الجزء الأول - قصة موسى والخضر عليهما السلام

 قصة موسى والخضر عليهما السلام

قال بعض أهل الكتاب‏:‏ إن موسى هذا الذي رحل إلى الخضر هو موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل‏.‏ وتابعهم على ذلك بعض من يأخذ من صحفهم، وينقل عن كتبهم منهم‏:‏ نوف بن فضالة الحميري الشامي البكالي، ويقال‏:‏ إنه دمشقي، وكانت أمه زوجة كعب الأحبار‏.‏

والصحيح الذي دل عليه ظاهر سياق القرآن، ونص الحديث الصحيح الصريح المتفق عليه‏:‏ أنه موسى بن عمران صاحب بني إسرائيل‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمر بن دينار، أخبرني سعيد بن جبير قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر، ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس‏:‏ كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

‏(‏‏(‏إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم‏؟‏

فقال‏:‏ أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك‏.‏

قال موسى‏:‏ يا رب وكيف لي به‏؟‏

قال‏:‏ تأخذ معك حوتاً فتجعله بمكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتاً فجعله بمكتل، ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر واتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق‏.‏

فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد ‏{‏قَالَ لِفَتَاهُ أتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً‏}‏ ولم يجد موسى النصب، حتى جاوز المكان الذي أمره الله به‏.‏

قال له فتاه‏:‏ ‏{‏قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً‏}‏‏.‏

قال‏:‏ فكان للحوت سرباً، ولموسى ولفتاه عجبا‏.‏

{‏قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً‏}‏ قال‏:‏ فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى‏.‏

فقال الخضر‏:‏ وإني بأرضك السلام‏.‏

قال‏:‏ أنا موسى‏.‏

قال‏:‏ موسى بني إسرائيل‏؟‏

قال‏:‏ نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا‏.‏

{‏قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً‏} يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله، لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، ‏{‏قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً‏}‏‏.‏

قال له الخضر‏:‏ ‏{‏فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً‏}‏ فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة‏.‏

فمرت بهما سفينة فكلمهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى‏:‏ قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها ‏{‏لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً‏}‏‏.‏

قال‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

وكانت الأولى من موسى نسياناً‏.‏

قال‏:‏ وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر‏:‏ ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر‏.‏

ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ بصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى‏:‏ {‏أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً‏}‏‏.‏

قال‏:‏ وهذه أشد من الأولى، ‏{‏قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ‏}‏ قال‏:‏ مائل‏.‏

فقال الخضر بيده ‏{‏فَأَقَامَهُ‏}‏ فقال موسى‏:‏ قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا ‏{‏لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً‏}‏‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما‏)‏‏)‏‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ فكان ابن عباس يقرأ‏:‏ ‏(‏وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا‏)‏، وكان يقرأ ‏(‏وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين‏)‏‏.‏

ثم رواه البخاري أيضاً، عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، بإسناده نحوه‏.‏

وفيه‏:‏ ‏(‏‏(‏فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت، حتى انتهيا إلى الصخرة فنزلا عندها‏.‏

قال‏:‏ فوضع موسى رأسه فنام‏)‏‏)‏‏.‏

قال سفيان وفي حديث غير عمرو قال‏:‏ وفي أصل الصخرة عين يقال لها‏:‏ الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين، قال فتحرك وانسل من المكتل، ودخل البحر فلما استيقظ ‏(‏‏(‏قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا‏.‏

وساق الحديث‏.‏

وقال‏:‏ ووقع عصفور على حرف السفينة فغمس منقاره في البحر، فقال الخضر لموسى‏:‏ ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله، إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره، وذكر تمام الحديث‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف، أن ابن جريج أخبرهم قال‏:‏ أخبرني يعلى بن مسلم، وعمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير يزيد أحدهما على صاحبه وغيرهما قد سمعته يحدثه عن سعيد بن جبير قال‏:‏

إنا لعند ابن عباس في بيته إذ قال‏:‏ سلوني‏.‏

فقلت‏:‏ أي أبا عباس جعلني الله فداك بالكوفة، رجل قاص يقال له‏:‏ نوف، يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل، أما عمرو فقال لي‏:‏ قال قد كذب عدو الله‏.‏

وأما يعلى فقال لي‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ حدثني أبي بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏موسى رسول الله، قال ذكر الناس يوماً حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب، ولى فأدركه رجل فقال‏:‏

أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك‏؟‏

قال‏:‏ لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله‏.‏

قيل‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ أي رب فأين‏؟‏

قال‏:‏ بمجمع البحرين‏.‏

قال‏:‏ أي رب، اجعل لي علماً أعلم ذلك به‏.‏

قال لي عمرو قال‏:‏ حيث يفارقك الحوت‏.‏

وقال لي يعلى‏:‏ قال‏:‏ خذ حوتاً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل‏.‏

فقال لفتاه لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال‏:‏ ما كلفت كبيراً فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ‏}‏ يوشع بن نون، - ليست عن سعيد بن جبير - قال‏:‏ فبينما هو في ظل صخرة في مكان ثريان، إذ تضرب الحوت وموسى نائم، فقال فتاه‏:‏ لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جرية البحر، حتى كأن أثره في حجر‏.‏

قال لي عمرو‏:‏ هكذا كان أثره في حجر، وحلق بين إبهاميه واللتين تليان

{‏لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً‏} قال‏:‏ وقد قطع الله عنك النصب، ليست هذه عن سعيد أخبره، فرجعا فوجدا خضراً‏.‏ قال لي عثمان بن أبي سليمان‏:‏ على طنفسة خضراء على كبد البحر، قال سعيد‏:‏ مسجى بثوبه قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال‏:‏ هل بأرض من سلام من أنت‏؟‏

قال‏:‏ أنا موسى‏.‏

قال‏:‏ موسى بني إسرائيل‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فما شأنك‏؟‏

قال‏:‏ جئتك لتعلمني مما علمت رشدا‏.‏

قال‏:‏ أما يكفيك أن التوراة بيديك، وأن الوحي يأتيك يا موسى‏؟‏ إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه، فأخذ طائر بمنقاره من البحر فقال‏:‏ والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر‏.‏

{‏حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ‏}‏ وجدا معابر صغاراً تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل هذا الساحل الآخر، عرفوه فقالوا‏:‏ عبد الله الصالح

قال‏:‏ فقلنا لسعيد خضر‏.‏

قال‏:‏ نعم‏.‏ لا نحمله بأجر ‏{‏خَرَقَهَا‏}‏ ووتد فيها وتداً‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى ‏{‏أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ منكراً‏.‏

{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً‏}‏ كانت الأولى نسياناً، والوسطى شرطاً، والثالثة عمداً‏.‏

{‏قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ‏}‏ قال يعلى‏:‏ قال سعيد‏:‏ وجد غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً كافراً ظريفاً فأضجعه، ثم ذبحه بالسكين‏.‏

{‏قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً‏}‏ لم تعمل بالخبث‏.‏ ابن عباس قرأها‏:‏ زكية زاكية مسلمة، كقولك غلاماً زكياً

فانطلقا ‏{‏فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ‏}‏ قال‏:‏ بيده هكذا، ورفع يده فاستقام، قال يعلى‏:‏ حسبت أن سعيداً قال‏:‏ فمسحه بيده فاستقام‏.‏

{‏قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً‏}‏ قال سعيد‏:‏ أجراً نأكله، ‏{‏وَكَانَ وَرَاءهُمْ‏}‏ وكان أمامهم‏:‏ قرأها ابن عباس‏:‏ ‏(‏أمامهم‏)‏ ملك يزعمون - عن غير سعيد - أنه هدد بن بدد، والغلام المقتول يزعمون‏:‏ جيسور، ‏{‏مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً‏}‏ فإذا هي مرت به يدعها بعيبها، فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها‏.‏

منهم‏:‏ من يقول سدوها بقارورة، ومنهم‏:‏ من يقول بالقار‏.‏

{‏فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ‏}‏ وكان كافرا‏.‏ {‏فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً‏}‏ أي‏:‏ يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه‏.‏ ‏{‏فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً‏}‏ لقوله‏:‏ أقتلت نفسا زكية، ‏{‏وَأَقْرَبَ رُحْماً‏}‏ هما به أرحم منها بالأول الذي قتل خضر‏.‏

وزعم سعيد بن جبير أنه‏:‏ ابن لا جارية، وأما داود بن أبي عصام فقال عن غير واحد‏:‏ إنها جارية‏.‏

وقد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ خطب موسى بني إسرائيل فقال‏:‏ ما أحد أعلم بالله وبأمره مني، فأمر أن يلقى هذا الرجل فذكر نحو ما تقدم‏.‏

وهكذا رواه محمد بن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عيينة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنحو ما تقدم أيضاً‏.‏ ورواه العوفي عنه موقوفاً‏.‏

وقال الزهري عن عبيد الله، بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري، في صاحب موسى‏.‏

فقال ابن عباس‏:‏ هو خضر، فمر بهما أبي بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال‏:‏ إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، فهل سمعت من رسول الله فيه شيئاً‏؟‏

قال‏:‏ نعم، وذكر الحديث‏.‏

وقد تقصينا طرق هذا الحديث وألفاظه في تفسير سورة الكهف، ولله الحمد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ‏}‏ قال السهيلي‏:‏ وهما أصرم وصريم، ابنا كاشح وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا‏}‏ قيل‏:‏ كان ذهباً، قاله عكرمة‏.‏

وقيل‏:‏ علماً، قاله ابن عباس‏.‏

والأشبه أنه كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه علم‏.‏ ‏

قال البزار‏:‏ حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا بشر بن المنذر، حدثنا الحرث بن عبد الله اليحصبي، عن عياش بن عباس الغساني، عن بن حجيرة، عن أبي ذر رفعه، قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه لوح من الذهب مصمت‏:‏ عجبت لمن أيقن بالقدر كيف نصب، وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك، وعجبت لمن ذكر الموت كيف غفل لا إله إلا الله‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا روي عن الحسن البصري، وعمر مولى عفرة، وجعفر الصادق نحو هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً‏}‏ وقد قيل‏:‏ إنه كان الأب السابع‏.‏

وقيل‏:‏ العاشر‏.‏ وعلى كل تقدير فيه دلالة على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، فالله المستعان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ‏}‏ دليل على أنه كان نبياً، وأنه ما فعل شيئاً من تلقاء نفسه، بل بأمر ربه، فهو نبي، وقيل‏:‏ رسول، وقيل‏:‏ ولي، وأغرب من هذا من قال‏:‏ كان ملكاً، قلت‏:‏ وقد أغرب جداً من قال‏:‏ هو ابن فرعون، وقيل‏:‏ إنه ابن ضحاك الذي ملك الدنيا ألف سنة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والذي عليه جمهور أهل الكتاب أنه كان في زمن أفريدون‏.‏ ويقال‏:‏ إنه كان على مقدمة ذي القرنين، الذي قيل إنه كان أفريدون، وذو الفرس هو الذي كان في زمن الخليل، وزعموا أنه شرب من ماء الحياة فخلد وهو باق إلى الآن‏.‏

وقيل‏:‏ إنه من ولد بعض من آمن بإبراهيم، وهاجر معه من أرض بابل‏.‏

وقيل‏:‏ اسمه ملكان‏.‏

وقيل‏:‏ أرميا بن خلقيا‏.‏

وقيل‏:‏ كان نبياً في زمن سباسب بن لهراسب‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وقد كان بين أفريدون وبين سباسب دهور طويلة لا يجهلها أحد من أهل العلم بالأنساب‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والصحيح أنه كان في زمن أفريدون، واستمر حياً إلى أن أدركه موسى عليه السلام‏.‏

وكانت نبوة موسى في زمن منو شهر، الذي هو من ولد ايرج بن أفريدون أحد ملوك الفرس، وكان إليه الملك بعد جده أفريدون، لعهده وكان عادلاً، وهو أول من خندق الخنادق، وأول من جعل في كل قرية دهقاناً، وكانت مدة ملكه قريباً من مائة وخمسين سنة‏.‏

ويقال‏:‏ إنه كان من سلالة إسحاق بن إبراهيم وقد ذكر عنه من الخطب الحسان، والكليم‏:‏ البليغ النافع الفصيح ما يبهر العقل، ويحير السامع، وهذا يدل على أنه من سلالة الخليل، والله أعلم‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 84‏]‏‏.‏

فأخذ الله ميثاق كل نبي، على أن يؤمن بمن يجيء بعده من الأنبياء وينصره، و استلزم ذلك الإيمان و أخذ الميثاق لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم الأنبياء فحق على كل نبي أدركه أن يؤمن به و ينصره، فلو كان الخضر حياً في زمانه لما وسعه إلا اتباعه والاجتماع به، والقيام بنصره، ولكان من جملة من تحت لوائه يوم بدر، كما كان تحتها جبريل، وسادات من الملائكة، وقصارى الخضر عليه السلام أن يكون نبياً، وهو الحق، أو رسولاً كما قيل، أو ملكاً فيما ذكر وأيَّاً ما كان فجبريل رئيس الملائكة، وموسى أشرف من الخضر، ولو كان حياً لوجب عليه الإيمان بمحمد ونصرته، فكيف إن كان الخضر ولياً كما يقوله طوائف كثيرون‏؟‏ فأولى أن يدخل في عموم البعثة وأحرى‏.‏

ولم ينقل في حديث حسن، بل ولا ضعيف، يعتمد أنه جاء يوماً واحداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا اجتمع به، وما ذكر من حديث التغرية فيه، وإن كان الحاكم قد رواه فإسناده ضعيف، والله أعلم، وسنفرد لخضر ترجمة على حدة بعد هذا‏.‏

 ذكر الحديث الملقب بحديث الفتون المتضمن قصة موسى من أولها إلى آخرها

قال الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب التفسير‏:‏ من ‏(‏سننه‏)‏ عند قوله تعالى في سورة طه‏:‏ ‏{‏وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 40‏]‏

حديث الفتون‏:‏

حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا أصبغ بن زيد، حدثنا القاسم بن أبي أيوب، أخبرني سعيد بن جبير قال‏:‏ سألت عبد الله بن عباس عن قول الله تعالى لموسى‏:‏ ‏{‏وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً‏}‏ فسألته عن الفتون ما هو‏؟‏

فقال‏:‏ استأنف النهار يا ابن جبير، فإن لها حديثاً طويلاً، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال‏:‏

تذكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فقال بعضهم‏:‏ إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ما يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب‏.‏

فلما هلك قالوا‏:‏ ليس هكذا كان وعد إبراهيم‏.‏

فقال فرعون‏:‏ فكيف ترون‏؟‏ فأتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه، ففعلوا ذلك‏.‏

فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا‏:‏ توشكون أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة الذي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر و اتركوا بناتهم، ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن تفتنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم‏.‏

فأجمعوا أمرهم على ذلك، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، فلما كان من قابل، حملت بموسى عليه السلام فوقع في قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون - يا ابن جبير - ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به‏.‏

فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا تحزني، إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين، فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت، وتلقيه في اليم، فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها، أتاها الشيطان فقالت في نفسها‏:‏ ما فعلت بابني لو ذبح عندي، فواريته وكفنته، كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه‏.‏

فانتهى الماء به حتى أوفى عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه، فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن‏:‏ إن في هذا مالاً وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملته كهيئته لم يخرجن منه شيئاً، حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلاماً، فألقى عليه منها محبة، لم تلق منها على أحد قط‏.‏

{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً‏}‏ من ذكر كل شيء، إلا من ذكر موسى، فلما سمع الذباحون بأمره، أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون - يا ابن جبير - فقالت لهم‏:‏ أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، حتى آتى فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه مني كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم‏.‏

فأتت فرعون فقالت‏:‏ ‏{‏قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ‏}‏ فقال فرعون‏:‏ يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له، كما أقرت امرأته، لهداه الله كما هداها، ولكن حرمه ذلك‏)‏‏)‏‏.‏

فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها، لأن تختار له ظئراً فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه، لم يقبل على ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها فلم يقبل‏.‏

وأصبحت أم موسى والهاً، فقالت لأخته‏:‏ قصي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكراً‏؟‏ أحي ابني أم قد أكلته الدواب‏؟‏

ونسيت ما كان الله وعدها فيه‏.‏ ‏{‏فَبَصُرَتْ بِهِ‏}‏ أخته ‏{‏عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏ والجنب‏:‏ أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد، وهو إلى جنبه لا يشعر به، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات‏:‏ أنا ‏{‏أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ‏}‏ فأخذوها فقالوا‏:‏ ما يدريك ما نصحهم له‏؟‏ هل تعرفينه حتى شكوا في ذلك‏.‏ وذلك من الفتون - يا ابن جبير -‏.‏

فقالت‏:‏ نصحهم له، وشفقتهم عليه، ورغبتهم في صهر الملك، ورجاء منفعة الملك، فأرسلوها، فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها، نزا إلى ثديها فمصه، حتى امتلأ جنباه رياً‏.‏

وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرها أن قد وجدنا لابنك ظئراً، فأرسلت إليها فأتت بها وبه، فلما رأت ما يصنع بها قالت‏:‏ امكثي ترضعي ابني هذا، فإني لم أحب شيئاً حبه قط‏.‏

قالت أم موسى‏:‏ لا أستطيع أن أترك بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً، فعلت فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فتعاسرت، على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله منجز موعوده، فرجعت إلى بيتها من يومها، وأنبته الله نباتاً حسناً وحفظه لما قد قضى فيه‏.‏

فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم، ما كان فيهم، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى‏:‏ أزيريني ابني، فوعدتها يوماً تزيرها إياه فيه‏.‏

وقالت امرأة فرعون لخازنها وظئورها وقهارمتها‏:‏ لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك فيه، وأنا باعثة أميناً يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم، فلم تزل الهدايا، والكرامة، والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون‏.‏ فلما دخل عليها نحلته وأكرمته وفرحت به، ونحلت أمه بحسن أثرها عليه‏.‏

ثم قالت‏:‏ لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه، جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون، فمدها إلى الأرض‏.‏

فقال الغواة من أعداء الله لفرعون‏:‏ ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه، أنه زعم أنه يرثك ويعلوك ويصرعك، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون -يا ابن جبير - بعد كل بلاء ابتلى به، وأريد به‏.‏

فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون‏.‏

فقالت‏:‏ ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي‏؟‏

فقال‏:‏ ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني‏.‏

فقالت‏:‏ اجعل بيني وبينك أمراً تعرف فيه الحق، ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين، عرفت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين، علمت أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل‏.‏

فقرب إليه فتناول الجمرتين، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده، فقالت المرأة‏:‏ ألا ترى، فصرفه الله عنه بعد ما كان هم به، وكان الله بالغاً فيه أمره، فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا كل الامتناع‏.‏

فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة، إذا هو برجلين يقتتلان، أحدهما فرعوني، والآخر إسرائيلي، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى غضباً شديداً لأنه تناوله، وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل، وحفظه لهم لا يعلم الناس إلا أنه من الرضاعة إلا أم موسى، إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره‏.‏

فوكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل‏:‏ ‏{‏هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 15‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ * فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16-18‏]‏ الأخبار، فأتى فرعون فقيل له‏:‏ إن بني إسرائيل قتلوا رجلاً من آل فرعون، فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم، فقال‏:‏ ابغوني قاتله، من يشهد عليه، فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه، لا ينبغي له أن يقتل بغير بينة ولا ثبت، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم‏.‏

فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة، إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلاً من آل فرعون آخر، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى قد ندم على ما كان منه، وكره الذي رأى، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي‏:‏ لما فعل بالأمس واليوم‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس، الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له إنك لغوي مبين، أن يكون إياه أراد، ولم يكن أراده، إنما أراد الفرعوني، فخاف الإسرائيلي وقال‏:‏ ‏{‏قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ‏}‏‏.‏

وإنما قال له مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول‏:‏ ‏{‏أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ‏}‏‏.‏

فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون الطريق الأعظم، يمشون على هينتهم يطلبون موسى، وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقاً حتى سبقهم إلى موسى فأخبره، وذلك من الفتون - يا ابن جبير -‏.‏

فخرج موسى متوجهاً نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك، وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عز وجل، فإنه قال‏:‏ ‏{‏عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ‏}‏ يعني بذلك‏:‏ حابستين غنمهما‏.‏ ‏

فقال لهما‏:‏ ‏{‏ما خطبكما‏}‏ معتزلتين لا تسقيان مع الناس‏؟‏

قالتا‏:‏ ليس لنا قوة تزاحم القوم، وإنما ننتظر فضول حياضهم، فسقى لهما فجعل يغرف من الدلو ماء كثيراً، حتى كان أول الرعاء، وانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما، وانصرف موسى فاستظل بشجرة وقال‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ‏}‏‏.‏

واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلاً بطاناً، فقال إن لكما اليوم لشأنا فأخبرتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه، فأتت موسى فدعته، فلما كلمه ‏{‏قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ ليس لفرعون ولا قومه علينا من سلطان، ولسنا في مملكته، فقالت إحداهما‏:‏

‏{‏يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ‏}‏ فاحتملته الغيرة على أن قال لها‏:‏ ما يدريك ما قوته، وما أمانته‏؟‏

فقالت‏:‏ أما قوته‏:‏ فما رأيت منه في الدلو، حين سقى لنا، لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما الأمانة‏:‏ فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له‏.‏

فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه، حتى بلغته رسالتك، ثم قال لي‏:‏ امشي خلفي وانعتي لي الطريق فلم يفعل هذا إلا وهو أمين، فسرى عن أبيها وصدقها، وظن به الذي قالت‏.‏

فقال له‏:‏ هل لك ‏{‏أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 27‏]‏ ففعل، فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة، وكانت السنتان عدة منه، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشراً‏.‏

قال سعيد هو - ابن جبير -‏:‏ فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال‏:‏ هل تدري أي الأجلين قضى موسى‏؟‏ قلت‏:‏ لا، وأنا يومئذ لا أدري، فلقيت ابن عباس فذكرت ذلك له، فقال‏:‏ أما علمت أن ثمانية كانت على نبي الله واجبة، لم يكن نبي الله لينقص منها شيئاً‏؟‏ وتعلم أن الله كان قاضياً عن موسى عدته التي وعده، فإنه قضى عشر سنين‏.‏

فلقيت النصراني فأخبرته ذلك، فقال‏:‏ الذي سألته فأخبرك، أعلم منك بذلك، قلت‏:‏ أجل وأولى‏.‏

فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصي ويده ما قص الله عليك في القرآن، فشكا إلى الله تعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون، يكون له ردءاً، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فأتاه الله عز وجل سؤله، وحل عقدة من لسانه‏.‏

وأوحى الله إلى هارون فأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون، فانطلقا جميعاً إلى فرعون، فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فقالا‏:‏ ‏{‏إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 47‏]‏‏.‏

فقال‏:‏ فمن ربكما‏؟‏

فأخبره بالذي قص الله عليك في القرآن‏.‏

قال‏:‏ فما تريدان‏؟‏‏.‏

وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت‏.‏

قال‏:‏ أريد أن تؤمن بالله وترسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه وقال‏:‏ ‏{‏فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏} فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة، فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون‏.‏

فلما رآها فرعون قاصدة إليه، خافها، فاقتحم عن سريره، واستغاث بموسى، أن يكفها عنه ففعل، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، يعني‏:‏ من غير برص، ثم ردها فعادت إلى لونها الأول، فاستشار الملأ حوله فيما رأى، فقالوا له‏:‏ ‏{‏هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 63‏]‏ يعني‏:‏ ملكهم الذي هم فيه والعيش‏.‏

وأبوا على موسى أن يعطوه شيئاً مما طلب، وقالوا له‏:‏ اجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير، حتى تغلب بسحرك سحرهما، فأرسل إلى المدائن، فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا‏:‏ بم يعمل هذا الساحر‏؟‏

قالوا‏:‏ يعمل بالحيات، قالوا‏:‏ فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات، والحبال والعصي الذي نعمل، وما أجرنا إن نحن غلبنا‏؟‏

قال لهم‏:‏ أنتم أقاربي وخاصتي، وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم‏.‏

فتواعدوا ‏{‏يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى‏}‏ قال سعيد‏:‏ فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة، هو يوم عاشوراء، فلما اجتمعوا في صعيد قال الناس بعضهم لبعض‏:‏ انطلقوا فلنحضر هذا الأمر، لعلنا نتبع السحرة، إن كانوا هم الغالبين يعنون‏:‏ موسى وهارون، استهزاءً بهما‏.‏

فقالوا‏:‏ يا موسى بعد تريثهم بسحرهم ‏{‏إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 115‏]‏‏.‏

قال‏:‏ بل ألقوا ‏{‏فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ‏}‏ فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة، فأوحى الله إليه ‏{‏أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ‏}‏ فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيمة فاغرة فاها، فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جرزاً على الثعبان أن تدخل فيه، حتى ما أبقت عصاً ولا حبلاً إلا ابتلعته‏.‏

فلما عرف السحرة ذلك، قالوا‏:‏ لو كان هذا سحراً لم تبلغ من سحرنا كل هذا، ولكنه أمر من الله تعالى، آمنا بالله وبما جاء به موسى، ونتوب إلى الله مما كنا عليه، فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه، وظهر الحق، وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين‏.‏

وامرأة فرعون بارزة مبتذلة، تدعو لله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه، وإنما كان حزنها وهمها لموسى، فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف من غده‏.‏ ‏

وقال‏:‏ هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا‏؟‏

فأرسل الله على قومه الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه، ويوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف بوعده، ونكث عهده، حتى أمر موسى بالخروج بقومه، فخرج بهم ليلاً، فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا، أرسل في المدائن حاشرين، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة، وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك موسى عبدي بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة، حتى يجوز موسى ومن معه‏.‏

ثم التقي على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصي، وانتهى إلى البحر وله قصيف، مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل، فيصير عاصياً لله عز وجل‏.‏ فلما تراءى الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمُدْرَكُونَ‏}‏ افعل ما أمرك به ربك، فإنه لم يكذب ولم تكذب‏.‏

قال‏:‏ وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه، وكما وعد موسى‏.‏

فلما أن جاوز موسى وأصحابه كلهم البحر، ودخل فرعون وأصحابه التقى عليهم البحر كما أمر، فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه‏:‏ إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه‏.‏

ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم ‏{‏قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ الأعراف‏:‏ 138‏]‏ قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم، ومضى فأنزلهم موسى منزلاً وقال‏:‏ أطيعوا هارون فإن الله قد استخلفه عليكم، فإني ذاهب إلى ربي، وأجلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها‏.‏

فلما أتى ربه عز وجل، وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوماً، وقد صامهن ليلهن ونهارهن، وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم، فتناول موسى شيئاً من نبات الأرض فمضغه، فقال له ربه حين أتاه‏:‏ لمَ أفطرت‏؟‏ - وهو أعلم بالذي كان -‏.‏

قال‏:‏ يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح‏.‏

قال‏:‏ أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك‏؟‏ ارجع فصم عشراً ثم ائتني‏.‏

ففعل موسى ما أمره به ربه‏.‏

فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل، ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم فقال‏:‏

إنكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عوارى وودائع، ولكم فيها مثل ذلك، وأنا أرى أن تحتسبوا مالكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية، ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك، ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيراً، وأمر كل قوم عندهم من ذلك متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير‏.‏

ثم أوقد عليه النار فأحرقه فقال‏:‏ لا يكون لنا ولا لهم‏.‏

وكان السامري من قوم يعبدون البقر، جيران لبني إسرائيل، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضى له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة، فمر بهارون‏.‏

فقال له هارون‏:‏ يا سامري ألا تلقي ما في يديك‏؟‏ وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك‏.‏

فقال‏:‏ هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون‏.‏

فقال‏:‏ أريد أن تكون عجلاً فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية، أو نحاس، أو حديد، فصار عجلاً أجوف ليس فيه روح له خوار‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لا والله ما كان فيه صوت قط، إنما كانت الريح تدخل من دبره، وتخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك‏.‏ فتفرق بنو إسرائيل فرقاً‏.‏

فقالت فرقة‏:‏ يا سامري ما هذا وأنت أعلم به‏؟‏

قال‏:‏ هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حتى رأيناه، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ هذا من عمل الشيطان، وليس بربنا، ولا نؤمن به ولا نصدق‏.‏

واشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل، وأعلنوا التكذيب به‏.‏ فقال لهم هارون عليه السلام‏:‏ ‏{‏يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 90‏]‏ ليس هذا‏.‏

قالوا‏:‏ فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوماً ثم أخلفنا، هذه أربعون يوماً قد مضت، قال سفهاؤهم‏:‏ أخطأ ربه فهو يطلبه ويبتغيه، فلما كلم الله موسى وقال له ما قال، أخبره بما لقي قومه من بعده ‏{‏فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 86‏]‏ فقال لهم‏:‏ ما سمعتم ما في القرآن‏؟‏ ‏{‏وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ‏} وألقى الألواح من الغضب، ثم إنه عذر أخاه بعذره، واستغفر له‏.‏ فانصرف إلى السامري فقال له‏:‏ ما حملك على ما صنعت‏؟‏

قال‏:‏ قبضت قبضة من أثر الرسول، وفطنت لها، وعميت عليكم، فقذفتها {‏وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 96-97‏]‏ ولو كان إلهاً لم يخلص إلى ذلك منه‏.‏

فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون، فقالوا لجماعتهم‏:‏ يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها، فتكفر عنا ما عملنا، فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً لذلك، لا يألوا الخير خيار بني إسرائيل، ومن لم يشرك في الحق، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة، فرجفت بهم الأرض‏.‏

فاستحيا نبي الله عليه السلام من قومه، ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال‏:‏ ‏{‏رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏ وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمان به، فلذلك رجفت بهم الأرض فقال‏:‏ ‏{‏وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ‏.‏‏.‏‏.‏‏} ‏[‏الأعراف‏:‏ 156-157‏]‏‏.‏

فقال‏:‏ يا رب سألتك التوبة لقومي فقلت‏:‏ إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي، فليتك أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحوم، فقال له‏:‏ إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد، فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون أمرهم، وأطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا، وغفر الله للقاتل والمقتول‏.‏

ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهاً نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمر به من الوظائف، فثقل ذلك عليهم، وأبوا أن يقروا بها، ونتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، وأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون، ينظرون إلى الجبل، والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم‏.‏

ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون، خلقهم خلق منكر، وذكر من ثمارهم أمراً عجباً من عظمها فقالوا‏:‏ ‏{‏يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ‏}‏ لا طاقة لنا بهم، ولا ندخلها ما داموا فيها ‏{‏فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ‏}‏‏.‏

{‏قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ‏} ‏[‏المائدة‏:‏ 22-23‏]‏

قيل ليزيد‏:‏ هكذا قراه‏؟‏

قال‏:‏ نعم، من الجبارين، آمنا بموسى وخرجنا إليه‏.‏

فقالوا‏:‏ نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم، فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون‏.‏

ويقول أناس‏:‏ إنهم من قوم موسى، فقال الذين يخافون من بني إسرائيل‏:‏ ‏{‏قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ‏}‏ فأغضبوا موسى، فدعا عليهم وسماهم فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك، لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ، فاستجاب الله لهم، وسماهم كما سماهم موسى فاسقين، فحرمها عليهم أربعين سنة، يتيهون في الأرض، يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار‏.‏

ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعاً، وأمر موسى فضربه بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، في كل ناحية ثلاثة أعين، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها، فلا يرتحلون من محله إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالمنزل الأول بالأمس‏.‏ ‏

رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث، فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل، فقال‏:‏ كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك‏؟‏

فغضب ابن عباس، فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري فقال له‏:‏ يا أبا إسحاق هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى، الذي قتل من آل فرعون‏؟‏ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني‏؟‏ قال‏:‏ إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي، الذي شهد ذلك وحضره‏.‏

هكذا ساق هذا الحديث الإمام النسائي، وأخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، في ‏(‏تفسيرهما‏)‏ من حديث يزيد بن هارون، والأشبه والله أعلم أنه موقوف، وكونه مرفوعاً فيه نظر، وغالبه متلقى من الإسرائيليات وفيه شيء يسير مصرح برفعه في أثناء الكلام، وفي بعض ما فيه نظر ونكارة، والأغلب أنه من كلام كعب الأحبار‏.‏ وقد سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضاً، والله أعلم‏.‏

 ذكر بناء قبة الزمان

قال أهل الكتاب‏:‏ وقد أمر الله موسى عليه السلام بعمل قبة من خشب الشمشاز، وجلود الأنعام، وشعر الأغنام، وأمر بزينتها بالحرير المصبغ، والذهب والفضة، على كيفيات مفصلة عند أهل الكتاب، ولها عشر سرادقات، طول كل واحد ثمانية وعشرون ذراعاً، وعرضه أربعة أذرع، ولها أربعة أبواب، وأطناب من حرير ودمقس مصبغ، وفيها رفوف وصفائح من ذهب وفضة، ولكل زاوية بابان وأبواب أخر كبيرة، وستور من حرير مصبغ، وغير ذلك مما يطول ذكره‏.‏

وبعمل تابوت من خشب الشمشاز، يكون طوله ذراعين ونصفا، وعرضه ذراعين، وارتفاعه ذراعاً ونصفاً، ويكون مضبباً بذهب خالص من داخله وخارجه، وله أربع حلق في أربع زواياه، ويكون على حافتيه كروبيان من ذهب، يعنون صفة ملكين بأجنحة، وهما متقابلان، صنعه رجل اسمه‏:‏ بصليال‏.‏

وأمراه أن يعمل مائدة من خشب الشمشاز، طولها ذراعان، وعرضها ذراعان ونصف، لها ضباب ذهب، وإكليل ذهب بشفة مرتفعة بإكليل من ذهب، وأربع حلق من نواحيها من ذهب، مغرزة في مثل الرمان، من خشب ملبس ذهباً، وأن يعمل صحافاً ومصافي وقصاعا على المائدة‏.‏

وأن يصنع منارة من الذهب، دلى فيها ست قصبات من ذهب، من كل جانب ثلاثة، على كل قصبة ثلاث سرج، وليكن في المنارة أربع قناديل، ولتكن هي وجميع هذه الآنية من قنطار من ذهب، صنع ذلك بصليال أيضاً، وهو الذي عمل المذبح أيضاً، ونصب هذه القبة أول يوم من سنتهم، وهو أول يوم من الربيع‏.‏

ونصب تابوت الشهادة، وهو - والله أعلم - المذكور في قوله تعالى‏:‏ {‏إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏} ‏[‏البقرة‏:‏ 248‏]‏‏.‏

