الجزء الثالث - باب ما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي

باب ما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي

ثم روى عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن ابن إسحاق قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا كتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسوله فأسلم تسلم‏.‏

‏{‏يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏ فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا ذكره البيهقي بعد قصة هجرة الحبشة وفي ذكره ههنا نظر، فإن الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم صاحب جعفر وأصحابه، وذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله عز وجل قبيل الفتح، كما كتب إلى هرقل عظيم الروم قيصر الشام، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى صاحب مصر، وإلى النجاشي‏.‏

قال الزهري‏:‏ كانت كتب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم واحدة؛ يعني نسخة واحدة، وكلها فيها هذه الآية وهي من سورة آل عمران، وهي مدنية بلا خلاف فإنه من صدر السورة، وقد نزل ثلاث وثمانون آية من أولها في وفد نجران كما قررنا ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة‏.‏

فهذا الكتاب إلى الثاني لا إلى الأول، وقوله فيه إلى النجاشي الأصحم لعل الأصحم مقحم من الراوي بحسب ما فهم، والله أعلم‏.‏

وأنسب من هذا ههنا ما ذكره البيهقي أيضاً عن الحاكم، عن أبي الحسن محمد بن عبد الله الفقيه - بمرو - حدثنا حماد بن أحمد، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وكتب معه كتاباً‏:‏

‏(‏‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخته، كما خلق آدم بيده ونفخه‏.‏

وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإني رسول الله وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً، ومعه نفر من المسلمين فإذا جاؤوك فأقرهم ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى‏)‏‏)‏‏.‏

فكتب النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبجر، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت‏.‏

وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وقرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقاً ومصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين‏.‏

وقد بعثت إليك يا نبي الله بأربحا بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله فإني أشهد أن ما تقول حق‏)‏‏)‏‏.‏

 فصل ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وعبد المطلب في نصر رسول الله

في ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وبني عبد المطلب في نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحالفهم فيما بينهم عليهم، على أن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم حتى يسلِّموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحصرهم إياهم في شعب أبي طالب مدة طويلة، وكتابتهم بذلك صحيفة ظالمة فاجرة، وما ظهر في ذلك كله من آيات النبوة ودلائل الصدق‏.‏

قال موسى بن عقبة عن الزهري‏:‏ ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، وجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية‏.‏

فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم، وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله‏.‏

فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً‏.‏

فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلَّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل‏.‏

فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا لهم طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه، فاشتروه

يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد به مكراً واغتيالاً له، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو أخوته أو بني عمه فاضطجعوا على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه‏.‏

فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن قصي ورجال من سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه، وبعث الله على صحيفتهم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق‏.‏

ويقال‏:‏ كانت معلقة في سقف البيت فلم تترك اسما لله فيها إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك وظلم وقطيعة رحم، وأطلع الله عز وجل رسوله على الذي صنع بصحيفتهم، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب‏.‏

فقال أبو طالب‏:‏ لا والثواقب ما كذبني، فانطلق يمشي بعصابته من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد، وهو حافل من قريش، فلما رأوهم عامدين لجماعتهم أنكروا ذلك، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء، فأتوهم ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فتكلم أبو طالب فقال‏:‏ قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فعلَّه أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوعاً إليهم فوضعوها بينهم وقالوا‏:‏ قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم؛ فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد جعلتموه خطراً لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم‏.‏

فقال أبو طالب‏:‏ إنما أتيتكم لأعطيكم أمراً لكم فيه نَصَفٌ إن ابن أخي أخبرني - ولم يكذبني - إن الله بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فأفيقوا فوالله لا نسلمه أبداً حتى يموت من عندنا آخرنا، وإن كان الذي قال باطلاً دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتم‏.‏

قالوا‏:‏ قد رضينا بالذي تقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب قالوا‏:‏ والله إن كان هذا قط إلا سحر من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا بشرِّ ما كانوا عليه من كفرهم، والشدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، والقيام على رهطه بما تعاهدوا عليه‏.‏

فقال‏:‏ أولئك النفر من بني عبد المطلب‏:‏ إن أولى بالكذب والسحر غيرنا فكيف ترون فإنا نعلم إن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا، ولولا إنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم وهي في أيديكم طمس الله ما كان فيها من اسمه وما كان فيها من بغي تركه أفنحن السحرة أم أنتم‏؟‏

فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء من بني هاشم

منهم‏:‏ أبو البختري والمطعم بن عدي وزهير بن أبي أمية بن المغيرة وزمعة بن الأسود وهشام بن عمرو، وكانت الصحيفة عنده وهو - من بني عامر بن لؤي - في رجال من أشرافهم ووجوههم‏:‏ نحن برءاء مما في هذه الصحيفة‏.‏

فقال أبو جهل لعنه الله‏:‏ هذا أمر قضى بليل وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم ويمدح النفر الذين تبرؤا منها ونقضوا ما كان فيها من عهد ويمتدح النجاشي‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وهكذا روى شيخنا أبو عبد الله الحافظ - يعني من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير - يعني كسياق موسى بن عقبة رحمه الله - وقد تقدم عن موسى بن عقبة أنه قال‏:‏ إنما كانت هجرة الحبشة بعد دخولهم إلى الشعب عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في ذلك فالله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ والأشبه أن أبا طالب إنما قال قصيدته اللامية التي قدمنا ذكرها بعد دخولهم الشعب أيضاً فذكرها ههنا أنسب والله أعلم‏.‏

ثم روى البيهقي من طريق يونس عن محمد بن إسحاق‏.‏ قال‏:‏ لما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذي بعث به وقامت بنو هاشم وبنو عبد المطلب دونه وأبوا أن يسلموه وهم من خلافه على مثل ما قومهم عليه إلا أنهم اتقوا أن يستذلوا ويسلموا أخاهم لما قارفه من قومه‏.‏

فلما فعلت ذلك بنو هاشم وبنو المطلب وعرفت قريش أن لا سبيل إلى محمد، اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني عبد المطلب أن لا يناكحوهم ولا ينكحوا إليهم ولا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم وكتبوا صحيفة في ذلك وعلقوها بالكعبة، ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم واشتد عليهم البلاء وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالاً شديداً‏.‏

ثم ذكر القصة بطولها في دخولهم شعب أبي طالب وما بلغوا فيه من فتنة الجهد الشديد حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع حتى كره عامة قريش ما أصابهم وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة، وذكروا أن الله برحمته أرسل على صحيفة قريش الأرضة فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان، فأخبر الله تعالى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك عمه أبو طالب ثم ذكر بقية القصة كرواية موسى بن عقبة وأتم‏.‏ ‏

وقال ابن هشام عن زياد عن محمد بن إسحاق‏:‏ فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً أصابوا منه أمناً وقراراً، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل فاجتمعوا وائتمروا على أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم‏.‏

فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، وكان كاتب الصحيفة‏:‏ منصور ابن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ويقال‏:‏ النضر ابن الحارث، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشل بعض أصابعه‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ كان الذي كتب الصحيفة‏:‏ طلحة بن أبي طلحة العبدوي‏.‏

قلت‏:‏ والمشهور أنه‏:‏ منصور بن عكرمة كما ذكره ابن إسحاق، وهو الذي شلت يده فما كان ينتفع بها وكانت قريش تقول بينها‏:‏ أنظروا إلى منصور بن عكرمة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وكانت الصحيفة معلقة في جوف الكعبة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم‏.‏

وحدثني حسين بن عبد الله‏:‏ أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة بن ربيعة، حين فارق قومه، وظاهر عليهم قريشاً‏.‏

فقال‏:‏ يا ابنة عتبة هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقها وظاهر عليها ‏؟‏

قالت‏:‏ نعم‏!‏ فجزاك الله خيراً يا أبا عتبة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثت أنه كان يقول - في بعض ما يقول - يعدني محمد أشياء لا أراها يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يدي بعد ذلك، ثم ينفخ في يديه فيقول‏:‏ تباً لكما لا أرى فيكما شيئاً مما يقول محمد‏.‏

فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏تبت يدا أبي لهب وتب‏}‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما اجتمعت على ذلك قريش وصنعوا فيه الذي صنعوا قال أبو طالب‏:‏

ألا أبلِغا عني على ذاتِ بيننا * لؤياً وخُصَّا من لؤي بني كعب

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً * نبياً كموسى خطَّ في أول الكتب

وأن عليه في العباد محبة * ولا خير ممن خصَّه الله بالحب

وأن الذي الصقتموا من كتابكم * لكم كائنٌ نحساً كراغيةِ السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن يحُفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنباً كذي الذنب

ولا تتبعوا أمرَ الوشاة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب

وتستجلبوا حرباً عواناً وربما * أمرَّ على من ذاقه حلب الحرب

فلسنا ورب البيت نسلم أحمداً * لعزَّاء من عض الزمان ولا كرب

ولما تَبِن منا ومنكم سوالفٌ * وأيدٍ أترَّتْ بالقساسية الشهب

بمعتركِ ضيقٍ ترى كسر القنا * به والنسور الطخم يعكفن كالشرب

كأن مجال الخيل في حجراته * ومعمعة الأبطال معركة الحرب

أليس أبونا هاشمٌ شدَّ أزره * وأوصى بنيه بالطِّعان وبالضرب

ولسنا نملُّ الحرب حتى تملنا * ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب

ولكننا أهل الحفائظ والنهى * إذا طار أرواحُ الكماةِ من الرعب

قال ابن إسحاق‏:‏ فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا ولم يصل إليهم شيء إلا سراً مستخفياً به من أراد صلتهم من قريش، وقد كان أبو أجهل بن هشام - فيما يذكرون - لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب فتعلق به وقال‏:‏ أتذهب بالطعام إلى بني هاشم‏؟‏ والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد‏.‏

فقال‏:‏ مالك وله‏.‏

فقال‏:‏ يحمل الطعام إلى بني هاشم‏.‏

فقال له أبو البختري‏:‏ طعام كان لعمته عنده بعثت به إليه أتمنعه أن يأتيها بطعامها‏؟‏ خلِّ سبيل الرجل‏.‏

قال‏:‏ فأبى أبو جهل - لعنه الله - حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحى بعير فضربه فشجه ووطئه وطئاً شديداً، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتون بهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً منادياً بأمر الله تعالى لا يتقي فيه أحداً من الناس‏.‏ ‏

 المستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم وما ظهر فيهم

فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني عبد المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، يهمزونه ويستهزؤن به ويخاصمونه، وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته، منهم من سمى لنا، ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار‏.‏

فذكر ابن إسحاق أبا لهب ونزول السورة فيه، وأمية بن خلف ونزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ‏}‏ السورة بكاملها فيه‏.‏

والعاص بن وائل ونزول قوله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 77‏]‏ فيه‏.‏

وقد تقدم شيء من ذلك‏.‏

وأبا جهل بن هشام وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد‏.‏

ونزول قول الله فيه‏:‏ ‏j تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 108‏]‏ الآية‏.‏

والنضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة - ومنهم من يقول علقمة بن كلدة قاله السهيلي - وجلوسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم في مجالسه حيث يتلو القرآن ويدعو إلى الله، فيتلو عليهم النضر شيئاً من أخبار رستم واسفنديار وما جرى بينهما من الحروب في زمن الفرس، ثم يقول‏:‏ والله ما محمد بأحسن حديثاً مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبها‏.‏

فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏j‏وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏

وقوله‏:‏ ‏j‏وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏} ‏[‏الجاثية‏:‏ 7‏]‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر فكلَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه‏.‏

ثم تلا عليه وعليهم‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98 - 100‏]‏‏.‏

ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس‏.‏

فقال الوليد بن المغيرة له‏:‏ والله ما قام والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً وما قعد، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم‏.‏ ‏

فقال عبد الله بن الزبعري‏:‏ أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمداً‏:‏ أكل ما نعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده‏؟‏

فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيراً والنصارى تعبد عيسى‏.‏

فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده في النار، أنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته‏)‏‏)‏‏.‏

فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101-102‏]‏ أي عيسى وعزير ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى‏.‏

ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26-29‏]‏ والآيات بعدها‏.‏

ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 57-58‏]‏ وهذا الجدل الذي سلكوه باطل‏.‏

وهم يعلمون ذلك لأنهم قوم عرب ومن لغتهم أن ما لما لا يعقل، فقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ‏}‏ إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الأحجار التي كانت صور أصنام، ولا يتناول ذلك الملائكة الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور، ولا المسيح، ولا عزيراً، ولا أحداً من الصالحين لأن اللفظ لا يتناولهم لا لفظاً ولا معنى‏.‏

فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى ابن مريم من المثل جدل باطل كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ أي عيسى ‏{‏إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ‏}‏ أي بنبوتنا ‏وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ أي دليلاً على تمام قدرتنا على ما نشاء حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر، وقد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى، وخلقنا آدم لا من هذا ولا من هذا، وخلقنا سائر بني آدم من ذكر وأنثى كما قال في الآية الأخرى‏:‏ {‏وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ‏}‏ أي أمارة ودليلاً على قدرتنا الباهرة ‏{‏وَرَحْمَةً مِنَّا‏}‏ نرحم بها من نشاء‏.‏

وذكر ابن إسحاق‏:‏ الأخنس بن شريق ونزول قوله تعالى فيه‏:‏ ‏{‏وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ‏}‏ ‏[‏نون‏:‏ 10‏]‏ الآيات، وذكر الوليد بن المغيرة حيث قال‏:‏ أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمرو الثقفي سيد ثقيف فنحن عظيما القريتين‏.‏

