الجزء الثاني - كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم

 بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏

 كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ ولما سأل هرقل ملك الروم لأبي سفيان تلك الأسئلة عن صفاته عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ كيف نسبه فيكم‏؟‏

قال‏:‏ هو فينا ذو نسب‏.‏

قال‏:‏ كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها - يعني في أكرمها أحساباً، وأكثرها قبيلة - صلوات الله عليهم أجمعين‏.‏

فهو سيد ولد آدم وفخرهم في الدنيا والآخرة أبو القاسم، وأبو إبراهيم، محمد، وأحمد، والماحي‏:‏ الذي يمحى به الكفر، والعاقب‏:‏ الذي ما بعده نبي، والحاشر‏:‏ الذي يحشر الناس على قدميه، والمقفى، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، وخاتم النبيين، والفاتح، وطه، ويس، وعبد الله‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وزاد بعض العلماء فقال‏:‏ سماه الله في القرآن رسولاً نبياً أميناً شاهداً مبشراً نذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، ورؤوفاً رحيماً، ومذكراً، وجعله رحمة ونعمة، وهادياً‏.‏

وسنورد الأحاديث المروية في أسمائه عليه الصلاة والسلام في باب نعقده بعد فراغ السيرة، فإنه قد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، اعتنى بجمعها الحافظان الكبيران أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم ابن عساكر‏.‏ ‏‏

وأفرد الناس في ذلك مؤلفات، حتى رام بعضهم أن يجمع له عليه الصلاة والسلام ألف اسم، وأما الفقيه الكبير أبو بكر ابن العربي المالكي، شارح الترمذي بكتابه الذي سماه ‏(‏الأحوذي‏)‏ فإنه ذكر من ذلك أربعة وستين اسماً، والله أعلم‏.‏

وهو ابن عبد الله، وكان أصغر ولد أبيه عبد المطلب، وهو الذبيح الثاني المفدى بمائة من الإبل كما تقدم‏.‏

قال الزهري‏:‏ وكان أجمل رجال قريش، وهو أخو الحارث، والزبير، وحمزة، وضرار، وأبي طالب، واسمه‏:‏ عبد مناف، وأبي لهب‏:‏ واسمه عبد العزى، والمقوم‏:‏ واسمه عبد الكعبة، وقيل‏:‏ هما اثنان، وحجل‏:‏ واسمه المغيرة، والغيداق‏:‏ وهو كبير الجود، واسمه‏:‏ نوفل، ويقال‏:‏ إنه حجل‏.‏ فهؤلاء أعمامه عليه الصلاة والسلام‏.‏

وعماته ست وهن‏:‏ أروى، وبرة، وأميمة، وصفية، وعاتكة وأم حكيم - وهي البيضاء - وسنتكلم على كل منهم فيما بعد إن شاء الله تعالى‏.‏

كلهم أولاد عبد المطلب واسمه‏:‏ شيبة‏.‏ يقال‏:‏ لشيبة كانت في رأسه، ويقال‏:‏ له شيبة الحمد لجوده، وإنما قيل له عبد المطلب لأن أباه هاشماً لما مر بالمدينة في تجارته إلى الشام، نزل على عمرو بن زيد بن لبيد بن حرام بن خداش بن خندف بن عدي بن النجار الخزرجي النجاري، وكان سيد قومه فأعجبته ابنته سلمى فخطبها إلى أبيها فزوجها منه، واشترط عليه مقامها عنده‏.‏

وقيل‏:‏ بل اشترط عليه أن لا تلد إلا عنده بالمدينة، فلما رجع من الشام بنى بها، وأخذها معه إلى مكة، فلما خرج في تجارة أخذها معه وهي حبلى، فتركها بالمدينة ودخل الشام، فمات بغزة ووضعت سلمى ولدها فسمته شيبة، فأقام عند أخواله بني عدي بن النجار سبع سنين، ثم جاء عمه المطلب بن عبد مناف فأخذه خفية من أمه فذهب به إلى مكة، فلما رآه الناس ورأوه على الراحلة قالوا من هذا معك‏؟‏

فقال‏:‏ عبدي‏.‏ ثم جاؤا فهنؤه به، وجعلوا يقولون له‏:‏ عبد المطلب لذلك، فغلب عليه وساد في قريش سيادة عظيمة، وذهب بشرفهم ورآستهم، فكان جماع أمرهم عليه، وكانت إليه السقاية والرفادة بعد المطلب، وهو الذي جدد حفر زمزم بعد ما كانت مطمومة من عهد جرهم، وهو أول من طلى الكعبة بذهب في أبوابها من تينك الغزالتين اللتين من ذهب، وجدهما في زمزم مع تلك الأسياف القلعية‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وعبد المطلب أخو أسد، وفضلة، وأبي صيفي، وحية، وخالدة، ورقية، والشفاء، وضعيفة، كلهم أولاد هاشم واسمه‏:‏ عمرو، وإنما سمي هاشماً‏:‏ لهشمه الثريد مع اللحم لقومه في سني المحل، كما قال‏:‏ مطرود بن كعب الخزاعي في قصيدته، وقيل‏:‏ للزبعري والد عبد الله‏:‏

عمرو الذي هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف

سنت إليه الرحلتان كلاهما * سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وذلك لأنه أول من سن رحلتي الشتاء والصيف، وكان أكبر ولد أبيه‏.‏

وحكى ابن جرير‏:‏ أنه كان تؤام أخيه عبد شمس، وأن هاشماً خرج ورجله ملتصقة برأس عبد شمس، فما تخلصت حتى سال بينهما دم، فقال الناس‏:‏ بذلك يكون بين أولادهما حروب، فكانت وقعة بني العباس مع بني أمية بن عبد شمس سنة ثلاث وثلاثين ومائة من الهجرة‏.‏

وشقيقهم الثالث‏:‏ المطلب، وكان المطلب أصغر ولد أبيه، وأمهم عاتكة بنت مرة بن هلال‏.‏

ورابعهم‏:‏ نوفل من أم أخرى وهي‏:‏ واقدة بنت عمرو المازنية، وكانوا قد سادوا قومهم بعد أبيهم، وصارت إليهم الرياسة، وكان يقال لهم المجيرون، وذلك لأنهم أخذوا لقومهم قريش الأمان من ملوك الأقاليم ليدخلوا في التجارات إلى بلادهم، فكان هاشم قد أخذ أماناً من ملوك الشام والروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس من النجاشي الأكبر ملك الحبشة، وأخذ لهم نوفل من الأكاسرة، وأخذ لهم المطلب أماناً من ملوك حمير، ولهم يقول الشاعر‏:‏

يا أيها الرجل المحول رحله * ألا نزلت بآل عبد مناف

وكان إلى هاشم السقاية والرفادة بعد أبيه، وإليه وإلى أخيه المطلب نسب ذوي القربى، وقد كانوا شيئاً واحداً في حالتي الجاهلية والإسلام لم يفترقوا، ودخلوا معهم في الشعب وانخذل عنهم بنو عبد شمس ونوفل، ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته‏:‏

جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * عقوبة شر عاجلا غير آجل

ولا يعرف بنو أب تباينوا في الوفاة مثلهم، فإن هاشماً مات بغزة من أرض الشام‏.‏ ‏

وعبد شمس مات بمكة، ونوفل مات بسلامان من أرض العراق، ومات المطلب وكان يقال له القمر لحسنه بريمان من طريق اليمن، فهؤلاء الأخوة الأربعة المشاهير وهم‏:‏ هاشم، وعبد شمس، ونوفل، والمطلب، ولهم أخ خامس ليس بمشهور - وهو أبو عمرو واسمه‏:‏ عبد، وأصل اسمه‏:‏ عبد قصي‏.‏

فقال الناس‏:‏ عبد بن قصي درج ولا عقب له، قاله الزبير بن بكار وغيره‏.‏

وأخوات ست وهن‏:‏ تماضر، وحية، وريطة، وقلابة، وأم الأخثم، وأم سفيان، كل هؤلاء أولاد عبد مناف، ومناف اسم صنم، وأصل اسم عبد مناف المغيرة، وكان قد رأس في زمن والده، وذهب به الشرف كل مذهب، وهو أخو عبد الدار الذي كان أكبر ولد أبيه، وإليه أوصى بالمناصب كما تقدم‏.‏

وعبد العزى، وعبد، وبرة، وتخمر، وأمهم كلهم‏:‏ حبى بنت حليل بن حبشي بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي، وأبوها آخر ملوك خزاعة، وولاة البيت منهم، وكلهم أولاد قصي واسمه‏:‏ زيد‏.‏ وإنما سمي بذلك لأن أمه تزوجت بعد أبيه بربيعة بن حزام بن عذرة فسافر بها إلى بلاده وابنها صغير فسمى قصيا لذلك‏.‏

ثم عاد إلى مكة وهو كبير، ولم شعث قريش وجمعها من متفرقات البلاد، وأزاح يد خزاعة عن البيت وأجلاهم عن مكة، ورجع الحق إلى نصابه، وصار رئيس قريش على الإطلاق، وكانت إليه الوفادة والسقاية، وهو سنها، والسدانة، والحجابة، واللواء، وداره دار الندوة كما تقدم بسط ذلك كله، ولهذا قال الشاعر‏:‏

قصي لعمري كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر

وهو أخو زهرة كلاهما ابنا كلاب أخي تيم، ويقظة أبي مخزوم ثلاثتهم أبناء مرة أخي عدي وهصيص، وهم أبناء كعب وهو الذي كان يخطب قومه كل جمعة، ويبشرهم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد في ذلك أشعاراً كما قدمنا، وهو أخو عامر، وسامة، وخزيمة، وسعد، والحارث، وعوف، سبعتهم أبناء لؤي أخي تيم الأدرم، وهما ابنا غالب أخي الحارث، ومحارب ثلاثتهم أبناء فهر، وهو أخو الحارث، وكلاهما ابن مالك، وهو أخو الصلت ويخلد، وهم بنو النضر الذي إليه جماع قريش على الصحيح كما قدمنا الدليل عليه‏.‏

وهو أخو مالك، وملكان، وعبد مناة وغيرهم، كلهم أولاد كنانة أخي أسد، وأسدة، والهون، أولاد خزيمة - وهو أخو هذيل - وهما‏:‏ ابنا مدركة، واسمه‏:‏ عمرو أخو طابخة، واسمه‏:‏ عامر وقمعة، ثلاثتهم أبناء إلياس‏.‏

وأخي إلياس هو غيلان والد قيس كلها، وهما ولدا مضر أخي ربيعة‏.‏‏

ويقال لهما‏:‏ الصريحان من ولد إسماعيل وأخواهما أنمار وإياد تيامناً، أربعتهم أبناء نزار أخي قضاعة في قول طائفة ممن ذهب إلى أن قضاعة حجازية عدنانية، وقد تقدم بيانه كلاهما أبناء معد بن عدنان‏.‏

وهذا النسب بهذه الصفة لا خلاف فيه بين العلماء، فجميع قبائل عرب الحجاز ينتهون إلى هذا النسب‏.‏ ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى‏} ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏ لم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نسب يتصل بهم، وصدق ابن عباس رضي الله عنه فيما قال وأزيد مما قال‏.‏

وذلك أن جميع قبائل العرب العدنانية تنتهي إليه بالآباء، وكثير منهم بالأمهات أيضاً، كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره في أمهاته وأمهات آبائه وأمهاتهم، ما يطول ذكره، وقد حرره ابن إسحاق رحمه الله، والحافظ ابن عساكر‏.‏

وقد ذكرنا في ترجمة عدنان نسبه، وما قيل فيه، وأنه من ولد إسماعيل لا محالة، وإن اختلف في كم بينهما أبا على أقوال قد بسطناها فيما تقدم، والله أعلم‏.‏

وقد ذكرنا بقية النسب من عدنان إلى آدم، وأوردنا قصيدة أبي العباس الناشئ المتضمنة ذلك، كل ذلك في أخبار عرب الحجاز، ولله الحمد‏.‏

وقد تلكم الإمام أبو جعفر ابن جرير رحمه الله في أول ‏(‏تاريخه‏)‏ على ذلك كلاماً مبسوطاً جيداً محرراً نافعاً، وقد ورد حديث في انتسابه عليه السلام إلى عدنان وهو على المنبر، ولكن الله أعلم بصحته‏.‏

كما قال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقرئ - ببغداد - حدثنا أبو عيسى بكار بن أحمد بن بكار، قال‏:‏ حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى بن سعد - إملاء سنة ست وتسعين ومائتين - قال‏:‏ حدثنا أبو جعفر محمد بن أبان القلانسي قال‏:‏ حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي قال‏:‏

حدثنا مالك بن أنس، عن الزهري، عن أنس بن مالك، وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال‏:‏

بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجالاً من كندة يزعمون أنهم منه وأنه منهم، فقال‏:‏

‏(‏‏(‏إنما كان يقول ذلك العباس وأبو سفيان ابن حرب إذا قدما المدينة فيأمنا بذلك، وإنا لن ننتفي من آبائنا، نحن بنو النضر بن كنانة‏)‏‏)‏‏.‏

قال وخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نذار، وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرها، فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي، فأنا خيركم نفساً وخيركم أباً‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا حديث غريب جداً من حديث مالك، تفرد به القدامى - وهو ضعيف - ولكن سنذكر له شواهد من وجوه أخر‏.‏

فمن ذلك قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏خرجت من نكاح لا من سفاح‏)‏‏)‏‏.‏

قال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أبي جعفر الباقر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏ قال‏:‏ لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية‏.

قال‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا مرسل جيد‏.‏

وهكذا رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصنعاني، عن يحيى بن أبي بكير، عن عبد الغفار بن القاسم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الله أخرجني من النكاح ولم يخرجني من السفاح‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه ابن عدي موصولاً فقال‏:‏ حدثنا أحمد بن حفص، حدثنا محمد بن أبي عمرو العدني المكي، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال‏:‏ أشهد على أبي، حدثني عن أبيه عن جده، عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء‏)‏‏)‏‏.‏

هذا غريب من هذا الوجه، ولا يكاد يصح‏.‏

وقال هشيم‏:‏ حدثنا المديني، عن أبي الحويرث، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏ما ولدني من نكاح أهل الجاهلية شيء، ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا أيضاً غريب أورده الحافظ ابن عساكر، ثم أسنده من حديث أبي هريرة، وفي إسناده ضعف والله أعلم‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر، حدثني محمد بن عبد الله بن مسلم، عن عمه الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏ولدت من نكاح غير سفاح‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أورد ابن عساكر من حديث أبي عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 129‏]‏ قال‏:‏ من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبياً‏.‏

ورواه عن عطاء‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أخبرنا هشام بن محمد الكلبي، عن أبيه قال‏:‏ كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحاً ولا شيئاً مما كان من أمر الجاهلية‏.‏

وثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه‏)‏‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث الأوزاعي، عن شداد أبي عمار، عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن المطلب بن أبي وداعة قال‏:‏ قال العباس بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس، فصعد المنبر فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أنا‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ أنت رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً، وخيركم نفساً‏)‏‏)‏‏.‏ صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً إلى يوم الدين‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن العباس بن عبد المطلب قال‏:‏ قلت يا رسول الله إن قريشاً إذا التقوا لقي بعضهم بعضاً بالبشاشة، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك غضباً شديداً، ثم قال‏:‏

‏(‏‏(‏والذي نفس محمد بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الله عز وجل يوم خلق الخلق جعلني في خيرهم، ثم لما فرقهم قبائل جعلني في خيرهم قبيلة، ثم حين جعل البيوت جعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن ربيعة بن الحارث قال‏:‏ بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحو ما تقدم، ولم يذكر العباس‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثني يحيى بن عبد الحميد، حدثني قيس بن عبد الله، عن الأعمش، عن عليلة بن ربعي، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسماً فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ‏.‏‏.‏‏}‏ و‏{‏وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ‏.‏‏.‏‏}‏ فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثاً فجعلني في خيرها ثلثا، فذلك قوله تعالى‏:‏ و‏{‏أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ‏}‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ‏}‏ فأنا من السابقين، وأنا خير السابقين‏.‏

ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة، فذلك قوله تعالى‏:‏ {‏وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏ وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر‏.‏

ثم جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً وذلك قوله عز وجل‏:‏ {‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً‏}‏ فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث فيه غرابة ونكارة‏.‏

وروى الحاكم، والبيهقي من حديث محمد بن ذكوان - خال ولد حماد بن زيد - عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر قال‏:‏ إنا لقعود بفناء النبي صلى الله عليه وسلم، إذ مرت به امرأة فقال بعض القوم‏:‏ هذه ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن، فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال‏:‏

‏(‏‏(‏ما بال أقوام تبلغني عن أقوام، إن الله خلق السماوات سبعاً فاختار العلياء منها فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم‏)‏‏)‏‏.‏

هذا أيضاً حديث غريب‏.‏

وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

وروى الحاكم والبيهقي أيضاً‏:‏ من حديث موسى بن عبيدة‏:‏ حدثنا عمرو بن عبد الله بن نوفل، عن الزهري، عن أبي أسامة، أو أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏قال لي جبريل قلبت الأرض من مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم‏)‏‏)‏‏.‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ وهذه الأحاديث وإن كان في رواتها من لا يحتج به، فبعضها يؤكد بعضاً، ومعنى جميعها يرجع إلى حديث واثلة بن الأسقع، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر * فعبد مناف سرها وصميمها

فإن حصلت أشراف عبد منافها * ففي هاشم أشرافها وقديمها

وإن فخرت يوماً فإن محمداً * هو المصطفى من سرها وكريمها

تداعت قريش غثها وسمينها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها

وكنا قديماً لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها

ونحمي حماها كل يوم كريهة * ونضرب عن أجحارها من يرومها

بنا انتعش العود الذواء وإنما * بأكنافنا تندى وتنمى أرومها

وقال أبو السكن زكريا بن يحيى الطائي في الجزء المنسوب إليه المشهور‏:‏ حدثني عمر بن أبي زحر بن حصين، عن جده حميد بن منهب قال‏:‏ قال جدي خريم بن أوس هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت عليه منصرف من تبوك، فأسلمت فسمعت العباس بن عبد المطلب يقول‏:‏ يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏قل لا يفضض الله فاك‏)‏‏)‏‏.‏

فأنشأ يقول‏:‏

من قبلها طبت في الظلال وفي * مستودع حيث يخصف الورق

ثم هبطت البلاد لا بشر أنت * ولا مضغة ولا علق

بل نطفة تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق

تنقل من صلب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق

حتى احتوى بيتك المهيمن من * خندف علياء تحتها النطق

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض * وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي النور * وسبل الرشاد نخترق

وقد روي هذا الشعر لحسان بن ثابت‏.

