن منقذ قال، أنشدني الموفق بن الخلال لنفسه من قصيدة:

عذبت ليال بالعـذيب حـوالـي

 

وخلت مواقف بالوصال خوالي

ومضت لذاذات تقضى ذكرهـا

 

تصبي الخلي وتستهيم السالـي

وجلت موردة الخدود فأوثقـت

 

في الصبوة الخالي بحسن الخال

قالوا سراة بني هلال أصلـهـا

 

صدقوا كذاك البدر فرع هلال

 

قال العماد في "الخريدة" أيضاً: ونقلت من كتاب "جنان الجنان ورياض الأذهان" - قلت: وهو تأليف الرشيد بن الزبير المقدم ذكره - من شعر ابن الخلال قوله:

وأغن سيف لحاظـه

 

يفري الحسام بحـده

فضح الصوارم واللدا

 

ن بقـده وبـقـده

عجب الورى لما حيي

 

ت وقد منيت ببعـده

وبقاء جسمي ناحـلاً

 

يصلى بوقدة صـده

كبقاء عنبـر خـالـه

 

في نار صفحة خده

 

وقوله:

أما اللسان فقد أخفى وقـد كـتـمـا

 

لو أمكن الجفن كف الدمع حين همى

أصبتم بسهام اللـحـظ مـهـجـتـه

 

فهل يلام إذا أجرى الدمـوع دمـا؟

قد صار بالسقم من تعذيبكم عـلـمـاً

 

ولم يبح بالذي من جوركم عـلـمـا

فما على صامت أبـدى لـصـدكـم

 

في كل جارحة منه السقـام فـمـا

 

وأورد له في الشمعة:

وصحيحة بيضاء تطلع في الدجى

 

صبحاً وتشفي الناظرين بدائهـا

شابت ذوائبها أوان شـبـابـهـا

 

واسود مفرقها أوان فـنـائهـا

كالعين في طبقاتها ودموعـهـا

 

وسوادها وبياضهـا وضـيائهـا

 

وذكر العماد في "الخريدة" أيضاً في ترجمة القاضي أبي المعالي عبد العزيز بن الحسين بن الجباب أبياتاً كتبها ابن الجباب المذكور إلى الرشيد بن الزبير في نكبة جرت للموفق بن الخلال المذكور، وقال العماد: كان خاله - ولم يذكر أيهما خال الآخر - وكان ابن الجباب قد حصل له بسبب نكبة ابن الخلال صداع، والأبيات المشار إليها:

تسمع مقالي يا ابن الزبـير

 

فأنت خليق بأن تسمـعـه

بلينا بذي نـسـب شـابـك

 

قليل الجدى في زمان الدعه

إذا ناله الخير لـم نـرجـه

 

وإن صفعوه صفعنا معـه

 

وهذا من قول حصين بن خصفة السعدي الخارجي يخاطب قطري بن الفجاءة رئيس الخوارج - المقدم ذكره -:

وأنت الذي لا نستطيع فراقه

 

حياتك لا نفع وموتك ضائر

 

ثم إني كشفت عن قول العماد: كان خاله، ولم يبينه، فوجدت ابن الخلال المذكور خال ابن الجباب المذكور. وذكر العماد أيضاً في كتاب "السيل والذيل" الذي جعله ذيلاً على كتاب "الخريدة" ابن الخلال أيضاً، وأورد له:

وغزال نـار وجـنـتـه

 

أذكت النيران في كبـدي

وله طرف لـواحـظـه

 

نصرت شوقي على جلدي

قذفت عينـي سـوالـفـه

 

فتوارت منـه بـالـزرد

والبيت الأخير مأخوذ من قول أبي محمد الحسن بن جكينا البغدادي الشاعر المشهور:

طرفك يرمي قلبي بأسهمه

 

فما لخديك تلبس الـزردا

وقد روي لغيره أيضاً، والله اعلم.
ثم وجدت في كتاب "خريدة القصر" تأليف عماد الدين الكاتب الأصفهاني لعبد السلام بن الجكر المعروف بابن الصواف الواسطي:

لو كان أمري إلي أو بيدي

 

أعددت لي قبل بينك العددا

طرفك يرمي قلبي بأسهمه

 

فما لخديك تلبس الـزردا

ريقته الشهد والدليل علـى

 

ذلك نمل بخده صـعـدا

وذكر أبو الحسن علي بن ظافر الأزدي المصري في كتاب "بدائع البدائه" أن أبا القاسم بن هانيء الشاعر المتأخر هجا ابن الخلال المذكور، وبلغه هجوه فأضمر له حقداً، واتفق بعض المواسم التي جرت عادة ملوك مصر بالحضور فيه لاستماع المدائح، فجلس الحافظ أبو الميمون عبد المجيد ملك مصر إذ ذاك، فأنشده الشعراء، وانتهت النوبة إلى ابن هانىء المذكور، فأنشد وأجاد فيما قاله، فقال الحافظ للموفق المذكور: كيف تسمع؟ فأثنى عليه واستجاد شعره وبالغ في وصفه، ثم قال له: ولو لم يكن له ما يمت به إلا انتسابه إلى أبي القاسم بن هانىء شاعر هذه الدولة ومظهر مفاخرها وناظم مآثرها، لولا بيت أظهره منه الضجر عند دخوله هذه البلاد، فقال له الحافظ: ما هو؟ فتحرج من إنشاده، فأبى الحافظ إلا أن ينشده، وفي أثناء ذلك صنع بيتاً، وهو:

تباً لمصر فقد صارت خلافتها

 

عظماً تنقل من كلب إلى كلب

فعظم ذلك على الحافظ، وقطع صلته وكاد يفرط في عقوبته، والله أعلم.

ولم يزل ابن الخلال بديوان الإنشاء إلى أن طعن في السن وعجز عن الحركة، فانقطع في بيته. ويقال إن القاضي كان يرعى له حق الصحبة والتعليم، فكان يجري عليه ما يحتاج إليه إلى أن مات في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة ست وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.