وقد بسط هذا الفصل في كتابهم مطولاً جداً، وفيه شرائع لهم وأحكام وصفة قربانهم، وكيفيته، وفيه‏:‏ أن قبة الزمان كانت موجودة قبل عبادتهم العجل الذي هو متقدم على مجيء بيت المقدس، وأنها كانت لهم كالكعبة يصلون فيها وإليها، ويتقربون عندها، وأن موسى عليه السلام كان إذا دخلها يقفون عندها، وينزل عمود الغمام على بابها، فيخرون عند ذلك سجداً لله عز وجل‏.‏

ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام، الذي هو نور، ويخاطبه ويناجيه، ويأمره وينهاه، وهو واقف عند التابوت، صامد إلى ما بين الكروبين، فإذا فصل الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه الله عز وجل إليه من الأوامر والنواهي، وإذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه شيء، يجيء إلى قبة الزمان، ويقف عند التابوت، ويصمد لما بين ذينك الكروبين، فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الحكومة‏.‏

وقد كان هذا مشروعاً لهم في زمانهم، أعني استعمال الذهب والحرير المصبغ، واللآلئ في معبدهم وعند مصلاهم، فأما في شريعتنا فلا، بل قد نهينا عن زخرفة المساجد وتزيينها، لئلا تشغل المصلين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما وسع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي وكله على عمارته‏:‏ ابن للناس ما يكنهم، وإياك أن تحمر أو تصفر، فتفتن الناس‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ لنزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم، وهذا من باب التشريف والتكريم والتنزيه، فهذه الأمة غير مشابهة من كان قبلهم من الأمم، إذ جمع الله همهم في صلاتهم على التوجه إليه والإقبال عليه، وصان أبصارهم وخواطرهم عن الاشتغال والتفكر في غير ما هم بصدده، من العبادة العظيمة، فلله الحمد والمنة‏.‏

وقد كانت قبة الزمان هذه مع بني إسرائيل في التيه، يصلون إليها وهي قبلتهم وكعبتهم، وإمامهم كليم الله موسى عليه السلام، ومقدم القربان أخوه هارون عليه السلام، فلما مات هارون، ثم موسى عليهما السلام، استمرت بنو هارون في الذي كان يليه أبوهم من أمر القربان، وهو فيهم إلى الآن‏.‏

وقام بأعباء النبوة بعد موسى، وتدبير الأمر بعده‏:‏ فتاه يوشع بن نون عليه السلام، وهو الذي دخل بهم بيت المقدس، كما سيأتي بيانه، والمقصود هنا أنه لما استقرت يده على البيت المقدس، نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس، فكانوا يصلون إليها، فلما بادت صلوا إلى محلتها، وهي الصخرة، فلهذا كانت قبلة الأنبياء بعده إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏

وقد صلى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، وكان يجعل الكعبة بين يديه، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى بيت المقدس، فصلى إليها ستة عشر - وقيل‏:‏ سبعة عشر شهراً - ثم حولت القبلة إلى الكعبة وهي قبلة إبراهيم، في شعبان سنة ثنتين في وقت صلاة العصر، وقيل‏:‏ الظهر، كما بسطنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا‏.‏‏.‏‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات ‏[‏البقرة‏:‏ 142-144 ومابعدها‏]‏‏.‏

 قصة قارون مع موسى عليه السلام

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76-83‏]‏

قال الأعمش، عن المنهال بن عمرو بن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان قارون ابن عم موسى، وكذا قال‏:‏ إبراهيم النخعي، وعبد الله بن الحرث بن نوفل، وسماك بن حرب، وقتادة، ومالك بن دينار، وابن جريج، وزاد فقال‏:‏ هو قارون بن يصهر بن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث‏.‏

قال ابن جريج‏:‏ وهذا قول أكثر أهل العلم، أنه كان ابن عم موسى، ورد قول ابن إسحاق إنه كان عم موسى‏.‏

قال قتادة‏:‏ وكان يسمى المنور، لحسن صوته بالتوراة‏.‏ ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي لكثرة ماله‏.‏

وقال شهر بن حوشب‏:‏ زاد في ثيابه شبراً طولاً ترفعاً على قومه، وقد ذكر الله تعالى كثرة كنوزه، حتى أن مفاتيحه كان يثقل حملها على الفئام من الرجال الشداد‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنها كانت من الجلود، وإنها كانت تحمل على ستين بغلا، فالله أعلم‏.‏ وقد وعظه النصحاء من قومه قائلين‏:‏ لا تفرح أي‏:‏ لا تبطر بما أعطيت وتفخر على غيرك إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ‏}‏ يقولون‏:‏ لتكن همتك مصروفة لتحصيل ثواب الله في الدار الآخرة، فإنه خير وأبقى، ومع هذا ‏{‏وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ وتناول منها بمالك ما أحل الله لك، فتمتع لنفسك بالملاذ الطيبة الحلال‏.‏

{‏وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ‏} أي‏:‏ وأحسن إلى خلق الله كما أحسن الله خالقهم وبارئهم إليك‏.‏

{‏وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ‏}‏ أي‏:‏ ولا تسيء إليهم، ولا تفسد فيهم، فتقابلهم ضد ما أمرت فيهم، فيعاقبك ويسلبك ما وهبك‏.‏

{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ فما كان جواب قومه لهذه النصيحة الصحيحة الفصيحة إلا أن قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي‏}‏ يعني‏:‏ أنا لا أحتاج إلى استعمال ما ذكرتم، ولا إلى ما إليه أشرتم، فإن الله إنما أعطاني هذا، لعلمه أني أستحقه، وأني أهل له، ولولا أني حبيب إليه وحظي عنده لما أعطاني ما أعطاني‏.‏

قال الله تعالى رداً عليه ما ذهب إليه‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ قد أهلكنا من الأمم الماضين بذنوبهم وخطاياهم، من هو أشد من قارون قوة وأكثر أموالا وأولادا، فلو كان ما قال صحيحاً لم نعاقب أحداً ممن كان أكثر مالاً منه، ولم يكن ماله دليلاً على محبتنا له واعتنائنا به‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ‏} ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55-56‏]‏ وهذا الرد عليه يدل على صحة ما ذهبنا إليه من معنى قوله‏:‏ {‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي‏}‏‏.‏

وأما من زعم أن المراد من ذلك أنه كان يعرف صنعة الكيمياء، أو أنه كان يحفظ الاسم الأعظم، فاستعمله في جمع الأموال، فليس بصحيح، لأن الكيمياء تخييل وصبغة، لا تحيل الحقائق، ولا تشابه صنعة الخالق، والاسم الأعظم لا يصعد الدعاء به من كافر به، وقارون كان كافراً في الباطن، منافقاً في الظاهر، ثم لا يصح جوابه لهم بهذا على هذا التقدير، ولا يبقى بين الكلامين تلازم، وقد وضحنا هذا في كتابنا ‏(‏التفسير‏)‏، ولله الحمد‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ‏}‏ ذكر كثير من المفسرين‏:‏ أنه خرج في تجمل عظيم من ملابس، ومراكب، وخدم، وحشم، فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا، تمنوا أن لو كانوا مثله، وغبطوه بما عليه وله، فلما سمع مقالتهم العلماء ذوو الفهم الصحيح، الزهاد الألباء قالوا لهم‏:‏ ‏{‏وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً‏}‏ أي‏:‏ ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى، وأجل وأعلى‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ وما يلقى هذه النصيحة وهذه المقالة، وهذه الهمة السامية، إلى الدار الآخرة العلية عند النظر إلى زهرة هذه الدنيا الدنية، إلا من هدى الله قلبه، وثبت فؤاده، وأيد لبه، وحقق مراده، وما أحسن ما قال بعض السلف‏:‏ إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ‏}‏ لما ذكر تعالى خروجه في زينته واختياله فيها، وفخره على قومه بها، قال‏:‏ ‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ‏}‏‏.‏

كما روى البخاري، من حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم رواه البخاري من حديث جرير بن زيد، عن سالم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه‏.‏

وقد ذكر ابن عباس والسدي‏:‏ أن قارون أعطى امرأة بغياً مالاً على أن تقول لموسى عليه السلام وهو في ملأ من الناس إنك فعلت بي كذا وكذا‏.‏

فيقال‏:‏ إنها قالت له ذلك، فارعد من الفرق، وصلى ركعتين، ثم أقبل عليها فاستحلفها من ذلك على ذلك وما حملك عليه، فذكرت أن قارون هو الذي حملها على ذلك، واستغفرت الله وتابت إليه، فعند ذلك خر موسى لله ساجداً، ودعا الله على قارون، فأوحى الله إليه أني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره، فكان ذلك، فالله أعلم‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن قارون لما خرج على قومه في زينته، مر بجحفله، وبغاله، وملابسه على مجلس موسى عليه السلام، وهو يذكر قومه بأيام الله‏.‏

فلما رآه الناس، انصرفت وجوه كثير من الناس ينظرون إليه، فدعا موسى عليه السلام، فقال له‏:‏ ما حملك على هذا‏؟‏

فقال‏:‏ يا موسى أما لئن كنت فضِّلت عليَّ بالنبوة، فلقد فضلت عليك بالمال، ولئن شئت لتخرجن فلتدعون علي، ولأدعون عليك‏.‏

فخرج، وخرج قارون في قومه، فقال له موسى‏:‏ تدعو أو أدعو‏؟‏

قال‏:‏ أدعو أنا، فدعا قارون فلم يجب في موسى‏.‏

فقال موسى‏:‏ أدعو‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

فقال موسى‏:‏ اللهم مر الأرض فلتطغى اليوم، فأوحى الله إليه إني قد فعلت، فقال موسى‏:‏ يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أقدامهم، ثم قال‏:‏ خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم، ثم إلى مناكبهم، ثم قال‏:‏ أقبلي بكنوزهم وأموالهم، فأقبلت بها حتى نظروا إليها، ثم أشار موسى بيده فقال‏:‏ اذهبوا بني لاوى فاستوت بهم الأرض‏.‏

وقد روي عن قتادة أنه قال‏:‏ يخسف بهم كل يوم قامة إلى يوم القيامة‏.‏

وعن ابن عباس أنه قال‏:‏ خسف بهم إلى الأرض السابعة، وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا إسرائيليات كثيرة أضربنا عنها صفحاً، وتركناها قصداً‏.‏ ‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ‏}‏ لم يكن له ناصر من نفسه ولا من غيره، كما قال‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ‏} ‏[‏الطارق‏:‏ 10‏]‏

ولما حل به ما حل من الخسف، وذهاب الأموال، وخراب الدار، وإهلاك النفس والأهل والعقار، ندم من كان تمنى مثل ما أوتي، وشكروا الله تعالى الذي يدبر عباده بما يشاء من حسن التدبير المخزون، ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ‏}‏ وقد تكلمنا على لفظ ويك في التفسير، وقد قال قتادة‏:‏ ويكأن بمعنى‏:‏ ألم تر أن‏.‏ وهذا قول حسن من حيث المعنى، والله أعلم‏.‏

ثم أخبر تعالى أن الدار الآخرة - وهي دار القرار - وهي الدار التي يغبط من أعطيها، ويعزى من حرمها، إنما هي سعدة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، فالعلو هو‏:‏ التكبر، والفخر، والأشر، والبطر، والفساد‏:‏ هو عمل المعاصي اللازمة، والمتعدية من أخذ أموال الناس، وإفساد معايشهم، والاساءة إليهم، وعدم النصح لهم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ وقصة قارون هذه، قد تكون قبل خروجهم من مصر، لقوله‏:‏ ‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ‏}‏ فإن الدار ظاهرة في البنيان، وقد تكون بعد ذلك في التيه، وتكون الدار عبارة عن المحلة التي تضرب فيها الخيام، كما قال عنترة‏:‏

يا دارا عبلة بالجواء تكلمي * وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي

والله أعلم‏.‏ وقد ذكر الله تعالى مذمة قارون في غير ما آية من القرآن قال الله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏} ‏[‏غافر‏:‏ 23-24‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة العنكبوت، بعد ذكر عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏} ‏[‏العنكبوت‏:‏ 39-40‏]‏‏.‏

فالذي خسف به الأرض قارون كما تقدم، والذي أغرق‏:‏ فرعون وهامان وجنودهما أنهم كانوا خاطئين‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد، حدثنا كعب بن علقمة، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال‏:‏

‏(‏‏(‏من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون، وفرعون، وهامان، وأُبي بن خلف‏)‏‏)‏‏.‏

انفرد به أحمد رحمه الله‏.‏ ‏

 باب ذكر فضائل موسى عليه السلام وشمائله وصفاته ووفائه

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 51-53‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏‏.‏

وتقدم في ‏(‏‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏لا تفضلوني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش، فلا أدري أصعق فأفاق قبلي، أم جوزي بصعقة الطور‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

وقدمنا أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الهضم والتواضع، وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، قطعاً جزماً لا يحتمل النقيض‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى أن قال‏:‏ {‏وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 163-164‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 69‏]‏‏.‏

قال الإمام أبو عبد الله البخاري‏:‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن روح بن عبادة، عن عوف، عن الحسن ومحمد وخلاس، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى جلده شيء استحياء منه، فأذاه من أذاه من بني إسرائيل‏.‏

فقالوا‏:‏ ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص أو أدرة، وإما آفة، وأن الله عز وجل أراد أن يبرأه مما قالوا لموسى، فخلا يوماً وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه‏.‏

فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول‏:‏

ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله، وبرأه مما يقولون‏.‏

وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً قال‏:‏ فذلك قوله عز وجل ‏(‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 69‏]‏‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد‏:‏ من حديث عبد الله بن شقيق، وهمام بن منبه، عن أبي هريرة به‏.‏

وهو في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عنه به‏.‏ ورواه مسلم من حديث عبد الله بن شقيق العقيلي عنه‏.‏

قال بعض السلف‏:‏ كان من وجاهته أنه شفع في أخيه عند الله، وطلب منه أن يكون معه وزيراً، فأجابه الله إلى سؤاله وأعطاه طلبته، وجعله نبيا كما قال‏:‏ {‏وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً‏}‏‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، حدثنا الأعمش، سألت أبا وائل قال‏:‏ سمعت عبد الله قال‏:‏

قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً‏.‏

فقال رجل‏:‏ إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فغضب، حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه مسلم من غير وجه، عن سليمان بن مهران الأعمش به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أحمد بن حجاج، سمعت إسرائيل بن يونس، عن الوليد بن أبي هاشم مولى لهمدان، عن زيد بن أبي زائد، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏

‏(‏‏(‏لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال فقسمه‏.‏

قال‏:‏ فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه‏:‏ والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة‏.‏

فثبت حتى سمعت ما قالا‏.‏

ثم أتيت رسول الله فقلت‏:‏ يا رسول الله إنك قلت لنا‏:‏ لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً وإني مررت بفلان وفلان، وهما يقولان كذا وكذا‏.‏

فاحمرّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏دعنا منك فقد أوذي موسى أكثر من ذلك فصبر‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه أبو داود، والترمذي من حديث إسرائيل، عن الوليد بن أبي هاشم به‏.‏

وفي رواية للترمذي، ولأبي داود من طريق ابن عبد، عن إسرائيل، عن السدي عن الوليد به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ غريب من هذا الوجه‏.‏

وقد ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ في أحاديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بموسى، وهو قائم يصلي في قبره‏.‏ ورواه مسلم عن أنس‏.‏

وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ من رواية قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة‏.‏

‏(‏‏(‏عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر ليلة أسري به بموسى في السماء السادسة‏.‏

فقال له جبريل‏:‏ هذا موسى، فسلم عليه‏.‏

قال‏:‏ فسلمت عليه‏.‏

فقال‏:‏ مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح‏.‏

فلما تجاوزت بكى‏.‏

قيل له‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قال‏:‏ أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر إبراهيم في السماء السابعة، وهذا هو المحفوظ، وما وقع في حديث شريك بن أبي نمر، عن أنس، من أن إبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله‏.‏ ‏

فقد ذكر غير واحد من الحفاظ، أن الذي عليه الجادة، أن موسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، وأنه مسند ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم‏.‏

واتفقت الروايات كلها على أن الله تعالى لما فرض على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته خمسين صلاة في اليوم والليلة، فمر بموسى قال‏:‏ ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فإني قد عالجت بني إسرائيل قبلك أشد المعالجة، وأن أمتك أضعف أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، فلم يزل يتردد بين موسى، وبين الله عز وجل، ويخفف عنه في كل مرة، حتى صارت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ هي خمس، وهي خمسون، أي‏:‏ بالمضاعفة، فجزى الله عنا محمداً صلى الله عليه وسلم خيراً، وجزى الله عنا موسى عليه السلام خيراً‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا مسدد، حدثنا حصين ابن نمير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏عرضت علي الأمم، ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فقيل‏:‏ هذا موسى في قومه‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا روى البخاري هذا الحديث ههنا مختصراً‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد مطولاً فقال‏:‏ حدثنا شريح، حدثنا هشام، حدثنا حصين بن عبد الرحمن قال‏:‏ كنت عن سعيد بن جبير، فقال‏:‏ أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة‏؟‏ قلت‏:‏ أنا‏.‏

ثم قلت‏:‏ إني لم أكن في صلاة، ولكن لدغت‏.‏

قال‏:‏ وكيف فعلت‏؟‏

قلت‏:‏ استرقيت‏.‏

قال‏:‏ وما حملك على ذلك‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ حديث حدثناه الشعبي عن بريدة الأسلمي، أنه قال‏:‏ لا رقية إلا من عين أو حمة‏.‏

فقال سعيد يعني - ابن جبير -‏:‏ قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ثم قال‏:‏ حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏عرضت على الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي معه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم‏.‏

