الجزء الأول - قصة مدين قوم شعيب عليه السلام

قصة مدين قوم شعيب عليه السلام

قال الله تعالى في سورة الأعراف بعد قصة قوم لوط‏:‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ * وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 85-95‏]‏‏.‏

وقال في سورة هود بعد قصة قوم لوط أيضاً‏:‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ * قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ * وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ * قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 84-95‏]‏‏.‏

وقال في الحجر بعد قصة قوم لوط أيضاً‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 78-79‏]‏‏.‏

وقال تعالى في الشعراء بعد قصتهم‏:‏

{‏كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}

‏[‏الشعراء‏:‏ 176-191‏]‏‏.‏

كان أهل مدين قوماً عرباً، يسكنون مدينتهم مدين التي هي قرية من أرض معان، من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز، قريباً من بحيرة قوم لوط، وكانوا بعدهم بمدة قريبة، ومدين قبيلة عرفت بهم القبيلة‏.‏ وهم من بني مدين بن مديان بن إبراهيم الخليل‏.‏

وشعيب نبيهم هو ابن ميكيل بن يشجن، ذكره ابن إسحاق قال‏:‏ ويقال له بالسريانية‏:‏ بنزون، وفي هذا نظر‏.‏

ويقال‏:‏ شعيب بن يشخر بن لاوي بن يعقوب‏.‏

ويقال‏:‏ شعيب بن نويب بن عيفا بن مدين بن إبراهيم‏.‏

ويقال‏:‏ شعيب بن ضيفور بن عيفا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم‏.‏

وقيل غير ذلك في نسبه‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ ويقال جدته، ويقال أمه‏:‏ بنت لوط‏.‏

وكان ممن آمن بإبراهيم وهاجر معه، ودخل معه دمشق‏.‏

وعن وهب بن منبه أنه قال‏:‏ شعيب وملغم ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق بالنار وهاجرا معه إلى الشام، فزوجهما بنتي لوط عليه السلام‏.‏ ذكره ابن قتيبة‏.‏ وفي هذا كله نظر أيضاً، والله أعلم‏.‏

وذكر أبو عمر بن عبد البر في ‏(‏الاستيعاب‏)‏ في ترجمة سلمة بن سعد العنزي أنه‏:‏ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، وانتسب إلى عنزة فقال‏:‏

‏(‏‏(‏نعم الحي عنزة مبغي عليهم، منصورون قوم شعيب وأختان موسى‏)‏‏)‏‏.‏

فلو صح هذا لدل على أن شعيباً من موسى، وأنه من قبيلة من العرب العاربة، يقال لهم‏:‏ عنزة، لا أنهم من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، فإن هؤلاء بعده بدهر طويل، والله أعلم‏.‏

وفي حديث أبي ذر الذي في صحيح ابن حبان في ذكر الأنبياء والرسل قال‏:‏

‏(‏‏(‏أربعة من العرب‏:‏ هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر‏)‏‏)‏ وكان بعض السلف يسمي شعيباً خطيب الأنبياء، يعني لفصاحته وعلو عبارته، وبلاغته في دعاية قومه إلى الإيمان برسالته‏.‏

وقد روى ابن إسحاق بن بشر، عن جويبر، ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيباً قال‏:‏

‏(‏‏(‏ذاك خطيب الأنبياء‏)‏‏)‏‏.‏

وكان أهل مدين كفاراً، يقطعون السبيل، ويخيفون المارة، ويعبدون الأيكة، وهي شجرة من الأيك، حولها غيضة ملتفة بها، وكانوا من أسوء الناس معاملة، يبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيهما، يأخذون بالزائد، ويدفعون بالناقص‏.‏

فبعث الله فيهم رجلاً منهم وهو رسول الله شعيب عليه السلام، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة، من بخس الناس أشياءهم، وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم، فآمن به بعضهم، وكفر أكثرهم حتى أحل الله بهم البأس الشديد، وهو الولي الحميد‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 85‏]‏ أي‏:‏ دلالة وحجة واضحة، وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به، وإنه أرسلني‏.‏ وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلاً، وإن كان هذا اللفظ قد دل عليها إجمالاً‏.‏

