الجزء الثاني - فصل : بعض القصص من الاسرائيليات

فصل : بعض القصص من الاسرائيليات

وأخبار بني إسرائيل كثيرة جداً في الكتاب والسنة النبوية، ولو ذهبنا نتقصى ذلك لطال الكتاب، ولكن ذكرنا ما ذكره الإمام أبو عبد الله البخاري في هذا الكتاب، ففيه مقنع وكفاية، وهو تذكرة وأنموذج لهذا الباب، والله أعلم‏.‏

وأما الأخبار الإسرائيلية فيما يذكره كثير من المفسرين والمؤرخين فكثيرة جداً، ومنها ما هو صحيح موافق لما وقع، وكثير منها بل أكثرها مما يذكره القصاص مكذوب مفترى، وضعه زنادقتهم وضلالهم، وهي ثلاثة أقسام‏:‏

منها‏:‏ ما هو صحيح لموافقته ما قصه الله في كتابه أو أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومنها‏:‏ ما هو معلوم البطلان لمخالفته كتاب الله وسنة رسوله‏.‏

ومنها‏:‏ ما يحتمل الصدق والكذب، فهذا الذي أمرنا بالتوقف فيه، فلا نصدقه ولا نكذبه، كما ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏

‏(‏‏(‏إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم‏)‏‏)‏‏.‏

وتجوز روايته مع هذا الحديث المتقدم‏:‏ ‏(‏‏(‏وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج‏)‏‏)‏‏.‏

 تحريف أهل الكتاب وتبديلهم أديانهم

أما اليهود فقد أنزل الله عليهم التوراة على يدي موسى بن عمران عليه السلام، وكانت كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 154‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 117-118‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 177‏)‏

فكانوا يحكمون بها وهم متمسكون بها برهة من الزمان، ثم شرعوا في تحريفها، وتبديلها، وتغييرها، وتأويلها، وإبداء ما ليس منها، كما قال الله تعالى‏:‏ {‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 78‏]‏‏.‏

فأخبر تعالى أنهم يفسرونها، ويتأولونها، ويضعونها على غير مواضعها، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء، وهو أنهم يتصرفون في معانيها، ويحملونها على غير المراد، كما بدلوا حكم الرجم بالجلد، والتحميم مع بقاء لفظ الرجم فيها، وكما أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، مع أنهم مأمورون بإقامة الحد، والقطع على الشريف والوضيع‏.‏

فأما تبديل ألفاظها فقال قائلون‏:‏ بأنها جميعها بدلت، وقال آخرون‏:‏ لم تبدل، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏

وبقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 93‏]‏‏.‏

وبقصة الرجم، فإنهم كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر، وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب، وجابر بن عبد الله وفي السنن عن أبي هريرة وغيره، لما تحاكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة اليهودي واليهودية الذين زنيا فقال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما تجدون في التوراة في شأن الرجم‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ نفضحهم ويجلدون فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحضار التوراة فلما جاؤوا بها، وجعلوا يقرؤنها ويكتمون آية الرجم التي فيها، ووضع عبد الله بن صور بأيده على آية الرجم، وقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ارفع يدك يا أعور‏)‏‏)‏‏.‏

فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه‏)‏‏)‏‏.‏

وعند أبي داود‏:‏ أنهم لما جاؤوا بها نزع الوسادة من تحته فوضعها تحتها، وقال‏:‏ آمنت بك وبمن أنزلك، وذكر بعضهم أنه قام لها ولم أقف على إسناده، والله أعلم‏.‏

وهذا كله يشكل على ما يقوله كثير من المتكلمين وغيرهم، أن التوراة انقطع تواترها في زمن بخت نصر، ولم يبق من يحفظها إلا العزير، ثم العزيز إن كان نبياً فهو معصوم، والتواتر إلى المعصوم يكفي، اللهم إلا أن يقال‏:‏ إنها لم تتواتر إليه، لكن بعده زكريا، ويحيى، وعيسى، وكلهم كانوا متمسكين بالتوراة، فلو لم تكن صحيحة معمولاً بها، لما اعتمدوا عليها وهم أنبياء معصومون‏.‏

