الكتاب الأول: الأمور الكلية في الطب - الفن الأول: حد الطب وموضوعاته من الأمور الطبيعية - التعليم الثالث: الأمزجة

التعليم الثالث

الأمزجة

وهو ثلاثة فصول الفصل الأول المزاج أقول: المزاج: كيفية حاصلة من تفاعل الكيفيات المتضادات إذا وقفت على حد ما. ووجودها في عناصر متصغرة الأجزاء ليماس أكثر كل واحد منها أكثر الآخر . إذا تفاعلت بقواها بعضها في بعض حدث عن جملتها كيفية متشابهة في جميعها هي: المزاج والقوى الأولية في الأركان المذكورة أربع هي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وبين أن المزاجات في الأجسام الكائنة الفاسدة إنما تكون عنها، وذلك بحسب ما توجبه القسمة العقلية بالنظر المطلق غير مضاف إلى شيء على وجهين.

وأحد الوجهين أن يكون المزاج معتدلاً على أن تكون المقادير من الكيفيات المتضادة في الممتزج متساوية متقاومة، ويكون المزاج كيفية متوسطة بينها بالتحقيق.

والوجه الثاني أن لا يكون المزاج بيناً لكيفيات المتضادة وسطاً مطلقاً، ولكن يكون أميل إلى أحد الطرفين إما في إحدى المتضادتين اللتين بين البرودة والحرارة والرطوبة واليبوسة، وأما في كليهما. لكن المعتبر في صناعة الطب بالاعتدال والخروج عن الاعتدال ليس هذا ولا ذلك، بل يجب أن يتسلم الطبيب من الطبيعي. إن المعتدل على هذا المعنى مما لا يجوز أن يوجد أصلاً، فضلاً عن أن يكون مزاج إنسان، أو عضو إنسان، وأن يعلم أن المعتدل الذي يستعمله الأطباء في مباحثهم هو مشتق، لا من التعادل الذي هو التوازن بالسوية، بل من العدل في القسمة وهو أن يكون قد توفر فيه على الممتزج بدناً كان بتمامه أو عضواً من العناصر بكمياتها وكيفياتها القسط الذي ينبغي له في المزاج الإنساني على أعدل قسمة ونسبة. لكنه قد يعرض أن تكون هذه القسمة التي تتوفر على الإنسان قريبة جداً من المعتدل الحقيقي الأوَل، وهذا الاعتدال المعتبر بحسب أبدان الناس أيضاً الذي هو بالقياس إلى غير مما ليس له ذلك الاعتدال، وليس له قرب الإنسان من الاعتدال المذكور في الوجه الأول يعرض له ثمانية أوجه من الاعتبارات. فإنه إما أن يكون بحسب النوع مقيساً إلى ما يختلف مما هو خارج عنه.

وإما أن يكون بحسب النوع مقيساً إلى ما يختلف مما هو فيه.

وإما أن يكون بحسب صنف من النوع مقيساً إلى ما يختلف مما هو خارج عنه وفي نوعه وإما أن يكون بحسب صنف من النوع مقيساً إلى ما يختلف مما هو فيه.

وإما أن يكون بحسب الشخص من الصنف من النوع مقيساً إلى ما يختلف مما هو خارج عنه وفي صنفه وفي نوعه.

وإما أن يكون بحسب الشخص مقيساً إلى ما يختلف من أحواله في نفسه.

وإما أن يكون بحسب العضو مقيساً إلى ما يختلف مما هو خارج عنه وفي بدنه.

وإما أن يكون بحسب العضو مقيساً إلى أحواله في نفسه.

والقسم الأوّل: هو الاعتدال الذي للإنسان بالقياس إلى سائر الكائنات، وهو شيء له عرض وليس منحصر في حد، وليس ذلك أيضاً كيف اتفق بل له في الإفراط والتفريط حدان، إذا خرج عنهما بطل المزاج عن أَن يكون مزاج إنسان.

