الكتاب الأول: الأمور الكلية في الطب - الفن الأول: حد الطب وموضوعاته من الأمور الطبيعية - التعليم الخامس: ماهية العضو وأقسامه - خامسا: الأوردة

الأوردة

الجملة الخامسة الأوردة وهي خمسة فصول

الفصل الأول
صفة الأوردة

أما العروق الساكنة، فإن منبت جميعها من الكبد وأول ما ينبت من الكبد عرقان: أحدهما من الجانب المقعر، وأكثر منفعته في جذب الغذاء إلى الكبد ويسمى الباب، والآخر من الجانب المحدب ومنفعته إيصال الغذاء من الكبد إلى الأعضاء ويسمى الأجوف.

الفصل الثاني
تشريح الوريد المسمى بالباب

ولنبدأ بتشريح العرق المسمى بالباب فنقول: إن الباب أوّلاَ ينقسم طرفه الغائر في تجويف الكبد خمسة أقسام ويتشعب حتى يأتي أطراف الكبد المحدبة، ويذهب منها وريد إلى المرارة. وهذه الشعب هي مثل أصول الشجرة النابتة تأخذ إلى غور منبتها. وأما الطرف الذي يلي تقعيره فإنه كما ينفصل من الكبد ينقسم أقساما ثمانية: قسمان منها صغيران وستة هي أعظم.

فأحد القسمين الصغيرين يتصل بنفس المعي المسمى اثني عشري ليجذب منه الغذاء وقد يتشعّب منه شعب تتفرق في الجرم المسمى بانقراس .

والقسم الثاني: يتفرق في أسافل المعدة وعند البواب الذي هو فم المعدة السافل ليأخذ الغذاء.

وأما الستة الباقية فواحدة منها تصير إلى الجانب المسطح من المعدة لتغذو ظاهرها، إذ باطن المعدة يلاقي الغذاء الأول الذي فيه فيغتذي منه بالملاقاة . والقسم الثاني يأتي ناحية الطحال ليغذو الطحال ويتشعب منه قبل وصوله إلى الطحال شعب تغذو الجرم المسمى بانقراس من أصفى ما ينفذ فيه إلى الطحال ثم يتصل بالطحال ومع اتصاله به ترجع منه شعبة صالحة تنقسم في الجانب الأيسر من المعدة لتغذوه. وإذا نفذ النافذ منه في الطحال وتوسطه صعد منه جزء ونزل جزء فالصاعد يتفرق منه شعبة في النصف الفوقاني من الطحال ليغذوه والجزء الآخر يبرز حتى يوافي حدبة المعدة ثم يتجزأ جزأين: جزء يتفرّق منه في ظاهر يسار المعدة ليغذوه، وجزء يغوص إلى فم المعدة لتدفع إليه الفضل العفص الحامض من السوداء ليخرج في الفضول ويدغدغ فم المعدة لدغدغة المنبهة للشهوة. وقد ذكرناها قبل.

وأما الجزء النازل منه فإنه يتجزأ أيضاً جزأين: جزء منه يتفرق شعبة في النصف الأسفل من الطحال ليغذو ويبرز الجزء الثاني إلى الثرب فيتفرق فيه ليغذوه، والجزء الثالث من الستة الأول يأخذ إلى الجانب الأيسر ويتفرق في جداول العروق التي حول المعي المستقيم ليمتصّ ما في الثقل من حاصل الغذاء، والجزء الرابع عن الستة يتفرق كالشعر فبعضه يتوزع في ظاهر يمين حدبة المعدة مقابلاً للجزء الوارد على اليسار منه من جهة الطحال وبعضها يتوجه إلى يمين الثرب ويتفرق فيه مقابلاً للجزء الوارد عليه من جهة اليسار من شعب العرق الطحالي. وأما الخامس من الستة فيتفرّق في الجداول التي حول معي قولون ليأخذ الغذاء. والسادس كذلك أكثره يتفرق حول الصائم وباقية حول اللفائف الدقيقة المتصلة بالأعور فيجذب الغذاء فاعلم ذلك.

الفصل الثالث
تشريح الأجوف وما يصعد منه

وأما الأجوف، فإن أصله أوّلاً يتفرق في الكبد نفسه إلى أجزاء، كالشعر ليجذب الغذاء من شعب الباب المتشعِّبة أيضاً كالشعر، أما شُعَب الأجوف فواردة من حدبة الكبد إلى جوفه، وأما شعب الباب فواردة من تقعير الكبد إلى جوفه، ثم يطلع ساقه عند الحدبة فينقسم إلى قسمين: قسم صاعد، وقسم هابط، فأما الصاعد منه فيخرق الحجاب وينفذ فيه ويخلف في الحجاب عرقين يتفرقان فيه ويؤتيانه الغذاء، ثم يحاذي غلاف القلب فيرسل إليه شعباً كبيرة تتفرع كالشعر وتغذوه، ثم ينقسم قسمين: قسم منه عظيم يأتي القلب فينفذ فيه عند أذن القلب الأيمن، وهذا العرق أعظم عروق القلب. وإنما كان هذا العرق أعظم من سائر العروق لأن سائر العروق هي لاستنشاق النسيم. وهذا هو للغذاء والغذاء أغلظ من النسيم فيحتاج أن يكون منفذه أوسع، ووعاؤه أعظم، وهذا كما يدخل القلب يتخلف له أغشية ثلاثة مسقفها من داخل إلى خارج ومن خارج إلى داخل ليجتذب القلب عند تمدده منها الغذاء، ثم لا يعود عند الإنبساط وأغشيته أصلب الأغشية. وهذا الوريد يخلف عند محاذاة القلب عروقاً ثلاثة تصير منه إلى الرئة ناتئاً عند منيت الشرايين بقرب الأيسر منعطفاً في التجويف الأيمن إلى الرئة. وقد خلق ذا غشاءين كالشريانات. فلهذا يسمى الوريد الشرياني.

والمنفعة الأولى في ذلك أن يكون ما يرشح منه دماً في غاية الرقة مشاكلاً لجوهر الرئة، إذ هذا الدم قريب العهد بالقلب لم ينضج فيه نضج المنصبّ في الشريان الوريدي.

