الجزء الثاني - ذكر جمل من الأحداث في الجاهلية

ذكر جمل من الأحداث في الجاهلية

قد تقدم ما كان من أخذ جرهم ولاية البيت من بني إسماعيل، طمعوا فيهم لأنهم أبناء بناتهم، وما كان من توثب خزاعة على جرهم وانتزاعهم ولاية البيت منهم، ثم ما كان من رجوع ذلك إلى قصي وبنيه، واستمرار ذلك في أيديهم إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فأقر تلك الوظائف على ما كانت عليه‏.‏

 ذكر جماعة مشهورين في الجاهلية

خبر خالد بن سنان العبسي الذي كان في زمن الفترة وقد زعم بعضهم أنه كان نبياً، والله أعلم‏.‏

قال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن زهير التستري، حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور الرازي، حدثنا محمد بن الصلت، حدثنا قيس بن الربيع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ جاءت بنت خالد بن سنان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبسط لها ثوبه وقال‏:‏

‏(‏‏(‏بنت نبي ضيعه قومه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار، عن يحيى بن المعلى بن منصور، عن محمد بن الصلت، عن قيس، عن سالم، عن سعيد، عن ابن عباس قال‏:‏ ذكر خالد بن سنان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏ذاك نبي ضيعه قومه‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ولا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وكان قيس بن الربيع ثقة في نفسه، إلا أنه كان رديء الحفظ، وكان له ابن يدخل في أحاديثه ما ليس منها، والله أعلم‏.‏

قال البزار‏:‏ وقد رواه الثوري، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير مرسلا ً‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا المعلى بن مهدي الموصلي قال‏:‏ حدثنا أبو عوانة، عن أبي يونس، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أن رجلاً من عبس يقال له خالد بن سنان قال لقومه‏:‏ إني أطفئ عنكم نار الحرتين، فقال له رجل من قومه‏:‏ والله يا خالد ما قلت لنا قط إلا حقاً، فما شأنك وشأن نار الحرتين تزعم أنك تطفئها‏؟‏

فخرج خالد ومعه أناس من قومه فيهم عمارة بن زياد فأتوها، فإذا هي تخرج من شق جبل، فخط لهم خالد خطة فأجلسهم فيها فقال‏:‏ إن أبطأت عليكم فلا تدعوني باسمي فخرجت كأنها خيل شقر يتبع بعضها بعضاً، فاستقبلها خالد فجعل يضربها بعصاه وهو يقول‏:‏ بدا بدا بدا كل هدى زعم ابن راعية المعزى أني لا أخرج منها وثيابي بيدي، حتى دخل معها الشق فأبطأ عليهم فقال لهم عمارة بن زياد‏:‏ والله إن صاحبكم لو كان حياً لقد خرج إليكم بعد قالوا فادعوه باسمه‏.‏

قال فقالوا‏:‏ إنه قد نهانا أن ندعوه باسمه، فدعوه باسمه فخرج وهو آخذ برأسه فقال‏:‏ ألم أنهكم أن تدعوني باسمي، فقد والله قتلتموني فادفنوني، فإذا مرت بكم الحمر فيها حمار أبتر فانبشوني فإنكم تجدوني حياً، فدفنوه فمرت بهم الحمر فيها حمار أبتر فقلنا انبشوه فإنه أمرنا أن ننبشه‏.‏

فقال لهم عمارة‏:‏ لا تنبشوه، لا والله لا تحدث مضر أنا ننبش موتانا، وقد كان قال لهم خالد‏:‏ إن في عكن امرأته لوحين فإن أشكل عليكم أمر فانظروا فيهما فإنكم ستجدون ما تسألون عنه، قال‏:‏ ولا يمسهما حائض، فلما رجعوا إلى امرأته سألوها عنهما فأخرجتهما إليهم وهي حائض، فذهب ما كان فيهما من علم‏.‏

قال أبو يونس‏:‏ قال سماك بن حرب‏:‏ سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏ذاك نبي أضاعه قومه‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو يونس‏:‏ قال سماك بن حرب‏:‏ إن ابن خالد بن سنان أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مرحباً بابن أخي‏)‏‏)‏‏.‏

فهذا السياق موقوف على ابن عباس، وليس فيه أنه كان نبياً، والمرسلات التي فيها أنه نبي لا يحتج بها هاهنا، والأشبه أنه كان رجلاً صالحاً له أحوال وكرامات، فإنه إن كان في زمن الفترة‏.‏

فقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن أولى الناس بعيسى بن مريم أنا لأنه ليس بيني وبينه نبي‏)‏‏)‏، وإن كان قبلها فلا يمكن أن يكون نبياً لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وقد قال غير واحد من العلماء‏:‏ إن الله تعالى لم يبعث بعد إسماعيل نبياً في العرب إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء الذي دعا به إبراهيم الخليل باني الكعبة المكرمة التي جعلها الله قبلة لأهل الأرض شرعاً، وبشرت به الأنبياء لقومهم حتى كان آخر من بشر به عيسى بن مريم عليه السلام‏.‏

وبهذا المسلك بعينه يرد ما ذكره السهيلي وغيره، من إرسال نبي من العرب يقال له شعيب بن ذي مهذم بن شعيب بن صفوان صاحب مدين، وبعث إلى العرب أيضاً حنظلة بن صفوان فكذبوهما، فسلط الله على العرب بخت نصر فنال منهم من القتل والسبي نحو ما نال من بني إسرائيل، وذلك في زمن معد بن عدنان‏.‏ ‏

والظاهر أن هؤلاء كانوا قوماً صالحين يدعون إلى الخير، والله أعلم‏.‏ وقد تقدم ذكر عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف في أخبار خزاعة بعد جرهم‏.‏

 حاتم الطائي أحد أجواد الجاهلية

وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أحزم بن أبي أحزم واسمه هرومة بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء أبو سفَّانة الطائي والد عدي بن حاتم الصحابي، كان جواداً ممدحاً في الجاهلية، وكذلك كان ابنه في الإسلام، وكانت لحاتم مآثر وأمور عجيبة وأخبار مستغربة في كرمه يطول ذكرها، ولكن لم يكن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة، وإنما كان قصده السمعة والذكر‏.‏

قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده‏:‏ حدثنا محمد بن معمر، حدثنا عبيد بن واقد القيسي، حدثنا أبو نصر هو الناجي عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال‏:‏ ذكر حاتم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏ذاك أراد أمراً فأدركه‏)‏‏)‏‏.‏

حديث غريب‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ تفرد به عبيد بن واقد عن أبي نصر الناجي، ويقال‏:‏ إن اسمه حماد‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وقد فرق أبو أحمد الحاكم بين أبي نصر الناجي، وبين أبي نصر حماد ولم يسم الناجي، ووقع في بعض روايات الحافظ ابن عساكر عن أبي نصر شيبة الناجي، والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد بن إسماعيل، حدثنا سفيان، عن سماك بن حرب، عن مري بن قطري، عن عدي بن حاتم قال‏:‏ قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أبي كان يصل الرحم، ويفعل ويفعل فهل له في ذلك‏؟‏ يعني من أجر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أباك طلب شيئاً فأصابه‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه أبو يعلى عن القواريري عن غندر، عن شعبة، عن سماك به‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أباك أراد أمراً فأدركه‏)‏‏)‏‏.‏

يعني الذكر‏.‏

وهكذا رواه أبو القاسم البغوي، عن علي بن الجعد، عن شعبة به سواء‏.‏

وقد ثبت في الصحيح في الثلاثة الذين تسعر بهم جهنم منهم‏:‏ الرجل الذي ينفق ليقال إنه كريم فيكون جزاؤه أن يقال ذلك في الدنيا، وكذا في العالم والمجاهد‏.‏

وفي الحديث الآخر في الصحيح أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة فقالوا له‏:‏ كان يقري الضيف، ويعتق ويتصدق فهل ينفعه ذلك‏؟‏ فقال‏:‏

‏(‏‏(‏إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين‏)‏‏)‏‏.‏

هذا وقد كان من الأجواد المشهورين أيضاً، المطعمين في السنين الممحلة والأوقات المرملة‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر محمد بن عبد الله بن يوسف العماني، حدثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد الكوفي، حدثنا ضرار بن صرد، حدثنا عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الرحمن بن جندب، عن كميل بن زياد النخعي قال‏:‏

قال علي بن أبي طالب‏:‏ يا سبحان الله‏!‏ ما أزهد كثيراً من الناس في خير عجباً لرجل يجيئه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً، فلو كان لا يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً لكان ينبغي له أن يسارع في مكارم الأخلاق، فإنها تدل على سبيل النجاح‏.‏

فقام إليه رجل وقال‏:‏ فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وما هو خير منه‏:‏ لما أتى بسبايا طيء وقعت جارية حمراء لعساء زلفا عيطاء، شماء الأنف، معتدلة القامة والهامة، درماء الكعبين، خدلجة الساقين، لفاء الفخذين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين‏.‏

قال‏:‏ فلما رأيتها أعجبت بها وقلت‏:‏ لأطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجعلها في فيئي، فلما تكلمت أنسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها، فقالت‏:‏ يا محمد‏:‏ إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، وأنا ابنة حاتم طيء‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏يا جارية هذه صفة المؤمنين حقاً لو كان أبوك مؤمناً لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله تعالى يحب مكارم الأخلاق‏.‏

فقام أبو بردة بن ينار فقال يا رسول الله‏:‏ والله يحب مكارم الأخلاق‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثني عمر بن بكر، عن أبي عبد الرحمن الطائي - هو القاسم بن عدي - عن عثمان، عن عركي بن حليس الطائي، عن أبيه، عن جده، وكان أخا عدي بن حاتم لأمه قال‏:‏ قيل لنوار امرأة حاتم حدثينا عن حاتم قالت‏:‏

كل أمره كان عجباً، أصابتنا سنة حصت كل شيء فاقشعرت لها الأرض واغبرت لها السماء، وضنت المراضع على أولادها، وراحت الإبل حدباً حدابير ما تبض بقطرة، وحلقت المال، وأنا لفي ليلة صنّبر بعيدة ما بين الطرفين إذ تضاغى الأصبية من الجوع‏:‏ عبد الله، وعدي، وسفانة، فوالله إن وجدنا شيئاً نعللهم به، فقام إلى أحد الصبيان فحمله وقمت إلى الصبية فعللتها، فوالله إن سكتا إلا بعد هدأة من الليل‏.‏

ثم عدنا إلى الصبي الآخر فعللناه حتى سكت وما كاد، ثم افترشنا قطيفة لنا شامية ذات خمل، فأضجعنا الصبيان عليها، ونمت أنا وهو في حجرة والصبيان بيننا، ثم أقبل علي يعللني لأنام وعرفت ما يريد فتناومت، فقال‏:‏ مالك أنمت‏؟‏ فسكت‏.‏ فقال‏:‏ ما أراها إلا قد نامت، وما بي نوم‏.‏

فلما ادلهم الليل، وتهورت النجوم، وهدأت الأصوات، وسكنت الرجل، إذ جانب البيت قد رفع فقال من هذا‏؟‏ فولى حتى قلت إذاً قد أسحرنا أو كدنا‏.‏ عاد فقال من هذا‏؟‏ قالت‏:‏ جارتك فلانة يا أبا عدي، ما وجدت على أحد معولاً غيرك، أتيتك من عند أصبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع‏.‏

قال‏:‏ أعجليهم عليّ‏.‏ قالت النوار‏:‏ فوثبت فقلت ماذا صنعت أضطجع والله لقد تضاغى أصبيتك فما وجدت ما تعللهم فكيف بهذه وبولدها‏؟‏ فقال‏:‏ اسكتي فوالله لأشبعنك إن شاء الله‏.‏

قالت‏:‏ فأقبلت تحمل اثنين، وتمشي جنبتيها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فوجأ بحربته في لبته، ثم قدح زنده وأورى ناره، ثم جاء بمدية فكشط عن جلده، ثم دفع المدية إلى المرأة، ثم قال‏:‏ دونك‏.‏

ثم قال‏:‏ ابعثي صبيانك فبعثتهم، ثم قال‏:‏ سوءة أتأكلون شيئاً دون أهل الصرم، فجعل يطوف فيهم حتى هبوا وأقبلوا عليه، والتفع في ثوبه ثم اضطجع ناحية ينظر إلينا، والله ما ذاق مزعة وإنه لأحوجهم إليه، فأصبحنا وما على الأرض منه إلا عظم وحافر‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ حدثني القاضي أبو عبد الله المحاملي، حدثنا عبد الله بن أبي سعد، وحدثنا عثيم بن ثوابة بن حاتم الطائي، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ قالت امرأة حاتم لحاتم‏:‏ يا أبا سفانة أشتهي أن آكل أنا وأنت طعاماً وحدنا ليس عليه أحد، فأمرها فحولت خيمتها من الجماعة على فرسخ، وأمر بالطعام فهيأ وهي مرخاة ستورها عليه وعليها، فلما قارب نضج الطعام كشف عن رأسه ثم قال‏:‏

فلا تطبخي قدري وسترك دونها * علي إذن ما تطبخين حرام

ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي * بجزل إذا أوقدت لا بضرام

قال‏:‏ ثم كشف الستور، وقدم الطعام، ودعى الناس فأكل وأكلوا، فقالت‏:‏ ما أتممت لي ما قلت فأجابها لا تطاوعني نفسي، ونفسي أكرم علي من أن يثنى علي هذا، وقد سبق لي السخاء ثم أنشأ يقول‏:‏

أمارس نفسي البخل حتى أعزها * وأترك نفس الجود ما أستثيرها

ولا تشتكيني جارتي غير أنها * إذا غاب عنها بعلها لا أزورها

سيبلغها خيري ويرجع بعلها * إليها ولم تقصر عليها ستورها

ومن شعر حاتم‏:‏

إذا ما بت أشرب فوق ري * لسكر في الشراب فلا رويت

إذا ما بت أختل عرس جاري * ليخفيني الظلام فلا خفيت

أأفضح جارتي وأخون جاري * فلا والله أفعل ما حييت

ومن شعره أيضاً‏:‏

ما ضر جاراً لي أجاوره * أن لا يكون لبابه ستر

أغضي إذا ما جارتي برزت * حتى يواري جارتي الخدر

ومن شعر حاتم أيضاً‏:‏

وما من شيمتي شتم ابن عمي * وما أنا مخلف من يرتجيني

وكلمة حاسد من غير جرم * سمعت وقلت مري فأنقذيني

وعابوها علي فلم تَعِبْني * ولم يعرَق لها يوما جبيني

وذي وجهين يلقاني طليقاً * وليس إذا تغيب يأتسيني

ظفرت بعيبه فكففت عنه * محافظة على حسبي وديني

ومن شعره‏:‏

سلي البائس المقرور يا أم مالك * إذا ما أتاني بين ناري ومجزري

أأبسط وجهي إنه أول القِرى * وأبذل معروفي له دون مُنْكَري

وقال أيضاً‏:‏

وإنك إن أعطيت بطنك سؤله * وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

وقال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء الجريري‏:‏ حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا أبو العباس المبرد، أخبرني الثوري، عن أبي عبيدة قال‏:‏ لما بلغ حاتم طيء قول المتلمس‏:‏

قليل المال تصلحه فيبقى * ولا يبقى الكثير على الفساد

وحفظ المال خير من فناه * وعسف في البلاد بغير زاد

قال‏:‏ ماله قطع الله لسانه حمل الناس على البخل فهلا قال‏:‏

فلا الجود يفني المال قبل فنائه * ولا البخل في مال الشحيح يزيد

فلا تلتمس مالاً بعيش مقتر * لكل غد رزق يعود جديد

ألم ترَ أن المال غاد ورائح * وأن الذي يعطيك غير بعيد

قال القاضي أبو الفرج ولقد أحسن في قوله‏:‏ وإن الذي يعطيك غير بعيد، ولو كان مسلماً لرجي له الخير في معاده، وقد قال الله في كتابه‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏‏.‏