وأما الثاني: فهو الواسطة بين طرفي هذا المزاج العريض، ويوجد في شخص في غاية الاعتدال من صنف في غاية الاعتدال في السنّ الذي يبلغ فيه النشوّ غاية النموّ، وهذا أيضا" وإن لم يكن الاعتدال الحقيقي المذكور في ابتداء الفصل حتى يمتنع وجوده، فإنه مما يعسر وجوده وهذا الإنسان أيضاً إنما يقرب من الاعتدال الحقيقي المذكور، لا كيف اتفق، ولكن تتكافأ أعضاؤه الحارة كالقلب، والباردة كالدماغ، والرطبة كالكبد، واليابسة كالعظام، فإذا توازنت وتعادلت، قربت من الاعتدال الحقيقي، وأما باعتبار كل عضو في نفسه، إلا عضواً واحداً وهو الجلد على ما نصفه بعد. وإما بالقياس إلى الأرواح وإلى الأعضاء الرئيسة فليس يمكن أن يكون مقارباً لذلك الاعتدال الحقيقي بل خارجاً عنه إلى الحرارة والرطوبة. فإن مبدأ الحياة هو القلب والروح، وهما حاران جداً مائلان إلى الإفراط. والحياة بالحرارة، والنشوء بالرطوبة، بل الحرارة تقوم بالرطوبة وتغتذي بها. والأعضاء الرئيسة ثلاثة كما سنبين بعد هذا، والبارد منها واحد وهو الدماغ. وبرده لا يبلغ أن يعدل حر القلب والكبد. واليابس منها أو القريب من اليبوسة واحد وهو القلب، ويبوسته لا تبلغ أن تعدل مزاج رطوبة الدماغ والكبد. وليس الدماغ أيضاً بذلك البارد، ولا القلب أيضاً بذلك اليابس، ولكن القلب بالقياس إلى الآخر يابس، والدماغ بالقياس إلى الآخرين بارد.

وأما القسم الثالث: فهو أضيق عرضاً من القسم الأول، أعني من الاعتدال النوعي إلا أن له عرضاً صالحاً وهو المزاج الصالح لأمةٍ من الأمم بحسب القياس إلى إقليم من الأقاليم، وهواء من الأهوية، فإن للهند مزاجاً يشمهلم يصحون به. وللصقالبة مزاجاً آخر يخصون به ويصحون به. كل واحد منهما معتدل بالقياس إلى صنفه، وغير معتدل بالقياس إلى الآخر. فإن البدن الهندي إذا تكيف بمزاج الصقلابي مرض أو هلك. وكذلك حال البدن الصقلابي إذا تكيّف بمزاج الهندي . فيكون إذن لكل واحد من أصناف سكان المعمورة مزاج خاص يوافق هواء إقليمه، وله عرض ولعرضه طرفا إفراط وتفريط.

وأما القسم الرابع: فهو الواسطة بين طرفي عرض مزاج الإقليم، وهو أعدل أمزجة ذلك الصنف.