ونزول قوله فيه‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ والتي بعدها‏.‏

وذكر أبي بن خلف حين قال لعقبة بن أبي معيط‏:‏ ألم يبلغني أنك جالست محمداً‏؟‏ وسمعت منه وجهي من وجهك حرام أن أكلمك - وأستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه إلا أن تتفل في وجهه ففعل ذلك عدو الله عقبة - لعنه الله -‏.‏

فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 27-28‏]‏ والتي بعدها‏.‏

قال ومشى أبي بن خلف بعظم بال قد أرم‏.‏

فقال‏:‏ يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم، ثم فته بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ نعم‏!‏ أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ثم يدخلك النار‏.‏

وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78-79‏]‏ إلى آخر السورة‏.‏

قال‏:‏ واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني وهو يطوف عند باب الكعبة - الأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل وكانوا ذوي أسنان في قومهم‏.‏

فقالوا‏:‏ يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر‏.‏

فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ إلى آخرها‏.‏

ولما سمع أبو جهل بشجرة الزقوم‏.‏

قال‏:‏ أتدرون ما الزقوم‏؟‏ هو تمر يضرب بالزبد ثم قال‏:‏ هلموا فلنتزقم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 43-44‏]‏‏.‏

قال‏:‏ ووقف الوليد بن المغيرة فكلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه وقد طمع في إسلامه فمر به ابن أم مكتوم - عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة - الأعمى فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يستقرئه القرآن، فشق ذلك عليه حتى أضجره‏.‏

وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد، وما طمع فيه من إسلامه، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابساً، وتركه فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏عبس وتولى أن جاءه الأعمى‏}‏ إلى قوله ‏{‏مرفوعة مطهرة‏}‏ وقد قيل‏:‏ إن الذي كان يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه ابن أم مكتوم أمية بن خلف فالله أعلم‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق من عاد من مهاجرة الحبشة إلى مكة وذلك حين بلغهم إسلام أهل مكة وكان النقل ليس بصحيح، ولكن كان له سبب، وهو ما ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ جلس يوماً مع المشركين، وأنزل الله عليه‏:‏ ‏{‏والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم‏}‏ يقرؤها عليهم حتى ختمها وسجد‏.‏

فسجد من هناك من المسلمين والمشركين والجن والإنس، وكان لذلك سبب ذكره كثير من المفسرين عند قوله تعالى‏:‏ ‏(21,52,52){‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وذكروا قصة الغرانيق وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحاً لئلا يسمعها من لا يضعها على مواضيعها، إلا أن أصل القصة في ‏(‏الصحيح‏)‏‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس انفرد به البخاري دون مسلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت الأسود عن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ قرأ النبي صلى الله عليه وسلم والنجم بمكة، فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفاً من حصا - أو تراب - فرفعه إلى جبهته وقال‏:‏ يكفيني هذا، فرأيته بعد قتل كافراً، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث شعبة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إبراهيم حدثنا رباح عن معمر عن ابن طاووس عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم، فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد ولم يكن أسلم يومئذ المطلب، فكان بعد ذلك لا يسمع أحداً يقرأها إلا سجد معه‏.‏

وقد رواه النسائي عن عبد الملك بن عبد الحميد عن أحمد بن حنبل به‏.‏

وقد يجمع بين هذا والذي قبله بأن هذا سجد ولكنه رفع رأسه استكباراً، وذلك الشيخ الذي استثناه ابن مسعود لم يسجد بالكلية والله أعلم‏.‏

والمقصود أن الناقل لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقد أنهم قد أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع بينهم، فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها‏.‏

فظنوا صحة ذلك فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك، وثبتت جماعة وكلاهما محسن مصيب فيما فعل فذكر ابن إسحاق أسماء من رجع منهم؛ عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو وعبد الله بن جحش بن رئاب، وعتبة بن غزوان، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وسويبط بن سعد بن حرملة‏.‏

وطليب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف والمقداد بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية ابن المغيرة، وشماس بن عثمان، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة - وقد حبسا بمكة حتى مضت بدراً وأحداً والخندق - وعمار بن ياسر - وهو ممن شك فيه أخرج إلى الحبشة أم لا -‏.‏

ومعتب ابن عوف، وعثمان بن مظعون، وابنه السائب، وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون، وخنيس بن حذافة، وهشام بن العاص بن وائل - وقد حبس بمكة إلى بعد الخندق - وعامر بن ربيعة، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة‏.‏

وعبد الله بن مخرمة، وعبد الله بن سهيل بن عمرو - وقد حبس حتى كان يوم بدر فانحاز إلى المسلمين فشهد معهم بدراً - وأبو سبرة بن أبي رهم، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل، والسكران بن عمرو بن عبد شمس، وامرأته سودة بنت زمعة - وقد مات بمكة قبل الهجرة وخلف على امرأته رسول الله صلى الله عليه وسلم - وسعد بن خولة، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن الحارث بن زهير وسهيل بن بيضاء، وعمرو بن أبي سرح فجميعهم ثلاثة وثلاثون رجلاً رضي الله عنهم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ وقالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر إلى الحبشة إلى المدينة‏.‏

وفيه‏:‏ عن أبي موسى وأسماء رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم حديث أبي موسى وهو في ‏(‏الصحيحين‏)‏، وسيأتي حديث أسماء بنت عميس بعد فتح خيبر حين قدم من كان تأخر من مهاجرة الحبشة إن شاء الله وبه الثقة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن سليمان عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ كنا نسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا يا رسول الله‏:‏ إنا كنا نسلم عليك فترد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي لم ترد علينا ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن في الصلاة شغلاً‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى البخاري أيضاً ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق أخر عن سليمان بن مهران عن الأعمش به، وهو يقوي تأويل من تأول حديث زيد بن أرقم الثابت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله‏:‏ ‏{‏وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام‏.‏

على أن المراد جنس الصحابة، فإن زيداً أنصاري مدني، وتحريم الكلام في الصلاة ثبت بمكة، فتعين الحمل على ما تقدم‏.‏

وأما ذكره الآية وهي مدنية فمشكل ولعله اعتقد أنها المحرمة لذلك وإنما كان المحرم له غيرها معها والله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان ممن دخل منهم بجوار؛ فيمن سمي لنا‏:‏ عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد في جوار خاله أبي طالب، فإن أمه برة بنت عبد المطلب‏.‏

فأما عثمان بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثني عمن حدثه عن عثمان‏.‏

قال‏:‏ لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء، وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال‏:‏ والله إن غدوي ورواحي في جوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له‏:‏ يا أبا عبد شمس وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك‏.‏

قال له‏:‏ لم يا ابن أخي‏؟‏ لعله آذاك أحد من قومي‏.‏

فقال‏:‏ لا، ولكني أرضى بجوار الله عز وجل، ولا أريد أن أستجير بغيره‏.‏

قال‏:‏ فانطلق إلى المسجد فاردد عليَّ جواري علانية كما أجرتك علانية‏.‏

قال‏:‏ فانطلقنا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد بن المغيرة‏:‏ هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري‏.‏ ‏

قال‏:‏ صدق، قد وجدته وفيَّاً كريم الجوار، ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره‏.‏

ثم انصرف عثمان رضي الله عنه ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل *

فقال عثمان‏:‏ صدقت‏.‏

فقال لبيد‏:‏

وكل نعيم لا محالة زائل *

فقال عثمان‏:‏ كذبت، نعيم الجنة لا يزول‏.‏

فقال لبيد‏:‏ يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم‏؟‏

فقال رجل من القوم‏:‏ إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا فلا تجدن في نفسك من قوله، فردَّ عليه عثمان حتى شري أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل ولطم عينه فخضرها والوليد ابن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان‏.‏

فقال‏:‏ والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية، ولقد كنت في ذمة منيعة‏.‏

قال‏:‏ يقول عثمان‏:‏ بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعزُّ منك وأقدر يا أبا عبد شمس‏.‏

فقال له الوليد‏:‏ هلم يا ابن أخي إلى جوارك فعد‏.‏

قال‏:‏ لا‏!‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وأما أبو سلمة بن عبد الأسد، فحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن سلمة بن عبد الله بن عمر أبي سلمة أنه حدثه‏:‏ أن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب، مشى إليه رجال من بني مخزوم، فقالوا له‏:‏ يا أبا طالب هذا منعت منا ابن أخيك محمداً، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا‏؟‏

قال‏:‏ إنه استجار بي، وهو ابن أختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي، فقام أبو لهب‏.‏

فقال‏:‏ يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن أو لنقومن معه في كل ما قام فيه، حتى يبلغ ما أراد‏.‏

قالوا‏:‏ بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة‏.‏

وكان لهم ولياً وناصراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبقوا على ذلك فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول، ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو طالب يحرض أبا لهب على نصرته ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

إن امرءاً أبو عتيبة عمه * لفي روضة ما أن يُسامُ المظالما

أقول له، وأين منه نصيحتي * أبا معتبِ ثبت سوادك قائما

ولا تقبلنَّ الدهر ما عشتَ خطة * تسب بها إمَّا هبطت المواسما

وولِّ سبيل العجزِ غيرك منهم * فإنك لم تخلق على العجز لازما

وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى * أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما

وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة * ولم يخذلوك غانماً أو مغارما

جزى الله عنا عبد شمسٍ ونوفلاً * وتيماً ومخزوماً عقوقاً ومأثما

بتفريقهم من بعدِ ودٍّ وألفةٍ * جماعتنا كيما ينالوا المحارما

كذبتم وبيت الله نبزى محمداً * ولما تروا يوماً لدى الشعب قائما

قال ابن هشام‏:‏ وبقي منها بيت تركناه‏.‏

 عزم الصديق على الهجرة إلى الحبشة

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - كما حدثني محمد بن مسلم ابن شهابالزهري عن عروة عن عائشة، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر رضي الله عنه مهاجراً، حتى إذا سار من مكة يوماً - أو يومين - لقيه ابن الدغنة أخو بني الحارث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد الأحابيش‏.‏

قال الواقدي‏:‏ اسمه الحارث بن يزيد أحد بني بكر من عبد مناة بن كنانة‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ اسمه مالك‏.‏

فقال‏:‏ إلى أين يا أبا بكر‏؟‏

قال‏:‏ أخرجني قومي وآذوني وضيقوا علي‏.‏

قال‏:‏ ولم‏؟‏ فوالله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف وتكسب المعدوم، ارجع فإنك في جواري‏.‏

فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام معه ابن الدغنة فقال‏:‏ يا معشر قريش، إني قد أجرت ابن أبي قحافة فلا يعرض له أحد إلا بخير‏.‏

قال‏:‏ فكفوا عنه‏.‏

قالت‏:‏ وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح فكان يصلي فيه، وكان رجلاً رقيقاً إذا قرأ القرآن استبكى قالت‏:‏ فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته، قالت‏:‏ فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة‏.‏

فقالوا له‏:‏ يا ابن الدغنة إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وكانت له هيئة ونحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم فأته فمره بأن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء

قالت‏:‏ فمشى ابن الدغنة إليه فقال له‏:‏ يا أبا بكر، إني لم أجرك لتؤذي قومك‏.‏

وقد كرهوا مكانك الذي أنت به، وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت‏.‏

قال‏:‏ أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله‏.‏

قال‏:‏ فأردد علي جواري‏.‏

قال‏:‏ قد رددته عليك‏.‏

قال‏:‏ فقام ابن الدغنة فقال‏:‏ يا معشر قريش، إن ابن أبي قحافة قد رد علي جواري فشأنكم بصاحبكم‏.‏

وقد روى الإمام البخاري هذا الحديث متفرداً به وفيه زيادة حسنة‏.‏

فقال‏:‏ حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب‏:‏ فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ لم أعقل أبواي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية‏.‏

فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال‏:‏ أين تريد يا أبا بكر‏؟‏

فقال أبو بكر‏:‏ أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي‏.‏

فقال ابن الدغنة‏:‏ فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع، فاعبد ربك ببلدك‏.‏

فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، وطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم‏:‏ إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق‏؟‏ فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة‏:‏ مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ويصلِّ فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا‏.‏

فقال ابن الدغنة‏:‏ ذلك لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره‏.‏

ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره وبرزوكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه‏.‏

وكان أبو بكر رجلاً بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم‏.‏

فقالوا له‏:‏ إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن في الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا فإنه فإن أحب على أن يقتصر أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال‏:‏ قد علمت الذي قد عاقدت عليه قريش فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل‏.‏

ثم ذكر تمام الحديث في هجرة أبي بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي مبسوطاً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال‏:‏ لقيه - يعني أبا بكر الصديق - حين خرج من جوار ابن الدغنة - سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة فحثا على رأسه تراباً، فمرَّ بأبي بكر الوليد بن المغيرة - أو العاص بن وائل - فقال له أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ ألا ترى ما يصنع هذا السفيه‏؟‏

فقال‏:‏ أنت فعلت ذلك بنفسك‏.‏

قال‏:‏ وهو يقول أي رب ما أحلمك‏.‏

أي رب ما أحلمك‏.‏

أي رب ما أحلمك‏.‏

 فصل

كل هذه القصص ذكرها ابن إسحاق معترضاً بها بين تعاقد قريش على بني هاشم وبني المطلب وكتابتهم عليهم الصحيفة الظالمة وحصرهم إياهم في الشعب، وبين نقض الصحيفة وما كان من أمرها‏:‏ وهي أمور مناسبة لهذا الوقت، ولهذا قال الشافعي رحمه الله‏:‏ من أراد المغازي فهو عيال على ابن إسحاق‏.‏ نقض الصحيفة

