الجزء الثاني - كتاب أخبار الماضين من بني إسرائيل وغيرهم، إلى آخر زمن الفترة سوى أيام العرب وجاهليتهم

كتاب أخبار الماضين من بني إسرائيل وغيرهم، إلى آخر زمن الفترة سوى أيام العرب وجاهليتهم

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 99‏]‏

وقال‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏‏.‏ ‏(

 خبر ذي القرنين

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً‏}‏‏.‏‏[‏الكهف‏:‏ 83-98‏]‏‏.‏

ذكر الله تعالى ذا القرنين هذا، وأثنى عليه بالعدل، وأنه بلغ المشارق والمغارب، وملك الأقاليم وقهر أهلها، وسار فيهم بالمعدلة التامة، والسلطان المؤيد، المظفر، المنصور، القاهر، المقسط، والصحيح‏:‏ أنه كان ملكاً من الملوك العادلين، وقيل‏:‏ كان نبياً، وقيل‏:‏ رسولاً، وأغرب من قال‏:‏ ملكاً من الملائكة‏.‏

وقد حكى هذا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فإنه سمع رجلاً يقول لآخر‏:‏ يا ذا القرنين، فقال‏:‏ مه ما كفاكم أن تتسموا بأسماء الأنبياء، حتى تسميتم بأسماء الملائكة‏.‏ ذكره السهيلي‏.‏

وقد روى وكيع عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ كان ذو القرنين نبياً‏.‏

وروى الحافظ ابن عساكر من حديث أبي محمد بن أبي نصر، عن أبي إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن أبي ذؤيب، حدثنا محمد بن حماد، أنبأنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذؤيب، عن المقبري، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لا أدري أتبع كان لعينا أم لا، ولا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا، ولا أدري ذو القرنين كان نبياً أم لا‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا غريب من هذا الوجه‏.‏

وقال إسحاق بن بشر‏:‏ عن عثمان بن الساج، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ كان ذو القرنين ملكاً صالحاً، رضي الله عمله، وأثنى عليه في كتابه، وكان منصوراً، وكان الخضر وزيره، وذكر أن الخضر عليه السلام كان على مقدمة جيشه، وكان عنده بمنزلة المشاور، الذي هو من الملك بمنزلة الوزير في إصلاح الناس اليوم‏.‏

وقد ذكر الأزرقي وغيره أن ذا القرنين أسلم على يدي إبراهيم الخليل، وطاف معه بالكعبة المكرمة هو وإسماعيل عليه السلام‏.‏

وروى عن عبيد بن عمير، وابنه عبد الله وغيرهما، أن ذا القرنين حج ماشياً، وأن إبراهيم لما سمع بقدومه تلقاه، ودعا له ورضاه، وأن الله سخر لذي القرنين السحاب يحمله حيث أراد، والله اعلم‏.‏

واختلفوا في السبب الذي سمى به ذا القرنين فقيل‏:‏ لأنه كان له في رأسه شبه القرنين، قال وهب بن منبه‏:‏ كان له قرنان من نحاس في رأسه، وهذا ضعيف‏.‏

وقال بعض أهل الكتاب‏:‏ لأنه ملك فارس والروم، وقيل‏:‏ لأنه بلغ قرني الشمس غرباً وشرقاً، وملك ما بينهما من الأرض، وهذا أشبه من غيره، وهو قول الزهري‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ كانت له غديرتان من شعر يطافهما، فسمي ذي القرنين‏.‏

وقال إسحاق بن بشر، عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه قال‏:‏ دعا ملكاً جباراً إلى الله فضربه على قرنه فكسره ورضه، ثم دعاه فدق قرنه الثاني فكسره، فسمي ذي القرنين‏.‏

وروى الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل، عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن ذي القرنين، فقال‏:‏ كان عبداً ناصح الله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الآخر، فمات فسمي ذا القرنين‏.‏

وهكذا رواه شعبة القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن علي به‏.‏ وفي بعض الروايات عن أبي الطفيل عن علي قال‏:‏ لم يكن نبياً ولا رسولاً ولا ملكاً، ولكن كان عبداً صالحاً‏.‏

وقد اختلف في اسمه‏:‏ فروى الزبير بن بكار عن ابن عباس‏:‏ كان اسمه عبد الله بن الضحاك بن معد، وقيل‏:‏ مصعب بن عبد الله بن قنان بن منصور بن عبد الله بن الأزد بن عون بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن قحطان‏.‏

وقد جاء في حديث‏:‏ أنه كان من حمير، وأمه رومية، وأنه كان يقال له ابن الفيلسوف لعقله‏.‏ وقد أنشد بعض الحميريين في ذلك شعراً يفتخر بكونه أحد أجداده، فقال‏:‏

قد كان ذو القرنين جدي مسلماً * ملكاً تدين له الملوك وتحشد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي * أسباب أمر من حكيم مرشد

فرأى مغيب الشمس عند غروبها * في عين ذي خلب وثأط حرمد

من بعده بلقيس كانت عمتي * ملكتهم حتى أتاها الهدهد

قال السهيلي‏:‏ وقيل‏:‏ كان اسمه مرزبان بن مرزبة‏.‏ ذكره ابن هشام‏.‏ وذكر في موضع آخر أن اسمه الصعب بن ذي مرائد، وهو أول التبابعة، وهو الذي حكم لإبراهيم في بئر السبع‏.‏

وقيل‏:‏ إنه أفريدون بن أسفيان الذي قتل الضحاك، وفي خطبة قس‏:‏ يا معشر إياد بن الصعب ذو القرنين، ملك الخافقين، وأذل الثقلين، وعمر ألفين، ثم كان كلحظة عين، ثم أنشد ابن هشام للأعشى‏:‏

والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا * بالجنو في جدث أشم مقيما

وذكر الدارقطني، وابن ماكولا أن اسمه هرمس، ويقال‏:‏ هرويس بن قيطون بن رومى بن لنطى بن كشلوخين بن يونان بن يافث بن نوح، فالله اعلم‏.‏

وقال إسحاق بن بشر‏:‏ عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال اسكندر‏:‏ هو ذو القرنين، وأبوه أول القياصرة، وكان من ولد سام بن نوح عليه السلام، فأما ذو القرنين الثاني فهو‏:‏ اسكندر بن فيلبس بن مصريم بن هرمس بن ميطون بن رومي بن لنطي بن يونان بن يافث بن يونة بن شرخون بن رومة بن شرفط بن توفيل بن رومي بن الأصفر بن يقز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، الخليل كذا نسبه الحافظ ابن عساكر في تاريخه‏.‏

المقدوني اليوناني المصري باني إسكندرية، الذي يؤرخ بأيامه الروم، وكان متأخراً عن الأول بدهر طويل، كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة، وكان أرطاطاليس الفيلسوف وزيره، وهو الذي قتل دارا بن دارا، وأذل ملوك الفرس، وأوطأ أرضهم‏.‏

وإنما نبهنا عليه لأن كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن، هو الذي كان أرطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير، وفساد عريض طويل كثير، فإن الأول‏:‏ كان عبداً مؤمناً صالحاً وملكاً عادلاً، وكان وزيره الخضر، وقد كان نبياً على ما قررناه قبل هذا‏.‏

وأما الثاني‏:‏ فكان مشركاً، وكان وزيره فيلسوفاً، وقد كان بين زمانهما أزيد من ألفي سنة، فأين هذا من هذا لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ‏}‏ كان سببه أن قريشاً سألوا اليهود عن شيء يمتحنون به علم سول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لهم‏:‏ سلوه عن رجل طوَّاف في الأرض، وعن فتية خرجوا لا يدري ما فعلوا، فأنزل الله تعالى قصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً‏}‏ أي‏:‏ من خبره وشأنه‏.‏

‏{‏ذِكْراً‏}‏ أي‏:‏ خبراً نافعاً كافياً في تعريف أمره، وشرح حاله، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً‏}‏ أي‏:‏ وسعنا مملكته في البلاد، وأعطيناه من آلات المملكة ما يستعين به على تحصيل ما يحاوله من المهمات العظيمة، والمقاصد الجسيمة‏.‏

قال قتيبة‏:‏ عن أبي عوانة، عن سماك، عن حبيب بن حماد، قال‏:‏ كنت عند علي بن أبي طالب، وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب‏؟‏

فقال له‏:‏ سخر له السحاب، ومدت له الأسباب، وبسط له في النور، فكان الليل و النهار عليه سواء‏.‏

وقال‏:‏ أزيدك، فسكت الرجل، وسكت علي رضي الله عنه‏.‏ ‏

وعن أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن عبد الله الوادعي، سمعت معاوية يقول‏:‏ ملك الأرض أربعة‏:‏ سليمان بن داود النبي عليهما السلام، وذو القرنين، ورجل من أهل حلوان، ورجل آخر‏.‏

فقيل له الخضر‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ حدثني إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن الضحاك، عن أبيه، عن سفيان الثوري قال‏:‏ بلغني أنه ملك الأرض كلها أربعة‏:‏ مؤمنان وكافران، سليمان النبي، وذو القرنين، و نمرود، وبخت نصر‏.‏ وهكذا قال سعيد بن بشير سواء‏.‏

وقال إسحاق بن بشر‏:‏ عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن قال‏:‏ كان ذو القرنين ملك بعد النمرود، وكان من قصته أنه كان رجلاً مسلماً صالحاً، أتى المشرق والمغرب، مدَّ الله له في الأجل، ونصره حتى قهر البلاد، واحتوى على الأموال، وفتح المدائن، وقتل الرجال، وجال في البلاد والقلاع، فسار حتى أتى المشرق والمغرب‏.‏

فذلك قول الله‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً‏}‏ أي‏:‏ خبراً ‏{‏إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً‏}‏ أي‏:‏ علماً بطلب أسباب المنازل‏.‏

قال إسحاق‏:‏ وزعم مقاتل أنه كان يفتح المدائن ويجمع الكنوز، فمن اتبعه على دينه وتابعه عليه وإلا قتله‏.‏

وقال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعبيد بن يعلى، والسدي، وقتادة، والضحاك‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً‏}‏ يعني‏:‏ علما‏.‏

وقال قتادة ومطر الوراق‏:‏ معالم الأرض ومنازلها وأعلامها وآثارها‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ يعني تعليم الألسنة، كان لا يغزو قوماً إلا حدثهم بلغتهم‏.‏

والصحيح أنه يعم كل سبب يتوصل به إلى نيل مقصوده في المملكة وغيرها، فإنه كان يأخذ من كل إقليم من الأمتعة والمطاعم والزاد ما يكفيه، ويعينه على أهل الإقليم الآخر‏.‏

وذكر بعض أهل الكتاب أنه مكث ألفاً وستمائة سنة، يجوب الأرض ويدعو أهلها إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي كل هذه المدة نظر، والله أعلم‏.‏

وقد روى البيهقي، وابن عساكر حديثاً متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً‏}‏ مطولاً جداً، وهو منكر جداً، وفي إسناده محمد بن يونس الكديمي، وهو متهم، فلهذا لم نكتبه لسقوطه عندنا، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعَ سَبَباً‏}‏ أي‏:‏ طريقاً ‏{‏حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ‏}‏ يعني من الأرض انتهى إلى حيث لا يمكن أحداً أن يجاوزه، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له أوقيانوس، الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات، التي هي مبدأ الأطوال على أحد قولي أرباب الهيئة، والثاني من ساحل هذا البحر كما قدمنا، وعنده شاهد مغيب الشمس فيما رآه بالنسبة إلى مشاهدته‏.‏

‏{‏تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ‏}‏ والمراد بها‏:‏ البحر في نظره، فإن من كان في البحر أو على ساحله يرى الشمس كأنها تطلع من البحر وتغرب فيه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَجَدَهَا‏}‏ أي‏:‏ في نظره، ولم يقل‏:‏ فإذا هي تغرب في عين حمئة أي‏:‏ ذات حمأة‏.‏ ‏

قال كعب الأحبار‏:‏ وهو الطين الأسود، وقرأه بعضهم‏:‏ حامية، فقيل‏:‏ يرجع إلى الأول، وقيل‏:‏ من الحرارة، وذلك من شدة المقابلة لوهج ضوء الشمس وشعاعها‏.‏

وقد روى الإمام أحمد عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب‏:‏ حدثني مولى لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله قال‏:‏ نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت فقال‏:‏

‏(‏‏(‏في نار الله الحامية، لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض‏)‏‏)‏‏.‏

فيه غرابة، وفيه رجل مبهم لم يسم، ورفعه فيه نظر، وقد يكون موقوفاً من كلام عبد الله بن عمرو، فإنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب المتقدمين، فكان يحدث منها، والله أعلم‏.‏

ومن زعم من القصَّاص أن ذا القرنين جاوز مغرب الشمس، وصار يمشي بجيوشه في ظلمات مدداً طويلة، فقد أخطأوا بعد النجعة، وقال ما يخالف العقل والنقل‏.‏

بيان طلب ذي القرنين عين الحياة

وقد ذكر ابن عساكر من طريق وكيع، عن أبيه، عن معتمر بن سليمان، عن أبي جعفر الباقر، عن أبيه زين العابدين خبراً مطولاً جداً فيه‏:‏ أن ذا القرنين كان له صاحب من الملائكة يقال له رناقيل، فسأله ذو القرنين هل تعلم في الأرض عيناً يقال لها عين الحياة‏؟‏

فذكر له صفة مكانها، فذهب ذو القرنين في طلبها، وجعل الخضر على مقدمته، فانتهى الخضر إليها في واد في أرض الظلمات، فشرب منها ولم يهتد ذو القرنين إليها‏.‏

وذكر اجتماع ذي القرنين ببعض الملائكة في قصر هناك، وأنه أعطاه حجراً، فلما رجع إلى جيشه سأل العلماء عنه، فوضعوه في كفة ميزان وجعلوا في مقابلته ألف حجر مثله فوزنها، حتى سأل الخضر فوضع قباله حجراً وجعل عليه حفنة من تراب فرجح به‏.‏

وقال‏:‏ هذا مثل ابن آدم لا يشبع حتى يوارى بالتراب، فسجد له العلماء تكريماً له وإعظاماً، والله أعلم‏.‏

ثم ذكر تعالى أنه حكم في أهل تلك الناحية‏:‏ ‏{‏قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 86- 87‏]‏ أي‏:‏ فيجتمع عليه عذاب الدنيا والآخرة، وبدأ بعذاب الدنيا لأنه أزجر عند الكافر‏.‏

{‏وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 89‏]‏ فبدأ بالأهم وهو ثواب الآخرة، وعطف عليه الإحسان منه إليه، وهذا هو العدل والعلم والإيمان‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً‏}‏ أي‏:‏ سلك طريقاً راجعاً من المغرب إلى المشرق، فيقال‏:‏ إنه رجع في ثنتي عشر سنة

{‏حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً‏}‏ أي‏:‏ ليس لهم بيوت ولا أكنان يستترون بها من حر الشمس، قال كثير من العلماء‏:‏ ولكن كانوا يأوون إذا اشتد عليهم الحر إلى أسراب قد اتخذوها في الأرض شبه القبور‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً‏} أي‏:‏ ونحن نعلم ما هو عليه ونحفظه ونكلؤه بحراستنا في مسيره ذلك كله من مغارب الأرض إلى مشارقها‏.‏

وقد روي عن عبيد بن عمير، وابنه عبد الله، وغيرهما من السلف‏:‏ أن ذا القرنين حج ماشياً، فلما سمع إبراهيم الخليل بقدومه تلقاه، فلما اجتمعا دعا له الخليل ووصاه بوصايا، ويقال‏:‏ إنه جيء بفرس ليركبها فقال‏:‏ لا أركب في بلد فيه الخليل، فسخر الله له السحاب وبشره إبراهيم بذلك، فكانت تحمله إذا أراد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً‏} ‏[‏الكهف‏:‏ 92-93‏]‏ يعني غشماً‏.‏ يقال‏:‏ إنهم هم الترك أبناء عم يأجوج ومأجوج‏.‏ فذكروا له أن هاتين القبيلتين قد تعدوا عليهم وأفسدوا في بلادهم، وقطعوا السبل عليهم، وبذلوا له حملاً وهو الخراج، على أن يقيم بينهم وبينهم حاجزاً يمنعهم من الوصول إليهم، فامتنع من أخذ الخراج اكتفاء بما أعطاه الله من الأموال الجزيلة‏.‏

