الكتاب الثاني: الأدوية المفردة - الجملة الأولى: القوانين الطبيعية (القوانين الطبيعية التي يجب أن تعرف من أمر الأدوية المستعملة في علم الطب) - المقالة الأولى: أمزجة الأدوية المفردة

المقالة الأولى

أمزجة الأدوية المفردة

قد بينا في الكتاب الأول معنى قولنا: هذا الدواء حار، وهذا الدواء بارد، وهذا الدواء رطب، وهذا الدواء يابس، وبيّنا أن ذلك بالقياس إلى أبداننا. وصادرنا على أن جميع المركبات المعدنية والنباتية والحيوانية، أركانها هي العناصر الأربعة ، وإنما تمتزج فيفعل بعضها في بعض حتى تستقر على تعادل، أو على تغالب فيما بينها، وإذا استقرت على شيء، فذلك هو المزاج الحقيقي. وأن المزاج إذا حصل في المركّب هيأه لقبول القوى والكيفيات التي من شأنها أن تكون له بعد المزاج، وبينا أن المزاج بالجملة على كم قسم هو، وأن المزاج المعتدل في الناس ماذا يراد به، وأن المزاج المعتدل في الأدوية ماذا يراد به، وبينا أنه إنما يراد به أن البدن الإنساني إذا لاقاه، وفعل فيه بحرارته الغريزية، لم يبعد هو أن يؤثر في بدن الإنسان تبريداً، أو تسخيناً، أو ترطيباً، أو تيبيساً فوق الذي في الإنسان، لسنا نعني به أن مزاجه مثل مزاج الإنسان، فإن مزاج الإنسان لا يكون إلا للإنسان.

واعلم أن المزاج على نوعين: مزاج أوّل: هو أول مزاج يحدث عن العناصر. والمزاج الثاني هو المزاج الذي يحدث عن أشياء لها في أنفسها مزاج: كمثل مزاج الأدوية المركبة، ومزاج الترياق، فإن لكل دواء مفرد من أدوية الترياق مزاجاً يخصه، ثم إذا اختلطت وتركبت حتى تتحد ويحصل لها مزاج، حصل مزاج ثان، وهذا المزاج الثاني، ليس إنما يكون كله عن الصناعة، بل قد يكون عن الطبيعة أيضاً، فإن اللبنَ يمتزج بالحقيقة عن مائية وجبنية وسمنية، وكل واحد من هذه الثلاثة غير بسيط في الطبع، بل هو أيضاً ممتزج وله مزاج يخصه. وهذا المزاج الثاني هو من فعل الطبيعة لا من فعل الصناعة.

والمزاج الثاني قد يكون على وجهين: إما مزاج قوي، واما مزاج رخو.

والمزاج القوي: مثل أن يكون كل واحد من البسيطين اتحد بالآخر اتحاداً يعسر تفريقه على حرارتنا الغريزية، بل قد يكون منه ما يعسر تفريقه على حرارة النار، مثل جرم الذهب فإن المزاج من رطبه ويابسه قد بلغ بلغاً تعجز النارية عن التفريق بينهما، وإذا سيّلت النارية المائية لتصعدها، تشبث بجميع أجزائها أجزاء الأرضية، فلم تقدر على تصعيدها وإرساب الأرضية، كما تقدم على مثله في الخشب، بل في الرصاص، والآنك . فإذا كان من المزاج ما استحكامه هذا الاستحكام، فلا يبعد أن يكون من المزاج ما تعجز الحرارة الغريزية التي فينا عن تفريق بسائطه، وما كان هكذا فهو المزاج الموثق، فإن كان معتدلاً بقي في جميع البدن إلى أن يحيل صورته ويعيده معتدلاً، وما كان مائلاً إلى غلبة بقي في البدن على غَلَبَتِهِ إلى أن تفسد صورته. وبالجملة إنما يصدر عنه فعل واحد. وأما إذا لم يكن المزاج موثقاً بل رخواً سلساً إلى الإنفصال، فقد يجوز أن تفترق بسائطه عند فعل طبيعتنا فيه ويتزايل بعضها عن بعض وتكون مختلفة القوى، فيفعل بعضها فعلاً، ويفعل الآخر ضده، فإذا قال الأطباء إن دواء كذا قوته مركَبة من قوى متضادة، فلا يجب أن يفهموا هم أنفسهم وأنت عنهم ، أن جزءاً واحداً يحمل حرارة وبرودة، بفعل كل واحد منهما بانفراده كالمتميزين، فإن ذلك لا يمكن، بل هما في جزأين منه مختلفين هو مركب منهما. وأيضاً لا يجب أن نظن أن غير ذلك الجنس من الأدوية ليس مركباً من قوى متضادة، فإذا جميع الأدوية مركّبة من قوى متضادة، بل يجب أن تفهم من ذلك أنهم يعنون أنه بالفعل ذو قوى متضادة، أو بقوة قريبة من الفعل لأن فيه أجزاء مختلفة لم يفعل بعضها في بعض فعلاً تام يجعل الكل متشابه القوة تشابهاً تاماً، ولا تلازمت واتحدت حتى إذا حصل بعضها في جزء عضو لزم أن يحصل الآخر معه، لأنه إن كانت متشابهة القوّة لم يختلف فعلها في البدن البتّة، وإن كانت متلازمة الأجزاء ومختلفة القوى، جاز أن لا يختلف أيضاً تأثيرها في البدن، بل كان إذا حصل جزء من بسيط في عضو وافقه ما يلازمه من البسيط الآخر، فحصل منهما الفعل والأثر الذي يؤدي إليه فعلاهما في جميع أجزاء ذلك العضو على السواء، إذ كل واحد من أجزائه معه عائق عن تمام فعله متمكن منه، اللهم إلا أن يكون جزء وعضو قابلاً عن أحد البسطين دون الآخر.