قال ابن إسحاق‏:‏ هذا وبنو هاشم وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التي كتبوها، ثم أنه قام في نقض تلك الصحيفة نفر من قريش، ولم يبل فيها أحداً أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن نصر بن جذيمةبن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، وكان هشام لبني هاشم واصلاً‏.‏ ‏‏

وكان ذا شرف في قومه، فكان - فيما بلغني - يأتي بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلاً قد أوقره طعاماً، حتى إذا بلغ به فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبيه، فدخل الشعب عليهم ثم يأتي به قد أوقره بزاً فيفعل به مثل ذلك، ثم أنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب‏.‏

فقال‏:‏ يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ‏؟‏أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبداً‏.‏

قال‏:‏ ويحك يا هشام ‏!‏ فماذا أصنع‏؟‏ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها‏.‏

قال‏:‏ قد وجدت رجلاً، قال من هو‏؟‏

قال‏:‏ أنا‏.‏

قال له زهير‏:‏ أبغنا ثالثاً، فذهب إلى المطعم بن عدي

فقال له‏:‏ يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه، أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعاً، قال‏:‏ ويحك فماذا أصنع‏؟‏ إنما أنا رجل واحد، قال‏:‏ قد وجدت لك ثانياً‏.‏

قال‏:‏ من‏؟‏ قال أنا‏.‏

قال‏:‏ أبغنا ثالثاً‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

قال‏:‏ من هو‏؟‏

قال‏:‏ زهير بن أبي أمية‏.‏

قال‏:‏ أبغنا رابعاً، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال لهنحو ما قال للمطعم بن عدي‏.‏

فقال‏:‏ وهل تجد أحداً يعين على هذا‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ من هو‏؟‏

قال‏:‏ زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك‏.‏

قال‏:‏ أبغنا خامساً‏.‏

فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له‏:‏ وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد‏؟‏

قال‏:‏ نعم ثم سمى القوم‏.‏

فاتعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلا مكة فاجتمعوا هنالك، وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها‏.‏

وقال زهير‏:‏ أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم‏.‏

فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة فطاف بالبيت سبعاً ثم أقبل على الناس‏.‏

فقال‏:‏ يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة‏.‏

قال أبو جهل‏:‏ - وكان في ناحية المسجد - والله لا تشق‏.‏

قال‏:‏ زمعة بن الأسود أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حين كتبت‏.‏

قال أبو البختري‏:‏ صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به‏.‏

قال المطعم بن عدي‏:‏ صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها‏.‏

قال هشام بن عمرو نحواً من ذلك‏.‏

قال أبو جهل‏:‏ هذا أمر قد قضي بليلٍ، تشور فيه بغير هذا المكان، قال‏:‏ وأبو طالب جالس في ناحية المسجد وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، فشلت يده فيما يزعمون‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وذكر بعض أهل العلم‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عم إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ أربك أخبرك بهذا ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏!‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما يدخل عليك أحد‏.‏

ثم خرج إلى قريش فقال‏:‏ يا معشر قريش، إن ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عنها، وإن كان كاذباً دفعت إليكم ابن أخي‏.‏

فقال القوم‏:‏ قد رضينا فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فزادهم ذلك شراً، فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما مزقت وبطل ما فيها، قال أبو طالب، فيما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقض الصحيفة يمدحهم‏:‏

ألا هل أتى بحريَّنا صنع ربنا * على نأيهم والله بالناس أروَدُ

فيخبرهم أن الصحيفة مزِّقت * وأن كل ما لم يرضه الله مفسد

تراوحها إفك وسحر مجمَّع * ولم يلف سحراً آخرَ الدهر يصعد

تداعى لها من ليس فيها بقرقرٍ * فطائرها في رأسها يتردد

وكانت كفاء وقعة باثيمةٍ * ليقطع منها ساعدٌ ومقلد

ويظعن أهل المكَّتين فيهربوا * فرائصهم من خشية الشر تُرعد

ويترك حراثٌ يقلب أمره * أيتهم فيها عند ذلك وينجد

وتصعد بين الأخشبين كتيبة * لها حدج سهم وقوس ومرهد

فمن ينش من حضّار مكةَ عزةً * فعزتنا في بطن مكة أتلد

نشأنا بها والناس فيها قلائل * فلم ننفكك نزدادُ خيراً ونحمد

ونطعم حتى يترك الناس فضلهم * إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد

جزى الله رهطاً بالحجون تجمعوا * على ملأٍ يهدي لحزمٍ ويرشد

قعوداً لذي حطم الحجون كأنهم * مقاولةٌ بل هم أعز وأمجد

أعان عليها كل صقر كأنه * إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد

جريءٌ على جل الخطوب كأنه * شهاب بكفي قابسٍ يتوقد

من الأكرمين من لؤي بن غالب * إذا سيم خسفاً وجهه يتربد

طويلُ النجاد خارجٌ نصف ساقه * على وجهه يسقي الغمام ويسعد

عظيم الرماد سيدٌ وابن سيد * يحضُّ على مقري الضيوف ويحشد

ويبني لأبناءِ العشيرة صالحاً * إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد

ألظَّ بهذا الصلح كل مبرأ * عظيم اللواء أمره ثم يحمد

قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا * على مهلٍ وسائر الناس رقد

هم رجعوا سهل بن بيضاء راضياً * وسُرَّ أبو بكر بها ومحمد

متى شرك الأقوام في حل أمرنا * وكنا قديماً قبلها نتودد

وكنا قديماً لا نقر ظلامة * وندرك ما شئنا ولا نتشدد

فيالَ قصي هل لكم في نفوسكم * وهل لكم فيما يجيء به غد

فإني وإياكم كما قال قائلٌ * لديك البيان لو تكلمت أسود

قال السهيلي‏:‏ أسود اسم جبل قتل به قتيل ولم يعرف قاتله

فقال أولياء المقتول‏:‏ لديك البيان لو تكلمت أسود أي يا أسود لو تكلمت لأبنت لنا عمن قتله‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق شعر حسان يمدح المطعم بن عدي وهشام بن عمرو لقيامهما في نقض الصحيفة الظالمة الفاجرة الغاشمة‏.‏

وقد ذكر الأموي ههنا أشعاراً كثيرة اكتفينا بما أورده ابن إسحاق‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ سألت محمد بن صالح وعبد الرحمن بن عبد العزيز متى خرج بنو هاشم من الشعب‏؟‏

قالا‏:‏ في السنة العاشرة - يعني من البعثة - قبل الهجرة بثلاث سنين‏.‏ ‏

قلت‏:‏ وفي هذه السنة بعد خروجهم توفي أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

 فصل ذكر عداوة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة‏.‏

وقد ذكر محمد بن إسحاق - رحمه الله - بعد إبطال الصحيفة قصصاً كثيرة تتضمن نصب عداوة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة لحج أو عمرة أو غير ذلك منه، وإظهار الله المعجزات على يديه دلالة على صدقه فيما جاءهم به من البينات والهدى، وتكذيبنا لهم فيما يرمونه من البغي والعدوان والمكر والخداع، ويرمونه من الجنون والسحر والكهانة والتقول، والله غالب على أمره‏.‏

فذكر قصة الطفيل بن عمرو الدوسي مرسلة، وكان سيداً مطاعاً شريفاً في دوس، وكان قد قدم مكة فاجتمع به أشراف قريش وحذروه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهوه أن يجتمع به أو يسمع كلامه، قال‏:‏ فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفاً فرقاً من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه‏.‏

قال‏:‏ فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، قال‏:‏ فقمت منه قريباً فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، قال‏:‏ فسمعت كلاماً حسناً، قال‏:‏ فقلت في نفسي واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول‏!‏ فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته‏.‏

قال‏:‏ فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه

فقلت‏:‏ يا محمد، إن قومك قالوا لي كذا وكذا - الذي قالوا -‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما برحوا بي يخوفونني أمرك حتى سددت أذنيّ بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعت قولاً حسناً، فاعرض عليَّ أمرك‏.‏

قال‏:‏ فعرض عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه‏.‏

قال‏:‏ فأسلمت وشهدت شهادة الحق‏.‏

وقلت‏:‏ يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي، وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً عليهم فيما أدعوهم إليه‏.‏

قال‏:‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اجعل له آية‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر، وقع بين عيني نور مثل المصباح‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ اللهم في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا بها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم‏.‏

قال‏:‏ فتحول فوقع في رأس سوطي‏.‏ ‏

قال‏:‏ فجعل الحاضرون يتراؤن ذلك النور في رأس سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أتهبط عليهم من الثنية، حتى جئتهم فأصبحت فيهم، فلما نزلت أتاني أبي - وكان شيخاً كبيراً -‏.‏

فقلت‏:‏ إليك عني يا أبة فلست منك ولست مني‏.‏

قال‏:‏ ولم يا بني‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ أي بني فدينك ديني‏.‏

فقلت‏:‏ فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم ائتني حتى أعلمك مما علمت‏.‏

قال‏:‏ فذهب فاغتسل وطهر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم‏.‏

قال‏:‏ ثم أتتني صاحبتي‏.‏

فقلت‏:‏ إليك عني، فلست منك ولست مني‏.‏

قالت‏:‏ ولم‏؟‏ بأبي أنت وأمي‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ قد فرق بيني وبينك الإسلام، وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قالت‏:‏ فديني دينك‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ فاذهبي إلى حمى ذي الشرى فتطهري منه، وكان ذو الشرى صنماً لدوس وكان الحمى حمى حموه حوله به وشل من ماء يهبط من جبل‏.‏

قالت‏:‏ بأبي أنت وأمي أتخشى على الصبية من ذي الشرى شيئاً‏؟‏

قلت‏:‏ لا، أنا ضامن لذلك‏.‏

قال‏:‏ فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت، ثم دعوت دوساً إلى الإسلام فأبطؤا عليّ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة‏.‏

فقلت له‏:‏ يا رسول الله‏:‏ إنه قد غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهد دوساً، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين - أو ثمانين بيتاً - من دوس فلحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين‏.‏

ثم لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة‏.‏

فقلت يا رسول الله‏:‏ ابعثني إلى ذي الكفين، صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فخرج إليه فجعل الطفيل وهو يوقد عليه النار يقول‏:‏

ياذا الكفين لست من عبادكا * ميلادنا أقدم من ميلادكا

إني حشوت النار في فؤادكا

قال‏:‏ ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان معه بالمدينة حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما أرتدت العرب خرج الطفيل مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل‏.‏

فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة فقال لأصحابه‏:‏ إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي، رأيت أن رأسي حلق، وأنه خرج من فمي طائر، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها وأرى ابني يطلبني طلباً حثيثاً ثم رأيته حبس عني ‏؟‏

قالوا‏:‏ خيراً‏.‏

قال‏:‏ أما أنا والله فقد أولتها‏.‏

قالوا‏:‏ ماذا‏؟‏

قال‏:‏ أما حلق رأسي‏:‏ فوضعه، وأما الطائر الذي خرج منه‏:‏ فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها‏:‏ فالأرض تحفر لي فأغيب فيها، وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني‏:‏ فإني أراه سيجتهد أن يصيبه ما أصابني‏.‏

فقتل رحمه الله تعالى شهيداً باليمامة، وجرح ابنه جراحة شديدة، ثم استبل منها ثم قتل عام اليرموك زمن عمر شهيداً رحمه الله‏.‏

هكذا ذكر محمد بن إسحاق قصة الطفيل بن عمرو مرسلة بلا إسناد، ولخبره شاهد في الحديث الصحيح‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال‏:‏ لما قدم الطفيل وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن دوساً قد استعصت قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهد دوساً وائت بهم‏)‏‏)‏ رواه البخاري عن أبي نعيم عن سفيان الثوري‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏

قال‏:‏ قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه‏.‏

فقالوا‏:‏ يا رسول الله إن دوساً قد عصت وأبت فادع الله عليها‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقلت‏:‏ هلكت دوس‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهد دوساً، وائت بهم‏)‏‏)‏، إسناد جيد ولم يخرجوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر‏:‏ أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة‏؟‏ - قال‏:‏ حصن كان لدوس في الجاهلية - فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار‏.‏

فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه فشخبت يداه فما رقأ الدم حتى مات‏.‏

فرآه الطفيل بن عمرو في منامه في هيئة حسنة، ورآه مغطياً يديه‏.‏

فقال له‏:‏ ما صنع ربك بك‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم

قال‏:‏ فما لي أراك مغطياً يديك‏؟‏

قال‏:‏ قيل لي لن يصلح منك ما أفسدت‏.‏

قال‏:‏ فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم وليديه فاغفر‏)‏‏)‏‏.‏

رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن سليمان بن حرب به‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما الجمع بين هذا الحديث وبين ما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من طريق الحسن عن جندب قال‏:‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات، فقال الله عز وجل‏:‏ عبدي بادرني بنفسه فحرمت عليه الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

فالجواب من وجوه؛ أحدها‏:‏ أنه قد يكون ذاك مشركاً وهذا مؤمن، ويكون قد جعل هذا الصنيع سبباً مستقلاً في دخوله النار وإن كان شركه مستقلاً إلا أنه نبه على هذا لتعتبر أمته‏.‏

