الكتاب الثاني: الأدوية المفردة - الجملة الأولى: القوانين الطبيعية (القوانين الطبيعية التي يجب أن تعرف من أمر الأدوية المستعملة في علم الطب) - المقالة الثالثة: أمزجة الأدوية المفردة بالقياس

المقالة الثالثة

أمزجة الأدوية المفردة بالقياس

وأما تعرّف قوى الأدرية من طريق القياس، فالقوانين فيه بعضها مأخوذ من سرعة استحالتها إلى النار والتسخن، ومن بطء استحالتها، ومن سرعة جمودها، وبطء جمودها، وبعضها مأخوذ من الروائح، وبعضها مأخوذ من الطعوم، وقد تؤخذ من الألوان، وقد تؤخذ من أفعال وقوى معلومة، فيكتسب منها دلائل واضحة على قوى مجهولة.

وأما الطريق الأول، فإن الأشياء المتساوية في قوام الجوهر أعني في التخلخل والتكاثف أيها قَبِلَ السخونة أسرع، فهو أسخن، وأيها قَبِل البرودة أسرع، فهو أبرد. ومن أحد الأسباب في ذلك، أن الشيء قد يَسْخُنُ أسرع من الآخر، والفاعل واحد، لأنه في نفسه أسخن من الآخر، وإنما كان البرد العارض برَدَهُ، فلما وافاه الحار من خارج ووطاه القوة الحارة الطبيعية فيه، ساوى الآخر في السبب الخارج، وفضل عليه بالقوة التي فيه، فْصار أسخن. وعلى هذا فاعرف حال الذي يبرد أسرع، وبعد ذلك ففي- تعليله كلام طويل يتولاه المتكلم في أصول الطبيعيات غير الطبيب.

وأما إذا كان أحدهما أشد تخلخلاً، والآخر أشدّ تكاثفاً، فإن الذي هو أشد تخلخلاً وإن كان في مثل برد الآخر وحره فإنه ينفعل أسرع لضعف جرمه، وأما الأشياء التي من شأنها أن تجمد، والأشياء التي من شأنها أن تشتعل ناراً، فيجوز أن يتقايس بعضها ببعض. وما كان أسرع جموداً وقوامه كقوام الآخر، فهو أبرد، وما كان أسرع اشتعالاً وقوامه كقوام الآخر، فهو أسخن لمثل ما قلنا، ولأنا إنما نقول للشيء إنه أبرد وأسخن بالقياس إلى تأثير الحرارة الغريزية التي فينا فيه، فإذا كان هذا أبعد من الجمود وأسرع إلى الاشتعال، قضينا أنه في التأثر عن حرارتنا الغريزية بتلك الصفة، وهذه الأصول يُبرهن عليها كما ينبغي في العلم الطبيعي. وأما إذا اختلف شيئان في التخلخل والتكاثف، ثم وجد المتكاثف منهما أشد اشتعالاً وأبطأ جموداً، فاحكم أنه لا محالة أسخن جوهراً. وكذلك إن وجدت المتخلخل منها أسرع اشتعالاً، فليس لك أن تجزم القضية فتجعله بهذا السبب أشد حرَّا، فربما كان التخلخل هو السبب في سرعة اشتعاله، كما أنك إن وجدت المتخلخل منهما أسرع جموداً، فليس لك أن تجزم القضية، فتجعله بهذا السبب أشد برداً، فربما كان التخلخل هو السبب في سرعة جموده لضعف جرمه وسرعة انفعاله، مثل الخمر، فإنه وان كان أسخن من دهن القرع، فإنه يجمد أسرع من جمود ذلك الدهن، بل ذلك الدهن قد يخثر ولا يجمد. والشراب يجمد، فإن من الأشياء ما يجمد من غير خثورة، ومن الأشياء ما يخثر من غير جمود. ومعرفة هذا في العلم الطبيعي.