{‏قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ‏}‏ ثم طلب منهم أن يجمعوا له رجالاً وآلات ليبني بينهم وبينهم سداً، وهو الردم بين الجبلين وكانوا لا يستطيعون الخروج إليهم إلا من بينهما، وبقية ذلك بحار مغرقة وجبال شاهقة، فبناه كما قال تعالى من الحديد والقطر وهو النحاس المذاب، وقيل‏:‏ الرصاص‏.‏ والصحيح‏:‏ الأول‏.‏

فجعل بدل اللبن حديداً، وبدل الطين نحاساً، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ‏}‏ أي‏:‏ يعلوا عليه بسلالم ولا غيرها ‏{‏وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً‏}‏ أي‏:‏ بمعاول ولا فؤوس ولا غيرها‏.‏ فقابل الأسهل بالأسهل والأشد بالأشد‏.‏

{‏قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ قدر الله وجوده ليكون رحمة منه بعباده أن يمنع بسببه عدوان هؤلاء القوم على من جاورهم في تلك المحلة‏.‏

{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ الوقت الذي قدر خروجهم على الناس في آخر الزمان ‏{‏جَعَلَهُ دَكَّاءَ‏}‏ أي‏:‏ مساوياً للأرض ولا بد من كون هذا‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً‏}‏‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ‏.‏‏.‏‏.‏‏} الآية ‏[‏الأنبياء‏:‏ 96-97‏]‏‏.‏

ولهذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ‏}‏ يعني‏:‏ يوم فتح السد على الصحيح‏.‏

{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً‏} وقد أوردنا الأحاديث المروية في خروج يأجوج ومأجوج في التفسير، وسنوردها إن شاء الله في كتاب الفتن والملاحم من كتابنا هذا إذا انتهينا إليه، بحول الله وقوته وحسن توفيقه ومعونته وهدايته‏.‏

قال أبو داود الطيالسي، عن الثوري‏:‏ بلغنا أن أول من صافح ذو القرنين، وروي عن كعب الأحبار أنه قال لمعاوية‏:‏ إن ذا القرنين لما حضرته الوفاة أوصى أمه إذا هو مات أن تصنع طعاماً وتجمع نساء أهل المدينة، وتضعه بين أيديهن، وتأذن لهن فيه إلا من كانت ثكلى فلا تأكل منه شيئاً، فلما فعلت ذلك لم تضع واحدة منهن يدها فيه، فقالت لهن‏:‏ سبحان الله كلكن ثكلى‏؟‏ فقلن‏:‏ إي والله، ما منا إلا من أثكلت، فكان ذلك تسلية لأمه‏.‏

وذكر إسحاق بن بشر، عن عبد الله بن زياد، عن بعض أهل الكتاب وصية ذي القرنين وموعظة أمه موعظة بليغة طويلة فيها حكم وأمور نافعة، وأنه مات وعمره ثلاثة آلاف سنة، وهذا غريب‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وبلغني من وجه آخر أنه عاش ستاً وثلاثين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ كان عمره ثنتين وثلاثين سنة، وكان بعد داود بسبعمائة سنة وأربعين سنة، وكان بعد آدم بخمسة آلاف ومائة وإحدى وثمانين سنة، وكان ملكه ست عشرة سنة‏.‏

وهذا الذي ذكره إنما ينطبق على إسكندر الثاني لا الأول، وقد خلط في أول الترجمة وآخرها بينهما، والصواب التفرقة كما ذكرنا اقتداء بجماعة من الحفاظ، والله أعلم‏.‏

وممن جعلهما واحداً الإمام عبد الملك بن هشام راوي السيرة، وقد أنكر ذلك عليه الحافظ أبو القاسم السهيلي رحمه الله إنكاراً بليغاً، ورد قوله رداً شنيعاً، وفرق بينهما تفريقاً جيداً كما قدمنا قال‏:‏ ولعل جماعة من الملوك المتقدمين تسموا بذي القرنين تشبهاً بالأول، والله أعلم‏.‏

 ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم وما ورد من أخبارهم وصفة السد

هم من ذرية آدم بلا خلاف نعلمه، ثم الدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏يقول الله تعالى يوم القيامة يا آدم، فيقول لبيك وسعديك والخبر في يديك، قم فابعث بعث النار من ذريتك‏.‏

فيقول‏:‏ يا رب وما بعث النار‏؟‏

فيقول‏:‏ من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد‏.‏

قال فاشتد ذلك عليهم‏.‏

قالوا‏:‏ يا رسول الله‏:‏ أينا ذلك الواحد‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أبشروا فإن منكم واحداً، ومن يأجوج ومأجوج ألفاً‏}‏

وفي رواية‏:‏

‏(‏‏(‏فقال ابشروا فإن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه‏)‏‏)‏‏.‏ أي‏:‏ غلبتاه كثرة، وهذا يدل على كثرتهم، وأنهم أضعاف الناس مراراً عديدة، ثم هم من ذرية نوح، لأن الله تعالى أخبر أنه استجاب لعبده نوح في دعائه على أهل الأرض بقوله‏:‏ ‏{‏رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً‏}‏‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ‏} ‏[‏العنكبوت‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ‏} ‏[‏الصافات‏:‏ 77‏]‏‏.‏

وتقدم في الحديث المروي في المسند والسنن‏:‏ أن نوحاً ولد له ثلاثة، وهم‏:‏ سام، وحام، ويافث، فسام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك؛ فيأجوج ومأجوج طائفة من الترك، وهم مغل المغول، وهم أشد بأساً وأكثر فساداً من هؤلاء، ونسبتهم إليهم كنسبة هؤلاء إلى غيرهم‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن الترك إنما سموا بذلك حين بنى ذو القرنين السد وألجأ يأجوج ومأجوج إلى ما وراءه، فبقيت منهم طائفة لم يكن عندهم كفسادهم، فتركوا من ورائه، فلهذا قيل لهم‏:‏ الترك‏.‏

ومن زعم أن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم، فاختلطت بتراب، فخلقوا من ذلك، وأنهم ليسوا من حواء، فهو قول حكاه الشيخ أبو زكريا النووي في شرح مسلم وغيره وضعفوه، وهو جدير بذلك، إذ لا دليل عليه، بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع الناس اليوم من ذرية نوح بنص القرآن‏.‏

وهكذا من زعم أنهم على أشكال مختلفة وأطوال متباينة جداً؛ فمنهم من هو كالنخلة السحوق، ومنهم من هو غاية في القصر، ومنهم من يفترش أذناً من أذنيه ويتغطى بالأخرى، فكل هذه أقوال بلا دليل، ورجم بالغيب بغير برهان، والصحيح أنهم من بني آدم وعلى أشكالهم وصفاتهم‏.‏

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً‏)‏‏)‏ ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن‏.‏

وهذا فيصل في هذا الباب وغيره‏.‏ وما قيل من أن أحدهم لا يموت حتى يرى من ذريته ألفاً‏.‏

فإن صح في خبر قلنا به، وإلا فلا نرده، إذ يحتمله العقل والنقل أيضاً قد يرشد إليه، والله أعلم‏.‏ ‏‏

بل قد ورد حديث مصرح بذلك أن صح، قال الطبراني‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصبهاني، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا المغيرة، عن مسلم، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معائشهم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً، وإن من وارئهم ثلاث أمم‏:‏ تاويل، وتاريس، ومنسك‏)‏‏)‏‏.‏

وهو حديث غريب جداً، وإسناده ضعيف، وفيه نكارة شديدة‏.‏

وأما الحديث الذي ذكره ابن جرير في تاريخه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم ليلة الإسراء، فدعاهم إلى الله فامتنعوا من إجابته ومتابعته، وأنه دعا تلك الأمم التي هناك ‏(‏تاريس، وتاويل، ومنسك‏)‏ فأجابوه، فهو حديث موضوع، اختلقه أبو نعيم عمرو بن الصبح، أحد الكذابين الكبار الذين اعترفوا بوضع الحديث، والله أعلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف دلَّ الحديث المتفق عليه أنهم فداء المؤمنين يوم القيامة، وأنهم في النار ولم يبعث إليهم رسل، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ فالجواب أنهم لا يعذبون إلا بعد قيام الحجة عليهم والأعذار إليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏

فإن كانوا في زمن الذي قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم قد أتتهم رسل منهم، فقد قامت على أولئك الحجة، وإن لم يكن قد بعث الله إليهم رسلاً فهم في حكم أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة‏.‏

وقد دل الحديث المروي من طرق عن جماعة من الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن من كان كذلك، يمتحن في عرصات القيامة، فمن أجاب الداعي دخل الجنة، ومن أبى دخل النار‏)‏‏)‏‏.‏

وقد أوردنا الحديث بطرق وألفاظه وكلام الأئمة عليه عند قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏‏.‏

وقد حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري إجماعاً عن أهل السنة والجماعة، وامتحانهم لا يقتضي نجاتهم، ولا ينافي الأخبار عنهم بأنهم من أهل النار، لأن الله يطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يشاء من أمر الغيب‏.‏

وقد اطلعه على أن هؤلاء من أهل الشقاء، وأن سجاياهم تأبى قبول الحق والانقياد له، فهم لا يجيبون الداعي إلى يوم القيامة، فيعلم من هذا أنهم كانوا أشد تكذيباً للحق في الدنيا لو بلغهم فيها، لأن في عرصات القيامة ينقاد خلق ممن كان مكذباً في الدنيا، فإيقاع الإيمان هناك لما يشاهد من الأهوال أولى وأحرى منه في الدنيا، والله أعلم‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا‏} ‏[‏مريم‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وأما الحديث الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏‏)‏ ‏(‏‏(‏دعاهم ليلة الإسراء فلم يجيبوا‏)‏‏)‏‏.‏

فإنه حديث منكر بل موضوع، وضعه عمرو بن الصبح‏.‏ ‏

وأما السد‏:‏ فقد تقدم أن ذا القرنين بناه من الحديد والنحاس، وساوى به الجبال الصم الشامخات الطوال، فلا يعرف على وجه الأرض بناء أجل منه ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم‏.‏

قال البخاري‏:‏ وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم رأيت السد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وكيف رأيته‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ مثل البرد المحبر‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيته هكذا‏)‏‏)‏‏.‏

ذكره البخاري معلقاً بصيغة الجزم، وأره مسنداً من وجه متصل أرتضيه، غير أن ابن جرير رواه في تفسيره مرسلاً فقال‏:‏ حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن رجلاً قال يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏انعته لي‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد رأيته‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ذكر أن الخليفة الواثق بعث رسلاً من جهته، وكتب لهم كتباً إلى الملوك يوصلونهم من بلاد إلى بلاد حتى ينهوا إلى السد، فيكشفوا عن خبره، وينظروا كيف بناه ذو القرنين، على أي صفة‏؟‏ فلما رجعوا أخبروا عن صفته، وأن فيه باباً عظيماً، وعليه أقفال، وأنه بناء محكم شاهق منيف جداً، وأن بقية اللبن الحديد والآلات في برج هناك‏.‏

وذكروا أنه لا يزال هناك حرس لتلك الملوك المتاخمة لتلك البلاد، ومحلته في شرقي الأرض في جهة الشمال في زاوية الأرض الشرقية الشمالية، ويقال‏:‏ إن بلادهم متسعة جداً، وإنهم يقتاتون بأصناف من المعايش من حراثة وزراعة واصطياد من البر ومن البحر، وهم أمم وخلق لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما الجمع بين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً‏}‏ وبين الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت‏:‏ استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوم محمراً وجهه وهو يقول‏:‏

‏(‏‏(‏لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه‏)‏‏)‏‏.‏

وحلق، تسعين‏.‏

قلت يا رسول الله‏:‏ أنهلك وفينا الصالحون‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم إذا كثر الخبث‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ من حديث وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وعقد تسعين‏)‏‏)‏‏.‏

فالجواب أما على قول من ذهب إلى أن هذا إشارة إلى فتح أبواب الشر والفتن، وأن هذا استعارة محضة، وضرب مثل فلا إشكال‏.‏

وأما على قول من جعل ذلك إخباراً عن أمر محسوس كما هو الظاهر المتبادر فلا إشكال أيضاً، لأن قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً‏}‏ ‏

أي‏:‏ في ذلك الزمان لأن هذه صيغة خبر ماض، فلا ينفي وقوعه فيما يستقبل بإذن الله لهم في ذلك قدراً، وتسليطهم عليه بالتدريج قليلاً قليلاً، حتى يتم الأجل وينقضي الأمر المقدور، فيخرجون كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 96‏]‏‏.‏

ولكن الحديث الآخر أشكل من هذا، وهو ما رواه الإمام أحمد في مسنده قائلاً‏:‏ حدثنا روح، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، حدثنا أبو رافع، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرون غداً إن شاء الله ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئة يوم تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس، فيستقون المياه، وتتحصن الناس في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم‏.‏

فيقولون‏:‏ قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفاً في أقفائهم فيقتلهم بها‏)‏‏)‏‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكراً من لحومهم ودمائهم‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أحمد أيضاً عن حسن بن موسى، عن سفيان، عن قتادة به‏.‏ وهكذا رواه ابن ماجه من حديث سعيد، عن قتادة، إلا أنه قال حديث أبو رافع‏.‏

ورواه الترمذي من حديث أبي عوانة، عن قتادة به، ثم قال‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏

فقد أخبر في هذا الحديث أنهم كل يوم يلحسونه حتى يكادوا ينذرون شعاع الشمس من ورائه لرقته، فإن لم يكن رفع هذا الحديث محفوظاً، وإنما هو مأخوذ عن كعب الأحبار، كما قاله بعضهم، فقد استرحنا من المؤنة، وإن كان محفوظاً، فيكون محمولاً على أن صنيعهم هذا يكون في آخر الزمان عند اقتراب خروجهم كما هو المروي عن كعب الأحبار‏.‏

أو يكون المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً‏}‏ أي‏:‏ نافذاً منه فلا ينفي أن يلحسوه ولا ينفذوه، والله أعلم‏.‏

وعلى هذا فيمكن الجمع بين هذا وبين ما في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن أبي هريرة‏:‏

‏(‏‏(‏فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد تسعين‏)‏‏)‏‏.‏

أي‏:‏ فتح فتحاً نافذاً فيه، والله أعلم‏.

 قصة أصحاب الكهف

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً * سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 9-26‏]‏‏.‏

كان سبب نزول قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين، ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة وغيره أن قريشاً بعثوا إلى اليهود يسألونهم عن أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسألونه عنها ليختبروا ما يجيب به فيها، فقالوا‏:‏ سلوه عن أقوام ذهبوا في الدهر فلا يدري ما صنعوا، وعن رجل طواف في الأرض، وعن الروح، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏

{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ‏}‏ وقال ههنا‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً‏}‏ أي‏:‏ ليسوا بعجب عظيم بالنسبة إلى ما أطلعناك عليه من الأخبار العظيمة، والآيات الباهرة، والعجائب الغريبة‏.‏ والكهف‏:‏ هو الغار في الجبل‏.‏ ‏

قال شعيب الجبائي‏:‏ واسم كهفهم حيزم، وأما الرقيم‏:‏ فعن ابن عباس أنه قال لا أدري ما المراد به‏.‏ وقيل‏:‏ هو الكتاب المرقوم فيه أسماؤهم، وما جرى لهم كتب من بعدهم، اختاره ابن جرير وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ هو اسم الجبل الذي فيه كهفهم‏.‏ قال ابن عباس وشعيب الجبائي‏:‏ واسمه بناجلوس‏.‏ وقيل‏:‏ هو اسم واد عند كهفهم‏.‏ وقيل‏:‏ اسم قرية هنالك، والله أعلم‏.‏

قال شعيب الجبائي‏:‏ واسم كلبهم حمران، واعتناء اليهود بأمرهم ومعرفة خبرهم، يدل على أن زمانهم متقدم على ما ذكره بعض المفسرين أنهم كانوا بعد المسيح، وأنهم كانوا نصارى‏.‏

والظاهر من السياق أن قومهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام، قال كثير من المفسرين والمؤرخين وغيرهم‏:‏ كانوا في زمن ملك يقال له‏:‏ دقيانوس، وكانوا من أبناء الأكابر‏.‏ وقيل‏:‏ من أبناء الملوك‏.‏

واتفق اجتماعهم في يوم عيد لقومهم، فرأوا ما يتعاطاه قومهم من السجود للأصنام، والتعظيم للأوثان، فنظروا بعين البصيرة، وكشف الله عن قلوبهم حجاب الغفلة، وألهمهم رشدهم، فعلموا أن قومهم ليسوا على شيء، فخرجوا عن دينهم، وانتموا إلى عبادة الله وحده لا شريك له‏.‏