والمنفعة الثانية أن ينضج فيه المم فضل نضج. وأما القسم الثاني من هذه الأقسام الثلاثة فيستدير حول القلب ثم ينبثُّ في داخله ليغذو، وذلك عندما يكاد الوريد الأجوف أن يغوص في الأذن الأيمن داخلاً في القلب. وأما القسم الثالث فإنه يميل من الناس خاصة إلى الجانب الأيسر، ثم ينحو نحو الفقرة الخامسة من فقار الصدر ويتوكأ عليها ويتفرق في الأضلاع الثمانية السفلى وما يليها من العضل وسائر الأجرام، وأما النافذ من الأجوف بعد الأجزاء الثلاثة إذا جاوزنا حبة القلب صعوداً تفرّق منه في أعالي الأغشية المنصفة للصدر وأعالي الغلاف وفي اللحم الرخو المسمّى بتوثة شعب شعرية، ثم عند القرب من الترقوة يتشعب منه شعبتان يتوجّهان إلى ناحية الترقوة متوربتين كلما أمعنتا تباعدتا، فتصير كل شعبة منهما شعبتين واحدة منهما من كل جانب تنحدر على طرف القص يمنة ويسرة حتى تنتهي إلى الحنجري، ويخلف في ممرّها شعباً تتفرّق في العضل التي بين الأضلاع، وتلاقي أفواهها أفواه العروق المنبثة فيها ويبرز منها طائفة إلى العضل الخارجة من الصدر، فإذا وافت الحنجري برزت طائفة منها إلى المتراكمة المحرَّكة للكتف وتتفرَق فيها، وطائفة تنزل تحت العضل المستقيم وتتفرق فيها منها شعب وأواخرها تتَصِل بالأجزاء الصاعدة من الوريد العجزي الذي سنذكره. وأما الباقي من كل واحد منهما وهو زوج فإن كل واحد من فرديه يخلف خمس شعب: شعبة تتفرق في الصدر وتغذو الأضلاع الأربعة العليا، وشعبة تغدو موضع الكتفين، وشعبة تأخذ نحو العضل الغائرة في العنق لتغذوها، وشعبة تنفذ في ثقب الفقرات الستّ العليا في الرقبة وتجاوزها إلى الرأس، وشعبة عظيمة هي أعظمها تصير إلى الإبط من كل جانب وتتفرع فروعاً أربعة: أوّلها: يتفرّق في العضل التي على القصّ، وهي من التي تحرّك مفصل الكتف، وثانيها في اللحم الرخو والصفاقات التي في الإبط، وثالثها يهبط ماراً على جانب الصدر إلى المراق ، ورابعها أعظمها وينقسم ثلاثة أجزاء: جزء يتفرق في العضل التي في تقعير الكتف، وجزء في العضلة الكبيرة التي في الإبط، والثالث أعظمها يمرّ على العضد إلى اليد وهو المسمّى بالإبطي، والذي يبقى من الانشعاب الأول الذي انشعب أحد فرعيه هذه الأقسام الكثيرة فإنّه يصعد نحو العنق، وقبل أن يمعن في ذلك ينقسم قسمين: أحدهما: الوداج الظاهر، والثاني الوداج الغائر.

والوداج الظاهر، ينقسم كما يصعد من الترقوة قسمين: أحدهما كما ينفصل يأخذ إلى قدام وإلى جانب، والثاني يأخذ أولاً إلى قدّام ويتسافل ، ثم يصعد ويعلو مستظهراً ثانياً من الترقوة ويستدير على الترقوة ثم يصعد ويعلو مستظهر الرقبة حتى يلحق بالقسم الأول فيختلط به فيكون منهما الوداج الظاهر المعروف.

وقبل أن يختلط به ينفصل عنه جزآن: أحدهما يأخذ عرضاً ثم يلتقيان عند ملتقى الترقوتين في الموضع الغائر، والثاني يتورب مستظهراً العنق ولا يتلاقى فرداه بعد ذلك ويتفرع من هذين الزوجين شعب عنكبوتية تفوت الحسّ، ولكنه قد يتفرع من هذا الزوج الثاني خاصة في جملة فروعه أوردة ثلاثة محسوسة لها قدر. وسائرها غير محسوسة. وأحد هذه الأوردة يمتد على الكتف وهو المسمى الكتفي، ومنه القيفال واثنان عن جنبتي هذا يلزمانه إلى رأس الكتف معاً، لكن أحدهما يحتبس هناك ولا يجاوزه بل يتفرّق فيه. وأما المتقدّم منهما فيجاوزه إلى رأس العضد ويتفرق هناك. وأما الكتفي فيجاوزهما جميعاً إلى آخر اليد هذا.

وأما الوداج الظاهر بعد اختلاف طرديه فقد ينقسم باثنين فيستبطن جزء منه ويفرّع شعباً صغاراً تتفرق في الفكّ الأعلى وشعباَ أعظم منها بكثير تتفرق في الفكّ الأسفل وأجزاء من كلا صنفي الشعب تتفرق حول اللسان وفي الظاهر من أجزاء العضل الموضوعة هناك. والجزء الآخر يستظهر فيتفرق في المواضع التي تلي الرأس والأذنين.

وأما الوداج الغائر فإنه يلزم المريء ويصعد معه مستقيماً ويخلف في مسلكه شعباً تخالط الشعب الآتية من الوداج الظاهر وتنقسم جميعها في المريء والحنجرة وجميع أجزاء العضل الغائرة، وينفذ آخره إلى منتهى الدرز اللامي، ويتفرع هناك منه فروع تتفرّق في الأعضاء التي بين الفقارة الأولى والثانية، ويأخذ منه عرق شعري إلى عند مفصل الرأس والرقبة ويتفرع منه فروع تأتي الغشاء المجلّل للقحف وتأتي ملتقى جمجمتي القحف وتغوص هناك في القحف. والباقي بعد إرسال هذه الفروع ينفذ إلى جوف القحف في منتهى الدرز اللامي، ويتفرق منه شعب في غشائي الدماغ ليغذوهما وليربط الغشاء الصلب بما حوله وفوقه ثم يبرز فيغذو الحجاب المجلل للقحف. ثم ينزل من الغشاء الرقيق إلى الدماغ ويتفرق فيه تفرق الضوارب ويشملها كلها طي الصفاق الثخين ويؤدّيها إلى الوضع الواسع، وهو الفضاء الذي ينصت إليه الدم ويجتمع فيه. ثم يتفرق عنه فيما بين الطاقين ويسمى معصرة فإذا قاربت هذه الشعب البطن الأوسط من الدماغ احتاجت إلى أن تصير عروقاً كباراً تمتص من المعصرة ومجاريها التي تتشعب منها، ثم تمتد من البطن الأوسط إلى البطنين المقدمين وتلاقي الضوارب الصاعدة هناك وتنسج الغشاء المعروف بالشبكة المشيمية.