ثم قد قال الله تعالى فيما أنزل على رسوله محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء، منكراً على اليهود في قصدهم الفاسد إذ عدلوا عما يعتقدون صحته عندهم، وأنهم مأمورون به حتماً إلى التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعاندون ما جاء به لكن لما كان في زعمهم ما قد يوافقهم على ما ابتدعوه من الجلد والتحميم المصادم لما أمر الله به حتما وقالوا‏:‏ إن حكم لكم بالجلد والتحميم فاقبلوه، وتكونون قد اعتذرتم بحكم نبي لكم عند الله يوم القيامة، وإن لم يحكم لكم بهذا بل بالرجم فاحذروا أن تقبلوا منه‏.‏

فأنكر الله تعالى عليهم في هذا القصد الفاسد الذي إنما حملهم عليه الغرض الفاسد، وموافقة الهوى، لا الدين الحق فقال‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 43-44‏]‏‏.‏

ولهذا حكم بالرجم قال‏:‏

‏(‏‏(‏اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه‏)‏‏)‏‏.‏

وسألهم ما حملهم على هذا ولم تركوا أمر الله الذي بأيديهم‏؟‏ فقالوا‏:‏ إن الزنا قد كثر في أشرافنا ولم يمكنا أن نقيمه عليهم، وكنا نرجم من زنى من ضعفائنا‏.‏

فقلنا تعالوا إلى أمر نصف نفعله مع الشريف والوضيع فاصطلحنا على الجلد والتحميم، فهذا من جملة تحريفهم وتبديلهم وتغييرهم وتأويلهم الباطل، وهذا إنما فعلوه في المعاني مع بقاء لفظ الرجم في كتابهم، كما دل عليه الحديث المتفق عليه‏.‏

فلهذا قال من قال‏:‏ هذا من الناس إنه لم يقع تبديلهم إلا في المعاني، وإن الألفاظ باقية وهي حجة عليهم، إذ لو أقاموا ما في كتابهم جميعه لقادهم ذلك إلى اتباع الحق ومتابعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 66‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وهذا المذهب وهو القول بأن التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها، حكاه البخاري عن ابن عباس في آخر كتابه الصحيح، وقرر عليه ولم يرده‏.‏ وحكاه العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره عن أكثر المتكلمين‏.‏

 ليس للجنب لمس التوراة

وذهب فقهاء الحنفية إلى أنه لا يجوز للجنب مس التوراة وهو محدث، وحكاه الحناطي في فتاويه عن بعض أصحاب الشافعي وهو غريب جداً، وذهب آخرون من العلماء إلى التوسط في هذين القولين منهم‏:‏ شيخنا الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فقال‏:‏ أما من ذهب إلى أنها كلها مبدلة من أولها إلى آخرها ولم يبق منها حرف إلا بدلوه فهذا بعيد‏.‏

وكذا من قال لم يبدل شيء منها بالكلية بعيد أيضاً، والحق أنه دخلها تبديل وتغيير، وتصرفوا في بعض ألفاظها بالزيادة والنقص كما تصرفوا في معانيها، وهذا معلوم عند التأمل ولبسطه موضع آخر، والله أعلم‏.‏

كما في قوله في قصة الذبيح‏:‏ اذبح ابنك وحيدك، وفي نسخة‏:‏ بكرك إسحاق، فلفظة إسحاق مقحمة مزيدة بلا مرية، لأن الوحيد وهو البكر إسماعيل لأنه ولد قبل إسحاق بأربع عشر سنة، فكيف يكون الوحيد البكر إسحاق‏؟‏ وإنما حملهم على ذلك حسد العرب أن يكون إسماعيل غير الذبيح، فأرادوا أن يذهبوا بهذه الفضيلة لهم فزادوا ذلك في كتاب الله افتراء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد اغتر بهذه الزيادة خلق كثير من السلف والخلف، ووافقوهم على أن الذبيح إسحاق، والصحيح الذبيح إسماعيل كما قدمنا، والله أعلم‏.‏

وهكذا في توراة السامرة في العشر الكلمات زيادة الأمر بالتوجه إلى الطور في الصلاة، وليس ذلك في سائر نسخ اليهود والنصارى‏.‏

وهكذا يوجد في الزبور المأثور عن داود عليه السلام مختلفاً كثيراً وفيه أشياء مزيدة ملحقة فيه وليست منه، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ وأما ما بأيديهم من التوراة المعربة فلا يشك عاقل في تبديلها وتحريف كثير من ألفاظها، وتغيير القصص والألفاظ، والزيادات والنقص البين الواضح، وفيها من الكذب البين والخطأ الفاحش شيء كثير جداً، فأما ما يتلونه بلسانهم ويكتبونه بأقلامهم فلا اطلاع لنا عليه، والمظنون بهم أنهم كذبة خونة يكثرون الفرية على الله ورسله وكتبه‏.‏

