الكتاب الثالث: الأمراض الجزئية - الفن الثالث عشر: المريء والمعدة وأمراضهما - المقالة الثالثة: الهضم وما يتصل به

المقالة الثالثة

الهضم وما يتصل به

فصل في آفات الهضم: آفة الهضم تابعة لآفة في أسفل المعدة، أو لسبب في الغذاء، أو لسبب في حال سكون البدن وحركته. والكائن بسبب أمر المعدة هو، إما سوء مزاج، وأقواه البارد، وأضعفه الحار، فإن البارد أشد إضراراً بالهضم من الحار.

وأما اليابس والرطب، فلا يبلغان في أكثر الأمر إلى أن يظهر منهما وحدهما مع اعتدال الكيفيتين الأخيرتين ضرر في الهضم، إلا وقد أحدثا، أما اليابس فذبولاً، وأما الرطب فاستسقاء، وأما الحال في تأثير السكون والنوم، وضديهما، وما يتبعهما من إحكام الغذاء في ذلك، فإن الغذاء يقتضي السكون والنوم حتى يجيد الهضم، فإذا كان بدلهما حركة، أو سهر، لم يتم الهضم. والغذاء الثقيل يبقى في المعدة طويلاً فينهضم، أو يبقى غير منهضم، أو قليل الانهضام.

وأما الغناء الخفيف، فإنه إذا لم ينهضم لم تبطل مدة بقائه غير منهضم، بل إذا لم يكن في المعدة ما يهضمه، فيفسد بسرعة. والغذاء، إما أن يستحيل إلى الواجب بالهضم التام، وإما أن يستحيل إلى الواجب استحالة ما، وينهضم انهضاماً غير تام، فلا يجذب البدن من القدر الممكن تناوله من الطعام القدر المحتاج إليه من الغذاء، فيكون هزال. وإما أن لا ينهضم أصلاً، وذلك على وجهين: فإنه حينئذ، إما أن يبقى بحاله، وإما أن يستحيل إلى جوهر غريب فاسد. وقد يكون هذا في كل هضم، وحتى في الثالث والرابع، وبسبب ذلك ما يعرض الاستسقاء، والسرطان، والنملة، والحمرة، والبهق، والبرص، والجرب، وذلك لأن الدم غير نضيج نضجاً ملائماً للطبيعة، فلا تجتذبه الأعضاء مغتذية به ويعفن، وينتن، أو تجتذبه، ولا يحسن تشبّهه بها. وإن كان الغالب هناك الثقل أو الحرارة أسود، وربما صار السوداوي منه مثل القار. والمعدة إذا لم تستمرئ أصلاً، آل الأمر إلى زلق، الأمعاء، أو إلى الاستسقاء الطبلي. لكنه إنما يؤول إلى الاستسقاء الطبلي، إذا كان للمعدة فيه تأثير قدر ما يبخر من الغذاء دون ما يهضم.

واعلم أن فساد الهضم، وضعفه، وبالجملة آفاته إذا عرضت من مادة ما كانت، فهو أقبل للعلاج منه إذا عرض لضعف قوة وسوء مزاج مستحكم.

فصل في فساد الهضم: الطعام يفسد في المعدة لأسباب هي أضداد سبب صلاحه فيها. وبالجملة، فإن السبب في ذلك، إما أن يكون في الطعام، وإما في قابل الطعام، وإما في أمور عارضة يطرأ عليها.

والطعام يفسد في المعدة، إما لكميته بأن يكون أكثر مما ينبغي، فينفعل من الهضم دون الذي ينبغي، أو أقل مما ينبغي فينفعل من الهضم فوق الذي ينبغي فيحترق، ويترمد، وبقريب من هذا يفسد الغذاء اللطيف في المعدة النارية الحارة. وإما لكيفيته، بأن يكون في نفسه سريع القبول للفساد، كاللبن الحليب، والبطيخ، والخوخ، أو بطيء القبول للصلاح، كالكمأة، ولحم الجاموس.