الفصل الرابع
تشريح أوردة اليدين

أما الكتِفِيّ وهو القيفال، فأول ما يتفرع منه إذا حاذى العضد شعب تتفرق في الجلد وفي الأجزاء الظاهرة من العضد، ثم بالقرب من مفصل المرفق ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: حبل الذراع وهو يمتد على ظاهر الزند الأعلى ثم يمتدّ إلى الوحشي مائلاً إلى حدبة الزند الأسفل ويتفرق في أسافل الأجزاء الوحشية من الرسغ.

والثاني: يتوجّه إلى معطف المرفق في ظاهر الساعد ويخالط شعبة من الإبطي فيكون منهما اكحل.

والثالث: يتعمق ويخالط في العمق شعبة أيضاً من الإبطي.

وأما الإبطي فإنه أول ما يفرعّ يفرع شعباً تتعمّق في العضل وتتفرّق في العضل التي هناك وتفنى فيه إلاّ شعبة منها تبلغ الساعد، وإذا بلغ الإبطي قرب مفصل المرفق انقسم اثنين: أحدهما: يتعمق ويتصل بالشعبة المتعمقة من القيفال وتجاوره يسيراً، ثم ينفصلان فينخفض أحدهما إلى الإنسي حتى يبلغ الخنصر والبنصر ونصف الوسطى، ويرتفع جزء ينقسم في أجزاء اليد الخارجة التي تماس العظم.

والقسم الثاني من قسمي الإبطي فإنه يتفرعّ عند الساعد فروعاً أربعةً: واحد منها ينقسم في أسافل الساعد إلى الرسغ، والثاني ينقسم فوق انقسام الأوّل مثل انقسامه، والثالث ينقسم كذلك في وسط الساعد، والرابع أعظمها وهو الذي يظهر ويعلو فيرسل فروعاً تضام شعبة من القيفال فيصير منها الأكحل، وباقيه هو الباسليق ، وهو أيضاً يغور ويعمق مرة أخرى. والأكحل يبتدي من الانسيّ ويعلو الزند الأعلى ثم يقبل على الوحشي ويتفرعّ فرعين على صورة حرف اللام اليونانية فيصير أعلى جزئه إلى طرف الزند الأعلى، ويأخذ نحو الرسغ ويتفرغ خلف الإبهام وفيما بينه وبين السبابة وفي السبابة والجزء الأسفل منه يصير إلى طرف الزند الأسفل ويتفرع إلى فروع ثلاثة: فرع منه يتوجه إلى الموضع الذي بين الوسطى والسبابة ويتّصل بشعبة من العرق الذي يأتي السبابة من الجزء الأعلى ويتحد به عرقاً واحداً، ويذهب فرع ثان منه وهو الأسليم فيتفرق فيما بين الوسطى والبنصر، ويمتد الثالث إلى البنصر والخنصر وجميع هذه تنقسم في الأصابع.

الفصل الخامس
تشريح الأجوف النازل

قد ختمنا الكلام في الجزء الصاعد من الأجوف، وهو أصغر جزأيه، فلنبدأ في ذكر الأجوف النازل فنقول: الجزء النازل أول ما يتفرعّ منه كما يطلع من الكبد، وقبل أن يتوكأ على الصلب هو شعب شعرية تصير إلى لفائف الكلية اليمنى ويتفرّق فيها وفيما يقاربها من الأجسام ليغوذها، ثم من بعد ذلك ينفصل منه عرق عظيم في الكلية اليسرى ويتفرعّ أيضاً إلى عروق كالشعر يتفرق في لفافة الكلية اليسرى وفي الأجسام القريبة منها لتغذوها ثم يتفرق منه عرقان عظيمان يسمّيان الطالعين يتوجهان إلى الكليتين لتصفية مائية الدم، إذ الكلية إنما تجتذب منهما غذاءها وهو مائية الدم وقد يتشعب من أيسر الطالعين عرق يأتي البيضة اليسرى من الذكران والإناث . وعلى النحو الذي بيناه في الشرايين لا يغادره في هذا، وفي أنه يتفرع بعد هذين عرقان يتوجهان إلى الأنثيين، فالذي يأتي اليسرى يأخذ دائماً شعبة من أيسر هذين الطالعين وربما كان في بعضهم كلاّ منشئه منه والذي يأتي اليمنى فقد يتفق له أن يأخذ في الندرة شعبة من أيمن هذين الطالعين، ولكن أكثر أحواله أن لا يخالطه وما يأتي الأنثيين من الكلية، وفيه المجرى الذي ينضج فيه المني فيبيض بعد احمراره لكثرة معاطف عروقه واستدارتها وما يأتيها أيضاً من الصلب، وأكثر هذا العرق يغيب في القضيب وعنق الرحم وعلى ما بيناه من أمر الضوارب وبعد نبات الطالعين. وشعبة تتوكأ الأجوف عن قريب على الصلب وتأخذ في الانحدار، ويتفرع منه عند كل فقرة شعب، ويدخلها، ويتفرق في العضل الموضوعة عندما فتتفرع عروق تأتي الخاصرتين وتنتهي إلى عضل البطن، ثم عروق تدخل ثقب الفقار إلى النخاع. فإذا انتهى إلى آخر الفقار انقسم قسمين: يتنحى أحدهما عن الآخر يمنة ويسرة، كل واحد منهما يأخذ تلقاء فخذ، ويتشعب من كل واحد منهما قبل موافاة الكبد طبقات عشر: واحدة منها تقصد المتنين.

والثانية دقيقة الشعب شعريتها تقصد بعض أسافل أجزاء الصفاق.

والثالثة تتفرق في العضل التي على عظم العجز.

والرابعة تتفرق في عضل المقعدة وظاهر العجز.

والخامسة تتوجه إلى عنق الرحم من النساء فيتفرق فيه وفيما يتصل به وإلى المثانة، ثم ينقسم القاصد إلى المثانة قسمين: قسم يتفرق في المثانة، وقسم يقصد عنقها، وهذا القسم في الرجال كثير جداً لمكان القضيب، وللنساء قليل. والعروق التي تأتي الرحم من الجوانب تتفرع منها عروق صاعدة إلى الثدي ليشاكل بها الرحم الثدي.

والسادسة تتوجه إلى العضل الموضوع على عظم العانة.