وعن الوضاح بن معبد الطائي قال‏:‏ وفد حاتم الطائي على النعمان بن المنذر فأكرمه وأدناه، ثم زوده عند انصرافه جملين ذهباً، وورقاً غير ما أعطاه من طرائف بلده فرحل، فلما أشرف على أهله تلقته أعاريب طيء، فقالت‏:‏ يا حاتم أتيت من عند الملك وأتينا من عند أهالينا بالفقر‏!‏ فقال حاتم‏:‏ هلم فخذوا ما بين يدي فتوزعوه، فوثبوا إلى ما بين يديه من حباء النعمان فاقتسموه‏.‏

فخرجت إلى حاتم طريفة جاريته فقالت له‏:‏ اتق الله وأبق ِعلى نفسك، فما يدع هؤلاء ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً‏.‏ فأنشأ يقول‏:‏

قالت طريفة ما تبقي دراهمنا * وما بنا سرف فيها ولا خرق

إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا * ممن سوانا ولسنا نحن نرتزق

ما يألف الدرهم الكاري خِرقَتَنا * إلا يمر عليها ثم ينطلق

إنا إذا اجتمعت يوماً دراهمنا * ظلت إلى سبل المعروف تستبق

وقال أبو بكر ابن عياش‏:‏ قيل لحاتم هل في العرب أجود منك‏؟‏ فقال‏:‏ كل العرب أجود مني‏.‏ ثم أنشأ يحدث قال‏:‏ نزلت على غلام من العرب يتيم ذات ليلة، وكانت له مائة من الغنم، فذبح لي شاة منها وأتاني بها، فلما قرّب إليّ دماغها قلت‏:‏ ما أطيب هذا الدماغ‏!‏

قال‏:‏ فذهب فلم يزل يأتيني منه حتى قلت‏:‏ قد اكتفيت، فلما أصبحت إذا هو قد ذبح المائة شاة وبقي لا شيء له‏؟‏ فقيل‏:‏ فما صنعت به‏؟‏ فقال‏:‏ ومتى أبلغ شكره ولو صنعت به كل شيء‏.‏ قال‏:‏ على كل حال فقال أعطيته مائة ناقة من خيار إبلي‏.‏

وقال محمد بن جعفر الخرائطي في كتاب ‏(‏مكارم الأخلاق‏)‏‏:‏ حدثنا العباس بن الفضل الربعي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثني حماد الراوية، ومشيخة من مشيخة طيء قالوا‏:‏ كانت عنترة بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس أم حاتم طيء لا تمسك شيئاً سخاءً وجوداً‏.

وكان إخوتها يمنعونها فتأبى، وكانت امرأة موسرة فحبسوها في بيت سنة، يطعمونها قوتها لعلها تكف عما تصنع، ثم أخرجوها بعد سنة وقد ظنوا أنها قد تركت ذلك الخلق، فدفعوا إليها صرمة من مالها وقالوا‏:‏ استمتعي بها، فأتتها امرأة من هوازن وكانت تغشاها فسألتها فقالت‏:‏ دونك هذه الصرمة، فقد والله مسني من الجوع ما آليت أن لا أمنع سائلاً ثم أنشأت تقول‏:‏

لعمري لقِدماً عضني الجوع عضة * فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا

فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني * وان أنت لم تفعل فعض الأصابعا

فماذا عساكم أن تقولوا لأختكم * سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا

وماذا ترون اليوم إلا طبيعة * فكيف بتركي يا ابن أمي الطبائعا

وقال الهيثم بن عدي، عن ملحان بن عركي بن عدي بن حاتم، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ شهدت حاتماً يكيد بنفسه فقال لي‏:‏ أي بني إني أعهد من نفسي ثلاث خصال، والله ما خاتلت جارة لريبة قط، ولا أوتمنت على أمانة إلا أديتها، ولا أوتي أحد من قبلي بسوء‏.‏

وقال أبو بكر الخرائطي‏:‏ حدثنا علي بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى العدوي، حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي مسكين - يعني جعفر بن المحرر بن الوليد - عن المحرر مولى أبي هريرة قال‏:‏ مر نفر من عبد القيس بقبر حاتم طيء فنزلوا قريباً منه، فقام إليه بعضهم يقال له‏:‏ أبو الخيبري فجعل يركض قبره برجله‏.‏ ويقول‏:‏ يا أبا جعد اقرنا‏.‏ فقال له بعض أصحابه‏:‏ ما تخاطب من رمة وقد بليت‏؟‏ وأجنهم الليل فناموا، فقام صاحب القول فزعاً يقول‏:‏ يا قوم عليكم بمطيكم فإن حاتماً أتاني في النوم وأنشدني شعراً وقد حفظته يقول‏:‏

أبا الخيبري وأنت امرؤ * ظلوم العشيرة شتّامها

أتيت بصحبك تبغي الِقرى * لدى حفرة قد صَدَت هَامَها

أتبغي لي الذنب عند المبيت * وحولك طيء وأنعامها

وإنا لنشبع أضيافنا * وتأتي المطي فنعتامها

قال‏:‏ وإذا ناقة صاحب القول تكوس عقيراً فنحروها، وقاموا يشتوون ويأكلون‏.‏ ‏

وقالوا‏:‏ والله لقد أضافنا حاتم حياً وميتاً‏.‏ قال‏:‏ وأصبح القوم وأردفوا صاحبهم وساروا، فإذا رجل ينوه بهم راكباً جملاً ويقود آخر‏.‏ فقال‏:‏ أيكم أبو الخيبري‏؟‏ قال‏:‏ أنا‏.‏ قال‏:‏ إن حاتماً أتاني في النوم فأخبرني أنه قرى أصحابك ناقتك، وأمرني أن أحملك وهذا بعير فخذه، ودفعه إليه‏.‏

 شيء من أخبار عبد الله بن جدعان

هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة سيد بني تيم، وهو ابن عم والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏

وكان من الكرماء الأجواد في الجاهلية، المطعمين للمسنتين، وكان في بدء أمره فقيراً مملقاً، وكان شريراً يكثر من الجنايات حتى أبغضه قومه وعشيرته وأهله وقبيلته، وأبغضوه حتى أبوه، فخرج ذات يوم في شعاب مكة حائراً بائراً، فرأى شقاً في جبل فظن أن يكون به شيئاً يؤذي، فقصده لعله يموت فيستريح مما هو فيه‏.‏

فلما اقترب منه إذا ثعبان يخرج إليه ويثب عليه، فجعل يحيد عنه ويثب فلا يغني شيئاً، فلما دنا منه إذا هو من ذهب وله عينان هما ياقوتتان، فكسره وأخذه ودخل الغار، فإذا فيه قبور لرجال من ملوك جرهم، ومنهم الحارث بن مضاض الذي طالت غيبته فلا يدرى أين ذهب، ووجد عند رؤسهم لوحاً من ذهب فيه تاريخ وفاتهم، ومدد ولايتهم، وإذا عندهم من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة شيء كثير‏.‏

فأخذ منه حاجته، ثم خرج وعلم باب الغار، ثم انصرف إلى قومه، فأعطاهم حتى أحبوه، وسادهم وجعل يطعم الناس، وكلما قل ما في يده ذهب إلى ذلك الغار فأخذ حاجته، ثم رجع‏.‏ فممن ذكر هذا عبد الملك بن هشام في كتاب ‏(‏التيجان‏)‏ وذكره أحمد بن عمار في كتاب ‏(‏ري العاطش وأنس الواحش‏)‏ وكانت له جفنة يأكل منها الراكب على بعيره، ووقع فيها صغير فغرق‏.‏

وذكر ابن قتيبة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عُمِيٍّ‏)‏‏)‏‏.‏

أي‏:‏ وقت الظهيرة‏.‏

وفي حديث مقتل أبي جهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏

‏(‏‏(‏تطلبوه بين القتلى وتعرفوه بشجة في ركبته، فإني تزاحمت أنا وهو على مأدبة لابن جدعان فدفعته فسقط على ركبته فانهشمت، فأثرها باق في ركبته‏)‏‏)‏ فوجدوه كذلك‏.‏

وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق، ويسقي اللبن، حتى سمع قول أمية بن أبي الصلت‏:‏ ‏

ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم * فرأيت أكرمهم بني الديان

البر يلبك بالشهاد طعامهم * لا ما يعللنا بنو جدعان

فأرسل ابن جدعان إلى الشام ألفي بعير وعادت تحمل البر والشهد والسمن، وجعل منادياً ينادي كل ليلة على ظهر الكعبة أن هلموا إلى جفنة ابن جدعان، فقال أمية في ذلك‏:‏

له داع بمكة مشمعل * وآخر فوق كعبتها ينادي

إلى ردح من الشيزي ملاءٍ * لباب البر يلبك بالشهاد

ومع هذا كله فقد ثبت في الصحيح لمسلم أن عائشة قالت‏:‏ يا رسول الله إن ابن جدعان كان يطعم الطعام، ويقري الضيف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين‏)‏‏)‏‏.‏

امرؤ القيس بن حجر الكندي صاحب إحدى المعلقات

وهي أفخرهن وأشهرهن التي أولها‏:‏

قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل *

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هشام، حدثنا أبو الجهم، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى هذا الحديث عن هشام جماعة كثيرون منهم‏:‏ بشر بن الحكم، والحسن بن عرفة، وعبد الله بن هارون أمير المؤمنين، المأمون أخو الأمين، ويحيى بن معين‏.‏

وأخرجه ابن عدي من طريق عبد الرزاق، عن الزهري به‏.‏ وهذا منقطع ورديء من وجه آخر عن أبي هريرة، ولا يصح من غير هذا الوجه‏.‏

وقال الحافظ ابن عساكر‏:‏ هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن يعرب بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة‏.‏ أبو يزيد، ويقال‏:‏ أبو وهب، ويقال‏:‏ أبو الحارث الكندي‏.‏ كان بأعمال دمشق وقد ذكر مواضع منها في شعره فمن ذلك قوله‏:‏

قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فتوضحَ فالمقراة لم يعفُ رسمُها * لما نسجتها من جنوب وشمأل

قال‏:‏ وهذه مواضع معروفة بحوران‏.‏

ثم روى من طريق هشام بن محمد بن السائب الكلبي، حدثني فروة بن سعيد بن عفيف بن معدي كرب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل وفد من اليمن، فقالوا‏:‏ يا رسول الله لقد أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس‏.‏ قال‏:‏ وكيف ذاك‏؟‏ قالوا‏:‏ أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق أخطأنا الطريق، فمكثنا ثلاثاً لا نقدر على الماء، فتفرقنا إلى أصول طلح وسمر، ليموت كل رجل منا في ظل شجرة، فبينا نحن بآخر رمق إذا راكب يوضع على بعير فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع‏:‏

ولما رأت أن الشريعة همُّها * وأن البياض من فرائضها دامي

تيممتِ العين التي عند ضارج * يفيء عليها الظل عرمضها طامي

فقال الراكب‏:‏ ومن يقول هذا الشعر وقد رأى ما بنا من الجهد‏؟‏ قال قلنا‏:‏ امرؤ القيس بن حجر، قال‏:‏ والله ما كذب هذا ضارج عندكم، فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحو من خمسين ذراعاً، فحبونا إليه على الركب، فإذا هو كما قال امرؤ القيس عليه العرمض يفيء عليه الظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، شريف في الدنيا خامل في الآخرة، بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر الكلبي‏:‏ أن امرأ القيس أقبل براياته يريد قتال بني أسد حين قتلوا أباه، فمر بتبالة وبها ذو الخلصة - وهو صنم - وكانت العرب تستقسم عنده، فاستقسم فخرج القدح الناهي، ثم الثانية، ثم الثالثة كذلك، فكسر القداح وضرب بها وجه ذي الخلصة وقال‏:‏ عضضت بأيرأبيك لو كان أبوك المقتول لما عوقتني‏.‏ ثم أغار على بني أسد فقتلهم قتلاً ذريعاً‏.‏

قال ابن الكلبي‏:‏ فلم يستقسم عند ذي الخلصة حتى جاء الإسلام‏.‏ وذكر بعضهم أنه امتدح قيصر ملك الروم يستنجد في بعض الحروب ويسترفده، فلم يجد ما يؤمله عنده فهجاه بعد ذلك، فيقال‏:‏ إنه سقاه سماً فقتله، فألجأه الموت إلى جنب قبر امرأة عند جبل يقال له عسيب، فكتب هنالك‏:‏ ‏

أجارتَنا إن المزار قريب * وإني مقيم ما أقام عسيب

أجارتنا إنا غريبان ههنا * وكل غريبٍ للغريب نسيب

وذكروا أن المعلقات السبع كانت معلقة بالكعبة، وذلك أن العرب كانوا إذا عمل أحدهم قصيدة عرضها على قريش، فإن أجازوها علقوها على الكعبة تعظيماً لشأنها، فاجتمع من ذلك هذه المعلقات السبع، فالأولى لامرئ القيس بن حجر الكندي كما تقدم وأولها‏:‏

قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل

والثانية للنابغة الذبياني‏:‏ واسمه زياد بن معاوية، ويقال زياد بن عمرو بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض وأولها‏:‏

يا دار مية بالعلياء فالسند * أقوت وطال عليها سالف الأبد

والثالثة لزهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني وأولها‏:‏

أمن أم أوفى دمنة لم تكلَّم * بِحَوْمانة الدَّراج فالمُتَثَلَّم

والرابعة لطرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضُبَيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وأولها‏:‏

لخولة أطلال ببرقة ثهْمد * تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

والخامسة لعنترة بن شداد بن معاوية بن قراد بن مخزوم بن ربيعة بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس العبسي وأولها‏:‏

هل غادر الشعراء من متردّم * أم هل عرفت الدار بعد توهم

والسادسة لعلقمة بن عبدة بن النعمان بن قيس أحد بني تميم وأولها‏:‏

طحا بك قلبٌ في الحسان طروب * بعيد الشباب عصر حان مشيب ‏

والسابعة - ومنهم من لا يثبتها في المعلقات وهو قول الأصمعي وغيره - وهي للبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر وأولها

عفت الديار محلُّها فمقامها * بمنى تأبد غولها فرجامها

فأما القصيدة التي لا يعرف قائلها فيما ذكره أبو عبيدة والأصمعي والمبرد وغيرهم فهي قوله‏:‏

هل بالطلول لسائل رد * أم هل لها بتكلم عهد

وهي مطولة وفيها معاني حسنة كثيرة‏.‏

 أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي

قال الحافظ ابن عساكر‏:‏ هو أمية بن أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف بن عقدة بن عزة بن عوف بن ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن أبو عثمان‏.‏ ويقال‏:‏ أبو الحكم الثقفي شاعر جاهلي قدم دمشق قبل الإسلام‏.‏

وقيل‏:‏ إنه كان مستقيماً، وإنه كان في أول أمره على الإيمان، ثم زاغ عنه، وأنه هو الذي أراده الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 175‏]‏‏.‏

قال الزبير بن بكار‏:‏ فولدت رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف أمية الشاعر ابن أبي الصلت، واسم أبي الصلت‏:‏ ربيعة بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن ثقيف، وقال غيره‏:‏ كان أبوه من الشعراء المشهورين بالطائف وكان أمية أشعرهم‏.‏