أو يكون مفرط الكيفية لحرارته كالعسل، أو لبرودته كالقرع، أو يكون منافياً لشهوة الطاعم بخاصية فيه، أو في الطعام كمن ينفر طبعه عن طعام ما، وإن كان محموداً، أو كان مشتهى عند غيره. وأما لوقت تناوله، وذلك إذا تنوول، وفي المعدة امتلاء، أو بقية من غيره، أو تنوول قبل رياضة معتدلة بعد نفض الطعام الأول، وإخراجه. وإما للخطأ في ترتيبه، بأن يرتب السريع الانهضام فوق البطيء الانهضام، فينهضم السريع الانهضام قبل البطيء الانهضام، ويبقى طافياً فوقه فيفسد، ويفسد ما يخالطه. والواجب في الترتيب أن يقدم الخفيف على الثقيل، واللين على القابض، إلا أن يكون هناك داع مرضي يوجب تقديم القابض لحبس الطبيعة. وأما لكثرة أصنافه وخلط بعضها ببعض، فيمتزج سريع الهضم وبطيء الهضم.

وأما الكائن بسبب القابل، فإما في جوهره، وإما بسبب غيره وما يطيف به ويحدث فيه. والذي في جوهره، فمثل أن يكون بالمعدة سوء مزاج بمادة، أو بغير مادة، فيضعف عن الهضم، أو يجاوز الهضم كما علمت في الحار والبارد، أو يكون جوهرها سخيفاً، وثربها رقيقاً، أو يكون احتواؤه غير متشابه ولا جيداً، أو يكون جيداً، إلا أن ثقله يكون مؤذياً للمعدة، فهي تشتاق إلى حط ما فيها، وإن لم يحدث قراقر ونفخ. وهذان من أسباب ضعف الهضم وبطلانه أيضاً.

وأما الذي يكون بسبب غيره، فمثل أن يكون في المعدة رياح تحول بينها وبين الاشتمال البالغ على الطعام، وإذا قيل أن من أسباب فساد الطعام كثرة الجشاء، فليس ذلك من حيث هو جشاء، بل من حيث هو ريح يتولد، فيمدد المعدة، ويطفي الطعام، فلا يحسن اشتمال قعر المعدة على الطعام. وكل مطفّ للطعام. فهو عائق عن الهضم، ومثل أن تكون المعدة يسيل إليها من الرأس، أو الكبد، أو الطحال، أو سائر الأعضاء ما يفسد الطعام لمخالطته، ولا يمكّن المعدة من تدبيره. وكثيراً ما ينصت إليها بعد الهضم، وكثيراً ما ينصت إليها قبله، ومثل أن يكون ما يطيف بها من الكبد والطحال بارداً، أو رديء المزاج. وأما ما يكون لأسباب طارئة على الطعام وقابلة، فمثل فقدان الطعام ما يحتاج إليه من النوم الهاضم، أو وجدانه من الحركة عليه ما لا يحتاج إليه، فيخضخضه فيفسد، أو لاتفاق شرب عليه أكثر من الواجب أو أقلّ، أو إيقاع جماع عليه، أو تكثير أنواع الأطعمة فيحيّر الطبيعة الهاضمة، أو استحمام، أو تعرّض لهواء بارد شديد البرد، أو شديد الحر، أو رديء الجوهر.

والرياح المحتبسة في البطن تمنع الهضم، وتفسده بخضخضتها الأغذية وحركتها فيها. والطعام يفسد في المعدة، إما بأن يعفن، وإما بأن يحترق، وإما بأن يحمّض، وإما بأن يكتسب كيفية غريبة غير منسوبة إلى شيء من الكيفيات المعتادة. وكل ذلك، إما لأن الطعام استحال إليه، وإما لأن خلطاً على تلك الصفة خالط الطعام فأفسده، وربما كان هذا الخلط ظاهر الأثر، وربما كان قليلاً راسباً إلى أسفل المعدة، ولا ينبسط، ولا يتأدى إلى فم المعدة فكلما زاد الطعام رباً وارتقى إلى فم المعدة، وخالطه كلية الطعام، وربما كان مثل هذا الخلط نافذاً في العروق، ثم تراجع دفعة حين استقبله سدد واقعة في وجوه المنافذ لم يتأتّ النفوذ معها، وإذا كانت المعدة حارة بلا مادة، أو مع مادة صفراوية ينصت من الكبد إليها لكثرة تولدها فيها، أِو من طريق المرارة المذكورة، فسدت فيها الأطعمة الخفيفة، وهضمت القوة والغليظة، كلحم البقر. والطحال سبب لفساد الطعام.