والسابعة تصعد إلى العضل الذاهب في استقامة البدن على البطن، وهذه العروق تتصل بأطراف العروق التي قلنا إنها تنحدر في الصدر إلى مراق البطن، ويخرج من أصل هذه العروق في الإناث عروق تأتي الرحم. والعرَوق التي تأتي الرحم من الجوانب يتفرع منها عروق صاعدة إلى الثدي ليشارك بها الرحم الثدي.
والثامنة تأتي القبل من الرجال والنساء جميعاً.

والتاسعة تأتي عضل باطن الفخذ فيتفرق فيها. والعاشرة تأخذ من ناحية الحالب مستظهرة إلى الخاصرتين وتتصل بأطراف عروق منحدرة لا سيما المنحدرة من ناحية الثديين، ويصير من جملتها جزء عظيم إلى عضل الأنثيين. وما يبقى من هذه يأتي الفخذ فيتفرع فيه فروع وشعب: واحد منها ينقسم في العضل التي على مقدم الفخذ، وآخر في عضل أسفل الفخذ وإنسيه متعمقاً. وشعب أخرى كثيرة تتفرق في عمق الفخذ وما يبقى بعد ذلك كله ينقسم كما يتحلل مفصل الركبة قليلاً إلى شعب ثلاث: فالوحشي منها يمتد على القصبة الصغرى إلى مفصل الكعب، والأوسط يمتد في منثنى الركبة منحدراً، ويترك شعباً في عضل باطن الساق، ويتشعب شعبتين تغيب إحداهما فيما دخل من أجزاء الساق. والثانية تأتي إلى ما بين القصبتين ممتدة إلى مقدّم الرجل وتختلط بشعبة من الوحشي المذكور. والثالث وهو الإنسي فيميل إلى الموضع المعرق من الساق، ثم يمتد إلى الكعب، وإلى الطرف المحدب من القصبة العظمى، وينزل إلى الإنسي المقدم وهو الصافن وقد صارت هذه الثلاثة أربعة: إثنان وحشيان يأخذان إلى القدم من ناحية القصبة الصغرى، وإثنان إنسيان: أحدهما يعلو القدم ويتفرق في أعالي ناحية الخنصر، والثاني هو الذي يخالط الشعبة الوحشية من القسم الإنسي المذكور ويتفرقان في الأجزاء السفلية. فهذه هي عدد الأوردة وقد أتينا على تشريح الأعضاء المتشابهة الأجزاء. فأما الإلية فسنذكر تشريح كل واحد منها في المقالة المشتملة على أحواله ومعالجاته. ونحن الآن نبتدىء بعون الله ونتكلم في أمر القوى.

التعليم السادس

القوى والأفعال

وهو جملة وفصل الجملة القوى وهي ستة فصول

الفصل الأول
أجناس القوى بقول كلي

فاعلم أن القوى والأفعال، يعرف بعضها من بعض، إذ كان كل قوة مبدأ فعل ما، وكل فعل إنما يصدر عن قوة، فلذلك جمعناهما في تعليم واحد. فأجناس القوى وأجناس الأفعال الصادرة عنها عند الأطباء ثلاثة: جنس القوى النفسانية، وجنس القوى الطبيعية، وجنس القوى الحيوانية.

وكثير من الحكماء وعامة الأطباء وخصوصاً "جالينوس" يرى أن لكل واحدة من القوى عضواً رئيساً هو معدنها، وعنه يصدر أفعالها، ويرون أن القوة النفسانية مسكنها ومصدر أفعالها الدماغ، وأن القوة الطبيعية لها نوعان: نوع غايته حفظ الشخص وتدبيره، وهو المتصرف في أمر الغذاء ليغذو البدن مدة بقائه وينميه إلى نهاية نشوه ومسكن هذا النوع ومصدر فعله هو الكبد ونوع غايته حفظ النوع والمتصرّف في أمر التناسل ليفصل من أمشاج البدن جوهر المني ثم يصور، بإذن خالقه ومسكن هذا النوع ومصدر أفعاله هو الأنثيان، والقوة الحيوانية، وهي التي تدبر أمر الروح الذي هو مركّب الحس والحركة وتهيئة لقبوله إياهما إذا حصل في الدماغ، وتجعله بحيث يعطي ما يفشو فيه الحياة ومسكن هذه القوى ومصدر فعلها هو القلب.

وأما الحكيم الفاضل "أرسطوطاليس " فيرى أن مبدأ جميع هذه القوى هو القلب، إلا أن لظهور أفعالها الأوَلية هذه المبادىء المذكورة، كما أن مبدأ الحس عند الأطباء هو الدماغ، ثم لكل حاسة عضو مفرَد منه يظهر فعله، ثم إذا فتش عن الواجب وحقق وجد الأمر على ما رآه "أرسطوطالس" دونهم. وتوجد أقاويلهم منتزعة من مقدمات مقنعة غير ضرورية، إنما يتبعون فيها ظاهر الأمور.

لكنّ الطبيب ليس عليه من حيث هو طبيب أن يتعرّف الحق من هذين الأمرين، بل ذلك على الفيلسوف أو على الطبيعي. والطبيب إذا سلم له أن هذه الأعضاء المذكورة مبادٍ ما لهذه القوى فلا عليه فيما يحاوله من أمر الطب، كانت هذه مستفادة عن مبدأ قبلها، أو لم تكن، لكن جهل ذلك مما لا يرخص فيه للفيلسوف.

الفصل الثاني
القوى الطبيعية المخدومة

وأما القوى الطبيعية، فمنها خادمة، ومنها مخدومة.

والمخدومة جنسان: جنس يتصرّف في الغذاء لبقاء الشخص وينقسم إلى نوعين: إلى الغاذية والنامية.

وجنس يتصرف في: الغذاء لبقاء النوع وينقسم إلى نوعين: إلى المولدة والمصوَرة، فأما القوة الغاذية فهي التي تحيل الغذاء إلى مشابهة المغتذي ليخلف بدل ما يتحلل. وأما النامية فهي الزائلة في أقطار الجسم على التناسب الطبيعي ليبلغ تمام النشء بما يدخل فيهمن الغذاء، والغاذية تخدم النامية، والغاذية تورد الغذاء تارة مساوياً لما يتحلل، وتارةً أنقص، وتارةً أزيد، والنمو أزيد، والنمو لا يكون إلا بأن يكون الوارد أزيد من المتحلل، إلا أنه ليس كل ما كان كذلك كان نموًا، فإن السمن بعد الهزال في سن الوقوف هو من هذا القبيل وليس هو بنمو، وإنما النموّ ما كان على تناسب طبيعي في جميع الأقطار ليبلغ به تمام النشء، ثم بعد ذلك لا نمو البتة. وإن كان سمن كما أنه لا يكون قبل الوقوف ذيول وإن كان هزال على أن ذلك أبعد وعن الواجب أخرج.