{‏فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا‏} ‏[‏الأعراف‏:‏ 86‏]‏ أمرهم بالعدل، ونهاهم عن الظلم، وتوعدهم على خلاف ذلك فقال‏:‏ {‏ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ‏}‏ أي‏:‏ طريق‏.‏

{‏تُوعِدُونَ‏}‏ أي‏:‏ تتوعدون الناس بأخذ أموالهم من مكوس وغير ذلك، وتخيفون السبل‏.‏

قال السدي في ‏(‏تفسيره‏)‏ عن الصحابة‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ‏}‏ أنهم كانوا يأخذون العشور من أموال المارة‏.‏

وقال إسحاق بن بشر، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال‏:‏ كانوا قوماً طغاةً بناةً يجلسون على الطريق، يبخسون الناس‏:‏ يعني يعشرونهم، وكانوا أول من سن ذلك‏.‏

{‏وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 86‏]‏ فنهاهم عن قطع الطريق الحسية الدنيوية والمعنوية الدينية‏.‏

{‏وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم، في تكثيرهم بعد القلة، وحذرهم نقمة الله بهم إن خالفوا ما أرشدهم إليه، ودلهم عليه، كما قال لهم في القصة الأخرى‏:‏ ‏{‏تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 84‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 215‏)‏

أي‏:‏ لا تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه، فيمحق الله بركة ما في أيديكم، ويفقركم ويذهب ما به يغنيكم، وهذا مضاف إلى عذاب الآخرة، ومن جمع له هذا وهذا فقد باء بالصفقة الخاسرة‏.‏ فنهاهم أولاً عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف، وحذرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم، وعذابه الأليم في أخراهم، وعنفهم أشد تعنيف‏.‏

ثم قال لهم آمراً بعدما كان عن ضده زاجراً‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‏}‏‏.‏

قال ابن عباس، والحسن البصري‏:‏ ‏{‏بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ رزق الله خير لكم من أخذ أموال الناس‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ ما فضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان، خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف‏.‏

قال‏:‏ وقد روي هذا عن ابن عباس، وهذا الذي قاله وحكاه حسن، وهو شبيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 100‏]‏يعني أن القليل من الحلال، خير لكم من الكثير من الحرام، فإن الحلال مبارك وإن قل، والحرام ممحوق وإن كثر‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 276‏]‏‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الربا وإن كثر فإن مصيره إلى قُل‏)‏‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏ أي‏:‏ إلى قلة‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما‏)‏‏)‏‏.‏

والمقصود‏:‏ أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل، والحرام لا يجدي وإن كثر‏.‏

ولهذا قال نبي الله شعيب‏:‏ ‏{‏بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‏}‏ أي‏:‏ افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله، ورجاء ثوابه لا لأراكم أنا وغيري‏.‏

‏{‏قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 87‏]‏‏.‏

يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والتنقص والتهكم، أصلاتك هذه التي تصليها هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلا إلهك، ونترك ما يعبد آباؤنا الأقدمون، وأسلافنا الأولون‏.‏ أو أن لا نتعامل إلا على الوجه الذي ترتضيه أنت، ونترك المعاملات التي تأباها، وإن كنا نحن نرضاها‏؟‏

{‏إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ‏}‏ قال ابن عباس، وميمون بن مهران، وابن جريج، وزيد بن أسلم، وابن جرير‏:‏ يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء‏.‏ ‏

‏{‏قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏‏.‏

هذا تلطف معهم في العبارة، ودعوة لهم إلى الحق بأبين إشارة، يقول لهم‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتُمْ‏}‏ أيها المكذبون ‏{‏إن كنت على بينة من ربي‏}‏ أي‏:‏ على أمر بيـِّن من الله تعالى أنه أرسلني إليكم‏.‏