واعلم أن فساد الهضم قد يؤدي إلى أمراض كثيرة خبيثة مثل الصرع، والمالنخوليا المراقي، ونحو ذلك، بل هو أهم الأمراض، ومنبع الأسقام. وإذا فسد هضم الناقهين ولو إلى الحموضة، أنذر بالنكس بما يخشى من العفونة، وكثيراً ما يحدث فساد الطعام حكّة.

فصل في أسباب ضعف الهضم: هي جميع الأسباب التي بعدها في باب فساد الهضم، وعلاماتها تلك العلامات، إلا أن انصباب الصفراء من تلك الجملة لا تضعف الهضم، ولكن قد تفسده. وأما انصباب السوداء، فقد يجمع بين الأمرين، وكذلك أيضاً اليابس، والرطب من تلك الجملة لا يبلغ بهما وحدهما أن يبطلا الهضم أصلاً، بل قد يضعفانه، وقبل أن يبطلا الهضم، فإن الرطب يؤدي إلى الاستسقاء، واليابس إلى الذبول. ومن أسباب فساد الهضم سخافة المراق، وقلة لحمها، وربما كان السبب في ضعف الهضم سرعة نزول الطعام، إما لسبب مزلق من المعدة مما يعلم في باب زلق المعدة، وليس ذلك من أسباب فساد الهضم، ولا يدخل فيها، بل يدخل في أسباب ضعف الهضم، وهذا النزول قبل الوقت قد يكون مع جودة الاحتواء من المعدة على الطعام إذا أسرعت الدافعة بحركتها وكانت قوية. وقد تكون لا لذلك، بل لضعف من الماسكة، فلا يمسك، ولا يحتوي كما ينبغي حتى ينهضم تمام الهضم، وقد يكون ذلك لأورام حارة، أو بلغمية، أو سوداوية، وقروح ونحو ذلك، فلا يجود الاحتواء، وقد لا يجود الاحتواء لسبب من الطعام إذا كان ثقيلاً، أو لذاعاً مرارياً، أو كان حاداً، والمعدة بها مزاج حار، أو سقي صاحبها وبه مزاج حار مانع لجودة الهضم شيئاً حاراً يمنع الهضم، وفي الأكثر يفسده ليس يمنعه فقط، ومثل هذا الإنسان كما علمت ربما شفاه وعدّل هضمه ماء بارد، وكذلك إذا كان في المعدة أخلاط رديئة خصوصاً لذاعة تحجز بينها وبين الأغذية، فلا يجود الاحتواء والإمساك، ويكون الشوق إلى الدفع أشدّ.

والذي يكون بسبب جودة الاحتواء، فإن الاحتواء من المعدة على الطعام إذا كان تاماً، وكان غير مؤذٍ، وفي الهضم خفّة. وإن كان تاماً، إلا أنه مثقل وكانت المعدة تمسك الطعام إمساك من به رعشة لبعض الأثقال، فهو يشتهي أن تفارقه كان الهضم دون ذلك، ولم يكن جشاء، وقراقر. وإن لم يكن احتواء، كان ضعف هضم، وقراقر، وجشاء، وربما أدى إلى ضعف الهضم، واستحالة الغذاء إلى البلغم، وإلى اقشعرار، وبرد الأطراف، وإبهام نوبة الحمّى، لكن النبض لا يكون النبض الكائن في أوائل نوبات الحمى، وقد يكون ضعف الهضم بسبب تخم وامتلاء متقادم، وقد قيل في كتاب الموت السريع أن من كانت به تخم وإبطاء هضم، فظهر على عينيه بثر أسود يشبه الحمص، واحمر بعضه أو اخضر، فإنه يبتدئ عند ذلك باختلاط العقل، ثم يموت في السابع عشر، ومن أسباب ضعف الهضم أو بطلانه الغمّ، كما أن من أسباب جودة الهضم السرور.