وأما النصارى فأناجيلهم الأربعة من طريق مرقس، ولوقا، ومتى، ويوحنا أشد اختلافاً وأكثر زيادة ونقصاً، وأفحش تفاوتاً من التوراة، وقد خالفوا أحكام التوراة والإنجيل في غير ما شيء قد شرعوه لأنفسهم، فمن ذلك صلاتهم إلى الشرق وليست منصوصا عليها ولا مأمورا بها في شيء من الأناجيل الأربعة‏.‏

وهكذا تصويرهم كنائسهم وتركهم الختان، ونقلهم صيامهم إلى زمن الربيع، وزيادته إلى خمسين يوماً، وأكلهم الخنزير، ووضعهم الأمانة الكبيرة، وإنما هي الخيانة الحقيرة، والرهبانية‏:‏ وهي ترك التزويج لمن أراد التعبد وتحريمه عليه‏.‏

وكتبهم القوانين التي وضعتها لهم الأساقفة الثلاثمائة والثمانية عشر، فكل هذه الأشياء ابتدعوها ووضعوها في أيام قسطنطين بن قسطن باني القسطنطينية، وكان زمنه بعد المسيح بثلاثمائة سنة، وكان أبوه أحد ملوك الروم وتزوج أمه هيلانة في بعض أسفاره للصيد من بلاد حران، وكانت نصرانية على دين الرهابين المتقدمين‏.‏

فلما ولد لها منه قسطنطين المذكور، تعلم الفلسفة وبهر فيها وصار فيه ميل بعض الشيء إلى النصرانية التي أمه عليها، فعظم القائمين بها بعض الشيء وهو على اعتقاد الفلاسفة‏.‏

فلما مات أبوه واستقل هو في المملكة، سار في رعيته سيرة عادلة فأحبه الناس، وساد فيهم وغلب على ملك الشام بأسره مع الجزيرة وعظم شأنه، وكان أول القياصرة، ثم اتفق اختلاف في زمانه بين النصارى ومنازعة بين بترك الإسكندرية اكصندروس، وبين رجل من علمائهم يقال له‏:‏ عبد الله بن أريوس‏.‏

فذهب اكصندروس إلى أن‏:‏ عيسى ابن الله تعالى الله عن قوله، وذهب ابن أريوس إلى أن‏:‏ عيسى عبد الله ورسوله، واتبعه على هذا طائفة من النصارى‏.‏

واتفق الأكثرون الأخسرون على قول بتركهم، ومنع ابن أريوس من دخول الكنيسة هو وأصحابه، فذهب يستعدي على اكصندروس وأصحابه إلى ملك قسطنطين، فسأله الملك عن مقالته فعرض عليه عبد الله بن أريوس ما يقول في المسيح من أنه عبد الله ورسوله، واحتج على ذلك فحال إليه وجنح إلى قوله، فقال له قائلون‏:‏ فينبغي أن تبعث إلى خصمه فتسمع كلامه، فأمر الملك بإحضاره وطلب من سائر الأقاليم كل أسقف وكل من عنده في دين النصرانية‏.‏

وجمع البتاركة الأربعة من القدس، وإنطاكية، ورومية، والإسكندرية، فيقال‏:‏ إنهم اجتمعوا في مدة سنة وشهرين ما يزيد على ألفي أسقف، فجمعهم في مجلس واحد وهو المجمع الأول من مجامعهم الثلاثة المشهورة، وهم مختلفون اختلافاً متبايناً منتشراً جداً، فمنهم الشرذمة على المقالة التي لا يوافقهم أحد من الباقين عليها، فهؤلاء خمسون على مقالة، وهؤلاء ثمانون على مقالة أخرى، وهؤلاء عشرة على مقالة، وأربعون على أخرى، ومائة على مقالة، ومائتان على مقالة، وطائفة على مقالة ابن أريوس، وجماعة على مقالة أخرى‏.‏

فلما تفاقم أمرهم، وانتشر اختلافهم حار فيهم الملك قسطنطين مع أنه سيئ الظن بما عدا دين الصابئين من أسلافه اليونانيين، فعمد إلى أكثر جماعة منهم على مقالة من مقالاتهم، فوجدهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً، قد اجتمعوا على مقالة اكصندروس ولم يجد طائفة بلغت عدتهم‏.‏

فقال هؤلاء‏:‏ أولى بنصر قولهم لأنهم أكثر الفرق، فاجتمع بهم خصوصاً، ووضع سيفه وخاتمه إليهم وقال‏:‏ إني رأيتكم أكثر الفرق قد اجتمعتم على مقالتكم هذه، فأنا أنصرها وأذهب إليها‏.