وأما القسم الخامس: فهو أضيق من القسم الأوّل والثالث، وهو المزاج الذي يجبأن يكون لشخص معيّن حتى يكون موجوداً حيا" صحيحاً، وله أيضاً عرض يحدّه طرفا إفراط وتفريط. ويجب أن تعلم أن كل شخص يستحق مزاجاً يخصّه يندر، أو لا يمكن أن يشاركه فيه الآخر.وأما القسم السادس: فهو الواسطة بين هذين الحدين أيضا"، وهو المزاج الذي إذا حصل للشخص كان على أفضل ما ينبغي له أن يكون عليه.
وأما القسم السابع: فهو المزاج الذي يجب أن يكون لنوع كل عضو من الأعضاء يخالف به غيره، فإن الاعتدال الذي للعظم هو أن يكون اليابس فيه أكثر ، وللدماغ أن يكون الرطب فيه أكثر ، وللقلب أن يكون الحار فيه أكثر، وللعصب أن يكون البارد فيه أكثر، ولهذا المزاج أيضاً عرض يحده طرفا إفراط وتفريط هو دون العروض المذكورة في الأمزجة المتقدمة. وأما القسم الثامن: فهو الذي يخصّ كل عضو من الاعتدال حتى يكون العضو على أحسن ما يكون له في مزاجه، فهو الواسطة بين هذين الحدّين وهو المزاج الذي إذا حصل للعضو كان على أفضل ما ينبغي له أن يكون عليه. فإذا اعتبرت الأنواع كان أقربها من الاعتدال الحقيقي هو الإنسان. وإذا اعتبرت الأصناف فقد صحّ عندنا أنه إذا كان في الموضع الموازي لمعدل النهار عمارة ولم يعرض من الأسباب الأرضية أمر مضاد أعني من الجبال والبحار فيجب أن يكون سكانها أقرب الأصناف من الاعتدال الحقيقي. وصحّ أن الظن الذيَ يقع، أن هناك خروجاَ عن الاعتدال بسبب قرب الشمس ظن فاسد، فإن مسامتة الشمس هناك أقل نكاية وتغييرا" للهواء من مقاربتها ههنا، أو أكثر عرضا" مما ههنا وإن لم تَسَامِت ثم سائر أحوالهم فاضلة متشابهة، ولا يتضاد عليهم الهواء تضاداً محسوسا"، بل يشابه مزاجهم دائما". وكنا قد عملنا في تصحيح هذا الرأي رسالة. ثم بعد هؤلاء فأعدل الأصناف سكان الاقليم الرابع، فإنهم لا محترقون بدوام مسامتة الشمس رؤوسهم حيناً بعد حين بعد تباعدها عنهم كسكان أكثر الثاني والثالث، ولا فجون نيون، بدوام بعد الشمس عن رؤوسهم كسكان أكثر الخامس ، وما هو أبعد منه عرضاً، وأما في الأشخاص فهو أعدل شخص من أعمل صنف من أعدل نوع. وأما في الأعضاء فقد ظهر أن الأعضاء الرئيسة ليست شديدة القرب من الاعتدال الحقيقي بل يجب أن تعلم أن اللحم أقرب الأعضاء من ذلك الاعتدال، وأقرب منه الجلد، فإنه لا يكاد ينفعل عن ماء ممزوج بالتساوي، نصفه جمد ونصفه مغلي، ويكاد يتعادل فيه تسخين العروق والدم لتبريد العصب، وكذلك لا ينفعل عن جسم حسن الخلط من أيبس الأجسام وأسيلها إذا كانا فيه بالسوية، وإنما يعرف أنه لا ينفعل منه لأنه لا يحس وإنما كان مثله لما كان لا ينفعل منه، لأنه لو كان مخالفاً له لانفعل عنه، فإن الأشياء المتفقة العنصر المتضادة الطبائع ينفعل بعضها عن بعض. وإنما لا ينفعل الشيء عن مشاركة في الكيفية إذا كان مشاركة في الكيفية شبيهة فيها. وأعدل الجلد جلد اليد، وأعدل جلد اليد جلد الكف، وأعدله جلد الراحة، أعدله ما كان على