المعالجات: إذا كان ضعف الهضم عارضاً عن سبب خفيف، أو امتلاء متقادم كثير، فقد يكفي فيه إطالة النوم، وترك الرياضة، والصياح، والحمّام، واستعمال القيء بالماء الفاتر، و تلطيف التدبير. فإن كان أعظم من ذلك، وكان يعقب تناول الطعام لذع، وغثيان، وجشاء يؤدي طعم الغذاء، فيجب أن تكون التنقية بسقي الماء الفاتر أكثر مراراً، ولا يزال يكرر حتى يتقيأ جميع ما فسد، ثم يصب على رأسه دهن، ويكمّد بطنه، وجنباه بخرق مسخنة، وتدلك أطرافه بالزيت، ودهن الورد، ويصب عليها ماء فاتر، ويرسم له طول النوم، ويمنع الطعام يومه ذلك، فإن أصبح من الغد نشيطاً قوياً، أدخله الحمام، وإلا أعيد إلى النوم والتدبير اللطيف القليل الخفيف، والتنويم ثلاثة أيام على الولاء إلى أن تصير معدته إلى حالها. وربما افتقر إلى الإسهال. والفلفل من أعون الأدوية على الهضم، والنوم كله معين على الهضم، لكن النوم على اليسار شديد المعونة على ذلك، بسبب اشتمال الكبد على المعدة. وأما النوم على اليمين، فسبب لسرعة انحدار الطعام لأن نصبه المعدة يوجب ذلك.

واعلم أن اعتناق صبي كاد يراهق طول الليل من أعون الأشياء على الهضم، ويجب أن لا يعرق عليه، فإن العرق يبرد، فيمنع فائدة الاستدفاء بحرارته الغريزية، ويجب أن لا يكون معه من النفس ريبة، فإن الريبة، وحركة الشهوة تشوش حركات القوى الغاذية. ومن الناس من يعتنق جرو كلب أو سنَور أسود ذكر.

وأما ضعف الهضم الكائن بسبب حرارة مع مادة، فمما ينفع منه السكنجبين السفرجلي، والأغذية القابضة الحامضة الهلامية، والقريصية، وما يشبهها من البوارد، ووزن درهمين سفوف متخذ من عشرة ورد، وثلاثة طباشير، وخمسة كزبرة يابسة، تسقى بماء الرمان، أو في السكنجبين السفرجلي، فإنه نافع جداً.

فصل في دلائل ضعف الهضم: أما الخفيف منه، فيدل عليه ثقل، وقليل تمدد، وبقاء من الطعام في المعدة أطول من العادة. وأما القوي، فيدل علية الجشاء الذي يؤدي طعم الطعام بعد حين، والقراقر، والغثيان، وتقلب النفس. وأما البالغ، فإنه لا يتغير الطعام تغيّراً يعتدّ به أصلاً، مثل أن تكون البرودة أفرطت جداً، والطعام إذا لم ينهضم إلا بطيئاً نزل بطيئاً، إلا أن يكون سبب محرّك للقوة الدافعة من لذع، أو ثقل، أو كيفية أخرى مضادة. وعلامة ما يكون بسبب المزاج ما قد علمت، وأن يكون الاحتواء رعشاً غير قوي، والشوق إلى نزل الطعام، والتشوق إلى الجشاء من غير حدوث قراقر، وجشاء متواتر، وفواق، ونفخة تستدعي ذلك، أو قبل أن تكون حدثت بعد.

وعلامة ما يكون السبب فيه نزولاً قبل الوقت، لين البراز، ونتنه، وقلة درء الكبد والبدن منه، وربما حدث معه لذع ونفخ، والذي يكون عن أخلاط حارة، فدلائله العطش وقلة الشهوة والجشاء المنتن الدخاني. والذي يكون عن أخلاط باردة، فما يخرج منها بالقيء، والحموضة، وسقوط الشهوة مع دلائل البرد والمادة المذكورة في المقالة الأولى. والذي يكون عن أورام ونحوها، فيدل عليه علاماتها.

فصل في دلائل فساد الهضم: أما الدليل الذي لا يعرى منه فساد الهضم، فنتن البراز. وأما الدلائل التي ربما صحبت وربما لم تصحب، فالقراقر، والجشاء، واللذع. دلائل ما يكون السبب فيه أحوال الأغذية المذكورة، التعرّف لأحوالها أنها هل كانت كثيرة، أو قليلة، أو قابلة للتعفن، أو هل أخطأ في تريبها، أو وقتها، أو الحركة عليها جنساً من الخطأ مما سبق ذكره، وأن يكون كلما عمل ذلك عرض فساد الهضم، وكلما أنقى أجيب صح الهضم.