فروى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر من طريق أبي الحسن ابن أبي الحديد، أخبرنا محمد بن أبي نصر، أنا عبد السلام بن محمد بن أحمد القرشي، حدثنا أبو حصين محمد بن إسماعيل بن محمد التميمي، حدثنا محمد بن عبد الله الزاهد الخراساني، حدثني إسحاق بن إبراهيم بن سنان، حدثنا سلام بن سليمان أبو العباس المكفوف المدائني، حدثنا ورقاء بن عمر، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء ومجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏

سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ فداك أبي وأمي أين كنت وآدم في الجنة‏؟‏

قال‏:‏ فتبسم حتى بدت نواجذه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كنت في صلبه، وركب بي السفينة في صلب أبي نوح، وقذف بي في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق أبواي على سفاح قط، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة، صفتي مهدي لا ينشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما‏.‏

وقد أخذ الله بالنبوة ميثاقي، وبالإسلام عهدي، ونشر في التوراة والإنجيل ذكري، وبين كل نبي صفتي، تشرق الأرض بنوري، والغمام بوجهي، وعلمني كتابه، وزادني شرفاً في سمائه، وشق لي اسماً من أسمائه، فذو العرش محمود، وأنا محمد، وأحمد، ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر، وأن يجعلني أول شافع وأول مشفع، ثم أخرجني من خير قرن لأمتي، وهم الحمادون يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ فقال حسان بن ثابت في النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

قبلها طبت في الظلال وفي * مستودع يوم يخصف الورق

ثم سكنت البلاد لا بشر أنت * ولا نطفة ولا علق

مطهر تركب السفين وقد * ألجم نسراً وأهله الغرق

تنقل من صلب إلى رحم * إذا مضى طبق بدا طبق

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يرحم الله حسانا‏)‏‏)‏‏.‏

فقال علي بن أبي طالب‏:‏ وجبت الجنة لحسان ورب الكعبة‏.‏

ثم قال الحافظ ابن عساكر هذا حديث غريب جداً‏.‏

قلت‏:‏ بل منكر جداً، والمحفوظ أن هذه الأبيات للعباس رضي الله عنه، ثم أوردها من حديث أبي السكن زكريا بن يحيى الطائي كما تقدم‏.‏

قلت‏:‏ ومن الناس من يزعم أنها للعباس بن مرداس السلمي، فالله أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ قال القاضي عياض في كتابه ‏(‏الشفاء‏)‏‏:‏ وأما أحمد الذي أتى في الكتب، وبشرت به الأنبياء فمنع الله بحكمته أن يسمى به أحد غيره، ولا يدعى به مدعو قبله، حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب، أو شك‏.‏

وكذلك محمد لم يسم به أحد من العرب ولا غيرهم، إلى أن شاع قبل وجوده وميلاده أن نبياً يبعث اسمه محمد، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك، رجاء أن يكون أحدهم هو ‏{‏اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏‏.‏

وهم‏:‏ محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي، ومحمد بن سلمة الأنصاري، ومحمد بن البراء الكندي، ومحمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد بن حمران الجعفي، ومحمد بن خزاعى السلمي‏.‏ لا سابع لهم‏.‏

ويقال‏:‏ إن أول من سمي محمداً محمد بن سفيان بن مجاشع‏.‏ واليمن تقول‏:‏ بل محمد بن ليحمد من الأزد، ثم إن الله حمى كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها له أحد، أو يظهر عليه سبب يشكل أحداً في أمره، حتى تحققت الشيمتان له صلى الله عليه وسلم لم ينازع فيهما، هذا لفظه‏.‏

 باب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم

ولد صلوات الله عليه وسلامه يوم الاثنين لما رواه مسلم في صحيحه من حديث غيلان بن جرير بن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة أن أعرابياً قال‏:‏ يا رسول الله ما تقول في صوم يوم الاثنين‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذاك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة، عن

خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس قال‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

ورواه عمرو بن بكير، عن ابن لهيعة وزاد‏:‏ نزلت سورة المائدة يوم الاثنين ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به‏.‏ وزاد أيضاً وكانت وقعة بدر يوم الاثنين‏.‏

وممن قال هذا يزيد بن حبيب، وهذا منكر جداً‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ والمحفوظ أن بدراً، ونزول ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ يوم الجمعة‏.‏ وصدق ابن عساكر‏.‏

وروى عبد الله بن عمر، عن كريب، عن ابن عباس‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين‏.‏

وهكذا روي من غير هذا الوجه عن ابن عباس أنه ولد يوم الاثنين، وهذا ما لا خلاف فيه أنه ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وأبعد بل أخطأ من قال‏:‏ ولد يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من ربيع الأول‏.‏ نقله الحافظ ابن دحية فيما قرأه في كتاب ‏(‏أعلام الروي بأعلام الهدى‏)‏ لبعض الشيعة‏.‏ ‏

ثم شرع ابن دحية في تضعيفه وهو جدير بالتضعيف إذ هو خلاف النص، ثم الجمهور على أن ذلك كان في شهر ربيع الأول، فقيل‏:‏ لليلتين خلتا منه، قاله ابن عبد البر في ‏(‏الاستيعاب‏)‏ ورواه الواقدي، عن أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني‏.‏

وقيل‏:‏ لثمان خلون منه، حكاه الحميدي، عن ابن حزم، ورواه مالك، وعقيل، ويونس بن يزيد، وغيرهم، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، ونقل ابن عبد البر عن أصحاب التاريخ أنهم صححوه، وقطع به الحافظ الكبير محمد بن موسى الخوارزمي، ورجحه الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتابه ‏(‏التنوير في مولد البشير النذير‏)‏

وقيل‏:‏ لعشر خلون منه، نقله ابن دحية في كتابه، ورواه ابن عساكر عن أبي جعفر الباقر، ورواه مجالد عن الشعبي كما مر‏.‏

وقيل‏:‏ لثنتي عشرة خلت منه، نص عليه ابن إسحاق، ورواه ابن أبي شيبة في ‏(‏مصنفه‏)‏ عن عفان، عن سعيد بن مينا، عن جابر وابن عباس أنهما قالا‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثامن عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات، وهذا هو المشهور عند الجمهور والله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ لسبعة عشر خلت منه، كما نقله ابن دحية عن بعض الشيعة‏.‏

وقيل‏:‏ لثمان بقين منه، نقله ابن دحية من خط الوزير أبي رافع بن الحافظ أبي محمد بن حزم عن أبيه‏.‏ والصحيح عن ابن حزم الأول أنه‏:‏ لثمان مضين منه، كما نقله عنه الحميدي وهو أثبت‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه ولد في رمضان، نقله ابن عبد البر عن الزبير بن بكار، وهو قول غريب جداً، وكان مستنده أنه عليه الصلاة والسلام أوحى إليه في رمضان بلا خلاف، وذلك على رأس أربعين سنة من عمره، فيكون مولده في رمضان، وهذا فيه نظر والله أعلم‏.‏

وقد روى خيثمة بن سليمان الحافظ، عن خلف بن محمد كردوس الواسطي، عن المعلى بن عبد الرحمن، عن عبد الحميد بن جعفر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في ربيع الأول، وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول، وأنزلت عليه البقرة يوم الاثنين في ربيع الأول، وهذا غريب جداً، رواه ابن عساكر‏.‏

قال الزبير بن بكار‏:‏ حملت به أمه في أيام التشريق في شعب أبي طالب، عند الجمرة الوسطى‏.‏ وولد بمكة بالدار المعروفة بمحمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان‏.‏

ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن عثمان بن عقبة بن مكرم، عن المسيب بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء في المحرم، وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل‏.‏

وذكر غيره أن الخيزران وهي أم هارون الرشيد لما حجت أمرت ببناء هذه الدار مسجداً، فهو يعرف بها اليوم‏.‏

وذكر السهيلي أن مولده عليه الصلاة والسلام كان في العشرين من نيسان، وهذا أعدل الزمان والفصول وذلك لسنة اثنتين وثمانين وثمانمائة لذي القرنين، فيما ذكر أصحاب الزيج‏.‏ وزعموا أن الطالع كان لعشرين درجة من الجدي، وكان المشتري وزحل مقترنين في ثلاث درج من العقرب، وهي درجة وسط السماء، وكان موافقاً من البروج الحمل، وكان ذلك عند طلوع القمر أول الليل‏.‏ نقله كله ابن دحية والله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل، وهذا هو المشهور عن الجمهور‏.‏

قال إبراهيم بن المنذر الحزامي - وهو الذي لا يشك فيه أحد من علمائنا - أنه عليه الصلاة والسلام ولد عام الفيل، وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل‏.‏

وقد رواه البيهقي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن أبيه، عن جده قيس بن مخرمة قال‏:‏ ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، كنا لدين قال‏:‏ وسأل عثمان رضي الله عنه قباث بن أشيم أخا بني يعمر بن ليث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أقدم منه في الميلاد‏.‏

ورأيت خزق الفيل أخضر محيلاً‏.‏

ورواه الترمذي والحاكم من حديث محمد بن إسحاق به‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عكاظ ابن عشرين سنة‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ كان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة، وكان بناء الكعبة بعد الفجار بخمسة عشر سنة، والمبعث بعد بنائها بخمس سنين‏.‏

وقال محمد بن جبير بن مطعم‏:‏ كانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وبناء الكعبة بعد عكاظ بعشر سنين، والمبعث بعد بنائها بخمس عشرة سنة‏.‏

وروى الحافظ البيهقي من حديث عبد العزيز بن أبي ثابت المديني‏:‏ حدثنا الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث قال‏:‏ سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني ثم الليثي‏:‏ يا قباث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسن منه‏.‏

ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلاً أعقله، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير قال، حدثنا نعيم يعني - ابن ميسرة - عن بعضهم، عن سويد بن غفلة أنه قال‏:‏ أنا لدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدت عام الفيل‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وقد روي عن سويد بن غفلة أنه قال‏:‏ أنا أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين‏.‏

قال يعقوب‏:‏ وحدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، حدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان النوفلي، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم قال‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وكانت بعده عكاظ بخمس عشرة سنة، وبني البيت على رأس خمس وعشرين سنة من الفيل، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة من الفيل‏.‏

والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل على قول الجمهور، فقيل‏:‏ بعده بشهر، وقيل‏:‏ بأربعين يوماً، وقيل‏:‏ بخمسين يوماً - وهو أشهر -‏.‏

وعن أبي جعفر الباقر‏:‏ كان قدوم الفيل للنصف من المحرم، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل كان عام الفيل قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، قاله ابن أبزى، وقيل‏:‏ بثلاث وعشرين سنة‏.‏

رواه شعيب بن شعيب عن أبيه، عن جده كما تقدم‏.‏

وقيل‏:‏ بعد الفيل بثلاثين سنة‏.‏ قاله موسى بن عقبة عن الزهري رحمه الله، واختاره موسى بن عقبة أيضاً رحمه الله‏.‏

وقال أبو زكريا العجلاني‏:‏ بعد الفيل بأربعين عاماً‏.‏ رواه ابن عساكر، وهذا غريب جداً‏.‏ وأغرب منه ما قال خليفة بن خياط‏:‏ حدثني شعيب بن حبان، عن عبد الواحد بن أبي عمرو، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفيل بخمس عشرة سنة‏.‏

وهذا حديث غريب ومنكر وضعيف أيضاً، قال خليفة بن خياط والمجتمع عليه أنه عليه السلام ولد عام الفيل‏.‏

صفة مولده الشريف عليه الصلاة والسلام

قد تقدم أن عبد المطلب لما ذبح تلك الإبل المائة عن ولده عبد الله حين كان نذر ذبحه، فسلمه الله تعالى لما كان قدر في الأزل من ظهور النبي الأمي صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وسيد ولد آدم من صلبه، فذهب كما تقدم فزوجه أشرف عقيلة في قريش آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهرية‏.‏ فحين دخل بها وأفضى إليها حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد كانت أم قتال رقيقة بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل توسمت ما كان بين عيني عبد الله قبل أن يجامع آمنة من النور، فودت أن يكون ذلك متصلاً بها لما كانت تسمع من أخيها من البشارات بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه قد أزف زمانه فعرضت نفسها عليه قال بعضهم ليتزوجها وهو أظهر والله أعلم‏.‏

فامتنع عليها، فلما انتقل ذلك النور الباهر إلى آمنة بمواقعته إياها كأنه تندم على ما كانت عرضت عليه، فتعرض لها لتعاوده فقالت‏:‏ لا حاجة لي فيك، وتأسفت على ما فاتها من ذلك، وأنشدت في ذلك ما قدمناه من الشعر الفصيح البليغ‏.‏

وهذه الصيانة لعبد الله ليست له، وإنما هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏‏.‏

وقد تقدم الحديث المروي من طريق جيد أنه قال عليه الصلاة والسلام‏:‏

‏(‏‏(‏ولدت من نكاح لا من سفاح‏)‏‏)‏‏.‏

والمقصود أن أمه حين حملت به توفي أبوه عبد الله، وهو حمل في بطن أمه على المشهور‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ حدثنا محمد بن عمر - هو الواقدي - حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدي، وحدثنا سعيد بن أبي زيد، عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال‏:‏ خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام إلى غزة في عير من عيران قريش يحملونه تجارات، ففرغوا من تجارتهم ثم انصرفوا، فمروا بالمدينة وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض‏.‏

فقال‏:‏ أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضاً شهراً‏.‏ ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبد الله، فقالوا‏:‏ خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض، فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي ودفن في دار النابغة، فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجداً شديداً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حمل، ولعبد الله بن عبد المطلب يوم توفي خمس وعشرون سنة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ هذا هو أثبت الأقاويل في وفاة عبد الله وسنه عندنا‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وحدثني معمر عن الزهري أن عبد المطلب بعث عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمراُ فمات، قال محمد بن سعد‏:‏ وقد أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، وعن عوانة بن الحكم قالا‏:‏ توفي عبد الله بن عبد المطلب بعد ما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرين شهراً‏.‏ وقيل‏:‏ سبعة أشهر‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ والأول أثبت، أنه توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ حدثني محمد بن حسن، عن عبد السلام، عن ابن خربوذ قال‏:‏ توفي عبد الله بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن شهرين، وماتت أمه وهو ابن أربع سنين، ومات جده وهو ابن ثمان سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب‏.‏

والذي رجحه الواقدي وكاتبه الحافظ محمد بن سعد أنه عليه الصلاة والسلام توفي أبوه وهو جنين في بطن أمه، وهذا أبلغ اليتم وأعلى مراتبه‏.‏

وقد تقدم في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏ورؤيا أمي الذي رأت حين حمل بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام‏)‏‏)‏‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ فكانت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها‏:‏ إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي‏:‏

أعيذه بالواحد من شر كل حاسد

من كل بر عاهد وكل عبد رائد

يذود عني ذائد فإنه عند الحميد الماجد

حتى أراه قد أتى المشاهد

وآية ذلك أنه يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمداً، فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في الإنجيل أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في القرآن محمد، وهذا وذاك يقتضي أنها رأت حين حملت به عليه السلام كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، ثم لما وضعته رأت عياناً تأويل ذلك كما رأته قبل ذلك هاهنا، والله أعلم‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنبأنا محمد بن عمر - هو الواقدي - حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم، عن الزهري‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثنا موسى بن عبدة، عن أخيه ومحمد بن كعب القرظي، وحدثني عبد الله بن جعفر الزهري، عن عمته أم بكر بنت المسود، عن أبيها‏.‏ وحدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم المزني، وزياد بن حشرج، عن أبي وجزة‏.‏ وحدثنا معمر، عن أبي نجيح، عن مجاهد‏.‏ وحدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء عن ابن عباس‏:‏

دخل حديث بعضهم في حديث بعض أن آمنة بنت وهب قالت‏:‏ لقد علقت به - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمداً على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ وقع جاثياً على ركبتيه، وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها، حتى رؤيت أعناق الإبل ببصرى، رافعاً رأسه إلى السماء‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أنبأنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا محمد بن إسماعيل قال‏:‏ أنبأنا محمد بن إسحاق، حدثنا يونس بن مبشر بن الحسن قال‏:‏ حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال‏:‏ حدثنا عبد العزيز بن عمران، حدثنا عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن أبي سويد الثقفي، عن عثمان بن أبي العاص قال‏:‏

حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ولدته، قالت‏:‏ فما شيء أنظره في البيت إلا نور، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول ليقعن علي‏.‏

وذكر القاضي عياض عن الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف، أنها كانت قابلته، وأنها أخبرت به حين سقط على يديها واستهل، سمعت قائلاً يقول‏:‏ يرحمك الله، وإنه سطع منه نور رؤيت منه قصور الروم‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فلما وضعته بعثت إلى عبد المطلب جاريتها - وقد هلك أبوه وهي حبلى، ويقال‏:‏ إن عبد الله هلك والنبي صلى الله عليه وسلم ابن ثمانية وعشرين شهراً، فالله أعلم أي ذلك كان - فقالت‏:‏ قد ولد لك غلام فانظر إليه، فلما جاءها أخبرته وحدثته بما كانت رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميه، فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة، فقام عبد المطلب يدعو ويشكر الله عز وجل ويقول‏:‏

الحمد لله الذي أعطاني * هذا الغلام الطيب الأردان

قد ساد في المهد على الغلمان * أعيذه بالبيت ذي الأركان

حتى يكون بلغة الفتيان * حتى أراه بالغ البنيان

أعيذه من كل ذي شنآن * من حاسد مضطرب العنان

ذي همة ليس له عينان * حتى أراه رافع اللسان

أنت الذي سميت في القرآن * في كتب ثابتة المثاني

أحمد مكتوب على اللسان

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حاتم الدرابودي - بمرو- قال‏:‏ حدثنا أبو عبد الله البوشنجي، حدثنا أبو أيوب سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة بن زياد بن الحارث الصدائي - بمصر - حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال‏:‏

ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً، قال‏:‏ فأعجب به جده عبد المطلب، وحظي عنده، وقال‏:‏ ليكونن لابني هذا شأن فكان له شأن‏.‏ وهذا الحديث في صحته نظر‏.‏

وقد رواه الحافظ ابن عساكر من حديث سفيان بن محمد المصيصي، عن هشيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏من كرامتي على الله أني ولدت مختوناً، ولم ير سوأتي أحد‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أورده من طريق الحسن بن عرفة عن هشيم به‏.‏

ثم أورده من طريق محمد بن محمد بن سليمان - هو الباغندي - حدثنا عبد الرحمن بن أيوب الحمصي، حدثنا موسى بن أبي موسى المقدسي، حدثني خالد بن سلمة، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسروراً مختوناً‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي، حدثنا الحسين بن أحمد بن عبد الله المالكي، حدثنا سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء، حدثنا الحكم بن أبان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس قال‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً، فأعجب ذلك جده عبد المطلب وحظي عنده، وقال‏:‏ ليكونن لابني هذا شأن، فكان له شأن‏.‏

وقد ادعى بعضهم صحته، لما ورد له من الطرق، حتى زعم بعضهم أنه متواتر، وفي هذا كله نظر‏.‏ ومعنى مختوناً‏:‏ أي مقطوع الختان، ومسروراً‏:‏ أي مقطوع السرة من بطن أمه‏.‏

وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن عيينة البصري، حدثنا علي بن محمد المدائني السلمي، حدثنا سلمة بن محارب بن مسلم بن زياد، عن أبيه، عن أبي بكرة أن جبريل ختن النبي صلى الله عليه وسلم حين طهر قلبه‏.‏ وهذا غريب جداً‏.‏

وقد روي أن جده عبد المطلب ختنه، وعمل له دعوة جمع قريشاً عليها، والله أعلم‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأني محمد بن كامل القاضي - شفاها - أن محمد بن إسماعيل حدثه - يعني السلمي - حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي الحكم التنوخي قال‏:‏

كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة من قريش إلى الصبح، يكفأن عليه برمة، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه عبد المطلب إلى نسوة، فكفأن عليه برمة فلما أصبحن أتين فوجدن البرمة قد انفلقت عنه باثنتين، ووجدنه مفتوح العينين، شاخصاً ببصره إلى السماء، فأتاهن عبد المطلب فقلن له ما رأينا مولوداً مثله، وجدناه قد انفلقت عنه البرمة، ووجدناه مفتوحاً عينيه، شاخصاً ببصره إلى السماء‏.‏

فقال‏:‏ احفظنه، فإني أرجو أن يكون له شأن أو أن يصيب خيراً، فلما كان اليوم السابع ذبح عنه، ودعا له قريشاً، فلما أكلوا قالوا يا عبد المطلب‏:‏ أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه، ما سميته‏؟‏ قال‏:‏ سميته محمداً‏.‏ قالوا‏:‏ فما رغبت به عن أسماء أهل بيته‏؟‏ قال‏:‏ أردت أن يحمده الله تعالى في السماء، وخلقه في الأرض‏.‏

قال أهل اللغة‏:‏ كل جامع لصفات الخير يسمى محمداً، كما قال بعضهم‏:‏

إليك أبيت اللعن أعملت نافتي * إلى الماجد القرم الكريم المحمد

وقال بعض العلماء‏:‏ ألهمهم الله عز وجل أن سموه محمداً لما فيه من الصفات الحميدة، ليلتقي الاسم والفعل، ويتطابق الاسم والمسمى في الصورة والمعنى، كما قال عمه أبو طالب، ويروى لحسان‏:‏

وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد

وسنذكر أسماءه عليه الصلاة والسلام وشمائله، وهي صفاته الظاهرة، وأخلاقه الطاهرة، ودلائل نبوته، وفضائل منزلته في آخر السيرة إن شاء الله‏.‏

قال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن شيبان الرملي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الحبلى، حدثنا الهيثم بن جميل، حدثنا زهير، عن محارب بن دثار، عن عمرو بن يثربي، عن العباس بن عبد المطلب قال‏:‏ قلت يا رسول الله دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر، وتشير إليه بإصبعك، فحيث أشرت إليه مال‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني كنت أحدثه ويحدثني، ويلهيني عن البكاء، واسمع وجبته حين يسجد تحت العرش‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ تفرد به الليثي، وهو مجهول‏.‏

 فصل فيما وقع من الآيات ليلة مولده عليه الصلاة والسلام

قد ذكرنا في باب هواتف الجان ما تقدم من خرور كثير من الأصنام ليلتئذ لوجوهها وسقوطها عن أماكنها، وما رآه النجاشي ملك الحبشة، وظهور النور معه حتى أضاءت له قصور الشام حين ولد، وما كان من سقوطه جاثياً رافعاً رأسه إلى السماء، وانفلاق تلك البرمة عن وجهه الكريم، وما شوهد من النور في المنزل الذي ولد فيه ودنو النجوم منهم وغير ذلك‏.‏

حكى السهيلي عن تفسير بقي بن مخلد الحافظ، أن إبليس رن أربع رنات‏:‏ حين لعن، وحين أهبط، وحين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين أنزلت الفاتحة‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ وكان هشام بن عروة يحدث عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ كان يهودي قد سكن مكة يتجر بها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من قريش‏:‏ يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود‏؟‏

فقال القوم‏:‏ والله ما نعلمه‏.‏ فقال‏:‏ الله أكبر أما إذا أخطأكم فلا بأس، انظروا واحفظوا ما أقول لكم‏:‏ ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس، لا يرضع ليلتين، وذلك أن عفريتاً من الجن أدخل أصبعه في فمه فمنعه الرضاع، فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون من قوله وحديثه‏.‏

فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله، فقالوا‏:‏ قد والله ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمداً‏.‏ فالتقى القوم، فقالوا‏:‏ هل سمعتم حديث اليهودي، وهل بلغكم مولد هذا الغلام‏؟‏

فانطلقوا حتى جاءوا اليهودي فأخبروه الخبر، قال‏:‏ فاذهبوا معي حتى أنظر إليه، فخرجوا به حتى أدخلوه على آمنة فقالوا‏:‏ أخرجي إلينا ابنك فأخرجته، وكشفوا له عن ظهره، فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشياً عليه، فلما أفاق قالوا له‏:‏ مالك ويلك‏؟‏

قال‏:‏ قد ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل، فرحتم بها يا معشر قريش، والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب‏.‏ ‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني صالح بن إبراهيم، عن يحيى بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال‏:‏ حدثني من شئت من رجال قومي ممن لا أتهم، عن حسان بن ثابت قال‏:‏ إني لغلام يفعة ابن سبع سنين - أو ثمان سنين - أعقل ما رأيت وسمعت، إذا بيهودي في يثرب يصرخ ذات غداة‏:‏ يا معشر يهود، فاجتمعوا إليه - وأنا أسمع - فقالوا‏:‏ ويلك ما لك‏؟‏ قال‏:‏ قد طلع نجم أحمد الذي يولد به في هذه الليلة‏.‏

وروى الحافظ أبو نعيم في كتاب ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ من حديث أبي بكر بن عبد الله العامري، عن سليمان بن سحيم، وذريح بن عبد الرحمن كلاهما، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه قال‏:‏ سمعت أبي مالك بن سنان يقول‏:‏ جئت بني عبد الأشهل يوماً لأتحدث فيهم، ونحن يومئذ في هدنة من الحرب فسمعت يوشع اليهودي يقول‏:‏ أظل خروج نبي يقال له أحمد يخرج من الحرم‏.‏

فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمستهزئ به‏:‏ ما صفته‏؟‏ فقال‏:‏ رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة ويركب الحمار، سيفه على عاتقه، وهذا البلد مهاجره‏.‏

قال‏:‏ فرجعت إلى قومي بني خدرة، وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع، فأسمع رجلاً منا يقول، ويوشع يقول هذا وحده‏؟‏‏!‏ كل يهود يثرب يقولون هذا‏.‏

قال أبي مالك بن سنان‏:‏ فخرجت حتى جئت بني قريظة، فأجد جمعاً، فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الزبير بن باطا‏:‏ قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلى لخروج نبي أو ظهوره، ولم يبق أحد إلا أحمد، وهذا مهاجره‏.‏

قال أبو سعيد‏:‏ فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أبي هذا الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو أسلم الزبير لأسلم ذووه من رؤساء اليهود إنما هم له تبع‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ حدثنا عمر بن محمد، حدثنا إبراهيم بن السندي، حدثنا النضر بن سلمة، حدثنا إسماعيل بن قيس بن سليمان بن زيد بن ثابت، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع سمعت زيد بن ثابت يقول‏:‏ كان أحبار يهود بني قريظة والنضير يذكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طلع الكوكب الأحمر أخبروا أنه نبي وأنه لا نبي بعده، واسمه أحمد، ومهاجره إلى يثرب، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنكروا، وحسدوا، وكفروا‏.‏

وقد أورد هذه القصة الحافظ أبو نعيم في كتابه من طرق أخرى ولله الحمد‏.‏

وقال أبو نعيم ومحمد بن حبان‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد قال‏:‏ قال زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏ قال لي حبر من أحبار الشام‏:‏ قد خرج في بلدك نبي - أو هو خارج - قد خرج نجمه، فارجع فصدقه واتبعه‏.‏

 ذكر ارتجاس إيوان كسرى، وسقوط الشرفات، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، وغير ذلك من الدلالات

قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب ‏(‏هواتف الجان‏)‏‏:‏ حدثنا علي بن حرب، حدثنا أبو أيوب يعلى بن عمران - من آل جرير بن عبد الله البجلي - حدثني مخزوم بن هاني المخزومي، عن أبيه - وأتت عليه خمسون ومائة سنة - قال‏:‏ لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام‏.‏

وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادهم، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك، فتصبر عليه تشجعاً، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك عن مرازبته، فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره، ثم بعث إليهم، فلما اجتمعوا عنده قال‏:‏ أتدرون فيم بعثت إليكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، إلا أن يخبرنا الملك ذلك‏.‏

فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب خمود النيران، فازداد غماً إلى غمه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله، فقال الموبذان - وأنا أصلح الله الملك - قد رأيت في هذه الليلة رؤيا، ثم قصَّ عليه رؤياه في الإبل‏.‏ فقال‏:‏ أي شيء يكون هذا يا موبذان‏؟‏

قال‏:‏ حدث يكون في ناحية العرب - وكان أعلمهم من أنفسهم - فكتب عند ذلك‏:‏ من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر أما بعد‏:‏ فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه، فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن نفيلة الغساني‏.‏

فلما ورد عليه قال له‏:‏ ألك علم بما أريد أن أسألك عنه‏؟‏ فقال‏:‏ لتخبرني، أو ليسألني الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلم‏.‏ فأخبره بالذي وجه به إليه فيه‏.‏

قال‏:‏ علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام، يقال له‏:‏ سطيح، قال فاسأله عما سألتك عنه ثم ائتني بتفسيره‏.‏

فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح، وقد أشفى على الضريح، فسلم عليه وكلمه فلم يرد إليه سطيح جواباً، فأنشأ يقول‏:‏

أصم أم يسمع غطريف اليمن * أم فاد فاز لم به شأو العنن

يا فاصل الخطة أعيت من ومن * أتاك شيخ الحي من آل سنن

وأمه من آل ذئب بن حجن * أزرق نهم الناب صرار الأذن

أبيض فضفاض الرداء والبدن * رسول قيل العجم يسري للوسن

يجوب بي الأرض علنداة شزن * لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن

ترفعني وجناً وتهوي بي وجن * حتى أتى عاري الجآجي والقطن

تلفه في الريح بوغاء الدمن * كأنما حثحث من حضني ثكن

قال‏:‏ فلما سمع سطيح شعره، رفع رأسه يقول‏:‏ عبد المسيح على جمل مشيح، أتى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها‏.‏

يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات، وكلما هو آت آت، ثم قضى سطيح مكانه، فنهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول‏:‏ ‏

شمر فإنك ماضي العزم شمير * لا يفزعنك تفريق وتغيير

إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم * فإن ذا الدهر أطوار دهارير

فربما ربما أضحوا بمنزلة * يخاف صولهم الأسد المهاصير

منهم أخو الصرح بهرام وإخوته * والهرمزان وشابور وسابور

والناس أولاد علات فمن علموا * أن قد أقل فمحقور ومهجور

ورب قوم لهم صحبان ذي أذن * بدت تلهيهم فيه المزامير

وهم بنو الأم إما إن رأوا نشباً * فذاك بالغيب محفوظ ومنصور

والخير والشر مقرونان في قرن * فالخير متبع والشر محذور

قال‏:‏ فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بما قال له سطيح، فقال كسرى‏:‏ إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً، كانت أمور وأمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه‏.‏

ورواه البيهقي من حديث عبد الرحمن بن محمد بن إدريس، عن علي بن حرب الموصلي بنحوه‏.‏

قلت‏:‏ كان آخر ملوكهم الذي سلب منه الملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وهو الذي انشق الإيوان في زمانه، وكان لأسلافه في الملك ثلاثة آلاف سنة ومائة وأربعة وستون سنة، وكان أول ملوكهم خيومرت بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح‏.‏

أما سطيح هذا فقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه‏:‏ هو الربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب ابن عدي بن مازن بن الأزد‏.‏ ويقال‏:‏ الربيع بن مسعود، وأمه ردعا بنت سعد بن الحارث الحجوري‏.‏ وذكر غير ذلك في نسبه‏.‏ قال‏:‏ وكان يسكن الجابية‏.‏

ثم روي عن أبي حاتم السجستاني قال‏:‏ سمعت المشيخة منهم أبو عبيدة وغيره قالوا‏:‏ وكان من بعد لقمان بن عاد‏.‏ ولد في زمن سيل العرم وعاش إلى ملك ذي نواس، وذلك نحو من ثلاثين قرناً، وكان مسكنه البحرين، وزعمت عبد القيس أنه منهم، وتزعم الأزد أنه منهم، وأكثر المحدثين يقولون هو من الأزد‏.‏ ولا ندري ممن هو، غير أن ولده يقولون إنه من الأزد‏.‏

وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لم يكن شيء من بني آدم يشبه سطيحاً، إنما كان لحماً على وضم، ليس فيه عظم ولا عصب إلا في رأسه وعينيه وكفيه، وكان يطوى كما يطوى الثوب من رجليه إلى عنقه، ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه‏.‏

وقال غيره‏:‏ إنه كان إذا غضب انتفخ وجلس‏.‏

ثم ذكر ابن عباس أنه قدم مكة فتلقاه جماعة من رؤسائهم منهم عبد شمس، وعبد مناف أبناء قصي، فامتحنوه في أشياء، فأجابهم فيها بالصدق، فسألوه عما يكون في آخر الزمان فقال‏:‏ خذوا مني ومن إلهام الله إياي‏:‏ أنتم الآن يا معشر العرب في زمان الهرم، سواء بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشو من عقبكم ذوو فهم، يطلبون أنواع العلم فيكسرون الصنم، ويتبعون الردم، ويقتلون العجم، يطلبون الغنم‏.‏

ثم قال‏:‏ والباقي الأبد، والبالغ الأمد، ليخرجن من ذا البلد نبي مهتد، يهدي إلى الرشد، يرفض يغوث والفند، يبرأ عن عبادة الضدد، يعبد رباً انفرد، ثم يتوفاه الله بخير دار محموداً من الأرض مفقوداً، وفي السماء مشهوداً‏.‏

ثم يلي أمره الصديق، إذا قضى صدق، وفي رد الحقوق لا خرق ولا نزق، ثم يلي أمره الحنيف، مجرب غطريف، قد أضاف المضيف، وأحكم التحنيف، ثم ذكر عثمان ومقتله، وما يكون بعد ذلك من أيام بني أمية ثم بني العباس، وما بعد ذلك من الفتن والملاحم، ساقه ابن عساكر بسنده عن ابن عباس بطوله‏.‏

