أبو المحاسن الشواء

أبو المحاسن يوسف بن إسماعيل بن علي بن أحمد بن الحسين بن إبراهيم المعروف بالشواء، الملقب شهاب الدين، الكوفي الأصل الحلبي المولد والمنشأ والوفاة؛ كان أديباً فاضلاً متقناً لعلم العروض والقوافي شاعراً، يقع له في النظم معان بديعة في البيتين والثلاثة، وله ديوان شعر كبير يدخل في أربع مجلدات، وكان زيه على زي الحلبيين الأوائل في اللباس والعمامة المشقوقة. وكان كثير الملازمة لحلقة الشيخ تاج الدين أبي القاسم أحمد بن هبة الله بن سعد الله بن سعيد بن سعد بن مقلد المعروف بابن الجبراني الحلبي النحوي اللغوي الفاضل، وأكثر ما أخذ الأدب عنه وبصحبته انتفع، وعاشر التاج أبا الفتح مسعود بن أبي الفضل النقاش الحلبي الشاعر المشهور زماناً، وتخرج عليه في عمل الشعر.

وكان بيني وبين الشهاب الشواء مودة اكيده ومؤانسة كثيرة، ولنا اجتماعات في مجالس نتذاكر فيها الأدب، وأنشدني كثيراً من شعره، وما زال صاحبي منذ أواخر سنة ثلاث وثلاثين وستمائة إلى حين وفاته، وقبل ذلك كنت أراه قاعداً عند ابن الجبراني المذكور في موضع تصدره بجامع حلب، وكان يكثر التمشي في الجامع أيضاً على جاري عادتهم في ذلك كما يعملون في جامع دمشق، ولم يكن بيننا إذ ذاك معرفة. وكان حسن المحاورة مليح الإيراد مع السكون والتاني وجميل التأتي، وأول شيء أنشدني من شعره قوله:

هاتيك يا صاح ربا لـعـلـع

 

ناشدتك الله فعـرج مـعـي

وانزل بنا بين بيوت الـنـقـا

 

فقد غدت آهلة الـمـربـع

حتى نطيل اليوم وقفاً على ال

 

ساكن أو عطفاً على الموضع

 

 وأنشدني لنفسه أيضاً:

ومهفهف عني الزمـان بـخـده

 

فكساه ثوبي لـيلـه ونـهـاره

لا مهدت عذري محاسن وجهـه

 

إن غض عندي منه غض عذاره

 

وأنشدته يوماً في أثناء مناشدة جرت بيننا قول شرف الدين أبي المحاسن محمد المعروف بابن عنين الدمشقي - المقدم ذكره - في صدر جهان المعروف بابن مازه البخاري وقيل السرخسي:

مال ابن مازه دونه لعفـاتـه

 

خرط القتادة أو منال الفرقـد

مالٌ لزوم الجمع يمنع صرفه

 

في راحةٍ مثل المنادى المفرد

 

فقال: هذا ليس بجيد، فقلت له: ولم ذاك؟ فقال: ليس من شرط المنادى المفرد أن يكون مضموماً، ولابد، فقد يكون المنادى مفرداً ولا يكون مضموماً بأن يكون نكرة غير معين كما تقول: يا رجلاً، ولكن أنا أعمل في هذا شيئاً. ثم إننا اجتمعنا بعد ذلك في الجامع فقال: قد عملت في ذلك المعنى شيئاً فاسمعه، ثم أنشد:

لنا خـلـيل لـه خـلال

 

تعرب عن أصله الأخس

أضحت له مثل حيث كف

 

وددت لو أنها كـأمـس

فقلت له: وهذا أيضاً فيه كلام، فقال: وما هو؟ فقلت: حيث فيها لغات، فمن العرب من يبنيها على الضم، ومنهم من يبنيها على الفتح، ومنهم من بينيها على الكسر، وفيها لغات أخر غير هذه، وأما أمس فمنهم من بينيها على الكسر، ومنهم من يقول: إنها اسم معرب لكنه لا ينصرف، وأنشدوا على هذه اللغة:

لقد رأيت عجباً مذ أمـسـا

 

عجائزاً مثل السعالي خمساً

 

هذا إذا كانت معرفة، فأما إذا كانت نكرة فإنها معربة قولاً واحداً، فسكت.


وكان كثيراً ما يستعمل العربية في شعره، فمن ذلك قوله، ولا أدري هل أنشدنيه أم لا، فإنه أنشدني شيئاً كثيراً من شعره وما ضبطت كل ما أنشدني، وكذلك كل شيء أذكره بعد هذا لا أتحقق الحال في سماعي منه، فأورد مهملاً فمنه:

وكنا خمس عشرة في التئامٍ

 

على رغم الحسود بغير آفه

فقد أصبحت تنويناً وأضحى

 

حبيبي لا تفارقه الإضافـه

 

وله أيضاً في غلام أرسل أحد صدغيه وعقد الآخر:

أرسل صدغاً ولوى قاتلي

 

صدغاً فأعيا بهما واصفه

فخلت ذا في خـده حـيةً

 

تسعى وهذا عقرباً واقفه

ذا ألفٌ ليس لوصلٍ، وذا

 

واوٌ ولكن ليس العاطفه

 

ومن هذا النمط ما أنشدنيه بهاء الدين زهير بن محمد الكاتب - المقدم ذكره - رحمه الله تعالى، لنفسه من جملة أبيات وهو:

عسى عطفة بالوصل يا واو صدغه

 

علي فإني أعرف الواو تعطـف

 

ولأبي المحاسن الشواء أيضاً قوله:

ناديت وهو الشمس في شهرة

 

