الكتاب الأول: الأمور الكلية في الطب - الفن الثالث: الصحة والمرض وضرورة الموت

الفن الثالث

الصحة والمرض وضرورة الموت

يشتمل على فصل واحد وخمسة تعاليمإعلم أن الطبّ ينقسم بالقسمة الأولى إلى جزأين: جزء نظري وجزء عملي، وكلاهما علم ونظر، لكنّ المخصوص بإسم النظري هو الذي يفيد علم آراء فقط من غير أن يفيد علم عمل البتّة، مثل الجزء الذي يعلم فيه أمر الأمزاج والأخلاط والقوى وأصناف الأمراض والأعراض والأسباب. والمخصوص باسم العملي هو الذي يفيد علم كيفية العمل والتدبير، مثل الجزء الذي يعلمك أنك كيف تحفظ صحّة بدن بحال كذا، أو كيف تعالج بدناً به مرض كذا ولا تظنن أن الجزء العملي هو المباشرة والعمل، بل الجزء الذي يتعقم فيه علم المباشرة والعمل وكنا قد عرفناك هذا فيما سلف وقد فرغنا في الفن الأول من الجزء النظري الكلي من الطب. ونحن نصرف ذكرنا في الباقيين إلى الجزء العملي منه على نحو كلي.

والجزء العملي منه ينقسم قسمين: أحداهما: علم تدبير الأبدان الصحيحة أنه كيف يحفظ عليها صحتها، وذلك يسمى علم حفظ الصحة.

والقسم الثاني: علم تدبير البدن المريض أنه كيف يرد إلى حال الصحة، ويسمى علم العلاج.

ونحن نبدأ ونكتب في هذا الفن موجزاً من الكلام في حفظ الصحة فنقول: إنه لما كان المبدأ الأول لتكون أبداننا شيئين: أحداهما: المني من الرجل والأصحّ من أمره أنه قائم مقام الفاعل. والثاني: مني المرأة ودم الطمث، والأصح من أمره أنه قائم مقام المادة. وهذان الجوهران مشتركان في أن كل واحد منهما سيال رطب وإن اختلفا بعد ذلك وكانت المائية والأرضية في الدم، ومني المرأة أكثر. والهوائية والنارية في مني الرجل أغلب، وجب أن يكون أول انعقاد هذين انعقاداً رطباً، وإن كانت الأرضية والنارية موجودتين أيضاً فيما تكون منهما، وكانت الأرضية بما فيها من الصلابة، والنارية بما فيها من الإنضاج، قد تعاونا فصلبتا المنعقد وعقدتاه فضل تصليب وتعقيد، لكنه ليس يبلغ ذلك حدٌ انعقاد الأجسام الصلبة مثل الحجارة والزجاج حتى لا يتحلل منهما شيء أو يكون يتحلّل شيء غير محسوس فيكون في أمن من الأفات العارضة لسبب التحلل دائم، أو طويل الزمان جداً. وليس الأمر هكذا، ولذلك فإن أبداننا معرضة لنوعين من الآفات وكل واحد منهما له سبب من داخل وسبب من خارج. وأحد نوعي الافة، هو تحفل الرطوبة التي منها خلقنا وذا واقع بالتدريج. والثاني تعفّن الرطوبة وفسادها وتغيّرها عن الصلوح لإمداد الحياة، وهذا غير الوجه الأول وإن كان يؤذي تأذية ذلك إلى الجفاف بأن يفسد أولاً الرطوبة، ويخالف هيئة صلوحيتها لأبداننا، ثم اَخر الأمر يتحلل عن التعفّن، فإن العفونة تفيد أولاً الرطوبة، ثم تحللها وتذر الشيء اليابس الرمادي. وهاتان الآفتان خارجتان عن الآفات اللاحقة من أسباب أخرى كالبرد المجمد والسموم وأنواع تفرق الاتصال المهلك وسائر الأمراض. ولكنّ النوعين المذكورين أخص تسخيناً، هذا وأحرى أن نعتبرهما في حفظ الصحة وكل واحد منهما يقع من أسباب خارجة ومن أسباب باطنة.

أما الأسباب الخارجة: فمثل الهواء المحلل والمعفّن.

وأما الأسباب الباطنة: فمثل الحرارة الغريزية التي فينا المحلّلة لرطوباتنا والحرارة الغريبة المتولدة فينا عن أغذيتنا وغيرها المتعفنة.