وقال عبد الرزاق قال الثوري‏:‏ أخبرني حبيب بن أبي ثابت أن عبد الله بن عمرو قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏ هو أمية بن أبي الصلت‏.‏

وكذا رواه أبو بكر بن مردويه، عن أبي بكر الشافعي، عن معاذ بن المثنى، عن مسدد، عن أبي عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن نافع بن عاصم بن مسعود قال‏:‏ إني لفي حلقة فيها عبد الله بن عمرو فقرأ رجل من القوم الآية التي في الأعراف‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا‏}‏‏.‏

فقال‏:‏ هل تدرون من هو‏؟‏

فقال بعضهم‏:‏ هو صيفي بن الراهب‏.‏

وقال آخر‏:‏ بل هو بلعم رجل من بني إسرائيل‏.‏

فقال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمن‏؟‏

قال‏:‏ هو أمية بن أبي الصلت‏.‏

وهكذا قال أبو صالح، والكلبي، وحكاه قتادة عن بعضهم‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عبد الله بن شبيب الربعي، حدثنا محمد بن مسلمة بن هشام المخزومي، حدثنا إسماعيل بن الطريح بن إسماعيل الثقفي، حدثني أبي، عن أبيه، عن مروان بن الحكم، عن معاوية بن أبي سفيان، عن أبيه قال‏:‏

خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت الثقفي تجاراً إلى الشام، فكلما نزلنا منزلاً أخذ أمية سفراً له يقرؤه علينا، فكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فجاؤه وأكرموه وأهدوا له وذهب معهم إلى بيوتهم، ثم رجع في وسط النهار، فطرح ثوبيه وأخذ ثوبين له أسودين فلبسهما، وقال لي‏:‏ هل لك يا أبا سفيان في عالم من علماء النصارى إليه يتناهي علم الكتاب تسأله‏.‏

قلت‏:‏ لا إرب لي فيه، والله لئن حدثني بما أحب لا أثق به، ولئن حدثني بما أكره لأجدن منه‏.‏ قال‏:‏ فذهب وخالفه شيخ من النصارى فدخل عليّ فقال‏:‏ ما يمنعك أن تذهب إلى هذا الشيخ‏؟‏ قلت‏:‏ لست على دينه‏.‏ قال‏:‏ وإن فإنك تسمع منه عجباً وتراه‏.‏ ثم قال لي‏:‏ أثقفي أنت‏؟‏ قلت‏:‏ لا، ولكن قرشي‏.‏

قال‏:‏ فما يمنعك من الشيخ، فوالله إنه ليحبكم ويوصي بكم‏.‏

قال‏:‏ فخرج من عندنا، ومكث أمية عندهم حتى جاءنا بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح كئيباً حزيناً ساقطاً غبوقة على صبوحه ما يكلمنا ولا نكلمه‏.‏

ثم قال‏:‏ ألا ترحل‏؟‏ قلت‏:‏ وهل بك من رحيل‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فرحلنا فسرنا بذلك ليلتين، ثم قال في الليلة الثالثة‏:‏ ألا تحدث يا أبا سفيان‏؟‏ قلت‏:‏ وهل بك من حديث، والله ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك‏.‏

قال‏:‏ أما إن ذلك لشيء لست فيه، إنما ذلك لشيء وجلت منه من منقلبي، قلت‏:‏ وهل لك من منقلب‏؟‏ قال‏:‏ أي والله، لأموتن ثم لأحيين، قال‏:‏ قلت‏:‏ هل أنت قابل أمانتي‏؟‏

قال‏:‏ على ماذا‏؟‏ قلت‏:‏ على أنك لا تبعث ولا تحاسب، قال‏:‏ فضحك، ثم قال‏:‏ بلى‏!‏ والله يا أبا سفيان لنبعثن، ثم لنحاسبن، وليدخلن فريق الجنة، وفريق النار‏.‏

قلت‏:‏ ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك‏؟‏ قال‏:‏ لا علم لصاحبي بذلك، لا فيّ ولا في نفسه‏.‏ قال‏:‏ فكنا في ذلك ليلتين يعجب مني وأضحك منه، حتى قدمنا غوطة دمشق فبعنا متاعنا، وأقمنا بها شهرين، فارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فلما رأوه جاؤه وأهدوا له وذهب معهم إلى بيعتهم، فما جاء إلا بعد منتصف النهار، فلبس ثوبيه وذهب إليهم حتى جاء بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه، ورمى بنفسه على فراشه، فوالله ما نام ولا قام، وأصبح حزيناً كئيباً لا يكلمنا ولا نكلمه‏.‏

ثم قال‏:‏ ألا ترحل‏؟‏ قلت‏:‏ بلى إن شئت، فرحلنا كذلك في بثه وحزنه ليالي‏.‏ ثم قال لي‏:‏ يا أبا سفيان هل لك في المسير لنتقدم أصحابنا‏؟‏ قلت‏:‏ هل لك فيه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فسرنا حتى برزنا من أصحابنا ساعة ثم قال‏:‏ هيا صخر‏.‏ فقلت‏:‏ ما تشاء‏؟‏

قال‏:‏ حدثني عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المظالم والمحارم‏؟‏ قلت‏:‏ إي والله، قال‏:‏ ويصل الرحم ويأمر بصلتها‏؟‏ قلت‏:‏ إي والله‏.‏

قال‏:‏ وكريم الطرفين وسط في العشيرة‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فهل تعلم قرشياً أشرف منه‏؟‏ قلت‏:‏ لا والله لا أعلم‏.‏ قال‏:‏ أمحوج هو‏؟‏ قلت‏:‏ لا، بل هو ذو مال كثير‏.‏

قال‏:‏ وكم أتى عليه من السن‏؟‏ فقلت‏:‏ قد زاد على المائة‏.‏ قال‏:‏ فالشرف والسن والمال أزرين به‏.‏ قلت‏:‏ ولم ذاك يزري به، لا والله بل يزيده خيراً‏.‏

قال‏:‏ هو ذاك‏.‏ هل لك في المبيت‏؟‏ قلت‏:‏ لي فيه‏.‏ قال‏:‏ فاضطجعنا حتى مر الثقل، قال‏:‏ فسرنا حتى نزلنا في المنزل وبتنا به، ثم ارتحلنا منه، فلما كان الليل قال لي‏:‏ يا أبا سفيان قل ما تشاء، قال‏:‏ هل لك في مثل البارحة‏؟‏ قلت‏:‏ هل لك فيه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

فسرنا على ناقتين بختيتين حتى إذا برزنا قال‏:‏ هيا صخر، هيه عن عتبة بن ربيعة قال‏:‏ قلت‏:‏ هبها فيه، قال‏:‏ أيجتنب المحارم والمظالم، ويصل الرحم، ويأمر بصلتها، قلت‏:‏ إي والله إنه ليفعل‏.‏ قال‏:‏ وذو مال قلت‏:‏ وذو مال‏.‏

قال‏:‏ أتعلم قرشياً أسود منه، قلت‏:‏ لا والله ما أعلم‏.‏ قال‏:‏ كم أتى له من السن، قلت‏:‏ قد زاد على المائة‏.‏ قال‏:‏ فإن السن والشرف والمال أزرين به، قلت‏:‏ كلا والله ما أزرى به ذلك‏.‏ وأنت قائل شيئاً فقله‏.‏

قال لا تذكر حديثي يأتي منه ما هو آت‏.‏ ثم قال‏:‏ فإن الذي رأيت أصابني أني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء، ثم قلت‏:‏ أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر‏.‏ قال‏:‏ هو رجل من العرب‏.‏ قلت‏:‏ قد علمت أنه من العرب، فمن أي العرب هو‏؟‏ قال‏:‏ من أهل بيت تحجه العرب‏.‏ قلت‏:‏ وفينا بيت تحجه العرب‏؟‏

قال‏:‏ هو من إخوانكم من قريش، فأصابني والله شيء ما أصابني مثله قط‏.‏ وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة‏.‏ وكنت أرجو أن أكون إياه‏.‏ قلت‏:‏ فإذا كان ما كان فصفه لي‏.‏

قال‏:‏ رجل شاب حين دخل في الكهولة‏.‏ بدوّ أمره يجتنب المظالم والمحارم، ويصل الرحم، ويأمر بصلتها، وهو محوج كريم الطرفين، متوسط في العشيرة، أكثر جنده من الملائكة‏.‏

قلت‏:‏ وما آية ذلك‏؟‏ قال‏:‏ قد رجفت الشام منذ هلك عيسى بن مريم عليه السلام ثمانين رجفة كلها فيها مصيبة، وبقيت رجفة عامة فيها مصائب‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ فقلت‏:‏ هذا والله الباطل‏.‏ لئن بعث الله رسولاً لا يأخذه إلا مسناً شريفاً‏.‏ قال أمية‏:‏ والذي حلفت به إن هذا لهكذا يا أبا سفيان تقول إن قول النصراني حق‏.‏ هل لك في المبيت‏؟‏

قلت‏:‏ نعم لي فيه‏.‏ قال‏:‏ فبتنا حتى جاءنا الثقل، ثم خرجنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة مرحلتان ليلتان أدركنا راكب من خلفنا فسألناه فإذا هو يقول‏:‏ أصابت أهل الشام بعدكم رجفة دمرت أهلها، وأصابتهم فيها مصائب عظيمة‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ فأقبل على أمية فقال‏:‏ كيف ترى قول النصراني يا أبا سفيان‏؟‏ قلت‏:‏ أرى وأظن والله إن ما حدثك به صاحبك حق‏.‏ قال أبو سفيان‏:‏ فقدمنا مكة فقضيت ما كان معي، ثم انطلقت حتى جئت اليمن تاجراً فكنت بها خمسة أشهر، ثم قدمت مكة فبينا أنا في منزلي، جاءني الناس يسلمون علي ويسألون عن بضائعهم، حتى جاءني محمد بن عبد الله وهند عندي تلاعب صبيانها، فسلم عليّ ورحب بي، وسألني عن سفري ومقامي، ولم يسألني عن بضاعته‏.‏

ثم قام‏.‏ فقلت لهند‏:‏ والله إن هذا ليعجبني، ما من أحد من قريش له معي بضاعة إلا وقد سألني عنها، وما سألني هذا عن بضاعته‏.‏ فقالت لي هند‏:‏ أو ما علمت شأنه‏؟‏ فقلت وأنا فزع‏:‏ ما شأنه‏؟‏ قالت‏:‏ يزعم أنه رسول الله فوقذتني، وتذكرت قول النصراني فرجفت حتى قالت لي هند‏:‏ مالك‏؟‏ فانتبهت فقلت‏:‏ إن هذا لهو الباطل، لهو أعقل من أن يقول هذا‏.‏

قالت‏:‏ بلى، والله إنه ليقولن ذلك ويدعو إليه، وإن له لصحابة على دينه، قلت‏:‏ هذا هو الباطل‏.‏

قال‏:‏ وخرجت فبينا أنا أطوف بالبيت إذ بي قد لقيته فقلت له‏:‏ إن بضاعتك قد بلغت كذا وكذا، وكان فيها خير، فأرسل من يأخذها، ولست آخذ منك فيها ما آخذ من قومي، فأبى علي وقال‏:‏ إذن لا آخذها‏.‏

قلت‏:‏ فأرسل فخذها، وآنا آخذ منك مثل ما آخذ من قومي، فأرسل إلي بضاعته فأخذها وأخذت منه ما كنت آخذ من غيره‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ فلم أنشب أن خرجت إلى اليمن، ثم قدمت الطائف، فنزلت على أمية بن أبي الصلت، فقال لي‏:‏ يا أبا سفيان ما تشاء هل تذكر قول النصراني‏؟‏ فقلت‏:‏ أذكره، وقد كان‏.‏ فقال‏:‏ ومن‏؟‏ قلت‏:‏ محمد بن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ ابن عبد المطلب‏؟‏ قلت‏:‏ ابن عبد المطلب‏.‏ ثم قصصت عليه خبر هند‏.‏ قال‏:‏ فالله يعلم‏؟‏ وأخذ يتصبب عرقاً ثم قال‏:‏ والله يا أبا سفيان لعله‏.‏ إن صفته لهي، ولئن ظهر وأنا حي لأطلبن من الله عز وجل في نصره عذراً‏.‏

قال‏:‏ ومضيت إلى اليمن، فلم أنشب أن جاءني هنالك استهلاله، وأقبلت حتى نزلت على أمية بن أبي الصلت بالطائف، فقلت‏:‏ يا أبا عثمان قد كان من أمر الرجل ما قد بلغك وسمعته، فقال‏:‏ قد كان لعمري‏.‏ قلت‏:‏ فأين أنت منه يا أبا عثمان‏؟‏ فقال‏:‏ والله ما كنت لأومن برسول من غير ثقيف أبداً‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ وأقبلت إلى مكة، فوالله ما أنا ببعيد حتى جئت مكة، فوجدت أصحابه يضربون ويحقرون‏.‏ قال أبو سفيان‏:‏ فجعلت أقول‏:‏ فأين جنده من الملائكة‏؟‏ قال‏:‏ فدخلني ما يدخل الناس من النفاسة‏.‏

وقد رواه الحافظ البيهقي في كتاب ‏(‏الدلائل‏)‏ من حديث إسماعيل بن طريح به‏.‏ ولكن سياق الطبراني الذي أوردناه أتم وأطول، والله أعلم‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثنا بكر بن أحمد بن نفيل، حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا مجاشع بن عمرو الأسدي، حدثنا ليث بن سعد، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن، عن عروة بن الزبير، عن معاوية بن أبي سفيان، عن أبي سفيان بن حرب‏:‏ أن أمية بن أبي الصلت كان بغزة أو بإيلياء، فلما قفلنا قال لي أمية‏:‏ يا أبا سفيان هل لك أن تتقدم على الرفقة فنتحدث‏.‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ففعلنا‏.‏ فقال لي‏:‏ يا أبا سفيان‏:‏ إيه عن عتبة بن ربيعة‏.‏ قلت‏:‏ كريم الطرفين، ويجتنب المحارم والمظالم‏.‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ وشريف مسن‏؟‏ قلت‏:‏ وشريف مسن‏.‏ قال‏:‏ السن والشرف أزريا به‏.‏ فقلت له‏:‏ كذبت ما ازداد سناً إلا ازداد شرفاً‏.‏

قال يا أبا سفيان‏:‏ إنها كلمة ما سمعت أحداً يقولها لي منذ تبصرت، فلا تعجل علي حتى أخبرك‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ هات‏.‏ قال‏:‏ إني كنت أجد في كتبي نبياً يبعث من حرتنا هذه، فكنت أظن بل كنت لا أشك أني أنا هو، فلما دارست أهل العلم إذا هو من بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحداً يصلح لهذا الأمر غير عتبة بن ربيعة‏.‏ فلما أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس به حين جاوز الأربعين ولم يوح إليه‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ فضرب الدهر ضربه، فأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة، فمررت بأمية فقلت له كالمستهزئ به‏:‏ يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته‏.‏

قال‏:‏ أما إنه حق فاتبعه‏.‏ قلت‏:‏ ما يمنعك من اتباعه‏؟‏ قال‏:‏ ما يمنعني إلا الاستحياء من نساء ثقيف، إني كنت أحدثهن أني هو، ثم يرينني تابعاً لغلام من بني عبد مناف‏.‏

ثم قال أمية‏:‏ كأني بك يا أبا سفيان قد خالفته، ثم قد ربطت كما يربط الجدي حتى يؤتى بك إليه، فيحكم فيك بما يريد‏.‏

