يونس بن عبد الأعلى الصدفي

أبو موسى يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة بن حفص بن حيان، الصدفي المصري الفقيه الشافعي؛ أحد أصحاب الشافعي رضي الله عنه، والمكثرين في الرواية عنه والملازمة له، وكان كثير الورع متين الدين، وكان علامة في علم الأخبار والصحيح والسقيم، لم يشاركه في زمانه في هذا أحد - وقد سبق في هذا الكتاب ذكر حفيده أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس، وهو المنجم المشهور، صاحب الزيج، وكل واحد منهما إمام في فنه -.

وأخذ يونس القراءة عرضا عن ورش وسقلاب بن شيبة ومعلى بن دحية، عن نافع وعن علي بن أبي كيسة عن سليم عن حمزة بن حبيب الزيات. وسمع سفيان بن عيينة وعبد الله بن وهب المصري. وروى القراءة عنه مواس بن سهل ومحمد بن الربيع وأسامة بن أحمد ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم. وكان محدثاً جليلاً.

وذكره أبو عبد الله القضاعي في كتاب "خطط مصر"، فقال: كان من أفضل أهل زمانه وكان من العقلاء، يروى عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: ما رأيت بمصر أعقل من يونس بن عبد الأعلى. وصحب الشافعي وأخذ عنه الحديث والفقه، وحدث بهما عنه جماعة، وله حبس في ديوان الحكم وعقب، وله دار مشهورة في خطة الصدف مكتوب عليها اسمه، وتاريخها سنة خمس عشرة ومائتين، وكان أحد الشهود بمصر، أقام شاهداً ستين سنة. وذكر غير القضاعي أن يونس بن عبد الأعلى روى عنه الإمام مسلم بن الحجاج القشيري وأبو عبد الرحمن النسائي وأبو عبد الله بن ماجه وغيرهم.

وقال أبو الحسن ابن زولاق في كتاب "أخبار قضاة مصر": إن القاضي بكار بن قتيبة لما تولى قضاء مصر وتوجه إليها من بغداد لقي في طريقه محمد بن الليث، قاضي مصر كان قبله، بالحفار خارجاً من مصر إلى العراق مصروفاً، فقال له بكار: أنا رجل غريب، وأنت قد عرفت البلد فدلني على من أشاوره وأسكن إليه، فقال له: عليك برجلين: أحدهما عاقل وهو يونس بن عبد الأعلى، فإني سعيت في دمه فقدر علي فحقن دمي، والآخر أبو هارون موسى بن عبد الرحمن بن القاسم فإنه رجل زاهد. فقال له بكار: صف لي الرجلين فقال له: أما يونس فرجل طوال أبيض، ووصفه ووصف موسى. فلما دخل بكار مصر ودخل الناس إليه دخل شيخ فيه صفة يونس، فرفعه بكار وأقبل يحدثه، ويقول: يا أبا موسى في كل حديثه، فبينا بكار كذلك إذ قيل له: قد جاء يونس، فأقبل على الرجل وقال له: يا هذا من أنت؟ وما سكوتك كذا لو أفشيت إليك سراً لي! ثم دخل يونس فأكرمه ورفعه، وأتاه موسى بن عبد الرحمن فاختص بهما وأخذ رأيهما.

وقيل أن موسى المذكور اختص به القاضي بكار، وكان يتبرك به لزهده، فقال له يوماً: يا أبا هارون من أين المعيشة؟ قال: من وقف وقفة أبي، فقال له بكار: أيكفيك؟ قال: قد تكفيت به، وقد سألني القاضي فأريد أن أسأله، قال: سل، قال: هل ركب القاضي دينٌ بالبصرة حتى تولى بسببه القضاء؟ قال: لا، قال: فهل رزق ولداً أحوجه إلى ذلك، قال: لا، ما نكحت قط، قال: فهل لك عيال كثيرة؟ قال: لا، قال: فهل أجبرك السلطان وعرض عليك العذاب وخوفك؟ قال: لا، قال: فضربت آباط الإبل من البصرة إلى مصر لغير حاجة ولا ضرورة، لله علي لا دخلت عليك أبداً. فقال: يا أبا هارون أقلني، قال: أنت بدأت بالمسألة، ولو سكت لسكت. ثم انصرف عنه ولم يعد إليه بعدها.

وقال يونس: رأيت في المنام قائلاً يقول لي: إن اسم الله الأكبر "لا إله إلا الله".

ونقلت من كتاب "المنتظم في أخبار من سكن المقطم" قال في ترجمة يونس المذكور: ومن حكاياته التي حكاها عن غيره، أن رجلاً جاء إلى نحاس، فقال له: أسلفني ألف دينار إلى أجل، فقال له النحاس: من يضمن المبلغ؟ قال: الله تعالى، فأعطاه ألف دينار، فسافر بها الرجل يتجر، فلما بلغ الأجل أراد الخروج إليه، فحبسه عدم الريح، فعمل تابوتاً وجعل فيه ألف دينار، وأغلقه وسمره وألقاه في البحر، فقال: اللهم هذا الذي ضمنته لي، فخرج صاحب المال ينتظر قدوم الذي معه المال، فرأى سواداً في البحر فقال: ايتوني بهذا، فأتي بالتابوت ففتحه، فإذا فيه ألف دينار.