الأصابع، وأعدله ما كان على السبابة ، وأعدله ما كان على الأنملة منها، فلذلك هي وأنامل الأصابع الأخرى تكاد تكون هي الحاكمة بالطمع في مقادير الملموسات. فإن الحاكم يجب أن يكون متساوي الميل إلى الطرفين جميعا حتى يحس بخروج الطرف عن التوسط والعدل. ويجب أن تعلم مع ما قد علمت أنا إذا قلنا للدواء أنه معتدل، فلسنا نعني بذلك أنه معتدل على الحقيقة فذلك غير ممكن. ولا أيضاً أنه معتدل بالاعتدال الإنساني في مزاجه، وإلا لكان من جوهر الإنسان بعينه. ولكنا نعني أنه إذا انفعل عن الحار الغريزي في بدن الإنسان فتكيف بكيفية، لم تكن تلك الكيفية خارجة عن كيفية الإنسان إلى طرف من طرفي الخروج عن المساواة، فلا يؤثر فيه أثراً مائلاً عن الاعتدال وكأنه معتدل بالقياس إلى فعله في بدن الإنسان . وكذلك إذا قلنا أنه حار أو بارد، فلسنا نعني أنه في جوهره بغاية الحرارة أو البرودة، ولا أنه في جوهره أحر من بدن الإنسان، أو أبرد، وإلا لكان المعتدل ما مزاجه مثل مزاج الإنسان. ولكنا نعني به أنه يحدث منه في بدن الإنسان حرارة أو برودة فوق اللتين له. ولهذا قد يكون الدواء بارداً بالقياس إلى بدن الإنسان، حاراً بالقياس إلى بدن العقرب، وحاراً بالقياس إلى بدن الإنسان بارداً بالقياس إلى بدن الحية، بل قد يكون لدواء واحد أيضاً حاراً بالقياس إلى بدن زيد، فوق كونه حاراً بالقياس إلى بدن عمرو. ولهذا يؤمر المعالجون بأن لا يقيمون على دواء واحد في تبديل المزاج إذا لم ينجع. وإذ قد استوفينا القول في المزاج المعتدل، فلننتقل إلى غير المعتدل، فنقول: إن الأمزجة الغير المعتدلة سواء أخذتها بالقياس إلى النوع، أو الصنف، أو الشخص، أو العضو، ثمانية بعد الاشتراك في أنها مقابلة للمعتدل. وتلك الثمانية تحدث على هذا الوجه، وهو أن الخارج عن الاعتدال إما أن يكون بسيطاً وإنما يكون خروجه في مضادة واحدة، وإما أن يكون مركباً. وإنما يكون خروجه في المضادتين جميعاً. والبسيط الخارج في المضادة الواحدة إما في المضادة الفاعلة، وذلك على قسمين: لأنه، إما أن يكون أحر مما ينبغي، لكن ليس أرطب مما ينبغي، ولا أيبس مما ينبغي، أو يكون أبرد مما ينبغي، وليس أيبس مما ينبغي ولا أرطب مما ينبغي، وإما أن يكون في المضادة المنفعلة، وذلك على قسمين: لأنه، إما أن يكون أيبس مما ينبغي وليس أحرّ ولا أبرد مما ينبغي، وإما أن يكون أرطب مما ينبغي وليس أحر ولا أبرد مما ينبغي. لكن هذه الأربعة لا تستقرّ ولا تثبت زماناً له قدر، فإن الأحر مما ينبغي يجعل البدن أيبس مما ينبغي، والأبرد مما ينبغي يجعل البدن أرطب مما ينبغي بالرطوبة الغريبة، والأيبس مما ينبغي سريعاً ما يجعله أبرد مما ينبغي، والأرطب مما ينبغي إن كان بإفراط فإنه أسرع من الأيبس في تبريده، وإن كان ليس بإفراط فإنه يحفظه مدة أكثر، إلا أنه يجعله آخر الأمر أبرد مما ينبغي. وأنت تفهم من هذا أن الاعتدال أو الصحة أشد مناسبة للحرارة منها للبرودة فهذه هي الأربع المفردة.