الثاني‏:‏ قد يكون هذاك عالماً بالتحريم وهذا غير عالم لحداثة عهده بالإسلام‏.‏

الثالث‏:‏ قد يكون ذاك فعله مستحلاً له وهذا لم يكن مستحلاً بل مخطئاً‏.‏

الرابع‏:‏ قد يكون أراد ذاك بصنيعه المذكور أن يقتل نفسه بخلاف هذا فإنه يجوز أنه لم يقصد قتل نفسه وإنما أراد غير ذلك‏.‏

الخامس‏:‏ قد يكون هذاك قليل الحسنات فلم تقاوم كبر ذنبه المذكور فدخل النار، وهذا قد يكون كثير الحسنات فقاومت الذنب فلم يلج النار بل غفر له بالهجرة إلى نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولكن بقي الشين في يده فقط وحسنت هيئة سائره فغطى الشين منه فلما رآه الطفيل بن عمرو مغطياً يديه قال له‏:‏ مالك‏؟‏

قال‏:‏ قيل لي لن يصلح منك ما أفسدت‏.‏

فلما قصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم وليديه فاغفر‏)‏‏)‏ أي‏:‏ فأصلح منها ما كان فاسداً‏.‏

والمحقق أن الله استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب الطفيل بن عمرو‏.‏

 قصة أعشى بن قيس

قال ابن هشام‏:‏ حدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي وغيره من مشايخ بكر بن وائل عن أهل العلم أن أعشى بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الإسلام، فقال يمدح النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبتَّ كما بات السليم مسهَّدا

وما ذاك من عشق النساء وإنما * تناسيت قبل اليوم خلَّة مهْددا

ولكن أرى الدهر الذي هو خائن * إذا أصلحت كفَّاي عاد فأفسدا

كهولاً وشبَّاناً فقدتُ وثروةً * فلله هذا الدهر كي ترددا

وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع * وليداً وكهلاً حين شبْتُ وأمردا

وأبتذل العيس المراقيل تعتلي * مسافة ما بين النجير فصرخدا

ألا أيهذا السائلي أين يمَّمت * فإن لها في أهل يثرب موعدا

فإن تسألي عني فيا ربَّ سائل * حفيّ عن الأعشى به حيث أصعدا

أجدتُ برجليها النجاد وراجعت * يداها خنافاً ليِّناً غير أحردا

وفيها إذا ما هجَّرتْ عجرفيّةٌ * إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا

وآليت لا آوي لها من كلالةٍ * ولا من حفى حتى تلاقي محمدا

متى ما تناخي عند باب ابن هاشم * تراحي وتلقي من فواضله ندى

نبي يرى ما لا ترون وذكره * أغار لعمري في البلاد وأنجدا

له صدقات ما تغبُّ ونائل * فليس عطاء اليوم مانعه غدا

أجدَّك لم تسمع وصاة محمدٍ * نبي الإله حيث أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للأمر الذي كان أرصدا

فإياك والميتات لا تقربنَّها * ولا تأخذن سهماً حديداً لتقصدا

وذا النصب المنصوب لا تنسكنَّه * ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا

ولا تقربنَّ جارة كان سرها * عليك حراماً فانكحن أو تأبدا

وذا الرحم القربى فلا تقطعنَّه * لعاقبة ولا الأسير المقيدا

وسبِّح على حين العشية والضحى * ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا

ولا تسخرن من بائسٍ ذي ضرارة * ولا تحسبنَّ المال للمرء مخلدا

قال ابن هشام‏:‏ فلما كان بمكة - أو قريب منها - اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم‏.‏

فقال له‏:‏ يا أبا بصير إنه يحرم الزنا‏.‏

فقال الأعشى‏:‏ والله إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب‏.‏

فقال‏:‏ يا أبا بصير إنه يحرم الخمر‏.‏

فقال الأعشى‏:‏ أما هذه فوالله إن في نفسي منها العلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا، ثم آته فأسلم فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

هكذا أورد ابن هشام هذه القصة ههنا وهو كثير المؤاخذات لمحمد بن إسحاق رحمه الله، وهذا مما يؤاخذ به ابن هشام رحمه الله‏.‏ ‏

فإن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد وقعة بني النضير كما سيأتي بيانه فالظاهر أن عزم الأعشى على القدوم للإسلام إنما كان بعد الهجرة وفي شعره ما يدل على ذلك وهو قوله‏:‏

ألا أيها ذا السائلي أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا

وكان الأنسب والأليق بابن هشام أن يؤخر ذكر هذه القصة إلى ما بعد الهجرة ولا يوردها هاهنا والله أعلم‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وهذه غفلة من ابن هشام ومن تابعه فإن الناس مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا في المدينة بعد أحد‏.‏

وقد قال‏:‏ وقيل إن القائل للأعشى هو أبو جهل بن هشام في دار عتبة بن ربيعة‏.‏

وذكر أبو عبيدة أن القائل له ذلك‏:‏ هو عامر بن الطفيل في بلاد قيس وهو مقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ وقوله ثم آته فأسلم لا يخرجه عن كفره بلا خلاف والله أعلم‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق هاهنا قصة الأراشي وكيف استعدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي جهل في ثمن الجمل الذي ابتاعه منه، وكيف أذل الله أبا جهل وأرغم أنفه حتى أعطاه ثمنه في الساعة الراهنة وقد قدَّمنا ذلك في ابتداء الوحي وما كان من أذية المشركين عند ذلك‏.‏

 قصة مصارعة ركانة وكيف أراه صلى الله عليه وسلم الشجرة التي دعاها فأقبلت‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني أبي إسحاق بن يسار قال‏:‏ وكان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف أشد قريشاً فخلا يوماً برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فقم حتى أصارعك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقام ركانة إليه فصارعه فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعه لا يملك من نفسه شيئاً ثم قال‏:‏ عد يا محمد فعاد فصرعه‏.‏

فقال‏:‏ يا محمد والله إن هذا للعجب، أتصرعني‏؟‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏وأعجب من ذلك إن شئت أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري‏)‏‏)‏‏؟‏

قال‏:‏ وما هو‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فادعها‏.‏

فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال لها‏:‏ ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها‏.‏

قال‏:‏ فذهب ركانة إلى قومه فقال‏:‏ يا بني عبد مناف ساحروا صاحبكم أهل الأرض فوالله ما رأيت أسحر منه قط، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع‏.‏

هكذا روى ابن إسحاق هذه القصة مرسلةً بهذا البيان‏.‏

وقد روى أبو داود والترمذي من حديث أبي الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه‏.‏

أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم قال الترمذي‏:‏ غريب ولا نعرف أبا الحسن ولا ابن ركانة‏.‏

قلت‏:‏ وقد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم فلما كان في الثالثة قال‏:‏ يا محمد ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي منك‏.‏

وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وردَّ عليه غنمه‏.‏

وأما قصة دعائه الشجرة فأقبلت فسيأتي في كتاب ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ بعد السيرة من طرق جيدة صحيحة في مرات متعددة إن شاء الله وبه الثقة‏.‏

وقد تقدم عن أبي الأشدين أنه صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق قصة قدوم النصارى من أهل الحبشة نحواً من عشرين راكباً إلى مكة فأسلموا عن آخرهم، وقد تقدم ذلك بعد قصة النجاشي ولله الحمد والمنة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد، يجلس إليه المستضعفون من أصحابه‏:‏ خباب، وعمار، وأبو فكيهة، يسار، مولى صفوان بن أمية، وصهيب، وأشباههم من المسلمين‏.‏

هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض‏:‏ هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا بالهدى ودين الحق لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا‏.‏

فأنزل الله عز وجل فيهم‏:‏ ‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52-54‏]‏‏.‏

قال‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له‏:‏ جبر، عبد لبنى الحضرمي، وكانوا يقولون والله ما يعلم محمداً كثيرا مما يأتي به إلاجبر، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 103‏]‏‏.‏

ثم ذكر نزول ‏(‏سورة الكوثر‏)‏ في العاص بن وائل حين قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أبتر أي‏:‏ لا عقب له فإذا مات انقطع ذكره‏.‏

فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ‏}‏ أي‏:‏ المقطوع الذكر بعده، ولو خلف ألوفاً من النسل والذرية وليس الذكر والصيت ولسان صدق بكثرة الأولاد والأنسال والعقب، وقد تكلمنا على هذه السورة في التفسير ولله الحمد‏.‏

وقد روي عن أبي جعفر الباقر‏:‏ أن العاص بن وائل إنما قال ذلك حين مات القاسم بن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة‏.‏

ثم ذكر نزول قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر‏}‏ وذلك بسبب قول أبي بن خلف وزمعة بن الأسود والعاص ابن وائل والنضر بن الحارث‏:‏ لولا أنزل عليك ملك يكلم الناس عنك‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل ابن هشام فهمزوه واستهزؤا به، فغاظه ذلك فأنزل الله تعالى في ذلك من أمرهم‏:‏ ‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين‏}‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كفيناك المستهزئين‏}‏‏.‏

قال سفيان‏:‏ عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ المستهزؤن‏:‏ الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب أبو زمعة، والحارث بن عيطل، والعاص بن وائل السهمي‏.‏

فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراه الوليد أبا عمرو بن المغيرة فأشار جبريل إلى أنمله وقال‏:‏ كفيته‏.‏

ثم أراه الأسود بن المطلب فأومأ إلى عنقه وقال‏:‏ كفيته‏.‏

ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه وقال‏:‏ كفيته‏.‏

ثم أراه الحارث بن عيطل فأومأ إلى بطنه وقال‏:‏ كفيته‏.‏

ومر به العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه وقال‏:‏ كفيته‏.‏

فأما الوليد‏:‏ فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً له فأصاب أنمله فقطعها، وأما الأسود بن عبد يغوث‏:‏ فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الأسود بن المطلب‏:‏ فعمي‏.‏

وكان سبب ذلك أنه نزل تحت سمرة فجعل يقول‏:‏ يا بني ألا تدفعون عني قد قتلت فجعلوا يقولون‏:‏ ما نرى شيئاً‏.‏

وجعل يقول‏:‏ يا بني ألا تمنعون عني قد هلكت، ها هو ذا الطعن بالشوك في عيني‏.‏

فجعلوا يقولون‏:‏ ما نرى شيئاً فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه‏.‏

وأما الحارث بن عيطل‏:‏ فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها‏.‏

وأما العاص بن وائل‏:‏ فبينما هو كذلك يوماً إذ دخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت منها فمات منها‏.‏

وقال غيره في هذا الحديث‏:‏ فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة - يعني شوكة - فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته‏.‏

رواه البيهقي بنحو من هذا السياق‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وكان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر‏.‏

وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم؛ الأسود بن المطلب أبو زمعة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم أعم بصره وأثكله ولده‏)‏‏)‏‏.‏

والأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن الطلاطلة‏.‏

وذكر أن الله تعالى أنزل فيهم‏:‏ ‏{‏فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 94‏]‏‏.‏

وذكر أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمرَّ به الأسود ابن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي‏.‏

ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى باطنه فمات منه حبنا‏.‏

ومرَّ به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعبه كان أصابه قبل ذلك بسنين من مروره برجل يريش نبلاً له من خزاعة فتعلق سهم بإزاره فخدشه خدشاً يسيراً، فانتقض بعد ذلك فمات‏.‏

ومرَّ به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته‏.‏

ومر به الحارث بن الطلاطل فأشار إلى رأسه فامتحض قيحاً فقتله‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق‏:‏ أن الوليد بن المغيرة لما حضره الموت أوصى بنيه الثلاثة وهم‏:‏ خالد وهشام والوليد‏.‏

فقال لهم‏:‏ أي بني، أوصيكم بثلاث، دمي في خزاعة فلا تطلوه، والله إني لأعلم أنهم منه براء ولكني أخشى أن تسبوا به بعد اليوم، ورباي في ثقيف، فلا تدعوه حتى تأخذوه، وعقري عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم به‏.‏

وكان أبو أزيهر قد زوج الوليد بنتاً له ثم أمسكها عنه فلم يدخلها عليه حتى مات، وكان قد قبض عقرها منه - وهو صداقها -‏.‏

فلما مات الوليد وثبت بنو مخزوم على خزاعة يلتمسون منهم عقل الوليد، وقالوا‏:‏ إنما قتله سهم صاحبكم، فأبت عليهم خزاعة ذلك حتى تقاولوا أشعاراً وغلظ بينهم الأمر‏.‏

ثم أعطتهم خزاعة بعض العقل واصطلحوا وتحاجزوا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر وهو بسوق ذي المجاز فقتله، وكان شريفاً في قومه وكانت ابنته تحت أبي سفيان - وذلك بعد بدر - فعمد يزيد بن أبي سفيان فجمع الناس لبني مخزوم وكان أبوه غائباً، فلما جاء أبو سفيان غاظه ما صنع ابنه يزيد فلامه على ذلك وضربه وودى أبا أزيهر وقال لابنه‏:‏ أعمدت إلى أن تقتل قريش بعضها بعضاً في رجل من دوس ‏؟‏

وكتب حسان بن ثابت قصيدة له يحض أبا سفيان في دم أبي أزيهر، فقال‏:‏ بئس ما ظن حسان أن يقتل بعضنا بعضاً وقد ذهب أشرافنا يوم بدر‏.‏

