البياسي صاحب الحماسة

أبو الحجاج يوسف بن محمد بن إبراهيم الأنصاري البياسي، أحد فضلاء الأندلس وحفاظها المتقنين؛ كان أديباً بارعاً فاضلاً، مطلعاً على أقسام كلام العرب من النظم والنثر، وراوياً لوقائعها وحروبها وأيامها، بلغني أنه كان يحفظ كتاب " الحماسة " تأليف أبي تمام الطائي، والأشعار الستة، وديوان أبي تمام المذكور، وديوان أبي الطيب المتنبي، و" سقط الزند " ديوان أبي العلاء المعري، إلى غير ذلك من الأشعار من شعراء الجاهلية والإسلام.

وتنقل في بلاد الأندلس وطاف بأكثرها. ولما قدم من جزيرة الأندلس إلى مدينة تونس، جمع للأمير أبي زكريا يحيى بن أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر، صاحب إفريقية، رحمهم الله أجمعين، كتاباً سماه " الإعلام بالحروب الواقعة في صدر الإسلام " ابتدأ فيه بمقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وختمه بخروج الوليد بن طريف الشاري على هارون الرشيد ببلاد الجزيرة الفراتية - وقد ذكرت ترجمة الوليد المذكور وخبره وما جرى له ومقتله على يد يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني وذكرت يزيد المذكور في ترجمة مستقلة أيضاً قبل هذا، واستوفيت القصة في الترجمتين - ورأيت هذا الكتاب وطالعته، وهو في مجلدين، أجاد في تصنيفه وكلامه فيه كلام عارف بهذا الفن.

ورأيت له أيضاً كتاب " الحماسة " في مجلدين، وقد قرئت النسخة عليه وعليها خطه، كتبه في أواخر شهر ربيع الآخر سنة خمسين وستمائة، وقال في آخر الكتاب: وكان الفراغ من تأليفه وترتيبه بمدينة تونس، حرسها الله تعالى،في شوال سنة ست وأربعين وستمائة؛ ونقلت من أوله بعد الحمدلة ما مثاله: أما بعد فإني قد كنت في أوان حداثتي وزمان شبيبتي، ذا ولوع بالأدب ومحبة في كلام العرب، ولم أزل متتبعاً لمعانيه، ومفتشاً عن قواعده ومبانيه، إلى أن حصلت لي جملة منه لا يسع الطالب المجتهد جهلها، ولا يصلح بالناظر في هذا العلم إلا أن يكون عنده مثلها، وحملتني المحبة في ذلك العلم والولوع به على أن جمعت مما اخترته واستحسنته من أشعار العرب: جاهليها ومخضرميها وإسلاميها ومولدها، ومن أشعار المحدثين من أهل المشرق والأندلس وغيرهم، ما تحسن به المحاضرة وتجمل عليه المناظرة. ثم إني رأيت أن بقاءها دون أن تدخل تحت قانون يجمعها، وديوان يؤلفها، مؤذن بذهابها ومؤدٍ إلى فسادها، فرأيت أن أضم مختارها وأجمع مستحسنها، تحت أبواب تقيد نافرها وتضم نادرها، ونظرت في ذلك، فلم أجد أقرب تبويبٍ، ولا أحسن ترتيبٍ، مما بوبه ورتبه أبو تمام حبيب بن أوس رحمه الله تعالى في كتابه المعروف بكتاب "الحماسة" وحسن الإقتداء به والتوخي لمذهبه، لتقدمه في هذه الصناعة، وانفراده منها بأوفر حظ وأنفس بضاعة، فاتبعت في ذلك مذهبه ونزعت منزعه، وقرنت الشعر بما يجانسه، ووصلته بما يناسبه ونقحت ذلك، واخترته على قدر استطاعتي، وبلوغ جهدي وطاقتي.

قلت: وأطال القول بعد هذا بما لا حاجة بنا إلى ذكره. ونقلت منه شيئاً، فمن ذلك ما ذكره في باب المراثي: قال أبو علي القالي البغدادي، أنشدنا أبو بكر بن دريد قال: أنشدنا أبو حاتم السجستاني:

ألا في سبيل اللـه مـاذا تـضـمـنـت

 

بطون الثرى واستودع البلـد الـقـفـر

بدور إذا الدنيا دجـت أشـرقـت بـهـم

 

وإن أجدبت يوماً فـأيديهـم الـقـطـر

فيا شامتاً بالموت لا تـشـتـمـن بـهـم

 

حياتـهـم فـخـرٌ ومـوتـهـم ذكـر

حياتهـم كـانـت لأعـدائهـم عـمـى

 

وموتهم للـفـاخـرين بـهـم فـخـر

أقاموا بظهر الأرض فاخضر عـودهـا

 

وصاروا ببطن الأرض فاستوحش الطهر

 

ونقلت من باب النسيب قول العباس بن الأحنف - المقدم ذكره -:

تحمل عظيم الذنب ممن تحـبـه

 

وإن كنت مظلوماً فقل أنا ظالـم

فإنك إن لم تغفر الذنب في الهوى

 

يفارقك من تهوى وأنفك راغـم

 

وقول الوأواء الدمشقي، هكذا قال، وغالب ظني أنها لأبي فراس بن حمدان، والله أعلم:

بالله ربكما عوجا على سكنـي

 

وعاتباه لعل العتب يعطـفـه

وعرضا بي وقولا في حديثكما

 

ما بال عبدك بالهجران تتلفـه

فإن تبسم قولاً في مـلاطـفةٍ

 

ما ضر لو بوصالٍ منك تسعفه

وإن بدا لكما من سيدي غضبٌ

 

فغالطاه وقولا ليس نعـرفـه

 