فقلت‏:‏ هذه أمتي‏.‏

فقيل‏:‏ هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فإذا سواد عظيم‏.‏

ثم قيل‏:‏ انظر إلى هذا الجانب فإذا سواد عظيم‏.‏

فقيل‏:‏ هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب‏.‏

ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فخاض القوم في ذلك‏.‏

فقالوا‏:‏ من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب‏؟‏

فقال بعضهم‏:‏ لعلهم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم‏:‏ لعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً قط، وذكروا أشياء‏.‏

فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما هذا الذي كنتم تخوضون فيه‏؟‏

فأخبروه بمقالتهم‏.‏

فقال‏:‏ هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون‏.‏

فقام عكاشة بن محيصن الأسدي فقال‏:‏ أنا منهم يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ أنت منهم‏.‏

ثم قام آخر فقال‏:‏ أنا منهم يا رسول الله‏؟‏

فقال‏:‏ سبقك بها عكاشة‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث له طرق كثيرة جداً، وهو في الصحاح، والحسان، وغيرها، وسنوردها إن شاء الله تعالى في باب صفة الجنة، عند ذكر أحوال القيامة وأهوالها‏.‏

وقد ذكر الله تعالى موسى عليه السلام في القرآن كثيراً، وأثنى عليه، وأورد قصته في كتابه العزيز مراراً، وكررها كثيراً، مطولة ومبسوطة ومختصرة، وأثنى عليه بليغاً وكثيراً، ما يقرنه الله ويذكره، ويذكر كتابه مع محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابه كما قال في سورة البقرة‏:‏

{‏وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 101‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 1-4‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91-92‏]‏‏.‏

فأثنى تعالى على التوراة، ثم مدح القرآن العظيم مدحاً عظيماً، وقال تعالى في آخرها‏:‏ ‏{‏ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 154-155‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة المائدة‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏} ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏47-48‏]‏‏.‏

فجعل القرآن حاكماً على سائر الكتب غيره، وجعله مصدقاً لها، ومبيناً ما وقع فيها من التحريف والتبديل، فإن أهل الكتاب استحفظوا على ما بأيديهم من الكتب، فلم يقدروا على حفظها، ولا على ضبطها وصونها، فلهذا دخلها ما دخلها من تغييرهم وتبديلهم، لسوء فهومهم، وقصورهم في علومهم، وردائة قصودهم، وخيانتهم لمعبودهم، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة‏.‏

ولهذا يوجد في كتبهم من الخطأ البين على الله وعلى رسوله ما لا يحد ولا يوصف، وما لا يوجد مثله، ولا يعرف‏.‏

وقال تعالى في سورة الأنبياء‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ‏}‏‏[‏الأنبياء‏:‏ 48-50‏]‏‏.‏

وقال الله تعالى في سورة القصص‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏48-49‏]‏‏.‏

فأثنى الله على الكتابين، وعلى الرسولين عليهما السلام، وقالت الجن لقومهم‏:‏ إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى‏.‏ ‏

وقال ورقة بن نوفل لما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى من الأول الوحي، وتلا عليه‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1-5‏]‏‏.‏

قال‏:‏ سبوح سبوح، هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران‏.‏

وبالجملة فشريعة موسى عليه السلام كانت عظيمة، وأمته كانت أمة كثيرة، ووجد فيها أنبياء، وعلماء، وعباد، وزهاد، وألباء، وملوك، وأمراء، وسادات، وكبراء، لكنهم كانوا فبادوا، وتبدلوا كما بدلت شريعتهم، ومسخوا قردة وخنازير، ثم نسخت بعد كل حساب ملتهم، وجرت عليهم خطوب وأمور، يطول ذكرها، ولكن سنورد ما فيه مقنع، لمن أراد أن يبلغه خبرها، إن شاء الله، وبه الثقة، وعليه التكلان‏.‏

 ذكر حجه عليه السلام إلى البيت العتيق و صفته

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هشام، حدثنا داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق‏:‏

‏(‏‏(‏فقال أي واد هذا‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وادي الأزرق‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كأني أنظر إلى موسى وهو هابط من الثنية، وله جؤار إلى الله عز وجل بالتلبية‏)‏‏)‏‏.‏

حتى أتى على ثنية هرشاء‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أي ثنية هذه‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ هذه ثنية هرشاء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كأني انظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة‏)‏‏)‏‏.‏

قال هشيم‏:‏ يعني ليفاً وهو يلبي، أخرجه مسلم من حديث داود بن أبي هند به‏.‏

وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً‏:‏ إن موسى حج على ثور أحمر وهذا غريب جداً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن عون، عن مجاهد قال‏:‏ كنا عند ابن عباس فذكروا الدجال، فقال‏:‏ إنه مكتوب بين عينيه‏:‏ ‏(‏ك ف ر‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ما يقولون‏؟‏

قال‏:‏ يقولون مكتوب بين عينيه‏:‏ ‏(‏ك ف ر‏)‏‏.‏

فقال ابن عباس‏:‏ لم أسمعه قال ذلك، ولكن قال‏:‏

‏(‏‏(‏أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى‏:‏ فرجل آدم جعد الشعر على جمل أحمر مخطوم بخلبة، كأني أنظر إليه وقد انحدر من الوادي يلبي‏)‏‏)‏‏.‏

قال هشيم‏:‏ الخلبة الليف‏.‏

ثم رواه الإمام أحمد، عن أسود، عن إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏رأيت عيسى بن مريم، وموسى، وإبراهيم‏.‏

فأما عيسى‏:‏ فأبيض جعد عريض الصدر، وأما موسى‏:‏ فآدم جسيم‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ فإبراهيم‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏انظروا إلى صاحبكم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يونس، حدثنا شيبان قال‏:‏ حدث قتادة، عن أبي العالية، حدثنا ابن عم نبيكم ابن عباس قال‏:‏ قال نبي الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران، رجلا طوالاً جعداً كأنه من رجال شنؤة، ورأيت عيسى بن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الرأي‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجاه من حديث قتادة به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر قال‏:‏ الزهري وأخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏حين أسري بي لقيت موسى فنعته‏.‏

فقال رجل‏:‏ قال -حسبته قال - مضطرب رجل الرأس، كأنه من رجال شنؤة‏.‏

قال‏:‏ ولقيت عيسى فنعته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ربعة أحمر، كأنما خرج من ديماس، يعني‏:‏ حماما‏.‏ قال‏:‏ ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به‏)‏‏)‏‏.‏

الحديث، وقد تقدم غالب هذه الأحاديث في ترجمة الخليل‏.‏

 ذكر وفاته عليه السلام

قال البخاري في ‏(‏صحيحه‏)‏ وفاة موسى عليه السلام‏:‏ حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏

أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه عز وجل، فقال‏:‏ أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال‏:‏ ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال‏:‏ أي رب ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ثم الموت‏.‏ قال‏:‏ فالآن‏.‏

قال فسأل الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رميه بحجر، قال أبو هريرة‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وأنبأنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه‏.‏

وقد روى مسلم الطريق الأول من حديث عبد الرزاق به‏.‏

ورواه الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة مرفوعاً وسيأتي‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا الحسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس يعني - سليم بن جبير- عن أبي هريرة، قال الإمام أحمد‏:‏ لم يرفعه‏.‏

قال‏:‏ جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال‏:‏ أجب ربك فلطم موسى عين ملك الموت، ففقأها‏.‏

فرجع الملك إلى الله فقال‏:‏ إنك بعثتني إلى عبد لك لا يريد الموت‏.‏

قال‏:‏ وقد فقأ عيني‏.‏

قال‏:‏ فرد الله عينه‏.‏

وقال‏:‏ ارجع إلى عبدي، فقل له‏:‏ الحياة تريد‏؟‏ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعره، فإنك تعيش بها سنة‏.‏

قال‏:‏ ثم مه‏؟‏

قال‏:‏ ثم الموت‏.‏

قال‏:‏ فالآن يا رب من قريب‏.‏

تفرد به أحمد وهو موقوف بهذا اللفظ‏.‏

وقد رواه ابن حبان في ‏(‏صحيحه‏)‏، من طريق معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال معمر‏:‏ وأخبرني من سمع الحسن، عن رسول الله فذكره، ثم استشكله ابن حبان، وأجاب عنه بما حاصله، أن ملك الموت لما قال له هذا لم يعرفه، لمجيئه له على غير صورة يعرفها موسى عليه السلام، كما جاء جبريل في صورة أعرابي، وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولوط في صورة شباب، فلم يعرفهم إبراهيم ولا لوط أولاً، وكذلك موسى لعله لم يعرفه‏.‏

لذلك ولطمه ففقأ عينه، لأنه دخل داره بغير إذنه، وهذا موافق لشريعتنا في جواز فقء عين من نظر إليك في دارك بغير إذن‏.‏

ثم أورد الحديث من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏جاء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه‏.‏

قال له‏:‏ أجب ربك، فلطم موسى عين ملك الموت، ففقأ عينه‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر تمام الحديث‏.‏

كما أشار إليه البخاري، ثم تأوله على أنه لما رفع يده ليلطمه، قال له‏:‏ أجب ربك، وهذا التأويل لا يتمشى على ما ورد به اللفظ من تعقيب قوله‏:‏ أجب ربك بلطمه، ولو استمر على الجواب الأول لتمشى له، وكأنه لم يعرفه في تلك الصورة‏.‏

ولم يحمل قوله هذا على أنه مطابق، إذلم يتحقق في الساعة الراهنة أنه ملك كريم، لأنه كان يرجو أموراً كثيرة، كان يحب وقوعها في حياته من خروجه من التيه، ودخولهم الأرض المقدسة، وكان قد سبق في قدرة الله أنه عليه السلام يموت في التيه بعد هارون أخيه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد زعم بعضهم أن موسى عليه السلام، هو الذي خرج بهم من التيه، ودخل بهم الأرض المقدسة، وهذا خلاف ما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين‏.‏ ومما يدل على ذلك قوله لما اختار الموت‏:‏ رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر، ولو كان قد دخلها لم يسأل ذلك، ولكن لما كان مع قومه بالتيه‏.‏

وحانت وفاته عليه السلام أحب أن يتقرب إلى الأرض التي هاجر إليها، وحث قومه عليها، ولكن حال بينهم وبينها القدر رمية بحجر، ولهذا قال سيد البشر ورسول الله إلى أهل الوبر والمدر‏:‏

‏(‏‏(‏فلو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، وسليمان التيمي، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره، عند الكثيب الأحمر‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به‏.‏ ‏‏

وقال السدي‏:‏ عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة قالوا‏:‏ ثم إن الله تعالى أوحى إلى موسى إني متوف هارون فائت به جبل كذا وكذا، فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فإذا هم بشجرة، لم تر شجرة مثلها، وإذا هم ببيت مبني، وإذا هم بسرير عليه فرش، وإذا فيه ريح طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه، قال‏:‏ يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير‏.‏

قال له موسى‏:‏ فنم عليه‏.‏

قال‏:‏ إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي‏.‏

قال له‏:‏ لا ترهب أنا أكفيك رب هذا البيت فنم‏.‏

قال يا موسى‏:‏ نم معي، فإن جاء رب هذا البيت غضب علي وعليك جميعاً، فلما ناما أخذ هارون الموت، فلما وجد حسه قال يا موسى‏:‏ خدعتني، فلما قبض، رفع ذلك البيت، وذهبت تلك الشجرة، ورفع السرير به إلى السماء، فلما رجع موسى إلى قومه وليس معه هارون قالوا‏:‏ فإن موسى قتل هارون، وحسده حب بني إسرائيل له‏.‏

وكان هارون أكف عنهم، وألين لهم من موسى، وكان في موسى بعض الغلظة عليهم، فلما بلغه ذلك قال لهم‏:‏ ويحكم كان أخي أفتروني أقتله، فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين، ثم دعا الله فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض‏.‏

ثم إن موسى عليه السلام بينما هو يمشي ويوشع فتاه، إذ أقبلت ريح سوداء، فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة، فالتزم موسى وقال‏:‏ تقوم الساعة وأنا ملتزم موسى نبي الله، فاستل موسى عليه السلام من تحت القميص، وترك القميص في يدي يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص آخذته بنو إسرائيل وقالوا‏:‏ قتلت نبي الله، فقال‏:‏ لا والله ما قتلته ولكنه استل مني، فلم يصدقوه وأرادوا قتله‏.‏

قال‏:‏ فإذا لم تصدقوني فاخروني ثلاثة أيام، فدعا الله فأتى كل رجل ممن كان يحرسه في المنام، فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى، وإنا قد رفعناه إلينا فتركوه، ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح‏.‏ وفي بعض هذا السياق نكارة وغرابة، والله أعلم‏.‏

وقد قدمنا أنه لم يخرج أحد من التيه ممن كان مع موسى، سوى يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، وهو زوج مريم أخت موسى وهارون، وهما الرجلان المذكوران فيما تقدم، اللذان أشارا على ملأ بني إسرائيل بالدخول عليهم‏.‏

وذكر وهب بن منبه‏:‏ أن موسى عليه السلام مر بملأ من الملائكة يحفرون قبراً، فلم ير أحسن منه ولا أنضر ولا أبهج، فقال‏:‏ يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر، فقالوا‏:‏ لعبد من عباد الله كريم، فإن كنت تحب أن تكون هذا العبد فادخل هذا القبر وتمدد فيه، وتوجه إلى ربك، وتنفس أسهل تنفس، ففعل ذلك فمات صلوات الله وسلامه عليه، فصلت عليه الملائكة ودفنوه، وذكر أهل الكتاب وغيرهم أنه مات وعمره مائة وعشرون سنة‏.‏ ‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أمية بن خالد ويونس قالا‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال يونس رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏

‏(‏‏(‏كان ملك الموت يأتي الناس عياناً‏.‏

قال فأتى موسى عليه السلام فلطمه ففقأ عينه، فأتى ربه‏.‏

فقال‏:‏ يا رب عبدك موسى فقأ عيني، ولولا كرامته عليك لعتبت عليه‏.‏

وقال يونس‏:‏ لشققت عليه‏.‏

قال له‏:‏ اذهب إلى عبدي فقل له‏:‏ فليضع يده على جلد، أو مَسْك ثور، فله بكل شعرة وارت يده سنة‏.‏

فأتاه فقال له، فقال‏:‏ ما بعد هذا‏؟‏

قال‏:‏ الموت‏.‏

قال‏:‏ فالآن‏.‏

قال‏:‏ فشمه شمة فقبض روحه‏)‏‏)‏‏.‏

قال يونس‏:‏ فرد الله عليه عينه، وكان يأتي الناس خفية‏.‏

وكذا رواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن مصعب بن المقدام، عن حماد بن سلمة به‏.‏ فرفعه أيضاً‏.‏

 ذكر نبوة يوشع وقيامه بأعباء بني إسرائيل بعد موسى وهارون عليهما السلام

هو يوشع بن نون بن أفراثيم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام‏.‏ وأهل الكتاب يقولون يوشع بن عم هود‏.‏

وقد ذكره الله تعالى في القرآن غير مصرح باسمه في قصة الخضر، كما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 60‏]‏ {‏فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 62‏]‏

وقدمنا ما ثبت في الصحيح من رواية أبي بن كعب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يوشع بن نون، وهو متفق على نبوته عند أهل الكتاب، فإن طائفة منهم وهم السامرة لا يقرون بنبوة أحد بعد موسى إلا يوشع بن نون، لأنه مصرح به في التوراة، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم من ربهم، فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة‏.‏

وأما ما حكاه ابن جرير وغيره من المفسرين، عن محمد بن إسحاق‏:‏ من أن النبوة حولت من موسى، إلى يوشع في آخر عمر موسى، فكان موسى يلقي يوشع فيسأله ما أحدث الله إليه من الأوامر والنواهي، حتى قال له‏:‏ يا كليم الله، إني كنت لا أسألك عما يوحي الله إليك حتى تخبرني أنت، ابتداء من تلقاء نفسك، فعند ذلك كره موسى الحياة وأحب الموت‏.‏

ففي هذا نظر، لأن موسى عليه السلام لم يزل الأمر والوحي والتشريع والكلام من الله إليه من جميع أحواله حتى توفاه الله عز وجل، ولم يزل معززاً مكرماً مدللاً وجيها عند الله، كما قدمنا في الصحيح من قصة فقئه عين ملك الموت، ثم بعثه الله إليه إن كان يريد الحياة، فليضع يده على جلد ثور، فله بكل شعرة وارت يده سنة يعيشها، قال‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ الموت‏.‏ قال‏:‏ فالآن يا رب، وسأل الله أن يدنيه إلى بيت المقدس رمية بحجر، وقد أجيب إلى ذلك صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

فهذا الذي ذكره محمد بن إسحاق إن كان، إنما يقوله من كتب أهل الكتاب، ففي كتابهم الذي يسمونه التوراة‏:‏ أن الوحي لم يزل ينزل على موسى في كل حين يحتاجون إليه، إلى آخر مدة موسى، كما هو المعلوم من سياق كتابهم عند تابوت الشهادة في قبة الزمان‏.‏ ‏

وقد ذكروا في السفر الثالث أن الله أمر موسى وهارون أن يعدا بني إسرائيل على أسباطهم، وأن يجعلا على كل سبط من الاثني عشر أميراً، وهو النقيب‏.‏ وماذاك إلا ليتأهبوا للقتال - قتال الجبارين عند الخروج من التيه -

وكان هذا عند اقتراب انقضاء الأربعين سنة، ولهذا قال بعضهم‏:‏ إنما فقأ موسى عليه السلام عين ملك الموت لأنه لم يعرفه في صورته تلك، ولأنه كان قد أمر بأمر كان يرتجي وقوعه في زمانه، ولم يكن في قدر الله أن يقع ذلك في زمانه، بل في زمان فتاه يوشع بن نون عليه السلام‏.‏

كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أراد غزو الروم بالشام، فوصل إلى تبوك، ثم رجع عامه ذلك في سنة تسع‏.‏ ثم حج في سنة عشر، ثم رجع فجهز جيش أسامة إلى الشام، طليعة بين يديه، ثم كان على عزم الخروج إليهم امتثالاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏‏.‏

ولما جهز رسول الله جيش أسامة، توفي عليه الصلاة والسلام وأسامة مخيم بالجرف، فنفذه صديقه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم لما لـمَّ شعث جزيرة العرب وما كان دهى من أمر أهلها، وعاد الحق إلى نصابه، جهز الجيوش يمنة ويسرة إلى العراق‏:‏ أصحاب كسرى ملك الفرس، وإلى الشام‏:‏ أصحاب قيصر ملك الروم، ففتح الله لهم، ومكن لهم وبهم، وملكهم نواصي أعدائهم، كما سنورده عليك في موضعه، إذا انتهينا إليه مفصلاً إن شاء الله بعونه وتوفيقه وحسن إرشاده‏.‏

وهكذا موسى عليه السلام كان الله قد أمره أن يجند بني إسرائيل، وأن يجعل عليهم نقباء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 12‏]‏

يقول لهم‏:‏ لئن قمتم بما أوجبت عليكم، ولم تنكلوا عن القتال كما نكلتم أول مرة، لأجعلن ثواب هذه مكفراً لما وقع عليكم من عقاب تلك، كما قال تعالى لمن تخلف من الأعراب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وهكذا قال تعالى لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏ ثم ذمهم تعالى على سوء صنيعهم ونقضهم مواثيقهم كما ذم من بعدهم من النصارى على اختلافهم في دينهم وأديانهم‏.‏ وقد ذكرنا ذلك في التفسير مستقصى، ولله الحمد‏.‏ ‏

والمقصود أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يكتب أسماء المقاتلة من بني إسرائيل، ممن يحمل السلاح، ويقاتل ممن بلغ عشرين سنة فصاعداً وأن يجعل على كل سبط نقيباً منهم‏.‏

السبط الأول‏:‏ سبط روبيل، لأنه بكر يعقوب، كان عدة المقاتلة منهم ستة وأربعين ألفاً وخمسمائة، ونقيبهم منهم وهو‏:‏ اليصور بن شديئورا‏.‏

السبط الثاني‏:‏ سبط شمعون، وكانوا تسعة وخمسين ألفاً وثلاثمائة‏.‏ ونقيبهم‏:‏ شلوميئيل بن هوريشداي‏.‏

السبط الثالث‏:‏ سبط يهوذا، وكانوا أربعة وسبعين ألفاً وستمائة‏.‏ ونقيبهم‏:‏ نحشون بن عميناداب‏.‏

السبط الرابع‏:‏ سبط ايساخر، وكانوا أربعة وخمسين ألفاً وأربعمائة، ونقيبهم نشائيل بن صوغر‏.‏

السبط الخامس‏:‏ سبط يوسف عليه السلام، وكانوا أربعين ألفاً وخمسمائة، ونقيبهم يوشع بن نون‏.‏

السبط السادس‏:‏ سبط ميشا، وكانوا أحداً وثلاثين ألفاً ومائتين، ونقيبهم جمليئيل بن فدهصور‏.‏

السبط السابع‏:‏ سبط بنيامين، وكانوا خمسة وثلاثين ألفاً وأربعمائة، ونقيبهم‏:‏ أبيدن بن جدعون‏.‏

السبط الثامن‏:‏ سبط حاد، وكانوا خمسة وأربعة ألفاً وستمائة وخمسين رجلاً، ونقيبهم‏:‏ الياساف بن رعوئيل‏.‏

السبط التاسع‏:‏ سبط أشير، وكانوا أحداً وأربعين ألفاً وخمسمائة‏.‏ ونقيبهم‏:‏ فجعيئيل بن عكرن‏.‏

السبط العاشر‏:‏ سبط دان، وكانوا اثنين وستين ألفاً وسبعمائة، ونقيبهم‏:‏ أخيعزر بن عمشداي‏.‏

السبط الحادي عشر‏:‏ سبط نفتالي، وكانوا ثلاثة وخمسين ألفاً وأربعمائة‏.‏ ونقيبهم‏:‏ أخيرع بن عين‏.‏

السبط الثاني عشر‏:‏ سبط زبولون، وكانوا سبعة وخمسين ألفاً وأربعمائة، ونقيبهم‏:‏ الباب بن حيلون‏.‏

هذا نص كتابهم الذي بأيديهم، والله أعلم‏.‏

وليس منهم‏:‏ بنو لاوي، فأمر الله موسى أن لا يعدهم معهم، لأنهم موكلون بحمل قبة الشهادة، وضربها وخزنها، ونصبها، وحملها إذا ارتحلوا، وهم سبط موسى وهارون عليهما السلام، وكانوا اثنين وعشرين ألفاً من ابن شهر فما فوق ذلك، وهم في أنفسهم قبائل من كل قبيلة طائفة من قبة الزمان، يحرسونها ويحفظونها ويقومون بمصالحها ونصبها وحملها، وهم كلهم حولها، ينزلون، ويرتحلون أمامها ويمنتها وشمالها ووراءها‏.‏

وجملة ما ذكر من المقاتلة غير بني لاوي خمسمائة ألف وأحد وسبعون ألفاً وستمائة وستة وخمسون‏.‏ لكن قالوا‏:‏ فكان عدد بني إسرائيل ممن عمره عشرون سنة فما فوق ذلك، ممن حمل السلاح ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسة وخمسين رجلاً، سوى بني لاوي، وفي هذا نظر‏.‏

فإن جميع الجمل المتقدمة إن كانت كما وجدنا في كتابهم، لا تطابق الجملة التي ذكروها، والله أعلم‏.‏

فكان بنو لاوي الموكلون بحفظ قبة الزمان، يسيرون في وسط بني إسرائيل، وهم القلب، ورأس الميمنة‏:‏ بنو روبيل، ورأس الميسرة‏:‏ بنودان، وبنو نفتالي يكونون ساقة‏.‏

وقرر موسى عليه السلام - بأمر الله تعالى له - الكهانة في بني هارون، كما كانت لأبيهم من قبلهم، وهم ناداب، وهو بكره، وأبيهو، والعازر، ويثمر‏.‏

والمقصود أن بني إسرائيل لم يبق منهم أحد ممن كان نكل عن دخول مدينة الجبارين، الذين قالوا‏:‏ ‏{‏فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ قاله الثوري، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس‏.‏

وقاله‏:‏ قتادة، وعكرمة‏.‏

ورواه السدي، عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة، حتى قال ابن عباس، وغيره من علماء السلف والخلف‏:‏ ومات موسى وهارون قبله كلاهما في التيه جميعاً‏.‏

وقد زعم ابن إسحاق أن الذي فتح بيت المقدس هو موسى، وإنما كان يوشع على مقدمته، وذكر في مروره إليها قصة بلعام بن باعور الذي قال تعالى فيه‏:‏

{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 175-177‏]‏‏.‏

وقد ذكرنا قصته في التفسير، وأنه كان فيما قاله ابن عباس وغيره يعلم الاسم الأعظم، وأن قومه سألوه أن يدعو على موسى وقومه فامتنع عليهم، ولما ألحوا عليه، ركب حمارة له؛ ثم سار نحو معسكر بني إسرائيل، فلما أشرف عليهم ربضت به حمارته فضربها، حتى قامت فسارت غير بعيد وربضت، فضربها ضرباً أشد من الأول، فقامت ثم ربضت، فضربها فقالت له‏:‏ يا بلعام أين تذهب، أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا، أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم‏؟‏ فلم ينزع عنها فضربها حتى سارت به، حتى أشرف عليهم من رأس جبل حسبان‏.‏

ونظر إلى معسكر موسى وبني إسرائيل فأخذ يدعو عليهم فجعل لسانه لا يطيعه إلا أن يدعو لموسى وقومه، ويدعو على قوم نفسه فلاموه على ذلك، فاعتذر إليهم بأنه لا يجري على لسانه إلا هذا، واندلع لسانه حتى وقع على صدره، وقال لقومه‏:‏ ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة‏.‏

ثم أمر قومه أن يزينوا النساء ويبعثوهن بالأمتعة يبعن عليهم، ويتعرضن لهم، حتى لعلهم يقعون في الزنا، فإنه متى زنى رجل منهم كفيتموه، ففعلوا وزينوا نساءهم، وبعثوهن إلى المعسكر، فمرت امرأة منهم اسمها كستى برجل من عظماء بني إسرائيل - وهو زمري بن شلوم - يقال إنه كان رأس سبط بني شمعون بن يعقوب، فدخل بها قبته، فلما خلا بها أرسل الله الطاعون على بني إسرائيل، فجعل يحوس فيهم‏.‏

فلما بلغ الخبر إلى فنحاص بن العزار بن هارون، أخذ حربته وكانت من حديد، فدخل عليهما القبة فانتظمهما جميعاً فيها، ثم خرج بهما على الناس والحربة في يده، وقد اعتمد على خاصرته وأسندها إلى لحيته، ورفعهما نحو السماء وجعل يقول‏:‏ اللهم هكذا تفعل بمن يعصيك، ورفع الطاعون‏.‏

فكان جملة من مات في تلك الساعة سبعين ألفاً، والمقلل يقول عشرين ألفاً، وكان فنحاص بكر أبيه العزار بن هارون، فلهذا يجعل بنو إسرائيل لولد فنحاص من الذبيحة اللية والذراع واللحى، ولهم البكر من كل أموالهم وأنفسهم‏.‏

وهذا الذي ذكره ابن إسحاق من قصة بلعام صحيح، قد ذكره غير واحد من علماء السلف، لكن لعله لما أراد موسى دخول بيت المقدس أول مقدمه من الديار المصرية، ولعله مراد ابن إسحاق، ولكنه ما فهمه بعض الناقلين عنه، وقد قدمنا عن نص التوراة ما يشهد لبعض هذا، والله أعلم‏.‏

ولعل هذه قصة أخرى كانت في خلال سيرهم في التيه، فإن في هذا السياق ذكر حسبان، وهي بعيدة عن أرض بيت المقدس، أو لعله كان هذا لجيش موسى، الذين عليهم يوشع بن نون، حين خرج بهم من التيه قاصداً بيت المقدس، كما صرح به السدي، والله أعلم‏.‏

وعلى كل تقدير فالذي عليه الجمهور‏:‏ أن هارون توفي بالتيه قبل موسى أخيه بنحو من سنتين، وبعده موسى في التيه أيضاً كما قدمنا، وأنه سأل ربه أن يقرب إلى بيت المقدس فأجيب إلى ذلك، فكان الذي خرج بهم من التيه، وقصد بهم بيت المقدس هو يوشع بن نون عليه السلام، فذكر أهل الكتاب وغيرهم من أهل التاريخ‏:‏ أنه قطع بني إسرائيل نهر الأردن، وانتهى إلى أريحا، وكانت من أحصن المدائن سوراً، وأعلاها قصوراً وأكثرها أهلاً فحاصرها ستة أشهر‏.‏

ثم إنهم أحاطوا بها يوماً وضربوا بالقرون - يعني الأبواق - وكبروا تكبيرة رجل واحد، فتفسخ سورها، وسقط وجبة واحدة، فدخلوها وأخذوا ما وجدوا فيها من الغنائم، وقتلوا اثني عشر ألفاً من الرجال والنساء، وحاربوا ملوكاً كثيرة‏.‏

ويقال‏:‏ إن يوشع ظهر على أحد وثلاثين ملكاً من ملوك الشام‏.‏ وذكروا أنه انتهى محاصرته لها إلى يوم جمعة بعد العصر، فلما غربت الشمس أو كادت تغرب، ويدخل عليهم السبت الذي جعل عليهم، وشرع لهم ذلك الزمان قال لها‏:‏ إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي، فحبسها الله عليه، حتى تمكن من فتح البلد، وأمر القمر فوقف عند الطلوع، وهذا يقتضي أن هذه الليلة كانت الليلة الرابعة عشرة من الشهر الأول، وهو قصة الشمس المذكورة في الحديث الذي سأذكره‏.‏

وأما قصة القمر فمن عند أهل الكتاب، ولا ينافي الحديث بل فيه زيادة تستفاد، فلا تصدق ولا تكذب، ولكن ذكرهم أن هذا في فتح أريحا، فيه نظر، والأشبه والله أعلم أن هذا كان في فتح بيت المقدس، الذي هو المقصود الأعظم، وفتح أريحا كان وسيلة إليه، والله أعلم‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس‏)‏‏)‏‏.‏

انفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط البخاري‏.‏ ‏

وفيه دلالة على أن الذي فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون عليه السلام، لا موسى، وأن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس لا أريحا، كما قلنا‏.‏ وفيه أن هذا كان من خصائص يوشع عليه السلام، فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه، أن الشمس رجعت حتى صلى علي بن أبي طالب صلاة العصر، بعد ما فاتته بسبب نوم النبي صلى الله عليه وسلم على ركبته، فسأل رسول الله أن يردها عليه حتى يصلي العصر، فرجعت‏.‏

وقد صححه علي بن صالح المصري، ولكنه منكر، ليس في شيء من الصحاح ولا الحسان، وهو مما تتوفر الدواعي على نقله، وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها، والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه‏:‏ لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن، ولا آخر قد بنى بنياناً، ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر أولادها، فغزا فدنا من القرية حين صُلي العصر، أو قريباً من ذلك، فقال للشمس‏:‏ أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئاً، فحبست عليه حتى فتح الله عليه، فجمعوا ما غنموا فأتت النار لتأكله فأبت أن تطعمه‏.‏

فقال‏:‏ فيكم غلول، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعوه فلصقت يد رجل بيده‏.‏

فقال‏:‏ فيكم الغلول، وليتابعني قبيلتك، فبايعته قبيلته، فلصق بيد رجلين أو ثلاثة‏.‏

فقال‏:‏ فيكم الغلول، أنتم غللتم، فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب‏.‏

قال‏:‏ فوضعوه بالمال، وهو بالصعيد فأقبلت النار فأكلته، فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا، ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا‏)‏‏)‏‏.‏

انفرد به مسلم من هذا الوجه‏.‏

وقد روى البزار، من طريق مبارك بن فضالة، عن عبيد الله، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه‏.‏

قال‏:‏ ورواه محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري‏.‏

قال‏:‏ ورواه قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والمقصود‏:‏ أنه لما دخل بهم باب المدينة، أمروا أن يدخلوها سجداً أي ركعاً متواضعين شاكرين لله عز وجل على ما من به عليهم من الفتح العظيم، الذي كان الله وعدهم إياه، وأن يقولوا حال دخولهم حطة أي‏:‏ حط عنا خطيانا التي سلفت من نكولنا الذي تقدم منا‏.‏

ولهذا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم فتحها، دخلها وهو راكب ناقته، وهو متواضع حامد شاكر، حتى أن عثنونه - وهو طرف لحيته - ليمس مورك رحله، مما يطأطىء رأسه خضعاناً لله عز وجل، ومعه الجنود والجيوش ممن لا يرى منه إلا الحدق، ولا سيما الكتيبة الخضراء التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما دخلها اغتسل، وصلى ثماني ركعات، وهي صلاة الشكر على النصر‏.‏

على المشهور من قولي العلماء، وقيل‏:‏ إنها صلاة الضحى، وما حمل هذا القائل على قوله هذا، إلا لأنها وقعت وقت الضحى‏.‏ ‏

وأما بنو إسرائيل، فإنهم خالفوا ما أمروا به قولاً وفعلاً، دخلوا الباب يزحفون على أستاههم، يقولون‏:‏ حبة في شعرة، وفي رواية‏:‏ حنطة في شعرة‏.‏ وحاصله أنهم بدلوا ما أمروا به واستهزؤا به، كما قال تعالى حاكياً عنهم في سورة الأعراف - وهي مكية -‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 161-162‏]‏‏.‏

وقال في سورة البقرة - وهي مدنية - مخاطباً لهم‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 58-59‏]‏‏.‏

وقال الثوري، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً‏}‏ قال‏:‏ ركعاً من باب صغير‏.‏ رواه الحاكم، وابن جرير، وابن أبي حاتم‏.‏

وكذا روى العوفي، عن ابن عباس، وكذا روى الثوري، عن ابن إسحاق، عن البراء‏.‏

قال مجاهد، والسدي، والضحاك، والباب‏:‏ هو باب حطة من بيت ايلياء بيت المقدس‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ فدخلوا مقنعي رؤوسهم ضد ما أمروا به، وهذا لا ينافي قول ابن عباس‏:‏ أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم‏.‏

وهكذا في الحديث الذي سنورده بعد، فإنهم دخلوا يزحفون وهم مقنعو رؤوسهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقُولُوا حِطَّةٌ‏}‏ الواو هنا حالية لا عاطفة، أي‏:‏ ادخلوا سجداً في حال قولكم حطة‏.‏

قال ابن عباس، وعطاء، والحسن، وقتادة، والربيع‏:‏ أمروا أن يستغفروا‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن ابن المبارك، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏قال‏:‏ قيل لبني إسرائيل‏:‏ ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم‏.‏

فبدلوا وقالوا‏:‏ حطة حبة في شعرة‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه النسائي من حديث ابن المبارك ببعضه‏.‏

ورواه عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن مهدي به موقوفاً‏.‏

وقد قال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏قال الله لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم، فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم، فقالوا‏:‏ حبة في شعرة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه البخاري، ومسلم، والترمذي، من حديث عبد الرزاق‏.‏ ‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، وعمن لا أتهم، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً يزحفون على أستاههم، وهم يقولون حنطة في شعيرة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أسباط، عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود قال‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ قالوا‏:‏ هطى سقانا أزمة مزيا‏.‏