وأما علامة الواقع بسبب مزاج المعدة وإعلالها، فيتعرّف من العلامات المذكورة في الباب الجامع، وإذا كانت المادة الفاسدة في المعدة نفسها كان الغثيان، والأعراض التي تكون مع فساد الهضم متواترة لا فترات لها، وإن كانت هناك فترات، فالمواد آتية منصبّة. وأما الكائن بسبب سخافة المعدة، وتهلهل نسج ليفها، وعروض حالة لها، كالبلا، فتطاول أوجاع المعدة، وأمراضها، وضعف هضم مع ضعف شهوة ونحافة البدن، وبهذا قد يقع منه ضعف الهضم، أو بطلانه دون فساده.

وأما الكائن بسبب الرياح، فيدل عليه دلائل الرياح المذكورة، وأما دلائل الانصبابات من الأعضاء المشاركة، فيما ذكرنا في مواضعه، وأن يتأمل حال ذلك العضو في نفسه، وأن يتعرّف هل يكثر فيها الانصبابات إلى أعضاء في طرق أخرى، مثل ما أن يتعرف هل المظنون به أن معدته تألم للنوازل صاحب نوازل الحلق، والرئة، وغير ذلك. وأما علامة وقوع فساد الهضم بسبب المجرى الصاب للصفراء، فأن يكون المزاج ليس بذلك الصفراوي، ثم يصاب لذع في المعدة وطفو للطعام.

فصل في علاج فساد الهضم: أول ذلك يجب أن يخرج ما فسد من الطعام عن آخره بقيء أو بإسهال، وأن يصلح تدبير المأكول والمشروب، ويرد في جميع الأحوال إلى الواجب، وأن يدافع الطعام حتى يصدق جوعه، ويقوّي المعدة، أولاً بشرب ماء الورد، فإن كان فساد الهضم لحرارة المعدة أو صفراء تنصت إليها، غلظت أغذيتهم، وميل بها إلى البرد حتى يكون مثل لحم البقر المخلل، ولم تجعل باردة رقيقة، فإن الرقيق يفسد في معدهم بسرعة. وصاحب الصفراء منهم، يجب أن يقيأ قبل الطعام، وإن كان ذلك لبرد، عولج ذلك البرد بما ذكر في بابه.
وإن كان السبب تهلهل المعدة، عولج بالأدوية العطرة القابضة المذكورة، وبالأغذية الحسنة الكيموس السريعة الهضم، وقد أميلت إلى نشف، وقبض بالصنعة، وبالأبازير وسائر ما ذكرناه في الباب الجامع.

ومن كان السبب في فساد هضمه انصباب الصفراء من المجرى المذكور الواقع في الندرة، فيجب أن يعتاد القيء قبل الطعام مراراً، فإن انتعش بعد ذلك ونال الطعام، قطعت هذه العادة لئلا تضعف المعدة، وبعد ذلك، فيجب أن يتناولوا بعد القيء الربوب المقوية للمعدة الرادعة لما ينصت إليها، ويدام تضميد معدته لما يقويها على دفع ما ينصب إليها، ثم يجعل له أدواراً، ويقيأ فيها قبل الطعام على القياس المذكور. وأما الذين يحمّض الطعام في معدهم، فإن كانت حموضة قليلة عرضية، فينتفع أصحابها بمص التفاح الحلو، وينتفعون بالكزبرة إذا شربوها قبل الطعام بماء، وكذلك المصطكى إذا استفوا منه. وإن كانت قوية، فمما ينفع من ذلك منفعة بالغة فقّاح الأذخر مع الكراويا، وكذلك جميع الجوارشنات الحارة، وجوارشنات الخبث، وربما انتفع بالجلنجبين المنقوع في الماء الحار.

