الجزء الأول - قصة إبراهيم خليل الرحمن

قصة إبراهيم خليل الرحمن

هو إبراهيم بن تسارخ بن ناحور بن ساروغ بن راعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام‏.‏ هذا نص أهل الكتاب في كتابهم، وقد أعلمت على أعمارهم تحت أسمائهم بالهندي كما ذكروه من المدد، وقدمنا الكلام على عمر نوح عليه السلام فأغنى عن إعادته‏.‏

وحكى الحافظ ابن عساكر في ترجمة إبراهيم الخليل من ‏(‏تاريخه‏)‏، عن إسحاق بن بشر الكاهلي، صاحب كتاب ‏(‏المبتدأ‏)‏ أن اسم أم إبراهيم أميلة، ثم أورد عنه في خبر ولادتها له حكاية طويلة‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ اسمها بونا بنت كربنا بن كرثى من بني أرفخشذ بن سام بن نوح‏.‏

وروى ابن عساكر من غير وجه عن عكرمة أنه قال‏:‏ كان إبراهيم عليه السلام يكنى أبا الضيفان‏.‏ قالوا‏:‏ ولما كان عمر تارخ خمساً وسبعين سنة، ولد له إبراهيم عليه السلام، وناحور، وهاران‏.‏

وولد لهاران‏:‏ لوط‏.‏ وعندهم أن إبراهيم عليه السلام هو الأوسط‏.‏ وأن هاران مات في حياة أبيه في أرضه التي ولد فيها، وهي أرض الكلدانيين، يعنون أرض بابل، وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ والأخبار‏.‏

وصحح ذلك الحافظ ابن عساكر، بعد ما روى من طريق هشام بن عمار، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول عن ابن عباس قال‏:‏ ولد إبراهيم بغوطة دمشق، في قرية يقال لها‏:‏ برزة، في جبل يقال له‏:‏ قاسيون‏.‏ ثم قال‏:‏ والصحيح أنه ولد ببابل، وإنما نسب إليه هذا المقام لأنه صلى فيه، إذ جاء معيناً للوط عليه السلام‏.‏

قالوا‏:‏ فتزوج إبراهيم سارة، وناحور ملكا ابنة هاران، يعنون بابنة أخيه‏.‏

قالوا‏:‏ وكانت سارة عاقراً لا تلد‏.‏

قالوا‏:‏ وانطلق تارخ بابنه إبراهيم وامرأته سارة، وابن أخيه لوط بن هاران، فخرج بهم من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين، فنزلوا حران فمات فيها تارخ، وله مائتان وخمسون سنة‏.‏ وهذا يدل على أنه لم يولد بحران، وإنما مولده بأرض الكلدانيين، وهي أرض بابل وما والاها‏.‏

ثم ارتحلوا قاصدين أرض الكنعانيين، وهي بلاد بيت المقدس، فأقاموا بحران وهي أرض الكشدانيين في ذلك الزمان، وكذلك أرض الجزيرة والشام أيضاً، وكانوا يعبدون الكواكب السبعة‏.‏

والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هذا الدين، يستقبلون القطب الشمالي، ويعبدون الكواكب السبعة بأنواع من الفعال والمقال‏.‏ ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل بكوكب منها، ويعملون لها أعياداً وقرابين‏.‏

وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب والأصنام، وكل من كان على وجه الأرض كانوا كفاراً، سوى إبراهيم الخليل، وامرأته، وابن أخيه لوط عليهم السلام، وكان الخليل عليه السلام هو الذي أزال الله به تلك الشرور، وأبطل به ذاك الضلال، فإن الله سبحانه وتعالى أتاه رشده في صغره، وابتعثه رسولاً، واتخذه خليلاً في كبره قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 51‏]‏ أي كان أهلاً لذلك‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 16-27‏]‏‏.‏

ثم ذكر تعالى مناظرته لأبيه وقومه كما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وكان أول دعوته لأبيه، وكان أبوه ممن يعبد الأصنام، لأنه أحق الناس بإخلاص النصيحة له، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 41-48‏]‏‏.‏

فذكر تعالى ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة، وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة، وأحسن إشارة، بيـَّن له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها، ولا تبصر مكانه، فكيف تغني عنه شيئاً، أو تفعل به خيراً من رزق أو نصر‏؟‏

ثم قال منبهاً على ما أعطاه الله من الهدى، والعلم النافع، وإن كان أصغر سناً من أبيه‏:‏ ‏{‏يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً‏}‏ أي‏:‏ مستقيماً، واضحاً، سهلاً، حنيفاً، يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك، فلما عرض هذا الرشد عليه، وأهدى هذه النصيحة إليه، لم يقبلها منه ولا أخذها عنه، بل تهدده وتوعده‏.‏

‏{‏قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ‏}‏ قيل بالمقال، وقيل بالفعال‏.‏

‏{‏وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً‏}‏ أي‏:‏ واقطعني وأطل هجراني‏.‏

فعندها قال له إبراهيم‏:‏ ‏{‏سَلامٌ عَلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ لا يصلك مني مكروه، ولا ينالك مني أذىً، بل أنت سالم من ناحيتي، وزاده خيراً فقال‏:‏ ‏{‏سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ أي لطيفاً يعني في أن هداني لعبادته والإخلاص له‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً‏}‏ وقد استغفر له إبراهيم عليه السلام كما وعده في أدعيته، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ‏} ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني أخي عبد الحميد، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم‏:‏ ألم أقل لك لا تعصني‏؟‏

فيقول له أبوه‏:‏ فاليوم لا أعصيك‏.‏

فيقول إبراهيم‏:‏ يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، وأيّ خزي أخزى من أبي الأبعد‏.‏

فيقول الله‏:‏ إني حرمت الجنة على الكافرين‏.‏

ثم يقال‏:‏ يا إبراهيم ما تحت رجليك‏؟‏ فينظر فإذا هو بذبح متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا رواه في قصة إبراهيم منفرداً‏.‏

وقال في التفسير‏:‏ وقال إبراهيم بن طهمان، عن ابن أبي ذؤيب، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة‏.‏

وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن حفص بن عبد الله، عن أبيه، عن إبراهيم بن طهمان به‏.‏

وقد رواه البزار من حديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏ وفي سياقه غرابة‏.‏ ورواه أيضاً من حديث قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏} ‏[‏الأنعام‏:‏ 74‏]‏ هذا يدل على أن اسم أبي إبراهيم آزر، وجمهور أهل النسب منهم ابن عباس على أن اسم أبيه تارح، وأهل الكتاب يقولون تارخ، بالخاء المعجمة‏.‏ فقيل إنه لقب بصنم كان يعبده اسمه آزر‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ والصواب أن اسمه آزر، ولعل له اسمان علمان، أو أحدهما لقب والآخر علم‏.‏ وهذا الذي قاله محتمل والله أعلم‏.‏ ‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 75-83‏]‏‏.‏

وهذا المقام مقام مناظرة لقومه، وبيان لهم أن هذه الأجرام المشاهدة من الكواكب النيرة لا تصلح للألوهية، ولا أن تعبد مع الله عز وجل لأنها مخلوقة مربوبة، مصنوعة مدبرة، مسخرة، تطلع تارة، وتأفل أخرى، فتغيب عن هذا العالم، والرب تعالى لا يغيب عنه شيء، ولا تخفى عليه خافية، بل هو الدائم الباقي بلا زوال، لا إله إلا هو، ولا رب سواه فبين لهم أولاً عدم صلاحية الكواكب‏.‏

قيل‏:‏ هو الزهرة لذلك، ثم ترقى منها إلى القمر الذي هو أضوأ منها وأبهى من حسنها، ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياءً وسناءً وبهاءً، فبين أنها مسخرة، مسيرة مقدرة مربوبة‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً‏}‏ أي طالعة‏.‏ ‏{‏قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 78 -80‏]‏ أي‏:‏ لست أبالي في هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله، فإنها لا تنفع شيئا ولا تسمع ولا تعقل، بل هي مربوبة ومسخرة كالكواكب ونحوها، أو مصنوعة منحوتة منجورة‏.‏

والظاهر أن موعظته هذه في الكواكب لأهل حران، فإنهم كان يعبدونها، وهذا يرد قول من زعم أنه قال هذا حين خرج من السرب لما كان صغيرا‏.‏ كما ذكره ابن إسحق وغيره‏.‏ وهو مستند إلى أخبار إسرائيلية لا يوثق بها، ولا سيما إذا خالفت الحق‏.‏

وأما أهل بابل فكانوا يعبدون الأصنام، وهم الذين ناظرهم في عبادتها وكسرها عليهم، وأهانها وبين بطلانها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 25‏]‏‏.‏ ‏

وقال في سورة الأنبياء‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 51-70‏]‏‏.‏

وقال في سورة الشعراء‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 69 -83‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الصافات‏:‏

{‏وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 83-98‏]‏‏.‏

يخبر الله تعالى عن إبراهيم خليله عليه السلام، أنه أنكر على قومه عبادة الأوثان، وحقرها عندهم وصغرها وتنقصها، فقال‏:‏ ‏{‏مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ‏}‏ أي‏:‏ معتكفون عندها وخاضعون لها‏.‏

{‏قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ‏}‏ ما كان حجتهم إلا صنيع الآباء والأجداد، وما كانوا عليه من عبادة الأنداد‏.‏

{‏قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 52‏]‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال قتادة‏:‏ فما ظنكم به أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره‏؟‏

وقال لهم‏:‏ ‏{‏قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ‏}‏ سلموا له أنها لا تسمع داعياً، ولا تنفع ولا تضر شيئاً، وإنما الحامل لهم على عبادتها الاقتداء بأسلافهم، ومن هو مثلهم في الضلال من الآباء الجهال‏.‏

ولهذا قال لهم‏:‏ ‏{‏قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ وهذا برهان قاطع على بطلان آلهية ما ادعوه من الأصنام، لأنه تبرأ منها وتنقص بها، فلو كانت تضر لضرته أو تؤثر لأثرت فيه‏.

{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ‏}‏ يقولون‏:‏ هذا الكلام الذي تقوله لنا، وتنتقص به آلهتنا، وتطعن بسببه في آبائنا تقوله محقّاً جاداً فيه أم لاعباً‏؟‏

‏{‏قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ يعني‏:‏ بل أقول لكم ذلك جاداً محقاً، وإنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ربكم ورب كل شيء، فاطر السماوات والأرض، الخالق لهما على غير مثال سبق، فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأنا على ذلكم من الشاهدين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ‏}‏ أقسم ليكيدن هذه الأصنام التي يعبدونها، بعد أن تولوا مدبرين إلى عيدهم‏.‏

قيل‏:‏ إنه قال هذا خفية في نفسه، وقال ابن مسعود‏:‏ سمعه بعضهم‏.‏ وكان لهم عيد يذهبون إليه في كل عام مرة إلى ظاهر البلد، فدعاه أبوه ليحضره فقال‏:‏ إني سقيم‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ‏}‏ عرض لهم في الكلام حتى توصل إلى مقصوده من إهانة أصنامهم، ونصرة دين الله الحق في بطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام، التي تستحق أن تكسر، وأن تهان غاية الإهانة، فلما خرجوا إلى عيدهم واستقر هو في بلدهم، راغ إلى آلهتهم، أي‏:‏ ذهب إليها مسرعاً مستخفياً، فوجدها في بهو عظيم، وقد وضعوا بين أيديها أنواعاً من الأطعمة قرباناً إليها‏.‏

فقال لها على سبيل التهكم والازدراء‏:‏ ‏{‏أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ‏} لأنها أقوى وأبطش، وأسرع وأقهر، فكسرها بقدوم في يده كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً‏}‏ أي‏:‏ حطاماً، كسرها كلها‏.‏

{‏إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ‏}‏ قيل‏:‏ إنه وضع القدوم في يد الكبير، إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار‏.‏ فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم ‏{‏قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون، وهو ما حل بآلهتهم التي كانوا يعبدونها، فلو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها من أرادها بسوء، لكنهم قالوا من جهلهم، وقلة عقلهم، وكثرة ضلالهم وخبالهم‏:‏ ‏{‏قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ‏}‏ أي‏:‏ يذكرها بالعيب والتنقص لها والإزدارء بها، فهو المقيم عليها والكاسر لها‏.‏

وعلى قول ابن مسعود‏:‏ أي يذكرهم بقولهوَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ‏}‏

{‏قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ في الملأ الأكبر على رؤوس الأشهاد، لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كلامه، ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه‏.‏

وكان هذا أكبر مقاصد الخليل عليه السلام أن يجتمع الناس كلهم فيقيم على جميع عبّاد الأصنام الحجة على بطلان ما هم عليه، كما قال موسى عليه السلام لفرعون‏:‏ ‏{‏مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 59‏]‏‏.‏ ‏‏

فلما اجتمعوا وجاؤوا به كما ذكروا، ‏{‏قَالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا‏.‏‏.‏‏}‏ قيل معناه‏:‏ هو الحامل لي على تكسيرها، وإنما عرض لهم في القول‏:‏ {‏فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ‏} ‏[‏الأنبياء‏:‏ 62-63‏]‏

وإنما أراد بقوله هذا، أن يبادروا إلى القول بأن هذه لا تنطق، فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات‏.‏

{‏فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ فعادوا على أنفسهم بالملامة فقالوا‏:‏ إنكم أنتم الظالمون، أي‏:‏ في تركها لا حافظ لها، ولا حارس عندها‏.‏

{‏ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤوسِهِمْ‏}‏ قال السدي‏:‏ أي ثم رجعوا إلى الفتنة، فعلى هذا يكون قوله‏:‏ إنكم أنتم الظالمون، أي‏:‏ في عبادتها‏.‏

وقال قتادة‏:‏ أدركت القوم حيرة سوء، أي‏:‏ فأطرقوا ثم قالوا‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا تنطق، فكيف تأمرنا بسؤالها‏؟‏ فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السلام‏:‏ ‏{‏قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏} ‏[‏الأنبياء‏:‏ 66-67‏]‏

كما قال‏:‏ ‏{‏فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يسرعون‏.‏

قال‏:‏ ‏{‏أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ‏}‏ أي‏:‏ كيف تعبدون أصناماً أنتم تنحتونها من الخشب والحجارة، وتصورونها وتشكلونها كما تريدون‏.‏

{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ وسواء كانت ما‏:‏ مصدرية، أو بمعنى الذي، فمقتضى الكلام أنكم مخلوقون‏.‏ وهذه الأصنام مخلوقة، فكيف يعبد مخلوق لمخلوق مثله‏؟‏ فإنه ليس عبادتكم لها بأولى من عبادتها لكم، وهذا باطل، فالآخر باطل للتحكم، إذ ليست العبادة تصلح ولا تجب إلا للخالق وحده لا شريك له‏.‏