وأما المركّبة التي يكون الخروج فيها في المضادتين جميعاً، فمثل أن يكون المزاح أحر وأرطب معاً مما ينبغي، أو أبرد وأرطب معاً مما ينبغي، أو أبرد وأيبس معاً. ولا يمكن أن يكون أحر وأبرد معاً ولا أرطب وأيبس معاً.

وكل واحد من هذه الأمزجة الثمانية لا يخلو إما أن يكون بلا مادة، وهو أن يحدث ذلك المزاج في البدن كيفية وحدها من غير أن يكون قد تكيف البدن به لنفوذ خلط فيه متكيّف به، فيتغير البدن إليه، مثل حرارة المدقوق وبرودة الخصر المصرود المثلوج وإما أن يكون مع مادة وهو أن يكون البدن إنما تكيف بكيفية ذلك المزاج لمجاورة خلط نافذ فيه غالب عليه تلك الكيفية، مثل تبرد الجسم الإنساني بسبب بلغم زجاجي، أو تسخنه بسبب صفراء كراثي . وستجد في الكتاب الثالث والرابع مثالاً لواحد واحد من الأمزجة الستة عشر. واعلم: أن المزاج مع المادة قد يكون على جهتين، وذلك لأن العضو قد يكون تارةً منتفعاً في المادة متبلاً بها، وقد تكون تارةً المادة محتبسةً في مجاريه وبطونه، فربما كان احتباسها ومداخلتها يحدث توريماً، وربما لم يكن. فهذا هو القول في المزاج، فليتسلم الطبيب من الطبيعي على سبيل الوضع ما ليس بيناً له بنفسه.

الفصل الثاني أمزجة الأعضاء اعلم أنّ الخالق جل جلاله أعطى كل حيوان،. وكل عضو من المزاج ما هو أليق به وأصلح لأفعاله وأحواله بحسب الإمكان له. وتحقيق ذلك إلى الفيلسوف دون الطبيب. وأعطى الإنسان أعدل مزاج يمكن أن يكون في هذا العالم مع مناسبة لقواه التي بها يفعل وينفعل. وأعطى كل عضو ما يليق به من مزاجه، فجعل بعض الأعضاء أحر، وبعضها أبرد، ويعضها أيبس، وبعضها أرطب.
فأما أحر ما في البدن فهو الروح والقلب الذي هو منشؤه، ثم الدم، فإنه وإن كان متولداً في الكبد، فإنه لاتصاله بالقلب يستفيد من الحرارة ما ليس للكبد، ثم الكبد لأنها كدم جامد، ثم الرئة، ثم اللحم، وهو أقل منها بما يخالطه من ليف العصب البارد، ثم العضل، وهو أقل حرارة من اللحم المفرد لما يخالطه من العصب والرباط، ثم الطحال لما فيه من عكر الدم، ثم الكِلى لأن الدم فيها ليس بالكثير، ثم طبقات العروق الضوارب لا بجواهرها العصبية، بل بما تقبله من تسخين الدم والروح اللذين فيها، ثم طبقات العروق السواكن لأجل الدم وحده، ثم جلدة الكف المعتدلة، وأبرد ما في البدن البلغم، ثم الشحم، ثم الشعر، ثم العظم، ثم الغضروف، ثم الرباط، ثم الوتر، ثم الغشاء، ثم العصب، ثم النخاع، ثم الدماغ، ثم الجلد. وأما أرطب ما في البدن فالبلغم، ثم الدم، ثم السمين، ثم الشحم، ثم الدماغ، ثم النخاع، ثم لحم الثدي، والأنثيين ، ثم الرئة، ثم الكبد، ثم الطحال، ثم الكليتان، ثم العضل، ثم الجلد. هذا هو الترتيب الذي رتبه "جالينوس". ولكن يجب أن تعلم أن الرئة، في جوهرها وغريزتها ليست برطبة شديدة الرطوبة، لأن كل عضو شبيه في مزاجه الغريزي بما يتغذى به، وشبيه في مزاجه العارض بما يفضل فيه. ثم الرئة تغتذي من أسخن الدم وأكثره مخالطة للصفراء. فعلمنا هذا "جالينوس" بعينه ولكنها قد يجتمع فيها فضل كثير من الرطوبة عما يتصعد من بخارات البدن وما ينحدر إليها من النزلات. وإذا كان الأمر على هذا فالكبد أرطب من الرئة كثيراً في الرطوبة الغريزية. والرئة أشد ابتلالاً، وإن كان دوام الابتلال قد يجعلها أرطب في جوهرها أيضاً. وهكذا يجب أن تفهم من حال البلغم والدم من جهة، وهو أن ترطيب البلغم في أكثر الأمر هو على سبيل البل، وترطيب الدم هو على سبيل التقرير في الجوهر. على أن البلغم الطبيعي المائي قد يكون في نفسه أشد رطوبة. فإن الدم بما يستوفي حظه من النضج يتحلل منه شيء كثير من الرطوبة التي كانت في البلغم المائي الطبيعي الذي استحال إليه. فستعلم بعد أن البلغم الطبيعي دم استحال بعض الاستحالة. وأما أيبس ما في البدن فالشّعر، لأنه من بخار دخاني تحلل ما كان فيه من خلط البخار وانعقدت الدخانية الصرفة، ثم العظم لأنه أصلب الأعضاء، لكنه أصلب من الشعر، لأن كون العظم من الدم ووضعه وضع نَشَاف للرطوبات الغريزية متمكن منها. ولذلك ما كان العظم يغذو كثيراً من الحيوانات والشعر لا يغذو شيئاً منها أو عسى أن يغذو نادرا" من جملتها كما قد ظن من أن الخفافيش تهضمه وتسيغه. لكنا إذا أخذنا قدرين متساويين من العظم والشعر في الوزن، فقطرناهما في القرع والإنبيق سال من العظم ماء ودهن كثر، وبقي له ثقل أقل. فالعظم إذاً أرطب من الشعر. وبعد العظم في اليبوسة الغضروف، ثم الرباط، ثم الوتر، ثم الغشاء، ثم الشرايين، ثم الأوردة، ثم عصب الحركة، ثم القلب، ثم عصب الحسّ. فإن عصب الحركة أبرد وأيبس معاً كثيراً من المعتدل. وعصب الحس أبرد وليسَ أيبس كثيراً من المعتدل بل عسى أن يكون قريباً منه، وليس أيضاً كثير البعد منه في البرد ثم الجلد.