فسجدوا له وطلب منهم أن يضعوا له كتاباً في الأحكام، وأن تكون الصلاة إلى الشرق لأنها مطلع الكواكب النيرة، وأن يصوروا في كنائسهم صوراً لها جثث، فصالحوه على أن تكون في الحيطان‏.‏

فلما توافقوا على ذلك أخذ في نصرهم وإظهار كلمتهم، وإقامة مقالتهم، وإبعاد من خالفهم وتضعيف رأيه وقوله، فظهر أصحابه بجاهه على مخالفيهم، وانتصروا عليهم، وأمر ببناء الكنائس على دينهم وهم الملكية نسبة إلى دين الملك‏.‏

فبني في أيام قسطنطين بالشام وغيرها في المدائن والقرى أزيد من اثنتي عشر ألف كنيسة، واعتنى الملك ببناء بيت لحم يعني على مكان مولد المسيح، وبنت أمه هيلانة قمامة بيت المقدس على مكان المصلوب الذي زعمت اليهود والنصارى بجهلهم وقلة علمهم أنه المسيح عليه الصلاة والسلام‏.‏

ويقال‏:‏ إنه قتل من أعداء أولئك، وخد لهم الأخاديد في الأرض، وأجج فيها النار وأحرقهم بها كما ذكرناه في سورة البروج، وعظم دين النصرانية، وظهر أمره جداً بسبب الملك قسطنطين، وقد أفسده عليهم فساداً لا إصلاح له ولا نجاح معه ولا فلاح عنده‏.‏

وكثرت أعيادهم بسبب عظمائهم، وكثرت كنائسهم على أسماء عبادهم، وتفاقم كفرهم، وغلظت مصيبتهم، وتخلد ضلالهم، وعظم وبالهم، ولم يهد الله قلوبهم ولا أصلح بالهم، بل صرف قلوبهم عن الحق، وأمال عن الاستقامة، ثم اجتمعوا بعد ذلك مجمعين في قضية النسطورية واليعقوبية‏.‏

وكل فرقة من هؤلاء تكفر الأخرى، وتعتقد تخليدهم في نار جهنم، ولا يرى مجامعتهم في المعابد والكنائس، وكلهم يقول بالأقانيم الثلاثة‏:‏ أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة، ولكن بينهم اختلاف في الحلول والاتحاد فيما بين اللاهوت والناسوت، هل تدرعه أو حل فيه، أو اتحد به‏؟‏

واختلافهم في ذلك شديد، وكفرهم بسببه غليظ، وكلهم على الباطل إلا من قال من الأريوسية أصحاب عبد الله بن أريوس‏:‏ إن المسيح عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته، ألقاها إلى مريم وروح منه كما يقول المسلمون فيه سواء‏.‏

ولكن لما استقر أمر الأريوسية على هذه المقالة، تسلط عليهم الفرق الثلاثة بالإبعاد والطرد حتى قلوا، فلا يعرف اليوم منهم أحد فيما يعلم، والله أعلم‏.‏

كتاب الجامع الأخبار الأنبياء المتقدمين

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏ ‏(‏ج /ص‏:‏ 2/ 182‏)‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153-155‏]‏‏.‏

وقد روى ابن حبان في صحيحه، وابن مردويه في تفسيره وغيرهما، من طريق إبراهيم بن هشام، عن يحيى بن محمد الغساني الشامي، وقد تكلموا فيه، حدثني أبي، عن جدي، عن أبي إدريس، عن أبي ذر قال‏:‏ قلت يا رسول الله كم الأنبياء‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله، كم الرسل منهم‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله من كان أولهم‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏آدم‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله نبي مرسل‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلاً ثم قال‏:‏ يا أبا ذر أربعة سريانيون‏:‏ آدم، وشيث، ونوح، وخنوخ، وهو إدريس، وهو أول من خط بالقلم‏.‏ وأربعة من العرب‏:‏ هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر‏.‏ وأول نبي من بني إسرائيل‏:‏ موسى، وآخرهم‏:‏ عيسى، وأول النبيين‏:‏ آدم، وآخرهم نبيك‏)‏‏)‏‏.‏

وقد أورد هذا الحديث أبو الفرج ابن الجوزي في الموضوعات‏.‏

وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال‏:‏ حدثنا محمد بن عوف، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، عن علي بن زيد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال‏:‏