فهي في العربية‏:‏ حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء‏.‏

وقد ذكر الله تعالى أنه عاقبهم على هذه المخالفة، بإرسال الرجز الذي أنزله عليهم وهو الطاعون‏.‏

كما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏، من حديث الزهري، عن عامر بن سعد، ومن حديث مالك، عن محمد بن المنكدر، وسالم أبي النضر، عن عامر بن سعد، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن هذا الوجع أو السقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم‏)‏‏)‏‏.‏

وروى النسائي، وابن أبي حاتم وهذا لفظه، من حديث الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، وأسامة بن زيد، وخزيمة بن ثابت قالوا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏الطاعون رجز عذاب، عذب به من كان قبلكم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ الرجز‏:‏ العذاب‏.‏ وكذا قال مجاهد، وأبو مالك، والسدي، والحسن، وقتادة‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ هو الغضب‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ الرجز‏:‏ إما الطاعون، وإما البرد‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو الطاعون‏.‏

ولما استقرت يد بني إسرائيل على بيت المقدس، استمروا فيه وبين أظهرهم نبي الله يوشع، يحكم بينهم بكتاب الله التوراة حتى قبضه الله إليه، وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة، فكان مدة حياته بعد موسى سبعاً وعشرين سنة‏.‏

ذكر قصتي الخضر وإلياس عليهما السلام

أما الخضر فقد تقدم أن موسى عليه السلام رحل إليه في طلب ما عنده من العلم اللدني‏.‏ وقص الله من خبرهما في كتابه العزيز في سورة الكهف‏.‏

وذكرنا في تفسير ذلك هنالك، وأوردنا هنا ذكر الحديث

المصرح بذكر الخضر عليه السلام وأن الذي رحل إليه هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام الذي أنزلت عليه التوراة‏.‏

وقد اختلف في الخضر في اسمه ونسبه ونبوته وحياته إلى الآن - على أقوال - سأذكرها لك ههنا إن شاء الله وبحوله وقوته‏.‏

قال الحافظ ابن عساكر‏:‏ يقال‏:‏ إنه الخضر بن آدم عليه السلام لصلبه‏.‏ ثم روى من طريق الدارقطني‏:‏ حدثنا محمد بن الفتح القلانسي، حدثنا العباس بن عبد الله الرومي، حدثنا رواد بن الجراح، حدثنا مقاتل بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس قال‏:‏ الخضر بن آدم لصلبه، ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال، وهذا منقطع وغريب‏.‏

وقال أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني‏:‏ سمعت مشيختنا منهم أبو عبيدة وغيره قالوا‏:‏ إن أطول بني آدم عمراً الخضر، واسمه خضرون بن قابيل بن آدم‏.‏ قال‏:‏ وذكر ابن إسحاق‏:‏ أن آدم عليه السلام لما حضرته الوفاة، أخبر بنيه أن الطوفان سيقع بالناس، وأوصاهم إذا كان ذلك أن يحملوا جسده معهم في السفينة، وأن يدفنوه معهم في مكان عينه لهم‏.‏

فلما كان الطوفان حملوه معهم، فلما هبطوا إلى الأرض أمر نوح بنيه أن يذهبوا ببدنه فيدفنوه حيث أوصى‏.‏ فقالوا‏:‏ إن الأرض ليس بها أنيس وعليها وحشة فحرضهم وحثهم على ذلك‏.‏

وقال‏:‏ إن آدم دعا لمن يلي دفنه بطول العمر، فهابوا المسير إلى ذلك الموضع في ذلك الوقت، فلم يزل جسده عندهم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه، وأنجز الله ما وعده فهو يحيى إلى ما شاء الله له أن يحيى‏.‏

وذكر ابن قتيبة في المعارف عن وهب بن منبه‏:‏ أن اسم الخضر ‏{‏بليا‏}‏ ويقال‏:‏ إيليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، وقال إسماعيل بن أبي أويس‏:‏ اسم الخضر فيما بلغنا والله أعلم‏:‏ المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن لازد‏.‏

وقال غيره‏:‏ هو‏:‏ خضرون بن عمياييل بن اليفز بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل‏.‏

ويقال‏:‏ هو أرميا بن خلقيا فالله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ إنه كان ابن فرعون صاحب موسى ملك مصر، وهذا غريب جدا‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ رواه محمد بن أيوب، عن ابن لهيعة وهما ضعيفان‏.‏

وقيل‏:‏ إنه ابن مالك، وهو أخو إلياس، قاله السدي كما سيأتي‏.‏

وقيل‏:‏ إنه كان على مقدمة ذي القرنين‏.‏

وقيل‏:‏ كان ابن بعض من آمن بإبراهيم الخليل وهاجر معه‏.‏

وقيل‏:‏ كان نبيا في زمن بشتاسب بن لهراسب‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والصحيح أنه كان متقدما في زمن أفريدون بن أثفيان حتى أدركه موسى عليهما السلام‏.‏

وروى الحافظ بن عساكر عن سعيد بن المسيب أنه قال‏:‏ الخضر أمه رومية وأبوه فارسي‏.‏ ‏

وقد ورد ما يدل على أنه كان من بني إسرائيل في زمان فرعون أيضاً‏.‏

قال أبو زرعة في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏‏:‏ حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي، حدثنا الوليد، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليله أسري به وجد رائحة طيبة فقال‏:‏

‏(‏‏(‏يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ هذه ريح قبر الماشطة وابنتها وزوجها‏.‏

وقال‏:‏ وكان بدء ذلك أن الخضر كان من أشراف بني إسرائيل، وكان ممره براهب في صومعته، فتطلع عليه الراهب فعلمه الإسلام‏.‏

فلما بلغ الخضر زوجه أبوه امرأة فعلمها الإسلام، وأخذ عليها أن لا تعلم أحداً وكان لا يقرب النساء، ثم طلقها ثم زوجه أبوه بأخرى فعلمها الإسلام، وأخذ عليها أن لا تعلم أحدا، ثم طلقها، فكتمت إحداهما وأفشت عليه الأخرى، فانطلق هاربا حتى أتى جزيرة في البحر فأقبل رجلان يحتطبان، فرأياه فكتم أحدهما وأفشى عليه الآخر‏.‏

قال‏:‏ قد رأيت العزقيل ومن رآه معك، قال‏:‏ فلان فسئل فكتم، وكان من دينهم أنه من كذب قتل، فقتل وكان قد تزوج الكاتم المرأة الكاتمة‏.‏

قال‏:‏ فبينما هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها‏.‏

فقالت‏:‏ نعس فرعون فأخبرت أباها وكان للمرأة ابنان وزوج، فأرسل إليهم فراود المرأة وزوجها أن يرجعا عن دينهما فأبيا، فقال‏:‏ إني قاتلكما فقالا‏:‏ إحسان منك إلينا إن أنت قتلتنا أن تجعلنا في قبر واحد فجعلهما في قبر واحد، فقال‏:‏ وما وجدت ريحا أطيب منهما وقد دخلت الجنة‏.‏

وقد تقدمت قصة مائلة بنت فرعون وهذا المشط في أمر الخضر قد يكون مدرجا من كلام أبي بن كعب، أو عبد الله بن عباس، والله أعلم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ كنيته أبو العباس‏.‏ والأشبه والله أعلم أن الخضر لقب غلب عليه‏.‏

قال البخاري رحمه الله‏:‏ حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به البخاري وكذلك رواه عبدالرزاق، عن معمر به‏.‏

ثم قال عبد الرزاق‏:‏ الفروة‏:‏ الحشيش الأبيض وما أشبهه، يعني‏:‏ الهشيم اليابس‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ وقال أبو عمر‏:‏ الفروة‏:‏ الأرض البيضاء التي لا نبات فيها‏.‏

وقال غيره‏:‏ هو الهشيم اليابس شبهه بالفروة، ومنه قيل‏:‏ فروة الرأس وهي جلدته بما عليها من الشعر، كما قال الراعي‏:‏

ولقد ترى الحبشي حول بيوتنا * جذلاً إذا ما نال يوما ماكلا

صعلا أصك كأن فروة رأسه * بذرت فأنبت جانباه فلفلا

قال الخطابي‏:‏ إنما سمي الخضر خضرا لحسنه وإشراق وجهه‏.‏

قلت‏:‏ هذا لا ينافي ما ثبت في الصحيح فإن كان ولا بد من التعليل بأحدهما فما ثبت في الصحيح أولى وأقوى بل لا يلتفت إلى ما عداه‏.‏

وقد روى الحافظ ابن عساكر هذا الحديث أيضا من طريق إسماعيل بن حفص بن عمر الأيلي، حدثنا عثمان، وأبو جزي، وهمام بن يحيى، عن قتادة، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إنما سمي الخضر خضراً لأنه صلى على فروة بيضاء فاهتزت خضراء‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا غريب من هذا الوجه‏.‏

وقال قبيصة، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد، قال‏:‏ إنما سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله‏.‏

وتقدم أن موسى ويوشع عليهما السلام لما رجعا يقصان الأثر وجداه على طنفسة خضراء على كبد البحر، وهو مسجى بثوب، قد جعل طرفاه من تحت رأسه وقدميه، فسلم عليه السلام‏.‏

فكشف عن وجهه فرد وقال‏:‏ أني بأرضك السلام‏؟‏ من أنت‏؟‏

قال‏:‏ أنا موسى‏.‏

قال‏:‏ موسى نبي بني إسرائيل‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏ فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه عنهما‏.‏

وقد دل سياق القصة على نبوته من وجوه‏:‏

أحدهما‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 65‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ قول موسى له‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 66- 70‏]‏‏.‏

فلو كان وليا وليس بنبي لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة، ولم يرد على موسى هذا الرد، بل موسى إنما سأل صحبته لينال ما عنده من العلم الذي اختصه الله به دونه، فلو كان غير نبي لم يكن معصوما، ولم تكن لموسى، وهو نبي عظيم ورسول كريم واجب العصمة كبير رغبة ولا عظيم طلبة في علم ولي غير واجب العصمة‏.‏

ولما عزم على الذهاب إليه والتفتيش عليه، ولو أنه يمضي حقبا من الزمان قيل‏:‏ ثمانين سنة، ثم لما اجتمع به تواضع له وعظمه واتبعه في صورة مستفيد منه، دل على أنه نبي مثله يوحى إليه كما يوحى إليه، وقد خص من العلوم اللدنية والأسرار النبوية، بما لم يطلع الله عليه موسى الكليم نبي بني إسرائيل الكريم‏.‏

وقد احتج بهذا المسلك بعينه الرماني على نبوة الخضر عليه السلام‏.‏

الثالث‏:‏ أن الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام وما ذاك إلا للوحي إليه من الملك العلام‏.‏

وهذا دليل مستقل على نبوته، وبرهان ظاهر على عصمته، لأن الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس، بمجرد ما يلقى في خلده لأن خاطره ليس بواجب العصمة إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق‏.‏

ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم، علما منه بأنه إذا بلغ يكفر ويحمل أبويه عن الكفر لشدة محبتهما له فيتابعانه عليه ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته، صيانة لأبويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته، دل ذلك على نبوته وأنه مؤيد من الله بعصمته‏.‏ ‏

وقد رأيت الشيخ أبا الفرج ابن الجوزي طرق هذا المسلك بعينه في الاحتجاج على نبوة الخضر وصححه‏.‏ وحكى الاحتجاج عليه الرماني أيضا‏.‏

الرابع‏:‏ أنه لما فسر الخضر تأويل تلك الأفاعيل لموسى، ووضح له عن حقيقة أمره وجلى، قال بعد ذلك كله‏:‏ ‏{‏رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 82‏]‏ يعني‏:‏ ما فعلته من تلقاء نفسي، بل أمر أمرت به وأوحى إلي فيه‏.‏ فدلت هذه الوجوه على نبوته‏.‏ ولا ينافي ذلك حصول ولايته، بل ولا رسالته كما قاله آخرون‏.‏

وأما كونه ملكاً من الملائكة فقول فغريب جداً، وإذا ثبت نبوته كما ذكرناه لم يبق لمن قال بولايته، وإن الولي قد يطلع على حقيقة الأمور دون أرباب الشرع الظاهر، مستند يستندون إليه، ولا معتمد يعتمدون عليه‏.‏

وأما الخلاف في وجوده إلى زماننا هذا، فالجمهور على أنه باق إلى اليوم‏.‏ قيل‏:‏ لأنه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان، فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه شرب من عين الحياة فحيى‏.‏

وذكروا أخباراً استشهدوا بها على بقائه إلى الآن، وسنوردها مع غيرها إن شاء الله تعالى وبه الثقة‏.‏ وهذه وصيته لموسى حين ‏{‏قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 78‏]‏ روي في ذلك آثار منقطعة كثيرة‏.‏

قال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو سعيد ابن أبي عمرو، حدثنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا جرير، حدثني أبو عبد الله الملطي قال‏:‏ لما أراد موسى أن يفارق الخضر‏.‏

قال له موسى‏:‏ أوصني‏.‏

قال‏:‏ كن نفاعاً ولا تكن ضراراً، كن بشاشاً ولا تكن غضبان، ارجع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة‏.‏

وفي رواية من طريق أخرى زيادة‏:‏ ولا تضحك إلا من عجب‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ قال الخضر‏:‏ يا موسى إن الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها‏.‏

وقال بشر بن الحارث الحافي‏:‏ قال موسى للخضر‏:‏ أوصني‏.‏ فقال‏:‏ يسر الله عليك طاعته‏.‏

وقد ورد في ذلك حديث مرفوع، رواه ابن عساكر من طريق ذكريا بن يحيى الوقاد، إلا أنه من الكذابين الكبار قال‏:‏ قرىء على عبد الله بن وهب، وأنا أسمع‏:‏ قال الثوري‏:‏ قال مجالد‏:‏ قال أبو الوداك‏:‏ قال أبو سعيد الخدري‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ ‏

قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏قال أخي موسى يا رب - وذكر كلمته - فأتاه الخضر وهو فتى طيب الريح، حسن بياض الثياب، مشمرها، فقال‏:‏ السلام عليك ورحمة الله يا موسى بن عمران، إن ربك يقرأ عليك السلام‏.‏

قال موسى‏:‏ هو السلام وإليه السلام، والحمد لله رب العالمين، الذي لا أحصي نعمه، ولا أقدر على أداء شكره إلا بمعونته‏.‏

ثم قال موسى‏:‏ أريد أن توصيني بوصية ينفعني الله بها بعدك‏.‏

فقال الخضر‏:‏ يا طالب العلم إن القائل أقل ملامة من المستمع، فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم، واعلم أن قلبك وعاء فانظر ماذا تحشو به وعاءك، واعزف عن الدنيا وانبذها وراءك، فإنها ليست لك بدار، ولا لك فيها محل قرار، وإنما جعلت بلغة للعباد والتزود منها ليوم المعاد، ورض نفسك على الصبر تخلص من الإثم‏.‏

يا موسى تفرغ للعلم إن كنت تريده، فإنما العلم لمن تفرغ له، ولا تكن مكثاراً للعلم مهذاراً، فإن كثرة المنطق تشين العلماء، وتبدي مساوي السخفاء، ولكن عليك بالاقتصاد، فإن ذلك من التوفيق والسداد، وأعرض عن الجهال وماطلهم، واحلم عن السفهاء، فإن ذلك فعل الحكماء، وزين العلماء‏.‏

إذا شتمك الجاهل فاسكت عنه حلماً، وجانبه حزماً، فإن ما بقي من جهله عليك وسبه إياك أكثر وأعظم، يا ابن عمران ولا ترى أنك أوتيت من العلم إلا قليلاً، فإن الاندلاث والتعسف من الاقتحام والتكلف‏.‏

يا ابن عمران‏:‏ لا تفتحن باباً لا تدري ما غلقه، ولا تغلقن باباً لا تدري ما فتحه‏.‏

يا ابن عمران‏:‏ من لا ينتهي من الدنيا نهمته، ولا تنقضي منها رغبته، ومن يحقر حاله، ويتهم الله فيما قضى له كيف يكون زاهداً‏.‏ هل يكف عن الشهوات من غلب عليه هواه‏؟‏ أو ينفعه طلب العلم والجهل قد حواه‏؟‏ لأن سعيه إلى آخرته وهو مقبل على دنياه‏.‏

يا موسى تعلم ما تعلمت لتعمل به، ولا تعلمه لتحدث به، فيكون عليك بواره، ولغيرك نوره‏.‏

يا موسى بن عمران‏:‏ اجعل الزهد والتقوى لباسك، والعلم والذكر كلامك، واستكثر من الحسنات، فإنك مصيب السيئات، وزعزع بالخوف قلبك، فإن ذلك يرضى ربك، واعمل خيراً فإنك لا بد عامل سوء، قد وعظت إن حفظت‏.‏ قال‏:‏ فتولى الخضر، وبقي موسى محزوناً مكروباً يبكي‏.‏

لا يصح هذا الحديث، وأظنه من صنعة زكريا بن يحيى الوقاد المصري، كذبه غير واحد من الأئمة، والعجب أن الحافظ ابن عساكر سكت عنه‏.‏

وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني‏:‏ حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، ثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي، حدثنا محمد بن الفضل بن عمران الكندي، حدثنا بقية بن الوليد، عن محمد بن زياد، عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏

‏(‏‏(‏ألا أحدثكم عن الخضر‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بينما هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل أبصره رجل مكاتب‏.‏

فقال‏:‏ تصدق عليّ بارك الله فيك‏.‏

فقال الخضر‏:‏ آمنت بالله ما شاء الله من أمر يكون، ما عندي من شيء أعطيكه‏.‏

فقال المسكين‏:‏ أسألك بوجه الله لما تصدقت علي، فإني نظرت إلى السماء في وجهك ورجوت البركة عندك‏.‏