ويقال‏:‏ إن كل واحد منهم لما أوقع الله في نفسه ما هداه إليه من التوحيد انحاز عن الناس، واتفق اجتماع هؤلاء الفتية في مكان واحد كما صح في ‏(‏البخاري‏)‏‏:‏

‏(‏‏(‏الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف‏)‏‏)‏

فكل منهم سأل الآخر عن أمره، وعن شأنه، فأخبره ما هو عليه، واتفقوا على الانحياز عن قومهم والتبري منهم، والخروج من بين أظهرهم، والفرار بدينهم منهم، وهو المشروع حال الفتن، وظهور الشرور‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ‏}‏ أي‏:‏ بدليل ظاهر على ما ذهبوا إليه، وصاروا من الأمر عليه، {‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً‏}‏‏.‏

{‏وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ‏}‏ أي‏:‏ وإذ فارقتموهم في دينهم، وتبرأتم مما يعبدون من دون الله، وذلك لأنهم كانوا يشركون مع الله كما قال الخليل‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏} ‏[‏الزخرف‏:‏ 26-27‏]‏‏.‏

وهكذا هؤلاء الفتية قال بعضهم‏:‏ إذ قد فارقتم قومكم في دينهم فاعتزلوهم بأبدانكم، لتسلموا منهم أن يوصلوا إليكم شراً ‏{‏فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً‏}‏ أي‏:‏ يسبل عليكم ستره، وتكونوا تحت حفظه وكنفه، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، كما جاء في الحديث‏:‏

‏(‏‏(‏اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ذكر تعالى صفة الغار الذي آووا إليه، وأن بابه موجه إلى نحو الشمال، وأعماقه إلى جهة القبلة، وذلك أنفع الأماكن أن يكون المكان قبلياً، وبابه نحو الشمال فقال‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ‏}‏ وقرىء‏:‏ تزور {‏عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ‏}‏ ‏

فأخبر أن الشمس يعني في زمن الصيف وأشباهه تشرق أول طلوعها في الغار في جانبه الغربي، ثم تشرع في الخروج منه قليلاً قليلاً، وهو ازورارها ذات اليمين، فترتفع في جو السماء وتتقلص عن باب الغار، ثم إذا تضيفت للغروب تشرع في الدخول فيه، من جهته الشرقية قليلاً قليلاً إلى حين الغروب، كما هو المشاهد بمثل هذا المكان‏.‏ والحكمة في دخول الشمس إليه في بعض الأحيان أن لا يفسد هواؤه‏.‏

{‏وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ بقاؤهم على هذه الصفة دهراً طويلاً من السنين، لا يأكلون ولا يشربون، ولا تتغذى أجسادهم في هذه المدة الطويلة من آيات الله، وبرهان قدرته العظيمة‏.‏

{‏مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً‏}‏ قال بعضهم‏:‏ لأن أعينهم مفتوحة لئلا تفسد بطول الغمض ‏{‏وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ‏}‏ قيل في كل عام يتحولون مرة من جنب إلى جنب، ويحتمل أكثر من ذلك، فالله أعلم‏.‏

{‏وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ‏} قال شعيب الجبائي‏:‏ اسم كلبهم حمران، وقال غيره‏:‏ الوصيد، اسكفة الباب، والمراد أن كلبهم الذي كان معهم، وصحبهم حال انفرادهم من قومهم، لزمهم ولم يدخل معهم في الكهف، بل ربض على بابه، ووضع يديه على الوصيد، وهذا من جملة أدبه، ومن جملة ما أكرموا به، فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب‏.‏

ولما كانت التبعية مؤثرة حتى كان في كلب هؤلاء صار باقياً معهم ببقائهم، لأن من أحب قوماً سعد بهم، فإذا كان هذا في حق كلب، فما ظنك بمن تبع أهل الخير وهو أهل للإكرام‏.‏

وقد ذكر كثير من القصاص والمفسرين لهذا الكلب نبأ وخبراً طويلاً أكثره متلقى من الإسرائيليات، وكثير منها كذب، ومما لا فائدة فيه، كاختلافهم في اسمه ولونه‏.‏

وأما اختلاف العلماء في محلة هذا الكهف، فقال كثيرون‏:‏ هو بأرض أيلة، وقيل‏:‏ بأرض نينوى، وقيل‏:‏ بالبلقاء، وقيل‏:‏ ببلاد الروم وهو أشبه، والله أعلم‏.‏

ولما ذكر الله تعالى ما هو الأنفع من خبرهم، والأهم من أمرهم، ووصف حالهم، حتى كأن السامع راءٍ، والمخبر مشاهد لصفة كهفهم وكيفيتهم في ذلك الكهف، وتقلبهم من جنب إلى جنب، وأن كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد‏.‏

قال‏:‏ ‏{‏لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً‏}‏ أي‏:‏ لما عليهم من المهابة والجلالة في أمرهم الذي صاروا إليه، ولعل الخطاب ههنا لجنس الإنسان المخاطب لا بخصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، كقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 7‏]‏ أي‏:‏ أيها الإنسان، وذلك لأن طبيعة البشرية تفر من رؤية الأشياء المهيبة غالباً‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً‏}‏ ودل على أن الخبر ليس كالمعاينة، كما جاء في الحديث لأن الخبر قد حصل، ولم يحصل الفرار ولا الرعب‏.‏

ثم ذكر تعالى أنه بعثهم من رقدتهم بعد نومهم بثلاثمائة سنة وتسع سنين فلما استيقظوا، قال بعضهم لبعض‏:‏ ‏{‏كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ‏} أي‏:‏ بدراهمكم هذه، يعني التي معهم إلى المدينة، ويقال كان اسمها دفسوس‏.‏

{‏فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً‏}‏ أي‏:‏ أطيب مالاً ‏{‏فليأتكم برزق منه‏}‏ أي‏:‏ بطعام تأكلونه، وهذا من زهدهم وورعهم ‏{‏وَلْيَتَلَطَّفْ‏}‏ أي‏:‏ في دخوله إليها ‏{‏وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً‏}‏ أي‏:‏ إن عدتم في ملتهم بعد إذ أنقذكم الله منها، وهذا كله لظنهم أنهم رقدوا يوماً أو بعض يوم أو أكثر من ذلك، ولم يحسبوا أنهم قد رقدوا أزيد من ثلاثمائة سنة‏.‏

وقد تبدلت الدول أطواراً عديدة وتغيرت البلاد ومن عليها، وذهب أولئك القرن الذين كانوا فيهم، وجاء غيرهم، وذهبوا وجاء غيرهم، ولهذا لما خرج أحدهم وهو تيذوسيس فيما قيل، وجاء إلى المدينة متنكراً لئلا يعرفه أحد من قومه فيما يحسبه، تنكرت له البلاد، واستنكره من يراه من أهلها، واستغربوا شكله وصفته ودراهمه‏.‏

فيقال‏:‏ إنهم حملوه إلى متوليهم، وخافوا من أمره أن يكون جاسوساً، أو تكون له صولة يخشون من مضرتها، فيقال‏:‏ إنه هرب منهم، ويقال‏:‏ بل أخبرهم خبره ومن معه وما كان من أمرهم، فانطلقوا معه ليريهم مكانهم، فلما قربوا من الكهف دخل إلى إخوانه، فأخبرهم حقيقة أمرهم، ومقدار ما رقدوا، فعلموا أن هذا أمر قدره الله، فيقال‏:‏ إنهم استمروا راقدين، ويقال‏:‏ بل ماتوا بعد ذلك‏.‏

وأما أهل البلدة فيقال‏:‏ إنهم لم يهتدوا إلى موضعهم من الغار، وعمي الله عليهم أمرهم، ويقال‏:‏ لم يستطيعوا دخوله حساً، ويقال‏:‏ مهابة لهم‏.‏

واختلفوا في أمرهم فقائلون يقولون‏:‏ ‏{‏ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً‏}‏ أي‏:‏ سدوا عليهم باب الكهف لئلا يخرجوا أو لئلا يصل إليهم ما يؤذيهم، وآخرون وهم الغالبون على أمرهم قالوا‏:‏ ‏{‏لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً‏}‏ أي‏:‏ معبداً يكون مباركاً لمجاورته هؤلاء الصالحين، وهذا كان شائعاً فيمن كان قبلنا‏.‏

فأما في شرعنا فقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏)‏ يحذر ما فعلوا‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا‏}‏ فمعنى أعثرنا‏:‏ أطلعنا على أمرهم الناس، قال كثير من المفسرين‏:‏ ليعلم الناس أن المعاد حق، وأن الساعة لا ريب فيها، إذا علموا أن هؤلاء القوم رقدوا أزيد من ثلاثمائة سنة، ثم قاموا كما كانوا من غير تغير منهم، فإن من أبقاهم كما هم، قادر على إعادة الأبدان وإن أكلتها الديدان، وعلى إحياء الأموات وإن صارت أجسامهم وعظامهم رفاتا، وهذا مما لا يشك فيه المؤمنون ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏‏.‏

ويحتمل عود الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمُوا‏}‏ إلى أصحاب الكهف، إذ علمهم بذلك من أنفسهم أبلغ من علم غيرهم بهم، ويحتمل أن يعود على الجميع، والله أعلم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ فذكر اختلاف الناس في كميتهم، فحكى ثلاثة أقوال، وضعف الأولين، وقرر الثالث، فدل على أنه الحق، إذ لو قيل غير ذلك لحكاه، ولو لم يكن هذا الثالث هو الصحيح لوهاه، فدل على ما قلناه‏.‏

ولما كان النزاع في مثل هذا لا طائل تحته ولا جدوى عنده، أرشد نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الأدب في مثل هذا الحال، إذا اختلف الناس فيه أن يقول الله أعلم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ‏}‏ أي‏:‏ من الناس ‏{‏فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً‏}‏ أي‏:‏ سهلاً ولا تتكلف أعمال الجدال في مثل هذا الحال ولا تستفت في أمرهم أحداً من الرجال‏.‏

ولهذا أبهم تعالى عدتهم في أول القصة فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ‏}‏ ولو كان في تعين عدتهم كبير فائدة لذكرها عالم الغيب والشهادة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً‏}‏‏.‏

أدب عظيم أرشده الله تعالى إليه وحث خلقه عليه، وهو ما إذا قال أحدهم إني سأفعل في المستقبل كذا، فيشرع له أن يقول إن شاء الله، ليكون ذلك تحقيقاً لعزمه، لأن العبد لا يعلم ما في غد ولا يدري أهذا الذي عزم عليه مقدر أم لا‏.‏

وليس هذا الاستثناء تعليقاً وإنما هو الحقيقي، ولهذا قال ابن عباس‏:‏ يصح إلى سنة، ولكن قد يكون في بعض المحال لهذا، ولهذا كما تقدم في قصة سليمان عليه السلام حين قال‏:‏

‏(‏‏(‏لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله‏.‏

فقيل له‏:‏ قل إن شاء الله، فلم يقل فطاف فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته‏)‏‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ وذلك لأن النسيان قد يكون من الشيطان، فذكر الله يطرده عن القلب فيذكر ما كان قد نسيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً‏}‏ أي‏:‏ إذا اشتبه أمر وأشكل حال والتبس أقوال الناس في شيء فارغب إلى الله ييسره لك ويسهله عليك‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً‏}‏ لما كان في الأخبار بطول مدة لبثهم فائدة عظيمة ذكرها تعالى وهذه التسع المزيدة بالقمرية وهي لتكميل ثلاثمائة شمسية، فإن كل مائة قمرية تنقص عن الشمسية ثلاث سنين‏.‏

{‏قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا‏}‏ أي‏:‏ إذا سئلت عن مثل هذا وليس عندك في ذلك نقل، فرد الأمر في ذلك إلى الله عز وجل ‏{‏لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ أي‏:‏ هو العالم بالغيب فلا يطلع عليه إلا من شاء من خلقه ‏{‏أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ‏}‏ يعني أنه يضع الأشياء في محالها لعلمه التام بخلقه وبما يستحقونه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً‏}‏ أي‏:‏ ربك المنفرد بالملك والمتصرف وحده لا شريك له‏.‏

 

 قصة الرجلين المؤمن والكافر

قال الله تعالى في سورة الكهف بعد قصة أهل الكهف‏:‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً‏}‏ (1) ‏{‏هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 32-44‏]‏‏.‏

قال بعض الناس‏:‏ هذا مثل مضروب ولا يلزم أن يكون واقعاً، والجمهور أنه أمر قد وقع‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واضرب لهم مثلا‏}‏ يعني‏:‏ لكفار قريش في عدم اجتماعهم بالضعفاء والفقراء وازدرائهم بهم، وافتخارهم عليهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ‏} ‏[‏يس‏:‏ 13‏]‏‏.‏

كما قدمنا الكلام على قصتهم قبل قصة موسى عليه السلام، والمشهور أن هذين كانا رجلين مصطحبين وكان أحدهما مؤمناً والآخر كافراً، ويقال إنه كان لكل منهما مال فأنفق المؤمن ماله في طاعة الله ومرضاته ابتغاء وجهه‏.‏ ‏

وأما الكافر فإنه اتخذ له بساتين وهما الجنتان المذكورتان في الآية على الصفة والنعت المذكور، فيهما أعناب ونخيل تحف تلك الأعناب والزروع في ذلك، والأنهار سارحة ههنا وههنا للسقي والتنزه، وقد استوثقت فيهما الثمار واضطربت فيهما الأنهار، وابتهجت الزروع والثمار، وافتخر مالكهما على صاحبه المؤمن الفقير قائلاً له‏:‏ ‏{‏أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً‏}‏ أي‏:‏ أوسع جناناً، ومراده أنه خير منه ومعناه ماذا أغنى عنك إنفاقك ما كنت تملكه في الوجه الذي صرفته فيه، كان الأولى بك أن تفعل كما فعلت لتكون مثلي، فافتخر على صاحبه‏.‏

{‏وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ‏} أي‏:‏ وهو على غير طريقة مرضية ‏{‏قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً‏} وذلك لما رأى من اتساع أرضها، وكثرة مائها، وحسن نبات أشجارها، ولو قد بادت كل واحدة من هذه الأشجار لاستخلف مكانها أحسن منها وزروعها دارة لكثرة مياهها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً‏}‏ فوثق بزهرة الحياة الدنيا الفانية، وكذب بوجود الآخرة الباقية الدائمة، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً‏}‏ أي‏:‏ ولئن كان ثم آخرة ومعاد، فلأجدن هناك خيرا من هذا وذلك، لأنه اغتر بدنياه واعتقد أن الله لم يعطه ذلك فيها إلا لحبه له وحظوته عنده‏.‏

كما قال العاص بن وائل فيما قص الله من خبره، وخبر خباب بن الأرت في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 77-78‏]‏‏.‏

وقال تعالى إخباراً عن الإنسان إذا أنعم الله عليه‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 50‏]‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏‏.‏

وقال قارون‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي‏}‏ أي‏:‏ لعلم الله بي أني أستحقه‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏ وقد قدمنا الكلام على قصته في أثناء قصة موسى‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ‏} ‏[‏المؤمنون‏:‏ 25‏]‏‏.‏

ولما اغتر هذا الجاهل بما خول به في الدنيا، فجحد الآخرة وادعى أنها إن وجدت ليجدن عند ربه خيرا مما هو فيه، وسمعه صاحبه يقول ذلك قال له‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يُحَاوِرُهُ‏}‏ أي‏:‏ يجادله ‏{‏أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً‏}‏ أي‏:‏ أجحدت المعاد وأنت تعلم أن الله خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم صورك أطوارا حتى صرت رجلاً سوياً سميعاً بصيراً تعلم وتبطش وتفهم، فكيف أنكرت المعاد والله قادر على البداءة‏؟‏

‏{‏لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ لكن أنا أقول بخلاف ما قلت وأعتقد خلاف معتقدك‏.‏ ‏

{‏هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً‏}‏ أي‏:‏ لا أعبد سواه، وأعتقد أنه يبعث الأجساد بعد فنائها، ويعيد الأموات، ويجمع العظام الرفات، وأعلم أن الله لا شريك له في خلقه ولا في ملكه ولا إله غيره، ثم أرشده إلى ما كان الأولى به أن يسلكه عند دخول جنته فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏ ولهذا يستحب لكل من أعجبه شيء من ماله أو أهله أو حاله أن يقول كذلك‏.‏

وقد ورد فيه حديث مرفوع في صحته نظر‏.‏

قال أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا جراح بن مخلد، حدثنا عمرو بن يوسف، حدثنا عيسى بن عون، حدثنا عبد الملك بن زرارة، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله‏)‏‏)‏‏.‏

فيرى فيه أنه دون الموت، وكان يتأول هذه الآية ‏{‏وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏‏.‏