قلت يا رسول الله كم الأنبياء‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا أيضاً من هذا الوجه ضعيف، فيه ثلاثة من الضعفاء‏:‏ معان وشيخه، وشيخ شيخه‏.‏

وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا أحمد بن إسحاق أبو عبد الله الجوهري البصري، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏بعث الله ثمانية آلاف نبي، أربعة آلاف إلى بني إسرائيل، وأربعة آلاف إلى سائر الناس‏)‏‏)‏‏.‏

موسى وشيخه ضعيفان أيضاً‏.‏

وقال أبو يعلى أيضاً‏:‏ حدثنا أبو الربيع، حدثنا محمد بن ثابت العبدي، حدثنا معبد بن خالد الأنصاري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي، ثم كان عيسى، ثم كنت أنا‏)‏‏)‏‏.‏

يزيد الرقاشي ضعيف‏.‏

وقد رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي، عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة‏:‏ حدثنا أحمد بن طارق، حدثنا مسلم بن خالد، حدثنا زياد بن سعد، عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سليم، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا إسناد لا بأس به، لكني لا أعرف حال أحمد بن طارق هذا والله أعلم‏.‏

 حديث آخر

قال عبد الله بن الإمام أحمد‏:‏ وجدت في كتاب أبي بخطه‏:‏ حدثني عبد المتعالي ابن عبد الوهاب، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا مجالد عن أبي الوداك قال‏:‏ قال أبو سعيد‏:‏ هل تقر الخوارج بالدجال‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ لا‏.‏

فقال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إني خاتم ألف نبي أو أكثر، وما بعث الله نبياً يتبع إلا وحذر أمته منه، وإني قد بين لي فيه ما لم يبين لأحد منهم، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى كأنها نخامة في حائط مجصص، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري، معه من كل لسان، ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء تدخن‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا حديث غريب‏.‏

وقد روي عن جابر بن عبد الله فقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لخاتم ألف نبي أو أكثر، وإنه ليس منهم بني إلا وقد أنذر قومه الدجال، وأنه قد تبين لي فيه ما لم يتبين لأحد منهم وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا إسناد حسن، وهو محمول على ذكر عدد من أنذر قومه الدجال من الأنبياء، لكن في الحديث الآخر‏:‏

‏(‏‏(‏ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الدجال‏)‏‏)‏‏.‏

فالله أعلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن فرات يعني القزاز قال‏:‏ سمعت أبا حازم يحدث قال‏:‏ قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏

‏(‏‏(‏كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ فما تأمرنا يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه مسلم عن بندار ومن وجه آخر عن فرات به نحوه‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عمرو بن حفص، حدثنا أبي حدثني الأعمش، حدثني شقيق قال‏:‏ قال عبد الله - هو ابن مسعود - كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول‏:‏

‏(‏‏(‏اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏‏)‏‏.‏

رواه مسلم من حديث الأعمش به نحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن زيد بن أسلم، عن رجل، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ وضع رجل يده اليمنى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالقمل حتى يقتله، وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالفقر حتى يأخذ العباء فيجوبها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا رواه الإمام أحمد من طريق زيد بن أسلم، عن رجل، عن أبي سعيد‏.‏ وقد رواه ابن ماجه عن دحيم، عن ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد فذكره‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، حدثنا سفيان بن عاصم بن أبي النجود، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال‏:‏

قلت‏:‏ يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عليه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض وما عليه خطيئة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عاصم بن أبي النجود‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وتقدم في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد وأمهاتنا شتى‏)‏‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن شرائعهم وإن اختلفت في الفروع، ونسخ بعضها بعضاً حتى انتهى الجميع إلى ما شرع الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين‏.‏

إلا أن كل نبي بعثه الله فإنما دينه الإسلام، وهو التوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏} ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏

فأولاد العلات أن يكون الأب واحداً والأمهات متفرقات، فالأب بمنزلة الدين وهو التوحيد، والأمهات بمنزلة الشرائع في اختلاف أحكامها كما قال تعالى‏:‏ {‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا‏} ‏[‏البقرة‏:‏ 148‏]‏ على أحد القولين في تفسيرها‏.‏