وقال عبد الرازق‏:‏ أخبرنا معمر عن الكلبي قال‏:‏ بينا أمية راقد ومعه ابنتان له إذ فزعت إحداهما فصاحت عليه، فقال لها‏:‏ ما شأنك‏؟‏ قالت‏:‏ رأيت نسرين كشطا سقف البيت، فنزل أحدهما إليك فشق بطنك، والآخر واقف على ظهر البيت فناداه فقال‏:‏ أوعى‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ أزكى‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ فقال‏:‏ ذاك خير أريد بأبيكما فلم يفعله‏.‏

وقد روي من وجه آخر بسياق آخر فقال إسحاق بن بشر عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وعثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ قدمت الفارعة أخت أمية بن أبي الصلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وكانت ذات لب، وعقل، وجمال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بها معجباً فقال لها ذات يوم‏:‏ يا فارعة هل تحفظين من شعر أخيك شيئاً‏؟‏

فقالت نعم، وأعجب من ذلك ما قد رأيت قالت‏:‏ كان أخي في سفر فلما انصرف بدأني فدخل عليَّ، فرقد على سريري وأنا أحلق أديماً في يدي، إذ أقبل طائران أبيضان أو كالطيرين أبيضين، فوقع على الكوة أحدهما، ودخل الآخر فوقع عليه فشق الواقع عليه ما بين قصه إلى عانته، ثم أدخل يده في جوفه فأخرج قلبه فوضعه في كفه ثم شمه، فقال له الطائر الآخر‏:‏ أوعى‏؟‏

قال‏:‏ وعى‏.‏ قال‏:‏ أزكى‏؟‏ قال أبي‏:‏ ثم رد القلب إلى مكانه فالتأم الجرح أسرع من طرفة عين ثم ذهبا‏.‏ فلما رأيت ذلك دنوت منه فحركته فقلت‏:‏ هل تجد شيئاً‏؟‏ قال‏:‏ لا، إلا توهيناً في جسدي - وقد كنت ارتعبت مما رأيت - فقال‏:‏ مالي أراكي مرتاعة‏؟‏ قالت‏:‏ فأخبرته الخبر، فقال‏:‏ خير أريد بي، ثم صرف عني، ثم أنشأ يقول‏:‏

باتت همومي تسري طوارقها * أكفّ عيني والدمع سابقها

مما أتاني من اليقين ولم * أوت براة يقص ناطقها

أم من تلظى عليه واقدة النار * محيط بهم سرادقها

أم أسكن الجنة التي وعد * الأبرار مصفوفة نمارقها

لا يستوي المنزلان ثم ولا * الأعمال لا تستوي طرائقها

هما فريقان فرقة تدخل الجنة * حفت بهم حدائقها

وفرقة منهم قد أدخلت * النار فساءتهم مرافقها

تعاهدت هذه القلوب إذا * همت بخير عاقت عوائقها

وصدها للشقاء عن طلب الجنة * دنيا ألله ماحقها

عبد دعا نفسه فعاتبها * يعلم أن البصير رامقها

ما رغب النفس في الحياة وإن * تحيى قليلاً فالموت لاحقها

يوشك من فر من منيته * يوماً على غرة يوافقها

إن لم تمت غبطة تمت هرما * للموت كأس والمرء ذائقها

قال‏:‏ ثم انصرف إلى رحله فلم يلبث إلا يسيراً حتى طعن في حيارته، فأتاني الخبر فانصرفت إليه، فوجدته منعوشاً قد سجى عليه، فدنوت منه فشهق شهقة وشق بصره، ونظر نحو السقف ورفع صوته‏.‏ وقال‏:‏ لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا ذر مال فيفدني، ولا ذو أهل فتحميني‏.‏ ‏

ثم أغمى عليه، إذ شهق شهقة فقلت‏:‏ قد هلك الرجل‏.‏ فشق بصره نحو السقف فرفع صوته‏.‏ فقال‏:‏ لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا ذو براءة فأعتذر، ولا ذو عشيرة فأنتصر‏.‏

ثم أغمى عليه، إذ شهق شهقة وشق بصره ونظر نحو السقف‏.‏ فقال‏:‏ لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، بالنعم محفود، وبالذنب محصود‏.‏

ثم أغمى عليه، إذ شهق شهقة فقال‏:‏ لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما

إن تغفر اللهم تغفر جماً * وأي عبد لك لا ألما

ثم أغمى عليه إذ شهق شهقة فقال‏:‏

كل عيش وإن تطاول دهرا * صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي * في قلال الجبال أرعى الوعولا

قالت‏:‏ ثم مات‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏يا فارعة إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها‏)‏‏)‏ الآية‏.‏

وقد تكلم الخطابي على غريب هذا الحديث‏.‏

وروى الحافظ ابن عساكر عن الزهري أنه قال‏:‏ قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

ألا رسول لنا منا يخبرنا * ما بعد غايتنا من رأس مجراني

قال‏:‏ ثم خرج أمية بن أبي الصلت إلى البحرين، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام أمية بالبحرين ثماني سنين، ثم قدم الطائف فقال لهم‏:‏ ما يقول محمد بن عبد الله‏؟‏ قالوا‏:‏ يزعم أنه نبي هو الذي كنت تتمنى‏.‏

قال‏:‏ فخرج حتى قدم عليه مكة فلقيه فقال‏:‏ يا ابن عبد المطلب ما هذا الذي تقول‏؟‏ قال‏:‏ أقول إني رسول الله، وأن لا إله إلا هو‏.‏ قال‏:‏ إني أريد أن أكلمك فعدني غداً‏.‏ قال‏:‏ فموعدك غدا‏.‏ قال‏:‏ فتحب أن آتيك وحدي أو في جماعة من أصحابي، وتأتيني وحدك أو في جماعة من أصحابك‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي ذلك شئت‏.‏ قال‏:‏ فإني آتيك في جماعة، فأت في جماعة‏.‏ قال‏:‏ فلما كان الغد غدا أمية في جماعة من قريش، قال‏:‏ وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم معه نفر من أصحابه حتى جلسوا في ظل الكعبة‏.‏

قال‏:‏ فبدأ أمية فخطب، ثم سجع، ثم أنشد الشعر، حتى إذا فرغ الشعر قال‏:‏ أجبني يا ابن عبد المطلب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم ‏{‏يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ‏}‏‏)‏‏)‏‏.‏ حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه قال‏:‏ فتبعته قريش يقولون‏:‏ ما تقول يا أمية‏؟‏

قال‏:‏ أشهد أنه على الحق‏.‏

فقالوا‏:‏ هل تتبعه‏؟‏

قال‏:‏ حتى أنظر في أمره‏.‏

قال‏:‏ ثم خرج أمية إلى الشام، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلما قتل أهل بدر، قدم أمية من الشام حتى نزل بدراً، ثم ترحل يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل‏:‏ يا أبا الصلت ما تريد‏؟‏

قال‏:‏ أريد محمدا‏.‏

قال‏:‏ وما تصنع‏؟‏

قال‏:‏ أؤمن به، وألقي إليه مقاليد هذا الأمر‏.‏

قال‏:‏ أتدري من في القليب‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فيه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وهما ابنا خالك - وأمه ربيعة بنت عبد شمس - قال‏:‏ فجدع أذني ناقته، وقطع ذنبها، ثم وقف على القليب يقول‏:‏

ما ذا ببدر فالعقنقل * من مرازبة جحاجح

القصيدة إلى آخرها، كما سيأتي ذكرها بتمامها في قصة بدر إن شاء الله‏.‏ ثم رجع إلى مكة والطائف وترك الإسلام‏.‏

ثم ذكر قصة الطيرين، وقصة وفاته، كما تقدم، وأنشد شعره عند الوفاة‏:‏

كل عيش وإن تطاول دهرا * صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي * في قلال الجبال أرعى الوعولا

فاجعل الموت نصب عينيك واحذر * غولة الدهر إن للدهر غولا

نائلاً ظفرها القساور والصد * عان والطفل في المناور الشكيلا

وبغاث النياف واليعفر النافر * والعوهج البرام الضئيلا

فقوله‏:‏ القساور، جمع قسورة، وهو الأسد‏.‏ والصدعان‏:‏ ثيران الوحش، واحدها صدع‏.‏ والطفل‏:‏ الشكل من حمرة العين‏.‏ والبغاث‏:‏ الرخم‏.‏ والنياف‏:‏ الجبال‏.‏ واليعفر‏:‏ الظبي‏.‏ والعوهج‏:‏ ولد النعامة، يعني أن الموت لا ينجو منه الوحوش في البراري، ولا الرخم الساكنة في رؤس الجبال، ولا يترك صغيراً لصغره، ولا كبيراً لكبره‏.‏

وقد تكلم الخطابي وغيره على غريب هذه الأحاديث‏.‏ وقد ذكر السهيلي في كتابه ‏(‏التعريف والإعلام‏)‏ أن أمية بن أبي الصلت أول من قال باسمك اللهم، وذكر عند ذلك قصة غريبة وهو أنهم خرجوا في جماعة من قريش في سفر، فيهم حرب بن أمية والد أبي سفيان‏.‏

قال‏:‏ فمروا في مسيرهم بحية فقتلوها، فلما أمسوا جاءتهم امرأة من الجان فعاتبتهم في قتل تلك الحية، ومعها قضيب فضربت به الأرض ضربة نفرت الإبل عن آخرها، فذهبت وشردت كل مذهب، وقاموا فلم يزالوا في طلبها حتى ردوها، فلما اجتمعوا جاءتهم أيضاً فضربت الأرض بقضيبها، فنفرت الإبل فذهبوا في طلبها‏.‏

فلما أعياهم ذلك قالوا‏:‏ والله هل عندك لما نحن فيه من مخرج‏؟‏ فقال‏:‏ لا والله، ولكن سأنظر في ذلك‏.‏ قال‏:‏ فساروا في تلك المحلة لعلهم يجدو أحداً يسألونه عما قد حلَّ بهم من العناء، إذا نار تلوح على بعد، فجاؤها فإذا شيخ على باب خيمة يوقد ناراً، وإذا هو من الجان في غاية الضآلة والدمامة فسلموا عليه فسألهم عما هم فيه‏.‏

فقال‏:‏ إذا جاءتكم فقل‏:‏ بسمك اللهم فإنها تهرب فلما اجتمعوا وجاءتهم الثالثة والرابعة، قال في وجهها أمية‏:‏ بسمك اللهم، فشردت ولم يقر لها قرار، لكن عدت الجن على حرب بن أمية فقتلوه بتلك الحية، فتبره أصحابه هنالك حيث لا جار ولا دار، ففي ذلك يقول الجان‏:‏

وقبر حرب بمكان قفر * وليس قرب قبر حرب قبر

وذكر بعضهم أنه كان يتفرس في بعض الأحيان في لغات الحيوانات، فكان يمر في السفر على الطير فيقول لأصحابه‏:‏ إن هذا يقول كذا وكذا، فيقولون‏:‏ لا نعلم صدق ما يقول‏.‏

حتى مروا على قطيع غنم قد انقطعت منه شاة ومعها ولدها، فالتفتت إليه فثغت كأنها تستحثه، فقال‏:‏ أتدرون ما تقول له‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ إنها تقول أسرع بنا لا يجيء الذئب فيأكلك كما أكل الذئب أخاك عام أول‏.‏ فأسرعوا حتى سألوا الراعي‏:‏ هل أكل له الذئب عام أول حملاً بتلك البقعة‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ومر يوماً على بعير عليه امرأة راكبة، وهو يرفع رأسه إليها ويرغو‏.‏

فقال‏:‏ إنه يقول لها‏:‏ إنك رحلتيني وفي الحداجة مخيط، فأنزلوا تلك المرأة وحلوا ذلك الرحل، فإذا فيه مخيط كما قال‏.‏ ‏

وذكر ابن السكيت أن أمية بن أبي الصلت بينما هو يشرب يوماً إذ نعب غراب‏.‏ فقال له‏:‏ بفيك التراب مرتين‏.‏ فقيل له‏:‏ ما يقول‏؟‏ فقال‏:‏ إنه يقول إنك تشرب هذا الكأس الذي في يدك ثم تموت‏.‏ ثم نعب الغراب فقال‏:‏ إنه يقول‏:‏ وآية ذلك أني أنزل على هذه المزبلة فآكل منها، فيعلق عظم في حلقي فأموت‏.‏

ثم نزل الغراب على تلك المزبلة فأكل شيئا، فعلق في حلقه عظم فمات‏.‏ فقال أمية‏:‏ أما هذا فقد صدق في نفسه، ولكن سأنظر هل صدق في أم لا‏؟‏ ثم شرب ذلك الكأس الذي في يده، ثم اتكأ فمات‏.‏

وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن مهدي، عن الثوري، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد‏:‏ ألا كل شيء ما خلا الله باطل‏)‏‏)‏‏.‏

وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم‏.‏

فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا روح، حدثنا زكرياء بن إسحاق، حدثنا إبراهيم بن ميسرة أنه سمع عمرو بن الشريد يقول‏:‏ قال الشريد‏:‏ كنت ردفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي‏:‏ أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فأنشدني فأنشدته بيتا، فلم يزل يقول كلما أنشدته بيتاً إيه، حتى أنشدته مائة بيت‏.‏

قال‏:‏ ثم سكت النبي صلى الله عليه وسلم وسكت‏.‏

وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة، عن أبي تميم بن ميسرة به‏.‏ ومن غير وجه عن عمرو بن الشريد، عن أبيه الشريد بن سويد الثقفي، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي بعض الروايات فقال رسول الله‏:‏

‏(‏‏(‏أن كاد يسلم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال يحيى بن محمد بن صاعد‏:‏ حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا حاتم بن أبي صفرة، عن سماك بن حرب، عن عمرو بن نافع، عن الشريد الهمداني وأخواله ثقيف قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فبينا أنا أمشي ذات يوم، إذا وقع ناقة خلفي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الشريد‏؟‏‏)‏‏)‏

فقلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا أحملك‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ بلى وما من إعياء، ولكني أردت البركة في ركوبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فأناخ فحملني‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هات‏)‏‏)‏‏.‏

فأنشدته قال‏:‏ أظنه قال مائة بيت‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏عند الله علم أمية بن أبي الصلت‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال ابن صاعد‏:‏ هذا حديث غريب‏.‏

فأما الذي يُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أمية‏:‏ ‏(‏‏(‏آمن شعره وكفر قلبه‏)‏‏)‏ فلا أعرفه، والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد - هو أبو بكر بن أبي شيبة - حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق أمية في شيء من شعره قال‏:

زحل وثور تحت رجل يمينه * والنسر للأخرى وليث مرصد

والشمس تبدو كل آخر ليلة * حمراء يصبح لونها يتورد

تأبى فما تطلع لنا في رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏صدق‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية أبي بكر الهذلي عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إن الشمس لا تطلع حتى ينخسها سبعون ألف ملك، يقول لها اطلعي اطلعي فتقول‏:‏ لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله، فإذا همت بالطلوع، أتاها شيطان يريد أن يثبطها فتطلع بين قرنيه وتحرقه، فإذا تضيفت للغروب عزمت لله عز وجل، فيأتيها شيطان يريد أن يثبطها عن السجود فتغرب من قرنيه وتحرقه‏.‏ أورده ابن عساكر مطولاً‏.‏

ومن شعره في حملة العرش‏:‏

فمن حامل إحدى قوائم عرشه * ولولا إله الخلق كلوا وأبلدوا

قيام على الأقدام عانون تحته * فرائصهم من شدة الخوف ترعد

رواه ابن عساكر‏.‏

وروي عن الأصمعي أنه كان ينشد من شعر أمية‏:‏

مجدوا الله فهو للمجد أهل * ربنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء الأعلى الذي سبق الناس * وسوى فوق السماء سريرا