ولما أسلم خالد بن الوليد وشهد الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله في ربا أبيه من أهل الطائف ‏؟‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فذكر لي بعض أهل العلم‏:‏ إن هؤلاء الآيات نزلن في ذلك‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278‏]‏ وما بعدها‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولم يكن في بني أزيهر ثأر نعلمه حتى حجر الإسلام بين الناس، إلا أن ضرار بن الخطاب بن مرداس الأسلمي خرج في نفر من قريش إلى أرض دوس فنزلوا على امرأة يقال لها أم غيلان مولاة لدوس، وكانت تمشط النساء وتجهز العرائس، فأرادت دوس قتلهم بأبي أزيهر فقامت دونه أم غيلان ونسوة كن معها حتى منعتهم‏.‏

قال السهيلي‏:‏ يقال إنها أدخلته بين درعها وبدنها‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ فلما كانت أيام عمر بن الخطاب أتته أم غيلان وهي ترى أن ضراراً أخوه‏.‏

فقال لها عمر‏:‏ لست بأخيه إلا في الإسلام، وقد عرفت منتك عليه فأعطاها على أنها بنت سبيل‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وكان ضرار بن الخطاب لحق عمر بن الخطاب يوم أحد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول‏:‏ انج يا ابن الخطاب لا أقتلك فكان عمر يعرفها له بعد الإسلام رضي الله عنهما‏.‏

 

فصل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش حين استعصت عليه

وذكر البيهقي ها هنا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش حين استعصت عليه بسبع مثل سبع يوسف وأورد ما أخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من طريق الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن ابن مسعود‏.‏

قال‏:‏ خمس مضين؛ اللزام والروم، والدخان، والبطشة، والقمر، وفي رواية عن ابن مسعود‏.‏

قال‏:‏ إن قريشاً، لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطئوا عن الإسلام‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأصابتهم سنة حتى فحصت كل شيء، حتى أكلوا الجيف والميتة وحتى أن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع‏.‏

ثم دعا فكشف الله عنهم، ثم قرأ عبد الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 15‏]‏ قال‏:‏ فعادوا فكفروا فأخروا إلى يوم القيامة - أو قال‏:‏ فأخروا إلى يوم بدر -‏.‏

قال عبد الله‏:‏ إن ذلك لو كان يوم القيامة كان لا يكشف عنهم‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 16‏]‏ قال يوم بدر‏.‏

وفي رواية عنه‏.‏

قال‏:‏ لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدباراً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم سبع كسبع يوسف‏)‏‏)‏ فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام‏.‏

فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا‏:‏ يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وأن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم‏.‏

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعاً فشكا الناس كثرة المطر‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم حوالينا ولا علينا‏)‏‏)‏ فانجذب السحاب عن رأسه فسقى الناس حولهم‏.‏

قال‏:‏ لقد مضت آية الدخان - وهو الجوع الذي أصابهم - وذلك قوله‏:‏ {‏إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون‏}‏ وآية الروم، والبطشة الكبرى، وانشقاق القمر، وذلك كله يوم بدر‏.‏

قال البيهقي‏:‏ يريد - والله أعلم - البطشة الكبرى والدخان وآية اللزام كلها حصلت ببدر‏.‏

قال‏:‏ وقد أشار البخاري إلى هذه الرواية‏.‏ ثم أورد من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث من الجوع لأنهم لم يجدوا شيئاً حتى أكلوا العهن، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ‏} ‏[‏المؤمنون‏:‏ 76‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرج الله عنهم‏.‏

ثم قال الحافظ البيهقي‏:‏ وقد روى في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك بعد الهجرة، ولعله كان مرتين والله أعلم‏.‏

 

 فصل قصة فارس والروم‏.‏

ثم أورد البيهقي قصة فارس والروم ونزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 1-6‏]‏‏.‏

ثم روى من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان، فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏أما أنهم سيظهرون‏)‏‏)‏ فذكر أبو بكر ذلك للمشركين‏.‏

فقالوا‏:‏ اجعل بيننا وبينك أجلاً إن ظهروا كان لك كذا وكذا، وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا جعلته أداة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ دون العشر فظهرت الروم بعد ذلك‏.‏

وقد أوردنا طرق هذا الحديث في التفسير وذكرنا أن المباحث - أي‏:‏ المراهن - لأبي بكر أمية بن خلف وأن الرهن كان على خمس قلايص، وأنه كان إلى مدة، فزاد فيها الصديق عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الرهن‏.‏

وأن غلبة الروم على فارس كان يوم بدر - أو كان يوم الحديبية - فالله أعلم‏.‏

ثم روى من طريق الوليد بن مسلم حدثنا أسيد الكلابي أنه سمع العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم وظهورهم على الشام والعراق، كل ذلك في خمس عشرة سنة‏.‏

 فصل الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس‏.‏

ذكر ابن عساكر أحاديث الإسراء في أوائل البعثة، وأما ابن إسحاق فذكرها في هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين، وروى البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال‏:‏ أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى المدينة بسنة‏.‏

قال‏:‏ وكذلك ذكره ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة‏.‏

ثم روى الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن أسباط بن نصر عن إسماعيل السدي‏.‏

أنه قال‏:‏ فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس ببيت المقدس ليلة أُسري به قبل مهاجره بستة عشر شهراً، فعلى قول السدي يكون الإسراء في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزهري وعروة يكون في ربيع الأول‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة‏:‏ حدثنا عثمان عن سعيد ابن مينا عن جابر وابن عباس‏.‏

قالا‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول‏.‏

وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات، فيه انقطاع‏.‏

وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي في سيرته وقد أورد حديثاً لا يصح سنده ذكرناه في فضائل شهر رجب أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب والله أعلم‏.‏

ومن الناس من يزعم أن الإسراء كان أول ليلة جمعة من شهر رجب وهي ليلة الرغائب التي أحدثت فيها الصلاة المشهورة ولا أصل لذلك والله أعلم‏.‏

وينشد بعضهم في ذلك‏:‏

ليلةَ الجمعةِ عُرِّج بالنبي * ليلةَ الجمعةِ أول رجب

وهذا الشعر عليه ركاكة وإنما ذكرناه استشهاداً لمن يقول به‏.‏

وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في ذلك مستقصاة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير‏}‏ فلتكتب من هناك على ما هي عليه من الأسانيد والعزو، والكلام عليها ومعها ففيها مقنع وكفاية ولله الحمد والمنة‏.‏

ولنذكر ملخص كلام ابن إسحاق رحمه الله فإنه قال بعد ذكر ما تقدم من الفصول‏:‏ ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى - وهو بيت المقدس من إيلياء - وقد فشا الإسلام بمكة في قريش وفي القبائل كلها‏.‏

قال‏:‏ وكان من الحديث - فيما بلغني - عن مسراه صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعائشة ومعاوية وأم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنهم والحسن بن أبي الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر لي من أمره‏.‏

وكان في مسراه صلى الله عليه وسلم وما ذكر لي منه بلاء وتمحيص، وأمر من أمر الله وقدرته وسلطانه، فيه عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق، وكان من أمر الله على يقين، فأسرى به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد‏.‏

وكان عبد الله بن مسعود - فيما بلغني - يقول‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق - وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها في موضع منتهى طرفها - فحُمل عليها ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له، فصلى بهم ثم أتى بثلاثة آنية‏:‏ من لبن، وخمر، وماء‏.‏

فذكر أنه شرب إناء اللبن، فقال لي جبريل‏:‏ هديت وهديت أمتك‏.‏

وذكر ابن إسحاق في سياق الحسن البصري مرسلاً‏:‏ أن جبريل أيقظه ثم خرج به إلى باب المسجد الحرام فأركبه البراق وهو دابة أبيض، بين البغل والحمار، وفي فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه، يضع حافره في منتهى طرفه، ثم حملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته‏.‏

قلت‏:‏ وفي الحديث وهو عن قتادة فيما ذكره ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد ركوب البراق شمس به فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال‏:‏ ألا تستحي يا براق مما تصنع، فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه‏.‏

قال‏:‏ فاستحى حتى أرفض عرقاً ثم قرَّ حتى ركبته‏.‏

قال الحسن في حديثه‏:‏ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى معه جبريل حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم، ثم ذكر اختياره إناء اللبن على إناء الخمر وقول جبريل له‏:‏ هديت وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر‏.‏

قال‏:‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فأصبح يخبر قريشاً بذلك فذكر أنه كذبه أكثر الناس وارتدت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصديق إلى التصديق وقال‏:‏ إني لأصدقه في خبر السماء بكرة وعشية أفلا أصدقه في بيت المقدس وذكر أن الصديق سأله عن صفة بيت المقدس فذكرها له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فيومئذ سمي أبو بكر الصديق‏.‏

قال الحسن‏:‏ وأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏{‏وماجعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس‏}‏ الآية‏.‏

وذكر ابن إسحاق فيما بلغه عن أم هانئ‏.‏

أنها قالت‏:‏ ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من بيتي نام عندي تلك الليلة بعد ما صلى العشاء الآخرة، فلما كان قبيل الفجر أهبنا فلما صلى الصبح وصلينا معه‏.‏

قال يا أم هانئ‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد صليت معكم العشاء الآخرة في هذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت الغداة معكم الآن كما ترين‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه فقلت‏:‏ يا نبي الله لا تحدث بهذا الحديث الناس فيكذبونك ويؤذونك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏والله لأحدثنهموه‏)‏‏)‏ فأخبرهم فكذبوه‏.‏

فقال‏:‏ وآية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة فندَّلهم بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياماً ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان‏.‏

وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء‏.‏

قال‏:‏ فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل الذي وصف لهم، وسألوهم عن الإناء وعن البعير فأخبروهم كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

وذكر يونس بن بكير عن أسباط عن إسماعيل السدي أن الشمس كادت أن تغرب قبل أن يقدم ذلك العير، فدعا الله عز وجل فحبسها حتى قدموا كما وصف لهم‏.‏

قال‏:‏ فلم تحتبس الشمس على أحد إلا عليه ذلك اليوم وعلى يوشع بن نون‏.‏ رواه البيهقي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وأخبرني من لا أتهم عن أبي سعيد قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتى بالمعراج ولم أر شيئاً قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر، فأصعدني فيه صاحبي، حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء، يقال له‏:‏ باب الحفظة عليه بريد من الملائكة يقال له‏:‏ إسماعيل، تحت يده اثنا عشر ألف ملك، تحت يد كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك‏.‏ ‏‏

قال‏:‏ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدث بهذا الحديث ‏{‏وما يعلم جنود ربك إلا هو‏}‏‏.‏

ثم ذكر بقية الحديث وهو مطول جداً وقد سقناه بإسناده ولفظه بكماله في التفسير وتكلمنا عليه فإنه من غرائب الأحاديث وفي إسناده ضعف، وكذا في سياق حديث أم هانئ فإن الثابت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس أن الإسراء كان من المسجد من عند الحجر وفي سياقه غرابة أيضاً من وجوه قد تكلمنا عليها هناك‏.‏

ومنها قوله‏:‏ وذلك قبل أن يوحى إليه، والجواب أن مجيئهم أول مرة كان قبل أن يوحى إليه فكانت تلك الليلة ولم يكن فيها شيء ثم جاءه الملائكة ليلة أخرى ولم يقل في ذلك، وذلك قبل أن يوحى إليه بل جاءه بعد ما أوحي إليه فكان الإسراء قطعاً بعد الإيحاء إما بقليل كما زعمه طائفة، أو بكثير نحو من عشر سنين كما زعمه آخرون وهو الأظهر‏.‏

وغسل صدره تلك الليلة قبل الإسراء غسلاً ثانياً - أو ثالثاً - على قول أنه مطلوب إلى الملأ الأعلى والحضرة الإلهية ثم ركب البراق رفعة له وتعظيماً وتكريماً فلما جاء بيت المقدس ربطه بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء ثم دخل بيت المقدس فصلى في قبلته تحية المسجد‏.‏

وأنكر حذيفة رضي الله عنه دخوله إلى بيت المقدس وربطه الدابة وصلاته فيه وهذا غريب، والنص المثبت مقدم على النافي‏.‏

ثم اختلفوا في اجتماعه بالأنبياء وصلاته بهم أكان قبل عروجه إلى السماء كما دل عليه ما تقدم أو بعد نزوله منها كما دل عليه بعض السياقات وهو أنسب كما سنذكره على قولين فالله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ أن صلاته بالأنبياء كانت في السماء، وهكذا تخيره من الآنية اللبن والخمر والماء هل كانت ببيت المقدس كما تقدم أو في السماء كما ثبت في الحديث الصحيح والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من أمر بيت المقدس نصب له المعراج وهو السلم فصعد فيه إلى السماء ولم يكن الصعود على البراق كما قد يتوهمه بعض الناس بل كان البراق مربوطاً على باب مسجد بيت المقدس ليرجع عليه إلى مكة‏.‏

فصعد من سماء إلى سماء في المعراج حتى جاوز السابعة وكلما جاء سماء تلقته منها مقربوها ومن فيها من أكابر الملائكة والأنبياء وذكر أعيان من رآه من المرسلين‏:‏ كآدم في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى في الثانية وإدريس في الرابعة، وموسى في السادسة - على الصحيح - وإبراهيم في السابعة مسنداً ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه صلاة وطوافاً ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة‏.‏

ثم جاوز مراتبهم كلهم حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ورفعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة، ونبقها كقلال هجر، وغشيها عند ذلك أمور عظيمة ألوان متعددة باهرة وركبتها الملائكة مثل الغربان على الشجرة كثرة وفراش من ذهب وغشيها من نور الرب جل جلاله، ورأى هناك جبريل عليه السلام له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء والأرض وهو الذي يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى‏}‏ أي‏:‏ ما زاغ يميناً ولا شمالاً ولا ارتفع عن المكان الذي حدَّ له النظر إليه‏.‏ ‏