والمقصود أن الشرائع وإن تنوعت في أوقاتها، إلا أن الجميع آمرة بعبادة الله وحده لا شريك له، وهو دين الإسلام الذي شرعه الله لجميع الأنبياء، وهو الدين الذي لا يقبل الله غيره يوم القيامة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 130- 132‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، فدين الإسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو الإخلاص له وحده دون ما سواه، والإحسان أن يكون على الوجه المشروع في ذلك الوقت المأمور به، ولهذا لا يقبل الله من أحد عملاً بعد أن بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على ما شرعه له‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏بعثت إلى الأحمر والأسود‏)‏‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ أراد العرب والعجم، وقيل‏:‏ الإنس والجن‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم‏)‏‏)‏‏.‏

والأحاديث في هذا كثيرة جداً‏.‏ ‏‏

والمقصود أن إخوة العلات أن يكونوا من أب واحد وأمهاتهم شتى، مأخوذ من شرب العلل بعد النهل‏.‏ وأما إخوة الأخياف فعكس هذا؛ أن تكون أمهم واحدة من آباء شتى‏.‏ وإخوة الأعيان فهم الأشقاء من أب واحد وأم واحدة، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وفي الحديث الآخر‏:‏

‏(‏‏(‏نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة‏)‏‏)‏‏.‏ وهذا من خصائص الأنبياء أنهم لا يورثون، وما ذاك إلا لأن الدنيا أحقر عندهم من أن تكون مخلفة عنهم، ولأن توكلهم على الله عز وجل في ذراريهم أعظم، وأشد، وآكد من أن يحتاجوا معه إلى أن يتركوا لورثتهم من بعدهم ما لا يستأثرون به عن الناس، بل يكون جميع ما تركوه صدقة لفقراء الناس، ومحاويجهم، وذو خلتهم‏.‏

وسنذكر جميع ما يختص بالأنبياء عليهم السلام، مع خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، في أول كتاب النكاح من كتاب الأحكام الكبير، حيث ذكره الأئمة من المصنفين اقتداء بالإمام أبي عبد الله الشافعي رحمة الله عليه وعليهم أجمعين‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن أن عبد رب الكعبة قال‏:‏ انتهيت إلى عبد الله بن عمرو وهو جالس في ظل الكعبة، فسمعته يقول‏:‏ بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ نزل منزلاً فمنا من يضرب خباءه، ومنا من هو في جشرة، ومنا من ينتضل، إذ نادى مناديه‏:‏ الصلاة جامعة، قال‏:‏ فاجتمعنا، قال‏:‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبنا فقال‏:‏

‏(‏‏(‏إنه لم يكن نبي قبلي إلا دل أمته على خير ما يعلمه لهم، وحذرهم ما يعلمه شراً لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وإن آخرها سيصيبها بلاء شديد، وأمور ينكرونها، تجيء فتن يريق بعضها بعضا، تجيء الفتنة فيقول المؤمن‏:‏ هذه مهلكتي، ثم تنكشف، ثم تجيء الفتنة فيقول المؤمن‏:‏ هذه، ثم تنكشف، فمن سره منكم أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه موتته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأدخلت رأسي من بين الناس، فقلت‏:‏ أنشدك بالله أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فأشار بيده إلى أذنيه، وقال‏:‏ سمعته أذناي، ووعاه قلبي، قال‏:‏ فقلت‏:‏ هذا ابن عمك - يعني معاوية - يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن نقتل أنفسنا، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فجمع يديه، فوضعهما على جبهته، ثم نكس هنيهة، ثم رفع رأسه فقال‏:‏ أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله‏.‏ ورواه أحمد أيضاً عن وكيع عن الأعمش به، وقال فيه‏:‏ ‏{‏أيها الناس إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيراً لهم، وينذره ما يعلمه شراً لهم‏}‏ وذكر تمامه بنحوه‏.‏

وهكذا رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من طرق عن الأعمش به‏.‏

ورواه مسلم أيضاً من حديث الشعبي، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏ ‏

آخر الجزء الثامن من خط المصنف رحمه الله تعالى، يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أخبار العرب، وكان الفراغ من تتمة هذا المجلد في سابع عشر شوال، سنة سهر ربيعة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، بدمشق المحروسة‏.‏

على يد أفقر عباد الله، وأحوجهم إلى رحمته، وعفوه، وغفرانه، ولطفه، وكرمه إسماعيل الدرعي الشافعي الأنصاري غفر الله تعالى له، وختم له بخير، ولأحبابه، ولإخوانه، ولمشايخه، ولجميع المسلمين، والصلاة والسلام على محمد خير خلقه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين‏.‏