شرجعا ما يناله بصر العين * ترى دونه الملائك صورا

ثم يقول الأصمعي‏:‏ الملائك‏:‏ جمع ملك‏.‏ والصور‏:‏ جمع أصور، وهو المائل العنق، وهؤلاء حملة العرش‏.‏

ومن شعر أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان التيمي‏:‏

أأذكر حاجتي أم قد كفاني * حياؤك إن شيمتك الحياء

وعلمك بالحقوق وأنت فرع * لك الحسب المهذب والسناء

كريم لا يغيره صباح * عن الخلق الجميل ولا مساء

يباري الريح مكرمة وجودا * إذا ما الكلب أحجره الشتاء

وأرضك أرض مكرمة بنتها * بنو تيم وأنت لها سماء

إذا أثنى عليك المرء يوماً * كفاه من تعرضه الثناء

وله فيه مدائح أخر‏.‏ وقد كان عبد الله بن جدعان هذا من الكرماء الأجواد الممدحين المشهورين، وكان له جفنة يأكل الراكب منها وهو على بعيره من عرض حافتها وكثرة طعامها، وكان يملأها لباب البر يلبك بالشهد والسمن، وكان يعتق الرقاب، ويعين على النوائب، وقد سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم أينفعه ذلك‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه لم يقل يوماً من الدهر‏:‏ رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين‏)‏‏)‏‏.‏

ومن شعر أمية البديع‏:‏

لا ينكثون الأرض عند سؤالهم * كتطلب العلات بالعيدان

بل يسفرون وجوههم فترى لها * عند السؤال كأحسن الألوان

وإذا المقل أقام وسط رحالهم * ردوه رب صواهل وقيان

وإذا دعوتهم لكل ملمة * سدوا شعاع الشمس بالفرسان

آخر ترجمة أمية بن أبي الصلت‏.‏

 بحيرا الراهب

الذي توسم في رسول الله صلى الله عليه وسلم النبوة وهو مع عمه أبي طالب حين قدم الشام في تجار من أهل مكة، وعمره إذ ذاك اثني عشرة سنة، فرأى الغمامة تظله من بينهم، فصنع لهم طعاماً ضيافة واستدعاهم كما سيأتي بيان ذلك في السيرة‏.‏

وقد روى الترمذي في ذلك حديثاً بسطنا الكلام عليه هنالك‏.‏

وقد أورد له الحافظ ابن عساكر شواهد وسائغات في ترجمة بحيرا، ولم يورد ما رواه الترمذي وهذا عجب‏.‏

وذكر ابن عساكر أن بحيرا كان يسكن قرية يقال لها الكفر، بينها وبين بصرى ستة أميال، وهي التي يقال لها دير بحيرا، قال‏:‏ ويقال‏:‏ إنه كان يسكن قرية يقال لها منفعة بالبلقاء وراء زيرا، والله أعلم‏.‏

 ذكر قس بن ساعدة الإيادي

قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب ‏(‏هواتف الجان‏)‏‏:‏ حدثنا داود القنطري، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو عبد الله المشرقي، عن أبي الحارث الوراق، عن ثور بن يزيد، عن مورق العجلي، عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ لما قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر وفد إياد ما فعل قس بن ساعدة الإيادي‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ هلك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد شهدته يوماً بسوق عكاظ على جمل أحمر يتكلم بكلام معجب مونق لا أجدني أحفظه‏)‏‏)‏‏.‏

فقام إليه أعرابي من أقاصي القوم فقال‏:‏ أنا أحفظه يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال‏:‏ فكان بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول‏:‏

يا معشر الناس اجتمعوا فكل من فات فات، وكل شيء آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وبحر عجاج، نجوم تزهر، وجبال مرسية، وأنهار مجرية، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالإقامة فأقاموا، أم تركوا فناموا، أقسم قس بالله قسماً لا ريب فيه إن لله ديناً هو أرضى من دينكم هذا، ثم أنشأ يقول‏:‏

في الذاهبين الأولين * من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا * للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها * يمضي الأصاغر والأكابر

لا من مضى يأتي إليك * ولا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محالة * حيث صار القوم صائر

وهذا إسناد غريب من هذا الوجه‏.‏

وقد رواه الطبراني من وجه آخر فقال في كتابه ‏(‏المعجم الكبير‏)‏‏:‏ حدثنا محمد بن السري بن مهران بن الناقد البغدادي، حدثنا محمد بن حسان السهمي، حدثنا محمد بن الحجاج، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس قال‏:‏ قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏أيكم يعرف القس بن ساعدة الإيادي‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ كلنا يعرفه يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فما فعل‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ هلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام وهو على جمل أحمر وهو يخطب الناس وهو يقول‏:‏ يا أيها الناس اجتمعوا واستمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، وأقسم قس قسماً حقاً لئن كان في الأمر رضى ليكون بعده سخط، إن لله لدينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أفيكم من يروي شعره‏؟‏ فأنشده بعضهم

في الذاهبين الأولين * من القرون لنا بصائر

ما رأيت موارداً * للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها * يسعى الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي إلي * ولا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محالة * حيث صار القوم صائر

وهكذا أورده الحافظ البيهقي في كتابه ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ من طريق محمد بن حسان السلمي به‏.‏

وهكذا رويناه في الجزء الذي جمعه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه في أخبار قس قال‏:‏ حدثنا عبد الكريم بن الهيثم الدير عاقولي، عن سعيد بن شبيب، عن محمد بن الحجاج، عن إبراهيم الواسطي نزيل بغداد، ويعرف بصاحب الفريسة، وقد كذبه يحيى بن معين، وأبو حاتم الرازي، والدارقطني واتهمه غير واحد منهم ابن عدي بوضع الحديث‏.‏

وقد رواه البزار، وأبو نعيم من حديث محمد بن الحجاج هذا‏.‏

ورواه ابن درستويه، وأبو نعيم من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهذه الطريق أمثل من التي قبلها، وفيه‏:‏ إن أبا بكر هو الذي أورد القصة بكمالها نظمها ونثرها، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث أحمد بن موسى بن إسحاق الحطمي، حدثنا علي بن الحسين بن محمد المخزومي، حدثنا أبو حاتم السجستاني، حدثنا وهب بن جرير، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس قال‏:‏ قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم‏:‏

‏(‏‏(‏ما فعل حليف لكم يقال له قس بن ساعدة الإيادي‏)‏‏)‏‏.‏ وذكر القصة مطولة‏.‏

وأخبرنا الشيخ المسند الرحلة أحمد بن أبي طالب الحجار إجازة إن لم يكن سماعاً قال‏:‏ أجاز لنا جعفر بن علي الهمداني قال‏:‏ أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السلفي سماعاً، وقرأت على شيخنا الحافظ أبي عبد الله الذهبي أخبرنا أبو علي الحسن بن علي بن أبي بكر الخلال سماعاً‏.‏ ‏

قال‏:‏ أنا جعفر بن علي سماعاً، قال‏:‏ أنا السلفي سماعاً، أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي، أنا أبو الفضل محمد بن أحمد عيسى السعدي، أنا أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن علي المقرئ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي قال‏:‏

حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن أحمد السعدي قاضي فارس، حدثنا أبو داود سليمان بن سيف بن يحيى بن درهم الطائي من أهل حران، حدثنا أبو عمرو سعيد بن يربع، عن محمد بن إسحاق، حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه قال‏:‏

كان الجارود بن المعلى بن حنش بن معلى العبدي نصرانياً حسن المعرفة بتفسير الكتب وتأويلها، عالماً بسير الفرس وأقاويلها، بصيراً بالفلسفة والطب، ظاهر الدهاء والأدب، كامل الجمال ذا ثروة ومال، وأنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وافداً في رجال من عبد القيس، ذوي أراء وأسنان وفصاحة وبيان وحجج وبرهان، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وقف بين يديه وأشار إليه، وأنشأ يقول‏:‏

يا نبي الهدى أتتك رجال * قطعت فدفدا وآلا فآلا

وطوت نحوك الصحاصح تهوي * لا تعد الكلال فيك كلالا

كل بهماء قصر الطرف عنها * أرقلتها قلاصنا أرقالا

وطوتها العتاق يجمح فيها * بكماة كأنجم تتلالا

تبتغي دفع بأس يوم عظيم * هائل أوجع القلوب وهالا

ومزادا لمحشر الخلق طرا * وفراقا لمن تمادى ضلالا

نحو نور من الإله وبرهان * وبر ونعمة أن تنالا

خصك الله يا ابن آمنة الخير * بها إذ أتت سجالا سجالا

فاجعل الحظ منك يا حجة الله * جزيلا لا حظ خلف أحالا

قال فأدناه النبي صلى الله عليه وسلم وقرب مجلسه وقال له‏:‏

‏(‏‏(‏يا جارود لقد تأخر الموعود بك وبقومك‏)‏‏)‏‏.‏

فقال الجارود‏:‏ فداك أبي وأمي أما من تأخر عنك فقد فاته حظه وتلك أعظم حوبة، وأغلظ عقوبة، وما كنت فيمن رآك أو سمع بك فعداك، واتبع سواك، وإني الآن على دين قد علمت به قد جئتك وها أنا تاركه لدينك، أفذلك مما يمحص الذنوب والمآثم والحوب، ويرضى الرب عن المربوب‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏أنا ضامن لك ذلك، وأخلص الآن لله بالوحدانية، ودع عنك دين النصرانية‏)‏‏)‏‏.‏

فقال الجارود‏:‏ فداك أبي وأمي، مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك محمد عبده ورسوله‏.‏

قال‏:‏ فأسلم وأسلم معه أناس من قومه، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، وأظهر من إكرامهم ما سروا به وابتهجوا به‏.‏

ثم أقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الإيادي‏)‏‏)‏‏.‏

فقال الجارود‏:‏ فداك أبي وأمي كلنا نعرفه، وإني من بينهم لعالم بخبره، واقف على أمره، كان قس يا رسول الله سبطاً من أسباط العرب‏.‏

عمر ستمائة سنة، تقفر منها خمسة أعمار في البراري والقفار، يضج بالتسبيح على مثال المسيح، لا يقره قرار، ولا تكنه دار، ولا يستمتع به جار، كان يلبس الأمساح ويفوق السياح، ولا يفتر من رهبانيته يتحسى في سياحته بيض النعام ويأنس بالهوام، ويستمتع بالظلام، يبصر فيعتبر، ويفكر فيختبر‏.‏ ‏

فصار لذلك واحداً تضرب بحكمته الأمثال، وتكشف به الأهوال، أدرك رأس الحواريين سمعان، وهو أول رجل تأله من العرب، ووحد وأقر وتعبد، وأيقن بالبعث والحساب، وحذر سوء المآب، وأمر بالعمل قبل الفوت، ووعظ بالموت، وسلم بالقضا على السخط والرضا، وزار القبور، وذكر النشور، وندب بالأشعار، وفكر في الأقدار‏.‏

وأنبأ عن السماء والنماء، وذكر النجوم وكشف الماء، ووصف البحار وعرف الآثار، وخطب راكباً، ووعظ دائباً، وحذر من الكرب، ومن شدة الغضب، ورسل الرسائل، وذكر كل هائل، وأرغم في خطبه وبين في كتبه، وخوف الدهر، وحذر الأزر، وعظم الأمر، وجنب الكفر، وشوق إلى الحنيفية، ودعا إلى اللاهوتية‏.‏

وهو القائل في يوم عكاظ‏:‏ شرق وغرب، ويتم وحزب، وسلم وحرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وإناث وذكور، وبرار وبحور، وحب ونبات، وآباء وأمهات، وجمع وأشتات، وآيات في إثرها آيات، ونور وظلام، ويسر وإعدام، ورب وأصنام‏.‏

لقد ضل الأنام، نشوّ مولود، ووأد مفقود، وتربية محصود، وفقير وغني، ومحسن ومسيء، تباً لأرباب الغفلة، ليصلحن العامل عمله، وليفقدن الآمل أمله، كلا بل هو إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وأمات وأحيا، وخلق الذكر والأنثى، رب الآخرة والأولى‏.‏

أما بعد‏:‏ فيا معشر إياد، أين ثمود وعاد‏؟‏ وأين الآباء والأجداد‏؟‏ وأين العليل والعواد‏؟‏ كل له معاد، يقسم قس برب العباد، وساطح المهاد، لتحشرن على الانفراد، في يوم التناد، إذا نفخ في الصور، ونقر في الناقور، وأشرقت الأرض، ووعظ الواعظ، فانتبذ القانط، وأبصر اللاحظ‏.‏

فويل لمن صدف عن الحق الأشهر، والنور الأزهر، والعرض الأكبر، في يوم الفصل، وميزان العدل، إذا حكم القدير، وشهد النذير، وبعد النصير، وظهر التقصير، ففريق في الجنة، وفريق في السعير‏.‏

وهو القائل‏:‏

ذكر القلب من جواه أد كار * وليال خلالهن نهار

وسجال هواطل من غمام * ثرن ماء وفي جواهن نار

ضوءها يطمس العيون وأرعاد * شداد في الخافقين تطار

وقصور مشيدة حوت الخير * وأخرى خلت بهن قفار

وجبال شوامخ راسيات * وبحار ميهاههن غزار

ونجوم تلوح في ظلم الليل * نراها في كل يوم تدار

ثم شمس يحثها قمر الليل * وكل متابع موار

وصغير وأشمط وكبير * كلهم في الصعيد يوما مزار

وكبير مما يقصر عنه * حدسه الخاطر الذي لا يحار

فالذي قد ذكرت دل على الله * نفوسا لها هدى واعتبار

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏مهما نسيت فلست أنساه بسوق عكاظ، واقفاً على جمل أحمر يخطب الناس‏:‏ اجتمعوا فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا وقولوا، وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأحياء وأموات، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وضوء وظلام، وليل وأيام، وبر وآثام‏.‏

إن في السماء خبراً، وإن في الأرض عبراً، يحار فيهن البصرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحار لا تفور، ومنايا دوان، ودهر خوان، كحد النسطاس، ووزن القسطاس‏.‏

أقسم قس قسماً لا كاذباً فيه ولا آثماً، لئن كان في هذا الأمر رضي، ليكونن سخط‏.‏ ثم قال‏:‏ أيها الناس إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم هذا الذي أنتم عليه، وهذا زمانه وأوانه‏.‏ ثم قال‏:‏ ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا‏؟‏ أم تركوا فناموا‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض أصحابه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وأيكم يروي شعره لنا‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال أبو بكر الصديق‏:‏ فداك أبي وأمي، أنا شاهد له في ذلك اليوم حيث يقول‏:‏

في الذاهبين الأولين * من القرون لنا بصائر

لما رأيت موارداً * للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها * يمضي الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي إلي * ولا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محالة * حيث صار القوم صائر

قال‏:‏ فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخ من عبد القيس عظيم الهامة، طويل القامة، بعيد ما بين المنكبين فقال‏:‏ فداك أبي وأمي، وأنا رأيت من قس عجباً‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما الذي رأيت يا أخا بني عبد القيس‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ خرجت في شبيبتي أربع بعيراً لي فدعني أقفو أثره في تنائف قفاف، ذات ضغابيس وعرصات جثجاث، بين صدور جذعان وغمير حوذان، ومهمه ظلمان، ورصيع ليهقان، فبينا أنا في تلك الفلوات أجول بسبسبها وأرنق فدفدها، إذا أنا بهضبة في نشزاتها أراك كباث مخضوضلة، وأغصانها متهدلة، كأن بريرها حب الفلفل وبواسق أقحوان، وإذا بعين خرارة، وروضة مدهامة، وشجرة عارمة، وإذا أنا بقس بن ساعدة في أصل تلك الشجرة وبيده قضيب‏.‏