قال الحافظ أبو الفتح الأزدي عيسى بن عون، عن عبد الملك بن زرارة، عن أنس لا يصح‏.‏

ثم قال المؤمن للكافر‏:‏ ‏{‏فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ‏}‏ أي‏:‏ في الدار الآخرة ويرسل عليها حسباناً من السماء‏.‏

قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة‏:‏ أي عذاباً من السماء، والظاهر أنه المطر المزعج الباهر الذي يقتلع زروعها وأشجارها ‏{‏فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً‏}‏ وهو التراب الأملس الذي لا نبات فيه، ‏{‏أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً‏}‏ وهو ضد المعين السارح ‏{‏فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً‏}‏ يعني‏:‏ فلا تقدر على استرجاعه‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ‏}‏ أي‏:‏ جاءه أمر أحاط بجميع حواصله، وخرب جنته ودمرها ‏{‏فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏ أي‏:‏ خربت بالكلية فلا عودة لها، وذلك ضد ما كان عليه أمل حيث قال‏:‏ ‏{‏مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً‏}‏ وندم على ما كان سلف منه من القول الذي كفر بسببه بالله العظيم فهو يقول‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً‏}‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ‏}‏ أي‏:‏ لم يكن أحد يتدارك ما فرط من أمره وما كان له قدرة في نفسه على شيء من ذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ‏}‏ ومنهم من يبتدئ بقوله ‏{‏هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ‏}‏ وهو حسن أيضاً لقوله‏:‏ ‏{‏الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 26‏]‏‏.‏

فالحكم الذي لا يرد ولا يمانع ولا يغالب في تلك الحال، وفي كل حال لله الحق‏.‏ ومنهم من رفع الحق جعله صفة للولاية وهما متلازمتان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً‏}‏ أي‏:‏ معاملته خير لصاحبها ثواباً وهو الجزاء، ‏{‏وَخَيْرٌ عُقْباً‏}‏ وهو العاقبة في الدنيا والآخرة‏.‏

وهذه القصة تضمنت أنه لا ينبغي لأحد أن يركن إلى الحياة الدنيا ولا يغتر بها، ولا يثق بها، بل يجعل طاعة الله والتوكل عليه في كل حال نصب عينيه، وليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه، وفيها أن من قدم شيئاً على طاعة الله والإنفاق في سبيله عذب به، وربما سلب منه معاملة له بنقيض قصده‏.‏

وفيها أن الواجب قبول نصيحة الأخ المشفق، وأن مخالفته وبال ودمار على من رد النصيحة الصحيحة‏.‏ وفيها أن الندامة لا تنفع إذا حان القدر ونفذ الأمر الحتم، بالله المستعان وعليه التكلان‏.‏

 قصة أصحاب الجنة

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 17-33‏]‏‏.‏

وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش فيما أنعم به عليهم من إرسال الرسول العظيم الكريم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والمخالفة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ‏} ‏[‏إبراهيم‏:‏ 28-29‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هم كفار قريش، فضرب تعالى لهم مثلا بأصحاب الجنة المشتملة على أنواع الزروع والثمار التي قد انتهت، واستحقت أن تجد وهو الصرام، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِذْ أَقْسَمُوا‏}‏ فيما بينهم ‏{‏لَيَصْرِمُنَّهَا‏}‏ أي‏:‏ ليجدنها وهو الاستغلال ‏{‏مُصْبِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ وقت الصبح حيث لا يراهم فقير ولا محتاج فيعطوه شيئاً، فحلفوا على ذلك ولم يستثنوا في يمينهم فعجزهم الله وسلط عليها الآفة التي أحرقتها، وهي السفعة التي اجتاحتها ولم تبق بها شيئاً ينتفع به‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ‏}‏ أي‏:‏ كالليل الأسود المنصرم من الضياء‏.‏

وهذه معاملة بنقيض المقصود ‏{‏فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ فاستيقظوا من نومهم فنادى بعضهم بعضا قائلين ‏{‏اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ باكروا إلى بستانكم فاصرموه قبل أن يرتفع النهار ويكثر السؤال ‏{‏فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ‏}‏ أي‏:‏ يتحدثون فيما بينهم خفية قائلين ‏{‏لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ‏}‏ أي‏:‏ اتفقوا على هذا واشتوروا عليه‏.‏

{‏وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِيْن‏}‏ أي‏:‏ انطلقوا مجدين في ذلك قادرين عليه مضمرين على هذه النية الفاسدة‏.‏

وقال عكرمة، والشعبي‏:‏ ‏{‏وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ‏}‏ أي‏:‏ غضب على المساكين، وأبعد السدي في قوله‏:‏ أن اسم حرثهم حرد ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهَا‏}‏ أي‏:‏ وصلوا إليها ونظروا ما حل بها، وما قد صارت إليه من الصفة المنكرة بعد تلك النضرة، والحسن والبهجة، فانقلبت بسبب النية الفاسدة فعند ذلك قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَضَالُّونَ‏}‏ أي‏:‏ قد نهينا عنها، وسلكنا غير طريقها‏.‏

ثم قالوا‏:‏ ‏{‏بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ‏}‏ أي‏:‏ بل عوقبنا بسبب سوء قصدنا، وحرمنا بركة حرثنا‏.‏

‏{‏قَالَ أَوْسَطُهُمْ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد‏:‏ هو أعدلهم وخيرهم‏.‏

{‏أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ‏} قيل‏:‏ يستثنون، قاله‏:‏ مجاهد، والسدي، وابن جرير، وقيل‏:‏ تقولون خيراً بدل ما قلتم من الشر‏.‏ ‏{‏قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ‏}‏ فندموا حيث لا ينفع الندم، واعترفوا بالذنب بعد العقوبة، وذلك حيث لا ينجع‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن هؤلاء كانوا أخوة وقد ورثوا هذه الجنة من أبيهم، وكان يتصدق منها كثيراً، فلما صار أمرها إليهم استهجنوا أمر أبيهم، وأرادوا استغلالها من غير أن يعطوا الفقراء شيئاً، فعاقبهم الله أشد العقوبة، ولهذا أمر الله تعالى بالصدقة من الثمار، وحث على ذلك يوم الجداد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏‏.‏

ثم قيل‏:‏ كانوا من أهل اليمن من قرية يقال لها ضروان، وقيل من أهل الحبشة، والله أعلم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ الْعَذَابُ‏}‏ أي‏:‏ هكذا نعذب من خالف أمرنا، ولم يعطف على المحاويج من خلقنا‏.‏

{‏وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ‏}‏ أي‏:‏ أعظم وأحكم من عذاب الدنيا ‏{‏لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏ وقصة هؤلاء شبيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 112-113‏]‏‏.‏ ‏

قيل‏:‏ هذا مثل مضروب لأهل مكة، وقيل‏:‏ هم أهل مكة أنفسهم، ضربهم مثلا لأنفسهم، ولا ينافي ذلك، والله أعلم‏.‏ اهـ

 قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في سبتهم

قال الله تعالى في سورة الأعراف‏:‏

{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163-166‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 65-66‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة النساء‏:‏ ‏{‏أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً‏}‏‏.‏ ‏[‏النساء‏:‏ 47‏]‏‏.‏

قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي، وغيرهم‏:‏ هم أهل أيلة‏.‏ زاد ابن عباس‏:‏ بين مدين والطور‏.‏

قالوا وكانوا متمسكين بدين التوراة في تحريم السبت في ذلك الزمان، فكانت الحيتان قد ألفت منهم السكينة في مثل هذا اليوم، وذلك أنه كان يحرم عليهم الاصطياد فيه، وكذلك جميع الصنائع والتجارات والمكاسب، فكانت الحيتان في مثل يوم السبت يكثر غشيانها لمحلتهم من البحر، فتأتي من ههنا وههنا ظاهرة آمنة مسترسلة، فلا يهيجونها ولا يذعرونها‏.‏

{‏وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ‏} وذلك لأنهم كانوا يصطادونها فيما عدا السبت‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ‏}‏ أي‏:‏ نختبرهم بكثرة الحيتان في يوم السبت ‏{‏بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ أي‏:‏ بسبب فسقهم المتقدم، فلما رأوا ذلك احتالوا على اصطيادها في يوم السبت، بأن نصبوا الحبال والشباك والشصوص، وحفروا الحفر التي يجري معها الماء إلى مصانع قد أعدوها، إذا دخلها السمك لا يستطيع أن يخرج منها‏.‏

ففعلوا ذلك في يوم الجمعة، فإذا جاءت الحيتان مسترسلة يوم السبت علقت بهذه المصايد، فإذا خرج سبتهم أخذوها، فغضب الله عليهم ولعنهم لما احتالوا على خلاف أمره، وانتهكوا محارمه بالحيل التي هي ظاهرة للناظر، وهي في الباطن مخالفة محضة‏.‏

فلما فعل ذلك طائفة منهم افترق الذين لم يفعلوا فرقتين‏:‏ فرقة أنكروا عليهم صنيعهم هذا، واحتيالهم على مخالفة الله وشرعه في ذلك الزمان، وفرقة أخرى لم يفعلوا ولم ينهوا بل أنكروا على الذين نهوا وقالوا‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً‏}‏ يقولون‏:‏ ما الفائدة في نهيكم هؤلاء وقد استحقوا العقوبة لا محالة، فأجابتهم الطائفة المنكرة بأن قالوا‏:‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فيما أمرنا به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فنقوم به خوفاً من عذابه‏.‏

‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولعل هؤلاء يتركون ما هم عليه من هذا الصنيع، فيقيهم الله عذابه ويعفو عنهم إذا هم رجعوا واستمعوا‏.‏ ‏‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ لم يلتفتوا إلى من نهاهم عن هذا الصنيع الشنيع الفظيع ‏{‏أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ‏}‏ وهم‏:‏ الفرقة الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر ‏{‏وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ وهم‏:‏ المرتكبون الفاحشة ‏{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ وهو‏:‏ الشديد المؤلم الموجع ‏{‏بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}

ثم فسر العذاب الذي أصابهم بقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏} وسنذكر ما ورد من الآيات في ذلك‏.‏

والمقصود هنا أن الله أخبر أنه أهلك الظالمين، ونجى المؤمنين المنكرين، وسكت عن الساكتين، وقد اختلف فيهم العلماء على قولين‏:‏ فقيل إنهم من الناجين، وقيل‏:‏ إنهم من الهالكين‏.‏ والصحيح الأول عند المحققين، وهو الذي رجع إليه ابن عباس إمام المفسرين، وذلك عن مناظرة مولاه عكرمة، فكساه من أجل ذلك حلة سنية تكرمة‏.‏

قلت‏:‏ وإنما لم يذكروا مع الناجين لأنهم وإن كرهوا ببواطنهم تلك الفاحشة، إلا أنهم كان ينبغي لهم أن يحملوا ظواهرهم بالعمل المأمور به من الإنكار القولي، الذي هو أوسط المراتب الثلاث، التي أعلاها‏:‏ الإنكار باليد ذات البنان، وبعدها الإنكار القولي باللسان، وثالثها الإنكار بالجنان‏.‏ فلما لم يذكروا نجوا مع الناجين، إذ لم يفعلوا الفاحشة بل أنكروها‏.‏

وقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، وحكى مالك، عن ابن رومان، وشيبان عن، قتادة، وعطاء الخراساني ما مضمونه‏:‏ أن الذين ارتكبوا هذا الصنع اعتزلهم بقية أهل البلد، ونهاهم من نهاهم منهم، فلم يقبلوا فكانوا يبيتون وحدهم، ويغلقون بينهم وبينهم أبواباً حاجزاً، لما كانوا يترقبون من هلاكهم‏.‏

فأصبحوا ذات يوم وأبواب ناحيتهم مغلقة لم يفتحوها، وارتفع النهار واشتد الضحاء، فأمر بقية أهل البلد رجلاً أن يصعد على سلالم ويشرف عليهم من فوقهم، فلما أشرف عليهم إذا هم قردة لها أذناب يتعاوون ويتعادون‏.‏

ففتحوا عليهم الأبواب فجعلت القردة تعرف قراباتهم، ولا يعرفهم قراباتهم، فجعلوا يلوذون بهم ويقول لهم الناهون‏:‏ ألم ننهكم عن صنيعكم‏؟‏ فتشير القردة برؤوسها أن نعم‏.‏ ثم بكى عبد الله بن عباس وقال‏:‏ إنا لنرى منكرات كثيرة ولا ننكرها، ولا نقول فيها شيئا‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ صار شباب القرية قردة، وشيوخها خنازير‏.‏

وروى ابن أبي حاتم، من طريق مجاهد، عن ابن عباس‏:‏ أنهم لم يعيشوا إلا فواقاً، ثم هلكوا ما كان لهم نسل‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ أنه لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل هؤلاء، ولم يشربوا، ولم ينسلوا، وقد استقصينا الآثار في ذلك في تفسير سورة البقرة، والأعراف، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد روى ابن أبي حاتم، وابن جرير، من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال‏:‏ مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة وخنازير، وإنما هو مثل ضربه الله ‏{‏كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 5‏]‏ وهذا صحيح إليه وغريب منه جداً، ومخالف لظاهر القرآن، ولما نص عليه غير واحد من السلف والخلف، والله أعلم‏.‏

 

 قصة أصحاب القرية

{‏إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 13‏]‏‏.‏

تقدم ذكرها قبل قصة موسى عليه السلام‏.‏ ‏‏

قصة سبأ

سيأتي ذكرها في أيام العرب إن شاء الله تعالى وبه الثقة‏.‏

قصة قارون وقصة بلعام‏.‏

تقدمتا في قصة موسى‏.‏

وهكذا قصة الخضر، وقصة فرعون والسحرة، كلها في ضمن قصة موسى‏.‏

وقصة البقرة تقدمت في قصة موسى‏.‏

وقصة ‏{‏الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏ في قصة حزقيل‏.‏

وقصة ‏{‏الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى‏}‏ في قصة شمويل ‏[‏البقرة‏:‏ 246‏]‏‏.‏

وقصة ‏{‏كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ‏}‏ في قصة عزير‏.‏

 قصة لقمان

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 12-19‏]‏‏.‏

هو لقمان بن عنقاء بن سدون، ويقال‏:‏ لقمان بن ثاران‏.‏ حكاه السهيلي، عن ابن جرير والقتيبي‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وكان نوبياً من أهل أيلة، قلت‏:‏ وكان رجلاً صالحاً ذا عبادة، وعبارة وحكمة عظيمة‏.‏

ويقال‏:‏ كان قاضياً في زمن داود عليه السلام، فالله أعلم‏.‏

وقال سفيان الثوري، عن الأشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ كان عبداً حبشياً نجاراً‏.‏

وقال قتادة، عن عبد الله بن الزبير قلت‏:‏ لجابر بن عبد الله ما انتهى إليكم في شأن لقمان‏؟‏ قال‏:‏ كان قصيراً أفطس من النوبة‏.‏ ‏

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ كان لقمان من سودان مصر، ذو مشافر أعطاه الله الحكمة، ومنعه النبوة‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال‏:‏ جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد‏:‏ لا تحزن من أجل أنك أسود فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان‏:‏ بلال ومهجع مولى عمر ولقمان الحكيم‏.‏ كان أسود نوبياً ذا مشافر‏.‏

وقال الأعمش، عن مجاهد‏:‏ كان لقمان عبداً أسود، عظيم الشفتين، مشقق القدمين، وفي رواية‏:‏ مصفح القدمين‏.‏

وقال عمر بن قيس‏:‏ كان عبداً أسود، غليظ الشفتين، مصفح القدمين، فأتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدثهم فقال له‏:‏ ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فما بلغ بك ما أرى‏؟‏ قال‏:‏ صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني‏.‏ رواه ابن جرير عن ابن حميد عن الحكم عنه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الرحمن بن أبي يزيد بن جابر قال‏:‏ إن الله رفع لقمان الحكيم لحكمته، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال‏:‏ ألست عبد بن فلان الذي كنت ترعى غنمي بالأمس‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فما بلغ بك ما أرى‏؟‏ قال‏:‏ قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيني‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ أخبرني عبد الله بن عياش الفتياني، عن عمر مولى عفرة قال‏:‏ وقف رجل على لقمان الحكيم فقال‏:‏ أنت لقمان أنت عبد بني النحاس‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فأنت راعي الغنم الأسود‏؟‏