وأما الأشياء القابلة للخثورة إذا تساوت في قوام الجوهر، فأقبلها للخثورة من البرد هو أبردها، وكثير من الأشياء إنما تجمد في الحر، والأشياء التي من شأنها أن تجمد بالحر كلها تنحل بالبرد، كما أن الأشياء التي تجمد بالبرد كلها تنحل بالحر، والحر يجمد بالتخفيف، والبرد ينحلّ بالترطيب على رأي جالينوس. ورأي الفيلسوف الأول قد يخالفه في شيء يسير واستقصاء ذلك في علم آخر. وإذا كانت الأدوية بعضها أسخن لكنه أغلظ، أمكن أن يكون قبوله للجمود كقبول الذي هو أبرد منه لغلظه، وإذا كان بعضها أبرد، لكنه أرقّ أمكن أن يكون قبوله للاشتغال مثل قبول الذي هو أسخن منه لرقّته. والخثورة والانعقاد لا تدل على زيادة في الحرارة، ولا زيادة في البرودة، فإنها قى تخثر الأشياء الأرضية التي فيها، وأشياء لكثرة المائية والهوائية فيها إذا تخلخلا، وكثيراً ما يعرض للهوائية أن تبرد فتستحيل مائية، ويتخلخل المركّب ويكون بارداً، وكثيراً ما تخلخل المائية الباردة لنارية تغلي فيها وتحيلها هوائية وتخثّرها، كما يعرض للمني من الخثورة. فإذا انفصل عنه البخار الناري رق، ولا تمنع الأرضية أن يكون معها نارية مفرطة، فيجوز أن يكون القسم الأول شديد الحرارة، ولا يمنع المائية أن يداخلها هوائية لا تقهر قوتها، فيكون القسم الثاني شديد البرودة، أو نارية تقهره، فيكون شديد الحرارة.

هذا وأما القوانين الآخرى، فيجب أن يعلم الأطباء منها شيئاً واحداً أنه لا يمكن أن يكون الطعوم الحلوة والمرة والحريفة، إلا بجوهر حار، ولا القابضة والحامضة والعفصة، إلا بجوهر بارد. وكذلك الروائح الذكية الحادة لا تكون إلا بجوهر حار، والألوان البيض في الأجسام المنعقدة التي فيها رطوبة لا تكون إلا بجوهر بارد، وفي الأجسام التي فيها يبوسة وانفراك لا تكون إلا بجوهر حار، والأسود في الأمرين بالضد، فإن البرد يبيض الرطب ويسوِّد اليابس والحر يسود الرطب ويبض اليابس وأن هذا حقّ واجب.

ولكن ههنا سبب اخر لأجل ذلك قد تختلف هذه الاستدلالات، وخصوصا في الرائحة واللون، وذلك أنا قد بينا أن الأجسام الدوائية قد تمتزج من عناصر متضادة تارة امتزاجاً أولياً، وتارة امتزاجاً ليس أولياً، بل الأحرى أن يسقى مزاجاً ثانياً، فيجوز في هذا الامتزاج الثاني أن يكون أحد العنصرين قد حصل له مزاج استحقّ به لوناً، أو رائحة، أو طعماً، وحصل له ذلك الذي استحقّه. وكما أن العنصر الآخر قد حصل له مزاج مضاد مخالف لذلك المزاج، يجوز أن يكون يستحق به لوناً مضاداً لذلك اللون أو رائحة أو طعماً مضادين للأول، ويجوز أن لا يستحقّ به ذلك، فإن هذا غير مضبوط وغير معلوم لها الحدود التي منها يستحقّ المزاج الألوان والروائح والطعوم، بل إن قال الإنسان في هذا شيئاً، فإنما يقوله على التخمين، فإن كان قد استحقّ لوناً مقابلاً له، ثم كانا متساويي الكمية حصل في الممتزج الثاني لون مركّب من اللونين. وأن كانا مختلفين حصل في الممتزج الثاني لون أميل إلى اْحد اللونين، فإن لم يستحقّ الثاني لوناً البتة، وكذلك رائحة أو طعماً وكانا متساويين، كان الموجود فيهما هو اللون الأول والرائحة الأولى. وإن كانا قد انكسر المخالطة أجزاء عادمة اللون ولأجزاء متضادة، ولم يكن للون الثاني أثر، فإن هذا أيضاً يكسر كسر الشفاف المخالط للملوّن، وكان ذلك الجسم يرى مثلاً أبيض. ويجوز أن تكون قوّته ليست قوة الأبيض بما هو أبيض، بل هي قوة أخرى مقابلة للأولى، فإنه إذا كان الجرم المخالط العديم اللون، كما اْنه مساوٍ في الكمية مساوٍ في القوّة، كانت القوّة الحاصلة قوّة بين القوتين معتدلة. وإن كان أقوى كثيراً من المتلوّن، كان التأْثير للقوة المضادة لقوة الجرم المصاحب للبياض وكان البياض، مثلاً يوجب أن يكون هو بارداً وهو حار بمرّة. هذا إذا كان متساويي الكمية، وأما إذا كان مثلاً هذا الذي لا لون له أو له لون مضاد قليل الكمية بالقياس إلى الآخر، كثير الكيفية والقوة، لم يؤثر البتّة أثراً في لون ذلك الآخر، وقهره بالقوة قهراً شديداً حتى كان كأنه ليس له قوة وجودة البتّة. تأمل الحال في رطل من اللبن، لو خلطته بمثقالين من الفربيون خلطا كشيء واحد أليس كان المجتمع منهما مسخناً في الغاية، والحس لا يدرك الفربيون منهما، لا لونه ولا عدمه اللون لو كان عادماً للون، إنما يرى بياضاً صرفاً، فيكون قد صدقنا أن هذا البياض هو بجوهر بارد، مثلاً إن فرضنا اللبن بارداً، وكذبنا إن قلنا إن هذا الجوهر المشروب بارد، وذلك لأن هذا البياض ليس هو لوناً لهذا المشروب المجتمع من جهة ما هو مشروب مجتمع، بل هو لون لأحد بسيطيه الغالب بالمقدار المغلوب بالقوة الذي هو محسوس منهما، فهكذا يجب أن يتصورالحال في الأبيض الطبيعي الامتزاج الذي هو في غاية الحر، ونتوقعه أن يكون بارداً مثل الفلفل الأبيض، فإنه كما أن هذا هو الذي يمتزج بالصناعة، فكذلك قد يمتزج بالطبيعة، فتكون الصورة هي هذه الصورة، إلا أن من هذد الكيفيات المحسوسة ما الأولى أن يكون ما يخالطها من الضد يؤثر فيها أثراً بيناً، وأنها ما دامت كيفياتها صادقة محسوسة لا تحس أضدادها فيها فهي غالبة للقوى. وهذا هو في الطعوم لا على أنه واجب بل على أنه أكثري، وبعد الطعوم في الروائح وبعدهما في الألوان، وهو في الألوان كغير الموثوق به.