والطبيعة تستعمل أحدهما وترفض الآخر، فقد يكون هذا كثيراً وليس كلامنا في هذا، بل هو في الصنف الذي هو مختلف التأثير لأمر في نفسه، لا لأمر في غيره، وذلك الأمر هو أن بسائطه امتزاجها واهٍ بحيث يقبل التمييز بتأثّر حرارتها، فالأدوية المفردة التي نذكر أن لها قوى متضادة من هذه التي ليس فيها ذلك الامتزاج الكلي. فمن هذه ما هو أقوى امتزاجاً، فلا يقدر الطبخ والغسل على التفريق بين قواها، مثل البابونج الذي فيه قوة محللة وقوة قابضة، وإذا طبخ في الضمادات لم تفارقه القوتان. ومنها ما يقدر الطبخ على التفريق بينهما، مثل الكرنب، فإن جوهره ممتزج من مادة أرضية قابضة، ومن مادة لطيفة جلآءة بورقية ، فإذا طبخ في الماء تحلل الجوهر البورقي الجالي منه في الماء، وبقي الجوهر الأرضي القابض، فصار ماؤه مسهلاً وجرمه قابضاً.

وكذلك العدس، وكذلك الدجاج، وكذلك الثوم، فإن فيه قوة جلاءة محرقة ورطوبة ثقيلة، والطبخ يفرق بينهما. وكذلك البصل، والفجل، وغير ذلك، ولذلك قيل: إن الفجل يهضم ولا ينهضم لا بجميع أجزائه، بل بالجوهر اللطيف الأرق الذي فيه، فإذا تحلل ذلك عنه، بقي الجوهر الكثيف الذي فيه عاصياً على القوة الهاضمة لزجاً، وذلك الجوهر الآخر يقطع اللزوجة.

ومن هذا الباب، ما يقدر الغسل على التفريق بين بسائطه، مثل الهندبا وكثير من البقول، فإن جوهرها مركب من مادة أرضية مائية باردة كثيرة، ومن مادة لطيفة قليلة، فيكون تبريدها بالمادة الأولى، وتفتيحها للسدد وتنفيذها أكثر بالمادة الآخرى، ويكون خل هذه المادة اللطيفة منبسطة على سطحها وقد تصعَدت إليه وانفرشت عليه، فإذا غسلت تحللت في الماء ولم يبق منها شيء يعتد به. فلهذا نهى عن غسلها شرعاً وطباً، وبهذا السبب كثير من الأدوية إذا تناولها الإنسان، برد تبرداً شديداً، فإذا ضمًد بها حللت مثلاً كالكزبرة، فإنها إذا تنوولت اشتد تبريدها فإذا ضمَد بها، فربما حلَلت مثل الخنازير، وخصوصاً مخلوطة بالسويق، وذلك لأنها مركَبة من جوهر أرضي مائي شديد التبريد، ومن جوهر لطيف محلل فإذا تنوولت أقبلت الحرارة الغريزية فحللت عنها الجوهر اللطيف، ولم تكن كثيرة المقدار فتؤثر في المزاج أثراً، بل بعدت ونفذت، وبقي الجوهر المبرد منه غاية في التبريد. وأما إذا ضفد بها فيشبه أن يكون الجوهر الأرضي لا ينفذ في المسام ولا يفعل فيها أثراً البتة. والجوهر اللطيف الناري ينفذ فيها وينضج، فإن استصحبت شيئاً من الجوهر البارد، نفع في الردع وقهر الحرارة الغريزية. وهذا قريب مما بينّاه في الكتاب الأول من إحراق البصل ضمَاداً والسلامة عنه مطعوماً، إذا جعلنا إحدى العلل فيه قريبة من هذا، فيجب أن يكون المعنى محكماً معلوماً. ومن الأدوية ما يشبه أن يكون فيه جوهران مختلفإن في الطبع من غير امتزاج البتّة، فمن ذلك ما هو ظاهر للحس كأجزاء الأترج، ومنه ما هو أخفى، فإن بزر قطونا يشبه أن يكون قشره وما على قشره قوي التبريد. والدقيق الذي فيه قوي التسخين حتى يكاد أن يكون دواء محمراً أو مقرّحاً، وقشره كالحجاب الحاجز بينهما، فإن شرب غير مدقوق لم تمكن صلابة جلده من أن تنفذ قوة دقيقة وباطنة إلى خارج، بل فعل بظاهره ولعابيته، وان دق فعسى أن الذي يقال من أنه سم، هو بسبب ظهور دقيقه وحشوه، فيشبه أن يكون تفجير المدقوق منه للجراحات، وتفحّج الصحيح منه إياها، وردعه لها بهذا السبب، وهذا المقدار كاف في إعطائنا هذا الأصل.