وقول المجنون:

تعلقت ليلى وهي بكرٌ صغـيرة

 

ولم يبد للأتراب من ثديها حجم

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا

 

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

 

البهم: الصغار من أولاد الضأن، الواحدة بهمة، بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء، وهذان البيتان يستدل بهما النجاة على انتصاب الحال من الفاعل والمفعول به معاً بلفظ واحد، فإن "صغيرين" انتصب على الحال من التاء في قوله "تعلقت" وهي فاعلة، ومن ليلى، وهي مفعولة، ومثله قول عنترة العبسي:

متى ما تلقني فردين ترجف

 

روانف أليتيك وتستطـارا

 

نصب "فردين" على الحال من ضمير الفاعل والمفعول في "تلقني"، ذكره ابن الأنباري في كتاب "أسرار العربية" في باب الحال.
وقال الوأواء الدمشقي أيضاً، ذكره في حماسته البياسي المذكور أيضاً:

وزائرٍ راع كل النـاس مـنـظـره

 

أحلى من الأمن عند الخائف الوجـل

ألقى على الليل لـيلاً مـن ذوائبـه

 

فهابه الصبح أن يبدو من الخـجـل

أراد بالقتل هجري فاستجـرت بـه

 

فاستل بالوصل روحي من يدي أجلي

فصرت فيه أمير العاشقـين فـقـد

 

صارت ولاية أهل العشق من قبلي

 

 وقال علي بن عطية البلنسي ابن الزقاق:

ومرتجة الأعطاف أما قوامـهـا

 

فلدنٌ وأمـا ردفـهـا فـرداح

ألمت فبات الليل من قصرٍ بهـا

 

يطير وما غير السرور جنـاح

وبت وقد زارت بأنـعـم لـيلةٍ

 

تعانقني حتى الصباح صـبـاح

على عاتقي من ساعديها حمـائلٌ

 

وفي خصرها من ساعديَّ وشاح

 

وقال أحمد بن الحسين بن خلف المعروف بابن البني اليعمري - قلت: هو المقدم ذكره في ترجمة يوسف بن عبد المؤمن صاحب المغرب - وكان قد أخرجه صاحب ميورقة،وسير في البحر، فساروا يومهم، فهبت عليهم الريح فردتهم فقال:

أحبتنا الأولى عتبوا عـلـينـا

 

فأقصونا وقد أزف الـوداع

لقد كنتم لنـا جـذلاً وأنـسـاً

 

فهل في العيش بعدكم انتفاع؟

أقول وقد صدرنا بـعـد يومٍ

 

أشوقٌ بالسـفـينة أم نـزاع

إذا طارت لنا حامت عليكـم

 

كأن قلوبنـا فـيهـا شـراع

 

وقال الواثق بالله وله فيه غناء:

ما كنت أعرف ما في البين من حزن

 

حتى تنادوا بأن قد جيء بالسـفـن

قامت تودعني والدمع يغـلـبـهـا

 

فجمجمت بعض ما قالت ولم تبـن

مالت علي تفدينـي وتـرشـفـنـي

 

كما يميل نسيم الريح بالـغـصـن

فأعرضت ثم قالت وهـي بـاكـية:

 

يا ليت معرفتـي إياك لـم تـكـن

 

وأورد في باب القرى والأضياف والفخر والمديح قول أبي الحسن جعفر بن إبراهيم بن الحاج اللورقي:

عجباً لمن طلب المحا

 

مد وهو يمنع ما لديه

ولبـاسـطٍ آمـالـه

 

للمجد لم يبسـط يديه

لم لا أحب الضيف أو

 

أرتاح من طرب إليه

والضيف يأكل رزقه

 

عندي ويحمدني عليه

 

ومما ينسب إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال حين كف بصره:

إن يأخذ الله من عيني نـورهـمـا

 

ففي لساني وقلبي منهـمـا نـور

قلبي ذكي وذهني غير ذي دخـلٍ

 

وفي فمي صارمٌ كالسيف مطرور

 

وذكر في باب الهجاء والعتاب وما يتعلق بهما لأبي العالية أحمد بن مالك الشامي:

أذم بغداد والـمـقـام بـهـا

 

من بعد ما خبرةٍ وتـجـريب

ما عند أملاكها لمـرتـقـبٍ

 

رفد ولا فرجةٌ لمـكـروب

خلوا سبيل العلى لـغـيرهـم

 

ونازعوا في الفسوق والحوب

يحتاج راجي النجاح عندهـم

 

إلى ثلاثٍ من بعد تـقـريب

كنوز قارون أن تكـون لـه

 

وعمر نوح وصـبـر أيوب

 

وأنشد أبو بكر محمد بن يحيى الصولي لأبي العطاف الكوفي صالح بن عبد الرحمن بن نشيط:

يابن الوليد أبـن لـنـا

 

إن البيان لـه حـدود

مالي أراك مـسـيبـاً

 

أين السلاسل والقـيود

أغلا الحديد بأرضكـم

 

أم ليس يضبطك الحديد

قلت: إلى هنا نقلت من كتاب " الحماسة " المذكور، وفيه كفاية، إذ كان الغرض إيراد شيء من أخبار هذا الرجل ليستدل به على معرفته بالشعر.

وكان مولده يوم الخميس الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. وتوفي يوم الأحد الرابع من ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وستمائة، بمدينة تونس، رحمه الله تعالى.

والبياسي: بفتح الباء الموحدة والياء المشددة المثناة من تحتها، هذه النسبة إلى بياسة، وهي مدينة كبيرة بالأندلس معدودة في كورة جيان، هكذا قاله ياقوت الحموي في كتابه " المشترك وضعا ".