ومن الأسباب التي فاقت فيها الطعوم الروائح في هذا الباب، وصولها إلى الحس بملاقاة، فهي أولى ما يوصل من جميع أجزاء الدواء قوة. والروائح والألوان تؤثر بلا ملاقاة من أجزائها، فيجوز أن يصل إلى الحس من أجزاء في الرائحة بخار من لطيف أجزائه، ويستعصي البخار من كثيف أجزائه، فلا يتبخر. ويجوز أن يصل إليه لون الظاهر الغالب دون المغلوب الخفي، ولأن الروائح قد تدل على الطعوم مثل الرائحة الحلوة والحامضة والحريفة والمرة، كانت الروائح تالية للطعوم. فالطعوم أكثر صِحَّةِ دلالة، ثم الروائح، ثم الألوان، ثم لو كانت الطعوم أيضاً لا يقع فيها هذا التركيب المذكور، لما كان الأفيون في مرارته مع برده المفرط. وهذا الغلط الذي يقع في الطعوم، يقع في جانب البرد أكثر منه في جانب الحر، أعني أن يكون الدواء له طعم يدل على الحرارة وهو بارد، فإن هذا أكثر من أن يكون الدواء له طعم يدلُ على البرد وهو حار، لأن الحار في أكثر الأحوال أقوى اًثاراً وأظهر أفعالاً وأفذ، فلو كان قد خالط البارد في المزاج الطبيعي حار. تبلغ قوّته مبلغاً يكسر برد ما يقابله، لقد كان بالحري أن يظهر له طعم يكسر طعمه، إذالحار في جميع الأحوال أنفذ وأبلغ وأغلب وأولى بأن يَجْمُلَ الطعومٍ والروائح. ولهذا السبب كأنك لا تجد حامضاً أو عفصاً لا مزاج فيه في الحس ويكون حاراً بأغلب مزاجه كما تجد مرًّا ولذاعاً ويكون بارداً في أغلب مزاجه على أن هذا أيضاً أكثري، وأكثر أكثرية من الآخر، وليس بواجب. فإذا عرفت هذا القانون فيجب الآن أن نقتص عليك ما يقوله الأطباء في الطعوم والروائح والألوان، فإنهم يجعلون الطعوم البسيطة كلها تسعة، وهي وإن كان لا بدّ ثمانية طعوم، وواحد هو عدم الطعم، وهو التفه المسيخ الذي لا يكون له طعم ولا يدرك منه طعم البتّة، كالماء.