والغادية يتم فعلها بأفعال جزئية ثلاثة: أحدها: تحصيل جوهر البدن وهو الدم والخلط الذي هو بالقوة القريبة من الفعل شبيه بالعضو، وقد تحل به كما يقع في علة تسمى "أطروفيا ". وهو عدم الغذاء. والثاني الإلزاق وهو أن يجعل هذا الحاصل غذاء بالفعل التام، أي صائراً جزء عضو، وقد يخل به كما في الإستسقاء اللحمي. والثالث التشبيه وهو أن يجعل هذا الحاصل عندما صار جزءاَ من العضو شبيهاً به من كل جهة حتى في قوامه ولونه، وقد يخل به كما في البرص والبهق ، فإن البدل والإلزاق موجودان فيهما، والتشبيه غير موجود، وهذا الفعل للقوة المغيرة من القوى الغاذية وهي واحدة في الإنسان بالجنس، أو المبدأ الأول، وتختلف بالنوع في الأعضاء المتشابهة، إذ في كل عضو منها بحسب مزاجه قوة تغير الغذاء إلى تشبيه مخالف لتشبيه القوة الأخرى، لكن المغيرة التي في الكبد تفعل فعلاً مشتركاً بجميع البدن.

وأما القوة المولدة فهي نوعان: نوع يولد المني في الذكور والإناث، ونوع يفصل القوهَ التي في المني فيمزجها تمزيجات بحسب عضو عضو فيخص للعصب مزاجاً خاصاً وللعظم مزاجاً خاصاً وللشريانات مزاجاً خاصاً، وذلك من مني متشابهة الأجزاء أو متشابهة الإمتزاج، وهذه القوة تسميها الأطباء القوة المغيرة. وأما المصورة الطابعة فهي التي يصدر عنها بإذن خالقها تخطيط الأعضاء وتشكيلاتها وتجويفاتها وثقبها وملاستها وخشونتها وأوضاعها ومشاركاتها. وبالجملة الأفعال المتعلقة بنهايات مقاديرها. والخادم لهذه القوة المتصرفة في الغذاء بسبب حفظ النوع هي القوة الغاذية والنامية.

الفصل الثالث
القوة الطبيعية الخادمة

وأما الخادمة الصرفة في القوى الطبيعية فهي خوادم القوة الغاذية وهي قوى أربع: الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة.

والجاذبة: خلقت لتجذب النافع وتفعل ذلك بليف العضو الذي هي فيه الذاهب على الإستطالة.

والماسكة: خلقت لتمسك النافع ريثما تتصرّف فيه القوة المغيّرة له الممتازة منه ويفعل ذلك بليف مورب بهما ربما أعانه المستعرض.

وأما الهاضمة فهي التي تحيل ما جذبته القوة الجاذبة وأمسكته الماسكة إلى قوام مهيأ لفعل القوة المغيرة فيه وإلى مزاج صالح للإستحالة إلى الغذائية بالفعل. هذا فعلها في النافع ويسمى هضماً. وأما فعلها في الفضول فإن تحيلها إن أمكن إلى هذه الهيئة ويسمى أيضاً هضماً، أو يسهل سبيلها إلى الاندفاع من العضو المحتبس فيه بدفع من الدافعة بترقيق قوامها إن كان المانع الغلظ، أو تغليظه إن كان المانع الرقة، أو تقطيعه إن كان المانع اللزوجة. وهذا الفعل يسمى الإنضاج، وقد يقال الهضم والإنضاج على سبيل الترادف. وأما الدافعة: فإنها تدفع الفضل الباقي من الغذاء الذي لا يصلح للإغتذاء أو يفضل عن المقدار الكافي في الإغتذاء أو يستغني عنه أو يستفرغ عن إستعماله في الجهة المرادة مثل البول. وهذه القوة تدفع هذه الفضول من جهات ومنافذ معدة لها. وأما إن لم تكن هناك منافذ معدة فإنها تدفع من العضو الأشرف إلى العضو الأخس ومن الأصلب إلى الأرخى. وإذا كانت جهة الدفع هي جهة ميل مادة الفضل لم تصرفها القوة الدافعة عن تلك الجهة ما أمكن. وهذه القوى الطبيعية الأربع تخدمها الكيفيات الأربع الأولى أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. أما الحرارة فخدمتها بالحقيقة مشتركة للأربع، وأما البرودة فقد يخدم بعضها خدمة بالعرض لا بالذات، فإن الأمر الذي بالذات للبرودة أن يكون مضاداً لجميع القوى، لأن أفعال جميع القوى هي بالحركات. أما في الجذب والدفع فذلك ظاهر. وأما في الهضم فلأن الهضم يستكمل بتفريق أجزاء ما غلظ وكثف وجمعها مع مارق ولطف. وهذه بحركات تفريقية وتمزيجية. وأما الماسكة فهي تفعل بتحريك الليف المورب إلى هيئة من الإشتمال متقنه.

والبرودة مميتة محدرة مالعة عن جميع هذه الأفعال إلا أنها تنفع في الإمساك بالعرض بأن يحبس الليف على هيئة الإشتمال الصالح، فتكون غير داخلة في فعل القوى الدافعة بل مهيئة للآلة تهيئة تحفظ بها فعلها. وأما الدافعة فتنتفع بالبرودة بما يمنع من تحليل الريح المعينة للدفع، وبما يعين في تغليظه، وبما يجمع الليف العريض العاصر ويكنفه. وهذا أيضاً تهيئة للآلة لا معونة في نفس الفعل. فالبرد إنما يدخل في خدمة هذه القوى بالعرض ولو دخل في نفس فعلها لأضر ولأخمد الحركة.