{‏قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ‏} ‏[‏الصافات‏:‏ 97-98‏]‏ عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا وغلبوا، ولم تبقَ لهم حجة ولا شبهة إلى استعمال قوتهم وسلطانهم، لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم، فكادهم الرب جل جلاله وأعلى كلمته، ودينه وبرهانه كما قال تعالى‏:‏

‏{‏قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 68-70‏]‏‏.‏

وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطباً من جميع ما يمكنهم من الأماكن، فمكثوا مدة يجمعون له، حتى أن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطباً لحريق إبراهيم، ثم عمدوا إلى جوبة عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب، وأطلقوا فيه النار، فاضطربت وتأججت والتهبت وعلاها شرر لم ير مثله قط‏.‏

ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له هزن، وكان أول من صنع المجانيق فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول‏:‏ لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك، فلما وضع الخليل عليه السلام في كفة المنجنيق مقيداً مكتوفاً، ثم ألقوه منه إلى النار قال‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

كما روى البخاري عن ابن عباس أنه قال‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار‏.‏ وقالها محمد حين قيل له‏:‏ ‏{‏إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 173-174‏]‏

وقال أبو يعلى‏:‏ حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي جعفر الرازي، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لما ألقي إبراهيم في النار قال‏:‏ اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر بعض السلف أن جبريل عرض له في الهواء فقال‏:‏ ألك حاجة‏؟‏ فقال‏:‏ أما إليك فلا‏.‏

ويروى عن ابن عباس، وسعيد بن جبير أنه قال‏:‏ جعل ملك المطر يقول‏:‏ متى أومر فأرسل المطر‏؟‏ فكان أمر الله أسرع‏.‏ ‏{‏قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 69‏]‏‏.‏

قال علي بن أبي طالب‏:‏ أي لا تضريه‏.‏

وقال ابن عباس وأبو العالية‏:‏ لولا أن الله قال‏:‏ ‏{‏وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ‏}‏ لأذى إبراهيم بردها‏.‏

وقال كعب الأحبار‏:‏ لم ينتفع أهل الأرض يومئذ بنار، ولم يحرق منه سوى وثاقه‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ يروى أن جبريل عليه السلام كان معه يمسح العرق عن وجهه، لم يصبه منها شيء غيره‏.‏

وقال السدي‏:‏ كان معه أيضاً ملك الظل، وصار إبراهيم عليه السلام في ميل الجوبة حوله النار، وهو في روضة خضراء، والناس ينظرون إليه لا يقدرون على الوصول إليه، ولا هو يخرج إليهم، فعن أبي هريرة أنه قال‏:‏ أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال‏:‏ نعم الرب ربك يا إبراهيم‏.‏

وروى ابن عساكر، عن عكرمة أن أم إبراهيم نظرت إلى ابنها عليه السلام فنادته‏:‏ يا بني إني أريد أن أجيء إليك، فادعُ الله أن ينجيني من حر النار حولك، فقال‏:‏ نعم‏.‏ فأقبلت إليه لا يمسها شيء من حر النار، فلما وصلت إليه اعتنقته وقبلته، ثم عادت‏.‏

وعن المنهال بن عمرو أنه قال‏:‏ أخبرت أن إبراهيم مكث هناك إما أربعين وإما خمسين يوماً، وأنه قال‏:‏ ما كنت أياماً وليالي أطيب عيشاً إذ كنت فيها، ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها، صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

فأرادوا أن ينتصروا فخُذلوا، وأرادوا أن يرتفعوا فاتّضعوا، وأرادوا أن يغلبوا فغُلبوا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ‏}‏ وفي الآية الأخرى ‏{‏الأَسْفَلِيْن‏}‏ ففازوا بالخسارة والسفال هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فإن نارهم لا تكون عليهم برداً ولا سلاماً ولا يلقون فيها تحية ولا سلاماً بل هي كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنْهَا سَاءتْ مُسْتَقَرَّاً وَمُقَامَا‏}‏‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن موسى، أو ابن سلام عنه، أنبأنا ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير، عن سعيد بن المسيب، عن أم شريك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وكان ينفخ على إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث ابن جريج‏.‏ وأخرجاه والنسائي وابن ماجة، من حديث سفيان بن عيينة كلاهما عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي أمية، أن نافعاً مولى ابن عمر أخبره، أن عائشة أخبرته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اقتلوا الوزغ، فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم‏)‏‏)‏ قال‏:‏ فكانت عائشة تقتلهن‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن نافع، أن امرأة دخلت على عائشة فإذا رمح منصوب فقالت‏:‏ ما هذا الرمح‏؟‏ فقالت‏:‏ نقتل به الأوزاغ‏.‏ ثم حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏أن إبراهيم لما ألقي في النار جعلت الدواب كلها تطفيء عنه إلا الوزغ، فإنه جعل ينفخها عليه‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد من هذين الوجهين‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا جرير، حدثنا نافع، حدثتني سمامة مولاة الفاكه بن المغيرة قالت‏:‏ دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحاً موضوعاً فقلت‏:‏ يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح‏؟‏ قالت‏:‏ هذا لهذه الأوزاغ نقتلهن به، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا‏:‏

‏(‏‏(‏أن إبراهيم حين ألقي في النار، لم يكن في الأرض دابة إلا تطفىء عنه النار غير الوزغ، كان ينفخ عليه فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يونس بن محمد، عن جرير بن حازم به‏.‏

 ذكر مناظرة إبراهيم الخليل مع من ادعى الربوبية، وهو أحد العبيد الضعفاء

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏ ‏

يذكر تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد، الذي ادّعى لنفسه الربوبية، فأبطل الخليل عليه السلام دليله، وبين كثرة جهله وقلة عقله، وألجمه الحجة، وأوضح له طريق المحجة‏.‏

قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار‏:‏ وهذا الملك هو ملك بابل، واسمه النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح‏.‏ قاله مجاهد‏.‏

وقال غيره‏:‏ نمرود بن فالح بن عابر بن صالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح‏.‏

قال مجاهد وغيره‏:‏ وكان أحد ملوك الدنيا، فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة‏:‏ مؤمنان وكافران، فالمؤمنان‏:‏ ذو القرنين وسليمان، والكافران‏:‏ النمرود وبختنصر، وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة، وكان قد طغا وبغى، وتجبر وعتا، وآثر الحياة الدنيا‏.‏

ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له، حمله الجهل والضلال وطول الآمال، على إنكار الصانع، فحاجَّ إبراهيم الخليل في ذلك، وادّعى لنفسه الربوبية، فلما قال الخليل‏:‏ ربي الذي يحي ويميت، قال‏:‏ أنا أحي وأميت‏.‏

قال قتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق‏:‏ يعني أنه إذا أُتى بالرجلين قد تحتم قتلهما، فإذا أمر بقتل أحدهما، وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا، وأمات الآخر‏.‏

وهذا ليس بمعارضة للخليل، بل هو كلام خارجي عن مقام المناظرة، ليس بمنع ولا بمعارضة، بل هو تشغيب محض، وهو انقطاع في الحقيقة‏.‏

فإن الخليل استدل على وجود الصانع بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيونات وموتها، هذا دليل على وجود فاعل ذلك الذي لا بد من استنادها إلى وجوده، ضرورة عدم قيامها بنفسها، ولا بدّ من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة من خلقها وتسخيرها، وتسيير هذه الكواكب، والرياح، والسحاب، والمطر، وخلق هذه الحيونات التي توجد مشاهدة ثم إماتتها‏.‏ ولهذا ‏{‏قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ‏}‏‏.‏

فقول هذا الملك الجاهل‏:‏ أنا أحي وأميت، إن عنى أنه الفاعل لهذه المشاهدات فقد كابر وعاند، وإن عنى ما ذكره قتادة والسدي ومحمد بن إسحاق فلم يقل شيئاً يتعلق بكلام الخليل، إذ لم يمنع مقدمة ولا عارض الدليل‏.‏

ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفى على كثير من الناس، ممن حضره وغيرهم، ذكر دليلاً آخر بين وجود الصانع، وبطلان ما ادعاه النمرود وانقطاعه جهرة‏.‏

{‏قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ‏}‏ أي‏:‏ هذه الشمس مسخرة، كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرّها وقاهرها، وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء، فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحي وتميت، فات بهذه الشمس من المغرب، فإن الذي يحي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء، ولا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا، فإن لم تفعله فلست كما زعمت‏.‏

وأنت تعلم وكل أحد، أنك لا تقدر على شيء من هذا، بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة، أو تنصر منها، فبـَّين ضلاله، وجهله، وكذبه فيما ادعاه، وبطلان ما سلكه، وتبجح به عند جهلة قومه، ولم يبقَ له كلام يجيب الخليل به، بل انقطع وسكت، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة، كانت بين إبراهيم وبين النمرود، يوم خرج من النار، ولم يكن اجتمع به يومئذ، فكانت بينهما هذه المناظرة‏.‏

وقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، أن النمرود كان عنده طعام، وكان الناس يفدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة، فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطي الناس، بل خرج وليس معه شيء من الطعام‏.‏

فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب؛ فملأ منه عدليه، وقال‏:‏ أشغل أهلي إذا قدمت عليهم، فلما قدم وضع رحاله وجاء، فاتكأ فنام، فقامت امرأته سارة إلى العدلين، فوجدتهما ملآنين طعاماً طيباً، فعملت منه طعاماً‏.‏

فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه، فقال‏:‏ أنى لكم هذا‏؟‏ قالت‏:‏ من الذي جئت به، فعرف أنه رزق رزقهموه الله عز وجل‏.‏

قال زيد بن أسلم‏:‏ وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكاً، يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه‏.‏ ثم دعاه الثانية فأبى عليه‏.‏ ثم الثالثة فأبى عليه‏.‏ وقال‏:‏

اجمع جموعك، وأجمع جموعي، فجمع النمرود جيشه، وجنوده، وقت طلوع الشمس، فأرسل الله عليه ذباباً من البعوض، بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودمائهم، وتركتهم عظاماً بادية‏.‏

ودخلت واحدة منها في منخر الملك، فمكثت في منخره أربعمائة سنة، عذبه الله تعالى بها، فكان يضرب رأسه بالمزارب في هذه المدة كلها، حتى أهلكه الله عز وجل بها‏.‏

 هجرة الخليل إلى بلاد الشام، ثم الديار المصرية، واستقراره في الأرض المقدسة

قال الله‏:‏ ‏{‏فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏} ‏[‏العنكبوت‏:‏ 26 - 27‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 71-73‏]‏‏.‏

لما هجر قومه في الله، وهاجر من بين أظهرهم، وكانت امرأته عاقراً لا يولد لها، ولم يكن له من الولد أحد، بل معه ابن أخيه لوط بن هاران بن آزر، وهبه الله تعالى بعد ذلك الأولاد الصالحين، وجعل في ذريته النبوة والكتاب‏.‏

فكل نبي بُعث بعده فهو من ذريته، وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه، خلعة من الله وكرامة له، حين ترك بلاده، وأهله، وأقرباءه، وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عز وجل، ودعوة الخلق إليه‏.‏

والأرض التي قصدها بالهجرة أرض الشام، وهي التي قال الله عز وجل‏:‏ {‏إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين‏}‏‏.‏

قاله أبي بن كعب، وأبو العالية، وقتادة، وغيرهم‏.‏

وروى العوفي عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ‏}‏ مكة، ألم تسمع إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

وزعم كعب الأحبار أنها حران‏.‏ وقد قدمنا عن نقل أهل الكتاب أنه خرج من أرض بابل هو وابن أخيه لوط، وأخوه ناحور، وامرأة إبراهيم سارة، وامرأة أخيه ملكا، فنزلوا حران، فمات تارح أبو إبراهيم بها‏.‏

وقال السدي‏:‏ انطلق إبراهيم ولوط قِبَلَ الشام، فلقي إبراهيم سارة، وهي ابنة ملك حران، وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوجها على أن لا يغيرها‏.‏ رواه ابن جرير وهو غريب‏.‏

والمشهور أنها ابنت عمه هاران، الذي تنسب إليه حران، ومن زعم أنها ابنة أخيه هاران أخت لوط، كما حكاه السهيلي عن القتيبي، والنقاش، فقد أبعد النجعة، وقال بلا علم، وادعى أن تزويج بنت الأخ كان إذ ذاك مشروعاً، فليس له على ذلك دليل، ولو فرض أن هذا كان مشروعاً في وقت كما هو منقول عن الربانيين من اليهود، فإن الأنبياء لا تتعاطاه، والله أعلم‏.‏

ثم المشهور أن إبراهيم عليه السلام لما هاجر من بابل، خرج بسارة مهاجراً من بلاده كما تقدم، والله أعلم‏.‏

وذكر أهل الكتاب أنه لما قدِم الشام، أوحى الله إليه إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك، فابتنى إبراهيم مذبحاً لله شكراً على هذه النعمة، وضرب قبته شرقي بيت المقدس‏.‏

ثم انطلق مرتحلاً إلى التيمن، وأنه كان جوع، أي قحط، وشدة، وغلاء، فارتحلوا إلى مصر، وذكروا قصة سارة مع ملكها، وأن إبراهيم قال لها‏:‏ قولي أنا أخته، وذكروا خدام الملك إياها هاجر‏.‏ ثم أخرجهم منها، فرجعوا إلى بلاد التيمن يعني أرض بيت المقدس وما والاها، ومعه دواب، وعبيد، وأموال‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن محبوب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، قال‏:‏ لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات‏:‏ ثنتان منهن في ذات الله، قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي سَقِيمٌ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا‏}

وقال‏:‏ بينا هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبّار من الجبابرة، فقيل له‏:‏ ههنا رجل معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، وسأله عنها، فقال‏:‏ من هذه‏؟‏ قال‏:‏ أختي‏.‏

فأتى سارة فقال‏:‏ يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإنَّ هذا سألني فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني، فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده، فأخذ فقال‏:‏ ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق، ثم تناولها الثانية، فأخذ مثلها أو أشد، فقال‏:‏ ادعي الله لي ولا أضرك‏.‏

فدعا بعض حجبته فقال‏:‏ إنك لم تأتني بإنسان، وإنما أتيتني بشيطان، فأخدمها هاجر، فأتته وهو قائم يصلي، فأومأ بيده مهيم فقالت‏:‏ رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره، وأخدم هاجر‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ فتلك أمكم يا بني ماء السماء‏.‏ تفرد به من هذا الوجه موقوفاً‏.‏

وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار، عن عمرو بن علي الفلاس، عن عبد الوهاب الثقفي، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات، كل ذلك في ذات الله‏:‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي سَقِيمٌ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا‏}‏‏.‏

وبينما هو يسير في أرض جبار من الجبابرة، إذ نزل منزلاً، فأتى الجبار فقيل له‏:‏ إنه قد نزل ههنا رجل، معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، فسأله عنها، فقال‏:‏ إنها أختي‏.‏

فلما رجع إليها قال‏:‏ إن هذا سألني عنك، فقلت إنك أختي، وإنه ليس اليوم مسلم غيري وغيرك، وإنك أختي فلا تكذبيني عنده، فانطلق بها، فلما ذهب يتناولها أخذ فقال‏:‏ ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت له فأرسل، فذهب يتناولها فأخذ مثلها أو أشد منها، فقال‏:‏ ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت فأرسل ثلاث مرات، فدعا أدنى حشمه فقال‏:‏

إنك لم تأتني بإنسان ولكن أتيتني بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر، فجاءت وإبراهيم قائم يصلي، فلما أحس بها انصرف، فقال‏:‏ مهيم‏.‏ فقالت‏:‏ كفى الله كيد الظالم، وأخدمني هاجر‏.‏

وأخرجاه من حديث هشام‏.‏

ثم قال البزار‏:‏ لا نعلم أسنده عن محمد، عن أبي هريرة، إلا هشام‏.‏ ورواه غيره موقوفاً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن حفص، عن ورقاء هو ابن عمر اليشكري، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، قوله حين دعى إلى آلهتهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي سَقِيمٌ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا‏}‏‏.‏

وقوله لسارة أنها أختي، قال ودخل إبراهيم قرية، فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة، فقيل‏:‏ دخل إبراهيم الليلة بامرأة من أحسن الناس، قال‏:‏ فأرسل إليه الملك أو الجبار من هذه معك‏؟‏

قال‏:‏ أختي‏.‏ قال فأرسل بها‏.‏

قال فأرسل بها إليه وقال‏:‏ لا تكذبي قولي، فإني قد أخبرته أنك أختي، إنه ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك، فلما دخلت عليه قام إليها، فأقبلت توضأ وتصلي وتقول‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك، وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط عليَّ الكافر‏.‏ قال فغط حتى ركض برجله‏.‏

قال أبو الزناد، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أنها قالت‏:‏ اللهم أن يمت يقال هي قتلته، قال فأرسل، قال ثم قام إليها، قال فقامت توضأ وتصلي وتقول‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلاّ على زوجي، فلا تسلط عليَّ الكافر، قال فغط حتى ركض برجله‏.‏

قال أبو الزناد، وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أنها قالت‏:‏ اللهم إن يمت يقال هي قتلته، قال فأرسل، قال ثم قام إليها، قال‏:‏ فقامت توضأ وتصلي وتقول‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط عليَّ الكافر، قال فغط حتى ركظ برجله‏.‏

قال أبو الزناد، وقال أبو سلمة، عن أبي هريرة أنها قالت‏:‏ اللهم إن يمت يقال هي قتلته، قال فأرسل، قال فقال في الثالثة، أو الرابعة، ما أرسلتم إليَّ إلا شيطاناً، أرجعوها إلى إبراهيم، وأعطوها هاجر، قال فرجعت فقالت لإبراهيم‏:‏ أشعرت أن الله ردَّ كيد الكافرين، وأخدم وليدة‏.‏

تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط الصحيح‏.‏

وقد رواه البخاري، عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به مختصراً‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏في كلمات إبراهيم الثلاث التي قال، ما منها كلمة إلا ما حل بها عن دين الله، فقال إني سقيم، وقال بل فعله كبيرهم هذا، وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي‏.‏

فقوله في الحديث هي أختي، أي في دين الله‏.‏

وقوله لها إنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، يعني زوجين مؤمنين غيري وغيرك، ويتعين حمله على هذا، لأن لوطاً كان معهم، وهو نبي عليه السلام‏.‏

وقوله لها لما رجعت إليه مهيم، معناه ما الخبر، فقالت‏:‏ إن الله رد كيد الكافرين‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية الفاجر وهو الملك، وأخدم جارية‏.‏

وكان إبراهيم عليه السلام من وقت ذهب بها إلى الملك، قام يصلي لله عز وجل، ويسأله أن يدفع عن أهله، وأن يرد بأس هذا الذي أراد أهله بسوء، وهكذا فعلت هي أيضاً، فلما أراد عدو الله أن ينال منها أمراً قامت إلى وضوئها، وصلاتها، ودعت الله عز وجل بما تقدم من الدعاء العظيم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏ فعصمها الله، وصانها لعصمة عبده، ورسوله، وحبيبه، وخليله، إبراهيم عليه السلام‏.‏

وقد ذهب بعض العلماء إلى نبوة ثلاث نسوة سارة، وأم موسى، ومريم عليهن السلام، والذي عليه الجمهور أنهن صديقات رضي الله عنهن وأرضاهن‏.‏

ورأيت في بعض الآثار أن الله عز وجل كشف الحجاب فيما بين إبراهيم عليه السلام وبينها، فلم يزل يراها منذ خرجت من عنده إلى أن رجعت إليه، وكان مشاهداً لها وهي عند الملك، وكيف عصمها الله منه ليكون ذلك أطيب لقلبه، وأقر لعينه، وأشد لطمأنينته، فإنه كان يحبها حباً شديداً لدينها، وقرابتها منه، وحسنها الباهر، فإنه قد قيل‏:‏ إنه لم تكن امرأة بعد حواء إلى زمانها، أحسن منها رضي الله عنها، ولله الحمد والمنة‏.‏

وذكر بعض أهل التواريخ، أن فرعون مصر هذا كان أخاً للضحاك الملك المشهور بالظلم، وكان عاملاً لأخيه على مصر‏.‏

ويقال‏:‏ كان اسمه سنان بن علوان، بن عبيد، بن عويج، بن عملاق، بن لاود، بن سام، بن نوح‏.‏

وذكر ابن هشام في ‏(‏التيجان‏)‏ أن الذي أرادها عمرو بن امرىء القيس، بن مايلون، بن سبأ، وكان على مصر‏.‏ نقله السهيلي‏.‏ فالله أعلم‏.‏

ثم إن الخليل عليه السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها، ومعه أنعام، وعبيد، ومال جزيل، وصحبتهم هاجر القبطية المصرية‏.‏

ثم إن لوطاً عليه السلام نزح بماله من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك، إلى أرض الغور المعروف بغور زغر، فنزل بمدينة سدوم، وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان، وكان أهلها أشراراً، كفاراً، فجاراً‏.‏ ‏

وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليل، فأمره أن يمد بصره، وينظر شمالاً، وجنوباً، وشرقاً، وغرباً، وبشَّره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر، وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الأرض‏.‏

وهذه البشارة اتصلت بهذه الأمة، بل ما كملت، ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة المحمدية‏.‏ يؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها، ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ثم إن طائفة من الجبارين تسلطوا على لوط عليه السلام، فأسروه، وأخذوا أمواله، واستاقوا أنعامه، فلما بلغ أمواله، وقتل من أعداء الله ورسوله خلقاً كثيراً، وهزمهم وساق في آثارهم حتى وصل إلى شرقي دمشق، وعسكر بظاهرها عند برزة، وأظن مقام إبراهيم إنما سمي لأنه كان موقف جيش الخليل، والله أعلم‏.‏

ثم رجع مؤيداً منصوراً إلى بلاده، وتلقاه ملوك بلاد بيت المقدس معظمين له مكرمين، خاضعين، واستقر ببلاده صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

 ذكر مولد إسماعيل عليه السلام من هاجر

قال أهل الكتاب‏:‏ إن إبراهيم عليه السلام سأل الله ذرية طيبة، وأن الله بشره بذلك، وأنه لما كان لإبراهيم ببلاد بيت المقدس عشرون سنة، قالت سارة لإبراهيم عليه السلام‏:‏ إن الرب قد أحرمني الولد، فادخل على أمتي هذه، لعل الله يرزقني منها ولداً، فلما وهبتها له دخل بها إبراهيم عليه السلام، فحين دخل بها حملت منه‏.‏

قالوا‏:‏ فلما حملت ارتفعت نفسها، وتعاظمت على سيدتها، فغارت منها سارة، فشكت ذلك إلى إبراهيم فقال لها‏:‏ افعلي بها ما شئت، فخافت هاجر فهربت، فنزلت عند عين هناك، فقال لها ملك من الملائكة‏:‏ لا تخافي فإن الله جاعل من هذا الغلام الذي حملت خيراً‏.‏ ‏

وأمرها بالرجوع، وبشَّرها أنها ستلد ابناً وتسميه إسماعيل، ويكون وحش الناس يده على الكل، ويد الكل به، ويملك جميع بلاد إخوته، فشكرت الله عز وجل على ذلك‏.‏

وهذه البشارة إنما انطبقت على ولده محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه الذي سادت به العرب، وملكت جميع البلاد غرباً وشرقاً، وأتاها الله من العلم النافع، والعمل الصالح، ما لم تؤتَ أمة من الأمم قبلهم، وما ذاك إلا بشرف رسولها على سائر الرسل، وبركة رسالته، ويمن بشارته، وكماله فيما جاء به، وعموم بعثته لجميع أهل الأرض‏.‏

ولما رجعت هاجر وضعت إسماعيل عليه السلام، قالوا‏:‏ وولدته ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة، قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة‏.‏

ولما ولد إسماعيل أوحى الله إلى إبراهيم يبشره بإسحاق من سارة، فخر لله ساجداً، وقال له‏:‏ قد استجبت لك في إسماعيل، وباركت عليه، وكثَّرته، ونميته جداً كثيراً، ويولد له اثنا عشر عظيماً، وأجعله رئيساً لشعب عظيم‏.‏

وهذه أيضاً بشارة بهذه الأمة العظيمة، وهؤلاء الاثنا عشر عظيماً، هم الخلفاء الراشدون الاثنا عشر المبشر بهم في حديث عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏يكون اثنا عشر أميراً‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال كلمة لم أفهمها، فسألت أبي ما قال، قال‏:‏ كلهم من قريش‏.‏ أخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ لا يزال هذا الأمر قائماً‏.‏ وفي رواية‏:‏ عزيزاً حتى يكون اثنا عشر خليفة كلهم من قريش‏.‏ فهؤلاء‏:‏

منهم‏:‏ الأئمة الأربعة‏:‏ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي‏.‏

ومنهم‏:‏ عمر بن عبد العزيز أيضاً‏.‏

ومنهم‏:‏ بعض بني العباس‏.‏

وليس المراد أنهم يكونون اثني عشر نسقاً، بل لا بد من وجودهم، وليس المراد الأئمة الاثني عشر الذي يعتقد فيهم الرافضة، الذين أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم المنتظر بسرداب سامرا وهو محمد بن الحسن العسكري فيما يزعمون، فإن أولئك لم يكن فيهم أنفع من علي وابنه الحسن بن علي، حين ترك القتال وسلَّم الأمر لمعاوية، وأخمد نار الفتنة، وسكَّن رحى الحروب بين المسلمين‏.‏

والباقون من جملة الرعايا، لم يكن لهم حكم على الأمة في أمر من الأمور، وأما ما يعتقدونه بسرداب سامرا فذاك هوس في الرؤوس، وهذيان في النفوس، لا حقيقة له، ولا عين، ولا أثر‏.‏

والمقصود أن هاجر عليها السلام لما ولد لها إسماعيل، اشتدت غيرة سارة منها، وطلبت من الخليل أن يغيب وجهها عنها، فذهب بها وبولدها، فسار بهما حتى وضعهما حيث مكة اليوم‏.‏

ويقال إن ولدها كان إذ ذاك رضيعاً، فلما تركهما هناك، وولى ظهره عنهما، قامت إليه هاجر وتعلقت بثيابه، وقالت‏:‏ يا إبراهيم أين تذهب وتدعنا ههنا، وليس معنا ما يكفينا، فلم يجبها، فلما ألحـَّت عليه وهو لا يجيبها قالت له‏:‏ الله أمرك بهذا‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قالت‏:‏ فإذاً لا يضيعنا‏.‏

وقد ذكر الشيخ أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله في كتاب ‏(‏النوادر‏)‏ أن سارة تغضبت على هاجر، فحلفت لتقطعن ثلاثة أعضاء منها، فأمرها الخليل أن تثقب أذنيها، وأن تخفضها، فتبر قسمها‏.‏ ‏

قال السهيلي‏:‏ فكانت أول من اختتن من النساء، وأول من ثقبت أذنها منهن، وأول من طولت ذيلها‏.‏

 ذكر مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر إلى جبال فاران وهي أرض مكة وبنائه البيت العتيق‏.‏

قال البخاري‏:‏ قال عبد الله بن محمد - هو أبو بكر بن أبي شيبة - حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن أيوب السختياني، وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، يزيد أحدهما على الآخر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏

أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم اسماعيل اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء‏.‏

ثم قفى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل فقالت‏:‏ يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنس ولا شيء‏؟‏ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها‏.‏

فقالت له‏:‏ الله أمرك بهذا‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قالت‏:‏ إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت‏.‏

فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يلتوي، أو قال‏:‏ يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه‏.‏

ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم ترَ أحداً، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف ذراعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً‏.‏ ففعلت ذلك سبع مرات‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏فلذلك سعى الناس بينهما‏)‏‏)‏‏.‏

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت‏:‏ صه، تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضاً، فقالت‏:‏ قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهي تفور بعد ما تغرف‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏يرحم الله أم اسماعيل لو تركت زمزم‏)‏‏)‏‏.‏

أو قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً‏)‏‏)‏

فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك‏:‏ لا تخافي الضيعة، فإن ههنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله‏.‏ ‏

وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كذا، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً‏.‏

فقالوا‏:‏ إن هذا الطائر ليدور على الماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال‏:‏ وأم إسماعيل عند الماء‏.‏

فقالوا‏:‏ تأذنين لنا أن ننزل عندك‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، ولكن لا حق لكم في الماء‏.‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال عبد الله بن عباس‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

فألقى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته فقالت‏:‏ خرج يبتغي لنا‏.‏

ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت‏:‏ نحن بشر في ضيق وشدة وشكت إليه، قال‏:‏ فإذا جاء زوجك أقرئي عليه السلام وقولي له‏:‏ يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً فقال‏:‏ هل جاءكم من أحد‏؟‏