قال‏:‏ أما سوادي فظاهر فما الذي يعجبك من أمري‏؟‏

قال‏:‏ وطء الناس بساطك، وغشيهم بابك، ورضاهم بقولك‏.‏

قال‏:‏ يا ابن أخي إن صنعت ما أقول لك كنت كذلك‏.‏

قال‏:‏ ما هو‏؟‏

قال لقمان‏:‏ غضي بصري، وكفي لساني، وعفة مطمعي، وحفظي فرجي، وقيامي بعدتي، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني، فذاك الذي صيرني كما ترى‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا ابن فضيل، حدثنا عمرو بن واقد، عن عبدة ابن رباح، عن ربيعة، عن أبي الدرداء أنه قال يوماً وذكر لقمان الحكيم فقال‏:‏

ما أوتي عن أهل، ولا مال، ولا حسب، ولا خصال، ولكنه كان رجلاً ضمضامة، سكيتاً طويل التفكر، عميق النظر، لم ينم نهاراً قط، ولم يره أحد يبزق، ولا يتنحنح، ولا يبول، ولا يتغوط، ولا يغتسل، ولا يعبث، ولا يضحك، وكان لا يعيد منطقاً نطقه، إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد‏.‏

وكان قد تزوج وولد له أولاد فماتوا، فلم يبك عليهم، وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر، فبذلك أوتي ما أوتي، ومنهم من زعم أنه عرضت عليه النبوة، فخاف أن لا يقوم بأعبائها فاختار الحكمة، لأنها أسهل عليه، وفي هذا نظر، والله أعلم‏.‏ وهذا مروي عن قتادة كما سنذكره‏.‏ ‏

وروى ابن أبي حاتم، وابن جرير، من طريق وكيع، عن إسرائيل، عن جابر الجعفي، عن عكرمة أنه قال‏:‏ كان لقمان نبياً، وهذا ضعيف الحال الجعفي‏.‏

والمشهور عن الجمهور أنه كان حكيماً ولياً ولم يكن نبياً‏.‏ وقد ذكره الله تعالى في القرآن فأثنى عليه، وحكى من كلامه فيما وعظ به ولده الذي هو أحب الخلق إليه، وهو أشفق الناس عليه، فكان من أول ما وعظ به أن قال‏:‏ ‏{‏يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ فنهاه عنه، وحذره منه‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏ شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا‏:‏ أينا لم يلبس إيمانه بظلم‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إنه ليس بذاك ألم تسمع إلى قول لقمان‏:‏ ‏{‏يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏‏)‏‏)‏‏.‏

رواه مسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به‏.‏

ثم اعترض تعالى بالوصية بالوالدين، وبيان حقهما على الولد وتأكده، وأمر بالإحسان إليهما حتى ولو كانا مشركين، ولكن لا يطاعان على الدخول في دينهما، إلى أن قال مخبراً عن لقمان فيما وعظ به ولده‏:‏

‏{‏يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ‏}‏ ينهاه عن ظلم الناس ولو بحبة خردل، فإن الله يسأل عنها، ويحضرها حوزة الحساب، ويضعها في الميزان كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏‏.‏‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏ وأخبره أن هذا الظلم لو كان في الحقارة كالخردلة، ولو كان في جوف صخرة صماء لا باب لها ولا كوة، أو لو كانت ساقطة في شيء من ظلمات الأرض أو السموات في اتساعهما وامتداد أرجائهما، لعلم الله مكانها‏.‏

{‏إن الله لطيف خبير‏}‏ أي‏:‏ علمه دقيق فلا يخفى عليه الذر مما تراءى للنواظر، أو توارى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 75‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وقد زعم السدي في خبره عن الصحابة أن المراد بهذه الصخرة الصخرة التي تحت الأرضين السبع، وهكذا حكي عن عطية العوفي، وأبي مالك، والثوري، والمنهال بن عمر، وغيرهم، وفي صحة هذا القول من أصله نظر‏.‏

ثم إن في هذا المراد نظر آخر؛ فإن هذه الآية نكرة غير معرفة، فلو كان المراد بها ما قالوه لقال‏:‏ فتكن في الصخرة، وإنما المراد‏:‏ فتكن في صخرة، أي‏:‏ صخرة كانت‏.‏

كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائناً ما كان‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ‏}‏ أي‏:‏ أدها بجميع واجباتها من حدودها، وأوقاتها، وركوعها، وسجودها، وطمأنينتها، وخشوعها، وما شرع فيها، واجتنب ما ينهي عنه فيها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏}‏ أي‏:‏ بجهدك وطاقتك، أي‏:‏ إن استطعت باليد فباليد، وإلا فبلسانك، فإن لم تستطع فبقلبك، ثم أمره بالصبر فقال‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ‏}‏ وذلك أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في مظنة أن يعادى وينال منه، ولكن له العاقبة، ولهذا أمره بالصبر على ذلك، ومعلوم أن عاقبة الصبر الفرج‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏ التي لا بد منها ولا محيد عنها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك، ويزيد بن الأصم، وأبو الجوزاء، وغير واحد معناه‏:‏ لا تتكبر على الناس، وتميل خدك حال كلامك لهم، وكلامهم لك على وجه التكبر عليهم والازدراء لهم‏.‏

قال أهل اللغة‏:‏ وأصل الصعر داء يأخذه الإبل في أعناقها فتلتوي رؤوسها، فشبه به الرجل المتكبر الذي يميل وجهه إذا كلم الناس أو كلموه على وجه التعظم عليهم‏.‏

قال أبو طالب في شعره‏:‏

وكنا قديماً لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها

وقال عمرو بن حيي التغلبي‏:‏

وكنا إذا الجبار صعر خده * أقمنا له من ميله فتقوما

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏ ينهاه عن التبختر في المشية على وجه العظمة والفخر على الناس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 37‏]‏‏.‏

يعني لست بسرعة مشيك تقطع البلاد في مشيتك هذه، ولست بدقك الأرض برجلك تخرق الأرض بوطئك عليها، ولست بتشامخك وتعاظمك وترفعك تبلغ الجبال طولاً، فاتئد على نفسك فلست تعدو قدرك‏.‏

وقد ثبت في الحديث‏:‏

‏(‏‏(‏بينما رجل يمشي في برديه يتبختر فيهما، إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏‏

‏(‏‏(‏إياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة لا يحبها الله‏)‏‏)‏‏.‏

كما قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏‏.‏

ولما نهاه عن الاختيال في المشي أمره بالقصد فيه، فإنه لا بد له أن يمشي فنهاه عن الشر وأمره بالخير، فقال‏:‏ ‏{‏واقصد في مشيك‏}‏ أي‏:‏ لا تبتاطأ مفرطاً ولا تسرع إسراعا مفرطاً، ولكن بين ذلك قواماً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً‏} ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ‏}‏ يعني إذا تكلمت لا تتكلف رفع صوتك، فإن أرفع الأصوات وأنكرها صوت الحمير‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين الأمر بالاستعاذة عند سماع صوت الحمير بالليل، فإنها رأت شيطاناً‏.‏

ولهذا نهى عن رفع الصوت حيث لا حاجة إليه، ولا سيما عند العطاس فيستحب خفض الصوت، وتخمير الوجه كما ثبت به الحديث من صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فأما رفع الصوت بالأذان، وعند الدعاء إلى الفئة للقتال، وعند الإهلاك ونحو ذلك، فذلك مشروع، فهذا مما قصه الله تعالى عن لقمان عليه السلام في القرآن، من الحكم، والوصايا النافعة الجامعة للخير، المانعة من الشر، وقد وردت آثار كثيرة في أخباره ومواعظه، وقد كان له كتاب يؤثر عنه يسمى بحكمة لقمان، ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا سفيان، أخبرني نهيك بن يجمع الضبي، عن قزعة، عن ابن عمر، قال‏:‏ أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن لقمان الحكيم كان يقول‏:‏ إن الله إذا استودع شيئاً حفظه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن موسى ابن سليمان، عن القاسم بن مخيمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني إياك والتقنع فإنه مخونة بالليل مذمة بالنهار‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عمارة، حدثنا ضمرة، حدثنا السري بن يحيى، قال لقمان لابنه‏:‏ يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك‏.‏

وحدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا عبد الرحمن المسعودي، عن عون بن عبد الله قال‏:‏

قال لقمان لابنه‏:‏ يا بني إذا أتيت نادي قوم فأدمهم بسهم الإسلام - يعني السلام - ثم اجلس بناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فحول عنهم إلى غيرهم‏.‏ ‏

وحدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا ضمرة، عن حفص بن عمر، قال‏:‏ وضع لقمان جراباً من خردل إلى جانبه، وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة، حتى نفد الخردل، فقال‏:‏ يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر، قال‏:‏ فتفطر ابنه‏.‏

وقال أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحراني، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، عن ابن سفيان المقدسي، عن خليفة بن سلام، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم من أهل الجنة‏:‏ لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن‏)‏‏)‏‏.‏

قال الطبراني‏:‏ يعني الحبشي، وهذا حديث غريب منكر‏.‏ وقد ذكر له الإمام أحمد في كتاب ‏(‏الزاهد‏)‏ ترجمة ذكر فيها فوائد مهمة جمة، فقال‏:‏ حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ‏}‏ قال‏:‏ الفقه، والإصابة في غير نبوة‏.‏ وكذا روي عن وهب بن منبه‏.‏

وحدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ كان لقمان عبداً حبشياً‏.‏

وحدثنا أسود، حدثنا حماد، عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب أن لقمان كان خياطاً‏.‏

وحدثنا سياد، حدثنا جعفر، حدثنا مالك - يعني بن دينار - قال‏:‏ قال لقمان لابنه‏:‏ يا بني اتخذ طاعة الله تجارة، تأتك الأرباح من غير بضاعة‏.‏

وحدثنا يزيد، حدثنا أبو الأشهب، عن محمد بن واسع قال‏:‏ كان لقمان يقول لابنه يا بني اتق الله، ولا تُري الناس أنك تخشى الله ليكرموك بذلك وقلبك فاجر‏.‏

وحدثنا يزيد بن هرون ووكيع قالا‏:‏ حدثنا أبو الأشهب، عن خالد الربعي قال‏:‏ كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً فقال له سيده‏:‏ اذبح لي شاة، فذبح له شاة فقال‏:‏ ائتني بأطيب مضغتين فيها فأتاه باللسان والقلب، فقال له‏:‏ أما كان فيها شيء أطيب من هذين‏؟‏

قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فسكت عنه ما سكت، ثم قال له‏:‏ اذبح لي شاة، فذبح له شاة فقال له‏:‏ وألق أخبثها مضغتين فرمى باللسان والقلب، فقال‏:‏ أمرتك أن تأتيني بأطيبها مضغتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت اللسان والقلب، فقال له‏:‏ إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا‏.‏

وحدثنا داود بن رشيد، حدثنا ابن المبارك، حدثنا معمر، عن أبي عثمان - رجل من أهل البصرة يقال له الجعد أبو عثمان - قال‏:‏ قال لقمان لابنه‏:‏ لا ترغب في ود الجاهل فيرى أنك ترضى عمله، ولا تهاون بمقت الحكيم فيزهده فيك‏.‏

وحدثنا داود بن أسيد، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد الحضرمي، عن عبد الله بن زيد قال‏:‏ قال لقمان ألا أن يد الله على أفواه الحكماء، لا يتكلم أحدهم إلا ما هيأ الله له‏.‏ ‏

وحدثنا عبد الرزاق، سمعت بن جريج قال‏:‏ كنت أقنّع رأسي بالليل‏.‏

فقال لي عمر‏:‏ أما علمت أن لقمان قال‏:‏ القناع بالنهار مذلة معذرة‏.‏

أو قال‏:‏ معجزة بالليل، فلم تقنع رأسك بالليل‏؟‏

قال‏:‏ قلت له‏:‏ إن لقمان لم يكن عليه دين‏.‏

وحدثني حسن بن الجنيد، حدثنا سفيان، قال لقمان لابنه‏:‏ يا بني ما ندمت على السكوت قط، وإن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب‏.‏

وحدثنا عبد الصمد ووكيع قالا‏:‏ حدثنا أبو الأشهب، عن قتادة أن لقمان قال لابنه‏:‏ يا بني اعتزل الشر يعتزلك، فإن الشر للشر خلق‏.‏

وحدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ مكتوب في الحكمة يا بني إياك والرغب، فإن الرغب كل الرغب يبعد القريب من القريب، ويزيل الحكم كما يزيل الطرب‏.‏ يا بني إياك وشدة الغضب، فإن شدة الغضب ممحقة لفؤاد الحكيم‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن عبيد بن عمير قال‏:‏ قال لقمان لابنه وهو يعظه‏:‏

يا بني اختر المجالس على عينك، فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عز وجل فاجلس معهم، فإنك إن تك عالماً ينفعك علمك، وإن تك غبياً يعلموك، وإن يطلع الله عليهم برحمة تصيبك معهم، يا بني لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر الله فيه، فإنك إن تك عالماً لا ينفعك علمك، وإن تك غبياً يزيدوك غبياً، وإن يطلع الله إليهم بعد ذلك بسخط يصيبك معهم

يا بني لا تغبطوا أمراء رحب الذراعين، يسفك دماء المؤمنين، فإن له عند الله قاتلاً لا يموت‏.‏

وحدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ مكتوب في الحكمة‏:‏ بني لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطاً، تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء‏.‏

وقال‏:‏ مكتوب في الحكمة أو في التوراة‏:‏ الرفق رأس الحكمة‏.‏

وقال‏:‏ مكتوب في التوراة‏:‏ كما تَرحمون تُرحمون‏.‏

وقال‏:‏ مكتوب في الحكمة‏:‏ كما تزرعون تحصدون‏.‏

وقال‏:‏ مكتوب في الحكمة‏:‏ أحب خليلك وخليل أبيك‏.‏

وحدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال‏:‏ قيل للقمان أي الناس أصبر‏؟‏

قال‏:‏ صبر لا يتبعه أذى‏.‏

قيل‏:‏ فأي الناس أعلم‏؟‏

قال‏:‏ من ازداد من علم الناس إلى علمه‏.‏

قيل‏:‏ فأي الناس خير‏؟‏

قال‏:‏ الغني‏.‏

قيل‏:‏ الغني من المال‏؟‏

قال‏:‏ لا، ولكن الغني الذي إذا التمس عنده خير وجد، وإلا أغنى نفسه عن الناس‏.‏

وحدثنا سفيان - هو ابن عيينة - قال‏:‏ قيل للقمان‏:‏ أي الناس شر‏؟‏ قال‏:‏ الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً‏.‏

وحدثنا أبو الصمد، عن مالك بن دينار قال‏:‏ وجدت في بعض الحكمة يبدد الله عظام الذين يتكلمون بأهواء الناس، ووجدت فيها لا خير لك في أن تعلم ما لم تعلم، ولما تعمل بما قد علمت، فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطباً فحزم حزمة، ثم ذهب يحملها فعجز عنها فضم إليه أخرى‏.‏

وقال عبد الله بن أحمد‏:‏ حدثنا الحكم بن أبي زهير وهو - الحكم بن موسى - حدثنا الفرج بن فضالة، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال لقمان لابنه‏:‏ يا بني لا يأكل طعامك إلا الأتقياء، وشاور في أمرك العلماء‏.‏

وهذا مجموع ما ذكره الإمام أحمد في هذه المواضع، وقد قدمنا من الآثار كثيراً لم يروها، كما أنه ذكر أشياء ليست عندنا، والله أعلم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة قال‏:‏ خير الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة، فاختار الحكمة على النبوة، قال‏:‏ فأتاه جبريل وهو نائم فذرَّ عليه الحكمة، قال‏:‏ فأصبح ينطق بها‏.‏

قال سعد‏:‏ سمعت قتادة يقول‏:‏ قيل للقمان كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك‏؟‏

فقال‏:‏ إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيه الفوز منه، ولكنت أرجو أن أقوم بها، ولكن خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة، فكانت الحكمة أحب إلي‏.‏

وهذا فيه نظر، لأن سعيد بن بشير عن قتادة، قد تكلموا فيه، والذي رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ‏}‏ قال‏:‏ يعني الفقه والإسلام، ولم يكن نبياً ولم يوح إليه‏.‏

وهكذا نصَّ على هذا غير واحد من السلف منهم‏:‏ مجاهد، وسعيد بن المسيب، وابن عباس، والله أعلم‏.‏

قصة أصحاب الأخدود

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 1-10‏]‏‏.‏

قد تكلمنا على ذلك مستقصى في تفسير هذه السورة ولله الحمد‏.‏

وقد زعم محمد بن إسحاق أنهم كانوا بعد مبعث المسيح، وخالفه غيره فزعموا أنهم كانوا قبله‏.‏