وهذا هو الثبات العظيم والأدب الكريم وهذه الرؤيا الثانية لجبريل عليه السلام على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها، كما نقله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو ذر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

والأولى هي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏علَّمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى‏}‏ وكان ذلك بالأبطح، تدلى جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض حتى كان بينه وبينه قاب قوسين أو أدنى، هذا هو الصحيح في التفسير كما دل عليه كلام أكابر الصحابة المتقدم ذكرهم رضي الله عنهم‏.‏

فأما قول شريك عن أنس في حديث الإسراء‏:‏ ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فقد يكون من فهم الراوي فأقحمه في الحديث والله أعلم‏.‏

وإن كان محفوظاً فليس بتفسير للآية الكريمة بل هو شيء آخر غير ما دلت عليه الآية الكريمة والله أعلم‏.‏

وفرض الله سبحانه وتعالى على عبده محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته الصلوات ليلتئذ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم لم يزل يختلف بين موسى وبين ربه عز وجل حتى وضعها الرب جل جلاله وله الحمد والمنة إلى خمس‏.‏

وقال‏:‏ هي خمس وهي خمسون الحسنة بعشر أمثالها فحصل له التكليم من الرب عز وجل ليلتئذ، وأئمة السنة كالمطبقين على هذا، واخلفوا في الرؤية فقال بعضهم‏:‏ رآه بفؤاده مرتين قاله ابن عباس وطائفة‏:‏ وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية وهو محمول على التقييد‏.‏

وممن أطلق الرؤية‏:‏ أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين وأختاره ابن جرير وبالغ فيه وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين‏.‏

وممن نص على الرؤية بعيني رأسه‏:‏ الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيلي عنه، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في ‏(‏فتاويه‏)‏‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لم يقع ذلك لحديث أبي ذر في صحيح مسلم‏.‏

قلت يا رسول الله‏:‏ هل رأيت ربك‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏نورٌ أنَّى أراه‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيت نوراً‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ولم يكن رؤية الباقي بالعين الفانية ولهذا قال الله تعالى لموسى فيما روي في بعض الكتب الإلهية‏:‏ ‏(‏‏(‏يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده‏)‏‏)‏‏.‏

والخلاف في هذه المسألة مشهور بين السلف والخلف والله أعلم‏.‏

ثم هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس والظاهر أن الأنبياء هبطوا معه تكريماً له وتعظيماً عند رجوعه من الحضرة الإلهية العظيمة كما هي عادة الوافدين لا يجتمعون بأحد قبل الذي طلبوا إليه، ولهذا كان كلما مرَّ على واحد منهم يقول له جبريل - عندما يتقدم ذاك للسلام عليه -‏:‏ هذا فلان فسلم عليه، فلو كان قد اجتمع بهم قبل صعوده لما احتاج إلى تعرف بهم مرة ثانية‏.‏

ومما يدل على ذلك أنه قال‏:‏ فلما حانت الصلاة‏:‏ أممتهم‏.‏

ولم يحن وقت إذ ذاك إلا صلاة الفجر فتقدمهم إماماً بهم عن أمر جبريل فيما يرويه عن ربه عز وجل، فاستفاد بعضهم من هذا أن الإمام الأعظم يقدم في الإمامة على رب المنزل حيث كان بيت المقدس محلتهم ودار إقامتهم‏.‏

ثم خرج منه فركب البراق وعاد إلى مكة فأصبح بها وهو في غاية الثبات والسكينة والوقار‏.‏

وقد عاين في تلك الليلة من الآيات والأمور التي لو رآها - أو بعضها - غيره لأصبح مندهشاً أو طائش العقل، ولكنه صلى الله عليه وسلم أصبح واجماً - أي‏:‏ ساكناً - يخشى إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه، فتلطف بإخبارهم أولاً بأنه جاء بيت المقدس في تلك الليلة وذلك أن أبا جهل - لعنه الله - رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام وهو جالس واجم‏.‏

فقال له‏:‏ هل من خبر‏؟‏

فقال‏:‏ نعم ‏!‏

فقال‏:‏ ما هو‏؟‏

فقال‏:‏ إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس‏.‏

قال‏:‏ إلى بيت المقدس ‏!‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ أرأيت إن دعوت قومك لك لتخبرهم أتخبرهم بما أخبرتني به‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فأراد أبو جهل جمع قريش ليسمعوا منه ذلك وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم ليخبرهم ذلك ويبلغهم‏.‏

فقال أبو جهل‏:‏ هيا معشر قريش وقد اجتمعوا من أنديتهم‏.‏

فقال‏:‏ أخبر قومك بما أخبرتني به‏.‏

فقص عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى وأنه جاء بيت المقدس هذه الليلة وصلى فيه، فمن بين مصفق وبين مصفر تكذيباً له واستبعاداً لخبره وطار الخبر بمكة وجاء الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فأخبروه أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا‏.‏

فقال‏:‏ إنكم تكذبون عليه‏.‏

فقالوا‏:‏ والله إنه ليقوله‏.‏

فقال‏:‏ إن كان قاله فلقد صدق‏.‏

ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله مشركي قريش فسأله عن ذلك فأخبره فاستعلمه عن صفات بيت المقدس ليسمع المشركون ويعلموا صدقه فيما أخبرهم به‏.‏

وفي ‏(‏الصحيح‏)‏ أن المشركين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏.‏

قال‏:‏ فجعلت أخبرهم عن آياته فالتبس علي بعض الشيء، فجلى الله لي بيت المقدس حتى جعلت أنظر إليه دون دار عقيل وأنعته لهم‏.‏

فقال‏:‏ أما الصفة‏:‏ فقد أصاب‏.‏

وذكر ابن إسحاق ما تقدم من إخباره لهم بمروره بعيرهم وما كان من شربه مائهم، فأقام الله عليهم الحجة واستنارت لهم المحجة، فآمن من آمن على يقين من ربه وكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه‏.‏

كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ‏} ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏ أي‏:‏ اختباراً لهم وامتحاناً‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هي رؤيا عين أُريها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مذهب جمهور السلف والخلف من أن الإسراء كان ببدنه وروحه صلوات الله وسلامه عليه كما دل على ذلك ظاهر السياقات من ركوبه وصعوده في المعراج وغير ذلك‏.‏

ولهذا قال فقال‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ والتسبيح إنما يكون عند الآيات العظيمة الخارقة فدلَّ على أنه بالروح والجسد والعبد عبارة عنهما‏.‏ ‏

وأيضاً فلو كان مناماً لما بادر كفار قريش إلى التكذيب به والاستبعاد له إذ ليس في ذلك كبير أمر، فدلَّ على أنه أخبرهم بأنه أسري به يقظة لا مناماً‏.‏

وقوله في حديث شريك عن أنس‏:‏ ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر معدود في غلطات شريك أو محمول على أن الانتقال من حال إلى حال يسمى يقظة كما سيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها حين ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فكذبوه، قال‏:‏ فرجعت مهموماً فلم استفق إلا بقرن الثعالب‏.‏

وفي حديث أبي أسيد حين جاء بابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكه فوضعه على فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث مع الناس فرفع أبو أسيد ابنه، ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد الصبي فسأل عنه فقالوا‏:‏ رفع فسماه المنذر، وهذا الحمل أحسن من التغليط والله أعلم‏.‏

وقد حكى ابن إسحاق فقال‏:‏ حدثني بعض آل أبي بكر عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول‏:‏ ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله أسرى بروحه‏.‏

قال‏:‏ وحدثني يعقوب بن عتبة أن معاوية كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ كانت رؤيا من الله صادقة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن إن هذه الآية نزلت في ذلك‏:‏ ‏{‏وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس‏} وكما قال إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك‏}‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏تنام عيني وقلبي يقظان‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فالله أعلم أي ذلك كان، قد جاءه، وعاين فيه ما عاين من أمر الله تعالى، على أي حالة كان نائماً أو يقظاناً كل ذلك حق وصدق‏.‏

قلت‏:‏ وقد توقف ابن إسحاق في ذلك وجوَّز كلاً من الأمرين من حيث الجملة، ولكن الذي لا يشك فيه ولا يتمارى أنه كان يقظاناً لا محالة لما تقدم وليس مقتضى كلام عائشة رضي الله عنها أن جسده صلى الله عليه وسلم ما فقد، وإنما كان الإسراء بروحه أن يكون مناماً كما فهمه ابن إسحاق، بل قد يكون وقع الإسراء بروحه حقيقة وهو يقظان لا نائم وركب البراق وجاء بيت المقدس وصعد السموات وعاين ما عاين حقيقة ويقظة لا مناماً‏.‏

لعل هذا مراد عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، ومراد من تابعها على ذلك، لا ما فهمه ابن إسحاق من أنهم أرادوا بذلك المنام والله أعلم‏.‏

تنبيه‏:‏ ونحن لا ننكر وقوع منام قبل الإسراء طبق ما وقع بعد ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد تقدم مثل ذلك في حديث بدء الوحي أنه رأى مثل ما وقع له يقظة مناماً قبله ليكون ذلك من باب الإرهاص والتوطئة والتثبت والإيناس والله أعلم‏.‏

ثم قد اختلف العلماء في أن الإسراء والمعراج هل كانا في ليلة واحدة أو كل في ليلة على حدة ‏؟‏

فمنهم من يزعم أن‏:‏ الإسراء في اليقظة، والمعراج‏:‏ في المنام‏.‏

وقد حكى المهلب بن أبي صفرة في شرحه البخاري عن طائفة أنهم ذهبوا إلى أن‏:‏ الإسراء مرتين مرة بروحه مناماً، ومرة ببدنه وروحه يقظة‏.‏

وقد حكاه الحافظ أبو القاسم السهيلي عن شيخه أبي بكر بن العربي الفقيه‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وهذا القول يجمع الأحاديث فإن في حديث شريك عن أنس وذلك فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه‏.‏

وقال في آخره‏:‏ ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر وهذا منام، ودلَّ غيره على اليقظة، ومنهم من يدعي تعدد الإسراء في اليقظة أيضاً حتى قال بعضهم‏:‏ إنها أربع إسراءات‏.‏

وزعم بعضهم‏:‏ أن بعضها كان بالمدينة، وقد حاول الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله أن يوفق بين اختلاف ما وقع في روايات حديث الإسراء بالجمع المتعدد فجعل ثلاث إسراءات، مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة إلى السماء على البراق أيضاً لحديث حذيفة، ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السموات‏.‏

فنقول‏:‏ إن كان إنما حمله على القول بهذه الثلاث اختلاف الروايات فقد اختلف لفظ الحديث في ذلك على أكثر من هذه الثلاث صفات ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر فيما جمعناه مستقصياً في كتابنا التفسير عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً‏}‏ وإن كان إنما حمله أن التقسيم انحصر في ثلاث صفات بالنسبة إلى بيت المقدس وإلى السموات فلا يلزم من الحصر العقلي والوقوع كذلك في الخارج إلا بدليل والله أعلم‏.‏

والعجب أن الإمام أبا عبد الله البخاري رحمه الله ذكر الإسراء بعد ذكره موت أبي طالب فوافق ابن إسحاق في ذكره المعراج في أواخر الأمر، وخالفه في ذكره بعد موت أبي طالب، وابن إسحاق أخَّر ذكر موت أبي طالب على الإسراء، فالله أعلم أي ذلك كان‏.‏

والمقصود أن البخاري فرَّق بين الإسراء وبين المعراج فبوب لكل واحد منهما باباً على حدة‏.‏

فقال‏:‏ باب حديث الإسراء وقول الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً‏}‏‏.‏

حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال‏:‏ سمعت جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لما كذبتني قريش كنت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أحدثهم عن آياته وأنا أنظر إليه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر به‏.‏

ورواه مسلم والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ باب حديث المعراج‏:‏ حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضجعاً إذ أتاني آت‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ وسمعته يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏فشق ما بين هذه إلى هذه‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به‏.‏

قال‏:‏ من نقرة نحره إلى شعرته، وسمعته يقول‏:‏ من قصه إلى شعرته‏.‏

‏(‏‏(‏فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيماناً، فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض‏)‏‏)‏‏.‏

فقال الجارود‏:‏ وهو البراق يا أبا حمزة‏؟‏

قال أنس‏:‏ نعم ‏!‏‏:‏ ‏(‏‏(‏يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبرائيل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح‏.‏

قيل‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ جبرائيل‏.‏

قيل‏:‏ ومن معك‏؟‏

قال‏:‏ محمد‏.‏

قيل‏:‏ وقد أرسل إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قيل‏:‏ مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم‏.‏

فقال‏:‏ هذا أبوك آدم، فسلِّم عليه فسلمت عليه فردَّ السلام‏.‏

ثم قال‏:‏ مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح‏.‏

ثم صعد بي إلى السماء الثانية فاستفتح‏.‏

قيل‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ جبرائيل‏.‏

قيل‏:‏ ومن معك‏؟‏

قال‏:‏ محمد‏.‏

قيل‏:‏ وقد أرسل إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قيل‏:‏ مرحباً به فنعم المجيء جاء‏.‏

ففتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة‏.‏

قال‏:‏ هذا يحيى وعيسى فسلِّم عليهما فسلمت عليهما فردا‏.‏

ثم قالا‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح‏.‏

ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبرائيل‏.‏

قيل‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ جبرائيل‏.‏

قال‏:‏ ومن معك‏؟‏

قال‏:‏ محمد‏.‏

قيل‏:‏ وقد أرسل إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قيل‏:‏ مرحباً به فنعم المجيء جاء‏.‏