وأما اليوبسة فالحاجة إليها في أفعال قوى ثلاث: الناقلتان والماسكة. أما الناقلتان وهما الجاذبة والدافعة، فلِما في اليبس من فضل تمكين من الإعتماد الذي لا بد منه في الحركة أعني حركة الروح الحاملة لهذه القوى نحو فعلها باندفاع قوي تمنع عن مثله الإسترخاء الرطوبي إذا كان في جوهر الروح، أو في جوهر الآلة. وأما الماسكة فللقبض. وأما الهاضمة فحاجتها إلى الرطوبة أمس، ثم إذا قايست بين الكيفيات الفاعلة والمنفعلة في حاجة هذه القوى إليها صادفت الماسكة حاجتها إلى اليبس أكثر من حاجتها إلى الحرارة، لأن مدة تسكين الماسكة أكثر من مدة تحريكها الليف المستعرض إلى القبض، لأن مدة تحريكها وهي المحتاج فيها إلى الحرارة قصيرة، وسائر زمان فعلها مصروف إلى الإمساك والتسكين. ولما كان مزاج الصبيان أميل كثيراً إلى الرطوبة ضعفت فيهم هذه القوة. وأما الجاذبة فإن حاجتها إلى الحرارة أشد من حاجتها إلى اليبس لأن الحرارة قد تعين في الجذب، بل لأن أكثر مدة فعلها هو التحريك. وحاجتها إلى التحريك أمس من حاجتها إلى تسكين أجزاء اَلتها وتقبيضها باليبوسة، ولأن هذه القوة ليست تحتاج إلى حركة كثيرة فقط بل قد تحتاج إلى حركة قوية. والإجتذاب يتم إما بفعل القوة الجاذبة، كما في المغناطيس التي بها يجذب الحديد، وأما باضطرار الخلاء كانجذاب الماء في الزراقات. وأما الحرارة كاجتذاب لهب السراج الدهن وإن كان هذا القسم الثالث عند المحققين يرجع إلى اضطرار الخلاء، بل هو هو بعينه، فإذاً متى كان مع القوة الجاذبة معاونة حرارة، كان الجذب أقوى. وأما الدافعة فإن حاجتها إلى اليبس أقل من حاجتهما أعني الجاذبة والماسكة، لأنها لا تحتاج إلى قبض الماسكة ولا لزم الجاذبة وقبضها واحتوائها على المجذوب بإمساك جزء من الآلة ليلحق به جذب الجزء الآخر. وبالجملة لا حاجة بالدافعة إلى التسكين البتة بل إلى التحريك وإلى قليل تكثيف يعين العصر والدفع لا مقدار ما تبقى به الآلة حافظة لهيئة شكل العضو أو القبض، كما في الماسكة زماناً طويلاً وفي الجاذبة زماناَ يسيراً ريث تلاحق جذب الأجزاء. فلهذا حاجتها إلى اليبس قليلة وأحوجها كلها إلى الحرارة هي الهاضمة، ولا حاجة بها إلى اليبوسة، بل إنما يحتاج إلى الرطوبة لتسهيل الغذاء وتهيئته للنفوذ في المجاري والقبول للأشكال. وليس لقائل أن يقول: إن الرطوبة لو كانت معينة للهضم لكان الصبيان لا يعجز قواهم عن هضم الأشياء الصلبة، فإن الصبيان ليسوا يعجزون عن هضم ذلك، والشبان يقدرن عليه لهذا السبب بل لسبب المجانسة. والبعد عن المجانسة فما كان من الأشياء صلباً لم يجانس مزاج الصبيان، فلم تقبل عليها قواهم الهاضمة ولم تقبلها قواهم الماسكة، ودفعها بسرعة قواهم الدافعة. وأما الشبّان، فذلك موافق لمزاجهم صالح لتغذيتهم، فيجتمع من هذه أن الماسكة تحتاج إلى قبض وإلى إثبات هيئة قبضٍ زماناَ طويلاً وإلى معونة يسيرة في الحركة. والجاذبة إلى قبض وثبات قبض زماناً يسيراَ جداً ومعونةً كثيرةً في الحركة. والدافعة إلى قبض فقط من غير ثبات يعتد به وإلى معونة على الحركة. والهاضمة إلى إذابة وتمزيج فلذلك تتفاوت هذه القوى في استعمالها للكيفيات الأربع واحتياجها إليها..

الفصل الرابع
القوى الحيوانية

وأما القوة الحيوانية، فيعنون بها، القوة التي إذا حصلت في الأعضاء، هيأتها لقبول قوة الحس والحركة وأفعال الحياة. ويضيفون إليها حركات الخوف والغضب لما يجدون في ذلك من الإنبساط والإنقباض العارض للروح المنسوب إلى هذه القوة. ولنفضل هذه الجملة فنقول: إنه كما قد يتولد عن كثافة الأخلط بحسب مزاج ما جوهر كثيف، هو العضو، أو جزء من العضو فقد يتولّد من بخارية الأخلاط. ولطافتها بحسب مزاج ما هو جوهر لطيف هو الروح، وكما أن الكبد عند الأطباء معدن التولد الأول، كذلك القلب معدن التولد الثاني. وهذا الروح إذا حدث على مزاجه الذي ينبغي أن يكون له إستعد لقوة تلك القوة بعد الأعضاء كلها لقبول القوى الأخرى النفسانية وغيرها.

والقوى النفسانية لا تحدث في الروح والأعضاء إلا بعد حدوث هذه القوة، وإن تعطّل عضو من القوى النفسانية ولم يتعطل بعد من هذه القوة، فهو حي، ألا ترى أن العضو الخدر، والعضو المفلوج، فاقد في الحال لقوة الحسّ والحركة لمزاج يمنعه عن قبوله أو سدة عارضة بين الدماغ وبينه وفي الأعصاب المنبثة إليه، وهو مع ذلك حي والعضو الذي يعرض له الموت، فاقد الحسّ والحركة ويعرض له أن يعفن ويفسد. فإذن في العضو المفلوج قوة تحفظ حياته حتى إذا زال العائق فاض إليه قوة الحس والحركة، وكان مستعدًّا لقبولها بسبب صحة القوة الحيوانية فيه، وإنما المانع هو الذي يمنع عن قبوله بالفعل. ولا كذلك العضو الميت وليس هذا المعد هو قوة التغذية وغيره، حتى إذا كانت قوة التغذية باقية كان حياً، وإذا بطلت كان ميتاً. فإن هذا الكلام بعينه قد يتناول قوة التغذية، فربما بطل فعلها في بعض الأعضاء وبقي حياً وربما بقي فعلها والعضو إلى الموت.