الفصل الثالث أمزجة الأسنان والأجناس الأسنان أربعة في الجملة: سن النمو ويسمّى سن الحداثة، وهو إلى قريب من ثلاثين سنة، ثم سن الوقوف: وهو سن الشباب، وهو إلى نحو خمس وثلاثين سنة أو أربعين سنة، وسن الانحطاط مع بقاء من القوة: وهو سن المكتهلين وهو إلى نحو ستين سنة، وسن الانحطاط مع ظهور الضعف في القوة: وهو سن الشيوخ إلى آخر العمر. لكن سن الحداثة ينقسم إلى: سن الطفولة: وهو أن يكون المولود بعد غير مستعد الأعضاء للحركات والنهوض، وإلى سن الصبا: وهو بعد النهوض وقبل الشدة، وهو أن لا تكون الأسنان استوفت السقوط والنبات ثم سن الترعرع: وهو بعد الشدة ونبات الأسنان قبل المراهقة، ثم سن الغلامية والرهاق إلى أن يبقل وجهه . ثم سن الفتى: إلى أن يقفل النمو. والصبيان أعني من الطفولة إلى الحداثة مزاجهم في الحرارة كالمعتدل، وفي الرطوبة كالزائد، ثم بين الأطباء الأقدمين اختلاف في حرارتي الصبي والشاب، فبعضهم يرى أن حرارة الصبي أشد، ولذلك ينمو أكثر، وتكون أفعاله الطبيعية من الشهوة والهضم كذلك كثر وأدوم، لأن الحرارة الغريزية المستفادة فيهم من المني أجمع وأحدث. وبعضهم يرى أن الحرارة الغريزية في الشبان أقوى بكثير لأن دمهم أكثر وأمتن، ولذلك يصيبهم الرُعاف أكثر وأشد، ولأن مزاجهم إلى الصفراء أميل، ومزاج الصبيان إلى البلغم أميل، ولانهم أقوى حركات، والحركة بالحرارة، وهم أقوى استمراء وهضماً وذلك بالحرارة. وأما الشهوة فليست تكون بالحرارة، بل بالبرودة، ولهذا ما تحدث الشهوة الكلبية في أكثر الأمر من البرودة، والدليل على أن هؤلاء أشد، استمراء أنه لا يصيبهم من التهوع والقيء والتخمة ما يعرض للصبيان لسوء الهضم. والدليل على أن مزاجهم أميل إلى الصفراء، هو أن أمراضهم حارة كلها، كحمى الغب وقيئهم صفراوي. وأما أكثر أمراض الصبيان فإنها رطبة باردة، وحمياتهم بلغمية، وأكثر ما يقذفونه بالقيء بلغم. وأما النمو في الصبيان فليس من قوة حرارتهم، ولكن لكثرة رطوبتهم وأيضاً فإن كثرة شهوتهم تدلّ على نقصان حرارتهم. هذا مذهب الفريقين واحتجاجهما.