وقد قدمنا قوله لربيعة بن نصر ملك اليمن حين أخبره برؤياه قبل أن يخبره بها، ثم ما يكون في بلاد اليمن من الفتن وتغيير الدول، حتى يعود إلى سيف بن ذي يزن، فقال له‏:‏ أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع‏؟‏ قال‏:‏ بل ينقطع‏.‏ قال‏:‏ ومن يقطعه‏؟‏

قال‏:‏ نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي‏.‏ قال‏:‏ وممن هذا النبي‏؟‏ قال‏:‏ من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر‏.‏ قال‏:‏ وهل للدهر من آخر‏؟‏ قال‏:‏ نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون‏.‏ قال‏:‏ أحق ما تخبرني‏؟‏

قال‏:‏ نعم، والشفق والغسق والقمر إذا اتسق، إن ما أنبأتك عليه لحق، ووافقه على ذلك شق سواء بسواء بعبارة أخرى كما تقدم‏.‏

ومن شعر سطيح قوله‏:‏

عليكم بتقوى الله في السر والجهر * ولا تلبسوا صدق الأمانة بالغدر

وكونوا لجار الجنب حصناً وجنة * إذا ما عرته النائبات من الدهر

وروى ذلك الحافظ ابن عساكر‏.‏

ثم أورد ذلك المعافي بن زكريا الجريري فقال‏:‏ وأخبار سطيح كثيرة، وقد جمعها غير واحد من أهل العلم‏.‏ والمشهور أنه كان كاهناً، وقد أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن نعته، ومبعثه‏.‏

وروي لنا بإسناد الله به أعلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن سطيح فقال‏:‏ نبي ضيعه قومه‏.‏

قلت‏:‏ أما هذا الحديث فلا أصل له في شيء من كتب الإسلام المعهودة، ولم أره بإسناد أصلاً‏.‏

ويروي مثله في خبر خالد بن سنان العبسي، ولا يصح أيضاً، وظاهر هذه العبارات تدل على علم جيد لسطيح، وفيها روائح التصديق، لكنه لم يدرك الإسلام كما قال الجريري، فإنه قد ذكرنا في هذا الأثر أنه قال لابن أخته‏:‏ يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت‏.‏

ثم قضى سطيح مكانه، وكان ذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر- أو شية - أي أقل منه، وكانت وفاته بأطراف الشام مما يلي أرض العراق، فالله أعلم بأمره وما صار إليه‏.‏

وذكر ابن طرار الحريري أنه عاش سبعمائة سنة‏.‏ وقال غيره‏:‏ خمسمائة سنة، وقيل‏:‏ ثلاثمائة سنة، فالله أعلم‏.‏

وقد روى ابن عساكر أن ملكاً سأل سطيحاً عن نسب غلام اختلف فيه، فأخبره على الجلية في كلام طويل مليح فصيح، فقال له الملك‏:‏ يا سطيح ألا تخبرني عن علمك هذا‏؟‏ فقال‏:‏ إن علمي هذا ليس مني ولا بجزم ولا بظن، ولكن أخذته عن أخ لي قد سمع الوحي بطور سيناء‏.‏

فقال له‏:‏ أرأيت أخاك هذا الجني أهو معك لا يفارقك‏؟‏ فقال إنه ليزول حيث أزول، ولا أنطق إلا بما يقول‏.‏ وتقدم أنه ولد هو وشق بن مصعب بن يشكر بن رهم بن بسر بن عقبة الكاهن الآخر، ولدا في يوم واحد‏.‏

فحملا إلى الكاهنة طريفة بنت الحسين الحميدية، فتفلت في أفواههما فورثا منها الكهانة وماتت من يومها‏.‏ وكان نصف إنسان‏.‏ ويقال إن خالد بن عبد الله القسري من سلالته، وقد مات شق قبل سطيح بدهر‏.‏

وأما عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن نفيلة الغساني النصراني فكان من المعمرين‏.‏ وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه، وقال‏:‏ هو الذي صالح خالد بن الوليد على ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر له معه قصة طويلة، وأنه أكل من يده سم ساعة فلم يصبه سوء، لأنه لما أخذه قال‏:‏ بسم الله وبالله، رب الأرض والسماء الذي لا يضر مع اسمه أذى‏.‏ ثم أكله فعلته غشية فضرب بيديه على صدره ثم عرق وأفاق رضي الله عنه‏.‏

وذكر لعبد المسيح أشعاراً غير ما تقدم‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا المسيب بن شريك، حدثنا محمد بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى‏:‏ عيصاً من أهل الشام، وكان متخفراً بالعاص بن وائل‏.‏

وكان الله قد آتاه علماً كثيراً، وجعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة من طيب ورفق وعلم، وكان يلزم صومعة له، ويدخل مكة في كل سنة، فيلقى الناس ويقول‏:‏ إنه يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة، يدين له العرب، ويملك العجم، هذا زمانه ومن أدركه واتبعه أصاب حاجته، ومن أدركه فخالفه أخطأ حاجته، وبالله ما تركت أرض الخمر والخمير والأمن، ولا حللت بأرض الجوع والبؤس والخوف، إلا في طلبه‏.‏

وكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه فيقول‏:‏ ما جاء بعد‏.‏ فيقال له‏:‏ فصفه‏.‏ فيقول‏:‏ لا‏.‏ ويكتم ذلك للذي قد علم أنه لاق من قومه مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يكون إليه من الأذى يوماً‏.‏

ولما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد الله بن عبد المطلب حتى أتي عيصاً، فوقف في أصل صومعته ثم نادى‏:‏ يا عيصاه، فناداه من هذا‏؟‏ فقال‏:‏ أنا عبد الله فأشرف عليه فقال‏:‏ كن أباه، فقد ولد المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين‏.‏

قال‏:‏ فإنه قد ولد لي مع الصبح مولود‏؟‏ قال‏:‏ فما سميته‏؟‏ قال‏:‏ محمداً‏.‏ قال‏:‏ والله لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال نعرفه بها منها‏:‏ أن نجمه طلع البارحة، وأنه ولد اليوم، وأن اسمه محمد‏.‏ انطلق إليه فإن الذي كنت أخبركم عنه ابنك‏.‏ قال‏:‏ فما يدريك أنه ابني ولعله أن يولد في هذا اليوم مولود غيره‏؟‏

قال‏:‏ قد وافق ابنك الاسم، ولم يكن الله ليشبه علمه على العلماء فإنه حجة، وآية ذلك أنه الآن وجع، فيشتكي أياماً ثلاثة، فيظهر به الجوع ثلاثاً ثم يعافى، فاحفظ لسانك فإنه لم يحسد أحد حسده قط، ولم يبغ على أحد كما يبغي عليه، إن تعش حتى يبدو مقاله، ثم يدعو لظهر لك من قومك ما لا تحتمله إلا على صبر، وعلى ذلك فاحفظ لسانك ودار عنه‏.‏

قال‏:‏ فما عمره‏؟‏ قال‏:‏ إن طال عمره وإن قصر لم يبلغ السبعين، يموت في وتر دونها من الستين في إحدى وستين، أو ثلاث وستين، في أعمار جل أمته‏.‏

قال‏:‏ وحمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في عاشر المحرم، وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل‏.‏ هكذا رواه أبو نعيم، وفيه غرابة‏.‏ ‏

 حواضنه ومراضعه عليه الصلاة والسلام

كانت أم أيمن واسمها‏:‏ بركة، تحضنه، وكان قد ورثها عليه الصلاة والسلام من أبيه، فلما كبر أعتقها وزوجها مولاه زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد رضي الله عنهم وأرضعته مع أمه عليه الصلاة والسلام مولاة عمه أبي لهب ثويبة قبل حليمة السعدية‏.‏

أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث الزهري، عن عروة بن الزبير، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت‏:‏ يا رسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان - ولمسلم عزة بنت أبي سفيان - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أو تحبين ذلك‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فإن ذلك لا يحل لي‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة - وفي رواية درة بنت أبي سلمة -‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بنت أم سلمة‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن‏)‏‏)‏‏.‏

زاد البخاري‏:‏ قال عروة‏.‏

وثويبة مولاة لأبي لهب، أعتقها فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر خيبة، فقال له‏:‏ ماذا لقيت‏؟‏

فقال أبو لهب‏:‏ لم ألقَ بعدكم خيراً، غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة - وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع -‏.‏

وذكر السهيلي وغيره‏:‏ أن الرائي له هو أخوه العباس، وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر، وفيه‏:‏ أن أبا لهب قال للعباس‏:‏ إنه ليخفف عليَّ في مثل يوم الاثنين‏.‏

قالوا‏:‏ لأنه لما بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله أعتقها من ساعته، فجوزي بذلك لذلك‏.‏‏

 رضاعه عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وما ظهر عليه من البركة وآيات النبوة

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فاسترضع له عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبي ذؤيب، واسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر‏.‏

قال‏:‏ واسم أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرضعه - يعني زوج حليمة - الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن‏.‏ وأخوته عليه الصلاة والسلام - يعني من الرضاعة - عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة بنت الحارث وهي الشيماء، وذكروا أنها كانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه إذ كان عندهم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني جهم بن أبي جهم مولى لامرأة من بني تميم كانت عند الحارث بن حاطب، ويقال له‏:‏ مولى الحارث بن حاطب‏.‏ قال‏:‏ حدثني من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال‏:‏ حدثت عن حليمة بنت الحارث أنها قالت‏:‏

قدمت مكة في نسوة، وذكر الواقدي بإسناده أنهن كن عشرة نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن بها الرضعاء من بني سعد، نلتمس بها الرضعاء في سنة شهباء، فقدمت على أتان لي قمراء، كانت أذّمت بالركب ومعي صبي لنا، وشارف لنا والله ما تبض بقطرة‏.‏

وما ننام ليلتنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، ما نجد في ثديي ما يغنيه، ولا في شارفنا ما يغذيه، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج‏.‏ ‏ فخرجت على أتاني تلك، فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً، فقدمنا مكة فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل إنه يتيم تركناه، قلنا ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه، إنما نرجو المعروف من أبي الولد، فأما أمه فماذا عسى أن تصنع إلينا‏؟‏ فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعاً غيري، فلما لم نجد غيره وأجمعنا الانطلاق، قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى‏:‏ والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه‏.‏

فقال‏:‏ لا عليك أن تفعلي فعسى أن يجعل الله لنا فيه بركة‏.‏ فذهبت فأخذته فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره، فما هو إلا أن أخذته، فجئت به رحلي فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، فبتنا بخير ليلة‏.‏

فقال صاحبي حين أصبحنا‏:‏ يا حليمة والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم تري ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه‏؟‏ فلم يزل الله عز وجل يزيدنا خيراً، ثم خرجنا راجعين إلى بلادنا، فوالله لقطعت أتاني بالركب حتى ما يتعلق بها حمار، حتى أن صواحبي ليقلن‏:‏ ويلك يا بنت أبي ذؤيب هذه أتانك التي خرجت عليها معنا‏؟‏

فأقول‏:‏ نعم والله إنها لهي، فقلن‏:‏ والله إن لها لشأناً، حتى قدمنا أرض بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها، فإن كانت غنمي لتسرح ثم تروح شباعاً لبناً فتحلب ما شئنا، وما حوالينا أو حولنا أحد تبض له شاة بقطرة لبن، وإن أغنامهم لتروح جياعاً، حتى إنهم ليقولون لرعاتهم أو لرعيانهم‏:‏ ويحكم انظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب فاسرحوا معهم، فيسرحون مع غنمي حيث تسرح، فتروح أغنامهم جياعاً ما فيها قطرة لبن، وتروح أغنامي شباعاً لبناً نحلب ما شئنا‏.‏

فلم يزل الله يرينا البركة نتعرفها حتى بلغ سنتين، فكان يشب شباباً لا تشبه الغلمان، فوالله ما بلغ السنتين حتى كان غلاماً جفراً، فقدمنا به على أمه ونحن أضن شيء به مما رأينا فيه من البركة، فلما رأته أمه قلت لها‏:‏ دعينا نرجع بابننا هذه السنة الأخرى، فإنا نخشى عليه وباء مكة، فوالله ما زلنا بها حتى قالت نعم، فسرحته معنا فأقمنا به شهرين أو ثلاثة‏.‏

فبينما هو خلف بيوتنا مع أخ له من الرضاعة في بهم لنا، جاء أخوه ذلك يشتد فقال‏:‏ ذاك أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائماً منتقعاً لونه، فأعتنقه أبوه وقال‏:‏ يا بني ما شأنك‏؟‏

قال‏:‏ جاءني رجلان عليهما ثياب بيض أضجعاني وشقا بطني، ثم استخرجا منه شيئاً فطرحاه، ثم رداه كما كان، فرجعنا به معنا، فقال أبوه‏:‏ يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب، فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف‏.‏

قالت حليمة‏:‏ فاحتملناه فلم ترع أمه إلا به، فقدمنا به عليها فقالت‏:‏ ما ردكما به يا ظئر، فقد كنتما عليه حريصين‏؟‏ فقالا‏:‏ لا والله إلا أن الله قد أدى عنا وقضينا الذي علينا، وقلنا نحشى الإتلاف والأحداث نرده إلى أهله، فقالت‏:‏ ما ذاك بكما فأصدقاني شأنكما‏؟‏ فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره‏.‏

فقالت‏:‏ أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، والله إنه لكائن لابني هذا شأن، ألا أخبركما خبره، قلنا‏:‏ بلى‏.‏

قالت‏:‏ حملت به، فما حملت حملاً قط أخف علي منه، فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام، ثم وقع حين ولدته وقوعاً ما يقعه المولود، معتمداً على يديه، رافعاً رأسه إلى السماء، فدعاه عنكما‏.‏

وهذا الحديث قد روي من طرق أخر، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني معاذ بن محمد بن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال‏:‏ خرجت حليمة تطلب النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجدت البهم تقيل، فوجدته مع أخته فقالت‏:‏ في هذا الحر‏؟‏ فقالت أخته‏:‏ يا أمه ما وجد أخي حراً، رأيت غمامة تظلل عليه إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، حتى انتهى إلى هذا الموضع‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له‏:‏ أخبرنا عن نفسك‏.‏ قال‏:‏ نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى عليهما السلام، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام‏.‏

واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينما أنا مع أخ لي في بهم لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض، معهما طست من ذهب مملوء ثلجاً، فأضجعاني فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى إذا ألقياه رداه كما كان‏.‏

ثم قال أحدهما لصاحبه‏:‏ زنه بعشرة من أمته، فوزنني بعشرة فوزنتهم، ثم قال زنه بمائة من أمته، فوزنني بمائة فوزنتهم، ثم قال زنه بألف من أمته، فوزنني بألف فوزنتهم، فقال دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنهم‏.‏ وهذا إسناد جيد قوي‏.‏

وقد روى أبو نعيم الحافظ في ‏(‏الدلائل‏)‏ من طريق عمر بن الصبح - وهو أبو نعيم - عن ثور بن يزيد، عن مكحول، عن شداد بن أوس هذه القصة مطولة جداً، ولكن عمر بن صبح هذا متروك كذاب، متهم بالوضع، فلهذا لم نذكر لفظ الحديث إذ لا يفرح به‏.‏

ثم قال‏:‏ وحدثنا أبو عمر بن حمدان، حدثنا الحسن بن نفير، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا بقية بن الوليد، عن بحير بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد الله أنه حدثه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ كيف كان أول شأنك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت يا أخي اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم فأقبل إلي طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ أهو هو‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏

فأقبلا يبتدراني، فأخذاني فبطحاني للقفا، فشقا بطني ثم استخرجا قلبي، فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين‏.‏ فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ ائتني بماء ثلج فغسلا به جوفي، ثم قال‏:‏ ائتني بماء برد فغسلا به قلبي‏.‏ ثم قال‏:‏ ائتني بالسكينة فذرها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه‏:‏ خطه فخاطه، وختم على قلبي بخاتم النبوة‏.‏

فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ اجعله في كفة واجعل ألفاً من أمته في كفة، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي أشفق أن يخر علي بعضهم، فقال‏:‏ لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا فتركاني وفرقت فرقاً شديدا، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت، فأشفقت أن يكون قد لبس بي، فقالت‏:‏ أعيذك بالله، فرحلت بعيراً لها، وحملتني على الرحل، وركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي فقالت‏:‏ أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيت، فلم يرعها وقالت‏:‏ إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام‏.‏

ورواه أحمد من حديث بقية بن الوليد به‏.‏ وهكذا رواه عبد الله بن المبارك وغيره عن بقية بن الوليد به‏.‏

وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي داود الطيالسي، حدثنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي، أخبرني عمير بن عمر بن عروة بن الزبير قال‏:‏ سمعت عروة بن الزبير يحدث عن أبي ذر الغفاري قال‏:‏ قلت يا رسول الله كيف علمت أنك نبي حين علمت ذلك، واستيقنت أنك نبي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة، فوقع أحدهما على الأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ أهو هو‏؟‏

قال‏:‏ هو هو‏.‏

قال‏:‏ زنه برجل، فوزنني برجل فرجحته‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر تمامه، وذكر شق صدره وخياطته، وجعل الخاتم بين كتفيه، قال‏:‏ فما هو إلا أن وليا عني فكأنما أعاين الأمر معاينة‏.‏