{‏وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً‏}‏ يعني النبوة والرسالة، يعني وعمى عليكم معرفتها فأي حيلة لي بكم‏.‏ وهذا كما تقدم عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه سواء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ‏}‏ أي‏:‏ لست آمركم بالأمر إلا وأنا أول فاعل له، وإذا نهيتكم عن الشيء فأنا أول من يتركه، وهذه هي الصفة المحمودة العظيمة، وضدها هي المردودة الذميمة، كما تلبس بها علماء بني إسرائيل في آخر زمانهم، وخطباؤهم الجاهلون‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 44‏]‏ وذكر عندها في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه - أي تخرج أمعاؤه من بطنه - فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار فيقولون‏:‏ يا فلان مالك‏؟‏ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر‏؟‏

فيقول‏:‏ بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه‏)‏‏)‏‏.‏

وهذه صفة مخالفي الأنبياء من الفجار والأشقياء، فأما السادة من النجباء، والألباء من العلماء، الذين يخشون ربهم بالغيب، فحالهم كما قال نبي الله شعيب‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ‏}‏ أي‏:‏ ما أريد في جميع أمري إلا الإصلاح في الفعال والمقال، بجهدي وطاقتي‏.‏

‏{‏وَمَا تَوْفِيقِي‏}‏ أي‏:‏ في جميع أحوالي‏.‏

{‏إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ أي‏:‏ عليه أتوكل في سائر الأمور، وإليه مرجعي ومصيري في كل أمري، وهذا مقام ترغيب‏.‏ ثم انتقل إلى نوع من الترهيب فقال‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لا تحملنكم مخالفتي وبغضكم ما جئتم به، على الاستمرار على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم، فيحل الله بكم من العذاب والنكال نظير ما أحله بنظرائكم وأشباهكم، من قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، من المكذبين المخالفين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ معناه في الزمان، أي ما بالعهد من قدم، مما قد بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم‏.‏

وقيل‏:‏ معناه وما هم منكم ببعيد في المحلة والمكان‏.‏

وقيل‏:‏ في الصفات والأفعال المستقبحات، من قطع الطريق، وأخذ أموال الناس جهرة وخفية، بأنواع الحيل والشبهات‏.‏

والجمع بين هذه الأقوال ممكن، فإنهم لم يكونوا بعيدين منهم لا زماناً، ولا مكاناً، ولا صفاتٍ‏.‏

ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ‏} أي‏:‏ أقلعوا عما أنتم فيه، وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود، فإنه من تاب إليه تاب عليه، فإنه رحيم بعباده، أرحم بهم من الوالدة بولدها، ودود‏:‏ وهو الحبيب ولو بعد التوبة على عبده، ولو من الموبقات العظام‏.‏

‏{‏قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً‏}‏ روي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والثوري أنهم قالوا‏:‏ كان ضرير البصر‏.‏

وقد روي في حديث مرفوع أنه بكى من حب الله حتى عمي فرد الله عليه بصره، وقال‏:‏ يا شعيب أتبكي خوفاً من النار، أو من شوقك إلى الجنة‏؟‏

فقال‏:‏ بل من محبتك، فإذا نظرت إليك فلا أبالي ماذا يصنع بي‏.‏

فأوحى الله إليه هنيئاً لك يا شعيب لقائي، فلذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي‏.‏

رواه الواحدي عن أبي الفتح محمد بن علي الكوفي، عن علي بن الحسن بن بندار، عن أبي عبد الله محمد بن إسحاق التربلي، عن هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عباس، عن يحيى بن سعيد، عن شداد بن أمين، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏ وهو غريب جداً، وقد ضعفه الخطيب البغدادي‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 91‏]‏ وهذا من كفرهم البليغ، وعنادهم الشنيع، حيث قالوا‏:‏ ‏{‏مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ‏}‏ أي‏:‏ ما نفهمه ولا نعقله لأنا لا نحبه ولا نريده، وليس لنا همة إليه، ولا إقبال عليه‏.‏

وهو كما قال كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً‏}‏ أي‏:‏ مضطهداً مهجوراً‏.‏