ومما ينفعهم أن يأخذوا عند النوم من هذا الدواء. ونسخته: يؤخذ فلفل، وكمون، وبزر شبث، من كل واحد جزء، ورد أحمر منزوع الأقماع جزآن، ينخل بعد السحق بحريرة والشربة نصف درهم بشراب ممزوج، فإن احتيج إلى ما هو أقوى من ذلك، فيجب أن يستعمل القيء على كل المالح، والحامض، والحريف، كالفقاع، والصبر عليه ساعة، ثم يقيأ بالسكنجبين العسلي المسخن، وعصارة الفجل، وما يجري مجراه من ماء العسل ونحوه، ثم يداوى بأقراص الورد الكبير، وبالأطريفل وكثيراً ما لا يحتاج فيه إلى القيء حين ما يكون السبب فيه برودة بلا مادة لأجلها يحمض الطعام، وإذا كان الطعام يحمض صيفاً، فهو أفسد. ويجب لصاحبه أن يهجر الثريد والمرق، ويتغذى بالنواشف، والقلابا، والمطجنات، واللحم الأحمر، ويجب أن يبدل منهم المزاج فقط، وكل طعام يفسد في المعدة، فمن حقه أن ينفض، فإن كانت الطبيعة تكفي في ذلك، فليكفّ، وإن لم تكف الطبيعة ذلك، تنوول الكموني بقدر الحاجة، فإن لم يكف استعين بشيء من الجوارشنات المسهلة يتناول منها مقدار قليل بقدر ما يخرج الثفل فقط، والسفرجلي من جملة المختار منها، وأما علامات جودة اشتمال المعدة على الطعام، وجودة الهضم الذي في الغاية وأضدادها هي التي ذكرناها في أبواب الاستدلالات، فإن لم تكن تلك الأشياء المذكورة، لكن أحس بكرب، وثقل، وسوق، إلى حط ثقل مع ضيق نفس يحدث، فاعلم أن المعدة شديدة الاشتمال، إلا أنها متبرمة بمبلغ الطعام في كفيته، واعلم أن الهضم لقعر المعدة والشهوة لفمها.

فصل في بطء نزول الطعام من المعدة وسرعته ومن البطن: قد يبقى من الطعام شيء في المعدة إلى قريب من خمس عشرة ساعة في حاو الصحة، واثنتي عشرة ساعة، وذلك بحسب الغذاء في خفّته وغلظه، ويدل عليه وجود طعمه في الفم، وفي الجشاء، فإن احتباس الطعام في المعدة إنما هو بسبب إبطاء الهضم إلى أن ينهضم، واندفاعه بسبب دفع الدافعة عند حصول الهضم، ولمحرك يحرّك القوة الدافعة مثل لذع صفراء، أو سوداء حامض، أو لشيء مما سنذكره، ليس كما يظنه قوم مر أن كل السبب في احتباسه ضيق المنفذ السفلاني، ولو كان كذلك، لم يمكن خروج الدرهم والدينار المبلوع، ولما كان الشراب واللبن يلبثان في المعدة، ولما كانا هما يطفوان في المعدة الضعيفة، ويقرقران، وينفخان، بل السبب في النزول الطبيعي هو الهضم وقوة المعدة. على الدفع، لا كثير تعلق له بغيره من حال الطعامإذا لم يعرض للمعدة أذى، وإلى أن ينهضم الطعام، فإن المعدة الصحيحة تشتمل عليه، ويضيق منفذها الأسفل الضيق الشديد، فإذا حان الدفع اتسع، ودفعت المعدة ما فيها بليفها المستعرض. وكلما استعجل الهضم استعجل النزول، وإن أبطأ أبطأ، إلا أن يعرض بعض الأسباب المنزلة للطعام عن المعدة، ولم ينهضم بعد مما قد عرفته.

والقدر المعتدل لبقاء الطعام في البطن وخروجه، هو ما بين اثنتي عشرة ساعة إلى اثنتين وعشرين ساعة، والطعام الكثير إذا لم ينهضم لكثرته، والذي كيفيته رديئة أيضاً، فإن كل واحد منهما لا يبقى في المعدة الصحيحة القوية القوة الدافعة، بل يندفع إلى أسفل بسرعة، وربما أعقب خلفة وهيضة، وإذا كانت المعدة ضعيفة يثقلها الطعام، أو مقروحة مبثورة، أو كان فيها خلط لزنج مزلق لم يلبث الطعام فيها إلا قليلاً، وسواء كانت ضعيفة الماسكة أو الهاضمة. وقد يمكنك أن تتعرف علامات ما ينبغي أن تعرفه من أسباب هذا مما سلف لك في الأسباب الماضية.