وقد ذكر غير واحد أن هذا الصنيع مكرر في العالم مراراً في حق المؤمنين من الجبارين الكافرين، ولكن هؤلاء المذكورون في القرآن قد ورد فيهم حديث مرفوع، وأثر أورده ابن إسحاق، وهما متعارضان وها نحن نوردهما لتقف عليهما‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏

‏(‏‏(‏كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك‏:‏ إني قد كبرت سني وحضر أجلي فادفع إلي غلاماً فلأعلمه السحر، فدفع إليه غلاماً فكان يعلمه السحر، وكان بين الملك وبين الساحر راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه، فأعجبه نحوه وكلامه وكان إذا أتى الساحر ضربه، وقال ما حبسك‏؟‏

وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا‏:‏ ما حبسك‏؟‏

فشكا ذلك إلى الراهب، فقال‏:‏ إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل حبسني الساحر‏.‏

قال‏:‏ فبينا هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال‏:‏ اليوم أعلم أمر الساحر أحب إلى الله أم أمر الراهب‏.‏

قال‏:‏ فأخذ حجراً فقال‏:‏ اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك‏.‏

فقال‏:‏ أي بني أنت أفضل مني، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل عليَّ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء، ويشفيهم الله على يديه، وكان جليس للملك فعمى فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال‏:‏ اشفني ولك ما ههنا اجمع فقال‏:‏ ما أنا اشفي أحداً، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به ودعوت الله شفاك، فآمن فدعا الله فشفاه‏.‏

ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك‏:‏ يا فلان من ردَّ عليك بصرك

‏؟‏ فقال‏:‏ ربي‏.‏

قال‏:‏ أنا‏.‏

قال‏:‏ لا ربي، وربك الله‏.‏

قال‏:‏ ولك رب غيري‏؟‏

قال‏:‏ نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دلَّ على الغلام، فبعث إليه فأتي به، فقال‏:‏

أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء‏.‏

قال‏:‏ ما أشفي أنا أحداً إنما يشفي الله عز وجل‏.‏

قال‏:‏ أنا‏.‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أولك رب غيري‏؟‏

قال‏:‏ ربي وربك الله‏.‏

قال‏:‏ فأخذه أيضاً بالعذاب، ولم يزل به حتى دلَّ على الراهب‏.‏

فأتى الراهب فقال‏:‏ ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه‏.‏

وقال للأعمى‏:‏ ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه‏.‏

وقال للغلام‏:‏ ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا‏.‏

وقال‏:‏ إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه، وإلا فدهدهوه من فوقه‏.‏

فذهبوا به، فلما علوا الجبل قال‏:‏ اللهم أكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال‏:‏ ما فعل أصحابك‏؟‏

فقال‏:‏ كفانيهم الله‏.‏

فبعث به مع نفر في قرقرة فقال‏:‏ إذا لججتم البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فأغرقوه في البحر، فلججوا به البحر فقال الغلام‏:‏ اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا أجمعون‏.‏

وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال‏:‏ ما فعل أصحابك‏؟‏

فقال كفانيهم الله عزَّ وجلَّ‏.‏

ثم قال للملك‏:‏ إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي‏.‏ قال‏:‏ وما هو‏؟‏ ‏

قال‏:‏ تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبن على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم قل‏:‏ بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل ووضع السهم في كبد القوس، ثم رماه، وقال بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات‏.‏

فقال الناس‏:‏ آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فقيل للملك‏:‏ أرأيت ما كنت تحذر فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فحفر فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال‏:‏ من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها‏.‏

وقال‏:‏ فكانوا يتعادون فيها ويتواقعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي‏:‏ اصبري يا أماه فإنك على الحق‏)‏‏)‏‏.‏

كذا رواه الإمام أحمد، ورواه مسلم والنسائي، من حديث حماد بن سلمة، زاد النسائي وحماد بن زيد كلاهما عن ثابت به‏.‏

ورواه الترمذي من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت بإسناده نحوه، وجرد إيراده كما بسطنا ذلك في التفسير‏.‏

وقد أورد محمد بن إسحاق هذه القصة على وجه آخر فقال‏:‏ حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب، وحدثني أيضاً بعض أهل نجران، عن أهلها أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريباً من نجران - ونجران هي القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد - ساحر يُعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها قيمون، ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه‏.‏

قالوا‏:‏ رجل نزلها، فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر، وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث التامر ابنه عبد الله بن التامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه، حتى أسلم، فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام، حتى إذا فقه فيه، جعل يسأله عن الاسم الأعظم وكان يعلمه فكتمه إياه‏.‏

وقال له‏:‏ يا ابن أخي إنك لن تحمله، أخشى ضعفك عنه، والتامر لا يظن إلا أن ابنه عبد الله يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه، عمد إلى قداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح، لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد ناراً، ثم جعل يقذفها فيها قدحاً قدحاً، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئاً‏.‏ ‏

فأخذه ثم أتى به صاحبه، فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي قد كتمه إياه فقال‏:‏ وما هو‏؟‏

قال‏:‏ كذا وكذا‏.‏

قال‏:‏ وكيف علمته‏؟‏

فأخبره بما صنع‏.‏

قال‏:‏ أي ابن أخي قد أصبته، فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل‏.‏

فجعل عبد الله بن التامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضر إلا قال‏:‏ يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني، وأدعو الله لك فيعافيك عما أنت فيه من البلاء، فيقول‏:‏ نعم، فيوحد الله و يسلم، حتى لم يبق أحد في نجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على دينه، ودعا له فعوفي‏.‏

حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال‏:‏ أفسدت علي أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك، قال‏:‏ لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل، فيطرح على رأسه، فيقع إلى الأرض ما به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور، لا يلقى فيها شيء إلا هلك فيلقى به فيها، فيخرج ليس به بأس‏.‏

فلما غلبه قال له عبد الله بن التامر‏:‏ والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت سلطت علي فقتلتني، قال‏:‏ فوحد الله ذلك الملك، وشهد شهادة عبد الله بن التامر، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، وهلك الملك مكانه‏.‏

واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن التامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحزاب، فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فهذا حديث محمد بن كعب، وبعض أهل نجران عن عبد الله بن التامر، فالله أعلم أي ذلك كان‏.‏

قال‏:‏ فسار إليهم ذو نواس بجنده من حمير فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل فخدوا الأخدود، وحرق بالنار وقتل بالسيف ومثل بهم، فقتل منهم قريباً من عشرين ألفاً، ففي ذي نواس وجنده أنزل الله على رسوله‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات ‏[‏البروج‏:‏ 4-5‏]‏‏.‏

وهذا يقتضي أن هذه القصة غير ما وقع في سياق مسلم، وقد زعم بعضهم أن الأخدود وقع في العالم كثيراً، كما قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، أنبأنا صفوان، عن عبد الرحمن بن جبير قال‏:‏

كانت الأخدود في اليمن زمان تبع، وفي القسطنطينة زمان قسطنطين، حين صرف النصارى قبلتهم عن دين المسيح والتوحيد، واتخذ أتوناً، وألقي فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح والتوحيد‏.‏

وفي العراق في أرض بابل في زمان بخت نصر حين صنع الصنم، وأمر الناس فسجدوا له، فامتنع دانيال وصاحباه‏:‏ عزريا ومشايل، فأوقد لهم أتوناً وألقى فيها الحطب والنار، ثم ألقاهما فيه، فجعلها الله عليهم برداً وسلاماً وأنقذهم منها، وألقى فيها الذين بغوا عليه وهم تسعة رهط، فأكلتهم النار‏.‏

وقال أسباط عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ‏}‏ قال‏:‏ كان الأخدود ثلاثة‏:‏ خد بالشام، وخد بالعراق، وخد باليمن‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏ ‏

وقد استقصيت ذكر أصحاب الأخدود، والكلام على تفسيرها في سورة البروج، ولله الحمد والمنة‏.‏

 

 بيان الإذن في الرواية عن أخبار بني إسرائيل

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا همام، حدثنا زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قال‏:‏

‏(‏‏(‏حدثوا عني ولا تكذبوا عليَّ، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا همام، أنبأنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قال‏:‏

‏(‏‏(‏لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، حدثوا عني ولا تكذبوا علي، قال‏:‏ ومن كذب علي - قال همام احسبه قال - متعمداً فليتبوأ مقعده من النار‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه مسلم، والنسائي من حديث همام، ورواه أبو عوانة الإسفراييني، عن أبي داود السجستاني، عن هدبة، عن همام عن زيد بن أسلم به‏.‏ ثم قال‏:‏ قال أبو داود‏:‏ أخطأ فيه همام، وهو من قول أبي سعيد كذا قال‏.‏

وقد رواه الترمذي عن سفيان، عن وكيع، عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم ببعضه مرفوعاً، فالله أعلم‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا الوليد بن مسلم، أنبأنا الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، حدثني أبو كبشة السلولي أن عبد الله بن عمرو بن العاص حدثه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يقول‏:‏

‏(‏‏(‏بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أحمد أيضاً عن عبد الله بن نمير، وعبد الرزاق، كلاهما عن الأوزاعي به‏.‏

وهكذا رواه البخاري عن أبي عاصم النبيل عن الأوزاعي به‏.‏

وكذا رواه الترمذي عن بندار، عن أبي عاصم، ثم رواه عن محمد بن يحيى الذهلي، عن محمد بن يوسف العرياني، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسان بن عطية، وقال حسن صحيح‏.‏

وقال أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن المثنى - أبو موسى - حدثنا هشام بن معاوية، حدثنا أبي، عن قتادة، عن أبي حسان، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عامة ليلة عن بني إسرائيل حتى نصبح، ما نقوم فيها إلا لمعظم صلاة‏.‏

ورواه أبو داود عن محمد بن مثنى‏.‏

ثم قال البزار‏:‏ حدثنا محمد بن مثنى، حدثنا عفان، حدثنا أبو هلال عن قتادة، عن أبي حسان، عن عمران بن حسين قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏يحدثنا عامة ليلة عن بني إسرائيل لا يقوم إلا لمعظم صلات‏)‏‏)‏‏.‏

قال البزار وهشام‏:‏ احفظ من أبي هلال يعني‏:‏ أن الصواب عن عبد الله بن عمرو، لا عن عمران بن حصين، والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى هو - القطان - عن محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج‏)‏‏)‏‏.‏

إسناد صحيح ولم يخرجوه‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا أبو خيثمة، حدثنا وكيع، حدثنا ربيع بن سعد الجعفي، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏حدثوا عن بني إسرائيل فإنه قد كان فيهم الأعاجيب‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أنشأ يحدث صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏خرجت طائفة من بني إسرائيل حتى أتوا مقبرة من مقابرهم، فقالوا لو صلينا ركعتين ودعونا الله عز وجل، فيخرج لنا رجلاً قد مات نسائله، يحدثنا عن الموت ففعلوا، فبينما هم كذلك إذ أطلع رجل رأسه من قبر من تلك القبور، بين عينيه أثر السجود‏.‏

فقال‏:‏ يا هؤلاء ما أردتم إلي فقد مت منذ مائة عام فما سكنت عني حرارة الموت حتى الآن فادعوا الله أن يعيدني كما كنت‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا حديث غريب، إذا تقرر جواز الرواية عنهم، فهو محمول على ما يمكن أن يكون صحيحاً، فأما ما يعلم أو يظن بطلانه لمخالفته الحق الذي بأيدينا عن المعصوم، فذاك متروك مردود لا يعرج عليه، ثم مع هذا كله لا يلزم من جواز روايته أن تعتقد صحته، لما رواه البخاري قائلاً‏:‏

حدثنا محمد بن يسار، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به البخاري من هذا الوجه‏.‏

وروى الإمام أحمد من طريق الزهري عن أبي نملة الأنصاري، عن أبيه أنه كان جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ إذا جاء رجل من اليهود فقال‏:‏ يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أعلم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال اليهودي‏:‏ أنا أشهد أنها تتكلم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقاً لم تكذبوهم، وإن كان باطلاً لم تصدقوهم‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏ ‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا هشيم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم قال فغضب، وقال‏:‏

‏(‏‏(‏أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب‏؟‏ والذي نفسي به لقد جئتكم به بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي به لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد، وإسناده على شرط مسلم‏.‏

فهذه الأحاديث دليل على أنهم قد بدلوا ما بأيديهم من الكتب السماوية وحرفوها، وأولوها، ووضعوها على غير مواضعها، ولا سيما ما يبدونه من المعربات التي لم يحيطوا بها علماً وهي بلغتهم، فكيف يعبرون عنها بغيرها، ولأجل هذا وقع في تعريبهم خطأ كبير، ووهم كثير، مع ما لهم من المقاصد الفاسدة، والآراء الباردة‏.‏

وهذا يتحققه من نظر في كتبهم التي بأيديهم، وتأمل ما فيها من سوء التعبير، وقبيح التبديل والتغيير، وبالله المستعان، وهو نعم المولى، ونعم النصير‏.‏

وهذه التوراة التي يبدونها، ويخفون منها كثيراً فيما ذكروه، فيها تحريف، وتبديل، وتغيير، وسوء تعبير، يعلم من نظر فيها، وتأمل ما قالوه، وما أبدوه، وما أخفوه، وكيف يسوغون عبارة فاسدة البناء والتركيب، باطلة من حيث معناها وألفاظها‏.‏

وهذا كعب الأحبار من أجود من ينقل عنهم، وقد أسلم في زمن عمر، وكان ينقل شيئاً عن أهل الكتاب، فكان عمر رضي الله عنه يستحسن بعض ما ينقله لما يصدقه من الحق، وتأليفاً لقلبه، فتوسع كثير من الناس في أخذ ما عنده، وبالغ أيضاً هو في نقل تلك الأشياء التي كثير منها ما يساوي مداده، ومنها ما هو باطل لا محالة، ومنها ما هو صحيح لما يشهد له الحق الذي بأيدينا‏.‏

وقد قال البخاري، وقال أبو اليمان‏:‏ حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطاً من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال‏:‏ إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب، يعني من غير قصد منه‏.‏

وروى البخاري من حديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على رسوله أحدث الكتب بالله، تقرأونه محضاً لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله، وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم‏.‏

وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق، أو تصدقوا بباطل، والله أعلم‏.‏ ‏‏

 قصة جريج أحد عباد بني إسرائيل

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وهب بن جرير، حدثني أبي، سمعت محمد بن سيرين يحدث عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة‏:‏ عيسى بن مريم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وكان في بني إسرائيل رجل عابد يقال له‏:‏ جريج، فابتنى صومعة وتعبد فيها، قال‏:‏ فذكر بنو إسرائيل عبادة جريج، فقالت بغي منهم‏:‏ لئن شئتم لأفتننه‏.‏

فقالوا‏:‏ قد شئنا ذاك‏.‏

قال‏:‏ فأتته فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأمكنت نفسها من راع كان يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج، فحملت فولدت غلاماً‏.‏

فقالوا‏:‏ ممن‏؟‏

قالت‏:‏ من جريج، فأتوه فاستنزلوه، فشتموه، وضربوه، وهدموا صومعته، فقال‏:‏ ما شأنكم‏؟‏

قالوا‏:‏ إنك زنيت بهذه البغي، فولدت غلاماً فقال‏:‏ وأين هو‏؟‏

قالوا‏:‏ هو هذا‏.‏

قال‏:‏ فقام فصلى ودعا، ثم انصرف إلى الغلام فطعنه بإصبعه، فقال‏:‏ بالله يا غلام من أبوك‏؟‏

فقال‏:‏ أنا ابن الراعي، فوثبوا إلى جريج فجعلوا يقبلونه، وقالوا‏:‏ نبني صومعتك من ذهب، قال‏:‏ لا حاجة لي في ذلك، ابنوها من طين كما كانت‏.‏

قال‏:‏ وبينما امرأة في حجرها ابن لها ترضعه، إذ مر بها راكب ذو شارة، فقالت‏:‏ اللهم اجعل ابني مثل هذا‏.‏

قال‏:‏ فترك ثديها، وأقبل على الراكب فقال‏:‏ اللهم لا تجعلني مثله‏.‏

قال‏:‏ ثم عاد إلى ثديها فمصه‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي صنيع الصبي، ووضع إصبعه في فيه يمصها‏.‏