وهذه الأسباب كلها متعاونة على تجفيفنا بل أول أستكمالنا وبلوغنا وتمكننا من أفاعيلنا يكون بجفاف كثير يعرض لنا، ثم يستمر الجفاف إلى أن يتم، وهذا الجفاف الذْي يعرض لنا أمر ضروري لا بد منه، فإنا من أول الأمر ما نكون في غاية الرطوبة ويجب لا محالة أن تكون حرارتنا مستولية عليها، وإلا احتقنت فيها، فهي تفعل فيها لا محالة دائمة وتجففها دائماً، ويكون أول ما يظهر من تجفيفها هو إلى الاعتدال ثم إذا بلغت أبداننا إلى الحد المعتدل من الجفاف والحرارة بحالها، لا يكون التجفيف بقدر التجفيف الأول بل أقوى، لأن المادة أقل فهي أقبل فيؤدي لا محالة إلى أن يزداد التجفيف على المعتدل فلا يزداد لا محالة إلى أن تفنى الرطوبات، فتصير الحرارة الغريزية بالعرض سبباً لإطفاء نفسها إذ صارت سبباً لإفناء مادتها كالسراج الذي يطفأ إذا أفنيت مادته وكلما أخذ التجفيف في الزيادة أخذت الحرارة في النقصان، فعرض دائماً عجز مستمر إلى الإمعان، وعجز عن استبدال الرطوبة بدل ما يتحلل متزايداً دائماً، فيزداد التجفيف من وجهين: أحداهما: لتناقص لحوق المادة، والآخر لتناقص الرطوبة في نفسها بتحليل الحرارة فيزداد ضعف الحرارة لاستيلاء اليبوسة على جوهر الأعضاء ونقصان الرطوبة الغريزية التي هي كالمادة وكالدهن للسراج لأن السراج له رطوبتان ماء ودهن يقوم بأحدهما وينطفىء بالآخر، كذلك الحرارة الغريزية تقوم بالرطوبة الغريزية وتختنق بالغريبة، وازدياد الرطوبة الغريبة التي هي عن ضعف الهضم التي هي كالرطوبة المائية للسراج، فإذا تم الجفاف طفئت الحرارة وكان الموت الطبيعي. وإنما بقي البدن مدة بقائه لا لأن الرطوبة الطبيعية الأولية قاومت تحليل حرارة العالم وحرارة بدنه في غريزته، وما يحدث من حركاته هذه المقاومة المديدة، فإنها أضعف مقاومة من ذلك، لكن إنما أقامها الاستبدال بدل ما يتحلل منها، وهو الغذاء. ثم قد بينا أن الغذاء إنما تتصرّف فيه القوة وتستعمله إلى حد، وصناعة حفظ الحصّة ليست صناعة تضمن الأمان عن الموت ولا تخلص البدن عن الأفات الخارجة، ولا أن تبلغ بكل بدن غاية طول العمر الذي يحب الإنسان مطلقاً، بل إنما تضمن أمرين: منع العفونة أصلاً وحماية الرطوبة كي لا يسرع إليها التحلّل وفي قوتها أن تبقى إلى مدة تقتضيها بحسب مزاجها الأول ويكون ذلك بالتدبير الصواب في استبدال البدن بدل ما يتحلّل مقدار الممكن.

والتدبير المانع من استيلاء أسباب معجلة للتجفيف دون الأسباب الواجبة للتجفيف، وبالتدبير المحرز عن تولّد العفونة لحماية البدن وحراسته عن استيلاء حرارة غريبة خارجاً أو داخلاً، إذ ليست الأبدان كلها متساوية في قوة الرطوبة الأصلية والحرارة الأصلية، بل الأبدان مختلفة في ذلك ولكل بدن حد في مقاومة الجفاف الواجب، يقتضيه مزاجه وحرارته الغريزية. ومقدار رطوبته الغريزية لا يتعداه، ولكن قد يسبق بوقوع أسباب معينة على التجفيف أو مهلكة بوجه اَخر، وكثير من الناس يقول: إن الآجال الطبيعية هي هذه وإن الآجال العرضية هي الآخرى، وكأن صناعة حفظ الصحة هي المبلغة بدن الإنسان هذا السنّ الذي يسمى أجلاً طبيعياً على حفظ للملائمات وقد وكل بهذا الحفظ قوتان يخدمهما الطبيب: إحداهما طبيعية: وهي الغاذية فتخلف بدل ما يتحلل من البدن الذي جوهره إلى الأرضية والمائية.

والثانية حيوانية: وهي القوة النابضة لتخلف بدل ما يتحلل من الروح الذي جوهره هوائي ناري. ولما لم يكن الغذاء شبيهاً بالمغتذي بالفعل، خلقت القوة المغيرة لتغير الأغذية إلى مشابهة المغتذيات بل إلى كونها غذاء بالفعل وبالحقيقة، وخلق لذلك آلات ومجار هي للجذب والدفع والإمساك والهضم.

فنقول: إن ملاك الأمر في صناعة حفظ الصحة هو تعديل الأسباب العامة اللازمة المذكورة- وأكثر العناية بها هو في تعديل أمور سبعة: تعديل المزاج، واختيار ما يتناول، وتنقية الفضول، وحفظ التركيب، وإصلاح المستنشق، وإصلاح الملبوس، وتعديل الحركات البدنية والنفسانية. ويدخل فيها بوجه ما النوم، واليقظة. وأنت تعرف مما سلف بيانه أنه لا الاعتدال حد واحد، ولا الصحة ولا أيضاً كل واحد من المزاج داخل في أن يكوق صحة ما، واعتدالاَ ما في وقت ما، بل الأمر بين الأمرين. فلنبدأ أولاً بتدبير المولود المعتدل المزاج في الغاية.