ففتح فلما خلصت إذا يوسف قال‏:‏ هذا يوسف فسلِّم عليه، فسلمت عليه فرد‏.‏

ثم قال‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح‏.‏

ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح‏.‏

قيل‏:‏ من هذا ‏؟‏

قال‏:‏ جبرائيل‏.‏

قال‏:‏ ومن معك‏؟‏

قال‏:‏ محمد‏.‏

قيل‏:‏ وقد أرسل إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قيل‏:‏ مرحباً به فنعم المجيء جاء‏.‏

فلما خلصت إذا إدريس، قال‏:‏ هذا إدريس فسلِّم عليه فسلمت فرد‏.‏

ثم قال‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح‏.‏

ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح‏.‏

قيل‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ جبرائيل‏.‏

قيل‏:‏ ومن معك‏؟‏

قال‏:‏ محمد‏.‏

قيل‏:‏ وقد أرسل إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قيل‏:‏ مرحباً به فنعم المجيء جاء‏.‏

فلما خلصت إذا هارون قال‏:‏ هذا هارون فسلِّم عليه فسلمت عليه فرد‏.‏

ثم قال‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح‏.‏

ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح‏.‏

فقيل‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ جبرائيل‏.‏

قيل‏:‏ ومن معك‏؟‏

قال‏:‏ محمد‏.‏

قيل‏:‏ وقد أرسل إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قيل‏:‏ مرحباً به فنعم المجيء جاء‏.‏

فلما خلصت إذا موسى قال‏:‏ هذا موسى فسلِّم عليه، فسلمت عليه فرد‏.‏

ثم قال‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح‏.‏

فلما تجاوزت بكى، فقيل له‏:‏ ما يبكيك‏؟‏

قال‏:‏ أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر من يدخلها من أمتي‏.‏

ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبرائيل‏.‏

قيل‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ جبرائيل‏.‏

قيل‏:‏ ومن معك‏؟‏

قال‏:‏ محمد‏.‏

قيل‏:‏ وقد بعث إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قيل‏:‏ مرحباً به فنعم المجيء جاء‏.‏

فلما خلصت إذا إبراهيم قال‏:‏ هذا أبوك إبراهيم فسلِّم عليه، فسلمت عليه فرد السلام‏.‏

ثم قال‏:‏ مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح‏.‏

ثم رفعت إلى سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار؛ نهران ظاهران، ونهران باطنان‏.‏

فقلت‏:‏ ما هذا يا جبرائيل‏؟‏

قال‏:‏ أما الباطنان‏:‏ فنهران في الجنة، وأما الظاهران‏:‏ فالنيل والفرات‏.‏

ثم رفع لي البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن‏.‏

قال‏:‏ هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك‏.‏

ثم فرض عليَّ الصلوات خمسون صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال‏:‏ بما أمرت‏؟‏

قال‏:‏ أمرت بخمسين صلاة كل يوم‏.‏

قال‏:‏ إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة؛ فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشراً‏.‏

فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشراً‏.‏

فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشراً‏.‏

فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم‏.‏

فرجعت إلى موسى فقال‏:‏ بم أمرت‏؟‏

فقلت‏:‏ بخمس صلوات كل يوم‏.‏

قال‏:‏ إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك‏.‏

قال‏:‏ سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم‏.‏

قال‏:‏ فلما جاوزت ناداني مناد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا روى البخاري هذا الحديث ههنا‏.‏

وقد رواه في مواضع أخر من ‏(‏صحيحه‏)‏ ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة‏.‏ ‏

ورويناه من حديث أنس بن مالك عن أبي بن كعب‏.‏

ومن حديث أنس عن أبي ذر‏.‏

ومن طرق كثيرة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد ذكرنا ذلك مستقصى بطرقه وألفاظه في التفسير، ولم يقع في هذا السياق ذكر بيت المقدس، وكان بعض الرواة يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه أو يذكر ما هو الأهم عنده، أو يبسط تارة فيسوقه كله، وتارة يحذف عن مخاطبه بما هو الأنفع عنده‏.‏

ومن جعل كل رواية إسراد على حدة كما تقدم عن بعضهم فقد أبعد جداً‏.‏

وذلك أن كل السياقات فيها السلام على الأنبياء، وفي كل منها يعرفه بهم، وفي كلها يفرض عليه الصلوات‏.‏

فكيف يمكن أن يدعي تعدد ذلك‏؟‏ هذا في غاية البعد والاستحالة والله أعلم‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا الحميدي حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏ قال‏:‏ هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس، والشجرة الملعونة في القرآن، قال‏:‏ هي شجرة الزقوم‏.‏

 فصل نزول فرضية الصلاة صبيحة الإسراء‏.‏

ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من صبيحة ليلة الإسراء جاءه جبرائيل عند الزوال فبين له كيفية الصلاة وأوقاتها، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فاجتمعوا وصلى به جبرائيل في ذلك اليوم إلى الغد، والمسلمون يأتمون بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقتدي بجبرائيل كما جاء في الحديث عن ابن عباس وجابر‏:‏ ‏(‏‏(‏أمني جبرائيل عند البيت مرتين‏)‏‏)‏‏.‏

فبيـَّن له الوقتين الأول والآخر فهما وما بينهما الوقت الموسع، ولم يذكر توسعة في وقت المغرب‏.‏

وقد ثبت ذلك في حديث أبي موسى، وبريدة، وعبد الله بن عمرو، وكلها في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ وموضع بسط ذلك في كتابنا ‏(‏الأحكام‏)‏ ولله الحمد‏.‏

فأما ما ثبت في ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت‏:‏ ‏(‏‏(‏فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه الأوزاعي عن الزهري، ورواه الشعبي عن مسروق عنها وهذا مشكل من جهة أن عائشة كانت تتم الصلاة في السفر وكذا عثمان بن عفان وقد تكلمنا على ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏‏.‏ ‏

قال البيهقي‏:‏ وقد ذهب الحسن البصري إلى أن صلاة الحضر أول ما فرضت أربعاً كما ذكره مرسلاً من صلاته عليه السلام صبيحة الإسراء‏:‏ الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً يجهر في الأوليين، والعشاء أربعاً يجهر في الأوليين، والصبح ركعتين يجهر فيهما‏.‏

قلت‏:‏ فلعل عائشة أرادت أن الصلاة كانت قبل الإسراء تكون ركعتين ركعتين، ثم لما فرضت الخمس فرضت حضراً على ما هي عليه، ورخص في السفر أن يصلى ركعتين كما كان الأمر عليه قديماً وعلى هذا لا يبقى إشكال بالكلية والله أعلم‏.‏

 فصل في انشقاق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وجعل الله له آية على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الهدى ودين الحق حيث كان ذلك وقت إشارته الكريمة، قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1-3‏]‏‏.‏

وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام، وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها‏.‏

ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان‏.‏

وقد تقصينا ذلك في كتابنا التفسير فذكرنا الطرق والألفاظ محررة، ونحن نشير ههنا إلى أطراف من طرقها ونعزوها إلى الكتب المشهورة بحول الله وقوته‏.‏

وذلك مروي عن أنس بن مالك، وجبير بن مطعم، وحذيفة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

أما أنس فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة مرتين‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ‏} ‏[‏القمر‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به وهذا من مرسلات الصحابة‏.‏

والظاهر أنه تلقاه عن الجم الغفير من الصحابة، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الجميع، وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق شيبان‏.‏

زاد البخاري وسعيد بن أبي عروبة، وزاد مسلم وشعبة ثلاثتهم عن قتادة عن أنس‏:‏ أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما، لفظ البخاري‏.‏

وأما جبير بن مطعم فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير، عن حصين ابن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل‏.‏

فقالوا‏:‏ سحرنا محمد ‏!‏

فقالوا‏:‏ إن كان سحرنا؛ فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏

وهكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره عن حصين به‏.‏

وقد رواه البيهقي من طريق إبراهيم بن طهمان، وهشيم كلاهما عن حصين بن عبد الرحمن، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن جده به فزاد رجلاً في الإسناد‏.‏

وأما حذيفة بن اليمان‏:‏ فروى أبو نعيم في ‏(‏الدلائل‏)‏ من طريق عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي‏.‏

قال‏:‏ خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ‏} ‏[‏القمر‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق‏.‏

فلما كانت الجمعة الثانية انطلقت مع أبي إلى الجمعة فحمد الله وقال مثله وزاد ألا وإن السابق من سبق إلى الجمعة، فلما كنا في الطريق قلت لأبي‏:‏ ما يعني بقوله - غداً السباق - قال‏:‏ من سبق إلى الجنة‏.‏

وأما ابن عباس فقال البخاري‏:‏ حدثنا يحيى بن بكير حدثنا بكر عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال‏:‏ إن القمر انشق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ورواه البخاري أيضاً ومسلم من حديث بكر - وهو ابن مضر - عن جعفر قوله‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1-2‏]‏‏.‏

قال‏:‏ قد مضى ذلك كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه‏.‏

وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه وهو من مرسلاته‏.‏

وقال الحافظ أبو نعيم‏:‏ حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا بكر بن سهيل، حدثنا عبد الغني بن سعيد، حدثنا موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن مقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم‏:‏ الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل، والعاص بن هشام، والأسود ابن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وزمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، ونظراؤهم كثير فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فرقتين نصفاً على أبي قبيس ونصفاً على قعيقعان‏.‏

فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن فعلت تؤمنوا‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ نعم‏!‏ وكانت ليلة بدر، فسأل الله عز وجل أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر وقد سلب نصفاً على أبي قبيس ونصفاً على قعيقعان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدوا‏.‏

ثم قال أبو نعيم‏:‏ وحدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا الحسن بن العباس الرازي عن الهيثم بن العمان، حدثنا إسماعيل بن زياد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال‏:‏ انتهى أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ هل من آية نعرف بها أنك رسول الله‏؟‏

فهبط جبرائيل فقال يا محمد‏:‏ قل لأهل مكة أن يحتفلوا هذه الليلة فسيروا آية إن انتفعوا بها‏.‏

فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالة جبرائيل فخرجوا ليلة الشق ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفاً على الصفا ونصفاً على المروة فنظروا، ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها، ثم أعادوا النظر فنظروا، ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا‏:‏ يا محمد ما هذا إلا سحر واهب، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏‏.‏

ثم روى الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ جاءت أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أرنا آية حتى نؤمن بها، فسأل ربه فأراهم القمر قد انشق بجزئين؛ أحدهما على الصفا والآخر على المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب‏.‏

فقالوا‏:‏ هذا سحر مفترى‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن عمرو الرزاز، حدثنا محمد بن يحيى القطعي، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ سحر القمر فنزلت‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا هذا سحر مستمر‏}‏‏.‏

وهذا إسناد جيد وفيه أنه‏:‏ كسف تلك الليلة فلعله حصل له انشقاق في ليلة كسوفه، ولهذا خفي أمره على كثير من أهل الأرض، ومع هذا قد شوهد ذلك في كثير من بقاع الأرض‏.‏

ويقال‏:‏ إنه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند، وبني بناء تلك الليلة وأرخ بليلة انشقاق القمر‏.‏

وأما ابن عمر‏:‏ فقال الحافظ البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا‏:‏ حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد به‏.‏

قال مسلم‏:‏ كرواية مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

وأما عبد الله بن مسعود فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اشهدوا‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا أخرجاه من حديث سفيان - وهو ابن عيينة - به‏.‏

ومن حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن سمرة، عن ابن مسعود قال‏:‏ انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اشهدوا‏)‏‏)‏‏.‏

وذهبت فرقة نحو الجبل‏.‏ لفظ البخاري‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ وقال أبو الضحاك، عن مسروق، عن عبد الله - بمكة - وتابعه محمد بن مسلم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله رضي الله عنه‏.‏

وقد أسند أبو داود الطيالسي حديث أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش‏:‏ هذا سحر ابن أبي كبشة‏.‏

فقالوا‏:‏ انظروا ما يأتيكم به السفار‏؟‏ فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم‏.‏

قال‏:‏ فجاء السفار فقالوا ذلك‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هشيم، حدثنا مغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال‏:‏ انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين، فقال كفار قريش لأهل مكة‏:‏ هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، انظروا السفار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به‏.‏

قال فسئل السفار قال - وقدموا من كل وجهة - فقالوا رأينا‏.‏

وهكذا رواه أبو نعيم‏:‏ من حديث جابر، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مؤمل، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر‏.‏

وهكذا رواه ابن جرير‏:‏ من حديث أسباط، عن سماك به‏.‏

وقال الحافظ أبو نعيم‏:‏ حدثنا أبو بكر الطلحي، حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين الوادعي، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا يزيد، عن عطاء، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وانشق القمر حتى صار فرقتين فرقة خلف الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اشهدوا اشهدوا‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي، حدثنا آدم بن أبي إياس، ثنا الليث بن سعد، حدثنا هشام بن سعد، عن عتبة، عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود قال‏:‏ انشق القمر ونحن بمكة، فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الذي بمنى ونحن بمكة‏.‏

وحدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال‏:‏ انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين‏.‏

ثم روى من حديث علي بن سعيد بن مسروق، حدثنا موسى بن عمير، عن منصور بن المعتمر، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ رأيت القمر والله منشقاً باثنتين بينهما حراء‏.‏

وروى أبو نعيم من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال‏:‏ انشق القمر فلقتين فلقة ذهبت، وفلقة بقيت‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ لقد رأيت جبل حراء بين فلقتي القمر، فذهب فلقة، فتعجب أهل مكة من ذلك وقالوا‏:‏ هذا سحر مصنوع سيذهب‏.‏

وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر‏:‏ ‏(‏‏(‏فاشهد يا أبا بكر‏)‏‏)‏‏.‏

وقال المشركون‏:‏ سحر القمر حتى انشق‏.‏

فهذه طرق متعددة قوية الأسانيد تفيد القطع لمن تأملها، وعرف عدالة رجالها، وما يذكره بعض القصَّاص من أن القمر سقط إلى الأرض حتى دخل في كم النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من الكم الآخر فلا أصل له، وهو كذب مفترى ليس بصحيح‏.‏

والقمر حين انشق لم يزايل السماء، غير أنه حين أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم انشق عن إشارته فصار فرقتين، فسارت واحدة حتى صارت من وراء حراء، ونظروا إلى الجبل بين هذه وهذه كما أخبر بذلك ابن مسعود أنه شاهد ذلك‏.‏

وما وقع في رواية أنس في ‏(‏مسند أحمد‏)‏‏:‏ فانشق القمر بمكة مرتين فيه نظر، والظاهر أنه أراد فرقتين، والله أعلم‏.