وأما "جالينوس"، فإنه يرد على الطائفتين جميعاً، وذلك أنه يرى الحرارة فيهما متساوية في الأصل، لكن حرارة الصبيان أكثر كمية وأقل كيفية، أي حدة. وحرارة الشبان أقل كمية وأكثر كيفية أي حدّة. وبيان هذا على ما يقوله فهو أن يتوهم أن حرارة واحدة بعينها في المقدار، أو جسماً لطيفاً حاراً واحدا" في الكيف والكم فشا تارة في جوهر رطب كثير كالماء، وفشا أخرى في جوهر يابس قليل كالحجر، وإذا كان كذلك فإنا نجد حينئذ الماء الحار المائي أكثر كمية وألين كيفية، والحار الحجري أقل كمية وأحدّ كيفية. وعلى هذا فقس وجود الحار في الصبيان والشبان، فإن الصبيان إنما يتولدون من المني الكثير الحرارة، وتلك الحرارة لم يعرض لها من الأسباب ما يطفئها. فإن الصبي ممعن في التزيّد ومتدرّج في النمو ولم يقف بعد، فكيف يتراجع.؟ وأما الشاب فلم يقع له سبب يزيد في حرارته الغريزية ولا أيضاً وقع له سبب يطفئها بل تلك الحرارة مستحفظة فيه برطوبة أقل كمية وكيفية معاً إلى أن يأخذ في الانحطاط. وليست قلة هذه الرطوبة تعد قلةً بالقياس إلى استحفاظ الحرارة ولكن بالقياس إلى النمو، فكأن الرطوبة تكون أولا بقدر يفي به كلا الأمرين، فيكون بقدر ما نحفظ الحرارة وتفضل أيضاً النمو ثم تصير بآخرة بقدر لا يفي به كلا الأمرين، ثم تصير بقدر لا يفي ولا بأحد الأمرين، فيجب أن يكون في الوسط بحيث يفي بأحد الأمرين دون الآخر. ومحال أن يقال أنها تفي بالتنمية ولا تفي بحفظ الحرارة الغريزية، فإنه كيف يزيد على الشيء ما ليس يمكنه أن يحفظ الأصل؟ فبقي أن يكون إنما يفي بحفظ الحرارة الغريزية ولا يفي بالنمو. ومعلوم أن هذا السن هو سن الشباب. وأما قول الفريق الثاني: أن النمو في الصبيان إنما هو بسبب الرطوبة دون الحرارة، فقول باطل. وذلك لأن الرطوبة مادة للنمو، والمادة لا تنفعل ولا تتخلق بنفسها، بل عند فعل القوة الفاعلة فيها، والقوة الفاعلة ههنا هي نفس أو طبيعة بإذن الله عز وجل، ولا تفعل إلاَّ بآلة هي الحرارة الغريزية. وقولهم أيضاً: إن قوة الشهوة في الصبيان إنما هي لبرد المزاج قول باطل. فإن تلك الشهوة الفاسدة التي تكون لبرد المزاج لا يكون معها استمراء واغتذاء. والاستمراء في الصبيان في أكثر الأوقات على أحسن ما يكون ، ولولا ذلك لما كانوا يوردون من البدل الذي هو الغذاء أكثر مما يتحلل حتى ينمو، ولكنهم قد يعرض لهم سوء استمرائهم لشرههم وسوء تربيتهم لمطعومهم وتناولهم الأشياء الرديئة والرطبة والكثيرة وحركاتهم الفاسدة عليها، فلهذا تجتمع فيهم فضول أكثر، ويحتاجون إلى تنقية أكثر، وخصوصاً رئاتهم، ولذلك نبضهم أشد تواتراً وسرعة، وليس له عظم لأن قوتهم لم تتم. فهذا هو القول في مزاج الصبي والشاب على حسب ما تكفل "جالينوس " ببيانه وعبرنا عنه.
ثمِّ يجب أن تعلم أن الحرارة بعد مدة سنّ الوقوف تأخذ في الإنتقاص لانتشاف الهواء المحيط مادتها التي هي الرطوبة، ومعاونة الحرارة الغريزية التي هي أيضاً من داخل، ومعاضدة الحركات البدنية والنفسانية الضرورية في المعيشة لها، وعجز الطبيعة عن مقاومة ذلك دائماً، فإنّ جميع القوى الجسمانيّة متناهية. فقد تبين ذلك في العلم الطبيعي فلا يكون فعلها في الإيراد دائماً. فلو كانت هذه القوى أيضاً غير متناهية وكانت دائمة الإيراد، ليدلّ ما يتحلّل على السواء بمقدار واحد ولكن كان التحلل ليس بمقدار واحد، بل يزداد دائما كل يوم لما كان البدل يقاوم التحلّل، ولكن التحلل يفني الرطوبة، فكيف والأمر أن كلاهما متظاهران أن على تهيئة النقصان والتراجع؟ وإذ كان كذلك فواجب ضرورة أن يفنى المادة، بل يطفىء الحرارة وخصوصاَّ إذا كان يعين انطفاءها بسبب عون المادة سبب آخر وهو الرطوبة الغريبة التي تحدث دائماً لعدم بدل الغذاء الهضم، فيعين على انطفائها من وجهين أحدهما بالخنق والغمر، والآخر بمضادة الكيفية لأن تلك الرطوبة تكون بلغمية باردة، وهذا هو الموت الطبيعي المؤجل لكل شخص بحسب مزاجه الأول إلى حدّ تضمّنه قوّته في حفظ الرطوبة.