ولو كانت القوة المغذية بما هي قوة مغذية تعد للحسّ والحركة، لكان النبات قد يستعد لقبول الحس والحركة فيبقى أن يكون المعد أمراً آخر يتبع مزاجاً خاصاَ، ويسمى قوة حيوانية، وهو أول قوة تحدث في الروح إذا حدث الروح من لطافة الأمشاج. ثم إن الروح تقبل بها- عند الحكيم "ارسطوطاليس"- المبدأ الأول والنفس الأولى التي ينبعث عنها سائر القوى، إلا أن أفعال تلك القوى لا تصدر عن الروح في أول الأمر، كما أن أيضاً لا يصدر الإحساس عند الأطباء عن الروح النفساني الذي في الدماغ ما لم ينفذ إلى الجليدية، أو إلى اللسان، أو غير ذلك، فإذا حصل قسم من الروح في تجويف الدماغ قبل مزاجاً وصلح لأن يصدر به عند أفعال القوة الموجودة فيه بدناَ. وكذلك في الكبد وفي الأنثيين. وعند الأطباء ما لم يستحل الروح عند الدماغ إلى مزاج آخر لم يستعد لقبول النفس التي هي مبدأ الحركة والحس. وكذلك في الكبد وإن كان الامتزاج الأول قد أفاد قبول القوة الأولى الحيوانية وكذلك في كل عضو كان لكل جنس عن الأفعال عندهم نفس أخرى. وليست النفس واحدة يفيض عنها القوى، أو كانت النفس مجموع هذه الجملة فإنه وإن كان الإمتزاج الأول، فقد أفاد قبول القوة الأولى الحيوانية، حيث حدث روح وقوة هي كماله، لكن هذه القوة وحدها لا تكفي عندهم لقبول الروح بها سائر القوى الأخر ما لم يحدث فيها مزاج خاص. قالوا: وهذه القوة مع أنها مهيئة للحياة، فهي أيضاً مبدأ حركة الجوهر الروحي اللطيف إلى الأعضاء ومبدأ قبضه وبسطه للتنسم والتنقي على ما قيل كأنها بالقياس إلى الحياة تقبل انفعالاً، وبالقياس إلى أفعال النفس والنبض تفيد فعلاً. وهذه القوة تشبه القوى الطبيعية لعدمها الإرادة فيما يصدر عنها، وتشبه القوى النفسانية لتعين أفعالها لأنها تقبض وتبسط معاً وتحرك حركتين متضادتين. إلا أن القدماء إذا قالوا نفس للنفس الأرضية عنوا كمال جسم طبيعي آلي وأرادوا مبدأ كل قوة تصدر عنها بعينها حركات وأفاعيل متخالفة، فتكون هذه القوة على مذهب القدماء قوة نفسانية. كما أن القوى الطبيعية التي ذكرناها تسمى عندهم قوة نفسانية.

وأما إذا لم يرد بالنفس هذا المعنى بل عنى به قوة هي مبدأ إدراك وتحريك تصدر عن إدراك ما، بإرادة ما، وأريد بالطبيعة كلّ قوّة يصدر عنها فعل في جسمها على خلاف هذه الصورة، لم تكن هذه القوة نفسانية، بل كانت طبيعية. وأعلى درجة من القوة التي يسميها الأطباء طبيعية. وأما إن سمي بالطبيعية ما يتصرف في أمر الغذاء وحالته، سواء كان لبقاء شخص، أو بقاء نوع، لم تكن هذه طبيعية وكانت جنساً ثالثاً. ولأن الغضب والخوف وما أشبههما إنفعال لهذه القوة. وإن كان مبدؤها الحس والوهم والقوى الدَاركة كانت منسوبة إلى هذه القوى. وتحقيق بيان هذه القوى وإنها واحدة أو فوق واحدة هو إلى العلم الطبيعي الذي هو جزء من الحكمة.

الفصل الخامس
القوى النفسانية المدركة

والقوة النفسانية تشتمل على قوتين هي كالجنس لهما: إحداهما قُوة مدرِكَة، والأخرى قُوة مُحَركة. والقوة المدركة كالجنس لقوتين: قوة مدركة في الظاهر وقوة مدركة في الباطن. والقوة المدركة في الظاهر هي الحسية، وهي كالجنس لقوى خمس عند قوم، وثمان عند قوم. وإذا أخذت خمسة كانت قوة الإبصار وقوة السمع وقوة الشم وقوة الذوق وقوة اللمس. وأما إذا أخذت ثمانية، فالسبب في ذلك، أن أكثر المحصلين يرون أن اللمس قوى كثيرة بل هو قوى أربع. ويخصون كل جنس من الملموسات الأربع بقوة على حدة، إلا أنها مشتركة في العضو الحساس كالذوق واللمس في اللسان والإبصار واللمس في العين وتحقيق هذا إلى الفيلسوف. والقوة المدركة في الباطن أعني الحيوانية هي كالجنس لقوى خمس: إحداها: القوة التي تسمى الحس المشترك والخيال: وهي عند الأطباء قوة واحدة، وعند المحصلين من الحكماء قوتان. فالحس المشترك هو الذي يتأدى إليه المحسوسات كلها، وينفعل عن صورها ويجتمع فيه. والخيال هو الذي يحفظها بعد الاجتماع ويمسكها بعد الغيبوبة عن الحس والقوة القابلة منهما غير الحافظة. وتحقيق الحق في هذا هو أيضاً على الفيلسوف. وكيف كان فإن مسكنهما ومبدأ فعلهما هو البطن المقدم من الدماغ. والثانية: القوة التي تسميها الأطباء مفكرة: والمحققون تارة يسمونها متخيلة وتارة مفكرة فإن استعملتها القوة الوهمية الحيوانية التي نذكرها بعد أو نهضت هي بنفسها لفعلها سموها متخيلة، وإن أقبلت عليها القوة النطقية وصرفتها على ما ينتفع به، سنها سميت مفكرة. والفرق بين هذه القوة وبين الأولى كيف ما كانت: أن الأولى قابلة أو حافظة لما يتأدى إليها من الصور المحسوسة. وأما هذه فإنها تتصرف على المستودعات في الخيال تصرفاتها من تركيب وتفصيل فتستحضر صوراً على نحو ما تأدى من الحس وصوراً مخالفة لها، كإنسان يطير وجبل من زمرد. وأما الخيال فلا يحضره إلا للقبول من الحس. ومسكن هذه القوة هو البطن الأوسط من الدماغ. وهذه القوة هي اَلة لقوة هي بالحقيقة المدركة الباطنة في الحيوان وهي الوهم، وهو القوة التي تحكم في الحيوان بأن الذئب عدو، والولد حبيب، وأن المتعهد بالعلف صديق، لا ينفر عنه على سبيل غير نطقي. والعداوة والمحبة غير محسوسين ليس يدركهما الحس من الحيوان، فإذن إنما يحكم بهما ويدركهما قوة أخرى، وإن كان ليس بالإدراك النطقي، إلا أنه لا محالة إدراك ما غير النطقي. والإنسان أيضاً قد يستعمل هذه القوة في كثير من الأحكام ويجري في ذلك مجرى الحيوان الغير الناطق . وهذه القوة تفارق الخيال، لأن الخيال يستثبت المحسوسات وهذه تحكم في المحسوسات بمعان غير محسوسة وتفارق التي تسمّى مفكرة ومتخيلة بأن أفعال تلك لا يتبعها حكم ماء، وأفعال هذه يتبعها حكم ما بل هي أحكام ما وأفعال تلك تركبّت في المحسوسات، وفعل هذه هو حكم في المحسوس من معنى خارج عن المحسوس. وكما أن الحس في الحيوان حاكم على صور المحسوسات كذلك الوهم فيها حاكم على معاني تلك الصور التي تتأدى إلى الوهم ولا تتأدى إلى الحس ومن الناس من يتجوز ويسمي هذه القوة تخيلاً، وله ذلك إذ لا منازعة في الأسماء بل يجب أن يفهم المعاني والفروق وهذه القوة لا يتعرض الطبيب لتعرفها وذلك أن مضار أفعالها تابعة لمضار أفعال قوى أخرى قبلها مثل الخيال والتخيّل والذكر الذي سنقوله بعد .والطبيب إنما ينتظر في القوى التي إذا لحقها مضرة في أفعالها كان ذلك مرضاً فإن كانت المضرّة تلحق فعل قوة بسبب مضرة لحقت فعل قبلها وكانت تلك المضرة تتبع سوء مزاج أو فساد تركيب في عضو ما فيكفيه أن يعرف لحوق ذلك الضرر بسبب سوء مزاج ذلك العضو أو فساده حتى يتداركه بالعلاج أو يتحفظ عنه. ولا عليه أن يعرف حال القوة التي إنما يلحقها ما يلحقها كما أن الخيال خزانة لما يتأدى إلى الحس من الصورة المحسوسة بواسطة إذ كان قد عرف حال التي يلحقها بغير واسطة.