فقالت‏:‏ نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا في جهد وشدة‏.‏

قال‏:‏ فهل أوصاك بشيء‏؟‏

قالت‏:‏ نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك‏:‏ غير عتبة بابك‏.‏

قال‏:‏ ذاك أبي وأمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى‏.‏

ولبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت‏:‏ خرج يبتغي لنا‏.‏

قال‏:‏ كيف أنتم‏؟‏ وسألها عن عيشهم وهيئتهم‏.‏

فقالت‏:‏ نحن بخير وسعة، وأثنت على الله‏.‏

فقال‏:‏ ما طعامكم‏؟‏

قالت‏:‏ اللحم‏.‏

قال‏:‏ فما شرابكم‏؟‏

قالت‏:‏ الماء‏.‏

قال‏:‏ اللهم بارك لهم في اللحم والماء‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه‏)‏‏)‏

قال‏:‏ فهما لا يخلو عليهما أحد بعين مكة إلا لم يوافقاه‏.‏ قال‏:‏ فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه‏.‏

فلما جاء إسماعيل قال‏:‏ هل أتاكم من أحد‏؟‏

قالت‏:‏ نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنّا بخير‏.‏

قال‏:‏ فأوصاك بشيء‏؟‏

قالت‏:‏ نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك‏.‏

قال‏:‏ ذاك أبي وأمرني أن أمسكك‏.‏

ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة، قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد، والوالد بالولد‏.‏

ثم قال‏:‏ يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال‏:‏ فاصنع ما أمرك به ربك، قال‏:‏ وتعينني، قال‏:‏ وأعينك، قال‏:‏ فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال‏:‏

فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 127‏]‏‏.‏

قال‏:‏ وجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}

ثم قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو عامر عبد الله بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏

لما كان من إبراهيم وأهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء، وذكر تمامه بنحو ما تقدم، وهذا الحديث من كلام ابن عباس، وموشح برفع بعضه، وفي بعضه غرابة وكأنه مما تلقاه ابن عباس عن الإسرائيليات‏.‏

وفيه أن إسماعيل كان رضيعاً إذ ذاك، وعند أهل التوراة أن إبراهيم أمره الله بأن يختن ولده إسماعيل، وكل من عنده من العبيد وغيرهم، فختنهم وذلك بعد مضي تسع وتسعين سنة من عمره، فيكون عمر إسماعيل يومئذ ثلاث عشرة سنة، وهذا امتثال لأمر الله عز وجل في أهله، فيدل على أنه فعله على وجه الوجوب، ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء أنه واجب على الرجال، كما هو مقرر في موضعه‏.‏

وقد ثبت في الحديث الذي رواه البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اختتن إبراهيم النبي عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم‏)‏‏)‏‏.‏

تابعه عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي الزناد‏.‏

وتابعه عجلان، عن أبي هريرة‏.‏

ورواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة‏.‏

وهكذا رواه مسلم عن قتيبة به‏.‏

وفي بعض الألفاظ‏:‏ اختتن إبراهيم بعد ما أتت عليه ثمانون سنة، واختتن بالقدوم، والقدوم هو‏:‏ الآلة‏.‏ وقيل‏:‏ موضع، وهذا اللفظ لا ينافي الزيادة على الثمانين، والله أعلم لما سيأتي من الحديث عند ذكر وفاته عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏اختتن إبراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة‏)‏‏)‏‏.‏

رواه ابن حبان في ‏(‏صحيحه‏)‏‏.‏

وليس في هذا السياق ذكر قصة الذبيح، وأنه إسماعيل، ولم يذكر في قدمات إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث مرات، أولاهن‏:‏ بعد أن تزوج إسماعيل بعد موت هاجر، وكيف تركهم من حين صغر الولد على ما ذكر إلى حين تزويجه، لا ينظر في حالهم‏.‏

وقد ذكر أن الأرض كانت تطوى له، وقيل‏:‏ إنه كان يركب البراق إذا سار إليهم، فكيف يتخلف عن مطالعة حالهم، وهم في غاية الضرورة الشديدة والحاجة الأكيدة‏.‏

وكأن بعض هذا السياق متلقى من الإسرائيليات، ومطرز بشيء من المرفوعات، ولم يذكر فيه قصة الذبيح، وقد دللنا على أن الذبيح هو إسماعيل على الصحيح في سورة الصافات‏.‏

 قصة الذبيح

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 99-113‏]‏‏.‏

يذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه، سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً، فبشره الله تعالى بغلام حليم، وهو إسماعيل عليه السلام، لأنه أول من ولد على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل‏.‏ وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل، لأنه أول ولده وبكره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ‏}‏ أي‏:‏ شب، وصار يسعى في مصالحه كأبيه‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ‏}‏ أي‏:‏ شب، وارتحل، وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل‏.‏ فلما كان هذا رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده‏.‏

هذا وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏رؤيا الأنبياء وحي‏)‏‏)‏‏.‏

قاله عبيد ابن عمير أيضاً، وهذا اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كبر، وقد طعن في السن بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر، وواد ليس به حسيس ولا أنيس ولا زرع ولا ضرع، فامتثل أمر الله في ذلك، وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلاً عليه، فجعل الله لهما فرجاً ومخرجاً ورزقهما من حيث لا يحتسبان‏.‏

ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده، هذا الذي قد أفرده عن أمر ربه وهو بكره ووحيده الذي ليس له غيره، أجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته، ثم عرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه، من أن يأخذه قسراً، ويذبحه قهراً‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏‏.‏

فبادر الغلام الحليم سر والده الخليل إبراهيم، فقال‏:‏ ‏{‏يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏ وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد، ولرب العباد‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏}‏ قيل‏:‏ أسلما، أي‏:‏ استسلما لأمر الله، وعزما على ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ هذا من المقدم والمؤخر، والمعنى‏:‏ تله للجبين، أي‏:‏ ألقاه على وجهه‏.‏

قيل‏:‏ أراد أن يذبحه من قفاه، لئلا يشاهده في حال ذبحه‏.‏

قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك‏.‏

وقيل‏:‏ بل أضجعه كما تضجع الذبائح، وبقي طرف جبينه لاصقاً بالأرض‏.‏

و‏{‏أَسْلَمَا‏}‏‏:‏ أي سمى إبراهيم، وكبر، وتشهد الولد للموت‏.‏

قال السدي وغيره‏:‏ أمرَّ السكين على حلقه فلم تقطع شيئاً‏.‏ ويقال جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس، والله أعلم‏.‏

فعند ذلك نودي من الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا‏}‏ أي‏:‏ قد حصل المقصود من اختبارك، وطاعتك، ومبادرتك إلى أمر ربك، وبذلك ولدك للقربان، كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالك مبذول للضيفان، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ‏}‏ أي‏:‏ الاختبار الظاهر البين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه‏.‏

والمشهور عن الجمهور‏:‏ أنه كبش أبيض، أعين، أقرن، رآه مربوطاً بسمرة في ثبير‏.‏

قال الثوري‏:‏ عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ كان يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير، وكان عليه عهن أحمر‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ هبط عليه من ثبير، كبش أعين، أقرن، له ثغاء فذبحه وهو الكبش الذي قربه ابن آدم، فتقبل منه‏.‏

رواه ابن أبي حاتم‏.‏

قال مجاهد‏:‏ فذبحه بمنى‏.‏

وقال عبيد بن عمير‏:‏ ذبحه بالمقام‏.‏

فأما ما روى عن ابن عباس أنه كان وعلاً، وعن الحسن أنه كان تيساً من الأروى، واسمه جرير، فلا يكاد يصح عنهما‏.‏ ثم غالب ما ههنا من الآثار مأخوذ من الإسرائيليات‏.‏ وفي القرآن كفاية عما جرى من الأمر العظيم، والاختبار الباهر، وأنه فدي بذبح عظيم‏.‏ وقد ورد في الحديث أنه كان كبشاً‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان، حدثنا منصور عن خاله نافع، عن صفية بنت شيبة، قالت‏:‏ أخبرتني امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا، قالت‏:‏ أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة - وقال‏:‏ مرة - إنها سألت عثمان لم دعاك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

قال‏:‏ إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما، فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي‏.‏

قال سفيان‏:‏ لم تزل قرنا الكبش في البيت حتى احترق البيت، فاحترقا‏.‏

وهذا روى عن ابن عباس أن رأس الكبش لم يزل معلقاً عند ميزاب الكعبة قد يبس‏.‏ وهذا وحده دليل على أن الذبيح إسماعيل لأنه كان وهو المقيم بمكة، وإسحاق لا نعلم أنه قدمها في حال صغره، والله أعلم‏.‏

وهذا هو الظاهر من القرآن، بل كأنه نص على أن الذبيح، هو إسماعيل لأنه ذكر قصة الذبيح ثم قال بعده‏:‏ ‏{‏وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 112‏]‏‏.‏

ومن جعله حالاً فقد تكلف، ومستنده أنه إسحاق إنما هو اسرائيليات، وكتابهم فيه تحريف، ولا سيما ههنا قطعاً لا محيد عنه‏.‏ فإن عندهم أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة من المعربة بكره إسحاق، فلفظه إسحاق ههنا مقحمة مكذوبة مفتراة، لأنه ليس هو الوحيد ولا البكر، إنما ذاك إسماعيل‏.‏

وإنما حملهم على هذا حسد العرب، فإن إسماعيل أبو العرب الذين يسكنون الحجاز، الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإسحاق والد يعقوب وهو إسرائيل، الذين ينتسبون إليه، فأرادوا أن يجروا هذا الشرف إليهم، فحرفوا كلام الله وزادوا فيه، وهم قوم بهت، ولم يقروا بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء‏.‏

وقد قال بأنه إسحاق طائفة كثيرة من السلف وغيرهم‏.‏

وإنما أخذوه والله أعلم من كعب الأحبار، أو صحف أهل الكتاب، وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم، حتى نترك لأجله ظاهر الكتاب العزيز، ولا يفهم هذا من القرآن، بل المفهوم بل المنطوق بل النص عند التأمل على أنه إسماعيل‏.‏

وما أحسن ما استدل محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل وليس بإسحاق من قوله‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فكيف تقع البشارة بإسحاق‏؟‏ وأنه سيولد له يعقوب، ثم يؤمر بذبح إسحاق وهو صغير قبل أن يولد له، هذا لا يكون، لأنه يناقض البشارة المتقدمة، والله أعلم‏.‏

وقد اعترض السهيلي على هذا الاستدلال بما حاصله أن قوله‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ‏}‏ جملة تامة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ جملة أخرى ليست في حيز البشارة‏.‏ قال‏:‏ لأنه لا يجوز من حيث العربية أن يكون مخفوضاً إلا أن يعاد معه حرف الجر، فلا يجوز أن يقال‏:‏ مررت بزيد، ومن هو بعده عمرو، حتى يقال‏:‏ ومن بعده بعمر‏.‏

وقال فقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ منصوب بفعل مضمر تقديره‏:‏ ووهبنا لإسحاق يعقوب، وفي هذا الذي قاله نظر‏.‏ ورجح أنه إسحاق، واحتج بقوله‏:‏ ‏{‏فلما بلغ معه السعي‏}‏ قال‏:‏ وإسماعيل لم يكن عنده، إنما كان في حال صغره هو وأمه بحيال مكة، فكيف يبلغ معه السعي، وهذا أيضاً فيه نظر، لأنه قد روي أن الخليل كان يذهب في كثير من الأوقات راكباً البراق إلى مكة يطلع على ولده وابنه، ثم يرجع والله أعلم‏.‏

فمن حكى القول عنه بأنه إسحاق كعب الأحبار‏.‏

وروي عن عمر، والعباس، وعلي، وابن مسعود، ومسروق، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، والشعبي، ومقاتل، وعبيد بن عمر، وأبي ميسرة، وزيد بن أسلم، وعبد الله بن شقيق، والزهري، والقاسم، وابن أبي بردة، ومكحول، وعثمان بن حاضر، والسدي، والحسن، وقتادة، وأبي الهذيل، وابن سابط، وهو اختيار ابن جرير، وهذا عجب منه، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس‏.‏

ولكن الصحيح عنه، وعن أكثر هؤلاء أنه إسماعيل عليه السلام‏.‏

قال مجاهد، وسعيد الشعبي، ويوسف بن مهران، وعطاء، وغير واحد عن ابن عباس‏:‏ هو إسماعيل عليه السلام‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ المفدى إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود‏.‏

وقال عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه‏:‏ هو إسماعيل‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ سألت أبي عن الذبيح، فقال‏:‏ الصحيح أنه إسماعيل عليه السلام‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الطفيل، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، والشعبي، ومحمد بن كعب، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح أنهم قالوا‏:‏ الذبيح هو إسماعيل عليه السلام‏.‏

وحكاه البغوي أيضاً عن الربيع بن أنس، والكلبي، وأبي عمرو بن العلاء‏.‏

قلت‏:‏ وروي عن معاوية وجاء عنه أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا ابن الذبيحين، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وكان الحسن البصري يقول‏:‏ لا شك في هذا‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ عن بريدة، عن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز، وهو خليفة إذ كان معه بالشام، يعني استدلاله بقوله بعد العصمة ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏‏.‏

فقال له عمر‏:‏ إن هذا الشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت‏.‏

ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهودياً، فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم‏.‏

قال‏:‏ فسأله عمر بن عبد العزيز‏:‏ أي ابني إبراهيم أمر بذبحه‏؟‏ فقال إسماعيل‏.‏ والله يا أمير المؤمنين‏.‏ وإن اليهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أبوهم‏.‏

وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة بأدلتها وآثارها في كتابنا ‏(‏التفسير‏)‏، ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏

مولد اسحاق

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 112-113‏]‏‏.‏

وقد كانت البشارة به من الملائكة لإبراهيم وسارة، لما مروا بهم مجتازين ذاهبين إلى مدائن قوم لوط، ليدمروا عليهم لكفرهم وفجورهم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَاوَيْلَتَى آلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 69-73‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 51-56‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 24-30‏]‏‏.‏

يذكر تعالى أن الملائكة قالوا، وكانوا ثلاثة‏:‏ جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، لما وردوا على الخليل حسبهم أضيافاً فعاملهم معاملة الضيوف، شوى لهم عجلاً سميناً من خيار بقره، فلما قربه إليهم وعرض عليهم، لم ير لهم همة إلى الأكل بالكلية، وذلك لأن الملائكة ليس فيهم قوة الحاجة إلى الطعام ‏{‏نَكِرَهُمْ‏}‏ إبراهيم ‏{‏وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 70‏]‏ أي‏:‏ لندمر عليهم، فاستبشرت عند ذلك سارة غضباً لله عليهم، وكانت قائمة على رؤوس الأضياف، كما جرت به عادة الناس من العرب وغيرهم‏.‏