والجسم للخفية كـالـفـيء

يا زاهياً أعرف من مضمـرٍ

 

صل واهياً أنكر من شـيء

 

وله في المديح:

فتىً فاق الورى كرماً وبأسـاً

 

عزيز الجار مخضر الجناب

ترى في السلم منه غيث جود

 

وفي يوم الكريهة ليث غـاب

إذا ما سل صارمه لـحـربٍ

 

أراك البرق في كف السحاب

 

وله أيضاً في شخص لا يكتم السر:

لي صديقٌ غدا وإن كـان لا

 

ينطق إلا بغيبةٍ أو محـال

أشبه الناس بالـصـدى إن

 

تحدثه حديثاً أعاده في الحال

 

وله أيضاً:

قالوا حبيبك قد تضوع نشـره

 

حتى غدا منه الفضاء معطرا

فأجبتهم والخال يعـلـو خـده

 

أو ما ترون النار تحرق عنبرا

 

قلت: وقد تقدم في ترجمة يحيى بن نزار المنبجي عدة مقاطيع من شعر العماد المحلي وغيره وفيها إلمام بهذا المعنى. ولأبي المحاسن أيضاً:

هواك يا من له اخـتـيال

 

ما لي على مثله احتـيال

قسمة أفعاله لـحـينـي

 

ثلاثةُ ما لها انـتـقـال

وعدك مستقبل، وصبري

 

ماضٍ، وشوقي إليك حال

 

وله أيضاً:

فديت بنفسي رأس عينٍ ومن فيهـا

 

وبيض السواقي حول زرق سواقيها

إذا راقني منها جواري عـيونـهـا

 

أراتق دمي منها عيون جـواريهـا

 

وله أيضاً:

إن كان قد حجبوه عني غيرةً

 

منهم عليه فقد قنعت بذكـره

كالمسك ضاع لنا وضاع مكانه

 

عنا فأغنى نشره عن نشـره

وله في غلام قد ختن:  

هنأت من أهواه عنـد خـتـانـه

 

فرحاً وقلبي قـد عـراه وجـوم

يفديك من ألـم ألـمّ بـك امـرؤ

 

يخشى عليك إذا ثنـاك نـسـيم

أمعذبي كيف استطعت على الأذى

 

جلداً، وأجزع ما يكـون الـريم؟

لو لم تكن هذي الطهـارة سـنةً

 

قد سنها من قـبـل إبـراهـيم

لفتكت جهدي بالمـزين إذ غـدا

 

في كفه موسى وأنـت كـلـيم

ومعظم شعره على هذا الأسلوب، وقد أوردت منه أنموذجاً فيه كفاية. وكان من المغالين في التشيع.

وأكثر أهل حلب ما كانوا يعرفونه إلا بمحاسن الشواء. والصواب فيه هو الذي ذكرته هاهنا، وأن اسمه يوسف، وكنيته أبو المحاسن. وبعد هذا رأيت في كتاب " عقود الجمان " الذي وضعه صاحبنا الكمال بن الشعار الموصلي، وقد بنى ترجمة المذكور على يوسف، وكنيته أبو المحاسن، وكان صاحبه وأخذ عنه كثيراً من شعره، وهو من أخبر الناس بحاله وأعلم ذلك في وقته.

وكان مولده تقديراً في سنة اثنتين وستين وخمسمائة، فإنه كان لا يحقق مولده. وتوفي يوم الجمعة تاسع عشر المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة، بحلب، ودفن ظاهرها بمقبرة باب إنطاكية غربي البلد، ولم أحضر الصلاة عليه لعذر عرض لي في ذلك الوقت، رحمه الله تعالى، فلقد كان نعم الصاحب.

وأما شيخه ابن الجبراني المذكور: فهو طائي بحتري، وكان من قرية من أعمال عزاز، يقال لها جبرين قورسطايا. نسب إليها، هكذا أخبر عن نفسه، وكان متضلعاً من علم الأدب، خصوصاً اللغة فإنها كانت غالبة عليه، وكان متبحراً فيها، وكان له تصدر في جامع حلب في المقصورة الشرقية على صحن الجامع قبالة المقصورة التي يصلي فيها قضاة حلب يوم الجمعة. ولقد كنت يوماً قاعداً في هذه المقصورة، عند الدرابزين الذي إلى جهة الصحن، وإذا به قد حضر ومعه جماعة من أصحابه، وفيهم الشهاب أبو المحاسن الشواء المذكور، وجلس إلى المحراب الصغير الذي في هذه المقصورة، وهو موضع تصدره، فجعلت بالي من كلامه، وأنا في ذلك الوقت مشتغل بالأدب، فسمعته يتكلم في قاعدة الأفعال الثلاثية التي أولها واو، وهي على فعل، بكسر العين، مثل وجل وغيره، وأن مضارعه فيه أربع لغات: يوجل، ويَيجل، وياجل، ويِيجل، إلا ما شذ من الأفعال الثمانية التي هي: ورم، وورث، وورع، ووري، وومق، ووثق، ووفق، وولي، فإن مضارعها أيضاً بالكسر كماضيها، وشذ من ذلك قولهم: وسع يسع، ووطئ يطأ، وإنما انفتح هذان الفعلان في المضارع لآجل حرفي الحلق، وأطال الكلام في ذلك بما لم أقدر على حفظه في ذلك الوقت، ولم أسمع منه غير هذا الفصل.

وكان مولده يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شوال سنة إحدى وستين وخمسمائة، وتوفي يوم الاثنين سابع رجب من سنة ثمان وعشرين وستمائة بحلب، ودفن في سفح جبل جوشن، رحمه الله تعالى.