فقال الخضر‏:‏ آمنت بالله ما عندي من شيء أعطيكه إلا أن تأخذني فتبيعني‏.‏

فقال المسكين‏:‏ وهل يستقيم هذا‏؟‏

قال‏:‏ نعم الحق أقول لك، لقد سألتني بأمر عظيم، أما أني لا أخيبك بوجه ربي بعني‏.‏

قال‏:‏ فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم، فمكث عند المشتري زماناً لا يستعمله في شيء‏.‏

فقال له‏:‏ إنك ابتعتني التماس خير عندي، فأوصني بعمل‏.‏ قال‏:‏ أكره أن أشق عليك إنك شيخ كبير ضعيف‏.‏

قال‏:‏ ليس يشق علي‏.‏

قال‏:‏ فانقل هذه الحجارة، وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم، فخرج الرجل لبعض حاجاته ثم انصرف، وقد نقل الحجارة في ساعة‏.‏

فقال‏:‏ أحسنت وأجملت وأطقت ما لم أرك تطيقه، ثم عرض للرجل سفر، فقال‏:‏ إني أحسبك أميناً فاخلفني في أهلي خلافة حسنة‏.‏

قال‏:‏ فأوصني بعمل‏.‏

قال‏:‏ إني أكره أن أشق عليك‏.‏

قال‏:‏ ليس تشق علي‏.‏

قال‏:‏ فاضرب من اللبن لبيتي، حتى أقدم عليك، فمضى الرجل لسفره فرجع، وقد شيد بناؤه فقال‏:‏ أسألك بوجه الله ما سبيلك وما أمرك‏؟‏

فقال‏:‏ سألتني بوجه الله، والسؤال بوجه الله أوقعني في العبودية، سأخبرك من أنا، أنا الخضر الذي سمعت به، سألني مسكين صدقة، فلم يكن عندي من شيء أعطيه، فسألني بوجه الله فأمكنته من رقبتي، فباعني وأخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائله وهو بقدر، وقف يوم القيامة جلده لا لحم له ولا عظم، يتقعقع‏.‏

فقال الرجل‏:‏ آمنت بالله، شققت عليك يا نبي الله، ولم أعلم‏.‏

فقال‏:‏ لا بأس أحسنت وأبقيت‏.‏

فقال الرجل‏:‏ بأبي وأمي يا نبي الله، احكم في أهلي ومالي بما أراك الله، أو أخيرك فأخلي سبيلك‏.‏

فقال‏:‏ أحب أن تخلي سبيلي فأعبد ربي، فخلى سبيله‏.‏

فقال الخضر‏:‏ الحمد لله الذي أوقعني في العبودية، ثم نجاني منها‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا حديث رفعه خطأ، والأشبه أن يكون موقوفاً وفي رجاله من لا يعرف، فالله أعلم‏.‏

وقد رواه ابن الجوزي في كتابه ‏(‏عجالة المنتظر في شرح حال الخضر‏)‏ من طريق عبدالوهاب بن الضحاك وهو متروك، عن بقية‏.‏

وقد روى الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى السدي‏:‏ أن الخضر وإلياس كانا أخوين‏.‏

وكان أبوهما ملكاً فقال إلياس لأبيه‏:‏ إن أخي الخضر لا رغبة له في الملك، فلو أنك زوجته لعله يجيء منه ولد يكون الملك له‏.‏

فزوجه أبوه بامرأة حسناء بكر‏.‏

فقال لها الخضر‏:‏ إنه لا حاجة لي في النساء فإن شئت أطلقت سراحك، وإن شئت أقمت معي تعبدين الله عز وجل وتكتمين علي سري‏؟‏

فقالت‏:‏ نعم، وأقامت معه سنة، فلما مضت السنة دعاها الملك فقال‏:‏ إنك شابة وابني شاب، فأين الولد‏؟‏

فقالت‏:‏ إنما الولد من عند الله، إن شاء كان، وإن لم يشأ لم يكن‏.‏ فأمره أبوه فطلقها وزوجه بأخرى ثيبا قد ولد لها، فلما زفت إليه قال لها كما قال للتي قبلها، فأجابت إلى الإقامة عنده‏.‏

فلما مضت السنة سألها الملك عن الولد فقالت‏:‏ إن ابنك لا حاجة له بالنساء، فتطلبه أبوه فهرب، فأرسل وراءه فلم يقدروا عليه‏.‏ ‏

فيقال‏:‏ إنه قتل المرأة الثانية لكونها أفشت سره، فهرب من أجل ذلك، وأطلق سراح الأخرى، فأقامت تعبد الله في بعض نواحي تلك المدينة، فمر بها رجل يوماً فسمعته يقول‏:‏ بسم الله‏.‏

فقالت له‏:‏ أنى لك هذا الاسم‏؟‏

فقال‏:‏ إني من أصحاب الخضر، فتزوجته فولدت له أولاداً‏.‏ ثم صار من أمرها أن صارت ماشطة بنت فرعون، فبينما هي يوماً تمشطها، إذ وقع المشط من يدها، فقالت‏:‏ بسم الله‏.‏

فقالت ابنة فرعون‏:‏ أبي‏؟‏

فقالت‏:‏ لا، ربي وربك ورب أبيك، الله‏.‏

فأعلمت أباها، فأمر بنقرة من نحاس فأحميت، ثم أمر بها فألقيت فيه، فلما عاينت ذلك تقاعست أن تقع فيها، فقال لها ابن معها صغير‏:‏ يا أمه اصبري فإنك على الحق فألقت نفسها في النار، فماتت رحمها الله‏.‏

وقد روى ابن عساكر، عن أبي داود الأعمى - نفيع وهو كذاب - وضاع عن أنس بن مالك، ومن طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف - وهو كذاب أيضاً - عن أبيه، عن جده‏:‏ أن الخضر جاء ليلة فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ويقول‏:‏

‏(‏‏(‏اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني، وارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه‏)‏‏)‏‏.‏

فبعث إليه رسول الله أنس بن مالك فسلم عليه، فرد عليه السلام وقال‏:‏ قل له‏:‏ إن الله فضلك على الأنبياء كما فضل شهر رمضان على سائر الشهور، وفضل أمتك على الأمم كما فضل يوم الجمعة على غيره‏.‏

الحديث، وهو مكذوب لا يصح سنداً ولا متناً‏.‏

كيف لا يتمثل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجيء بنفسه مسلماً ومتعلماً‏.‏ وهم يذكرون في حكاياتهم وما يسندونه عن بعض مشايخهم، أن الخضر يأتي إليهم ويسلم عليهم، ويعرف أسماءهم ومنازلهم ومحالهم، وهو مع هذا لا يعرف موسى بن عمران كليم الله، الذي اصطفاه الله في ذلك الزمان على من سواه، حتى يتعرف إليه بأنه موسى بني إسرائيل‏.‏

وقد قال الحافظ أبو الحسين بن المنادى بعد إيراده حديث أنس هذا‏:‏ وأهل الحديث متفقون على أنه حديث منكر الإسناد، سقيم المتن، يتبين فيه أثر الصنعة‏.‏ ‏

فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي قائلاً‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن بالويه، قال‏:‏ حدثنا محمد بن بشر بن مطر، قال‏:‏ حدثنا كامل بن طلحة، قال‏:‏ حدثنا عباد بن عبدالصمد، عن أنس بن مالك قال‏:‏

لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدق به أصحابه، فبكوا حوله، واجتمعوا فدخل رجل أشهب اللحية، جسيم صبيح، فتخطى رقابهم، فبكى، ثم التفت إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

إن في الله عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل فائت، وخلفا من كل هالك، فإلى الله فأنيبوا وإليه فارغبوا، ونظر إليكم في البلاء، فانظروا فإن المصاب من لم يجبر وانصرف، فقال بعضهم لبعض‏:‏ تعرفون الرجل‏؟‏ فقال أبو بكر وعلي

نعم‏:‏ هو أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضر عليه السلام‏.‏

وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن كامل بن طلح به وفي متنه مخالفة لسياق البيهقي‏.‏

ثم قال البيهقي‏:‏ عباد بن عبد الصمد ضعيف، وهذا منكر بمرة قلت‏:‏ عباد بن عبد الصمد هذا هو‏:‏ ابن معمر البصري روى عن أنس نسخة‏.‏

قال ابن حبان والعقيلي‏:‏ أكثرها موضوع‏.‏

وقال البخاري‏:‏ منكر الحديث‏.‏

وقال أبو حاتم‏:‏ ضعيف الحديث جداً منكره‏.‏

وقال ابن عدي‏:‏ عامة ما يرويه في فضائل علي وهو ضعيف غال في التشيع‏.‏

وقال الشافعي في ‏(‏مسنده‏)‏‏:‏ أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين قال‏:‏ لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول‏:‏ إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب‏.‏

قال علي بن الحسين‏:‏ أتدرون من هذا، هذا الخضر‏.‏

شيخ الشافعي القاسم العمري متروك‏.‏

قال أحمد بن حنبل‏:‏ ويحيى بن معين يكذب‏.‏

زاد أحمد ويضع الحديث، ثم هو مرسل ومثله لا يعتمد عليه ههنا والله أعلم‏.‏

وقد روى من وجه آخر ضعيف عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن أبيه، عن علي ولا يصح‏.‏ وقد روى عبد الله بن وهب عمن حدثه عن محمد بن عجلان، عن محمد بن المنكدر‏:‏ أن عمر بن الخطاب بينما هو يصلي على جنازة إذ سمع هاتفاً وهو يقول‏:‏ لا تسبقنا يرحمك الله، فانتظره حتى لحق بالصف، فذكر دعاءه للميت إن تعذبه فكثيراً عصاك، وإن تغفر له ففقير إلى رحمتك‏.‏

ولما دفن قال‏:‏ طوبى لك يا صاحب القبر، إن لم تكن عريفا أو جابيا أو خازنا أو كاتبا أو شرطيا‏.‏

فقال عمر‏:‏ خذوا الرجل نسأله عن صلاته وكلامه عمن هو‏.‏

قال‏:‏ فتوارى عنهم فنظروا فإذا أثر قدمه ذراع، فقال عمر‏:‏ هذا والله الخضر الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا الأثر فيه مبهم وفيه انقطاع ولا يصح مثله‏.‏

وروى الحافظ بن عساكر عن الثوري عن عبد الله بن محرز، عن يزيد بن الأصم، عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ دخلت الطواف في بعض الليل فإذا أنا برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول‏:‏ يا من لا يمنعه سمع من سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يبرمه إلحاح الملحين، ولا مسألة السائلين ارزقني برد عفوك وحلاوة رحمتك‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ أعد علي ما قلت‏.‏

فقال لي‏:‏ أو سمعته‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

فقال لي‏:‏ والذي نفس الخضر بيده‏.‏

قال‏:‏ وكان هو الخضر لا يقولها عبد خلف صلاة مكتوبة إلا غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر، وورق الشجر، وعدد النجوم لغفرها الله له‏.‏

وهذا ضعيف من جهة عبد الله بن المحرز فإنه متروك الحديث، ويزيد بن الأصم لم يدرك عليا؛ ومثل هذا لا يصح، والله أعلم‏.‏

وقد رواه أبو إسماعيل الترمذي‏:‏ حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا صالح بن أبي الأسود، عن محفوظ بن عبد الله الحضرمي، عن محمد بن يحيى، قال‏:‏ بينما علي بن أبي طالب يطوف بالكعبة إذا هو برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول‏:‏ يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا يغلطه السائلون، ويا من لا يتبرم بإلحاح الملحين، ارزقني برد عفوك وحلاوة رحمتك‏.‏

قال‏:‏ فقال له علي‏:‏ يا عبد الله أعد دعاءك هذا‏.‏

قال‏:‏ وقد سمعته‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فادع به في دبر كل صلاة، فوالذي نفس الخضر بيده لو كانت عليك من الذنوب عدد نجوم السماء، ومطرها، وحصباء الأرض، وترابها لغفر لك أسرع من طرفة عين‏.‏ وهذا أيضا منقطع وفي إسناده من لا يعرف، والله أعلم‏.‏

وقد أورد ابن الجوزي من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا يعقوب بن يوسف، حدثنا مالك بن إسماعيل فذكر نحوه‏.‏

ثم قال‏:‏ وهذا إسناد مجهول منقطع وليس فيه ما يدل على أن الرجل الخضر‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر‏:‏ أنبأنا أبو القاسم بن الحصين، أنبأنا أبو طالب محمد بن محمد، أنبأنا أبو إسحق المزكي، حدثنا محمد بن إسحق بن خزيمة، حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد أملاه علينا بعبادان، أنبأنا عمرو بن عاصم، حدثنا الحسن بن زريق، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال‏:‏

ولا أعلمه إلا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏

‏(‏‏(‏يلتقي الخضر وإلياس كل عام في الموسم، فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه، ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات‏:‏ بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله، ما شاء الله لا يصرف الشر إلا الله، ما شاء الله ما كان من نعمة فمن الله، ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ من قالهن حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات، آمنه الله من الغرق والحق والسرق‏.‏ قال‏:‏ وأحسبه قال‏:‏ ومن الشيطان، والسلطان، والحية، والعقرب‏.‏

قال الدارقطني في الأفراد‏:‏ هذا حديث غريب من حديث ابن جريج لم يحدث به غير هذا الشيخ عنه، يعني الحسن بن زريق هذا‏.‏

وقد روى عنه محمد بن كثير العبدي أيضا، ومع هذا قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي‏:‏ ليس بالمعروف‏.‏

وقال الحافظ أبو جعفر العقيلي‏:‏ مجهول وحديثه غير محفوظ‏.‏

وقال أبو الحسن بن المنادي‏:‏ هو حديث واه بالحسن بن زريق‏.‏

وقد روى ابن عساكر نحوه من طريق علي بن الحسن الجهضمي، وهو كذاب عن ضمرة بن حبيب المقدسي، عن أبيه، عن العلاء بن زياد القشيري، عن عبد الله بن الحسن عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب مرفوعاً قال‏:‏ يجتمع كل يوم عرفة بعرفات جبريل، وميكائيل، وإسرافيل والخضر‏.‏ وذكر حديثا طويلاً موضوعاً تركنا إيراده قصدا، ولله الحمد‏.‏

وروى ابن عساكر من طريق هشام بن خالد، عن الحسن بن يحيى الخشني، عن ابن أبي رواد، قال‏:‏ إلياس والخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس، ويحجان في كل سنة، ويشربان من ماء زمزم شربة واحدة تكفيهما إلى مثلها من قابل‏.‏

وروى ابن عساكر أن الوليد بن عبد الملك بن مروان، باني جامع دمشق، أحب أن يتعبد ليلة في المسجد، فأمر القوم أن يخلوه له ففعلوا، فلما كان من الليل جاء من باب الساعات فدخل الجامع، فإذا رجل قائم يصلي فيما بينه وبين باب الخضراء، فقال للقوم‏:‏ ألم آمركم أن تخلوه‏؟‏

فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين، هذا الخضر يجيء كل ليلة يصلي ههنا‏.‏

وقال ابن عساكر أيضا‏:‏ أنبأنا أبو القاسم بن إسماعيل بن أحمد، أنبأنا أبو بكر بن الطبري، أنبأنا أبو الحسين بن الفضل، أنبأنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب - هو ابن سفيان الفسوي - حدثني محمد بن عبد العزيز حدثنا حمزة، عن السري بن يحيى، عن رباح بن عبيدة، قال‏:‏ رأيت رجلا يماشي عمر بن عبد العزيز معتمدا على يديه، فقلت في نفسي‏:‏

إن هذا الرجل حافي، قال‏:‏ فلما انصرف من الصلاة‏.‏

قلت‏:‏ من الرجل الذي كان معتمدا على يدك آنفا‏؟‏

قال‏:‏ وهل رأيته يا رباح‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ما أحسبك إلا رجلاً صالحاً ذاك أخي الخضر بشرني أني سألي وأعدل‏.‏

قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي‏:‏ الرملي مجروح عند العلماء‏.‏

وقد قدح أبو الحسين بن المنادى في ضمرة والسرى ورباح، ثم أورد من طرق أخر، عن عمر بن عبد العزيز أنه اجتمع بالخضر وضعفها كلها‏.‏

وروى ابن عساكر أيضا‏:‏ أنه اجتمع بإبراهيم التيمي، وبسفيان بن عيينة، وجماعة يطول ذكرهم‏.‏

وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم، وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جداً لا يقوم بمثلها حجة في الدين، والحكايات لا يخلو أكثرها عن ضعف في الإسناد، وقصراها أنها صحيحة إلى من ليس بمعصوم من صحابي أو غيره، لأنه يجوز عليه الخطأ والله أعلم‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا معمر، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا سعيد قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما حديثاً طويلاً عن الدجال‏.‏ وقال فيما يحدثنا‏:‏

‏(‏‏(‏يأتي الدجال - وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة - فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس، أو من خيرهم‏.‏

فيقول له‏:‏ أشهد أنك أنت الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه‏.‏

فيقول الدجال‏:‏ أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر‏؟‏

فيقولون‏:‏ لا‏.‏

فيقتله ثم يحييه، فيقول حين يحيى‏:‏ والله ما كنت أشد بصيرة فيك مني الآن‏.‏

قال‏:‏ فيريد قتله الثانية فلا يسلط عليه‏)‏‏)‏‏.‏

قال معمر‏:‏ بلغني أنه يجعل على حلقه صحيفة من نحاس، وبلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه، وهذا الحديث مخرج في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث الزهري به‏.‏ ‏