ولكل منهم أجل مسمى ولكل أجل كتاب وهو مختلف في الأشخاص لاختلاف الأمزجة، فهذه هي الآجال الطبيعية، وههنا آجال اخترامية غيرها ، وهي أخرى وكل بقدر، فالحاصل إذاً من هذا أن أبدان الصبيان والشبان حارة باعتدال، وأبدان الكهول والمشايخ باردة. ولكن أبدان الصبيان أرطب من المعتدل لأجل النمو ويدل عليه التجربة، وهي من لين عظامهم وأعصابهم. والقياس وهو من قرب عهدهم بالمني والروح البخاري. وأما الكهول والمشايخ خصوصاً فإنهم مع أنهم أبرد فهم أيبس، يعلم ذلك بالتجرية من صلابة عظامهم ونشف جلودهم وبالقياس من بعد عهدهم بالمني والدم والروح البخاري. ثم النارية متساوية في الصبيان والشبان والهوائية والمائية في الصبيان أكثر، والأرضية في الكهول والمشايخ أكثر منها فيهما، وهي في مشايخ أكثر. والشاب معتدل المزاج فوق اعتدال الصبي، لكنه بالقياس إلى الصبي يابس المزاج، وبالقياس إلى الشيخ والكهل حار المزاج، والشيخ أيبس من الشاب، والكهل في مزاج أعضائه الأصلية وأرطب منهما بالرطوبة الغريبة البالَة.

وأما الأجناس في اختلاف أمزجتها فإن الإناث أبرد أمزجة من الذكور، ولذلك قصرن عن الذكور في الخلق، وأرطب فلبرد مزاجهن تكثر فضولهن، ولقلة رياضتهن جوهر لحومهن أسخف ، وإن كان لحم الرجل من جهة تركيبه بما يخالطه أسخف، فإنه لكثافته أشد تبرداً مما ينفذ فيه من العروق وليف العصب. وأهل البلاد الشمالية أرطب، وأهل الصناعة المائية أرطب. والذين يخالفونهم فعلى الخلاف، وأما علامات الأمزجة فسنذكرها حيث نذكر العلامات الكلية والجزئية.