ثم أورد ابن عساكر، عن أبي بن كعب بنحو ذلك‏.‏ ومن حديث شداد بن أوس بأبسط من ذلك‏.‏

وثبت في صحيح مسلم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، واستخرج منه علقة سوداء فقال‏:‏ هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طشت من ذهب بماء زمزم ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا‏:‏ إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون‏.‏

قال أنس‏:‏ وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره‏.‏

وقد رواه ابن عساكر من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد ربه بن سعيد، عن ثابت البناني، عن أنس‏:‏ أن الصلاة فرضت بالمدينة، وأن ملكين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبا به إلى زمزم، فشقا بطنه فأخرجا حشوته في طشت من ذهب فغسلاه بماء زمزم، ثم لبسا جوفه حكمة وعلماً‏.‏

ومن طريق ابن وهب أيضاً، عن يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عامر بن عتبة بن أبي وقاص، عن أنس قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال قال‏:‏ خذوا خيرهم وسيدهم، فأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمد به إلى زمزم، فشق جوفه ثم أتى بتور من ذهب فغسل جوفه ثم ملئ حكمة وإيماناً‏.‏

وثبت من رواية سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس وفي الصحيحين من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس، وعن الزهري، عن أنس، عن أبي ذر، وقتادة، عن أنس، وعن مالك بن صعصعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء‏.‏

كما سيأتي قصة شرح الصدر ليلتئذ، وإنه غسل بماء زمزم، ولا منافاة لاحتمال وقوع ذلك مرتين‏:‏ مرة وهو صغير، ومرة ليلة الإسراء، ليتأهب للوفود إلى الملأ الأعلى ولمناجاة الرب عز وجل، والمثول بين يديه تبارك وتعالى‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا أعربكم، أنا قرشي، واسترضعت في بني سعد بن بكر‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر ابن إسحاق أن حليمة لما أرجعته إلى أمه بعد فطامه، مرت به على ركب من النصارى فقاموا إليه عليه الصلاة والسلام فقلبوه، وقالوا‏:‏ إنا سنذهب بهذا الغلام إلى ملكنا فإنه كائن له شأن، فلم تكد تنفلت منهم إلا بعد جهد‏.‏ ‏

وذكر أنها لما ردته حين تخوفت عليه أن يكون أصابه عارض، فلما قربت من مكة افتقدته فلم تجده، فجاءت جده عبد المطلب فخرج هو وجماعة في طلبه فوجده ورقة بن نوفل، ورجل آخر من قريش فأتيا به جده، فأخذه على عاتقه، وذهب فطاف به يعوذه، ويدعو له، ثم رده إلى أمه آمنة‏.‏

وذكر الأموي من طريق عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي - وهو ضعيف - عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قصة مولده عليه الصلاة والسلام، ورضاعه من حليمة على غير سياق محمد بن إسحاق‏.‏

وذكر أن عبد المطلب أمر ابنه عبد الله أن يأخذه فيطوف به في أحياء العرب ليتخذ له مرضعة، فطاف حتى استأجر حليمة على رضاعه، وذكر أنه أقام عندها ست سنين، تزيره جده في كل عام، فلما كان من شق صدره عندهم ما كان، ردته إليهم فأقام عند أمه حتى كان عمره ثماني سنين ماتت، فكفله جده عبد المطلب فمات وله عليه الصلاة والسلام عشر سنين، فكفله عماه شقيقا أبيه‏:‏ الزبير، وأبو طالب‏.‏

فلما كان له بضع عشرة سنة خرج مع عمه الزبير إلى اليمن، فذكر أنهم رأوا منه آيات في تلك السفرة، منها أن فحلاً من الإبل كان قد قطع بعض الطريق في واد ممرهم عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم برك حتى حك بكلكله الأرض، فركبه عليه الصلاة والسلام‏.‏

ومنها أنه خاض بهم سيلاً عرماً فأيبسه الله تعالى حتى جاوزوه، ثم مات عمه الزبير وله أربع عشرة سنة، فانفرد به أبو طالب‏.‏

والمقصود أن بركته عليه الصلاة والسلام حلت على حليمة السعدية وأهلها وهو صغير، ثم عادت على هوازن بكمالهم، فواضله حين أسرهم بعد وقعتهم، وذلك بعد فتح مكة بشهر، فمتوا إليه برضاعه فأعتقهم وتحنن عليهم، وأحسن إليهم، كما سيأتي مفصلاً في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ في وقعة هوازن، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، فلما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك‏.‏

وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال‏:‏ يا رسول الله إن ما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، فلو أنا ملحنا ابن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك، رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت خير المكفولين ثم أنشد‏:‏ ‏

امنن علينا رسول الله في كرم * فإنك المرء نرجوه وندخر

امنن على بيضة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهرها غير

أبقت لنا الدهر هتافاً على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر

إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلماً حين يختبر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملؤه من محضها درر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر

لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر

إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر

وقد رويت هذه القصة من طريق عبيد الله بن رماحس الكلبي الرملي، عن زياد بن طارق الجشمي، عن أبي صرد زهير بن جرول - وكان رئيس قومه - قال‏:‏ لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فبينا هو يميز بين الرجال والنساء وثبت حتى قعدت بين يديه، وأسمعته شعراً أذكّره حين شب ونشأ في هوازن حيث أرضعوه‏:‏

امنن علينا رسول الله في دعة * فإنك المرء نرجوه وننتظر

امنن على بيضة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهرها غير

أبقت لنا الحرب هتافاً على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر

إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلماً حين يختبر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك تملؤه من محضها الدرر

إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر

لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر

إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر

فألبس العفو من قد كنت ترضعه * من أمهاتك إن العفو مشتهر

إنا نؤمل عفواً منك تلبسه * هذي البرية إذ تعفو وتنتصر

فاغفر عفا الله عما أنت راهبه * يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر

قال‏:‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت الأنصار‏:‏ وما كان لنا فهو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وسيأتي أنه عليه الصلاة والسلام أطلق لهم الذرية وكانت ستة آلاف ما بين صبي وامرأة، وأعطاهم أنعاماً وأناسي كثيراً‏.‏

حتى قال أبو الحسين ابن فارس‏:‏ فكان قيمة ما أطلق لهم يومئذ خمسمائة ألف ألف درهم، فهذا كله من بركته العاجلة في الدنيا، فكيف ببركته على من اتبعه في الدار الآخرة‏؟‏

 فصل ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة بعد رضاعة حليمة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ بعد ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة، بعد رضاعة حليمة له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب، وجده عبد المطلب في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتاً حسناً لما يريد به من كرامته، فلما بلغ ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم‏:‏ أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة توفيت وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة، كانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة‏.‏

وذكر الواقدي بأسانيده‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرجت به أمه إلى المدينة، ومعها أم أيمن وله ست سنين، فزارت أخواله‏.‏ قالت أم أيمن‏:‏ فجاءني ذات يوم رجلان من يهود المدينة، فقالا لي‏:‏ أخرجي إلينا أحمد ننظر إليه، فنظرا إليه وقلباه، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ هذا نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، وسيكون بها من القتل والسبي أمر عظيم، فلما سمعت أمه خافت وانصرفت به، فماتت بالأبواء وهي راجعة‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أيوب بن جابر، عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن بريدة، عن أبيه قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بودَّان قال‏:‏

‏(‏‏(‏مكانكم حتى آتيكم‏)‏‏)‏‏.‏

فانطلق ثم جاءنا وهو ثقيل، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني أتيت قبر أم محمد فسألت ربي الشفاعة - يعني لها - فمنعنيها، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام فكلوا وأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن الأشربة في هذه الأوعية فاشربوا ما بدا لكم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البيهقي‏:‏ من طريق سفيان الثوري، عن علقمة بن يزيد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال‏:‏

انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسم قبر، فجلس وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى فاستقبله عمر فقال‏:‏ ما يبكيك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى عليّ، وأدركتني رقتها فبكيت‏)‏‏)‏‏.‏

قال فما رؤيت ساعة أكثر باكياً من تلك الساعة‏.‏ تابعه محارب بن دثار، عن بريدة، عن أبيه‏.‏

ثم روى البيهقي‏:‏ عن الحاكم، عن الأصم، عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب‏:‏ حدثنا ابن جريج، عن أيوب بن هاني، عن مسروق بن الأجدع، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في المقابر وخرجنا معه، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فناجاه طويلاً، ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً، فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل علينا، فتلقاه عمر بن الخطاب فقال‏:‏ يا رسول الله ما الذي أبكاك لقد أبكانا وأفزعنا‏؟‏

فجاء فجلس إلينا فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أفزعكم بكائي‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب، و، إني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي، واستأذنت ربي في الاستغفار لها فلم يأذن لي فيه، ونزل علي‏:‏‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113-114‏]‏ فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذلك الذي أبكاني‏)‏‏)‏‏.‏

غريب ولم يخرجوه‏.‏

وروى مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن عبيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال‏:‏ زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال‏:‏

‏(‏‏(‏استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت‏)‏‏)‏‏.‏

وروى مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله أين أبي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏في النار‏)‏‏)‏‏.‏

فلما قفا دعاه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أبي وأباك في النار‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى البيهقي من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال‏:‏ جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن أبي كان يصل الرحم، وكان وكان فأين هو‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏في النار‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فكأن الأعرابي وجد من ذلك، فقال‏:‏ يا رسول الله أين أبوك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار‏)‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فأسلم الأعرابي بعد ذلك‏.‏

فقال لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعباً ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار‏.‏ غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد - هو ابن أبي أيوب - حدثنا ربيعة بن سيف المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ بينما نحن نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بامرأة لا يظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏ما أخرجك من بيتك يا فاطمة‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت‏:‏ أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم ميتهم وعزيتهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لعلك بلغت معهم الكدى‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ معاذ الله أن أكون بلغتها معهم، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك‏)‏‏)‏‏.‏

ثم رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والبيهقي من حديث ربيعة بن سيف بن مانع المعافري الصنمي الإسكندري‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ عنده مناكير‏.‏

وقال النسائي‏:‏ ليس به بأس‏.‏

وقال مرة‏:‏ صدوق‏.‏ وفي نسخة‏:‏ ضعيف‏.‏

وذكره ابن حبان في الثقات، وقال‏:‏ كان يخطئ كثيراً‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ صالح‏.‏

وقال ابن يونس في ‏(‏تاريخ مصر‏)‏ في حديثه مناكير‏.‏

توفي قريباً من سنة عشرين ومائة، والمراد بالكدى‏:‏ القبور، وقيل‏:‏ النوح‏.‏

والمقصود أن عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية، خلافاً لفرقة الشيعة فيه، وفي ابنه أبي طالب على ما سيأتي في وفاة أبي طالب‏.‏

وقد قال البيهقي بعد روايته هذه الأحاديث في كتابه ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ وكيف لا يكون أبواه وجده عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة في الآخرة، وقد كانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا ولم يدينوا دين عيسى بن مريم عليه السلام، وكفرهم لا يقدح في نسبه عليه الصلاة والسلام، لأن أنكحة الكفار صحيحة، ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم، فلا يلزمهم تجديد العقد ولا مفارقتهن، إذا كان مثله يجوز في الإسلام، وبالله التوفيق انتهى كلامه‏.‏

قلت‏:‏ وأخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار، لا ينافي الحديث الوارد عنه من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة، كما بسطناه سنداً ومتناً في تفسيرنا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏} ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب، فلا منافاة، ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏

وأما الحديث الذي ذكره السهيلي، وذكر أن في إسناده مجهولين إلى ابن أبي الزناد، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما وآمنا به، فإنه حديث منكر جداً، وإن كان ممكناً بالنظر إلى قدرة الله تعالى، لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه، والله أعلم‏.‏

 فصل كفالة عبد المطلب للنبي عليه الصلاة والسلام‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب بن هاشم - يعني بعد موت أمه آمنة بنت وهب - فكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له‏.‏

قال‏:‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم‏:‏ دعوا ابني فوالله إن له لشأناً، ثم يجلسه معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري‏.‏ وحدثنا عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله‏.‏ وحدثنا هاشم بن عاصم الأسلمي، عن المنذر بن جهم‏.‏ وحدثنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد‏.‏

وحدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن أبي الحويرث‏.‏ وحدثنا ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن نافع، عن ابن جبير - دخل حديث بعضهم في بعض - قالوا‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون مع أمه آمنة بنت وهب، فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب، وضمه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه منه ويدنيه، ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام، وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك‏:‏ دعوا ابني إنه يؤسس ملكاً‏.‏

وقال قوم من بني مدلج لعبد المطلب‏:‏ احتفظ به، فإنا لم نر قدماً أشبه بالقدم الذي في المقام منه‏.‏ فقال عبد المطلب لأبي طالب‏:‏ اسمع ما يقول هؤلاء، فكان أبو طالب يحتفظ به‏.‏

وقال عبد المطلب لأم أيمن - وكانت تحضنه - يا بركة لا تغفلي عن ابني، فإني وجدته مع غلمان قريب من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة، وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلا يقول‏:‏ علي بابني فيؤتى به إليه‏.‏

فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياطته، ثم مات عبد المطلب ودفن بالحجون‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان سنين هلك جده عبد المطلب بن هاشم‏.‏ ‏‏

ثم ذكر جمعه بناته وأمره إياهن أن يرثينه، وهن‏:‏ أروى، وأميمة، وبرة، وصفية، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء، وذكر أشعارهن، وما قلن في رثاء أبيهن وهو يسمع قبل موته‏.‏ وهذا أبلغ النوح، وبسط القول في ذلك‏.‏ وقد قال ابن هشام‏:‏ ولم أر أحداً من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولي السقاية وزمزم بعده ابنه العباس، وهو من أحدث إخوته سناً، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام، وأقرها في يده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده عبد المطلب مع عمه أبي طالب، لوصية عبد المطلب له به، ولأنه كان شقيق أبيه عبد الله، أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم‏.‏

قال‏:‏ فكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده، وكان إليه ومعه‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ أخبرنا معمر، عن ابن نجيح، عن مجاهد‏.‏ وحدثنا معاذ بن محمد الأنصاري، عن عطاء، عن ابن عباس‏.‏ وحدثنا محمد بن صالح، وعبد الله بن جعفر، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة - دخل حديث بعضهم في حديث بعض -

قالوا‏:‏ لما توفي عبد المطلب قبض أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكون معه، وكان أبو طالب لا مال له، وكان يحبه حباً شديداً، لا يحبه ولده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه، وصب به أبو طالب صبابة لم يصب مثلها بشيء قط، وكان يخصه بالطعام، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعاً أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا‏.‏

فكان إذا أراد أن يغديهم قال‏:‏ كما أنتم حتى يأتي ولدي، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم، فكانوا يفضلون من طعامهم، وإن لم يكن منهم لم يشبعوا، فيقول أبو طالب‏:‏ إنك لمبارك، وكان الصبيان يصبحون رمصاً شعثاً، ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهيناً كحيلاً‏.‏

وقال الحسن بن عرفة‏:‏ حدثنا علي بن ثابت، عن طلحة بن عمرو، سمعت عطاء بن أبي رباح، سمعت ابن عباس يقول‏:‏ كان بنو أبي طالب يصبحون رمصاً عمصاً، ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صقيلاً دهيناً، وكان أبو طالب يقرب إلى الصبيان صفحتهم أول البكرة، فيجلسون وينتهبون، ويكف رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فلا ينتهب معهم، فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه حدثه، أن رجلاً من لهب كان عائفاً، فكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم‏.‏

قال‏:‏ فأتي أبو طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام مع من يأتيه، قال‏:‏ فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم شغله عنه شيء، فلما فرغ قال‏:‏ الغلام عليَّ به‏.‏

فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه، فجعل يقول‏:‏ ويلكم ردوا على الغلام الذي رأيته آنفاً، فوالله ليكونن له شأن‏.‏ قال وانطلق به أبو طالب‏.‏

 فصل في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه بي طالب إلى الشام‏.‏

في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى الشام وقصته مع بحيرى الراهب‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجراً إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يزعمون - فرق له أبو طالب وقال‏:‏ والله لأخرجن به معي ولا أفارقه ولا يفارقني أبداً - كما قال - فخرج به، فلما نزل الركب بصري من أرض الشام وبها راهب يقال له‏:‏ بحيرى في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب فيها إليه يصير علمهم عن كتاب فيما يزعمون، يتوارثونه كابراً عن كابر‏.‏

فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى - وكانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم - حتى كان ذلك العام فلما نزلوا قريباً من صومعته، صنع لهم طعاماً كثيراً، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حتى أقبل وغمامة تظلله من بين القوم‏.‏

ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريباً منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، وقد أمر بطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال‏:‏ إني صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم كبيركم، وصغيركم، وعبدكم، وحركم‏.‏

فقال له رجل منهم‏:‏ والله يا بحيرى إن لك لشأناً اليوم ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيراً فما شأنك اليوم‏؟‏

قال له بحيرى‏:‏ صدقت، قد كان ما تقول ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاماً فتأكلون منه كلكم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة‏.‏

فلما رآهم بحيرى لم ير الصفة التي يعرف ويجده عنده، فقال‏:‏ يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي‏.‏

قالوا‏:‏ يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدثنا سناً فتخلف في رحالنا‏.‏

قال‏:‏ لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم‏.‏

قال‏:‏ فقال رجل من قريش مع القوم واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا‏.‏ ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم‏.‏