وإنهم يسمون بالطعم كل ما يحكم عليه بالذوق حكماً وهو بالفعل، أو حكماً وهو بالقوة ولم ينفعل البتة، وهو الذي لا طعم له، وهو على وجهين: إما تفه عادم للطعم بالحقيقة، وإما تفه عادم له عند الحس. والتفه في القيقة هو الذي لا طعم له بالحقيقة والتفه عند الحس هو الذي له في نفسه طعم، الا أنه لشد تكاثفه لا يتحلل منه شيء، يخالط اللسات فيدركه، ثم إذا احتيل في تحليل أجزائه وتلطيفها أحس طعمه، مثل النحاس والحديد، فإن اللسان لا يدرك منهما طعماً، لأنه لا يتحلّل من جرمهما شيء يصير إلى الرطوبة المبثوثة في أعلى اللسان التي هي واسطة في حس الذوق، ولو احتيل في تهيئته أجزاء صغار ظهر له طعم قوي، ومثل هذا أشياء كثيرة.

وأما الطعوم الثمانية التي يذكرونها التي هي بالحقيقة طعوم بعد التفه، فهي الحلاوة،والمرارة، والحرافة، والملوحة، والحموضة، و العفوصة، و القبض، والدسومة. ويقولون: إن الجوهرالحامل للطعم إما أن يكون كثيفاً أرضياً، وإما أن يكون لطيفاً، وإما أن يكون معتدلاً. وقوته إما أن تكون حارة، وإما أن تكون باردة، وإما أن تكون متوسّطة. والكثيف الأرضي إن كان حاراً فهو مر، وإن كان بارداً فهو عفص، وإن كان معتدلاً فهو حلو. واللطيف إن كان حاراً فهو حريف، ران كان بارداً فهو حامض، وإن كان معتدلاً فهو دسم. والمتوسّط في الكثافة واللطف، إن كان حاراً فهو مالح، وإن كان بارداً فهو قابض، وان كان معتدلاً، فقد قالوا إنه تفه، وفي التفه كلام. والحريف أسخن، ثم المر، ثم المالح، لأن الريف أقوى على التحليل والتقطيع والجلاء من المر، ثم المالح كأنه مر مكسور برطوبة باردة يدل عليه ما ذكرناه من نحو تكونه، وكذلك إذا سخن المالح بشمس، أو نار أو بمفارقة المائية الكاسرة من قوة الحرارة صار مرًا، وكذلك البورق. والمحلل المر أسخن من الملح المأكول، والعفص هو الأبرد، ثم القابض، ثم الحامض، ولذلك تكون الفواكه التي تحلو تكون أولاً فيها عفوصة شديدة التبريد، فإذا جرت فيها هوائية ومائية حتى تعتدل قليلاً بالهوائية وبإسخان الشمس المنضج، مالت إلى الحموضة، مثل الحصرم، وفيما بين ذلك تكون إلى قبض يسير ليس بعفوصة، ثم تنتقل إلى الحلاوة إذا عملت فيها الحرارة المنضجة، وربما انتقل من العفوصة إلى الحلاوة من غير تحمض مثل الزيتون. لكن الحمض وإن كان أقل برداً من العفص فهو في الأكثر أكثر تبريداً منه للطافته ونفوذه. والعفص والقابض يتقاربان في الطعم، لكن القابض إنما يقبض ظاهر اللسان والعفص يقبض ويخشن الظاهر والباطن ومما يعنيه على تخشينة أنه لا ينقسم لكثافته إلى أجزاء صغار بسرعة ولا يلتحم بعضه ببعض بسرعة. و لهاتين حالتين تفترق مواقعه من اللسان افتراقاً محسوساً، فيختلف قبضه في أجزائه، فيختلف وضعها، فيخشن ويعين على ذلك اختلاف أجزاء العضو في مسامتته ومضاهاته. والعفص ألطف وأدخل. والحريف والمر يجردان اللسان جرداً. لكن المر إنما يجرد ظاهر اللسان، والحريف يغوص جرده وتفريقه، لأنه لطيف الجوهر غواص.