فلما ضحكت استبشاراً بذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ أي‏:‏ بشرتها الملائكة بذلك ‏{‏فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ في صرخة {‏فَصَكَّتْ وَجْهَهَا‏}‏ أي‏:‏ كما يفعل النساء عند التعجب ‏{‏يَاوَيْلَتَى آلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً‏}‏ أي‏:‏ كيف يلد مثلي، وأنا كبيرة وعقيم أيضاً، وهذا بعلي - أي زوجي - شيخاً تعجبت من وجود ولد والحالة هذه‏.‏

ولهذا قالت‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ‏}‏ وكذلك تعجب إبراهيم عليه السلام استبشاراً بهذه البشارة، وتثبيتاً لها، وفرحاً بها‏.‏

{‏قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ‏}‏ أكدوا الخبر بهذه البشارة وقرروه معه، فبشروهما ‏{‏بَغُلامٍ عَلِيْم‏}‏ وهو إسحاق، وأخوه اسماعيل غلام حليم مناسب لمقامه وصبره‏.‏ وهكذا وصفه ربه بصدق الوعد والصبر‏.‏

وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ وهذا مما استدل به محمد بن كعب القرظي وغيره، على أن الذبيح هو إسماعيل، وأن إسحاق لا يجوز أن يؤمر بذبحه بعد أن وقعت البشارة بوجوده ووجود ولده يعقوب المشتق من العقب من بعده‏.‏

وعند أهل الكتاب أنه أحضر مع العجل الحنيذ، وهو المشوي رغيفاً من مكة، فيه ثلاثة أكيال، وسمن، ولبن، وعندهم أنهم أكلوا‏.‏ وهذا غلط محض‏.‏

وقيل‏:‏ كانوا يودون أنهم يأكلون، والطعام يتلاشى في الهواء‏.‏

وعندهم أن الله تعالى قال لإبراهيم‏:‏ أما سارا امرأتك فلا يدعى اسمها سارا، ولكن اسمها سارة، وأبارك عليها، وأعطيك منها ابناً وأباركه، ويكون الشعوب وملوك الشعوب منه، فخر إبراهيم على وجهه - يعني ساجداً - وضحك قائلاً في نفسه أبعد مائة سنة يولد لي غلام، أو سارة تلد، وقد أتت عليها تسعون سنة‏.‏

وقال إبراهيم لله تعالى‏:‏ ليت إسماعيل يعيش قدامك، فقال الله لإبراهيم‏:‏ بحقي إن امرأتك سارة تلد لك غلاماً وتدعو اسمه إسحاق إلى مثل هذا الحين من قابل، وأوثقه ميثاقي إلى الدهر ولخلفه من بعده، وقد استجبت لك في إسماعيل، وباركت عليه، وكبرته ونميته جداً كثيراً، ويولد له اثنا عشر عظيماً، وأجعله رئيساً لشعب عظيم، وقد تكلمنا على هذا بما تقدم، والله أعلم‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ دليل على أنها تستمتع بوجود ولدها إسحاق، ثم من بعده بولد ولده يعقوب، أي‏:‏ يولد في حياتهما لتقر أعينهما به، كما قرت بولده‏.‏

ولو لم يرد هذا لم يكن لذكر يعقوب، وتخصيص التنصيص عليه من دون سائر نسل إسحاق فائدة، ولما عين بالذكر دل على أنهم يتمتعان به، ويسران بولده، كما سرا بمولد أبيه من قبله‏.‏ ‏‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 84‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 49‏]‏‏.‏

وهذا إن شاء الله ظاهر قوي، ويؤيده ما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث سليمان بن مهران الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال‏:‏

قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏المسجد الحرام‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏المسجد الأقصى‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ كم بينهما‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أربعون سنة‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم حيث أدركت الصلاة فصل، فكلها مسجد‏)‏‏)‏‏.‏

وعند أهل الكتاب أن يعقوب عليه السلام هو الذي أسس المسجد الأقصى، وهو مسجد إيليا بيت المقدس شرفه الله‏.‏ وهذا متجه ويشهد له ما ذكرناه من الحديث فعلى هذا يكون بناء يعقوب وهو اسرائيل عليه السلام، بعد بناء الخليل وابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء‏.‏

وقد كان بناؤهما ذلك بعد وجود إسحاق لأن إبراهيم عليه السلام لما دعا قال في دعائه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35-41‏]‏‏.‏

وما جاء في الحديث من أن سليمان بن داود عليهما السلام لما بنى بيت المقدس، سأل الله خلالاً ثلاثاً كما ذكرناه عند قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وكما سنورده في قصته، فالمراد من ذلك والله أعلم أنه جدَّد بناءه كما تقدم من أن بينهما أربعين سنة، ولم يقل أحد إن بين سليمان وإبراهيم أربعين سنة سوى ابن حبان في تقاسيمه وأنواعه، وهذا القول لم يوافق عليه، ولا سبق إليه‏.‏

 بناء البيت العتيق

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26-27‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 96-97‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124-129‏]‏‏.‏

يذكر تعالى عن عبده، ورسوله، وصفيه، وخليله، إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء إبراهيم عليه أفضل صلاة وتسليم، أنه بنى البيت العتيق، الذي هو أول مسجد وضع لعموم الناس، يعبدون الله فيه، وبوأه الله مكانه، أي أرشده إليه، ودله عليه‏.‏

وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغيره، أنه أرشد إليه بوحي من الله عز وجل، وقد قدمنا في صفة خلق السموات أن الكعبة بحيال البيت المعمور بحيث أنه لو سقط لسقط عليها، وكذلك معابد السماوات السبع‏.‏

كما قال بعض السلف‏:‏ إن في كل سماء بيتاً يعبد الله فيه أهل كل سماء، وهو فيها كالكعبة لأهل الأرض، فأمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام أن يبني له بيتاً يكون لأهل الأرض كتلك المعابد لملائكة السماء، وأرشده الله إلى مكان البيت المهيأ له، المعين لذلك، منذ خلق السماوات والأرض كما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏

‏(‏‏(‏أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

ولم يجئ في خبر صحيح عن معصوم، أن البيت كان مبنياً قبل الخليل عليه السلام، ومن تمسك في هذا بقوله‏:‏ مكان البيت، فليس بناهض ولا ظاهر، لأن المراد مكانه المقدر في علم الله، المقر في قدرته، المعظم عند الأنبياء موضعه، من لدن آدم إلى زمان إبراهيم‏.‏

وقد ذكرنا أن آدم نصب عليه قبة، وأن الملائكة قالوا له‏:‏ قد طفنا قبلك بهذا البيت، وأن السفينة طافت به أربعين يوماً، أو نحو ذلك، ولكن كل هذه الأخبار عن بني إسرائيل‏.‏ وقد قررنا أنها لا تصدق، ولا تكذب، فلا يحتج بها، فأما إن ردها الحق فهي مردودة‏.‏

وقد قال الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ أول بيت وضع لعموم الناس للبركة، والهدى‏:‏ البيت الذي ببكة‏.‏ قيل‏:‏ مكة، وقيل‏:‏ محل الكعبة‏.‏

{‏فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ‏}‏ أي‏:‏ على أنه بناء الخليل والد الأنبياء من بعده، وإمام الحنفاء من ولده، الذين يقتدون به، ويتمسكون بسنته‏.‏ ‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مَقَامُ إِبْرَاهِيْم‏}‏ أي‏:‏ الحجر الذي كان يقف عليه قائماً، لما ارتفع البناء عن قامته، فوضع له ولده هذا الحجر المشهور، ليرتفع عليه لما تعالى البناء، وعظم الفناء‏.‏ كما تقدم في حديث ابن عباس الطويل‏.‏

وقد كان هذا الحجر ملصقاً بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخره عن البيت قليلاً لئلا يشغل المصلين عنده، الطائفين بالبيت، واتبع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا، فإنه قد وافقه ربه في أشياء منها‏:‏

في قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏} ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏ وقد كانت آثار قدمي الخليل باقية في الصخرة إلى أول الإسلام‏.‏

وقد قال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة‏:‏

وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه * وراق لبر في حراء ونازل

وبالبيت حق البيت من بطن مكة * وبالله إن الله ليس بغافل

وبالحجر المسود إذ يمسحونه * إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة * على قدميه حافيا غير ناعل

يعني أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة، فصارت على قدر قدمه حافية لا متنعلة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ‏}‏ أي‏:‏ في حال قولهما‏:‏

{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ فهما في غاية الإخلاص والطاعة لله عز وجل، وهما يسألان من الله السميع العليم أن يتقبل منهما ما هما فيه من الطاعة العظيمة، والسعي المشكور ‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏‏.‏

والمقصود أن الخليل بنى أشرف المساجد في أشرف البقاع، في واد غير ذي زرع، ودعا لأهلها بالبركة، وأن يرزقوا من الثمرات مع قلة المياه وعدم الأشجار، والزروع والثمار، وأن يجعله حرماً محرماً، وآمنا محتماً فاستجاب الله وله الحمد له مسألته، ولبى دعوته، وأتاه طلبته‏.‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏ وسأل الله أن يبعث فيهم رسولاً منهم أي‏:‏ من جنسهم، وعلى لغتهم الفصيحة البليغة النصيحة، لتتم عليهم النعمتان الدنيوية والدينية، سعادة الأولى والأخرى‏.‏

وقد استجاب الله له، فبعث فيهم رسولاً، وأي رسول ختم به أنبياءه ورسله، وأكمل له من الدين ما لم يؤت أحدا قبله، وعم بدعوته أهل الأرض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم، في سائر الأقطار والأمصار والأعصار، إلى يوم القيامة‏.‏

كان هذا من خصائصه من بين سائر الأنبياء، لشرفه في نفسه، وكمال ما أرسل به، وشرف بقعته، وفصاحة لغته، وكمال شفقته على أمته ولطفه ورحمته، وكريم محتده، وعظيم مولده، وطيب مصدره ومورده‏.‏

ولهذا استحق إبراهيم الخليل عليه السلام إذ كان باني الكعبة لأهل الأرض أن يكون منصبه ومحله وموضعه في منازل السموات، ورفيع الدرجات عند البيت المعمور، الذي هو كعبة أهل السماء السابعة، المبارك المبرور، الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون فيه، ثم لا يعودون إليه إلى يوم البعث والنشور‏.‏

وقد ذكرنا في التفسير من سورة البقرة صفة بناية البيت، وما ورد في ذلك من الأخبار والآثار، بما فيه كفاية، فمن أراده فليراجعه ثم ولله الحمد‏.‏

فمن ذلك ما قال السدي‏:‏ لما أمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت، ثم لم يدريا أين مكانه حتى بعث الله ريحاً يقال له الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس، وذلك حين يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ‏}‏‏.‏

فلما بلغا القواعد بنيا الركن، قال إبراهيم لإسماعيل‏:‏ يا بني اطلب لي حجراً حسناً أضعه ههنا وقال‏:‏ يا أبت إني كسلان تعب‏.‏ قال على ذلك فانطلق وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل النعامة، وكان آدم هبط به من الجنة، فاسودّ من خطايا الناس، فجاءه إسماعيل بحجر، فوجده عند الركن‏.‏

فقال‏:‏ يا أبتي من جاءك بهذا‏؟‏

قال‏:‏ جاء به من هو أنشط منك، فبنيا وهما يدعوان الله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏‏.‏

وذكر ابن أبي حاتم أنه بناه من خمسة أجبل، وأن ذا القرنين وكان ملك الأرض إذ ذاك مر بهما وهما يبنيانه فقال‏:‏ من أمركما بهذا‏؟‏

فقال إبراهيم‏:‏ الله أمرنا به‏.‏

فقال‏:‏ وما يدريني بما تقول‏؟‏

فشهدت خمسة أكبش أنه أمره بذلك، فآمن وصدق‏.‏

وذكر الأزرقي أنه طاف مع الخليل بالبيت‏.‏ وقد كانت على بناء الخليل مدة طويلة، ثم بعد ذلك بنتها قريش فقصرت بها عن قواعد إبراهيم من جهة الشمال، مما يلي الشام على ما هي عليه اليوم‏.‏ ‏

وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث مالك عن ابن شهاب، عن سالم أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر بن عمر عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏ألم تري إلى قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لولا حدثان قومك‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية ‏(‏‏(‏لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحجر‏)‏‏)‏‏.‏

وقد بناها ابن الزبير رحمه الله في أيامه على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسبما أخبرته خالته عائشة أم المؤمنين عنه، فلما قتله الحجاج في سنة ثلاث وسبعين، كتب إلى عبد الملك بن مروان الخليفة إذ ذاك، فاعتقدوا أن ابن الزبير إنما صنع ذلك من تلقاء نفسه، فأمر بردها إلى ما كانت عليه‏.‏

فنقضوا الحائط الشامي وأخرجوا منها الحجر، ثم سدوا الحائط، وردموا الأحجار في جوف الكعبة، فارتفع بابها الشرقي، وسدوا الغربي بالكلية، كما هو مشاهد إلى اليوم، ثم لما بلغهم أن ابن الزبير إنما فعل هذا لما أخبرته عائشة أم المؤمنين ندموا على ما فعلوا، وتأسفوا أن لو كانوا تركوه، وما تولى من ذلك‏.‏

ثم لما كان في زمن المهدي بن المنصور، استشار الإمام مالك بن أنس في ردها على الصفة التي بناها ابن الزبير، فقال له‏:‏ إني أخشى أن يتخذها الملوك لعبة - يعني كلما جاء ملك بناها على الصفة التي يريد - فاستقر الأمر على ما هي عليه اليوم‏.‏

 ذكر ثناء الله ورسوله الكريم على عبده وخليله إبراهيم

قال الله‏:‏ ‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ لما وفى ما أمره ربه به من التكاليف العظيمة، جعله للناس إماماً يقتدون به، ويأتمون بهديه، وسأل الله أن تكون هذه الإمامة متصلة بسببه وباقية في نسبه، وخالدة في عقبه، فأجيب إلى ما سأل ورام‏.‏ وسلمت إليه الإمامة بزمام، واستثنى من نيلها الظالمون، واختص بها من ذريته العلماء العاملون كما قال تعالى‏:‏

{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏} ‏[‏الأنعام‏:‏ 84-87‏]‏‏.‏ ‏

فالضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ عائد على إبراهيم على المشهور‏.‏