فلما رأى بحيرى جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى وقال له يا غلام‏:‏ أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ لا تسألني باللات والعزى شيئاً، فوالله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما‏.‏

فقال له بحيرى‏:‏ فبالله ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه‏.‏ فقال له‏:‏ سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه، وهيئته، وأموره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته‏.‏

ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له‏:‏ ما هذا الغلام منك‏؟‏ قال‏:‏ ابني‏.‏ قال بحيرى‏:‏ ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً‏.‏ قال‏:‏ فإنه ابن أخي‏.‏ قال‏:‏ فما فعل أبوه‏؟‏ قال‏:‏ مات وأمه حبلى به‏.‏

قال‏:‏ صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده‏.‏ فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فزعموا فيما روى الناس أن زريراً وثماماً ودريسماً - وهم نفر من أهل الكتاب - قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما رأى بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب، فأرادوه فردهم عنه بحيرى‏.‏

فذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه‏.‏

وقد ذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن أبا طالب قال في ذلك ثلاث قصائد‏.‏ هكذا ذكر ابن إسحاق هذا السياق من غير إسناد منه‏.‏ وقد ورد نحوه من طريق مسند مرفوع‏.‏

فقال الحافظ أبو بكر الخرائطي‏:‏ حدثنا عباس بن محمد الدوري، حدثنا قراد أبو نوح، حدثنا يونس عن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه قال‏:‏

خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب - يعني بحيرى - هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج ولا يلتفت إليهم، قال‏:‏ فنزل وهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هذا سيد العالمين‏.‏

وفي رواية البيهقي زيادة‏:‏ هذا رسول رب العالمين، بعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش‏:‏ وما علمك‏؟‏ فقال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به -وكان هو في رعية الإبل - فقال‏:‏ أرسلوا إليه‏.‏

فأقبل وغمامة عليه تظله، فلما دنا من القوم قال‏:‏ انظروا إليه عليه غمامة، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه قال‏:‏ انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، قال‏:‏ فبينما هو قائم عليهم وهو ينشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه‏.‏ فالتفت فإذا هو بسبعة نفر من الروم قد أقبلوا‏.‏

قال‏:‏ فاستقبلهم، فقال‏:‏ ما جاء بكم‏؟‏ قالوا‏:‏ جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس، وإنا أخبرنا خبره فبعثنا إلى طريقك هذه‏.‏ قال لهم‏:‏ فهل خلفكم أحد هو خير منكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، إنما أخبرناه خبره إلى طريقك هذه‏.‏ قال‏:‏ أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فبايعوه، وأقاموا معه عنده‏.‏

قال‏:‏ فقال الراهب‏:‏ أنشدكم الله أيكم وليه‏؟‏ قالوا‏:‏ أبو طالب فلم يزل يناشده حتى رده، وبعث معه أبو بكر بلالاً، وزوده الراهب من الكعك والزيت‏.‏

هكذا رواه الترمذي عن أبي العباس الفضل بن سهل الأعرج عن قراد أبي نوح به‏.‏ والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر، من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم، عن عباس بن محمد الدوري به‏.‏

وهكذا رواه غير واحد من الحفاظ من حديث أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي مولاهم، ويقال له‏:‏ الضبي، ويعرف بقراد، سكن بغداد وهو من الثقات الذين أخرج لهم البخاري، ووثقه جماعة من الأئمة والحفاظ، ولم أر أحداً جرحه، ومع هذا في حديثه هذا غرابة‏.‏ ‏

قال الترمذي‏:‏ حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏ وقال عباس الدوري‏:‏ ليس في الدنيا أحد يحدث به غير قراد أبي نوح، وقد سمعه منه أحمد بن حنبل رحمه الله، ويحيى بن معين لغرابته وانفراده، حكاه البيهقي وابن عساكر‏.‏

قلت‏:‏ فيه من الغرائب أنه من مرسلات الصحابة، فإن أبا موسى الأشعري إنما قدم في سنة خيبر سنة سبع من الهجرة، ولا يلتفت إلى قول ابن إسحاق في جعله له من المهاجرة إلى أرض الحبشة من مكة، وعلى كل تقدير فهو مرسل‏.‏

فإن هذه القصة كانت ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر فيما ذكره بعضهم ثنتا عشرة سنة، ولعل أبا موسى تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون أبلغ، أو من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم، أو كان هذا مشهوراً مذكوراً أخذه من طريق الاستفاضة‏.‏

الثاني‏:‏ أن الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا‏.‏

الثالث‏:‏ أن قوله وبعث معه أبو بكر بلالاً، إن كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك ثنتي عشرة سنة، فقد كان عمر أبي بكر إذ ذاك تسع سنين أو عشرة، وعمر بلال أقل من ذلك، فأين كان أبو بكر إذ ذاك‏؟‏ ثم أين كان بلال‏؟‏ كلاهما غريب، اللهم إلا أن يقال إن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم كبيراً‏.‏

إما بأن يكون سفره بعد هذا، أو إن كان القول بأن عمره كان إذ ذاك ثنتي عشرة سنة غير محفوظ، فإنه إنما ذكره مقيداً بهذا الواقدي‏.‏

وحكى السهيلي عن بعضهم أنه كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك تسع سنين، والله أعلم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ حدثني محمد بن صالح، وعبد الله بن جعفر، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين قالوا‏:‏ لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة، خرج به عمه أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة، ونزلوا بالراهب بحيرى، فقال لأبي طالب بالسر ما قال، وأمره أن يحتفظ به، فرده معه أبو طالب إلى مكة‏.‏

وشبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب يكلؤه الله عز وجل، ويحفظه، ويحوطه من أمور الجاهلية ومعائبها، لما يريد به من كرامته حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً وأمانة، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم من الفحش والأذى، ما رؤي ملاحياً ولا ممارياً أحداً، حتى سماه قومه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة، فكان أبو طالب يحفظه، ويحوطه، وينصره، ويعضده حتى مات‏.‏ ‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أخبرنا خالد بن معدان، حدثنا معتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز أن عبد المطلب - أو أبا طالب شك خالد - قال‏:‏ لما مات عبد الله عطف على محمد، فكان لا يسافر سفراً إلا كان معه فيه، وإنه توجه نحو الشام فنزل منزلاً فأتاه فيه راهب، فقال‏:‏ إن فيكم رجلاً صالحاً‏.‏

ثم قال‏:‏ أين أبو هذا الغلام‏؟‏ قال‏:‏ فقال ها أنا ذا وليه - أو قيل هذا وليه - قال‏:‏ احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود حسَّد، وإني أخشاهم عليه‏.‏ قال‏:‏ ما أنت تقول ذلك، ولكن الله يقوله فرده، وقال‏:‏ اللهم إني أستودعك محمداً، ثم إنه مات‏.‏

قصة بحيرا

حكى السهيلي عن سير الزهري أن بحيرى كان حبراً من أحبار اليهود‏.‏

قلت‏:‏ والذي يظهر من سياق القصة أنه كان راهباً نصرانياً، والله أعلم‏.‏

وعن المسعودي أنه كان من عبد القيس، وكان اسمه جرجيس‏.‏ وفي كتاب ‏(‏المعارف‏)‏ لابن قتيبة‏:‏ سمع هاتف في الجاهلية قبل الإسلام بقليل يهتف ويقول‏:‏ ألا إن خير أهل الأرض ثلاثة‏:‏ بحيرى، ورئاب بن البراء الشني، والثالث المنتظر‏.‏ وكان الثالث المنتظر هو الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ وكان قبر رئاب الشني وقبر ولده من بعده لا يزال يرى عندهما طش، وهو المطر الخفيف‏.‏

 فصل في منشئه ومرباه عليه الصلاة والسلام‏.‏

في منشئه عليه الصلاة والسلام ومرباه وكفاية الله له وحياطته وكيف كان يتيماً فآواه وعائلاً فأغناه‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم حسباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزهاً وتكرماً، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته، أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب الغلمان كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال‏:‏ شدَّ عليه إزارك‏.‏

قال‏:‏ فأخذته فشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي‏)‏‏)‏‏.‏

وهذه القصة شبيهة بما في ‏(‏الصحيح‏)‏ عند بناء الكعبة، حين كان ينقل هو وعمه العباس، فإن لم تكنها فهي متقدمة عليها كالتوطئة لها والله أعلم‏.‏

قال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول‏:‏ لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة، فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة ففعل، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء‏.‏

ثم قام فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إزاري‏)‏‏)‏‏.‏

فشد عليه إزاره‏.‏

أخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث عبد الرزاق‏.‏

وأخرجاه أيضاً‏:‏ من حديث روح بن عبادة عن زكرياء بن أبي إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن جابر بنحوه‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا‏:‏ أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني، حدثنا محمد بن بكير الحضرمي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عكرمة، حدثني ابن عباس، عن أبيه‏:‏ أنه كان ينقل الحجارة إلى البيت، حين بنت قريش البيت‏.‏

قال‏:‏ وأفردت قريش رجلين رجلين، الرجال ينقلون الحجارة، وكانت النساء تنقل الشيد، قال‏:‏ فكنت أنا وابن أخي، وكنا نحمل على رقابنا، وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس أئتزرنا، فبينما أنا أمشي ومحمد أمامي، قال‏:‏ فخر وانبطح على وجهه، فجئت أسعى وألقيت حجري، وهو ينظر إلى السماء فقلت‏:‏، ما شأنك‏؟‏ فقام وأخذ إزاره قال‏:‏

‏(‏‏(‏إني نهيت أن أمشي عرياناً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وكنت أكتمها من الناس مخافة أن يقولوا مجنون‏.‏

وروى البيهقي من حديث يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏

‏(‏‏(‏ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما، قلت‏:‏ ليلة لبعض فتيان مكة - ونحن في رعاء غنم أهلها - فقلت لصاحبي‏:‏ أبصر لي غنمي، حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان، فقال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفاً بالغرابيل والمزامير، فقلت‏:‏ ما هذا‏؟‏

قالوا‏:‏ تزوج فلان فلانة‏.‏

فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال‏:‏ ما فعلت‏؟‏

فقلت‏:‏ ما فعلت شيئاً، ثم أخبرته بالذي رأيت‏.‏

ثم قلت له ليلة أخرى‏:‏ أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة ففعل، فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت‏:‏ فقيل نكح فلان فلانة فجلست أنظر، وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي‏.‏

فقال‏:‏ ما فعلت‏؟‏

فقلت‏:‏ لا شيء، ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا حديث غريب جداً، وقد يكون عن علي نفسه، ويكون قوله في آخره‏:‏

‏(‏‏(‏حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته‏)‏‏)‏ مقحماً، والله أعلم‏.‏

وشيخ ابن إسحاق هذا، ذكره ابن حبان في الثقات، وزعم بعضهم أنه من رجال الصحيح‏.‏ قال شيخنا في تهذيبه‏:‏ ولم أقف على ذلك، والله أعلم‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ حدثني أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن زيد بن حارثة قال‏:‏

كان صنم من نحاس، يقال له‏:‏ أساف ونائلة، يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تمسه‏)‏‏)‏‏.‏

قال زيد‏:‏ فطفنا، فقلت في نفسي لأمسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألم تنه‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ زاد غيره عن محمد بن عمرو بإسناده، قال زيد‏:‏ فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنماً قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه، وأنزل عليه‏.‏

وتقدم قوله عليه الصلاة والسلام لبحيرى حين سأله باللات والعزى‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئاً بغضهما‏)‏‏)‏

فأما الحديث الذي قاله الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو سعد الماليني، أنبأنا أبو أحمد ابن عدي الحافظ، حدثنا إبراهيم بن أسباط، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن سفيان الثوري، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال‏:‏ ‏

كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم قال‏:‏ فسمع ملكين خلفه، وأحدهما يقول لصاحبه‏:‏ اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الأصنام‏؟‏

قال‏:‏ فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم‏.‏

فهو حديث أنكره غير واحد من الأئمة على عثمان بن أبي شيبة، حتى قال الإمام أحمد فيه‏:‏ لم يكن أخوه يتلفظ بشيء من هذا‏.‏

وقد حكى البيهقي عن بعضهم أن معناه‏:‏ أنه شهد مع من يستلم الأصنام، وذلك قبل أن يوحى إليه، والله أعلم‏.‏

وقد تقدم في حديث زيد بن حارثة أنه اعتزل شهود مشاهد المشركين حتى أكرمه الله برسالته‏.‏ وثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة، بل كان يقف مع الناس بعرفات، كما قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عثمان بن أبي سليمان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه جبير قال‏:‏

لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على دين قومه، وهو يقف على بعير له بعرفات من بين قومه، حتى يدفع معهم توفيقاً من الله عز وجل له‏.‏

قال البيهقي‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏على دين قومه‏)‏ ما كان بقي من إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في حجهم و مناكحهم و بيوعهم دون الشرك، ولم يشرك بالله قط صلوات الله وسلامه عليه دائماً‏.‏

قلت‏:‏ ويفهم من قوله هذا أيضاً أنه كان يقف بعرفات قبل أن يوحى إليه‏.‏ وهذا توفيق من الله له‏.‏

ورواه الإمام أحمد عن يعقوب، عن محمد بن إسحاق به، ولفظه‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه، وإنه لواقف على بعير له مع الناس بعرفات، حتى يدفع معهم توفيقاً من الله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان عن عمرو، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال‏:‏ أضللت بعيراً لي بعرفة، فذهبت أطلبه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف فقلت‏:‏ إن هذا من الحمس ما شأنه ههنا‏؟‏ وأخرجاه من حديث سفيان بن عيينة به‏.‏ ‏

 

 شهوده عليه الصلاة والسلام حرب الفجار

قال ابن إسحاق‏:‏ هاجت حرب الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وإنما سمي يوم الفجار بما استحل فيه هذان الحيان - كنانة وقيس عيلان - من المحارم بينهم‏.‏

وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة - أو خمس عشرة سنة - فيما حدثني به أبو عبيدة النحوي، عن أبي عمرو بن العلاء‏:‏ هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة، وبين قيس عيلان، وكان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أجاز لطيمة - أي تجارة - للنعمان بن المنذر‏.‏

فقال له البراض بن قيس - أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة -‏:‏ أتجيزها على كنانة‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وعلى الخلق‏.‏ فخرج فيها عروة الرحال، وخرج البراض يطلب غفلته، حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية، غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام، فلذلك سمي الفجار‏.‏

وقال البراض في ذلك‏:‏

وداهية تهم الناس قبلي * شددت لها بني بكر ضلوعي

هدمت بها بيوت بني كلاب * وأرضعت الموالي بالضروع

رفعت له بذي طلال كفي * فخر يميد كالجذع الصريع

وقال لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب‏:‏

وأبلغ - إن عرضت - بني كلاب * وعامر والخطوب لها موالي

وأبلغ - إن عرضت - بني نمير * وأخوال القتيل بني هلال

بأن الوافد الرحال أمسى * مقيماً عند تيمن ذي طلال

قال ابن هشام‏:‏ فأتى آت قريشاً، فقال‏:‏ إن البراض قد قتل عروة، وهو في الشهر الحرام بعكاظ، فارتحلوا وهوازن لا تشعر بهم، ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل، فدخلوا الحرم فأمسكت هوازن عنهم، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياماً، والقوم متساندون على كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم، وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم‏.‏

قال‏:‏ وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كنت أنبل على أعمامي‏)‏‏)‏ أي‏:‏ أرد عليهم نبل عدوهم، إذا رموهم بها‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وحديث الفجار طويل، هو أطول مما ذكرت، وإنما منعني من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ والفجار بكسر الفاء، على وزن‏:‏ قتال، وكانت الفجارات في العرب أربعة، ذكرهن المسعودي، وآخرهن فجار البرض هذا‏.‏ وكان القتال فيه في أربعة أيام‏:‏ يوم شمطة، ويوم العبلاء، وهما عند عكاظ، ويوم الشرب - وهو أعظمها يوماً - وهو الذي حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه قيدا رئيس قريش وبني كنانة‏:‏ وهما حرب بن أمية، وأخوه سفيان أنفسهما لئلا يفروا‏.‏

وانهزمت يومئذ قيس إلا بني نضر، فإنهم ثبتوا، ويوم الحريرة عند نخلة، ثم تواعدوا من العام المقبل إلى عكاظ، فلما توافوا الموعد، ركب عتبة بن ربيعة جمله ونادى‏:‏ يا معشر مضر علام تقاتلون‏؟‏ فقالت له هوازن‏:‏ ما تدعو إليه‏؟‏ قال‏:‏ الصلح‏.‏ قالوا‏:‏ وكيف‏؟‏ قال‏:‏ ندي قتلاكم، ونرهنكم رهائن عليها، ونعفو عن دياتنا‏.‏

قالوا‏:‏ ومن لنا بذلك‏؟‏ قال‏:‏ أنا‏.‏ قالوا‏:‏ ومن أنت‏؟‏ قال‏:‏ عتبة بن ربيعة، فوقع الصلح على ذلك، وبعثوا إليهم أربعين رجلاً فيهم حكيم بن حزام، فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم، عفوا عن دياتهم وانقضت حرب الفجار‏.‏

وقد ذكر الأموي حروب الفجار، وأيامها، واستقصاها مطولاً، فيما رواه عن الأثرم - وهو المغيرة بن علي - عن أبي عبيدة معمر بن المثنى فذكر ذلك‏.‏