ثم إن الرجل جمع ألفاً بعد ذلك، وطابت الريح، فجاء إلى النحاس وسلم عليه، فقال له النحاس: من أنت؟ فقال: أنا صاحب الألف، هذه ألفك، فقال النحاس: لا أقبلها منك حتى تخبرني ما صنعت بها، فأخبره بالذي صنع، وأن الريح لم تطب، فقال له النحاس: قد أدى الله عز وجل عنك الألف ووصلت.

وله أخبار كثيرة، وروايات مأثورة. وكان يونس يروي للشافعي رضي الله عنه:

ما حك جلدك مثل ظفرك

 

فتول أنت جميع أمـرك

وإذا قصـدت لـحـاجةٍ

 

فاقصد لمعترفٍ بقدرك

وقال يونس: قال لي الشافعي رضي الله عنه: يا يونس، دخلت بغداد؟ قلت: لا، قال: ما رأيت الدنيا ولا رأيت الناس.

وقال يونس: سمعت من الشافعي كلمة لا تسمع إلا من مثله، وهي "رضى الناس غاية لا تدرك، فانظر ما فيه صلاح نفسك في أمر دينك ودنياك فالزمه".

وقال علي بن قديد: كان يونس بن عبد الأعلى يحفظ الحديث ويقوم به. وذكره أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسوي فقال: هو ثقة؛ وقال غيره: ولد يونس في ذي الحجة سنة سبعين ومائة، وتوفي يوم الثلاثاء ليومين بقيا من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين، وهي السنة التي مات فيها المزني رحمه الله تعالى، وكانت وفاته بمصر، ودفن بمقابر الصدف، وقبره مشهور بالقرافة.

وأما أبوه عبد الأعلى فإنه يكنى أبا سلمة، وكان رجلاً صالحاً، ومن كلامه: من اشترى ما لا يحتاج إليه باع ما يحتاج إليه، وقال ولده يونس: والأمر عندي كما قال. وتوفي عبد الأعلى المذكور في المحرم سنة إحدى ومائتين، ومولده سنة إحدى وعشرين ومائة. وأما ابنه أبو الحسن أحمد بن يونس، والد أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد صاحب "تاريخ مصر"، فإن ابنه أبا سعيد عبد الرحمن بن أحمد ذكر في تاريخه أنه ولد في ذي القعدة سنة أربعين ومائتين، وتوفي يوم الجمعة أول يوم من رجب سنة اثنتين وثلثمائة، وقال: هو عديد للصدف، وليس من أنفس الصدف، ولا من مواليهم.

والصدفي: بفتح الصاد والدال المهملتين وبعدهما فاء. هذه النسبة إلى الصدف، بكسر الدال، وذكر السهيلي أنه بكسر الدال وفتحها، وإنما فتحوا الدال قي النسب مع كسرها في غير النسب كي لا يوالوا بين كسرتين قبل ياءين كما قالوا في النسبة إلى النمر نمري وغير ذلك. واختلفوا في اسم الصدف فقيل: هو مالك بن سهيل بن عمرو بن قيس، هكذا قاله القضاعي في كتاب -الخطط - وزاد السمعاني في كتاب "الأنساب" على هذا النسب، فقال: الصدف بن سهيل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حيدان بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع بن حمير بن سبأ، وقال الدارقطني: واسم الصدف شهال بن دعمي بن زياد بن حضرموت، وقال الحازمي في كتاب "العجالة في النسب": هو عمرو بن مالك والله أعلم. وقال القضاعي: دعوتهم مع كندة، وإنما سمي الصدف لأنه صدف بوجهه عن قومه حين أتاهم سيل العرم، فأجمعوا على ردمه، فصدف عنهم بوجهه تلقاء حضرموت فسمي الصدف. وقيل إنما سمي الصدف لأنه كان رجلاً شجاعاً لا يذعن لأحد من العرب، فبعث إليه بعض ملوك غسان رسولاً ليقدم به عليه. فعدا على الرسول فقتله وخرج هارباً، فبعث الملك إليه رجلاً في خيل عظيمة، فكان كلما جاء حياً من أحياء العرب سأل عن الصدف، فيقولون: صدف عنا، وما رأينا له وجهاً، فسمي الصدف من يومئذ، ثم لحق بكندة فنزل فيهم. قال أرباب علم النسب: أكثر الصدف بمصر وبلاد المغرب، والله أعلم.

قلت: قد خرجنا عن المقصود لكنه ما يخلو عن فائدة.