ولوط وإن كان ابن أخيه، إلا أنه دخل في الذرية تغليباً، وهذا هو الحامل للقائل الآخر إن الضمير على نوح، كما قدمنا في قصته، والله أعلم‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 26‏]‏ الآية‏.‏ فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من الأنبياء بعد إبراهيم الخليل، فمن ذريته وشيعته، وهذه خلعة سنية لا تضاهى، ومرتبة علية لا تباهى‏.‏

وذلك أنه ولد له لصلبه ولدان ذكران عظيمان‏:‏ إسماعيل من هاجر، ثم إسحاق من سارة‏.‏ وولد لهذا يعقوب - وهو إسرائيل - الذي ينتسب إليه سائر أسباطهم، فكانت فيهم النبوة وكثروا جدا بحيث لا يعلم عددهم إلا الذي بعثهم، واختصهم بالرسالة والنبوة، حتى ختموا بعيسى بن مريم من بني إسرائيل‏.‏

وأما إسماعيل عليه السلام فكانت منه العرب على اختلاف قبائلها، كما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى‏.‏ ولم يوجد من سلالته من الأنبياء سوى خاتمهم على الإطلاق، وسيدهم وفخر بني آدم في الدنيا والآخرة - محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، القرشي، الهاشمي، المكي، ثم المدني، صلوات الله وسلامه عليه -

فلم يوجد من هذا الفرع الشريف، والغصن المنيف، سوى هذه الجوهرة الباهرة، والدرة الزاهرة، وواسطة العقد الفاخرة، وهو السيد الذي يفتخر به أهل الجمع، ويغبطه الأولون والآخرون يوم القيامة‏.‏ وقد ثبت عنه في صحيح مسلم كما سنورده أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏سأقوم مقاماً يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

فمدح إبراهيم أباه مدحة عظيمة في هذا السياق، ودل كلامه على أنه أفضل الخلائق بعده عند الخلاق في هذه الحياة الدنيا، ويوم يكشف عن ساق‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول‏:‏

‏(‏‏(‏إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أهل السنن من حديث منصور به‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏

ذكر المفسرون لهذا السؤال أسباباً بسطناها في التفسير، وقررناها بأتم تقرير‏.‏ والحاصل أن الله عز وجل أجابه إلى ما سأل، فأمره أن يعمد إلى أربعة من الطيور، واختلفوا في تعينها على أقوال‏.‏

والمقصود حاصل على كل تقدير، فأمره أن يمزق لحومهن وريشهن، ويخلط ذلك بعضه في بعض، ثم يقسمه قسماً، ويجعل على كل جبل منهن جزء اً‏.‏

ففعل ما أمر به، ثم أمر أن يدعوهن بإذن ربهن، فلما دعاهن، جعل كل عضو يطير إلى صاحبه، وكل ريشة تأتي إلى أختها، حتى اجتمع بدن كل طائر على ما كان عليه، وهو ينظر إلى قدرة الذي يقول للشيء كن فيكون، فأتين إليه سعياً، ليكون أبين له، وأوضح لمشاهدته من أن يأتين طيراناً‏.‏

ويقال إنه أمر أن يأخذ رؤوسهن في يده، فجعل كل طائر يأتي فيلقي رأسه فيتركب على جثته كما كان، فلا إله إلا الله، وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، علماً يقيناً لا يحتمل النقيض، ولكن أحب أن يشاهد ذلك عياناً، ويترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، فأجابه الله إلى سؤاله، وأعطاه غاية مأموله‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 65-68‏]‏‏.‏

ينكر تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، في دعوى كل من الفريقين كون الخليل على ملتهم وطريقتهم، فبرأه الله منهم، وبين كثرة جهلهم وقلة عقلهم في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ أي‏:‏ فكيف يكون على دينكم، وأنتم إنما شرع لكم ما شرع بعده بمدد متطاولة‏؟‏‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ فبين أنه كان على دين الله الحنيف، وهو القصد إلى الإخلاص، والإنحراف وعمداً عن الباطل، إلى الحق الذي هو مخالف لليهودية والنصرانية والمشركية‏.‏ ‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ

قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ * قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ آنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏[‏البقرة‏:‏ 130-140‏]‏‏.‏

فنزّه الله عز وجل خليله عليه السلام، عن أن يكون يهودياً أو نصرانياً وبيـّن أنه إنما كان حنيفاً مسلماً، ولم يكن من المشركين‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 68‏]‏‏.‏

يعني الذين كانوا على ملته من أتباعه في زمانه، ومن تمسك بدينه من بعدهم‏.‏

‏{‏وَهَذَا النَّبِيُّ‏}‏ يعني‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله شرع له الدين الحنيف الذي شرعه للخليل، وكمله الله تعالى له، وأعطاه ما لم يعطِ نبياً ولا رسولاً قبله‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 161-163‏]‏‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120-123‏]‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال‏:‏

‏(‏‏(‏قاتلهم الله، والله إن يستقسما بالأزلام قط‏)‏‏)‏‏.‏

لم يخرجه مسلم، وفي بعض ألفاظ البخاري‏:‏

‏(‏‏(‏قاتلهم الله، لقد علموا أن شيخنا لم يستقسم بها قط‏)‏‏)‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏أُمَّةً‏}‏ أي‏:‏ قدوة، إماماً، مهتدياً، داعياً إلى الخير، يقتدى به فيه‏.‏

‏{‏قَانِتاً لِلَّهِ‏}‏ أي‏:‏ خاشعاً له في جميع حالاته وحركاته، وسكناته‏.‏

‏{‏حَنِيفاً‏}‏ أي‏:‏ مخلصاً على بصيرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 195‏)‏

{‏وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لِأَنْعُمِهِ‏}‏ أي‏:‏ قائماً بشكر ربه بجميع جوارحه من قلبه ولسانه وأعماله‏.‏

‏{‏اجْتَبَاهُ‏}‏ أي‏:‏ اختاره الله لنفسه، واصطفاه لرسالته، واتخذه خليلاً وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏ يرغب تعالى في اتباع إبراهيم عليه السلام، لأنه كان على الدين القويم، والصراط المستقيم، وقد قام بجميع ما أمره به ربه، ومدحه تعالى بذلك فقال‏:‏ ‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 27‏]‏ ولهذا اتخذه الله خليلاً، والخلة هي غاية المحبة كما قال بعضهم‏.‏

قد تخللت مسلك الروح مني * وبذا سمي الخليل خليلا

وهكذا نال هذه المنزلة، خاتم الأنبياء وسيد الرسل محمد صلوات الله وسلامه عليه، كما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ وغيرهما من حديث جندب البجلي، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏يا أيها الناس إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أيضاً في آخر خطبة خطبها‏:‏

‏(‏‏(‏أيها الناس لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله‏)‏‏)‏‏.‏

أخرجاه من حديث أبي سعيد، وثبت أيضاً من حديث عبد الله بن الزبير، وابن عباس، وابن مسعود‏.‏

وروى البخاري في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن عمرو بن ميمون قال‏:‏ إن معاذاً لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏‏.‏

فقال رجل من القوم‏:‏ لقد قرت عين أم إبراهيم‏.‏

وقال ابن مردويه‏:‏ حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكة، حدثنا عبد الله الحنفي، حدثنا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏

جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول‏:‏ عجب أن الله اتخذ من خلقه خليلاً فإبراهيم خليله‏.‏

وقال آخر‏:‏ ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليماً‏.‏

وقال آخر‏:‏ فعيسى روح الله وكلمته‏.‏

وقال آخر‏:‏ آدم اصطفاه الله‏.‏

فخرج عليهم فسلم وقال‏:‏

‏(‏‏(‏قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى كليمه وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك‏.‏ ألا وإني حبيب الله ولا فخر، ألا وإني أول شافع وأول مشفّع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلقة باب الجنة فيفتحه الله فيدخلنيها، ومعي فقراء المؤمنين، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

حديث غريب من هذا الوجه، وله شواهد من وجوه أخر، والله أعلم‏.‏

وروى الحاكم في ‏(‏مستدركه‏)‏ من حديث قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ أتنكرون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمود بن خالد المسلمي، حدثنا الوليد، عن إسحاق بن بشار قال‏:‏ لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل حتى أن كان خفقان قلبه ليسمع من بعد، كما يسمع خفقان الطير في الهواء‏.‏

وقال عبيد بن عمير‏:‏ كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس، فخرج يوماً يلتمس إنساناً يضيفه فلم يجد أحداً يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلاً قائماً فقال‏:‏ يا عبد الله ما أدخلك داري بغير إذني‏؟‏

قال‏:‏ دخلتها بإذن ربها‏.‏

قال‏:‏ ومن أنت‏؟‏

قال‏:‏ أنا ملك الموت، أرسلني ربي إلى عبد من عباده أبشره بأن الله قد اتخذه خليلاً‏.‏

قال‏:‏ من هو‏؟‏ فو الله إن أخبرتني به، ثم كان بأقصى البلاد لآتيّنه ثم لا أبرح له جاراً حتى يفرق بيننا الموت‏.‏

قال‏:‏ ذلك العبد أنت‏.‏

قال‏:‏ أنا‏!‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فبمَ اتخذني ربي خليلاً‏؟‏

قال‏:‏ بأنك تعطي الناس ولا تسألهم‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقد ذكره الله تعالى في القرآن كثيراً في غير ما موضع، بالثناء عليه والمدح له، فقيل‏:‏ إنه مذكور في خمسة وثلاثين موضعاً، منها خمسة عشر في البقرة وحدها، وهو أحد أولي العزم الخمسة المنصوص على أسمائهم تخصيصاً من بين سائر الأنبياء في آيتي الأحزاب والشورى‏.‏

وهما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏ الآية‏.‏

ثم هو أشرف أولي العزم بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي وجده عليه السلام في السماء السابعة، مسنداً ظهره بالبيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم‏.‏

وما وقع في حديث شريك بن أبي نمير، عن أنس في حديث الإسراء من أن إبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة، فمما انتقد على شريك في هذا الحديث، والصحيح الأول‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم خليل الرحمن‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏

ثم مما يدل على أن إبراهيم أفضل من موسى، الحديث الذي قال فيه‏:‏

‏(‏‏(‏وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏ رواه مسلم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه‏.‏

وهذا هو المقام المحمود الذي أخبر عنه صلوات الله وسلامه عليه بقوله‏:‏

‏(‏‏(‏أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ذكر استشفاع الناس بآدم، ثم بنوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فكلهم يحيد عنها حتى يأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فيقول‏:‏

‏{‏أنا لها، أنا لها‏.‏‏.‏‏}‏ الحديث‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عبد الله، حدثني سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قيل يا رسول الله من أكرم الناس‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتقاهم‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ليس عن هذا نسألك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فيوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ليس عن هذا نسألك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فعن معادن العرب تسألوني، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه البخاري في مواضع أخر، ومسلم، والنسائي من طريق عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري به‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ قال أبو أسامة ومعتمر عن عبيد الله، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت‏:‏ وقد أسنده في موضع آخر من حديثهما، وحديث عبدة بن سليمان، والنسائي من حديث محمد بن بشر أربعتهم عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبدة، حدثنا عبد الصمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر به‏.‏

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني مغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏يحشر الناس حفاة عراة غرلاً، فأول من يكسى إبراهيم عليه السلام، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ‏} ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏)‏‏)‏‏.‏

فأخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج كلاهما عن مغيرة بن النعمان النخعي الكوفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به‏.‏

وهذه الفضيلة المعينة لا تقتضي الأفضلية بالنسبة إلى ما قابلها، مما ثبت لصاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون‏.‏

وأما الحديث الآخر الذي قال الأمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، وأبو نعيم، حدثنا سفيان - هو الثوري - عن مختار بن فلفل، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا خير البرية، فقال‏:‏

‏(‏‏(‏ذاك إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

فقد رواه مسلم من حديث الثوري، وعبد الله بن إدريس، وعلي بن مسهر، ومحمد بن فضيل أربعتهم، عن المختار بن فلفل‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وهذا من باب الهضم والتواضع مع والده الخليل عليه السلام، كما قال‏:‏

‏(‏‏(‏لا تفضلوني على الأنبياء‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تفضلوني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقة الطور‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا كله لا ينافي في ما ثبت بالتواتر عنه صلوات الله وسلامه عليه، من أنه سيد ولد آدم يوم القيامة، وكذلك حديث أبي بن كعب في صحيح مسلم‏:‏

‏(‏‏(‏وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

ولما كان إبراهيم عليه السلام أفضل الرسل، وأولي العزم بعد محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أمر المصلى أن يقول في تشهده ما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث كعب بن عجرة وغيره قال‏:‏ قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قولوا اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد‏)‏‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 37‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ وفي جميع ما أمر به، وقام بجميع خصال الإيمان وشعبه، وكان لا يشغله مراعاة الأمر الجليل عن القيام بمصلحة الأمر القليل، ولا ينسيه القيام بأعباء المصالح الكبار عن الصغار‏.‏

قال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏‏

قال‏:‏ ابتلاه الله بالطهارة‏:‏ خمس في الرأس، وخمس في الجسد‏.‏

في الرأس‏:‏ قص الشارب، والمضمضة، والسواك، والاستنشاق، وفرق الرأس‏.‏

وفي الجسد‏:‏ تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال‏:‏ وروى عن سعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وأبي صالح، وأبي الجلد نحو ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏الفطرة خمس‏:‏ الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط‏)‏‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم، وأهل السنن، من حديث وكع، عن ذكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة العبدري المكي الحجبي، عن طلق بن حبيب العتري، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت‏:‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏عشر من الفطرة‏:‏ قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء‏)‏‏)‏‏.‏

يعني الاستنجاء‏.‏ وسيأتي في ذكر مقدار عمره الكلام على الختان‏.‏

والمقصود أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يشغله القيام بالإخلاص لله عز وجل، وخشوع العبادة العظيمة، عن مراعات مصلحة بدنه، وإعطاء كل عضو ما يستحقه من الإصلاح والتحسين، وإزالة ما يشين من زيادة شعر، أو ظفر، أو وجود قلح، أو وسخ، فهذا من جملة قوله تعالى في حقه من المدح العظيم‏:‏ ‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏}‏‏.‏

 قصره في الجنة

قال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا أحمد بن سنان القطان الواسطي، ومحمد بن موسى القطان، قالا‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن في الجنة قصراً أحسبه قال من لؤلؤة، ليس فيه فصم ولا وهي، أعده الله لخليله إبراهيم عليه السلام نزلاً‏)‏‏)‏‏.‏

قال البزار‏:‏ وحدثناه أحمد بن جميل المروزي، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك، عن عكرمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏

ثم قال‏:‏ وهذا الحديث لا نعلم رواه عن حماد بن سلمة، فأسنده إلا يزيد بن هارون، والنضر بن شميل، وغيرهما يرويه موقوفاً‏.‏ قلت‏:‏ لولا هذه العلة لكان على شرط الصحيح، ولم يخرجوه‏.‏

 

 

 صفة إبراهيم عليه السلام

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يونس وحجين قالا‏:‏ حدثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏عرض علي الأنبياء، فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى بن مريم، فإذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود، ورأيت إبراهيم فإذا أقرب من رأيت به شبهاً دحية‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه، وبهذا اللفظ‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا أسود بن عمر، حدثنا إسرائيل، عن عثمان - يعني ابن المغيرة - عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏رأيت عيسى بن مريم، وموسى، وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر، وأما موسى فآدم جسيم‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا له‏:‏ فإبراهيم‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏انظروا إلى صاحبكم‏)‏‏)‏ يعني نفسه‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا بنان بن عمرو، حدثنا النضر، أنبأنا ابن عون، عن مجاهد، أنه سمع ابن عباس، وذكروا له الدجال بين عينيه كافراً و ‏(‏ك ف ر‏)‏ فقال‏:‏ لم أسمعه، ولكنه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى فجعد آدم على جمل أحمر مخطوم بخلبه، كأني أنظر إليه انحدر في الوادي‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه البخاري أيضاً، ومسلم عن محمد بن المثنى، عن ابن أبي عدي، عن عبد الله بن عون به‏.‏

وهكذا رواه البخاري أيضاً في كتاب الحج، وفي اللباس، ومسلم جميعاً عن محمد بن المثنى، عن ابن أبي عدي، عن عبد الله بن عون به‏.‏

 وفاة إبراهيم وما قيل في عمره

ذكر ابن جرير في تاريخه، أن مولده كان في زمن النمرود بن كنعان، وهو فيما قيل الضحاك الملك المشهور، الذي يقال‏:‏ إنه ملك ألف سنة، وكان في غاية الغشم والظلم‏.‏

وذكر بعضهم أنه من بني راسب الذين بعث إليهم نوح عليه السلام، وأنه كان إذ ذاك ملك الدنيا‏.‏

وذكروا أنه طلع نجم أخفى ضوء الشمس والقمر، فهال ذلك أهل ذلك الزمان، وفزغ النمرود‏.‏ فجمع الكهنة والمنجمين وسألهم عن ذلك، فقالوا‏:‏ يولد مولود في رعيتك يكون زوال ملكك على يديه، فأمر عند ذلك بمنع الرجال عن النساء، وأن يقتل المولودون من ذلك الحين‏.‏

فكان مولد إبراهيم الخليل في ذلك الحين، فحماه الله عز وجل، وصانه من كيد الفجار، وشب شباباً باهراً، وأنبته الله نباتاً حسناً، حتى كان من أمره ما تقدم، وكان مولده بالسوس، وقيل‏:‏ ببابل‏.‏ وقيل‏:‏ بالسواد من ناحية كوثى‏.‏

وتقدم عن ابن عباس أنه ولد ببرزة شرقي دمشق، فلما أهلك الله نمرود على يديه، وهاجر إلى حران، ثم إلى أرض الشام، وأقام ببلاد إيليا كما ذكرنا، وولد له إسماعيل وإسحاق‏.‏

وماتت سارة قبله بقرية حبرون التي في أرض كنعان، ولها من العمر مائة وسبع وعشرون سنة، فيما ذكر أهل الكتاب، فحزن عليها إبراهيم عليه السلام، ورثاها رحمها الله، واشترى من رجل من بني حيث، يقال له عفرون بن صخر مغارة بأربع مائة مثقال، ودفن فيها سارة هنالك‏.‏

قالوا‏:‏ ثم خطب إبراهيم على ابنه إسحاق، فزوجه رفقا بنت بتوئيل بن ناحور بن تارح، وبعث مولاه فحملها من بلادها، ومعها مرضعتها وجوارها على الإبل‏.‏

قالوا‏:‏ ثم تزوج إبراهيم عليه السلام قنطورا، فولدت له‏:‏ زمران، ويقشان، ومادان، ومدين، وشياق، وشوح‏.‏ وذكروا ما ولد كل واحد من هؤلاء أولاد قنطورا‏.‏

وقد روى ابن عساكر عن غير واحد من السلف، عن أخبار أهل الكتاب في صفة مجيء ملك الموت إلى إبراهيم عليه السلام أخباراً كثيرة، الله أعلم بصحتها‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه مات فجأة، وكذا داود، وسليمان، والذي ذكره أهل الكتاب وغيرهم خلاف ذلك‏.‏

قالوا‏:‏ ثم مرض إبراهيم عليه السلام، ومات عن مائة وخمس وسبعين، وقيل‏:‏ وتسعين سنة، ودفن في المغارة المذكورة التي كانت بحبرون الحيثي عند امرأته سارة التي في مزرعة عفرون الحيثي، وتولى دفنه إسماعيل وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏.‏

وقد ورد ما يدل أنه عاش مائتي سنة، كما قاله ابن الكلبي‏.‏

وقال أبو حاتم بن حبان في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ أنبأنا المفضل بن محمد الجندي بمكة، حدثنا علي بن زياد اللخمي، حدثنا أبو قرة عن ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏اختتن إبراهيم بالقدوم وهو ابن عشرين ومائة سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه الحافظ بن عساكر من طريق عكرمة بن إبراهيم، وجعفر بن عون العمري، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد عن أبي هريرة موقوفاً‏.‏

ثم قال ابن حبان ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن رفع هذا الخبر وهم‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد نيست، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏اختتن إبراهيم حين بلغ مائة وعشرين سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، واختتن بقدوم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏وقد أتت عليه ثمانون سنة‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

ثم روى ابن حبان عن عبد الرزاق أنه قال‏:‏ القدوم اسم القرية، قلت الذي في الصحيح أنه اختتن وقد أتت عليه ثمانون سنة‏.‏ وفي رواية‏:‏ وهو ابن ثمانين سنة، وليس فيهما تعرض لما عاش بعد ذلك، والله أعلم‏.‏

وقال محمد بن اسماعيل الحساني الواسطي زاد في تفسير وكيع عنه فيما ذكره من الزيادات‏:‏ حدثنا أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال‏:‏ كان إبراهيم أول من تسرول، وأول من فرق، وأول من استحد، وأول من اختتن بالقدوم، وهو ابن عشرين ومائة سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، وأول من قرى الضيف، وأول من شاب‏.‏

هكذا رواه موقوفاً، وهو أشبه بالمرفوع خلافاً لابن حبان، والله أعلم‏.‏

وقال مالك عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ كان إبراهيم أول من أضاف الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص شاربه، وأول الناس رأى الشيب‏.‏

فقال يا رب‏:‏ ما هذا‏؟‏

فقال الله تبارك و تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏وقار يا إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال يا رب‏:‏ زدني وقاراً‏.‏

وزاد غيرهما‏:‏ وأول من قص شاربه، وأول من استحد، وأول من لبس السراويل‏.‏ فقبره، وقبر ولده إسحاق، وقبر ولد ولده يعقوب، في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام ببلد حبرون، وهو البلد المعروف بالخليل اليوم، وهذا تلقي بالتواتر أمة بعد أمة، وجيل بعد جيل، من زمن بني إسرائيل وإلى زماننا هذا، أن قبره بالمربعة تحقيقاً‏.‏

فأما تعيينه منها فليس فيه خبر صحيح عن معصوم، فينبغي أن تراعي تلك المحلة، وأن تحترم احترام مثلها، وأن تبجل، وأن تجل أن يداس في أرجائها، خشية أن يكون قبر الخليل أو أحد من أولاده الأنبياء عليهم السلام تحتها‏.‏

وروى ابن عساكر بسنده إلى وهب بن منبه، قال‏:‏ وجد عند قبر إبراهيم الخليل على حجر كتابة خلقة‏:‏

إلهي جهولاً أمله * يموت من جا أجله

ومن دنا من حتفه * لم تغن عنه حيله

وكيف يبقى آخر * من مات عنه أوله

والمرء لا يصحبه * في القبر إلا عمله

 ذكر أولاد إبراهيم الخليل

أول من ولد له إسماعيل من هاجر القبطية المصرية، ثم ولد له إسحاق من سارة بنت عم الخليل، ثم تزوج بعدها قنطورا بنت يقطن الكنعانية، فولدت له ستة‏:‏ مدين، وزمران، وسرج، ويقشان، ونشق، ولم يسم السادس‏.‏ ثم تزوج بعدها حجون بنت أمين، فولدت له خمسة‏:‏ كيسان، وسورج، وأميم، ولوطان، ونافس‏.‏ هكذا ذكره أبو القاسم السهيلي في كتابه ‏(‏التعريف والاعلام‏)‏‏.‏

ومما وقع في حياة إبراهيم الخليل من الأمور العظيمة، قصة قوم لوط عليه السلام، وما حل بهم من النقمة الغميمة، وذلك أن لوطاً بن هاران بن تارح وهو آزر كما تقدم، ولوط ابن أخي إبراهيم الخليل، فإبراهيم وهاران وناحور أخوة كما قدمنا‏.‏

ويقال‏:‏ إن هاران هذا هو الذي بنى حران، وهذا ضعيف لمخالفته ما بأيدي أهل الكتاب، والله أعلم‏.‏

وكان لوط قد نزح عن محلة عمه الخليل عليهما السلام، بأمره له وإذنه، فنزل بمدينة سدوم من أرض غور زغر، وكأن أم تلك المحلة، ولها أرض ومعتملات وقرى مضافة إليها، ولها أهل من أفجر الناس وأكفرهم، وأسوأهم طوية، وأرداهم سريرة وسيرة، يقطعون السبيل، ويأتون في ناديهم المنكر، ولا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون‏.‏

ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، وهي إتيان الذكران من العالمين، وترك ما خلق الله من النسوان لعباده الصالحين، فدعاهم لوط إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات، والفواحش المنكرات، والأفاعيل المستقبحات، فتمادوا على ضلالهم وطغيانهم، واستمروا على فجورهم وكفرانهم، فأحل الله بهم من البأس الذي لا يرد ما لم يكن في خلدهم وحسبانهم، وجعلهم مثلة في العالمين، وعبرة يتعظ بها الألباء من العالمين‏.‏

ولهذا ذكر الله تعالى قصتهم في غير ما موضع من كتابه المبين، فقال تعالى في سورة الأعراف‏:‏ ‏{‏وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 80-84‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة هود‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ *

قَالَتْ يَاوَيْلَتَى آلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ * وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ

قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 69-83‏]‏‏.‏ ‏

وقال تعالى في سورة الحجر‏:‏

‏{‏وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ * فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ *

قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ * وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 51-77‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الشعراء‏:‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 160- 175‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة النمل‏:‏

‏{‏وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 54-58‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 205‏)‏

وقال تعالى في سورة العنكبوت‏:‏

‏{‏وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَلَمَّا أَنْ جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 28-35‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الصافات‏:‏

{‏وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 133-138‏]‏‏.‏

وقال تعالى في الذاريات بعد قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم إياه بغلام عليم‏:‏

‏{‏قال‏:‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 31-37‏]‏‏.‏

وقال في سورة الانشقاق‏:‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ‏}‏‏[‏القمر‏:‏ 33-40‏]‏‏.‏

وقد تكلمنا على هذه القصص في أماكنها من هذه السورة في التفسير، وقد ذكر الله لوطاً وقومه في مواضع أخر من القرآن، تقدم ذكرها مع قوم نوح، وعاد، وثمود، والمقصود الآن إيراد ما كان من أمرهم، وما أحل الله بهم، مجموعاً من الآيات والآثار، وبالله المستعان‏.‏

وذلك أن لوطاً عليه السلام لما دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي ما ذكر الله عنهم من الفواحش، فلم يستجيبوا له، ولم يؤمنوا به، حتى ولا رجل واحد منهم، ولم يتركوا ما عنه نهوا، بل استمروا على حالهم، ولم يرتدعوا عن غيهم وضلالهم، وهموا بإخراج رسولهم من بين ظهرانيهم، واستضعفوه وكثروا منه‏.‏

وما كان حاصل جوابهم عن خطابهم إذ كانوا لا يعقلون إلا أن قالوا‏:‏ ‏{‏أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 56‏]‏‏.‏

فجعلوا غاية المدح ذماً يقتضي الإخراج، وما حملهم على مقالتهم هذه إلا العناد واللجاج، فطهره الله وأهله إلا امرأته، وأخرجهم منها أحسن إخراج، وتركهم في محلتهم خالدين، لكن بعد ما صيرها عليهم بحرة منتنة ذات أمواج لكنها عليهم في الحقيقة نار تأجج، وحر يتوهج، وماؤها ملح أجاج‏.‏ ‏

وما كان هذا جوابهم إلا لمـَّا نهاهم عن ارتكاب الطامة العظمى، والفاحشة الكبرى، التي لم يسبقهم إليها أحد من أهل الدنيا، ولهذا صاروا مثلة فيها وعبرة لمن عليها، وكانوا مع ذلك يقطعون الطريق، ويخونون الرفيق، ويأتون في ناديهم - وهو مجتمعهم ومحل حديثهم وسمرهم - المنكر من الأقوال والأفعال، على اختلاف أصنافه‏.‏

حتى قيل‏:‏ إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم، ولا يستحيون من مُجالسهم، وربما وقع منهم الفعلة العظيمة في المحافل، ولا يستنكفون ولا يرعوون لوعظ واعظ، ولا نصيحة من عاقل، وكانوا في ذلك وغيره كالأنعام بل أضل سبيلا، ولم يقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر، ولا ندموا على ما سلف من الماضي، ولا راموا في المستقبل تحويلاً، فأخذهم الله أخذا وبيلاً‏.‏

وقالوا له فيما قالوا‏:‏ ‏{‏ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ فطلبوا منه وقوع ما حذرهم عنه من العذاب الأليم، وحلول البأس العظيم‏.‏

فعند ذلك دعا عليهم نبيهم الكريم، فسأل من رب العالمين، وإله المرسلين، أن ينصره على القوم المفسدين، فغار الله لغيرته، وغضب لغضبته، واستجاب لدعوته، وأجابه إلى طلبته، وبعث رسله الكرام وملائكته العظام، فمروا على الخليل إبراهيم، وبشروه بالغلام العليم، وأخبروه بما جاؤوا له من الأمر الجسيم، والخطب العميم‏.‏