ثم مرت بأمة تضرب فقالت‏:‏ اللهم لا تجعل ابني مثلها‏.‏

قال‏:‏ فترك ثديها، وأقبل على الأمة فقال‏:‏ اللهم اجعلني مثلها‏.‏

قال‏:‏ فذاك حين تراجعا الحديث‏.‏

فقالت‏:‏ خلفي مر الراكب ذو الشارة، فقلت‏:‏ اللهم اجعل ابني مثله، فقلت‏:‏ اللهم لا تجعلني مثله، ومررت بهذه الأمة فقلت‏:‏ اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت‏:‏ اللهم اجعلني مثلها، فقال‏:‏ يا أمتاه إن الراكب ذو الشارة جبار من الجبابرة، وإن هذه الأمة يقولون‏:‏ زنت ولم تزن، وسرقت ولم تسرق، وهي تقول حسبي الله‏.‏

وهكذا رواه البخاري في أحاديث الأنبياء، وفي المظالم، عن مسلم بن إبراهيم، ومسلم في كتاب الأدب، عن زهير بن حرب، عن يزيد بن هرون كلاهما عن جرير بن حازم به، طريق أخرى وسياق آخر‏.‏ ‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏كان جريج يتعبد في صومعته قال‏:‏ فأتته أمه فقالت‏:‏ يا جريج أنا أمك وكلمني‏.‏

قال‏:‏ وكان أبو هريرة يصف كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على حاجبه الأيمن‏.‏

قال‏:‏ وصادفته يصلي، قال‏:‏ يا رب أمي وصلاتي فاختار صلاته، فرجعت ثم أتته، فصادفته يصلي‏.‏

فقالت‏:‏ يا جريج أنا أمك فكلمني‏.‏

فقال‏:‏ يا رب أمي وصلاتي فاختار صلاته، فقالت‏:‏

اللهم هذا جريج وإنه ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلمني، اللهم فلا تمته حتى تريه المومسات‏.‏

ولو دعت عليه أن يفتتن لافتتن‏.‏

قال‏:‏ وكان راع يأوي إلى ديره، فخرجت امرأة فوقع عليها الراعي، فولدت غلاماً فقيل‏:‏ ممن هذا‏؟‏

فقالت‏:‏ هو من صاحب الدير، فأقبلوا بفؤوسهم ومساحيهم، وأقبلوا إلى الدير فنادوه فلم يكلمهم، فأقبلوا يهدمون ديره، فنزل إليهم فقالوا‏:‏ سل هذه المرأة - قال أراه تبسم - قال‏:‏ ثم مسح رأس الصبي فقال‏:‏ من أبوك‏؟‏

قال‏:‏ راعي الضأن، قالوا‏:‏ يا جريج نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة قال‏:‏ لا ولكن أعيدوه كما كان ففعلوا‏.‏

ورواه مسلم في الاستئذان، عن شيبان بن فروخ، عن سليمان بن المغيرة به‏.‏

سياق آخر قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد، أنبأنا ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏كان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج، كان يتعبد في صومعته، فأتته أمه ذات يوم فنادته، فقالت‏:‏ أي جريج، أي بني، أشرف علي أكلمك، أنا أمك اشرف علي، فقال‏:‏ أي ربي صلاتي وأمي، فأقبل على صلاته‏.‏

ثم عادت فنادته مراراً، فقالت‏:‏ أي جريج، أي بني، أشرف علي، فقال‏:‏ أي رب صلاتي وأمي، فأقبل على صلاته، فقالت‏:‏ اللهم لا تمته حتى تريه المومسة، وكانت راعية ترعى غنماً لأهلها، ثم تأوي إلى ظل صومعته، فأصابت فاحشة فحملت فأخذت‏.‏ وكان من زنى منهم قتل، فقالوا‏:‏ ممن‏؟‏

قالت‏:‏ من جريج صاحب الصومعة، فجاؤوا بالفؤوس والمرور‏.‏

فقالوا‏:‏ أي جريج، أي مرائي، انزل فأبى، وأقبل على صلاته يصلي، فأخذوا في هدم صومعته، فلما رأى ذلك نزل فجعلوا في عنقه وعنقها حبلاً، فجعلوا يطوفون بهما في الناس، فوضع إصبعه على بطنها فقال‏:‏ أي غلام من أبوك‏؟‏

فقال‏:‏ أبي فلان راعي الضأن، فقبلوه وقالوا‏:‏ إن شئت بنينا لك صومعتك من ذهب وفضة، قال أعيدوها كما كانت‏)‏‏)‏‏.‏ وهذا سياق غريب، وإسناده على شرط مسلم، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه‏.‏

فهؤلاء ثلاثة تكلموا في المهد‏:‏

عيسى بن مريم عليه السلام، وقد تقدم الكلام على قصته، وصاحب جريج بن البغي من الراعي كما سمعت واسمه يابوس، كما ورد مصرحاً به في صحيح البخاري، والثالث ابن المرأة التي كانت ترضعه فتمنت له أن يكون كصاحب الشارة الحسنة، فتمنى أن يكون كتلك الأمة المتهومة بما هي بريئة منه، وهي تقول‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل، كما تقدم في رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعاً‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد عن هوذة، عن عوف الأعرابي، عن خلاس، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بقصة هذا الغلام الرضيع، وهو إسناد حسن‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن عبد الرحمن الأعرج، حدثه أنه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏بينما امرأة ترضع ابنها إذ مر بها راكب وهي ترضعه، فقالت‏:‏ اللهم لا تمت ابني حتى يكون مثل هذا‏.‏

فقال‏:‏ اللهم لا تجعلني مثله، ثم رجع في الثدي ومر بامرأة تجر ويلعب بها‏.‏

فقالت‏:‏ اللهم لا تجعل ابني مثل هذه‏.‏

فقال‏:‏ اللهم اجعلني مثلها‏.‏

فقال‏:‏ أما الراكب فإنه كافر، وأما المرأة فإنهم يقولون إنها تزني وتقول حسبي الله، ويقولون تسرق وتقول حسبي الله‏.‏

وقد ورد في من تكلم في المهد أيضاً شاهد يوسف كما تقدم، وابن ماشطة آل فرعون، والله أعلم‏.‏

 قصة برصيصا

وهي عكس قضية جريج، فإن جريجاً عُصم، وذلك فتن‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، أنبأنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود، في هذه الآية‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 16-17‏]‏‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ وكانت امرأة ترعى الغنم، وكان لها أخوة أربعة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب، قال‏:‏ فنزل الراهب ففجر بها فحملت، فأتاه الشيطان فقال له‏:‏ اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل تصدق ويسمع قولك، فقتلها ثم دفنها‏.‏

قال‏:‏ فأتى الشيطان إخوتها في المنام، فقال لهم‏:‏ إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم، فلما أحبلها قتلها، ثم دفنها في مكان كذا وكذا، فلما أصبحوا قال رجل منهم‏:‏ والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك‏؟‏

قالوا‏:‏ لا بل قصها علينا‏.‏

قال‏:‏ فقصها‏.‏

فقال الآخر‏:‏ وأنا والله لقد رأيت ذلك‏.‏

فقال الآخر‏:‏ وأنا والله لقد رأيت ذلك‏.‏

قالوا‏:‏ فوالله ما هذا إلا لشي‏.‏ ‏

فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنزلوه، ثم انطلقوا به فأتاه الشيطان فقال‏:‏ إني أنا أوقعتك في هذا، ولن ينجيك منه غيري، فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه‏.‏

قال‏:‏ فسجد له، فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه، وأخذ فقتل‏.‏

وهكذا روي عن ابن عباس، وطاوس، ومقاتل بن حيان، نحو ذلك‏.‏

وقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسياق آخر؛ فقال ابن جرير‏:‏ حدثنا خلاد بن أسلم، حدثنا النضر بن شميل، أنبأنا شعبة عن أبي إسحاق، سمعت عبد الله بن نهيك، سمعت علياً يقول‏:‏

إن راهباً تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنها ولها إخوة، فقال لإخوتها‏:‏ عليكم بهذا القس فيداويها، قال‏:‏ فجاؤوا بها إليه فداواها‏.‏

وكانت عنده فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته، فأتاها فحملت فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب‏:‏ أنا صاحبك إنك أعييتني، أنا صنعت هذا بك، فاطعني أنجك مما صنعت بك، اسجد لي سجدة فسجد له، قال‏:‏ إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

 

 

 

 قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار فانطبق عليهم

فتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم ففرج عنهم‏.‏

قال الإمام البخاري‏:‏ حدثنا إسماعيل بن خليل، أخبرنا علي بن مسهر، عن عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون، إذا أصابهم مطر فآووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض‏:‏ إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم، أنه قد صدق فيه‏.‏

فقال واحداً منهم‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أزر، فذهب وتركه، وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، فصار من أمره أني اشتريت منه بقراً، وأنه أتاني يطلب أجره، فقلت‏:‏ اعمد إلى تلك البقر فسقها، فقال لي‏:‏ إنما لي عندك فرق من أرز، فقلت له‏:‏ اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساخت عنهم الصخرة‏.‏

فقال الآخر‏:‏ اللهم إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عنهما ليلة، فجئت وقد رقداً، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما فيستكنا لشربتهما، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء‏.‏

فقال الآخر‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم من أحب الناس إلي، وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلما قعدت بين رجليها، قالت‏:‏ اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك، ففرج عنا، ففرج الله عنهم فخرجوا‏)‏‏)‏‏.‏

رواه مسلم عن سويد بن سعيد، عن علي بن مسهر به‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد منفرداً به، عن مروان بن معاوية، عن عمرو بن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏

ورواه الإمام أحمد من حديث وهب بن منبه، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا السياق، وفيه زيادات‏.‏

ورواه البزار من طريق أبي إسحاق، عن رجل من بجيلة، عن النعمان بن بشير مرفوعاً مثله‏.‏

ورواه البزار في مسنده من حديث أبي حنش، عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏

 خبر الثلاثة الأعمى والأبرص والأقرع

روى البخاري ومسلم من غير وجه‏:‏ عن همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة أن أبا هريرة حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

‏(‏‏(‏إن ثلاثة في بني إسرائيل‏:‏ أبرص، وأعمى، وأقرع، بدا الله أن يبتليهم، فبعث الله إليهم ملكاً، فأتى الأبرص فقال له‏:‏ أي شيء أحب إليك‏؟‏

فقال‏:‏ لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس، قال‏:‏ فمسحه فذهب عنه، فأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً‏.‏

فقال‏:‏ أي المال أحب إليك‏؟‏

قال‏:‏ الإبل، أو‏:‏ قال البقر - هو شك في ذلك أن الأبرص والأقرع قال أحدهما‏:‏ الإبل، وقال الآخر‏:‏ البقر - فأعطي ناقة عشراء، فقال‏:‏ يبارك لك فيها‏.‏

قال‏:‏ وأتى الأقرع فقال له‏:‏ أي المال أحب إليك‏؟‏

قال‏:‏ شعر حسن، ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس، فمسحه فذهب، وأعطي شعراً حسناً‏.‏

قال‏:‏ فأي المال أحب إليك‏؟‏

قال‏:‏ البقر، فأعطاه بقرة حاملاً، وقال‏:‏ يبارك لك فيها‏.‏

قال‏:‏ وأتى الأعمى فقال‏:‏ أي شيء أحب إليك‏؟‏

قال‏:‏ يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس، قال‏:‏ فمسحه فرد الله إليه بصره‏.‏

قال‏:‏ فأي المال أحب إليك‏؟‏

قال‏:‏ الغنم فأعطاه شاة والداً، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم‏.‏

ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال‏:‏ رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال بعيراً، أتبلغ عليه في سفري‏.‏

فقال له‏:‏ إن الحقوق كثيرة، فقال له‏:‏ كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك الله عز وجل‏.‏

فقال‏:‏ لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال‏:‏ إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت‏.‏

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال‏:‏ إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت‏.‏

وأتى الأعمى في صورته فقال‏:‏ رجل مسكين وابن سبيل، وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردَّ عليك بصرك، شاة أتبلغ بها في سفري، فقال‏:‏ قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، وفقيراً فقد أغناني، فخذ ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل‏.‏

فقال‏:‏ أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك، هذا لفظ البخاري في أحاديث بني إسرائيل‏.‏

 حديث الذي استلف من صاحبه ألف دينار فأداها

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يونس بن محمد، حدثنا ليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر‏:‏

‏(‏‏(‏أن رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال‏:‏ ائتني بشهداء أشهدهم، قال‏:‏ كفى بالله شهيداً، قال‏:‏ ائتني بكفيل، قال‏:‏ كفى بالله كفيلاً، قال‏:‏ صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته‏.‏

ثم التمس مركباً يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركباً فأخذ خشبة فنقرها، وأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة معها إلى صاحبها، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها البحر، ثم قال‏:‏

اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلاناً ألف دينار، فسألني كفيلاً فقلت‏:‏ كفى بالله كفيلاً، فرضي بذلك، وسألني شهيداً فقلت‏:‏ كفى بالله شهيداً، فرضي بذلك، وإني قد جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه بالذي أعطاني، فلم أجد مركباً، وإني استودعتكما، فرمى بها في البحر، حتى ولجت فيه‏.‏

ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركباً إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً يجيئه بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً فلما كسرها وجد المال والصحيفة‏.‏

ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بألف دينار، وقال‏:‏ والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه، قال‏:‏ هل كنت بعثت إلي بشيء‏؟‏

قال‏:‏ ألم أخبرك أني لم أجد مركباً قبل هذا الذي جئت فيه، قال‏:‏ فإن الله أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرف بألفك راشداً‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا رواه الإمام أحمد مسنداً

وقد علقه البخاري في غير موضع من صحيحه بصيغة الجزم عن الليث بن سعد، وأسنده في بعضها عن عبد الله بن صالح، كاتب الليث عنه‏.‏

والعجب من الحافظ أبي بكر البزار، كيف رواه في مسنده، عن الحسن بن مدرك، عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن عمر بن سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏ ثم قال‏:‏ لا يروى إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد‏.‏

 قصة أخرى شبيهة بهذه القصة في الصدق والأمانة

قال البخاري‏:‏ حدثنا إسحاق بن نصر، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏اشترى رجل من رجل عقاراً له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار‏:‏ خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب‏.‏

وقال الذي له الأرض‏:‏ إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل‏.‏

فقال الذي تحاكما إليه‏:‏ ألكما ولد‏؟‏

قال أحدهما‏:‏ لي غلام‏.‏

وقال الآخر‏:‏ لي جارية‏.‏

قال‏:‏ أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا روى البخاري هذا الحديث في إخبار بني إسرائيل، وأخرجه مسلم، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق به‏.‏

وقد روى أن هذه القصة وقعت في زمن ذي القرنين، وقد كان قبل بني إسرائيل بدهور متطاولة، والله أعلم‏.‏

قال إسحاق بن بشر في كتابه ‏(‏المبتدأ‏)‏ عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن أن ذا القرنين كان يتفقد أمور ملوكه وعماله بنفسه، وكان لا يطلع على أحد منهم خيانة، إلا أنكر ذلك عليه، وكان لا يقبل ذلك حتى يطلع هو بنفسه‏.‏

قال‏:‏ فبينما هو يسير متنكراً في بعض المدائن، فجلس إلى قاض من قضاتهم أياماً، لا يختلف إليه أحد في خصومة، فلما أن طال ذلك بذي القرنين ولم يطلع على شيء من أمر ذلك القاضي، وهمَّ بالانصراف، إذا هو برجلين قد اختصما إليه، فادعى أحدهما فقال‏:‏ أيها القاضي إني اشتريت من هذا داراً عمرتها، ووجدت فيها كنزاً، وإني دعوته إلى أخذه فأبى علي‏.‏

فقال له القاضي‏:‏ ما تقول ‏؟‏

قال ما دفنت، وما علمت به، فليس هو لي ولا أقبضه منه‏.‏

قال المدعي‏:‏ أيها القاضي مر من يقبضه، فتضعه حيث أحببت، فقال القاضي‏:‏ تفر من الشر وتدخلني فيه، ما أنصفتني وما أظن هذا في قضاء الملك‏.‏

فقال القاضي‏:‏ هل لكما أمراً نصف مما دعوتماني إليه‏؟‏

قالا‏:‏ نعم‏.‏

قال للمدعي‏:‏ ألك ابن‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

وقال للآخر‏:‏ ألك ابنة‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ اذهبا فزوج ابنتك من ابن هذا، وجهزهما من هذا المال، وادفعا فضل ما بقي إليهما يعيشان به فتكونا ملياً بخيره وشره‏.‏

فعجب ذو القرنين حين سمع ذلك، ثم قال للقاضي‏:‏ ما ظننت أن في الأرض أحداً يفعل مثل هذا، أو قاض يقضي بمثل هذا، فقال القاضي وهو لا يعرفه‏:‏ وهل أحد يفعل غير هذا‏؟‏