فدنوت منه، وقلت له‏:‏ أنعم صباحاً‏.‏

فقال‏:‏ وأنت فنعم صباحك، وقد وردت العين سباع كثيرة فكان كلما ذهب سبع منها يشرب من العين قبل صاحبه، ضربه قس بالقضيب الذي بيده، وقال‏:‏ اصبر حتى يشرب الذي قبلك، فذعرت من ذلك ذعراً شديداً، ونظر إليّ فقال‏:‏ لا تخف‏.‏

وإذا بقبرين بينهما مسجد، فقلت‏:‏ ما هذا القبران‏؟‏

قال‏:‏ قبرا أخوين كانا يعبدان الله عز وجل بهذا الموضع، فأنا مقيم بين قبريهما عبد الله حتى ألحق بهما، فقلت له‏:‏ أفلا تلحق بقومك فتكون معهم في خيرهم، وتباينهم على شرهم‏؟‏

فقال لي‏:‏ ثكلتك أمك، أو ما علمت أن ولد إسماعيل تركوا دين أبيهم، واتبعوا الأضداد، وعظموا الأنداد، ثم أقبل على القبرين وأنشأ يقول‏:‏ ‏

خليلي هبَّا طالما قد رقدتما * أجدكما لا تقضيان كراكما

أرى النوم بين الجلد والعظم منكما * كأن الذي يسقي العقار سقاكما

أمن طول نوم لا تجيبان داعياً * كأن الذي يسقي العقار سقاكما

ألم تعلما أني بنجران مفرداً * وما لي فيه من حبيب سواكما

مقيم على قبريكما لست بارحاً * إياب الليالي أو يجيب صداكما

أأبكيكما طول الحياة وما الذي * يرد على ذي لوعة أن بكاكما

فلو جعلت نفس لنفس امرئ فدى * لجدت بنفسي أن تكون فداكما

كأنكما والموت أقرب غاية * بروحي في قبريكما قد أتاكما

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏رحم الله قساً أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة واحدة‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث غريب جداً من هذا الوجه، وهو مرسل إلا أن يكون الحسن سمعه من الجارود، والله أعلم‏.‏

وقد رواه البيهقي، والحافظ أبو القاسم ابن عساكر من وجه آخر من حديث محمد بن عيسى بن محمد بن سعيد القرشي الأخباري‏:‏ ثنا أبي، ثنا علي بن سليمان بن علي، عن علي بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قدم الجارود بن عبد الله فذكر مثله، أو نحوه مطولاً بزيادات كثيرة في نظمه ونثره، وفيه ما ذكره عن الذي ضل بعيره فذهب في طلبه‏.‏

قال‏:‏ فبت في واد لا آمن فيه حتفي، ولا أركن إلى غير سيفي، أرقب الكوكب، وأرمق الغيهب، حتى إذا الليل عسعس، وكاد الصبح أن يتنفس، هتف بي هاتف يقول‏:‏

يا أيها الراقد في الليل الأجم * قد بعث الله نبياً في الحرم

من هاشم أهل الوفاء والكرم * يجلو دجيات الدياجي والبهم

قال‏:‏ فأدرت طرفي فما رأيت له شخصاً، ولا سمعت له فحصاً، قال‏:‏ فأنشأت أقول‏:‏

يا أيها الهاتف في داجي الظُّلم * أهلاً وسهلاً بك من طيف ألم

بين هداك الله في لحن الكلم * ماذا الذي تدعو إليه يغتنم

قال‏:‏ فإذا أنا بنحنحة وقائلاً يقول‏:‏ ظهر النور، وبطل الزور، وبعث الله محمداً بالحبور، صاحب النجيب الأحمر، والتاج والمغفر، والوجه الأزهر، والحاجب الأقمر، والطرف الأحور، صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله، وذلك محمد المبعوث إلى الأسود والأبيض، أهل المدر والوبر، ثم أنشأ يقول‏:‏

الحمد لله الذي * لم يخلق الخلق عبث

لم يخلنا يوماً سدى * من بعد عيسى واكترث

أرسل فينا أحمداً * خير نبي قد بعث

صلى عليه الله ما * حج له ركب وحث

وفيه من إنشاء قس بن ساعدة‏:‏

يا ناعي الموت والملحود في جدث * عليهم من بقايا قولهم خِرَق

دعهم فإن لهم يوماً يصاح بهم * فهم إذا انتبهوا من نومهم أرقوا

حتى يعودوا بحال غير حالهم * خلقاً جديداً كما من قبله خلقوا

منهم عراة ومنهم في ثيابهم * منها الجديد ومنها المنهج الخلق

ثم رواه البيهقي، عن محمد بن عبد الله بن يوسف بن أحمد الأصبهاني‏:‏ حدثنا أبو بكر أحمد بن سعيد بن فرضخ الأخميمي بمكة، ثنا القاسم بن عبد الله بن مهدي، ثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، ثنا سفيان بن عيينة، عن أبي حمزة الثمالي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏.‏

فذكر القصة، وذكر الإنشاد قال‏:‏ فوجدوا عند رأسه صحيفة فيها‏:‏

يا ناعي الموت والأموات في جدث * عليهم من بقايا نومهم خرق

دعهم فإن لهم يوماً يصاح بهم * كما تنبه من نوماته الصعق

منهم عراة وموتى في ثيابهم * منها الجديد ومنها الأزرق الخلق

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏والذي بعثني بالحق لقد آمن قس بالبعث‏)‏‏)‏‏.‏

وأصله مشهور، وهذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة‏.‏ وقد تكلم أبو محمد ابن درستويه على غريب ما وقع في هذا الحديث، وأكثره ظاهر إن شاء الله تعالى، وما كان فيه غرابة شديدة، نبهنا عليه في الحواشي‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنا أبو سعيد ابن محمد بن أحمد الشعيثي، ثنا أبو عمرو ابن أبي طاهر المحمد آباذي لفظاً، ثنا أبو لبابة محمد بن المهدي الأموردي، ثنا أبي، ثنا سعيد بن هبيرة، ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏ما فعل قس بن ساعدة‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ هلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما إني سمعت منه كلاماً أرى أني أحفظه‏)‏‏)‏‏.‏

فقال بعض القوم‏:‏ نحن نحفظه يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هاتوا‏)‏‏)‏‏.‏

فقال قائلهم‏:‏ إني واقف بسوق عكاظ فقال‏:‏ يا أيها الناس استمعوا واسمعوا وعوا، كل من عاش مات، وكل من مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرسية، وأنهار مجرية، إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً، أرى الناس يموتون ولا يرجعون، أرضوا بالإقامة فأقاموا‏؟‏ أم تركوا فناموا‏؟‏

أقسم قس قسماً بالله لا آثم فيه، إن لله ديناً هو أرضى مما أنتم عليه، ثم أنشأ يقول‏:‏

في الذاهبين الأولين * من القرون لنا بصائر

لما رأيت مصارعاً * للقوم ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها * يمضي الأكابر والأصاغر

أيقنت أني لا محالة * حيث صار القوم صائر

ثم ساقه البيهقي من طرق أخر قد نبهنا عليها فيما تقدم، ثم قال بعد ذلك كله‏:‏ وقد روي هذا الحديث عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس بزيادة ونقصان‏.‏ ‏

وروي من وجه آخر عن الحسن البصري منقطعاً، وروي مختصراً من حديث سعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة‏.‏ قلت‏:‏ وعبادة بن الصامت كما تقدم، وعبد الله بن مسعود كما رواه أبو نعيم في كتاب ‏(‏الدلائل‏)‏ عن عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي، عن أبي الوليد طريف بن عبيد الله مولى علي بن أبي طالب بالموصل، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود فذكره‏.‏

وروى أبو نعيم أيضاً حديث عبادة المتقدم، وسعد بن أبي وقاص‏.‏ ثم قال البيهقي‏:‏ وإذا روي الحديث من أوجه أخر، وإن كان بعضها ضعيفاً، دل على أن للحديث أصلاً، والله أعلم‏.‏

 زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه

هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزي بن رياح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي، وكان الخطاب والد عمر بن الخطاب عمه، وأخاه لأمه، وذلك لأن عمرو بن نفيل كان قد خلف على امرأة أبيه بعد أبيه، وكان لها من نفيل أخوه الخطاب‏.‏ قاله الزبير بن بكار، ومحمد بن إسحاق‏.‏

وكان زيد بن عمرو قد ترك عبادة الأوثان وفارق دينهم، وكان لا يأكل إلا ما ذبح على اسم الله وحده‏.‏

قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول‏:‏ يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول‏:‏ اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم، ثم يسجد على راحلته‏.‏

وكذا رواه أبو أسامة، عن هشام به‏.‏ وزاد‏:‏ وكان يصلي إلى الكعبة، ويقول‏:‏ إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، وكان يحيي الموؤدة، ويقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته‏:‏ لا تقتلها، ادفعها إلي أكفلها، فإذا ترعرعت فإن شئت فخذها وإن شئت فادفعها‏.‏ أخرجه النسائي من طريق أبي أسامة‏.‏

وعلقه البخاري فقال‏:‏ وقال الليث‏:‏ كتب إلى هشام بن عروة، عن أبيه به‏.‏

وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، وقد كان نفر من قريش زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وعبد الله بن جحش بن رياب بن يعمر بن صبرة بن برة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسعد بن أسد بن خزيمة، وأمه أميمة بنت عبد المطلب وأخته زينب بنت جحش التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مولاه زيد بن حارثة، كما سيأتي بيانه‏.‏

حضروا قريشاً عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم، فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض وقالوا‏:‏ تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فقال قائلهم‏:‏ تعلمن والله ما قومكم على شيء، لقد أخطؤا دين إبراهيم وخالفوه، ما وثن يعبد‏؟‏ لا يضر ولا ينفع، فابتغوا لأنفسكم، فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل كتاب من اليهود والنصارى، والملل كلها، الحنيفية دين إبراهيم‏.‏

فأما ورقة بن نوفل فتنصر واستحكم في النصرانية، وابتغى الكتب من أهلها، حتى علم علماً كثيراً من أهل الكتاب، ولم يكن فيهم أعدل أمراً، وأعدل ثباتاً من زيد بن عمرو بن نفيل، اعتزل الأوثان، وفارق الأديان، من اليهود والنصارى والملل كلها، إلا دين الحنيفية دين إبراهيم، يوحد الله ويخلع من دونه، ولا يأكل ذبائح قومه، فإذا هم بالفراق لما هم فيه قال‏:‏ وكان الخطاب قد آذاه أذى كثيراً حتى خرج منه إلى أعلى مكة، ووكل به الخطاب شباباً من قريش، وسفهاء من سفهائهم‏.‏

فقال‏:‏ لا تتركوه يدخل، فكان لا يدخلها إلا سراً منهم، فإذا علموا به أخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم، أو يتابعه أحد إلى ما هو عليه‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ سمعت من أرضى يحدث عن زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏ كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول‏:‏ الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء ماء، وأنبت لها من الأرض، لم تذبحوها على غير اسم الله‏؟‏ إنكاراً لذلك وإعظاماً له‏.‏

وقال يونس، عن ابن إسحاق‏:‏ وقد كان زيد بن عمرو بن نفيل قد عزم على الخروج من مكة، فضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم، وكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما أبصرته قد نهض للخروج وأراده، آدنت الخطاب بن نفيل، فخرج زيد إلى الشام يلتمس ويطلب في أهل الكتاب الأول دين إبراهيم، ويسأل عنه، ولم يزل في ذلك فيما يزعمون، حتى أتى الموصل والجزيرة كلها‏.‏

ثم أقبل حتى أتى الشام، فجال فيها حتى أتى راهباً ببيعة من أرض البلقاء، كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم، فقال له الراهب‏:‏ إنك لتسأل عن دين ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، لقد درس من علمه وذهب من كان يعرفه، ولكنه قد أظل خروج نبي وهذا زمانه‏.‏

وقد كان شام اليهودية والنصرانية، فلم يرض شيئاً منها، فخرج سريعاً حين قال له الراهب ما قال يريد مكة، حتى إذا كان بأرض لخم عدوا عليه فقتلوه‏.‏

فقال ورقة يرثيه‏:‏

رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنوراً من النار حاميا

بدينك ربا ليس رب كمثله * وتركك أوثان الطواغي كما هيا

وقد تدرك الإنسان رحمة ربه * ولو كان تحت الأرض ستينا واديا

وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة‏:‏ حدثنا أحمد بن طارق الوابشي، ثنا عمرو بن عطية، عن أبيه، عن ابن عمر، عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يتأله في الجاهلية، فانطلق حتى أتى رجلاً من اليهود فقال له‏:‏ أحب أن تدخلني معك في دينك‏.‏

فقال له اليهودي‏:‏ لا أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من غضب الله‏.‏

فقال‏:‏ من غضب الله أفر‏.‏

فانطلق حتى أتى نصرانياً فقال له‏:‏ أحب أن تدخلني معك في دينك‏.‏

فقال‏:‏ لست أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من الضلالة‏.‏

فقال‏:‏ من الضلالة أفر‏.‏

قال له النصراني‏:‏ فإني أدلك على دين إن تبعته اهتديت‏.‏

قال‏:‏ أي دين‏.‏

قال‏:‏ دين إبراهيم‏.‏

قال‏:‏ فقال‏:‏ اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم، عليه أحيى وعليه أموت‏.‏

قال‏:‏ فذكر شأنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هو أمة وحده يوم القيامة‏.‏

وقد روى موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر نحو هذا‏.‏

وقال محمد بن سعد، حدثنا علي بن محمد بن عبد الله بن سيف القرشي، عن إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال‏:‏

قال زيد بن عمرو بن نفيل شاممت اليهودية والنصرانية فكرهتهما، فكنت بالشام وما والاها، حتى أتيت راهباً في صومعة فذكرت له اغترابي عن قومي، وكراهتي عبادة الأوثان، واليهودية والنصرانية، فقال له‏:‏ أراك تريد دين إبراهيم يا أخا أهل مكة، إنك لتطلب ديناً ما يوجد اليوم أحد يدين به، وهو دين أبيك إبراهيم، كان حنيفاً لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، كان يصلي ويسجد إلى هذا البيت الذي ببلادك، فالحق ببلدك فإن الله يبعث من قومك في بلدك من يأتي بدين إبراهيم الحنيفية، وهو أكرم الخلق على الله‏.‏

وقال يونس، عن ابن إسحاق‏:‏ حدثني بعض آل زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏ إن زيداً كان إذا دخل الكعبة قال‏:‏ لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم وهو قائم إذ قال‏:‏ إلهي أنفي لك عان راغم، مهما تجشمني فإني جاشم، البر أبغي لا أنحال، ليس مهجر كمن قال‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا المسعودي، عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي، عن أبيه، عن جده‏:‏ أن زيد بن عمرو، وورقة بن نوفل خرجا يلتمسان الدين حتى انتهيا إلى راهب بالموصل فقال لزيد بن عمرو‏:‏ من أين أقبلت يا صاحب البعير‏؟‏ فقال‏:‏ من بنية إبراهيم‏.‏ فقال‏:‏ وما تلتمس‏؟‏ قال‏:‏ ألتمس الدين‏.‏

قال‏:‏ ارجع، فإنه يوشك أن يظهر في أرضك‏.‏

قال‏:‏ فأما ورقة فتنصر، وأما أنا فعزمت على النصرانية فلم يوافقني، فرجع وهو يقول‏:‏