والثالثة مما يذكر الأطباء وهي الخامسة أو الرابعة عند التحقيق وهي القوة الحافظة والمذّكرة وهي خزانة لما يتأدى إلى الوهم من معان في المحسوسات غير صورها المحسوسة وموضعها البطن المؤخر من بطون الدماغ وههنا موضع نظر حكمي في أنه هل القوة الحافظة والمتذكرة المسترجعة لما غاب عن الحفظ من مخزونات الوهم قوة واحدة أم قوتان؟ ولكن ليس ذلك مما يلزم الطبيب إذا كانت الآفات التي تعرض لأيهما كان هي الآفات العارضة للبطن المؤخر من الدماغ إما من جنس المزاج وإما من جنس التركيب.
وأما القوة الباقية من قوى النفس المدركة فهي الإنسانية الناطقة. ولما سقط نظر الأطباء عن القوة الوهمية لما شرحناه من العلة، فهو أسقط عن هذه القوة بل نظرهم مقصور على أفعال القوى الثلاث لا غير.

الفصل السادس
القوى النفسانية المحركة

وأمّا القوة المحركة فهي التي تشنج الأوتار وترخيها فتحرّك بها الأعضاء. والمفاصل تبسطها وتثنيها وتنفذها في العصب المتصل بالعضل، وهي جنس يتنوع بحسب تنوع مبادي الحركات، فتكون في كل عضلة طبيعة أخرى، وهي تابعة لحكم الوهم الموجب للإجماع.

الفصل الأخير في الأفعال نقول: إن من الأفاعيل المفردة ما يتم بقوة واحدة مثل الهضم، ومنها ما يتم بقوّتين مثل شهوة الطعام، فإنها تتم بقوة جاذبة طبيعية، وبقوة حساسة في فم المعدة.

أما الجاذبة فبتحريكها الليف المطاول متقاضية ما يجذبه وامتصاصها ما يحضر من  الرطوبات وأما الحساسة فبإحساسها بهذا الإنفعال وبلذع السوداء المنبّهة للشهوة المذكورة قصتها. وإنما كان هذا الفعل مما يتم بقوتين، لأن الحساسة إذا عرض لها آفة بطل المعنى الذي يسمّى جوعاً وشهوة، فلم يشته الطعام. وإن كان للبدن إليه حاجة، وكذلك الازدراد يتم بقوتين: إحداهما الجاذبة الطبيعية، والأخرى الجاذبة الإرادية. والأولى يتم فعلها بالليف المطاول الذي في فم المعدة والمريء. والثانية يتم فعلها بليف عضل الإزدراد. وإذا بطلت إحدى القوتين عسر الإزدراد بل إذا لم تكن بطلت إلا أنها لم تنبعث بعد لفعلها عسر الازدراد. أو ترى أنه إذا كانت الشهوة لم تصدق عسر علينا ابتلاع ما لا تشتهيه، بل إذا كنا نعاف شيئاً، ثم أردنا ابتلاعه فنفرت عنه القوة الجاذبة الشهوانية صعب على الإرادية ابتلاعه. وعبور الغذاء أيضاً يتمّ بقوة دافعة من العضو المنفصل عنه، وجاذبة من العضو المتوجه إليه. وكذلك إخراج الثفل من السبيلين وربما كان الفعل مبدؤه قوتان نفسانية وطبيعية، وربما كان سببه قوة وكيفية مثل التبريد المانع للمواد، فإنه يعاون الدافعة على مقاومة الخلط المنصبّ إلى العضو ومنعه ودفعه في وجهه، والكيفية الباردة تمنع بشيئين بالذات، أي بتغليظ جوهر ما ينصب وتضييق المسام، وبشيء ثالث هو مما بالعرض، وهو إطفاء الحرارة الجاذبة. والكيفية الجاذبة تجذب بما يقابل هذه الوجوه المذكورة واضطرار الخلاء إنما يجذب، أولاً ما لطف، ثم ما كثف، وأما القوة الجاذبة الطبيعية فإنما تجذب الأوفق، أو الذي يخصّها في طبيعتها جذبة، وربما كان الأكثف هو الأوفق والأخصّ.