وأما المرّ فثقيل الجوهر يابسه، ولذلك لا يقبل الصرف منه عفونة يتولد منها فيه حيوان، ولا يغدو الصرف منه حيواناً. وليبوسة المر ما يجرد مع تخشين ما، ومما يقوي حرارة الحريف على حرارة المر، نفوذه فيقطع شديداً ويحلل شديداً حتى يأكل ويعفن ويبلغ أن يهلك. والحلو والدسم كلاهما يبسطان اللسان ويلينانه بتسييل ما أداه البرد وعقده من غير تحليل، ويزيلان خشونته، لكن الدسم يفعل ذلك من غير تسخين بين. والحلو يفعل مع تسخين، فلذلك ينضج الحلو أكثر.

قالت الأطباء: وإنما صار الحلو لذيذاً لأنه يجلو الغليظ جلاء يصلحه ويسيله ويلينه ويزيل أذى جموده من غير تقطيعه وتفريق اتصال وملاقاة بعنف، ولا يسنخن سخونة مؤذية، بل لذيذة مثل لذة الماء المعتدل الحر إذا صب على الخصر. وأما القول الفصل في هذا فعندهم من أعلى درجة، وليس يجب أن يكون ما هو أحلى أغذى، ولا ما هو ألذ أغذى، وإن كان لا بد من أن يكون في كل غاذ عند الأطباء حلاوة ما، لأن الغذاء يحتاج إلى شرائط أخرى غير الحلاوة. هذا والدسم مناسب لحلو، لكن الكثيف المستحيل إليهما بفعل الحرارة المناسبة يستحيل إلى الحلاوة، إذا كان عماد تلطفه بالمائية وقليل هوائية، ويستحيل إلى الدسومة إذا كان عماد تلطّفه بالمائية العذبة، ويخالطها هوائية كثيرة اشتدّت مداخلتها للمائية. والمر والمالح يَجردان اللسان جرداً، لكن المالج يجرد خفيفاً ويغسل، ولا يخشن ويعينه عليه تأدي ملاقاته للعضو إلى جميع أجزائه بالسوية للطافته، ولكنه يؤذي فم المعدة. والمر يجرد شديداً حتى يخشن، ويعينه عليه اختلاف مواضعه على ما قلنا. والحريف والحامض يلذعان اللسان، لكن الحريف يلذعه لذعاً شديداً مع تسخين، والحامض يلذعه لذعاً وسطاً بلا تسخين. والمالح يحدث من انحلال المرّ في التفه المائي، فإذا انعقد كماء الرماد صار ملحاً. والحامض يحدث من استحالة الحلاوة بنقصان الحرارة، ونضج العفوصة بزيادة الرطوبة والحرارة. وجوهره في جملة الأمر جوهر رطب، وكذلك الحلو فإن جوهره إلى الرطوبة، وجوهر المر والعفص إلى اليبوسة. وأفعال الحلو: الإنضاج، والتليين، وتكثير الغذاء، والطبيعة تحبه، والقوى الجاذبة تجذبه.

وأفعال المرارة: الجلاء، والتخشين.

وأفعال العفوصة: القبض إن ضعف، والعصر إن اشتدّ.

وأفعال القبض: التكثيف والتصليب والحبس.

وأفعال الدسومة: التليين، والإزلاق، وإنضاج قليل.

وأفعال الحرافة: التحليل، والتقطيع، والتعفين.

وأفعال الملوحة: الجلاء، والغسل، والتجفيف، ومنع العفونة.

وأفعال الحموضة: التبريد، والتقطيع.

وقد يجتمع طعمان في جرم واحد، مثل اجتماع المرارة والقبض في الحضُض ، وتسمى البشاعة. ومثل اجتماع المرارة والملوحة في السليخة، وتسمى الزعوقة. ومثل اجتماع الرافة والحلاوة في العسل المطبوخ. ومثل اجتماع المرارة والحرافة والقبض في الباذنجان. ومثل اجتماع المرارة والتفه في الهندبا، وربما يعاون مقتضى طعمين على تقوية مقتضى طعم، فإن الحدة والحرافة الثابتة في الخل من الخمر يجعلانه أشدّ تبريداً، لأن الحدة والحرافة يفتحان المنافذ فيعينان على التنفيذ وإن لم يبلغا في الخل أن يسخنا تسخيناً يعتد به، فيصير تبريد الخل أغوص وربما تعاوق مقتضى طعمين منها، مثل الحموضة والعفوصة في الحصرم، فإن عفوصة الحصرم تمنع حموضته عن التبريد البالغ النافذ، وربما كان القوام معيناً للكيفية، وربما كان مضاداً. أما المعين، فمثل اللطافة التي تقارن الحموضة، فتجعل تبريدها أغوص.