وقال أبو اسحق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الراوي، عن مسلم‏:‏ الصحيح أن يقال‏:‏ إن هذا الرجل الخضر، وقول معمر، وغيره‏:‏ بلغني ليس فيه حجة، وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث، فيأتي بشاب ممتلىء شباب فيقتله، وقوله الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتضي المشافهة بل يكفي التواتر‏.‏

وقد تصدى الشيخ أبو الفرج بن الجوزي - رحمه الله - في كتابه ‏(‏عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر‏)‏ للأحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات، فبين أنها موضوعات، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم، فبين ضعف أسانيدها ببيان أحوالها، وجهالة رجالها، وقد أجاد في ذلك وأحسن الانتقاد‏.‏

وأما الذين ذهبوا إلى أنه قد مات، ومنهم‏:‏ البخاري، وإبراهيم الحربي، وأبو الحسين بن المنادي، والشيخ أبو الفرج بن الجوزي، وقد انتصر لذلك، وألف فيه كتاباً سماه‏:‏ ‏(‏عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر‏)‏ فيحتج لهم بأشياء كثيرة، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ‏} ‏[‏الأنبياء‏:‏ 34‏]‏‏.‏

فالخضر إن كان بشراً فقد دخل في هذا العموم لا محالة، ولا يجوز تخصيصه منه إلا بدليل صحيح‏.‏ انتهى‏.‏

والأصل عدمه حتى يثبت‏.‏

ولم يذكر ما فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قبوله‏.‏ ومنها‏:‏ أن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه‏.‏ وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق، لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وينصرنه‏.‏ ذكره البخاري عنه‏.‏

فالخضر إن كان نبياً أو ولياً، فقد دخل في هذا الميثاق، فلو كان حياً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أشرف أحواله، أن يكون بين يديه يؤمن بما أنزل الله عليه، وينصره أن يصل أحد من الأعداء إليه، لأنه إن كان ولياً فالصديق أفضل منه، وإن كان نبياً فموسى أفضل منه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 391‏)‏

وقد روى الإمام أحمد في ‏(‏مسنده‏)‏‏:‏ حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا هشيم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الذي يقطع به، ويعلم من الدين علم الضرورة‏.‏

وقد دلت عليه هذه الآية الكريمة أن الأنبياء كلهم لو فرض أنهم أحياء مكلفون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكانوا كلهم أتباعاً له، وتحت أوامره، وفي عموم شرعه‏.‏

كما أنه صلوات الله وسلامه عليه، لما اجتمع معهم ليلة الإسراء، رفع فوقهم كلهم، ولما هبطوا معه إلى بيت المقدس، وحانت الصلاة، أمره جبريل عن أمر الله أن يؤمهم، فصلى بهم في محل ولايتهم، ودار إقامتهم، فدل على أنه الإمام الأعظم، والرسول الخاتم المبجل المقدم، صلوات الله وسلامه عليه، وعليهم أجمعين‏.‏

فإذا علم هذا - وهو معلوم عند كل مؤمن - علم أنه لو كان الخضر حياً لكان من جملة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وممن يقتدي بشرعه لا يسعه إلا ذلك‏.‏

هذا عيسى بن مريم عليه السلام، إذا نزل في آخر الزمان بحكم بهذه الشريعة المطهرة، لا يخرج منها ولا يحيد عنها، وهو أحد أولي العزم الخمسة المرسلين، وخاتم أنبياء بني إسرائيل، والمعلوم أن الخضر لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن النفس إليه، أنه اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد، ولم يشهد معه قتالاً في مشهد من المشاهد‏.‏

وهذا يوم بدر يقول الصادق المصدوق، فيما دعا به لربه عز وجل، واستنصره، واستفتحه على من كفره‏:‏

‏(‏‏(‏اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض‏)‏‏)‏‏.‏

وتلك العصابة كان تحتها سادة المسلمين يومئذ، وسادة الملائكة حتى جبريل عليه السلام، كما قال حسان بن ثابت في قصيدة له في بيت يقال إنه أفخر بيت قالته العرب‏:‏

وثبير بدر إذ يرد وجوههم * جبريل تحت لوائنا ومحمد

فلو كان الخضر حياً لكان وقوفه تحت هذه الراية أشرف مقاماته، وأعظم غزواته‏.‏

قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي‏:‏ سئل بعض أصحابنا عن الخصر هل مات‏؟‏

فقال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ وبلغني مثل هذا عن أبي طاهر بن الغباري‏.‏

قال‏:‏ وكان يحتج بأنه لو كان حياً لجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ نقله ابن الجوزي في العجالة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهل يقال إنه كان حاضراً في هذه المواطن كلها‏؟‏ ولكن لم يكن أحد يراه‏.‏

فالجواب‏:‏ أن الأصل عدم هذا الاحتمال البعيد، الذي يلزم منه تخصيص العموميات بمجرد التوهمات‏.‏

ثم ما الحاصل له على هذا الاختفاء، وظهوره أعظم لأجره وأعلى في مرتبته، وأظهر لمعجزته‏؟‏ ‏

ثم لو كان باقياً بعده لكان تبليغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحاديث النبوية، والآيات القرآنية، وإنكاره لما وقع من الأحاديث المكذوبة، والروايات المقلوبة، والآراء البدعية، والأهواء العصبية، وقتاله مع المسلمين في غزواتهم، وشهوده جمعه وجماعاتهم، ونفعه إياهم، ودفعه الضرر عنهم ممن سواهم، وتسديده العلماء والحكام، وتقريره الأدلة والأحكام، أفضل ما يقال عنه من كنونه في الأمصار، وجوبه الفيافي والأقطار‏.‏

واجتماعه بعباد لا يعرف أحوال كثير منهم، وجعله لهم كالنقيب المترجم عنهم‏.‏ وهذا الذي ذكرناه لا يتوقف أحد فيه بعد التفهيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏.‏

ومن ذلك ما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ وغيرهما، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى ليلة العشاء ثم قال‏:‏

‏(‏‏(‏أرأيتم ليلتكم هذه، فإنه إلى مائة سنة لا يبقى ممن هو على وجه الأرض اليوم أحد‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏عين تطرف‏)‏‏)‏ قال ابن عمر‏:‏ فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه، وإنما أراد انخرام قرنه‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبدالرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري، قال‏:‏ أخبرني سالم بن عبد الله، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، أن عبد الله بن عمر قال‏:‏ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام، فقال‏:‏

‏(‏‏(‏أرأيتم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجه البخاري، ومسلم من حديث الزهري‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن أبي عدي، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بقليل، أو بشهر‏:‏

‏(‏‏(‏ما من نفس منفوسة، أو ما منكم من نفس اليوم منفوسة يأتي عليها مائة سنة، وهي يومئذ حية‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بشهر‏:‏

‏(‏‏(‏يسألونني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، أقسم بالله ما على الأرض نفس منفوسة اليوم، يأتي عليها مائة سنة‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه مسلم، من طريق أبي نضرة، وأبي الزبير، كل منهما عن جابر بن عبد الله به نحوه‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حدثنا عباد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا أيضاً على شرط مسلم‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ فهذه الأحاديث الصحاح تقطع دابر دعوى حياة الخضر‏.‏ قالوا‏:‏ فالخضر إن لم يكن قد أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما هو المظنون الذي يترقى في القوة إلى القطع، فلا إشكال‏.‏

وإن كان قد أدرك زمانه، فهذا الحديث يقتضي أنه لم يعش بعد مائة سنة، فيكون الآن مفقوداً لا موجوداً، لأنه داخل في هذا العموم، والأصل عدم المخصص له، حتى يثبت بدليل صحيح يجب قبوله، والله أعلم‏.‏ ‏

وقد حكى الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتابه ‏(‏التعريف والأعلام‏)‏ عن البخاري، وشيخه أبي بكر ابن العربي أنه أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مات بعده، لهذا الحديث‏.‏ وفي كون البخاري رحمه الله يقول بهذا، وأنه بقي إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم نظر‏.‏

ورجح السهيلي بقاءه، وحكاه عن الأكثرين قال‏:‏ وأما اجتماعهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعزيته لأهل البيت بعده، فمروى من طرق صحاح، ثم ذكر ما تقدم مما ضعفناه، ولم يورد أسانيدها، والله أعلم‏.‏

 وأما إلياس عليه السلام

فقال الله تعالى بعد قصة موسى وهارون من سورة الصافات‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 123-132‏]‏

قال علماء النسب‏:‏ هو إلياس التشبي، ويقال‏:‏ ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون‏.‏ وقيل‏:‏ إلياس بن العازر بن العيزار بن هارون بن عمران‏.‏

قالوا‏:‏ وكان إرساله إلى أهل بعلبك غربي دمشق، فدعاهم إلى الله عز وجل، وأن يتركوا عبادة صنم لهم، كانوا يسمونه بعلا‏.‏

وقيل‏:‏ كانت امرأة اسمها بعل، والأول أصح‏.‏

ولهذا قال لهم‏:‏ ‏{‏أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ‏}‏ فكذبوه وخالفوه، وأرادوا قتله‏.‏ فيقال‏:‏ إنه هرب منهم، واختفى عنهم‏.‏

قال أبو يعقوب الأذرعي، عن يزيد بن عبد الصمد، عن هشام بن عمار قال‏:‏ وسمعت من يذكر عن كعب الأحبار أنه قال‏:‏ إن إلياس اختفى من ملك قومه في الغار، الذي تحت الدم عشر سنين، حتى أهلك الله الملك، وولي غيره، فأتاه إلياس فعرض عليه الإسلام فأسلم، وأسلم من قومه خلق عظيم غير عشرة آلاف منهم، فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثني أبو محمد القاسم بن هاشم، حدثنا عمر بن سعيد الدمشقي، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن بعض مشيخة دمشق قال‏:‏ أقام إلياس عليه السلام هارباً من قومه في كهف جبل، عشرين ليلة - أو قال‏:‏ أربعين ليلة - تأتيه الغربان برزقه‏.‏

وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي‏:‏ أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه قال‏:‏ أول نبي بعث إدريس، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم إسماعيل وإسحاق، ثم يعقوب، ثم يوسف، ثم لوط، ثم هود، ثم صالح، ثم شعيب، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم إلياس التشبي بن العازر بن هارون بن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام‏.‏ هكذا قال وفي هذا الترتيب نظر‏.‏

وقال مكحول عن كعب‏:‏ أربعة أنبياء أحياء‏:‏ اثنان في الأرض، إلياس والخضر، واثنان في السماء‏:‏ إدريس وعيسى عليهما السلام، وقد قدمنا قول من ذكر أن إلياس والخضر يجتمعان في كل عام، في شهر رمضان ببيت المقدس، وأنهما يحجان كل سنة، ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من العام المقبل‏.‏ وأوردنا الحديث الذي فيه‏:‏ أنهما يجتمعان بعرفات كل سنة‏.‏ وبينا أنه لم يصح شيء من ذلك، وأن الذي يقوم عليه الدليل‏:‏ أن الخضر مات، وكذلك إلياس عليهما السلام‏.‏

وما ذكره وهب بن منبه، وغيره‏:‏ أنه لما دعا ربه عز وجل أن يقبضه إليه لما كذبوه وآذوه، فجاءته دابة لونها لون النار، فركبها وجعل الله له ريشاً، وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، وصار ملكياً بشرياً، سماوياً أرضياً، وأوصى إلى اليسع بن أخطوب، ففي هذا نظر، وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب، بل الظاهر أن صحتها بعيدة، والله أعلم‏.‏

فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو أحمد بن سعيد المعداني ببخارى، حدثنا عبد الله بن محمود، حدثنا عبدان بن سنان، حدثني أحمد بن عبد الله البرقي، حدثنا يزيد بن يزيد البلوي، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي، عن مكحول، عن أنس بن مالك قال‏:‏

كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلا فإذا رجل في الوادي يقول‏:‏ اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، المرحومة المغفورة المثاب لها، قال فأشرفت على الوادي، فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع، فقال لي‏:‏ من أنت‏؟‏

فقلت‏:‏ أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ فأين هو‏؟‏

قلت‏:‏ هو ذا يسمع كلامك‏.‏

قال‏:‏ فأته فأقرئه السلام، وقل له‏:‏ أخوك إلياس يقرئك السلام

قال‏:‏ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فجاء حتى لقيه فعانقه وسلم، ثم قعدا يتحادثان، فقال له‏:‏ يا رسول الله إني ما آكل في سنة إلا يوماً، وهذا يوم فطري فآكل أنا وأنت‏.‏

قال‏:‏ فنزلت عليهما مائدة من السماء، عليها خبز وحوت وكرفس، فـأكلا وأطعماني، وصلينا العصر، ثم ودعه ثم رأيته مر في السحاب نحو السماء‏.‏ ‏

فقد كفانا البيهقي أمره، وقال‏:‏ هذا حديث ضعيف بمرة، والعجب أن الحاكم أبا عبد الله النيسابوري أخرجه في ‏(‏مستدركه‏)‏ على ‏(‏الصحيحين‏)‏، وهذا مما يستدرك به على ‏(‏مستدركه‏)‏، فإنه حديث موضوع، مخالف للأحاديث الصحاح من وجوه‏.‏

ومعناه لا يصح أيضاً، فقد تقدم في ‏(‏الصحيحين‏)‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن الله خلق آدم طوله ستون ذراعاً في السماء‏)‏‏)‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن‏)‏‏)‏‏.‏

وفيه أنه لم يأت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان هو الذي ذهب إليه‏.‏ وهذا لا يصح لأنه كان أحق بالسعي إلى بين يدي خاتم الأنبياء، وفيه أنه يأكل في السنة مرة، وقد تقدم عن وهب أنه سلبه الله لذة المطعم والمشرب، وفيما تقدم عن بعضهم أنه يشرب من زمزم كل سنة شربة تكفيه إلى مثلها من الحول الآخر‏.‏

وهذه أشياء متعارضة، وكلها باطلة، لا يصح شيء منها‏.‏

وقد ساق ابن عساكر هذا الحديث من طريق أخرى، واعترف بضعفها، وهذا عجب منه، كيف تكلم عليه فإنه أورده من طريق حسين بن عرفة، عن هانىء بن الحسن، عن بقية، عن الأوزاعي، عن مكحول، عن واثلة، عن ابن الأسقع فذكر نحو هذا مطولاً‏.‏

وفيه أن ذلك كان في غزوة تبوك وأنه بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان قالا‏:‏ فإذا هو أعلى جسماً بذراعين أو ثلاثة، واعتذر بعدم قدرته لئلا تنفر الإبل‏.‏

وفيه أنه لما اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلا من طعام الجنة، وقال‏:‏ إن لي في كل أربعين يوماً أكلة، وفي المائدة خبز ورمان وعنب وموز ورطب وبقل، ما عدا الكراث‏.‏

وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن الخضر فقال‏:‏ عهدي به عام أول، وقال لي‏:‏ إنك ستلقاه قبلي، فأقرئه مني السلام‏.‏

وهذا يدل على أن الخضر وإلياس بتقدير وجودهما، وصحة هذا الحديث، لم يجتمعا به إلى سنة تسع من الهجرة، وهنا لا يسوغ شرعاً، وهذا موضوع أيضاً، وقد أورد ابن عساكر طرقاً فيمن اجتمع بإلياس من العباد، وكلها لا يفرح بها لضعف إسنادها، أو لجهالة المسند إليه فيها‏.‏

ومن أحسنها ما قال أبو بكر بن أبي الدنيا‏:‏ حدثني بشر بن معاذ، حدثنا حماد بن واقد، عن ثابت قال‏:‏ كنا مع مصعب بن الزبير بسواد الكوفة، فدخلت حائطاً أصلي فيه ركعتين، فافتتحت ‏{‏حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 1-3‏]‏ فإذا رجل من خلفي على بغلة شهباء، عليه مقطعات يمنية، فقال لي‏:‏ إذا قلت غافر الذنب فقل‏:‏ يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي‏.‏

وإذا قلت‏:‏ قابل التوب، فقل‏:‏ يا قابل التوب تقبل توبتي‏.‏

وإذا قلت‏:‏ شديد العقاب، فقل‏:‏ يا شديد العقاب لا تعاقبني‏.‏

وإذا قلت‏:‏ ذي الطول، فقل‏:‏ يا ذا الطول تطول علي برحمة‏.‏ فالتفت فإذا لا أحد، وخرجت فسألت مر بكم رجل على بغلة شهباء عليه مقطعات يمنية‏؟‏ ‏‏

فقالوا‏:‏ ما مر بنا أحد، فكانوا لا يرون إلا أنه إلياس‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ‏} ‏[‏الصافات‏:‏ 127‏]‏ أي‏:‏ للعذاب إما في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة‏.‏ والأول أظهر، على ما ذكره المفسرون والمؤرخون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ‏} ‏[‏الصافات‏:‏ 128‏]‏ أي‏:‏ إلا من آمن منهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ‏} ‏[‏الصافات‏:‏ 129‏]‏ أي‏:‏ أبقينا بعده ذكراً حسناً له في العالمين، فلا يذكر إلا بخير ولهذا قال‏:‏ ‏{‏سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 130‏]‏ أي‏:‏ سلام على إلياس‏.‏

العرب تلحق النون في أسماء كثيرة، وتبدلها من غيرها، كما قالوا‏:‏ إسماعيل وإسماعين، وإسرائيل واسرائين، وإلياس وإلياسين، ومن قرأ‏:‏ سلام على آل ياسين أي‏:‏ على آل محمد، وقرأ ابن مسعود، وغيره‏:‏ سلام على إدراسين‏.‏

ونقل عنه من طريق إسحاق، عن عبيدة بن ربيعة، عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ إلياس هو إدريس، وإليه ذهب الضحاك بن مزاحم، وحكاه قتادة، ومحمد بن إسحاق‏.‏ والصحيح أنه غيره كما تقدم، والله أعلم‏.‏