‏{‏وَلَوْلَا رَهْطُكَ‏}‏ أي‏:‏ قبيلتك وعشيرتك فينا‏.‏

{‏لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ‏}

‏{‏قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ تخافون قبيلتي وعشيرتي وترعوني بسببهم، ولا تخافون جنبة الله، ولا تراعوني لأني رسول الله، فصار رهطي أعز عليكم من الله‏.‏

{‏وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً‏}‏أي‏:‏ جانب الله وراء ظهوركم‏.‏

{‏إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ أي‏:‏ هو عليم بما تعملونه وما تصنعونه، محيط بذلك كله وسيجزيكم عليه يوم ترجعون إليه‏.‏

{‏وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ‏}‏ وهذا أمر تهديد شديد، ووعيد أكيد، بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم، وشاكلتهم فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار، ومن يحل عليه الهلاك والبوار‏.‏

{‏مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ‏}‏ أي‏:‏ في هذه الحياة الدنيا‏.‏

{‏وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 40‏]‏ أي‏:‏ في الأخرى‏.‏

{‏وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ‏}‏ أي‏:‏ مني ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر‏.‏

{‏وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ‏}‏‏.‏

وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 87-89‏]‏‏.‏ ‏

طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم إلى ملتهم، فانتصب شعيب للمحاجة عن قومه فقال‏:‏ ‏{‏أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ‏}‏ أي‏:‏ هؤلاء لا يعودون إليكم اختياراً، وإنما يعودون إليه إن عادوا اضطراراً مكرهين، وذلك لأن الإيمان إذا خالطته بشاشة القلوب، لا يسخطه أحد، ولا يرتد أحد عنه، ولا محيد لأحد منه‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا‏}‏ أي‏:‏ فهو كافينا، وهو العاصم لنا، وإليه ملجؤنا في جميع أمرنا‏.‏

ثم استفتح على قومه، واستنصر ربه عليه في تعجيل ما يستحقونه إليهم فقال‏:‏ ‏{‏افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ الحاكمين، فدعا عليهم والله لا يرد دعاء رسله إذا استنصروه على الذين جحدوه وكفروه، ورسوله خالفوه‏.‏

ومع هذا صمموا على ما هم عليه مشتملون، وبه متلبسون‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 90‏]‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 91‏]‏‏.‏

ذكر في سورة الأعراف أنهم أخذتهم رجفة أي‏:‏ رجفت بهم أرضهم، وزلزلت زلزالاً شديداً أزهقت أرواحهم من أجسادها، وصيرت حيوانات أرضهم كجمادها، وأصبحت جثتهم جاثية، لا أرواح فيها ولا حركات بها، ولا حواس لها‏.‏

وقد جمع الله عليهم أنواعاً من العقوبات، وصنوفاً من المثلات، وأشكالاً من البليات، وذلك لما اتصفوا به من قبيح الصفات، سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحة عظيمة أخمدت الأصوات، وظلة أرسل الله عليهم منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات‏.‏

ولكنه تعالى أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها، ويوافق طباقها‏.‏

في سياق قصة الأعراف‏:‏ أرجفوا نبي الله وأصحابه، وتوعدوهم بالإخراج من قريتهم، أو ليعودن في ملتهم راجعين‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ‏}‏ فقابل الإرجاف بالرجفة، والإخافة بالخيفة‏.‏

وهذا مناسب لهذا السياق ومتعلق بما تقدمه من السياق‏.‏

وأما في سورة هود‏:‏ فذكر أنهم أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وذلك لأنهم قالوا لنبي الله على سبيل التهكم والاستهزاء والتنقص‏:‏

{‏أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ‏}‏ فناسب أن يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكلام القبيح، الذي واجهوا به هذا الرسول الكريم الأمين الفصيح، فجاءتهم صيحة أسكتتهم، مع رجفة أسكنتهم‏.‏

وأما في سورة الشعراء‏:‏ فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة، وكان ذلك إجابة لما طلبوا، وتقريباً إلى ما إليه رغبوا، فإنهم قالوا‏:‏ ‏{‏قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 185-188‏]‏‏.‏