وأما المضاد فمثل الكثافة التي تقارن المصل فتجعل تبريده أقل مسافة. وقد يعرض أن يكون بعض الطعوم غير صرف، ثم يصرف على الزمان مثل ماء الحصرم، فإنه إذا طالت عليه المدة خلصت عليه حموضته لكثرة ما يرسب من العفص وغيره.

وقد يعرض أن يكون بعض الطعام صرفاً، فيخلطه الزمان بغيره، مثل العسل فإنه يمرره ويحرِّفه الزمان زيادة تمرير وتحريف. وكما يقوي تمرير الزمان أو تحريفه عصير العنب، يمرره الزمان أولاً مرارة ممزوجة، ثم يأخذ فيها إلى الحرافة، وإذا اختلط العفص والمر، كان جلاء مع قبض ويصلح لإدمال القروح التي فيها رهل قليل، ويصد لكل إطلاق سببه سدد. وينفع الطحال نفعاً شديداً إن كانت المرارة ليست فيه بضعيفة وجميع ما بهذه الصفة، فإنه نافع للمعدة والكبد، فإن المر المطلق والحريف المطلق يضران بالأحشاء، فإن وافقها القبض نفعت فإنها بمرارتها تجلو وبما فيها من القبض تحفظ قوة الأحشاء. وقد يكون في القابض المر، بل في القابض الذي لا يظهر فيه كثير مرارة قوة تسهيل الصفراء والمائية بالعصر، ولا يكون فيه قوة مسهلة للبلغم اللزج، خصوصاً إن كان القبض أقوى عن المرارة. وهذا كالأفسنتين.

وكل حلو مع قبض، فهو حبيب إلى الأحشاء أيضاً لأنه لذيذ ومقوّ، وينفع خشونة المريء لأنه يشابه المعتدل. وكل مجفف بعفوصته أو قبضه إذا كانت فيه دسومة أو تفه أو حلاوة.

وبالجملة ما يمنع اللذع، فهو منبت للحم. فإن كان قبض مع حرافة أو مرارة وهو المركب من جوهر ناريّ وأرضي، فهو يصلح للقروح التي فيها رطوبة رديئة، ويصلح جداً للإدمال، وقد تتركّب قوى هذه بحسب تركب قوى موادها وطعومها على القياس الذي اشترطناه قبل. فهذا ما نقوله في الطعوم وما يلزم على أصولهم. وأما الكلام المحقق في هذه الأمور، فللعلم الطبيعي، والطبيب يكفيه هذا القدر مأخوذاً منهم.
وأما الروائح فإنها تحدث عن حرارة، وتحدث عن برودة، ولكن مشمَها ومسعطها هي الحرارة في أكثر الأمر، لأن العلة الأكثرية في تقريب الروائح إلى القوة الشامة هو جوهر لطيف بخاري، وإن كان قد يجوز أن يكون على سبيل استحالة الهواء من غير تحلل شيء من ذي الرائحة، إلا أن الأول هو الأكثري، فجميع الروائح التي يحدق منها لذع، أو تميل إلى جنبة الحلاوة، فكلها حارة والتي تحسق حامضة وكرجية ندوية، فكلها باردة.

والطيب أكثره حار، إلا ما يصحبه تندية وتسكين من الروح والنفس كالكافور والنيلوفر ، فإن أجسامها لا تخلو عن جوهر مبرد يصحب الرائحة إلى الدماغ، وكل طيب حار، وكلذلك جميع الأفاوية، وهي لذلك مصدعة. وأما الألوان فقد قلنا فيها وعرفنا أنها تختلف في أكثر الأمر، وليست كالروْائح، لكنها تهدي في معنى واحد هداية أكثرية، وهو أن النوع الواحد إذا اختلفت أصنافه، وكان بعضه إلى البياض وبعضه إلى الصبغ الأحمر والأسود، فإن الضارب إلى البياض إن كان الطبع في النوع بارداً هو أبرد، والضارب إلى الآخرين أقل برداً وإن كان الطبع إلى الحرّ، فالأمر بالعكس، وقد يختلف هذا في أشياء، لكن الأكثري هو الذي قلته، فلنقل الآن في أفعال قوى الأدوية المفردة.