لبيك حقا حقا * تعبدا ورقا

البر أبغي لا أنحال * فهل مهجر كمن قال

آمنت بما آمن به إبراهيم وهو يقول‏:‏ أنفي لك عان راغم، مهما تجشمني فإني جاشم، ثم يخر فيسجد‏.‏

قال‏:‏ وجاء ابنه يعني سعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنه فقال‏:‏ يا رسول الله إن أبي كما رأيت وكما بلغك فاستغفر له‏.‏

قال‏:‏ نعم، فإنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة‏.‏

قال‏:‏ وأتى زيد بن عمرو بن زيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة، وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعواه لطعامهما فقال زيد بن عمرو‏:‏ يا ابن أخي أنا لا آكل مما ذبح على النصب‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ حدثنا محمد بن عمرو، حدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن موسى بن ميسرة، عن ابن أبي مليكة، عن حجر بن أبي أهاب قال‏:‏ رأيت زيد بن عمرو وأنا عند صنم بوانة، بعد ما رجع من الشام، وهو يراقب الشمس، فإذا زالت استقبل الكعبة فصلى ركعة سجدتين‏.‏

ثم يقول‏:‏ هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل، لا أعبد حجراً، ولا أصلي له، ولا آكل ما ذبح له، ولا أستقسم الأزلام، وإنما أصلي لهذا البيت حتى أموت، وكان يحج فيقف بعرفة، وكان يلبي فيقول‏:‏ لبيك لا شريك لك ولا ند لك‏.‏ ثم يدفع من عرفة ماشياً وهو يقول‏:‏ لبيك متعبدا مرقوقاً

وقال الواقدي‏:‏ حدثني علي بن عيسى الحكمي، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة قال‏:‏ سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول‏:‏ أنا أنتظر نبياً من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك‏.‏

قلت‏:‏ هلم‏!‏ قال‏:‏ هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب، فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكان من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون‏:‏ هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون‏:‏ لم يبق نبي غيره‏.‏

قال عامر بن ربيعة‏:‏ فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول زيد بن عمرو، وأقرائه منه السلام، فرد عليه السلام وترحم عليه، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البخاري في صحيحه ذكر زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏ حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، حدثني سالم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة فأبى أن يأكل منها‏.‏

ثم قال زيد‏:‏ إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول‏:‏ الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الأرض، ثم يذبحونها على غير اسم الله إنكاراً لذلك وإعظاما له‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ وحدثني سالم بن عبد الله ولا أعلمه إلا يحدث به، عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالماً من اليهود فسأله عن دينهم فقال‏:‏ إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني‏.‏ فقال‏:‏ إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله‏.‏

قال زيد‏:‏ وما أفر إلا من غضب الله تعالى، ولا أحمل من غضب الله شيئاً ولا أستطيعه، فهل تدلني على غيره‏؟‏

قال‏:‏ ما أعلمه إلا أن تكون حنيفاً‏.‏ قال زيد‏:‏ وما الحنيف‏؟‏

قال‏:‏ دين إبراهيم عليه السلام، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله‏.‏

فخرج زيد فلقي عالماً من النصارى فذكر مثله‏.‏ فقال‏:‏ لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من على غيره‏.‏ قال‏:‏ ما أعلمه إلا أن تكون حنيفاً‏.‏ قال‏:‏ وما الحنيف‏؟‏ قال‏:‏ دين إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج فلما برز رفع يديه فقال‏:‏ اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم‏.‏

قال‏:‏ وقال الليث كتب إلى هشام بن عروة عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول‏:‏ يا معشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري‏.‏

وكان يحيي الموؤدة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته‏:‏ لا تقتلها أنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها‏:‏ إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها‏.‏ انتهى ما ذكره البخاري‏.‏

وهذا الحديث الأخير قد أسنده الحافظ ابن عساكر من طريق أبي بكر بن أبي داود، عن عيسى بن حماد، عن الليث، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء فذكر نحوه‏.‏

وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء قالت‏:‏ سمعت زيد بن عمرو بن نفيل وهو مسند ظهره إلى الكعبة يقول‏:‏ يا معشر قريش إياكم والزنا، فإنه يورث الفقر‏.‏

وقد ساق ابن عساكر هاهنا أحاديث غريبة جداً، وفي بعضها نكارة شديدة‏.‏

ثم أورد من طرق متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يبعث يوم القيامة أمة واحدة‏)‏‏)‏‏.‏

فمن ذلك ما رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال‏:‏ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يستقبل القبلة في الجاهلية، ويقول‏:‏ إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، ويسجد‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏يحشر ذاك أمة وحده، بيني وبين عيسى بن مريم‏)‏‏)‏‏.‏

إسناده جيد حسن‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني موسى بن شيبة، عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك قال‏:‏ سمعت سعيد بن المسيب يذكر زيد بن عمرو بن نفيل فقال‏:‏ توفي وقريش تبني الكعبة، قبل أن ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين‏.‏

ولقد نزل به وإنه ليقول‏:‏ أنا على دين إبراهيم، فأسلم ابنه سعيد بن زيد واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال‏:‏

‏(‏‏(‏غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فكان المسلمون بعد ذلك اليوم لا يذكره ذاكر منهم إلا ترحم عليه واستغفر له‏.‏ ثم يقول سعيد بن المسيب رحمه الله وغفر له‏.‏

وقال محمد بن سعد عن الواقدي‏:‏ حدثني زكريا بن يحيى السعدي عن أبيه قال‏:‏ مات زيد بن عمرو بن نفيل بمكة، ودفن بأصل حراء‏.‏ وقد تقدم أنه مات بأرض البلقاء من الشام لما عدا عليه قوم من بني لخم، فقتلوه بمكان يقال له ميفعة، والله أعلم‏.‏

وقال الباغندي عن أبي سعيد الأشج، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا إسناد جيد، وليس هو في شيء من الكتب‏.‏

ومن شعر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله، ما قدمناه في بدء الخلق من تلك القصيدة‏:‏

إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا * وقولا رضيا لا يني الدهر باقيا

إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه * إله ولا رب يكون مدانيا

وقد قيل‏:‏ إنها لأمية بن أبي الصلت، والله أعلم‏.‏

ومن شعره في التوحيد ما حكاه محمد بن إسحاق، والزبير بن بكار وغيرهما‏:‏

وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الأرض تحمل صخرا ثقالا

دحاها فلما استوت شدها * سواء وأرسى عليها الجبالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا زلالا

إذا هي سيقت إلى بلدة * أطاعت فصبت عليها سجالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الريح تصرف حالا فحالا

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني هشام بن عروة قال‏:‏ روى أبي أن زيد بن عمرو قال‏:‏ ‏

أرب واحد أم ألف رب * أدين إذا تقسمت الأمور

عزلت اللات والعزى جميعاً * كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا العزى أدين ولا ابنتيها * ولا صنمي بني عمرو أزور

ولا غنما أدين وكان ربا * لنا في الدهر إذ حلمي يسير

عجبت وفي الليالي معجبات * وفي الأيام يعرفها البصير

بأن الله قد أفنى رجالاً * كثيرا كان شأنهم الفجور

وأبقى آخرين ببر قوم * فيربل منهم الطفل الصغير

وبينا المرء يعثر ثاب يوماً * كما يتروح الغصن النضير

ولكن أعبد الرحمن ربي * ليغفر ذنبي الرب الغفور

فتقوى الله ربكم احفظوها * متى ما تحفظوها لا تبوروا

ترى الأبرار دارهم جنان * وللكفار حامية سعير

وخزي في الحياة وإن يموتوا * يلاقوا ما تضيق به الصدور

هذا تمام ما ذكره محمد بن إسحاق من هذه القصيدة‏.‏

وقد رواه أبو القاسم البغوي عن مصعب بن عبد الله، عن الضحاك بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال‏:‏ قال هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ قال زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏

عزلت الجن والجنان عني * كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا العزى أدين ولا ابنتيها * ولا صنمي بني طسم أدير

ولا غنما أدين وكان رباً * لنا في الدهر إذ حلمي صغير

أرباً واحداً أم ألف رب * أدين إذا تقسمت الأمور

ألم تعلم بأن الله أفنى * رجالا كان شأنهم الفجور

وأبقى آخرين ببر قوم * فيربو منهم الطفل الصغير

وبينا المرء يعثر ثاب يوما * كما يتروح الغصن النضير

قالت‏:‏ فقال ورقة بن نوفل‏:‏

رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنوراً من النار حاميا

لدينك ربا ليس ربا كمثله * وتركك جنان الجبال كما هيا

أقول إذا أهبطت أرضا مخوفة * حنانيك لا تظهر علي الأعاديا

حنانيك أن الجن كانت رجاءهم * وأنت إلهي ربنا ورجائيا

لتدركن المرء رحمة ربه * وإن كان تحت الأرض سبعين واديا

أدين لرب يستجيب ولا أرى * أدين لمن لا يسمع الدهر واعيا

أقول إذا صليت في كل بيعة * تباركت قد أكثرت باسمك داعيا

تقدم أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام، هو وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش فتنصروا، إلا زيداً، فإنه لم يدخل في شيء من الأديان، بل بقي على فطرته من عبادة الله وحده لا شريك له، متبعاً ما أمكنه من دين إبراهيم على ما ذكرناه‏.‏

وأما ورقة بن نوفل فسيأتي خبره في أول المبعث‏.‏

وأما عثمان بن الحويرث فأقام بالشام حتى مات فيها عند قيصر، وله خبر عجيب ذكره الأموي، ومختصره‏:‏

أنه لما قدم على قيصر فشكى إليه ما لقي من قومه، كتب له إلى ابن جفنة ملك عرب الشام ليجهز معه جيشاً لحرب قريش، فعزم على ذلك فكتبت إليه الأعراب تنهاه عن ذلك، لما رأوا من عظمة مكة وكيف فعل الله بأصحاب الفيل‏.‏ فكساه ابن جفنة قميصاً مصبوغاً مسموماً فمات من سمه، فرثاه زيد بن عمرو بن نفيل بشعر ذكره الأموي تركناه اختصاراً‏.‏ وكانت وفاته قبل المبعث بثلاث سنين أو نحوها‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 

 

شيء من الحوادث في زمن الفترة

 فمن ذلك بنيان الكعبة

وقد قيل‏:‏ إن أول من بناه آدم‏.‏ وجاء في ذلك حديث مرفوع عن عبد الله بن عمرو، وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف‏.‏ وأقوى الأقوال أن أول من بناه الخليل عليه السلام، كما تقدم‏.‏

وكذلك رواه سماك بن حزب، عن خالد بن عرعرة، عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ ثم تهدم فبنته العمالقة، ثم تهدم فبنته جرهم، ثم تهدم فبنته قريش‏.‏ قلت‏:‏ سيأتي بناء قريش له، وذلك قبل المبعث بخمس سنين، وقيل بخمس عشرة سنة‏.‏

وقال الزهري‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ الحلم‏.‏ وسيأتي ذلك كله في موضعه إن شاء الله وبه الثقة‏.‏

 كعب بن لؤي

روى أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة، عن محمد بن طلحة التيمي، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة قال‏:‏ كان كعب بن لؤي يجمع قومه يوم الجمعة، وكانت قريش تسميه العروبة، فيخطبهم فيقول‏:‏

أما بعد فاسمعوا، وتعلموا، وافهموا، واعلموا، ليل ساج، ونهار ضاح، والأرض مهاد، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والأولون كالآخرين، والأنثى والذكر والروح، وما يهيج إلى بلى، فصلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وثمروا أموالكم، فهل رأيتم من هالك رجع، أو ميت نشر، الدار أمامكم، والظن غير ما تقولون، حرمكم زينوه وعظموه وتمسكوا به، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم‏.‏

ثم يقول‏:‏

نهار وليل كل يوم بحادث * سواء علينا ليلها ونهارها

يؤوبان بالأحداث حتى تأوبا * وبالنعم الضافي علينا ستورها

على غفلة يأتي النبي محمد * فيخبر أخباراً صدوق خبيرها

ثم يقول‏:‏ والله لو كنت فيها ذا سمع وبصر ويد ورجل، لتنصبت فيها تنصب الجمل، ولأرقلت بها إرقال العجل، ثم يقول‏:‏ ‏

يا ليتني شاهدا نجواء دعوته * حين العشيرة تبغي الحق خذلانا

قال‏:‏ وكان بين موت كعب بن لؤي ومبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة عام وستون سنة‏.‏

 تجديد حفر زمزم

على يدي عبد المطلب بن هاشم، التي كان قد درس رسمها بعد طم جرهم لها إلى زمانه‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر، وكان أول ما ابتدأ به عبد المطلب من حفرها، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري، عن مرثد بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن رزين الغافقي أنه سمع علي بن أبي طالب يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها‏.‏

قال‏:‏ قال عبد المطلب‏:‏ إني لنائم في الحجر، إذ أتاني آت فقال لي‏:‏ احفر طيبة‏.‏ قال‏:‏ قلت وما طيبة‏؟‏ قال ثم ذهب عني‏.‏ قال فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فجاءني فقال‏:‏ احفر برة‏.‏ قال‏:‏ قلت وما برة‏؟‏ قال ثم ذهب عني‏.‏

فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت، فجاءني فقال‏:‏ احفر المضنونة‏.‏ قال‏:‏ قلت وما المضنونة‏؟‏ قال ثم ذهب عني‏.‏ فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني قال‏:‏ احفر زمزم‏.‏ قال‏:‏ قلت وما زمزم‏؟‏

قال‏:‏ لا تنزف أبداً ولا تزم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل‏.‏ قال‏:‏ فلما بين لي شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس له يومئذ ولد غيره، فحفر، فلما بدا لعبد المطلب الطمي كبَّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته‏.‏

فقاموا إليه فقالوا‏:‏ يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقا، فأشركنا معك فيها‏.‏ قال‏:‏ ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم‏.‏ قالوا له‏:‏ فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها‏.‏ قال‏:‏ فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه‏.‏ قالوا‏:‏ كاهنة بني سعد بن هذيم‏.‏ قال‏:‏ نعم وكانت بأشراف الشام‏.‏

فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أمية، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز، حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب وأصحابه فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم فأبوا عليهم وقالوا‏:‏ إنا بمفازة وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم‏.‏

فقال عبد المطلب‏:‏ إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروه حتى يكون آخرهم رجلاً واحداً، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه‏.‏

فقالوا‏:‏ نعما أمرت به‏.‏ فحفر كل رجل لنفسه حفرة، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشى، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه‏:‏ ألقينا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض، لا نبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى أن يرزقنا ماء ببعض البلاد‏.‏

فارتحلوا حتى إذا بعث عبد المطلب راحلته، انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستسقوا حتى ملئوا أسقيتهم‏.‏ ثم دعا قبائل قريش وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال، فقال‏:‏ هلموا إلى الماء فقد سقانا الله، فجاؤوا فشربوا واستقوا كلهم‏.‏

ثم قالوا‏:‏ قد والله قضى لك علينا والله ما نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فهذا ما بلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم‏:‏

ثم ادع بالماء الروي غير الكدر * يسقي حجيج الله في كل مبر

ليس يخاف منه شيء ما عمر

قال‏:‏ فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش، فقال‏:‏ تعلموا أني قد أمرت أن أحفر زمزم، قالوا‏:‏ فهل بين لك أين هي‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا‏:‏ فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن يك حقا من الله يبين لك، وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك‏.‏