قال الله تعالى وهو السميع العليم‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 189‏]‏ ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره، أن أصحاب الأيكة أمة أخرى غير أهل مدين، فقوله ضعيف‏.‏

وإنما عمدتهم شيئان‏:‏

أحدهما أنه قال‏:‏ ‏{‏كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ‏}‏ ولم يقل‏:‏ أخوهم كما قال‏:‏ ‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ذكر عذابهم بيوم الظلة، وذكر في أولئك الرجفة، أو الصيحة‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله‏:‏ ‏{‏كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ لأنه وصفهم بعبادة الأيكة، فلا يناسب ذكر الأخوة ههنا، ولما نسبهم إلى القبيلة شاع ذكر شعيب بأنه أخوهم، وهذا الفرق من النفائس اللطيفة العزيزة الشريفة‏.‏

وأما احتجاجهم بيوم الظلة، فإن كان دليلاً بمجرده على أن هؤلاء أمة أخرى، فليكن تعداد الانتقام بالرجفة، والصيحة دليلاً على أنهما أمتان أخريان، وهذا لا يقوله أحد يفهم شيئاً من هذا الشأن‏.‏

فأما الحديث الذي أورده الحافظ ابن عساكر في ترجمة النبي شعيب عليه السلام، من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن أبيه، عن معاوية بن هشام، عن هشام بن سعد، عن شفيق بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً‏:‏

‏(‏‏(‏إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان، بعث الله إليهما شعيباً النبي عليه السلام‏)‏‏)‏‏.‏ فإنه حديث غريب، وفي رجاله من تكلم فيه‏.‏

والأشبه أنه من كلام عبد الله بن عمرو، مما أصابه يوم اليرموك من تلك الزاملتين، من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم‏.‏

ثم قد ذكر الله عن أهل الأيكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان، فدل على أنهم أمة واحدة أهلكوا بأنواع من العذاب‏.‏ وذكر في كل موضع ما يناسب من الخطاب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ ذكروا أنهم أصابهم حر شديد، وأسكن الله هبوب الهواء عنهم سبعة أيام، فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل، ولا دخولهم في الأسراب، فهربوا من محلتهم إلى البرية فأظلتهم سحابة، فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها، فلما تكاملوا فيه أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب، ورجفت بهم الأرض، وجاءتهم صيحة من السماء؛ فأزهقت الأرواح، وخربت الأشباح‏.‏

{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ‏} ‏[‏الأعراف‏:‏ 91-92‏]‏‏.‏

ونجى الله شعيباً ومن معه من المؤمنين كما قال تعالى وهو أصدق القائلين‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 94-95‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 90-92‏]‏‏.‏ وهذا في مقابلة قولهم‏:‏ {‏لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 93‏]‏‏.‏

ثم ذكر تعالى عن نبيهم أنه نعاهم إلى أنفسهم، موبخاً، ومؤنباً، ومقرعاً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ أعرض عنهم مولياً عن محلتهم بعد هلكتهم قائلا‏:‏ ‏{‏يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ قد أديت ما كان واجباً علي من البلاغ التام، والنصح الكامل، وحرصت على هدايتكم بكل ما أقدر عليه، وأتوصل إليه، فلم ينفعكم ذلك لأن الله لا يهدي من يضل، وما لهم من ناصرين، فلست أتأسف بعد هذا عليكم، لأنكم لم تكونوا تقبلون النصيحة، ولا تخافون يوم الفضيحة‏.‏ ‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ آسَى‏}‏ أي‏:‏ أحزن على قوم كافرين أي‏:‏ لا تقبلون الحق ولا ترجعون إليه، ولا تلتفون إليه، فحل بهم من بأس الله الذي لا يرد ما لا يدافع ولا يمانع، ولا محيد لأحد أريد به عنه، ولا مناص منه‏.‏

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس أن شعيباً عليه السلام كان بعد يوسف عليه السلام‏.‏

وعن وهب بن منبه أن شعيباً عليه السلام مات بمكة، ومن معه من المؤمنين، وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة، ودار بني سهم‏.‏