 فصل شهود رسول الله عليه الصلاة والسلام حلف المطيبين مع عمومته‏.‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو سعد الماليني، أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، حدثنا يحيى بن علي بن هاشم الخفاف، حدثنا أبو عبد الرحمن الأزدي، حدثنا إسماعيل بن علية، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف قال‏:‏ ‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏شهدت مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن أنكثه - أو كلمة نحوها - وإن لي حمر النعم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وكذلك رواه بشر بن المفضل عن عبد الرحمن‏.‏

قال‏:‏ وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، حدثنا أبو عمرو ابن مطر، حدثنا أبو بكر ابن أحمد بن داود السمناني، حدثنا معلى بن مهدي، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما شهدت حلفاً لقريش إلا حلف المطيبين وما أحب أن لي حمر النعم وأني كنت نقضته‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ والمطيبون‏:‏ هاشم، وأمية، وزهرة، ومخزوم‏.‏

قال البيهقي‏:‏ كذا روى هذا التفسير مدرجاً في الحديث، ولا أدري قائله، وزعم بعض أهل السير أنه أراد حلف الفضول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين‏.‏

قلت‏:‏ هذا لا شك فيه، وذلك أن قريشاً تحالفوا بعد موت قصي، وتنازعوا في الذي كان جعله قصي لابنه عبد الدار من السقاية، والرفادة، واللواء، والندوة، والحجابة، ونازعهم فيه بنو عبد مناف، وقامت مع كل طائفة قبائل من قريش وتحالفوا على النصرة لحزبهم، فأحضر أصحاب بني عبد مناف جفنة فيها طيب فوضعوا أيديهم فيها وتحالفوا، فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان البيت، فسموا المطيبين كما تقدم‏.‏

وكان هذا قديماً، ولكن المراد بهذا الحلف حلف الفضول، وكان في دار عبد الله بن جدعان، كما رواه الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله، عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها، وألا يعد ظالم مظلوما‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وكان حلف الفضول قبل المبعث بعشرين سنة في شهر ذي القعدة، وكان بعد حرب الفجار بأربعة أشهر، وذلك لأن الفجار كان في شعبان من هذه السنة، وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به، وأشرفه في العرب، وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب‏.‏

وكان سببه أن رجلاً من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار، ومخزوماً، وجمحاً، وسهماً، وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وزبروه أي‏:‏ انتهروه‏.‏

فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس -وقريش في أنديتهم حول الكعبة - فنادى بأعلى صوته‏:‏

يا آل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الدار والنفر

ومحرم أشعث لم يقض عمرته * يا للرجال وبين الحجر والحجر

إن الحرام لمن أثت كرامته * ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال‏:‏ ما لهذا متروك‏؟‏ فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاماً وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يداً واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يؤدي إليه حقه، ما بل بحر صوفة، وما رسى ثبير وحراء مكنهما، وعلى التأسي في المعاش‏.‏

فسمت قريش ذلك الحلف‏:‏ حلف الفضول، وقالوا‏:‏ لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه‏.‏

وقال الزبير بن عبد المطلب في ذلك‏:‏

حلفت لنعقدن حلفاً عليهم * وإن كنا جميعاً أهل دار

نسميه الفضول إذا عقدنا * يعزبه الغريب لذي الجوار

ويعلم من حوالي البيت أنا * أباة الضيم نمنع كل عار

وقال الزبير أيضاً‏:‏

إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا * ألا يقيم ببطن مكة ظالم

أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا * فالجار والمعتر فيهم سالم

وذكر قاسم بن ثابت في - غريب الحديث - أن رجلاً من خثعم قدم مكة حاجاً - أو معتمراً - ومعه ابنة له يقال لها القتول من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه‏.‏

فقال الخثعمي‏:‏ من يعديني على هذا الرجل‏؟‏ ‏

فقيل له‏:‏ عليك بحلف الفضول‏.‏

فوقف عند الكعبة ونادى‏:‏ يا آل حلف الفضول، فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب، وقد انتضوا أسيافهم، يقولون‏:‏ جاءك الغوث فما لك‏؟‏

فقال‏:‏ إن نبيهاً ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسراً، فساروا معه حتى وقفوا على باب داره، فخرج إليهم فقالوا له‏:‏ أخرج الجارية ويحك فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه، فقال‏:‏ أفعل ولكن متعوني بها الليلة‏.‏ فقالوا‏:‏ لا والله ولا شخب لقحة، فأخرجها إليهم وهو يقول‏:‏

راح صحبي ولم أحيي القتولا * لم أودعهم وداعاً جميلا

إذ أجد الفضول أن يمنعوها * قد أراني ولا أخاف الفضولا

لا تخالي أني عشية راح الركب * هنتم علي أن لا يزولا

وذكر أبياتاً أخر غير هذه، وقد قيل‏:‏ إنما سمي هذا حلف الفضول لأنه أشبه حلفاً تحالفته جرهم على مثل هذا من نصر المظلوم على ظالمه، وكان الداعي إليه ثلاثة من أشرافهم، اسم كل واحد منهم فضل، وهم‏:‏ الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحارث، هذا قول ابن قتيبة‏.‏

وقال غيره‏:‏ الفضل بن شراعة، والفضل بن بضاعة، والفضل بن قضاعة‏.‏ وقد أورد السهيلي هذا رحمه الله‏.‏

وقال محمد بن إسحاق بن يسار‏:‏ وتداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكان حلفهم عنده بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، وبنو أسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها، وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى يرد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعي به في الإسلام لأجبت‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه‏:‏ أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - والوليد يومئذ أمير المدنية أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان - منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ احلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون بحلف الفضول‏.‏

قال‏:‏ فقال عبد الله بن الزبير - وهو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال - وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه، أو نموت جميعاً‏.‏

قال‏:‏ وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك‏.‏ فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي‏.‏

 تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة بنت خويلد

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال على مالها مضاربة، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج لها في مال تاجراً إلى الشام، وتعطيه أفضل ما تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة‏.‏

فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى نزل الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان، فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال‏:‏ من هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة‏؟‏ فقال ميسرة‏:‏ هذا رجل من قريش من أهل الحرم‏.‏

فقال له الراهب‏:‏ ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي‏.‏ ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته - يعني تجارته - التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلاً إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به، فأضعف أو قريباً‏.‏

وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من إظلال الملائكة إياه، وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامتها، فلما أخبرها ميسرة ما أخبرها، بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له - فيما يزعمون - يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت نفسها عليه، وكانت أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالاً، كل قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه‏.‏

فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها عليه الصلاة والسلام‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ فأصدقها عشرين بكرة، وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولده كلهم إلا إبراهيم‏:‏ القاسم - وكان به يكنى - والطيب، والطاهر، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ أكبرهم القاسم، ثم الطيب، ثم الطاهر‏.‏

وأكبر بناته‏:‏ رقية، ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة‏.‏

قال البيهقي، عن الحاكم‏:‏ قرأت بخط أبي بكر بن أبي خيثمة، حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال‏:‏ أكبر ولده عليه الصلاة والسلام‏:‏ القاسم، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية‏.‏ وكان أول من مات من ولده القاسم مات بمكة، ثم عبد الله‏.‏

وبلغت خديجة خمساً وستين سنة، ويقال خمسين وهو أصح‏.‏

وقال غيره‏:‏ بلغ القاسم أن يركب الدابة والنجيبة، ثم مات بعد النبوة، وقيل مات وهو رضيع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن له مرضعاً في الجنة يستكمل رضاعه‏)‏‏)‏‏.‏

والمعروف أن هذا في حق إبراهيم‏.‏

وقال يونس بن بكير‏:‏ حدثنا إبراهيم بن عثمان، عن القاسم، عن ابن عباس قال‏:‏ ولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين وأربع نسوة‏:‏ القاسم، وعبد الله، وفاطمة، وأم كلثوم، وزينب، ورقية‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ عبد الله هو الطيب، وهو الطاهر، سمي بذلك لأنه ولد بعد النبوة، فماتوا قبل البعثة‏.‏

وأما بناته فأدركن البعثة ودخلن في الإسلام، وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وأما إبراهيم فمن مارية القبطية، التي أهداها له المقوقس صاحب إسكندرية من كورة أنصنا، وسنتكلم على أزواجه وأولاده عليه الصلاة والسلام في باب مفرد لذلك، في آخر السيرة إن شاء الله تعالى وبه الثقة‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وكان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمساً وعشرين سنة، فيما حدثني غير واحد من أهل العلم منهم‏:‏ أبو عمرو المدني‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان كتبت عن إبراهيم بن المنذر حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، حدثني غير واحد‏:‏ أن عمرو بن أسد زوج خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره خمساً وعشرين سنة، وقريش تبني الكعبة‏.‏

وهكذا نقل البيهقي عن الحاكم‏:‏ أنه كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمساً وعشرين سنة، وكان عمرها إذ ذاك خمساً وثلاثين، وقيل‏:‏ خمساً وعشرين سنة‏.‏

وقال البيهقي‏:‏

 باب ما كان يشتغل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن عبد الله، أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا عمرو بن أبي يحيى بن سعيد القرشي، عن جده سعيد، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏ما بعث الله نبياً إلا راعي غنم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له أصحابه‏:‏ وأنت يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط‏)‏‏)‏‏.‏

رواه البخاري عن أحمد بن محمد المكي، عن عمرو بن يحيى به‏.‏

ثم روى البيهقي من طريق الربيع بن بدر - وهو ضعيف - عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص‏)‏‏)‏‏.‏

وروى البيهقي من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس‏:‏ أن أبا خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو - أظنه - قال‏:‏ سكران‏.‏

ثم قال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو الحسين ابن الفضل القطان، أنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان قال‏:‏ حدثني إبراهيم بن المنذر، حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، حدثني عبد الله بن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، عن مقسم بن أبي القاسم - مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل - أن عبد الله بن الحارث حدثه‏:‏

أن عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وما يكثرون فيه يقول‏:‏ أنا أعلم الناس بتزويجه إياها، إني كنت له ترباً، وكنت له إلفاً وخدناً‏.‏

وإني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتى إذا كنا بالحزورة، أجزنا على أخت خديجة وهي جالسة على أدم تبيعها فنادتني، فانصرفت إليها، ووقف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة‏.‏

قال عمار‏:‏ فرجعت إليه فأخبرته، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل لعمري‏)‏‏)‏‏.‏

فذكرت لها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ اغدوا علينا إذا أصبحنا، فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، وألبسوا أبا خديجة حلة وصفرت لحيته، وكلمت أخاها، فكلم أباه، وقد سقى خمراً، فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه، وسألته أن يزوجه فزوجه خديجة، وصنعوا من البقرة طعاماً فأكلنا منه‏.‏

ونام أبوها ثم استيقظ صاحياً فقال‏:‏ ما هذه الحلة‏؟‏ وما هذه الصفرة وهذا الطعام‏؟‏

فقالت له ابنته التي كانت قد كلمت عماراً‏:‏ هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك، وبقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة، فأنكر أن يكون زوجه، وخرج يصيح حتى جاء الحجر، وخرج بنو هاشم برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاؤه فكلموه‏.‏

فقال‏:‏ أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة‏؟‏ فبرز له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليه قال‏:‏ إن كنت زوجته فسبيل ذاك، وإن لم أكن فعلت فقد زوجته‏.‏

وقد ذكر الزهري في سيره أن أباها زوجها منه وهو سكران، وذكر نحو ما تقدم، حكاه السهيلي‏.‏

قال المؤملي‏:‏ المجتمع عليه أن عمها عمرو بن أسد هو الذي زوجها منه، وهذا هو الذي رجحه السهيلي، وحكاه عن ابن عباس وعائشة قالت‏:‏ ‏

وكان خويلد مات قبل الفجار، وهو الذي نازع تبعاً حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن، فقام في ذلك خويلد وقام معه جماعة من قريش، ثم رأى تبع في منامه ما روعه، فنزع عن ذلك وترك الحجر الأسود مكانه‏.‏

وذكر ابن إسحاق في آخر السيرة‏:‏ أن أخاها عمرو بن خويلد هو الذي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله أعلم‏.‏

 فصل ذكر خديجة لورقة بن نوفل عن النبي عليه الصلاة والسلام‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كانت خديجة بنت خويلد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي - وكان ابن عمها وكان نصرانياً قد تتبع الكتب، وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها من قول الراهب، وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه - فقال ورقة‏:‏ لئن كان هذا حقاً يا خديجة، إن محمداً لنبي هذه الأمة قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه - أو كما قال - فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول‏:‏ حتى متى‏؟‏ وقال في ذلك‏:‏

لججت وكنت في الذكرى لجوجا * لهمٍّ طالما ما بعث النشيجا

ووصف من خديجة بعد وصف * فقد طال انتظاري يا خديجا

ببطن المكتين على رجائي * حديثك أن أرى منه خروجا

بما خبرتنا من قول قس * من الرهبان أكر أن يعوجا

بأن محمدا سيسود قوما * ويخصم من يكون له حجيجا

ويظهر في البلاد ضياء نور * يقوم به البرية أن تموجا

فيلقى من يحاربه خسارا * ويلقى من يسالمه فلوجا

فيا ليتني إذا ما كان ذاكم * شهدت وكنت أولهم ولوجا

وَلوجاً في الذي كرهت قريش * ولو عجت بمكتها عجيجا

أرجي بالذي كرهوا جميعاً * إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا

وهل أمر السفالة غير كفر * بمن يختار من سمك البروجا

فإن يبقوا وأبق يكن أمور * يضج الكافرون لها ضجيجا

وإن أهلك فكل فتى سيلقى * من الأقدار متلفة خروجا

وقال ورقة أيضاً فيما رواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق عنه‏:‏

أتبكر أم أنت العشية رائح * وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح

لفرقة قوم لا أحب فراقهم * كأنك عنهم بعد يومين نازح

وأخبار صدق خبرت عن محمد * يخبرها عنه إذا غاب ناصح

أتاك الذي وجهت يا خير حرة * بغور وبالنجدين حيث الصحاصح

إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت * وهن من الأحمال تعص دوالح

فيخبرنا عن كل خير بعلمه * وللحق أبواب لهن مفاتح

بأن ابن عبد الله أحمد مرسل * إلى كل من ضمت عليه الأباطح

وظني به أن سوف يبعث صادقا * كما أرسل العبدان هود وصالح

وموسى وإبراهيم حتى يرى له * بهاء ومنشور من الذكر واضح

ويتبعه حيا لؤي وغالب * شبابهم والأشيبون الجحاجح

فإن أبق حتى يدرك الناس دهره * فإني به مستبشر الود فارح

وإلا فإني يا خديجة فاعلمي * عن أرضك في الأرض العريضة سائح

وزاد الأموي‏:‏

فمتبع دين الذي أسس البنا *وكان له فضل على الناس راجح

وأسس بنيانا بمكة ثابتا * تلألأ فيه بالظلام المصابح

مثاباً لأفناء القبائل كلها * تخب إليه اليعملات الطلائح

حراجيج أمثال القداح من السرى * يعلق في أرساغهن السرايح

ومن شعره فيما أورده أبو القاسم السهيلي في ‏(‏روضه‏)‏

لقد نصحت لأقوام وقلت لهم * أنا النذير فلا يغرركم أحد

لا تعبدن إلها غير خالقكم * فإن دعوكم فقولوا بيننا حداد

سبحان ذي العرش سبحاناً يدوم له * وقبلنا سبح الجودي والجمد

مسخر كل ما تحت السماء له * لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد

لا شيء مما نرى تبقى بشاشته * يبقى الإله ويودي المال والولد

لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه * والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح به * والجن والإنس فيما بينها مرد

أين الملوك التي كانت لعزتها * من كل أوب إليها وافد يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب * لا بد من ورده يوماً كما وردوا

ثم قال‏:‏ هكذا نسبه أبو الفرج إلى ورقة قال‏:‏ وفيه أبيات تنسب إلى أمية بن أبي الصلت‏.‏

قلت‏:‏ وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستشهد في بعض الأحيان بشيء من هذه الأبيات، والله أعلم‏.‏

 فصل في تجديد قريش بناء الكعبة قبل المبعث بخمس سنين‏.‏

ذكر البيهقي في بناء الكعبة قبل تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة، والمشهور أن بناء قريش الكعبة بعد تزويج خديجة كما ذكرناه بعشر سنين‏.‏ ‏

ثم شرع البيهقي في ذكر بناء الكعبة في زمن إبراهيم كما قدمناه في قصته، وأورد حديث ابن عباس المتقدم في صحيح البخاري، وذكر ما ورد من الإسرائيليات في بنائه في زمن آدم ولا يصح ذلك‏.‏

فإن ظاهر القرآن يقتضي أن إبراهيم أول من بناه مبتدئاً، وأول من أسسه، وكانت بقعته معظمة قبل ذلك، معتنى بها مشرفة في سائر الأعصار والأوقات‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 96-97‏]‏‏.‏

وثبت في الصحيحين عن أبي ذر قال‏:‏ قلت يا رسول الله‏:‏ أي مسجد وضع أول‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏المسجد الحرام‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏المسجد الأقصى‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ كم بينهما‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أربعون سنة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد تكلمنا على هذا فيما تقدم‏.‏ وإن المسجد الأقصى أسسه إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام -

وفي الصحيحين أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا أحمد بن مهران، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ كان البيت قبل الأرض بألفي سنة ‏{‏وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 3‏]‏ قال‏:‏ من تحته مدت‏.‏