قال ذو القرنين‏:‏ نعم‏.‏

قال القاضي‏:‏ فهل يمطرون في بلادهم‏؟‏

فعجب ذو القرنين من ذلك، وقال‏:‏ بمثل هذا قامت السموات والأرض‏.‏

 قصة أخرى

قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً، ثم خرج يسأل، فأتى راهباً فسأله فقال‏:‏ هل من توبة‏؟‏

قال‏:‏ لا، فقتله‏.‏

فجعل يسأل فقال له رجل‏:‏ ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي‏.‏

وقال‏:‏ قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له‏.‏

هكذا رواه ههنا مختصراً‏.‏

وقد رواه مسلم عن بندار به، ومن حديث شعبة، ومن وجه آخر عن قتادة به مطولاً‏.‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم أقبل على الناس، فقال‏:‏

‏(‏‏(‏بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت‏:‏ إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث، فقال الناس‏:‏ سبحان الله بقرة تكلم‏!‏ فقال‏:‏ فإني أؤمن بهذا أنا، وأبو بكر، وعمر وما هما، ثم قال‏:‏

وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب‏:‏ هذا‏!‏ استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري، فقال الناس‏:‏ سبحان الله ذئب يتكلم‏!‏ قال‏:‏ فإني أؤمن بهذا أنا، وأبو بكر، وعمر وما هما‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ وحدثنا علي، قال‏:‏ حدثنا سفيان، عن مسعر، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله‏.‏

وقد أسنده البخاري في المزارعة عن علي بن المديني ومسلم، عن محمد بن عباد كلاهما عن سفيان بن عيينة، وأخرجاه من طريق شعبة كلاهما عن مسعر به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏ وأخرج مسلم الطريق الأول من حديث سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، كلاهما عن أبي الزناد‏.‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم، عن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إنه كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب‏)‏‏)‏‏.‏

لم يخرجه مسلم من هذا الوجه، وقد روي عن إبراهيم بن سعد، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها‏.‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام حج على المنبر، فتناول قصة من شعر كانت في يدي حرسي فقال‏:‏ يا أهل المدينة أين علماؤكم‏؟‏

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه مسلم وأبو داود، من حديث مالك، وكذا رواه معمر، ويونس، وسفيان بن عيينة، عن الزهري بنحوه، وقال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عمرو بن مرة قال‏:‏ سمعت سعيد بن المسيب قال‏:‏ قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة آخر قدمة قدمها فخطبنا، فأخرج من كمه كبسة شعر، وقال‏:‏ ما كنت أرى أحداً يفعل هذا غير اليهود، إن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏سماه الزور‏)‏‏)‏ - يعني الوصال في الشعر - تابعه غندر عن شعبة‏.‏

والعجب أن مسلماً رواه من غير وجه، عن غندر، عن شعبة، ومن حديث قتادة عن سعيد بن المسيب به‏.‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا سعيد بن تليد، حدثنا ابن وهب قال‏:‏ أخبرني جرير بن حازم، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏بينما كلب يطيف بركيه كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فسقته فغفر لها به‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم عن أبي الطاهر بن السرح، عن ابن وهب به‏.‏ ‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن أسماء، حدثنا جويرية، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، فلا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد بن أسماء به‏.‏

 حديث آخر

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا المستمر بن الريان، حدثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏كان في بني إسرائيل امرأة قصيرة فصنعت رجلين من خشب فكانت تمشي بين امرأتين قصيرتين، واتخذت خاتماً من ذهب وحشت تحت فصه أطيب الطيب والمسك، فكانت إذا مرت بالمجلس حركته فنفح ريحه‏)‏‏)‏‏.‏

رواه مسلم من حديث المستمر، وخليد بن جعفر، كلاهما عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مرفوعاً قريبا منه‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن منصور سمعت ربعي بن حراش يحدث عن ابن مسعود، قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى‏:‏ إذا لم تستح فاصنع ما شئت‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به البخاري دون مسلم‏.‏

وقد رواه بعضهم عن ربعي بن حراش، عن حذيفة مرفوعاً وموقوفاً أيضاً، والله أعلم‏.‏

 حديث آخر

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هاشم بن القسم، حدثنا عبد الحميد - يعني بن بهرام - حدثنا شهر بن حوشب، قال‏:‏ قال أبو هريرة قال‏:‏ ‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدران على شيء، فجاء الرجل من سفره فدخل على امرأته جائعاً قد أصابته مسغبة شديدة، فقال‏:‏ لامرأته‏:‏ عندك شيء‏؟‏

قالت‏:‏ نعم، أبشر أتاك رزق الله، فاستحثها‏.‏

فقال‏:‏ ويحك ابتغي إن كان عندك شيء‏.‏

قالت‏:‏ نعم هنيئة نرجو رحمة الله، حتى إذا طال عليه المطال‏.‏ قال‏:‏ ويحك قومي فابتغي إن كان عندك شيء فأتيني به، فإني قد بلغت الجهد وجهدت‏.‏

فقالت‏:‏ نعم الآن ينضج التنور فلا تعجل‏.‏

فلما أن سكت عنها ساعة، وتحينت أيضاً أن يقول لها، قالت من عند نفسها‏:‏ لو قمت فنظرت إلى تنوري، فقامت فوجدت تنورها ملآن من جنوب الغنم ورحاها تطحن، فقامت إلى الرحى فنفضتها واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ فوالذي نفس أبي القاسم بيده عن قول محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو أخذت ما في رحيبها ولم تنفضها لطحنت إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا أبو عامر، حدثنا أبو بكر، عن هشام، عن محمد، عن أبي هريرة قال‏:‏ دخل رجل على أهله فلما رأى ملبهم من الحاجة، خرج إلى البرية فلما رأت امرأته ما لقي، قامت إلى الرحى فوضعتها، وإلى التنور فسجرته‏.‏

ثم قالت‏:‏ اللهم ارزقنا، فنظرت فإذا الجفنة قد امتلأت‏.‏

قال‏:‏ وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئاً‏.‏

قال‏:‏ فرجع الزوج‏.‏

قال‏:‏ أصبتم بعد شيئاً‏؟‏

قالت امرأته‏:‏ نعم من ربنا، فرفعتها إلى الرحى، ثم قامت، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما إنه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏

‏(‏‏(‏والله لأن يأتي أحدكم بحزمة حطب، ثم يحمله فيبيعه فيستعفف منه، خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله‏)‏‏)‏‏.‏

 قصة الملكين التائبين

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا المسعودي، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال‏:‏

بينما رجل فيمن كان قبلكم، كان في مملكته ففكر فعلم أن ذلك منقطع عنه، وأن ما هو فيه قد شغله عن عبادة ربه، فتسرب فانساب ذات ليلة من قصره، وأصبح في مملكة غيره، وأتى ساحل البحر فكان به يضرب اللبن بالآجر، فيأكل ويتصدق بالفضل، ولم يزل كذلك حتى رقي أمره و عبادته و فضله إلى ملكهم، فأرسل إليه فأبى أن يأتيه، فركب إليه الملك فلما رآه ولى هارباً فركض في أثره فلم يدركه فناداه‏:‏ يا عبد الله إنه ليس عليك مني بأس، فقام حتى أدركه، فقال له‏:‏ من أنت رحمك الله‏؟‏

فقال‏:‏ أنا فلان بن فلان صاحب مملكة كذا وكذا، ففكرت في أمري فعلمت أنما أنا فيه منقطع، وأنه قد شغلني عن عبادة ربي عز وجل، فتركته وجئت ههنا أعبد ربي فقال له‏:‏ ما أنت بأحوج لما صنعت مني قال‏:‏ فنزل عن دابته فسيبها وتبعه، فكانا جميعاً يعبدان الله عز وجل، فدعوا الله أن يميتهما جميعاً فماتا‏.‏‏

قال عبد الله‏:‏ فلو كنت برملية مصر لأريتكم قبورهما بالنعت الذي نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا أبو الوليد، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن رجلاً كان قبلكم رغسه الله مالاً، فقال لبنيه لما حضر‏:‏ أي أب كنت لكم‏؟‏

قالوا‏:‏ خير أب‏.‏

قال‏:‏ فإني لم أعمل خيراً قط، فإذا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في يوم عاصف ففعلوا، فجمعه الله عز وجل فقال‏:‏ ما حملك‏؟‏

فقال‏:‏ مخافتك فتلقاه برحمته‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه في مواضع أخر، ومسلم من طرق عن قتادة به، ثم رواه البخاري ومسلم من حديث ربعي بن حراش، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، ومن حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه‏:‏ إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال‏:‏ فلقي الله فتجاوز عنه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه في مواضع أخر، ومسلم من طريق الزهري به‏.‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني مالك، عن محمد بن المنكدر، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون‏؟‏

قال أسامة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو النضر‏:‏ لا يخرجكم إلا فراراً منه‏.‏

ورواه مسلم من حديث مالك، ومن طرق أخر عن عامر بن سعد به‏:‏

حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا داود بن أبي الفرات، حدثنا عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن عائشة قالت‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون أخبرني‏:‏

‏(‏‏(‏أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء من عباده، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به البخاري عن مسلم، من هذا الوجه‏.‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا ليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا‏:‏ من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقالوا‏:‏ ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة فقال‏:‏

‏(‏‏(‏أتشفع في حد من حدود الله‏؟‏

ثم قام فخطب، ثم قال‏:‏ إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجه بقية الجماعة من طرق، عن الليث بن سعد به‏.‏

 حديث آخر

وقال البخاري‏:‏ حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عبد الملك بن ميسرة، سمعت النزال بن سبرة الهلالي، عن ابن مسعود قال‏:‏ سمعت رجلا قرأ، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية وقال‏:‏

‏(‏‏(‏كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به البخاري دون مسلم‏.‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم، عن صالح، عن ابن شهاب قال‏:‏ قال أبو سلمة بن عبد الرحمن‏:‏ إن أبا هريرة قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به دون مسلم‏.‏

وفي سنن أبي داود‏:‏ ‏(‏‏(‏صلوا في نعالكم، خالفوا اليهود‏)‏‏)‏‏.‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاووس، عن ابن عباس سمعت عمر يقول‏:‏ قاتل الله فلاناً ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها‏)‏‏)‏‏.‏

رواه مسلم من حديث ابن عيينة، ومن حديث عمرو بن دينار به، ثم قال البخاري تابعه جابر وأبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا الحديث طرق كثيرة، وسيأتي في باب الحيل من كتاب الأحكام، إن شاء الله وبه الثقة‏.‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا عمران بن ميسرة، حدثنا عبد الوارث، حدثنا خالد عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ ذكروا النار والناقوس، فذكروا اليهود والنصارى‏:‏

‏(‏‏(‏فأمر بلال أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجه بقية الجماعة من حديث أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي به‏.‏

والمقصود من هذا مخالفة أهل الكتاب في جميع شعارهم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان المسلمون يتحينون وقت الصلاة بغير دعوة إليها‏.‏ ثم أمر من ينادي فيهم وقت الصلاة‏:‏ الصلاة جامعة‏.‏

ثم أرادوا أن يدعوا إليها بشيء يعرفه الناس، فقال قائلون‏:‏ نضرب بالناقوس، وقال آخر‏:‏ نوري ناراً، فكرهوا ذلك لمشابهة أهل الكتاب، فأُري عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري في منامه الأذان، فقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بلالاً فنادى، كما هو مبسوط في موضعه من باب الأذان في كتاب الأحكام‏.‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا بشر بن محمد، أنبأنا عبد الله، أنبأنا معمر ويونس، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عائشة وابن عباس قالا‏:‏ لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا أغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك‏:‏

‏(‏‏(‏لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏)‏‏.‏

يحذر ما صنعوا‏.‏

وهكذا رواه في غير موضع، ومسلم من طرق عن الزهري به‏.‏

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو غسان، قال‏:‏ حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه‏)‏‏)‏‏.‏

فقلنا‏:‏ يا رسول الله اليهود والنصارى‏؟‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فمن‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه مسلم من حديث زيد بن أسلم به‏.‏

والمقصود من هذه الأخبار عما يقع من الأقوال والأفعال المنهي عنها شرعاً، مما يشابه أهل الكتاب قبلنا أن الله ورسوله ينهيان عن مشابهتهم في أقوالهم وأفعالهم، حتى لو كان قصد المؤمن خيراً، لكنه تشبه ففعله في الظاهر فعلهم‏.‏

وكما نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لئلا تشابه المشركين الذين يسجدون للشمس حينئذ، وإن كان المؤمن لا يخطر بباله شيء من ذلك بالكلية‏.‏

وهكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 104‏]‏‏.‏ فكان الكفار يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم كلامهم معه‏:‏ راعنا أي‏:‏ انظر إلينا ببصرك، واسمع كلامنا، ويقصدون بقولهم‏:‏ راعنا من الرعونة، فنهى المؤمنين أن يقولوا ذلك، وإن كان لا يخطر ببال أحد منهم هذا أبداً‏.‏

فقد روى الإمام أحمد، والترمذي، من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم، فليس للمسلم أن يتشبه بهم لا في أعيادهم ولا مواسمهم ولا في عباداتهم‏)‏‏)‏‏.‏

لأن الله تعالى شرَّف هذه الأمة بخاتم الأنبياء، الذي شرع له الدين العظيم القويم الشامل الكامل، الذي لو كان موسى بن عمران الذي أنزلت عليه التوراة، وعيسى بن مريم الذي أنزل عليه الإنجيل حيين، لم يكن لهما شرع متبع، بل لو كانا موجودين بل وكل الأنبياء، لما ساغ لواحد منهم أن يكون على غير هذه الشريعة المطهرة المشرفة المكرمة المعظمة‏.‏

فإذا كان الله تعالى قد منَّ علينا بأن جعلنا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يليق بنا أن نتشبه بقوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل، قد بدلوا دينهم وحرفوه وأولوه، حتى صار كأنه غير ما شرع لهم أولاً‏.‏

ثم هو بعد ذلك كله منسوخ، والتمسك بالمنسوخ حرام، لا يقبل الله منه قليلاً ولا كثيراً، ولا فرق بينه وبين الذي لم يشرع بالكلية، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏.

 حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إنما أجلكم في أجل من خلا من قبلكم من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً فقال‏:‏ من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط‏؟‏

فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال‏:‏ من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط‏؟‏

فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط‏.‏

ثم قال‏:‏ من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين إلا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى المغرب على قيراطين قيراطين إلا لكم الأجر مرتين فغضب اليهود والنصارى‏.‏

فقالوا‏:‏ نحن أكثر عملاً وأقل عطاء قال الله تعالى‏:‏ هل ظلمتكم من حقكم شيئاً‏؟‏

فقالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فإنه فضلي أوتيه من أشاء‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث فيه دليل على أن مدة هذه الأمة قصيرة بالنسبة إلى ما مضى من مدد الأمم قبلها لقوله‏:‏

‏(‏‏(‏إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس‏)‏‏)‏، فالماضي لا يعلمه إلا الله، كما أن الآتي لا يعلمه إلا هو، ولكنه قصير بالنسبة إلى ما سبق، ولا اطلاع لأحد على تحديد ما بقي إلا الله عز وجل، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ‏} ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 41-43‏]‏‏.‏

وما تذكره بعض الناس من الحديث المشهور عند العامة، من أنه عليه السلام لا يؤلف تحت الأرض فليس له أصل في كتب الحديث، وورد فيه حديث‏:‏ ‏(‏‏(‏أن الدنيا جمعة من جمع الآخرة‏)‏‏)‏ وفي صحته نظر‏.‏

والمراد من هذا التشبيه بالعمال تفاوت أجورهم، وأن ذلك ليس منوطا بكثرة العمل وقلته، بل بأمور أخر معتبرة عند الله تعالى، وكم من عمل قليل أجدى ما لا يجديه العمل الكثير، هذه ليلة القدر العمل فيها أفضل من عبادة ألف شهر سواها، وهؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنفقوا في أوقات لو أنفق غيرهم من الذهب مثل أحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه من تمر‏.‏

وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره، وقبضه وهو ابن ثلاث وستين على المشهور، وقد برز في هذه المدة التي هي ثلاث وعشرون سنة في العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، على سائر الأنبياء قبله، حتى على نوح الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويعمل بطاعة الله ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء أجمعين‏.‏ ‏

فهذه الأمة إنما شرفت وتضاعف ثوابها ببركة سيادة نبيها وشرفه وعظمته، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 28-29‏]‏‏.‏