المعالجات: أما من يبطؤ نزول الطعام عن معدته، أو من يطفو الطعام على معدته، فعلاج ذلك النوم على اليمين، فإنه معين على سرعة نزول الطعام عن المعدة، وإن كان ضعيف المعونة على الهضم، ويعين عليه التمشي اللطيف، ودلك الرجلين، وكسر الرياح بما عرف في بابه. وأما علاج من يسرع نزول الطعام من معدته، قد كان قوم من القدماء يسمون هؤلاء ممعودين، وإما بآخرة، فقد وقع اسم الممعود على غير ذلك. ومما جرّب لهم أن يستعمل عليهم ضماد من دقيق الحلبة، وبزر الكتان، والعسل، وأن يسقوا منه أيضاً. ومن ذلك أن يؤخذ صفرة بيضة مشوية، وملعقة من عسل، ودانقان من المصطكى المسحوق، يجمع الجميع في قيض البيضة، ويشوى على رماد حار، ولا يزال يحرك حتى يدرك، ويؤكل، ويستعمل هذا ثلاثة أيام.

وبالجملة، يجب أن يستعمل قبل الطعام القوابض، أما الباردة إن كان هناك مزاج حار، والمخلوطة بالحار إن كان المزاج إلى البرودة، وقد عرفت جميع هذه الأدوية، ويجب أن ينام على الطعام، ولا يتحرك، ولا يرتاض البتّة، وأن يشد الأطراف العالية منه.

فصل في جشاء المعدة وصلابتها: قد تحدث صلابة في المعدة تشبه الورم، ولا يكون ورماً، ويكون سببه برد مكثف، أو سوداء غليظة مداخلة ما لا يورم.

العلامات: أن يعرف سببه ولا نجد علامة ورمه.

المعالجات: يضمد بإكليل الملك، والزعفران، والمصطكى، والبلسان، والكندر، والمقل، والسنبل، والفردمانا، والمغاث، وشمع ودهن الورد، وكذلك جميع المعالجات المذكورة للأورام الصلبة، وخصوصاً ما ذكر في باب ضعف المعدة للصلابة. ومما جرّب في هذا الشأن دواء بهذه الصفة. ونسخته: يؤخذ من الشمع ست أواق، علك الأنباط ثلاث أواق، زنجبيل وجاوشير من كل واحد أوقيتان، صبر وقنّة من كل واحد ثلاث أواق، دهر البلسان أربع وعشرون أوقية يتّخذ منه ضمّاد ومرهم.

فصل فيما يهيج الجشاء: إذا حدث في المعدة رياح، ولم تنزل، وكانت تحتبس في فم المعدة وتؤذي، فيجب أن تستفرغ بالجشاء كما تستفرغ الفضول الطافية بالقيء، وإلا أفسدت الهضم، وأطفت الغذاء، اللهم إلا أن يحدث كثرة الرطوبات، وبلاغم مستعدة للاستحالات رياحاً، فحينئذ لا يؤمن أن يكون الإفراط في تهييج الجشاء مما يحرك أمراً صعباً. ومما يحرّك الجشا الصعتر، وورق السذاب، والكندر، والأنيسون، والكراويا، والفودنج، والنعنع والنانخواه، والقرنفل، والمصطكى، مضغاً وشرباً.

علاج الجشاء المفرط: أما أسباب الجشاء، ودلالته على الأحوال، فقد ذكرناها في باب الاستدلالات. أما الحامض، فينتفع صاحبه بشرب الفلافلي بالشراب، وربما نفعهم أن يسقوا قبل غذائهم وعشائهم كزبرة يابسة قدر مثقال، ثم يشرب بعده شراب صرف، ومما يسكنه على ما زعم بعضهم، أن تلطخ المعدة بالنورة، وزبل الدجاج. وأما الدخاني إن كان عن مادة، فينتفع بالأفسنتين، والأيارج. وإن كان بلا مادة، فبما يبرد، ويطفئ، ويشد مثل ربوب الفواكه الباردة، والأغذية المبرّدة حسب ما تعلم جميع ذلك.