قال‏:‏ وقد تابعه منصور عن مجاهد‏.‏

قلت‏:‏ وهذا غريب جداً، وكأنه من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك، وكان فيهما إسرائيليات يحدث منها، وفيهما منكرات وغرائب‏.‏

ثم قال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدثنا أبو صالح الجهني، حدثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما‏:‏ ابنيا لي بيتاً، فخط لهما جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل، حتى أجابه الماء نودي من تحته حسبك يا آدم، فلما بنيا أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به، وقيل له أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعاً‏.‏

قلت‏:‏ وهو ضعيف، ووقفه على عبد الله بن عمرو أقوى وأثبت، والله أعلم‏.‏

وقال الربيع بن سليمان‏:‏ أنبأنا الشافعي، أنبأنا سفيان، عن ابن أبي لبيد، عن محمد بن كعب القرظي - أو غيره - قال‏:‏ حج آدم فلقيته الملائكة فقالوا‏:‏ بر نسكك يا آدم، لقد حججنا قبلك بألفي عام‏.‏

وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني بقية - أو قال ثقة - من أهل المدينة، عن عروة بن الزبير أنه قال‏:‏ ما من نبي إلا وقد حج البيت إلا ما كان من هود وصالح‏.‏

قلت‏:‏ وقد قدمنا حجهما إليه، والمقصود الحج إلى محله وبقعته، وإن لم يكن ثم بناء، والله أعلم‏.‏

ثم أورد البيهقي حديث ابن عباس المتقدم في قصة إبراهيم عليه السلام بطوله وتمامه، وهو في صحيح البخاري‏.‏

ثم روى البيهقي من حديث سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة قال‏:‏ سأل رجل علياً عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ‏}‏ أهو أول بيت بني في الأرض‏؟‏

قال‏:‏ لا، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة للناس والهدى ومقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا، وإن شئت نبأتك كيف بناؤه‏:‏

إن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتاً في الأرض، فضاق به ذرعاً، فأرسل إليه السكينة، وهي ريح خجوج لها رأس فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت، ثم تطوقت في موضع البيت تطوق الحية، فبنى إبراهيم وكان يبني هو ساقاً كل يوم حتى بلغ مكان الحجر قال لابنه‏:‏ ابغني حجراً، فالتمس حجراً حتى أتاه به، فوجد الحجر الأسود قد ركب، فقال لأبيه‏:‏ من أين لك هذا‏؟‏

قال‏:‏ جاء به من لا يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء فأتمه، قال فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته جرهم، ثم انهدم فبنته قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ رجل شاب، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا‏:‏ نحكِّم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم، فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط، ثم ترفعه جميع القبائل كلهم‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة، وقيس، وسلام كلهم عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه، فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة، فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه‏.‏

قال يعقوب بن سفيان‏:‏ أخبرني أصبغ بن فرج، أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب قال‏:‏ لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم جمرت امرأة الكعبة، فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت فهدموها، حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن، اختصمت قريش في الركن أي القبائل تلي رفعه، فقالوا‏:‏ تعالوا نحكم أول من يطلع علينا‏.‏

فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أخرج سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه، فكان لا يزداد على السن الأرضي حتى دعوه الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي، فطفقوا لا ينحرون جزوراً إلا التمسوه، فيدعو لهم فيها‏.‏

وهذا سياق حسن وهو من سير الزهري، وفيه من الغرابة قوله‏:‏ فلما بلغ الحلم، والمشهور أن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم عمره خمس وثلاثون سنة، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة، وهكذا قال مجاهد، وعروة، ومحمد بن جبير بن مطعم وغيرهم، فالله أعلم‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ كان بين الفجار، وبين بناء الكعبة خمس عشرة سنة‏.‏

قلت‏:‏ وكان الفجار وحلف الفضول في سنة واحدة، إذ كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون سنة، وهذا يؤيد ما قال محمد بن إسحاق، والله أعلم‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ وإنما حمل قريشاً على بنائها أن السيول كانت تأتي من فوقها، من فوق الردم الذي صفوه، فخر به فخافوا أن يدخلها الماء، وكان رجل يقال له‏:‏ مليح، سرق طيب الكعبة، فأرادوا أن يشيدوا بنيانها، وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاؤوا، فأعدوا لذلك نفقة وعمالاً، ثم غدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر أن يمنعهم الذي أرادوا، فكان أول رجل طلعها وهدم منها شيئاً هو الوليد بن المغيرة‏.‏

فلما رأوا الذي فعل الوليد تتابعوا فوضعوها فأعجبهم ذلك، فلما أرادوا أن يأخذوا في بنيانها أحضروا عمالهم، فلم يقدر رجل منهم أن يمضي أمامه موضع قدم، فزعموا أنهم رأوا حية قد أحاطت بالبيت رأسها عند ذنبها، فأشفقوا منها شفقة شديدة، وخشوا أن يكونوا قد وقعوا مما عملوا في هلكة‏.‏

وكانت الكعبة حرزهم ومنعتهم من الناس، وشرفاً لهم، فلما سقط في أيديهم والتبس عليهم أمرهم، قام فيهم المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فذكر ما كان من نصحه لهم، وأمره إياهم أن لا يتشاجروا، ولا يتحاسدوا في بنائها، وأن يقتسموها أرباعاً، وأن لا يدخلوا في بنائها مالاً حراماً‏.‏

وذكر أنهم لما عزموا على ذلك ذهبت الحية في السماء، وتغيبت عنهم، ورأوا أن ذلك من الله عز وجل‏.‏ قال‏:‏ ويقول بعض الناس‏:‏ إنه اختطفها طائر، وألقاها نحو أجياد‏.‏

وقال محمد بن إسحاق بن يسار‏:‏ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبناء الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى لبني مليح بن عمرو بن خزاعة، فقطعت قريش يده، وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك‏.‏

وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها‏.‏

قال الأموي‏:‏ كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم، تحمل آلات البناء من الرخام والخشب والحديد، سرحها قيصر مع باقوم الرومي إلى الكنيسة التي أحرقها الفرس للحبشة، فلما بلغت مرساها من جدة، بعث الله عليها ريحاً فحطمتها‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان بمكة رجل قبطي نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدى إليها كل يوم، فتشرف على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها‏.‏

فبينما هي يوماً تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائراً فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش‏:‏ إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رقيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية‏.‏

وحكى السهيلي عن رزين‏:‏ أن سارقاً دخل الكعبة في أيام جرهم ليسرق كنزها، فانهار البئر عليه حتى جاءوا فأخرجوه، وأخذوا منه ما كان أخذه، ثم سكنت هذا البئر حية رأسها كرأس الجدي، وبطنها أبيض، وظهرها أسود، فأقامت فيها خمسمائة عام، وهي التي ذكرها محمد بن إسحاق‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فلما أجمعوا أمرهم لهدمها وبنيانها، قام أبو وهب عمرو بن عابد بن عبد بن عمران بن مخزوم - وقال ابن هشام - عابد بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجراً، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال‏:‏ يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم‏.‏ ‏

ثم رجح ابن إسحاق أن قائل ذلك‏:‏ أبو وهب بن عمرو، قال‏:‏ وكان خال أبي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شريفاً ممدحاً‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ ثم أن قريشاً تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم، وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى، ولبني عدي بن كعب - وهو الحطيم -

ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة‏:‏ أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول‏:‏ اللهم لم ترع، اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا‏:‏ ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا من هدمها‏.‏

فأصبح الوليد غدياً على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة أخذ بعضها بعضاً - ووقع في صحيح البخاري عن يزيد بن رومان كأسنمة الإبل -

قال السهيلي‏:‏ وأرى رواية السيرة كالألسنة وهماً، والله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني بعض من يروي الحديث أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ وزعم عبد الله بن عباس‏:‏ أن أولية قريش كانوا يحدثون أن رجلاً من قريش لما اجتمعوا لينزعوا الحجارة وانتهوا إلى تأسيس إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، عمد رجل منهم إلى حجر من الأساس الأول، فرفعه وهو لا يدري أنه من الأساس الأول‏.‏

فأبصر القوم برقة تحت الحجر كادت تلتمع بصر الرجل، ونزا الحجر من يده فوقع في موضعه، وفزع الرجل والبناة‏.‏

فلما ستر الحجر عنهم ما تحته إلى مكانه، عادوا إلى بنيانهم وقالوا‏:‏ لا تحركوا هذا الحجر، ولا شيئاً بحذائه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحُدثت أن قريشاً وجدوا في الركن كتاباً بالسريانية فلم يعرفوا ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا هو‏:‏ أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السماوات والأرض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا تزول حتى يزول أخشباها - قال ابن هشام‏:‏ يعني جبلاها - مبارك لأهلها في الماء واللبن‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحُدثت أنهم وجدوا في المقام كتاباً فيه‏:‏ مكة بيت الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها‏.‏

قال‏:‏ وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا في الكعبة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة - إن كان ما ذكر حقاً -مكتوباً فيه‏:‏ من يزرع خيراً يحصد غبطة، ومن يزرع شراً يحصد ندامة، يعملون السيئات ويجزون الحسنات‏؟‏‏!‏ أجل، كما يجتنى من الشوك العنب‏.‏

وقال سعيد بن يحيى الأموي‏:‏ حدثنا المعتمر بن سليمان الرقي، عن عبد الله بن بشر الزهري - يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ وجد في المقام ثلاثة أصفح‏:‏

في الصفح الأول‏:‏ إني أنا الله ذو بكة، صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، وباركت لأهلها في اللحم واللبن‏.‏

وفي الصفح الثاني‏:‏ إني أنا الله ذو بكة، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته‏.‏

وفي الصفح الثالث‏:‏ إني أنا الله ذو بكة، خلقت الخير والشر وقدرته، فطوبى لمن أجريت الخير على يديه، وويل لمن أجريت الشر على يديه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البناء موضع الركن فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحارروا أو تحالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً‏.‏ ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم‏.‏

فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش كلها - قال‏:‏ يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا فكان أول داخل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏

فلما رأوه قالوا‏:‏ هذا الأمين رضينا هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هلموا إلي ثوباً‏)‏‏)‏‏.‏

فأُتي به، وأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً‏)‏‏)‏‏.‏

ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، ثم بنى عليه، وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الأمين‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا ثابت - يعني أبا يزيد - حدثنا هلال - يعني ابن حبان - عن مجاهد، عن مولاه - وهو السائب بن عبد الله - أنه حدثه أنه كان فيمن بنى الكعبة في الجاهلية قال‏:‏ وكان لي حجر - أنا نحته أعبده من دون الله - قال‏:‏ وكنت أجيء باللبن الخاثر الذي آنفه على نفسي، فأصبه عليه، فيجيء الكلب فيلحسه، ثم يشغر فيبول عليه‏.‏

قال‏:‏ فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر، ولا يرى الحجر أحد، فإذا هو وسط أحجارنا مثل رأس الرجل، يكاد يترايا منه وجه الرجل‏.‏ فقال‏:‏ بطن من قريش نحن نضعه‏.‏ وقال آخرون‏:‏ نحن نضعه‏.‏ فقالوا‏:‏ اجعلوا بينكم حكماً‏.‏ فقالوا‏:‏ أول رجل يطلع من الفج‏.‏

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أتاكم الأمين، فقالوا له فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم فرفعوا نواحيه، فوضعه هو صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة ذراعاً، وكانت تكسى القباطي، ثم كسيت بعد البرور، وأول من كساها الديباج‏:‏ الحجاج بن يوسف‏.‏

قلت‏:‏ وقد كانوا أخرجوا منها الحجر - وهو ستة أذرع أو سبعة أذرع من ناحية الشام - قصرت بهم النفقة أي‏:‏ لم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم‏.‏

وجعلوا للكعبة باباً واحداً من ناحية الشرق، وجعلوه مرتفعاً لئلا يدخل إليها كل أحد، فيدخلوا من شاءوا، ويمنعوا من شاءوا‏.‏

وقد ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏ألم تري أن قومك قصرت بهم النفقة، ولولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها باباً شرقياً، وباباً غربياً، وأدخلت فيها الحجر‏)‏‏)‏‏.‏

ولهذا لما تمكن ابن الزبير، بناها على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت في غاية البهاء والحسن والسناء كاملة على قواعد الخليل، لها بابان ملتصقان بالأرض شرقياً وغربياً، يدخل الناس من هذا ويخرجون من الآخر‏.‏

فلما قتل الحجاج ابن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان - وهو الخليفة يومئذ - فيما صنعه ابن الزبير، واعتقدوا أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه، فأمر بإعادتها إلى ما كانت عليه، فعمدوا إلى الحائط الشامي فحصوه، وأخرجوا منه الحجر ورصوا حجارته في أرض الكعبة، فارتفع باباها، وسدوا الغربي، واستمر الشرقي على ما كان عليه‏.‏

فلما كان في زمن المهدي - أو ابنه المنصور - استشار مالكاً في إعادتها على ما كان صنعه ابن الزبير، فقال مالك رحمه الله‏:‏ إني أكره أن يتخذها الملوك ملعبة، فتركها على ما هي عليه فهي إلى الآن كذلك‏.‏

وأما المسجد الحرام‏:‏ فأول من أخَّر البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اشتراها من أهلها وهدمها، فلما كان عثمان اشترى دوراً وزادها فيه، فلما ولي ابن الزبير أحكم بنيانه، وحسن جدرانه، وأكثر أبوابه، ولم يوسعه شيئاً آخر‏.‏

فلما استبد بالأمر عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع جدرانه، وأمر بالكعبة فكسيت الديباج، وكان الذي تولى ذلك بأمره الحجاج بن يوسف‏.‏

وقد ذكرنا قصة بناء البيت والأحاديث الواردة في ذلك في تفسير سورة البقرة، عند قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ‏}‏ وذكرنا ذلك مطولاً مستقصى، فمن شاء كتبه هاهنا، ولله الحمد والمنة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما فرغوا من البنيان، وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها‏:‏

عجبت لما تصوبت العقاب * إلى الثعبان وهي لها اضطراب

وقد كانت تكون لها كشيش * وأحيانا يكون لها وثاب

إذا قمنا إلى التأسيس شدت * تهيبنا البناء وقد نهاب

فلما أن خشينا الزجر جاءت * عقاب تتلئب لها انصباب

فضمتها إليها ثم خلت * لنا البنيان ليس لها حجاب

فقمنا حاشدين إلى بناء * لنا منه القواعد والتراب

غداة يرفع التأسيس منه * وليس على مساوينا ثياب

أعز به المليك بني لؤي * فليس لأصله منهم ذهاب

وقد حشدت هناك بنو عدي * ومرة قد تقدمها كلاب

فبوأنا المليك بذاك عزاً * وعند الله يلتمس الثواب

وقد قدمنا في فصل ما كان الله يحوط به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقذار الجاهلية، أنه كان هو والعباس عمه ينقلان الحجارة، وأنه عليه الصلاة والسلام لما وضع إزاره تحت الحجارة على كتفه نهي عن خلع إزاره، فأعاده إلى سيرته الأولى‏.‏

 فصل تعظيم قريش للحرم تعظيما زائداً أدى إلى الابتداع

وذكر ابن إسحاق ما كانت قريش ابتدعوه في تسميتهم الحمس، وهو الشدة في الدين والصلابة، وذلك لأنهم عظموا الحرم تعظيماً زائداً، بحيث التزموا بسببه أن لا يخرجوا منه ليلة عرفة‏.‏

وكانوا يقولون‏:‏ نحن أبناء الحرم وقطان بيت الله، فكانوا لا يقفون بعرفات مع علمهم أنها من مشاعر إبراهيم عليه السلام، حتى لا يخرجوا عن نظام ما كانوا قرروه من البدعة الفاسدة‏.‏

وكانوا لا يدخرون من اللبن أقطاً ولا سمناً، ولا يسلون شحماً وهم حرم، ولا يدخلون بيتاً من شعر، ولا يستظلون إن استظلوا إلا ببيت من أدم‏.‏

وكانوا يمنعون الحجيج والعمار - ما داموا محرمين - أن يأكلوا إلا من طعام قريش، ولا يطوفوا إلا في ثياب قريش، فإن لم يجد أحد منهم ثوب أحد من الحمس وهم قريش وما ولدوا ومن دخل معهم من كنانة وخزاعة، طاف عرياناً ولو كانت امرأة، ولهذا كانت المرأة إذا اتفق طوافها لذلك، وضعت يدها على فرجها وتقول‏:‏

اليوم يبدو بعضه أو كله * وبعد هذا اليوم لا أحله

فإن تكرم أحد ممن يجد ثوب أحمسي فطاف في ثياب نفسه، فعليه إذا فرغ من الطواف أن يلقيها فلا ينتفع بها بعد ذلك، وليس له ولا لغيره أن يمسها، وكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقي‏.‏

قال بعض الشعراء‏:‏

كفى حزناً كرى عليه كأنه * لقي بين أيدي الطائفين حريم

قال ابن إسحاق‏:‏ فكانوا كذلك حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن رداُ عليهم فيما ابتدعوه‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ‏}‏ أي‏:‏ جمهور العرب من عرفات ‏{‏وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 199‏]‏‏.‏

وقد قدمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقف بعرفات قبل أن ينزل عليه توفيقاً من الله له، وأنزل الله عليه رداً عليهم فيما كانوا حرموا من اللباس والطعام على الناس ‏{‏يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 31-32‏]‏

وقال زياد البكائي عن ابن إسحاق‏:‏ ولا أدري أكان ابتداعهم لذلك قبل الفيل أو بعده‏.‏