{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ‏}‏‏[‏الذاريات‏:‏ 31-34‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَلَمَّا أَنْ جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 31-33‏]‏‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏ وذلك أنه كان يرجو أن ينيبوا ويسلموا، ويقلعوا ويرجعوا‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 75‏]‏‏.‏

أي‏:‏ أعرض عن هذا، وتكلم في غيره، فإنه قد حتم أمرهم ووجب عذابهم وتدميرهم وهلاكهم‏.‏

{‏إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ‏}‏ أي‏:‏ قد أمر به من لا يرد أمره، ولا يرد بأسه، ولا معقب لحكمه‏.‏ وإنهم آتيهم عذاب غير مردود‏.‏

وذكر سعيد بن جبير، والسدي، وقتادة، ومحمد بن إسحاق‏:‏ أن إبراهيم عليه السلام جعل يقول‏:‏ أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمائتا مؤمن‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأربعون مؤمنا‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأربعة عشر مؤمناً‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ إلى أن قال أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏ ‏{‏قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا‏}‏ الآية ‏[‏العنكبوت‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وعند أهل الكتاب أنه قال‏:‏ يا رب أتهلكهم وفيهم خمسون رجلاً صالحاً‏؟‏

فقال الله‏:‏ لا أهلكهم وفيهم خمسون صالحاً، ثم تنازل إلى عشرة فقال الله‏:‏ لا أهلكهم وفيهم عشرة صالحون‏.‏ ‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏هود‏:‏ 77‏]‏

قال المفسرون‏:‏ لما فصلت الملائكة من عند إبراهيم، وهم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، أقبلوا حتى أتوا أرض سدوم، في صور شبان حسان، اختباراً من الله تعالى لقوم لوط، وإقامة للحجة عليهم، فاستضافوا لوطاً عليه السلام، وذلك عند غروب الشمس، فخشي إن لم يضفهم، يضيفهم غيره، وحسبهم بشراً من الناس، وسيء بهم، وضاق بهم ذرعاً، وقال هذا يوم عصيب‏.‏

قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومحمد بن إسحاق‏:‏ شديد بلاؤه، وذلك لما يعلم من مدافعته الليلة عنهم، كما كان يصنع بهم في غيرهم، وكانوا قد اشترطوا عليه أن لا يضيف أحداً، ولكن رأى من لا يمكن المحيد عنه‏.‏

وذكر قتادة أنهم وردوا عليه وهو في أرض له يعمل فيها، فتضيفوا فاستحيى منهم، وانطلق أمامهم، وجعل يعرّض لهم في الكلام لعلّهم ينصرفون عن هذه القرية، وينزلون في غيرها‏.‏

فقال لهم فيما قال‏:‏ والله يا هؤلاء، ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء، ثم مشى قليلاً، ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات، قال‏:‏ وكانوا قد أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك‏.‏

وقال السدي‏:‏ خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قوم لوط، فأتوها نصف النهار، فلما بلغوا نهر سدوم لقوا ابنة لوط تستقى من الماء لأهلها، وكانت له ابنتان‏:‏ اسم الكبرى ريثا، والصغرى ذعرتا‏.‏

فقالوا لها‏:‏ يا جارية هل من منزل‏؟‏

فقالت لهم‏:‏ مكانكم، لا تدخلوا حتى آتيكم، فرقت عليهم من قومها، فأتت أباها فقالت‏:‏ يا أبتاه أرادك فتيان على باب المدينة، ما رأيت وجوه قوم قط هي أحسن منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم، وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلاً، فجاء بهم فلم يعلم أحداً إلا أهل البيت‏.‏

فخرجت امرأته فأخبرت قومها فقالت‏:‏ إن في بيت لوط رجالاً، ما رأيت مثل وجوههم قط، فجاءه قومه يهرعون إليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ‏} ‏[‏هود‏:‏ 78‏]‏ أي‏:‏ هذا مع ما سلف لهم من الذنوب العظيمة، الكبيرة، الكثيرة‏.‏

‏{‏قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ‏}‏ يرشدهم إلى غشيان نسائهم، وهن بناته شرعاً؛ لأن النبي للأمة بمنزلة الوالد، كما ورد في الحديث، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وفي قول بعض الصحابة والسلف‏:‏ وهو أب لهم‏.‏

وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 165-166‏]‏‏.‏

وهذا هو الذي نص عليه مجاهد، وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق وهو الصواب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 208‏)‏

والقول الآخر خطأ مأخوذ من أهل الكتاب، وقد تصحف عليهم، كما أخطأوا في قولهم إن الملائكة كانوا اثنين، وإنهم تعشوا عنده‏.‏ وقد خبط أهل الكتاب في هذه القصة تخبيطاً عظيماً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 78‏]‏ نهي لهم عن تعاطي ما لا يليق من الفاحشة، وشهادة عليهم بأنه ليس فيهم رجل له مسكة، ولا فيه خير، بل الجميع سفهاء، فجرة أقوياء، كفرة أغبياء‏.‏

وكان هذا من جملة ما أراد الملائكة أن يسمعوا منه، من قبل أن يسألوه عنه‏.‏ فقال قومه عليهم لعنة الله الحميد المجيد‏.‏ مجيبين لنبيهم فيما أمرهم به من الأمر السديد‏:‏ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 79‏]‏‏.‏

يقولون عليهم لعائن الله‏:‏ لقد علمت يا لوط أنه لا أرب لنا في نسائنا، وإنك لتعلم مرادنا وغرضنا من غير النساء‏.‏ واجهوا بهذا الكلام القبيح رسولهم الكريم، ولم يخافوا سطوة العظيم، ذي العذاب الأليم‏.‏

ولهذا قال عليه السلام‏:‏ ‏{‏قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 80‏]‏ ودّ أن لو كان له بهم قوة، أو له منعة وعشيرة ينصرونه عليهم، ليحل بهم ما يستحقونه من العذاب على هذا الخطاب‏.‏

وقد قال الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً‏:‏

نحن أحق بالشك من إبراهيم، ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي‏.‏

ورواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة‏.‏

وقال محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني الله عز وجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 67-71‏]‏‏.‏

فأمرهم بقربان نسائهم، وحذرهم الاستمرار على طريقتهم، وسيآتهم هذا، وهم في ذلك لا ينتهون ولا يرعوون، بل كلما لهم يبالغون في تحصيل هؤلاء الضيفان ويحرصون‏.‏ ولم يعلموا ما حمَّ به القدر مما هم إليه صائرون، وصبيحة ليلتهم إليه منقلبون‏.‏

ولهذا قال تعالى مقسماً بحياة نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ {‏لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 36-38‏]‏ ‏‏

ذكر المفسرون وغيرهم، أن نبي الله لوطاً عليه السلام، جعل يمانع قومه الدخول ويدافعهم، والباب مغلق وهم يرومون فتحه وولوجه، وهو يعظهم وينهاهم من وراء الباب، وكل ما لهم في إلحاح وإلعاج، فلما ضاق الأمر، وعسر الحال قال ما قال‏:‏ {‏لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد‏}‏ لأحللت بكم النكال‏.‏

قالت الملائكة‏:‏ ‏{‏قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ‏}‏ وذكروا أن جبريل عليه السلام حرج عليهم، فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه، فطمست أعينهم، حتى قيل‏:‏ إنها غارت بالكلية، ولم يبق لها محل، ولا عين، ولا أثر، فرجعوا يتجسسون مع الحيطان، ويتوعدون رسول الرحمن، ويقولون‏:‏ إذا كان الغد كان لنا وله شأن‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏37-38‏]‏ فذلك أن الملائكة تقدمت إلى لوط عليهم السلام، آمرين له بأن يسري هو وأهله من آخر الليل، ولا يلتفت منكم أحد، يعني عند سماع صوت العذاب إذا حل بقومه، وأمروه أن يكون سيره في آخرهم كالساقة لهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا امْرَأَتَكَ‏}‏ على قراءة النصب‏:‏

يحتمل أن يكون مستثنى من قوله‏:‏ ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ كأنه يقول‏:‏ إلا امرأتك فلا تسر بها‏.‏

ويحتمل أن يكون من قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 81‏]‏ أي‏:‏ فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصابهم‏.‏ ويقوي هذا الاحتمال قراءة الرفع، ولكن الأول أظهر في المعنى، والله أعلم‏.‏

قال السهيلي‏:‏ واسم امرأة لوط‏:‏ والهة، واسم امرأة نوح‏:‏ والغة‏.‏ وقالوا له مبشرين بهلاك هؤلاء البغاة العتاة الملعونين، النظراء والأشباه الذين جعلهم الله سلفاً لكل خائن مريب‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 81‏]‏‏.‏

فلما خرج لوط عليه السلام بأهله - وهم ابنتاه - ولم يتبعه منهم رجل واحد، ويقال‏:‏ إن امرأته خرجت معه فالله أعلم‏.‏ فلما خلصوا من بلادهم، وطلعت الشمس فكان عند شروقها جاءهم من أمر الله ما لا يرد‏.‏ ومن البأس الشديد ما لا يمكن أن يصد‏.‏

وعند أهل الكتاب‏:‏ أن الملائكة أمروه أن يصعد إلى رأس الجبل الذي هناك، فاستبعده وسأل منهم أن يذهب إلى قرية قريبة منهم، فقالوا‏:‏ اذهب فإنا ننتظرك حتى تصير إليها، وتستقر فيها، ثم نحل بهم العذاب‏.‏ فذكروا أنه ذهب إلى قرية صغر التي يقول الناس غور زغر، فلما أشرقت الشمس نزل بهم العذاب‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}‏‏[‏هود‏:‏ 82-83‏]‏‏.‏

قالوا اقتلعهن جبريل بطرف جناحه من قرارهن، وكن سبع مدن بمن فيهن من الأمم، فقالوا‏:‏ إنهم كانوا أربع مائة نسمة، وقيل‏:‏ أربعة آلاف نسمة، وما معهم من الحيوانات وما يتبع تلك المدن من الأراضي والأماكن والمعتملات، فرفع الجميع حتى بلغ بهن عنان السماء، حتى سمعت الملائكة أصوات ديكتهم، ونباح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها‏.‏

قال مجاهد‏:‏ فكان أول ما سقط منها شرفاتها‏.‏

{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ‏} والسجيل‏:‏ فارسي معرب، وهو‏:‏ الشديد الصلب القوي‏.‏

‏{‏مَنْضُودٍ‏}‏ أي‏:‏ يتبع بعضها بعضاً في نزولها عليهم من السماء‏.‏

‏{‏مُسَوَّمَةً‏}‏ أي‏:‏ معلمة، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذي يهبط عليه فيدمغه‏.‏

كما قال‏:‏ ‏{‏مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ‏} ‏[‏الذاريات‏:‏ 34‏]‏‏.‏

وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 173‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 35-54‏]‏ يعني‏:‏ قلبها فأهوى بها منكسة عاليها سافلها، وغشاها بمطر من حجارة من سجيل متتابعة، مرقومة على كل حجر اسم صاحبه الذي سقط عليه من الحاضرين منهم في بلدهم، والغائبين عنها من المسافرين، والنازحين، والشاذين منها‏.‏

ويقال‏:‏ إن امرأة لوط مكثت مع قومها، ويقال‏:‏ إنها خرجت مع زوجها وبنتيها، ولكنها لما سمعت الصيحة وسقوط البلدة، والتفتت إلى قومها، وخالفت أمر ربها قديماً وحديثاً، وقالت‏:‏ واقوماه، فسقط عليها حجر فدمغها، وألحقها بقومها إذ كانت على دينهم، وكانت عيناً لهم على من يكون عند لوط من الضيفان‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 10‏]‏ أي‏:‏ خانتاهما في الدين فلم يتبعاهما فيه‏.‏

وليس المراد أنهما كانتا على فاحشة، حاشا وكلا ولما‏.‏ فإن الله لا يقدر على نبي أن تبغى امرأته، كما قال ابن عباس وغيره من أئمة السلف والخلف‏:‏ ما بغت امرأة نبي قط‏.‏ ومن قال خلاف هذا فقد أخطأ خطأ كبيرا‏.‏

قال الله تعالى في قصة الإفك، لما أنزل براءة أم المؤمنين عائشة بنت الصديق، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فعاتب الله المؤمنين، وأنّب وزجر، ووعظ وحذر، وقال فيما قال‏:‏

{‏إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ‏} ‏[‏النور‏:‏ 15-16‏]‏ أي‏:‏ سبحانك أن تكون زوجة نبيك بهذه المثابة‏.‏

وقوله ههنا‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ وما هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم في فعلهم‏.‏ ولهذا ذهب من ذهب من العلماء إلى أن اللائط يرجم سواء كان محصناً أو لا‏.‏ نصَّ عليه الشافعي، وأحمد بن حنبل، وطائفة كثيرة من الأئمة‏.‏

واحتجوا أيضاً بما رواه الإمام أحمد، وأهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به‏)‏‏)‏‏.‏

وذهب أبو حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق جبل، ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}‏‏.‏

وجعل الله مكان تلك البلاد بحرة منتنة، لا ينتفع بمائها، ولا بما حولها من الأراضي المتاخمة لفنائها، لرداءتها ودناءتها، فصارت عبرة ومثلة وعظة، وآية على قدرة الله تعالى وعظمته، وعزته في انتقامه ممن خالف أمره، وكذب رسله، واتبع هواه وعصى مولاه، ودليلاً على رحمته بعباده المؤمنين، في إنجائه إياهم من المهلكات، وإخراجه إياهم الظلمات إلى النور‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 8-9‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 73-77‏]‏‏.‏

أي‏:‏ من نظر بعين الفراسة والتوسم فيهم، كيف غير الله تلك البلاد وأهلها‏؟‏ وكيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة‏.‏ هالكة غامرة‏؟‏

كما روى الترمذي، وغيره مرفوعاً‏:‏

‏(‏‏(‏اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ‏)‏‏)‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ لبطريق مهيع، مسلوك إلى الآن‏.‏

كما قالوَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 137‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 35-37‏]‏‏.‏

أي‏:‏ تركناها عبرة وعظة لمن خاف عذاب الآخرة، وخشي الرحمن بالغيب، وخاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فانزجر عن محارم الله، وترك معاصيه، وخاف أن يشابه قوم لوط، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وإن لم يكن من كل وجه فمن بعض الوجوه كما قال بعضهم‏:‏

فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم * فما قوم لوط منكم ببعيد

فالعاقل اللبيب، الخائف من ربه الفاهم، يمتثل ما أمره الله به عز وجل، ويقبل ما أرشده إليه رسول الله، من إتيان ما خلق له من الزوجات الحلال، والجواري من السراري ذوات الجمال‏.‏ وإياه أن يتبع كل شيطان مريد، فيحق عليه الوعيد، ويدخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}