فرجع ونام فأتى فقيل له‏:‏ احفر زمزم إنك إن حفرتها لن تندم، وهي تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبداً ولا تزم، تسقي الحجيج الأعظم مثل نعام جافل لم يقسم، وينذر فيها نادر بمنعم تكون ميراثاً وعقداً محكم، ليست لبعض ما قد تعلم، وهي بين الفرث والدم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فزعموا أن عبد المطلب حين قيل له ذلك قال‏:‏ وأين هي‏؟‏ قيل له‏:‏ عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا، فالله أعلم أي ذلك كان‏.‏

قال‏:‏ فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث، وليس له يومئذ ولد غيره‏.‏ زاد الأموي‏:‏ ومولاه أصرم، فوجد قرية النمل، ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين أساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما، فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش وقالت‏:‏ والله لا نتركنك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما‏.‏

فقال عبد المطلب لابنه الحارث‏:‏ زد عنى حتى احفر فوالله لأمضين لما أمرت به‏.‏ فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر، وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيراً حتى بدا له الطمي، فكبر وعرف أنه قد صدق، فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالتين من ذهب اللتين كانت جرهم قد دفنتهم، ووجد فيها أسيافاً قلعية وأدرعاً‏.‏

فقالت له قريش‏:‏ يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق‏.‏ قال‏:‏ لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم، نضرب عليها بالقداح‏.‏ قالوا‏:‏ وكيف نصنع‏؟‏ قال‏:‏ أجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له ومن تخلف قدحاه فلا شيء له‏.‏

قالوا‏:‏ أنصفت‏.‏ فجعل للكعبة قدحين أصفرين، وله أسودين، ولهم أبيضين، ثم أعطوا القداح للذي يضرب عند هبل، وهبل أكبر أصنامهم، ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد‏:‏ أعل هبل، يعني هذا الصنم‏.‏ وقام عبد المطلب يدعو الله‏.‏

وذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن عبد المطلب جعل يقول‏:‏

اللهم أنت الملك المحمود * ربي أنت المبدئ المعيد

وممسك الراسية الجلمود * من عندك الطارف والتليد

إن شئت ألهمت كما تريد * لموضع الحلية والحديد

فبين اليوم لما تريد * إني نذرت العاهد المعهودا

أجعله رب لي فلا أعود

قال‏:‏ وضرب صاحب القداح، فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش، فضرب عبد المطلب الأسياف باباً للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب، فكان أول ذهب حلية للكعبة فيما يزعمون‏.‏

ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحاج‏.‏ وذكر ابن إسحاق وغيره أن مكة كان فيها أبيار كثيرة قبل ظهور زمزم في زمن عبد المطلب‏.‏ ثم عددها ابن إسحاق وسماها، وذكر أماكنها من مكة وحافريها إلى أن قال‏:‏ فعفت زمزم على البئار كلها‏.‏

وانصرف الناس كلهم إليها، لمكانها من المسجد الحرام ولفضلها على ما سواها من المياه، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم، وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب‏.‏

وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث إسلام أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زمزم‏:‏

‏(‏‏(‏إنها لطعام طعم وشفاء سقم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن الوليد، عن عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏ماء زمزم لما شرب منه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه ابن ماجه من حديث عبد الله بن المؤمل، وقد تكلموا فيه ولفظه‏:‏ ‏(‏‏(‏ماء زمزم لما شرب له‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه سويد بن سعيد عن عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ماء زمزم لما شرب له‏)‏‏)‏‏.‏

ولكن سويد بن سعيد ضعيف، والمحفوظ عن ابن المبارك، عن عبد الله بن المؤمل، كما تقدم‏.‏

وقد رواه الحاكم عن ابن عباس مرفوعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏ماء زمزم لما شرب له‏)‏‏)‏‏.‏

وفيه نظر، والله أعلم‏.‏

وهكذا روى ابن ماجه أيضاً، والحاكم عن ابن عباس أنه قال لرجل‏:‏ إذا شربت من زمزم فاستقبل الكعبة، واذكر اسم الله، وتنفس ثلاثاً، وتضلع منها، فإذا فرغت فاحمد الله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من ماء زمزم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ذُكر عن عبد المطلب أنه قال‏:‏ اللهم إني لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل‏.‏ وقد ذكره بعض الفقهاء عن العباس بن عبد المطلب، والصحيح أنه عن عبد المطلب نفسه، فإنه هو الذي جدد حفر زمزم كما قدمنا، والله أعلم‏.‏

وقد قال الأموي في مغازيه‏:‏ حدثنا أبو عبيد، أخبرني يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن حرملة سمعت سعيد بن المسيب يحدث أن عبد المطلب بن هاشم حين احتفر زمزم قال‏:‏ لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل‏.‏ وذلك أنه جعل لها حوضين‏:‏ حوضاً للشرب، وحوضاً للوضوء، فعند ذلك قال‏:‏ لا أحلها لمغتسل لينزه المسجد عن أن يغتسل فيه‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ قال الأصمعي قوله‏:‏ وبل اتباع، قال أبو عبيد‏:‏ والإتباع لا يكون بواو العطف، وإنما هو كما قال معتمر بن سليمان‏:‏ أن بل بلغة حمير مباح‏.‏

ثم قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا أبو بكر ابن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، أنه سمع ردا، أنه سمع العباس يقول‏:‏ لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل‏.‏

وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن علقمة، أنه سمع ابن عباس يقول ذلك، وهذا صحيح إليهما، وكأنهما يقولان ذلك في أيامهما على سبيل التبليغ والإعلام بما اشترطه عبد المطلب عند حفره لها، فلا ينافي ما تقدم، والله أعلم‏.‏ ‏

وقد كانت السقاية إلى عبد المطلب أيام حياته، ثم صارت إلى ابنه أبي طالب مدة، ثم اتفق أنه أملق في بعض السنين فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف إلى الموسم الآخر، وصرفها أبو طالب في الحجيج في عامه فيما يتعلق بالسقاية، فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شيء، فقال لأخيه العباس‏:‏ أسلفني أربعة عشر ألفاً أيضاً إلى العام المقبل، أعطيك جميع مالك‏.‏

فقال له العباس‏:‏ بشرط إن لم تعطني تترك السقاية لي أكفكها، فقال‏:‏ نعم‏.‏ فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطي العباس، فترك له السقاية فصارت إليه، ثم من بعده صارت إلى عبد الله ولده، ثم إلى علي بن عبد الله بن عباس، ثم إلى داود بن علي، ثم إلى سليمان بن علي، ثم إلى عيسى بن علي، ثم أخذها المنصور، واستناب عليها مولاه أبا رزين، ذكره الأموي‏.‏

 نذر عبد المطلب ذبح ولده

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان عبد المطلب فيما يزعمون نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم، لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ليذبحن أحدهم لله عند الكعبة، فلما تكامل بنوه عشرة، وعرف أنهم سيمنعونه‏:‏ وهم الحارث، والزبير، وحجل، وضرار، والمقوم، وأبو لهب، والعباس، وحمزة، وأبو طالب، وعبد الله، جمعهم ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله عز وجل بذلك، فأطاعوه وقالوا‏:‏ كيف نصنع‏؟‏

قال‏:‏ ليأخذ كل رجل منكم قدحاً، ثم يكتب فيه اسمه، ثم ائتوني ففعلوا، ثم أتوه فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة، وكان عند هبل قداح سبعة، وهي الأزلام التي يتحاكمون إليها إذا أعضل عليهم أمر من عقل، أو نسب، أو أمر من الأمور جاؤوه فاستقسموا بها، فما أمرتهم به أو نهتهم عنه امتثلوه‏.‏

والمقصود أن عبد المطلب لما جاء يستقسم بالقداح عند هبل، خرج القدح على ابنه عبد الله وكان أصغر ولده وأحبهم إليه، فأخذ عبد المطلب بيد ابنه عبد الله وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها فقالوا‏:‏ ما تريد يا عبد المطلب‏؟‏

قال‏:‏ أذبحه‏.‏ فقالت له قريش، وبنوه أخوة عبد الله‏:‏ والله لا تذبحه أبداً حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يجيء بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا‏.‏

وذكر يونس بن بكير، عن ابن إسحاق‏:‏ أن العباس هو الذي اجتذب عبد الله من تحت رجل أبيه حين وضعها عليه ليذبحه، فيقال‏:‏ إنه شج وجهه شجاً لم يزل في وجهه إلى أن مات‏.‏

ثم أشارت قريش على عبد المطلب أن يذهب إلى الحجاز فإن بها عرافة لها تابع، فيسألها عن ذلك، ثم أنت على رأس أمرك إن أمرتك بذبحه فاذبحه، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه مخرج قبلته، فانطلقوا حتى أتوا المدينة فوجدوا العرافة - وهي سجاح - فيما ذكره يونس بن بكير عن ابن إسحاق بخيبر، فركبوا حتى جاؤها فسألوها وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه‏.‏

فقالت لهم‏:‏ ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا من عندها، فلما خرجوا قام عبد المطلب يدعو الله، ثم غدوا عليها‏.‏

فقالت لهم‏:‏ قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم‏؟‏ قالوا‏:‏ عشر من الإبل، وكانت كذلك‏.‏

قالت‏:‏ فارجعوا إلى بلادكم، ثم قربوا صاحبكم، وقربوا عشراً من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربكم، ونجا صاحبكم، فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا على ذلك الأمر قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشراً من الإبل‏.‏

ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشراً، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشراً، فلم يزالوا يزيدون عشراً عشراً، ويخرج القدح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل، فقالت عند ذلك قريش لعبد المطلب وهو قائم عند هبل يدعو الله‏:‏ قد انتهى رضي ربك يا عبد المطلب‏.‏

فعندها زعموا أنه قال‏:‏ لا، حتى أضرب عليها بالقداح ثلاث مرات، فضربوا ثلاثاً، ويقع القدح فيها على الإبل فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ويقال‏:‏ ولا سبع‏.‏

وقد روي أنه لما بلغت الإبل مائة، خرج على عبد الله أيضاً فزادوا مائة أخرى حتى بلغت مائتين، فخرج القدح على عبد الله فزادوا مائة أخرى، فصارت الإبل ثلاثمائة، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل فنحرها عند ذلك عبد المطلب، والصحيح الأول والله أعلم‏.‏

وقد روى ابن جرير، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب‏:‏ أن ابن عباس سألته امرأة أنها نذرت ذبح ولدها عند الكعبة فأمرها بذبح مائة من الإبل، وذكر لها هذه القصة عن عبد المطلب، وسألت عبد الله بن عمر فلم يفتها بشيء بل توقف‏.‏

فبلغ ذلك مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة فقال‏:‏ إنهما لم يصيبا الفتيا، ثم أمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير، ونهاها عن ذبح ولدها، ولم يأمرها بذبح الإبل، وأخذ الناس بقول مروان بذلك، والله أعلم‏.‏

 تزويج عبد المطلب ابنه عبد الله من آمنة بنت وهب الزهرية

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم انصرف عبد المطلب آخذاً بيد ابنه عبد الله، فمر به فيما يزعمون على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي وهي أم قنال أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهي عند الكعبة، فنظرت إلى وجهه فقالت‏:‏ أين تذهب يا عبد الله‏؟‏ قال‏:‏ مع أبي‏.‏ قالت‏:‏ لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع علي الآن‏.‏

قال‏:‏ أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه، فخرج به عبد المطلب حتى أتى وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، وهو يومئذ سيد بني زهرة سناً وشرفاً، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ سيدة نساء قومها، فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه، فوقع عليها فحملت منه برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها‏:‏ ما لك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت بالأمس‏.‏

قالت له‏:‏ فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك حاجة، وكانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل - وكان قد تنصر واتبع الكتب - أنه كائن في هذه الأمة نبي فطمعت أن يكون منها، فجعله الله تعالى في أشرف عنصر، وأكرم محتد، وأطيب أصل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏

وسنذكر المولد مفصلاً، ومما قالت أم قتال بنت نوفل من الشعر تتأسف على ما فاتها من الأمر الذي رامته، وذلك فيما رواه البيهقي من طريق يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق رحمه الله‏:‏

عليك بآل زهرة حيث كانوا * وآمنة التي حملت غلاما

ترى المهدي حين نزا عليها * ونورا قد تقدمه أماما

إلى أن قالت‏:‏

فكل الخلق يرجوه جميعا * يسود الناس مهتدياً إماما

يراه الله من نور صفاه * فأذهب نوره عنا الظلاما

وذلك صنع ربك إذ حباه * إذا ما سار يوماً أو أقاما

فيهدي أهل مكة بعد كفر * ويفرض بعد ذلكم الصياما

وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي‏:‏ حدثنا علي بن حرب، حدثنا محمد بن عمارة القرشي، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، حدثنا ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال‏:‏ لما انطلق عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه مر به على كاهنة من أهل تبالة متهودة قد قرأت الكتب، يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت‏:‏ يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل‏؟‏

فقال عبد الله‏:‏

أما الحرام فالممات دونه * والحل لا حل فأستبينه

فكيف بالأمر الذي تبغينه * يحمي الكريم عرضه ودينه

ثم مضى مع أبيه فزوجه آمنة نبت وهب بن عبد مناف بن زهرة فأقام عندها ثلاثاً، ثم إن نفسه دعته إلى ما دعته إليه الكاهنة فأتاها فقالت‏:‏ ما صنعت بعدي فأخبرها، فقالت‏:‏ والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكني رأيت في وجهك نوراً فأردت أن يكون في، وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد، ثم أنشأت فاطمة تقول‏:‏

إني رأيت مخيلة لمعت * فتلألأت بحناتم القطر

فلمأتها نوراً يضيء له * ما حوله كإضاءة البدر

ورجوتها فخراً أبوء به * ما كل قادح زنده يوري

لله ما زهرية سلبت * ثوبيك ما استلبت وما تدري

وقالت فاطمة أيضاً‏:‏

بني هاشم قد غادرت من أخيكم * أمينة إذ للباه يعتركان

كما غادر المصباح عند خموده * فتائل قد ميثت له بدهان

وما كل ما يحوي الفتى من تلاده * بحزم ولا ما فاته لتواني

فأجمل إذا طالبت أمراً فإنه *سيكفيكه جدان يعتلجان

سيكفيكه إما يد مقفللة * وإما يد مبسوطة ببنان

ولما حوت منه أمينة ما حوت * حوت منه فخراً ما لذلك ثان

وروى الإمام أبو نعيم الحافظ في كتاب ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن جعفر، عن ابن عون، عن المسور بن مخرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ إن عبد المطلب قدم اليمن في رحلة الشتاء فنزل على حبر من اليهود، قال‏:‏ فقال لي رجل من أهل الديور - يعني أهل الكتاب - يا عبد المطلب‏:‏ أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك‏.‏

قال‏:‏ نعم إذا لم يكن عورة‏.‏

قال‏:‏ ففتح إحدى منخري فنظر فيه، ثم نظر في الآخر فقال‏:‏ أشهد أن في إحدى يديك ملكاً، وفي الأخرى نبوة، وإنا نجد ذلك في بني زهرة فكيف ذلك‏؟‏

قلت‏:‏ لا أدري‏.‏

قال‏:‏ هل لك من شاغة‏؟‏

قلت‏:‏ وما الشاغة‏؟‏

قال‏:‏ زوجة‏.‏

قلت‏:‏ أما اليوم فلا‏.‏

قال‏:‏ فإذا رجعت فتزوج فيهم‏.‏

فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فولدت حمزة، وصفية‏.‏ ثم تزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب فولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش حين تزوج عبد الله بآمنة‏:‏ فلج أي‏:‏ فاز وغلب عبد الله على أبيه عبد المطلب‏.‏