فصل في وفاة أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثم من بعده خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها‏.‏

وقيل‏:‏ بل هي توفيت قبله والمشهور الأول، وهذان المشفقان؛ هذا في الظاهر وهذه في الباطن، هذاك كافر وهذه مؤمنة صديقة رضي الله عنها وأرضاها‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الابتلاء يسكن إليها، وبهلك عمه أبي طالب وكان عضداً وحرزاً في أمره ومنعة وناصراً على قومه‏.‏

وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً‏.‏

فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال‏:‏ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسله وتبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك‏)‏‏)‏‏.‏

ويقول بين ذلك‏:‏ ‏(‏‏(‏ما نالتني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر ابن إسحاق قبل ذلك‏:‏ أن أحدهم ربما طرح الأذى في برمته إذا نصبت له‏.‏

قال‏:‏ فكان إذا فعلوا ذلك كما حدثني عمر بن عبد الله، عن عروة يخرج بذلك الشيء على العود فيقذفه على بابه ثم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا بني عبد مناف أي جوار هذا، ثم يلقيه في الطريق‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشاً ثقله قالت قريش بعضها لبعض‏:‏ إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن عباس، عن بعض أهله، عن ابن عباس قال‏:‏ لما مشوا إلى أبي طالب وكلموه - وهم أشراف قومه - عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم‏.‏

فقالوا‏:‏ يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ لنا منه، وخذ له منا ليكف عنا ولنكف عنه، وليدعنا وديننا ولندعه ودينه‏.‏ ‏

فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال يا ابن أخي‏:‏ هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عم كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو جهل‏:‏ نعم وأبيك، وعشر كلمات‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه‏)‏‏)‏‏.‏

فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد‏:‏ أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحداً ‏؟‏‏!‏ إن أمرك لعجب‏.‏

قال‏:‏ ثم قال بعضهم لبعض‏:‏ إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا‏.‏

قال‏:‏ فقال أبو طالب‏:‏ والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططاً‏.‏

قال‏:‏ فطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول له‏:‏ ‏(‏‏(‏أي عم فأنت قلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يا ابن أخي والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها‏.‏

قال‏:‏ فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بإذنه، قال فقال‏:‏ يا ابن أخي والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لم أسمع‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وأنزل الله تعالى في أولئك الرهط‏:‏ ‏{‏ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 1-2‏]‏ الآيات‏.‏ وقد تكلمنا على ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد استدل بعض من ذهب من الشيعة وغيرهم من الغلاة إلى أن أبا طالب مات مسلماً بقول العباس هذا الحديث؛ يا ابن أخي، لقد قال الكلمة التي أمرته أن يقولها - يعني لا إله إلا الله -

والجواب عن هذا من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن في السند مبهماً لا يعرف حاله وهو قوله عن بعض أهله وهذا إبهام في الاسم والحال، ومثله يتوقف فيه لو انفرد‏.‏

وقد روى الإمام أحمد، والنسائي، وابن جرير نحواً من هذا السياق من طريق أبي أسامة، عن الأعمش، حدثنا عباد، عن سعيد بن جبير فذكره، ولم يذكر قول العباس‏.‏

ورواه الثوري أيضاً عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة الكوفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فذكره بغير زيادة قول العباس‏.‏

ورواه الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير أيضاً‏.‏

ولفظ الحديث من سياق البيهقي فيما رواه من طريق الثوري، عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏

مرض أبو طالب فجاءت قريش، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم عند رأس أبي طالب، فجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه ذاك وشكوه إلى أبي طالب فقال‏:‏ يا ابن أخي ما تريد من قومك‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها الجزية العجم، كلمة واحدة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ما هي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقالوا‏:‏ أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ‏!‏

قال‏:‏ ونزل فيهم‏:‏ ‏{‏ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ‏}‏ الآيات إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا اخْتِلَاقٌ‏}‏‏[‏ص‏:‏ 1-7‏]‏‏.‏

ثم قد عارضه - أعني سياق ابن إسحاق - ما هو أصح منه، وهو ما رواه البخاري قائلاً‏:‏ حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبيه رضي الله عنه‏:‏ أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج بها عند الله‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية‏:‏ يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب‏؟‏ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر ما كلمهم به‏:‏ على ملة عبد المطلب‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لأستغفر لك مالم أُنهَ عنك‏)‏‏)‏‏.‏

فنزلت‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏‏.‏

ونزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏

ورواه مسلم‏:‏ عن إسحاق بن إبراهيم، وعبد الله، عن عبد الرزاق‏.‏

وأخرجاه أيضاً من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه بنحوه، وقال فيه‏:‏ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى قال آخر ما قال‏:‏ على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما لأستغفرن لك مالم أُنهَ عنك‏)‏‏)‏‏.‏

فأنزل الله - يعني بعد ذلك -‏:‏ ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى‏}

ونزل في أبي طالب‏:‏ ‏{‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين‏}

وهكذا روى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال‏:‏ لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله عليه إلا فزع الموت لأقررت بها عينك، ولا أقولها إلا لأقر بها عينك‏.‏

فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ‏}‏‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وهكذا قال عبد الله بن عباس، وابن عمر، ومجاهد، والشعبي، وقتادة‏:‏ إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله فأبى أن يقولها، وقال‏:‏ هو على ملة الأشياخ، وكان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب‏.‏

ويؤكد هذا كله ما قال البخاري‏:‏ حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، عن سفيان، عن عبد الملك بن عمير، حدثني عبد الله بن الحارث بن نوفل قال‏:‏ حدثنا العباس بن عبد المطلب أنه قال‏:‏ قلت للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك‏؟‏ ‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ من طرق عن عبد الملك بن عمير به‏.‏

وأخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث الليث‏:‏ حدثني يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه‏)‏‏)‏‏.‏ لفظ البخاري‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏تغلي منه أم دماغه‏)‏‏)‏‏.‏

وروى مسلم‏:‏ عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أهون أهل النار عذاباً أبو طالب منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه‏)‏‏)‏‏.‏

وفي ‏(‏مغازي‏)‏ يونس بن بكير ‏(‏‏(‏يغلي منهما دماغه حتى يسيل على قدميه‏)‏‏)‏‏.‏ ذكره السهيلي‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار في ‏(‏مسنده‏)‏‏:‏ حدثنا عمرو - هو ابن إسماعيل بن مجالد - حدثنا أبي، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر‏.‏

قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قيل له - هل نفعت أبا طالب‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخرجته من النار إلى ضحضاح منها‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به البزار‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وإنما لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة العباس أخيه أنه قال الكلمة وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لم أسمع‏)‏‏)‏ لأن العباس كان إذ ذاك كافراً غير مقبول الشهادة‏.‏

قلت‏:‏ وعندي أن الخبر بذلك ما صح لضعف سنده كما تقدم‏.‏

ومما يدل على ذلك‏:‏ أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن أبي طالب فذكر له ما تقدم، وبتعليل صحته لعله قال ذلك عند معاينة الملك بعد الغرغرة حين لا ينفع نفساً إيمانها والله أعلم‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق‏:‏ سمعت ناجية بن كعب يقول‏:‏ سمعت علياً يقول‏:‏ لما توفي أبي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ إن عمك قد توفي‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب فواره‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ إنه مات مشركاً‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب فواره‏)‏‏)‏ ولا تحدثن شيئاً حتى تأتي‏.‏

ففعلت فأتيته، فأمرني أن أغتسل‏.‏

ورواه النسائي‏:‏ عن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة‏.‏

ورواه أبو داود، والنسائي من حديث سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن علي‏:‏ لما مات أبو طالب قلت يا رسول الله‏:‏ إن عمك الشيخ الضال قد مات فمن يواريه‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب فوار أباك ولا تحدثن شيئاً حتى تأتيني‏)‏‏)‏‏.‏ فأتيته فأمرني فاغتسلت ثم دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو سعد الماليني، حدثنا أبو أحمد بن عدي، حدثنا محمد بن هارون بن حميد، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، حدثنا الفضل، عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من جنازة أبي طالب فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وصلتك رحم، وجزيت خيراً يا عم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وروي عن أبي اليمان الهوزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وزاد ولم يقم على قبره‏.‏

قال‏:‏ وإبراهيم بن عبد الرحمن هذا هو الخوارزمي تكلموا فيه‏.‏

قلت‏:‏ قد روى عنه غير واحد منهم‏:‏ الفضل بن موسى السيناني، ومحمد بن سلام البيكندي، ومع هذا قال ابن عدي‏:‏ ليس بمعروف، وأحاديثه عن كل من روى عنه ليست بمستقيمة‏.‏

وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدفع عنه وعن أصحابه، وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولأصحابه من المودة والمحبة والشفقة في أشعاره التي أسلفناها، وما تضمنته من العيب والتنقيص لمن خالفه وكذبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تدانى ولا تسامى، ولا يمكن عربياً مقاربتها ولا معارضتها‏.‏

وهو في ذلك كله يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق بار راشد، ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه‏.‏

وفرق بين علم القلب وتصديقه كما قررنا ذلك في شرح كتاب الإيمان من ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ وشاهد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون‏}

وقال تعالى في قوم فرعون‏:‏ ‏{‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم‏}

وقال موسى لفرعون‏:‏ ‏{‏لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً‏}‏

وقول بعض السلف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم ينهون عنه وينأون عنه‏}‏ أنها نزلت في أبي طالب حيث كان ينهى الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأى هو عما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق‏.‏

فقد روي عن ابن عباس، والقاسم بن مخيمرة، وحبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن دينار، ومحمد بن كعب، وغيرهم، ففيه نظر والله أعلم‏.‏

والأظهر والله أعلم‏:‏ الرواية الأخرى عن ابن عباس؛ وهم ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به‏.‏

وبهذا قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، وغير واحد - وهو اختيار ابن جرير - وتوجيهه أن هذا الكلام سيق لتمام ذم المشركين حيث كانوا يصدون الناس عن اتباعه ولا ينتفعون هم أيضاً به‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25-26‏]‏‏.‏ ‏

وهذا اللفظ وهو قوله ‏(‏وهم‏)‏ يدل على أن المراد بهذا جماعة وهم المذكورون في سياق الكلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون‏}‏ يدل على تمام الذم، وأبو طالب لم يكن بهذه المثابة، بل كان يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال، ونفس ومال، ولكن مع هذا لم يقدِّر الله له الإيمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة، والحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الإيمان بها والتسليم لها‏.‏

ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين لاستغفرنا لأبي طالب وترحمنا عليه‏.‏

 فصل موت خديجة بنت خويلد

وذكر شيء من فضائلها ومناقبها رضي الله عنها وأرضاها، وجعل جنات الفردوس منقلبها ومثواها، وقد فعل ذلك لا محالة بخبر الصادق المصدوق حيث بشَّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب‏.‏

قال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال‏:‏

قال عروة بن الزبير‏:‏ وقد كانت خديجة توفيت قبل أن تفرض الصلاة‏.‏

ثم روى من وجه آخر عن الزهري أنه قال‏:‏ توفيت خديجة بمكة قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقبل أن تفرض الصلاة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ماتت خديجة وأبو طالب في عام واحد‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ بلغني أن خديجة توفيت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام‏.‏

ذكره عبد الله بن منده في كتاب ‏(‏المعرفة‏)‏، وشيخنا أبو عبد الله الحافظ‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وزعم الواقدي أن خديجة وأبا طالب ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين عام خرجوا من الشعب، وأن خديجة توفيت قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة‏.‏

قلت‏:‏ مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، وكان الأنسب بنا أن نذكر وفاة أبي طالب وخديجة قبل الإسراء كما ذكره البيهقي وغير واحد، ولكن أخرنا ذلك عن الإسراء لمقصد ستطلع عليه بعد ذلك، فإن الكلام به ينتظم ويتسق الباب كما تقف على ذلك إن شاء الله‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة‏.‏

قال‏:‏ أتى جبرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله‏:‏ هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام - أو طعام أو شراب - فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث محمد بن فضيل به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن إسماعيل قال‏:‏ قلت لعبد الله بن أبي أوفى‏:‏ بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب‏.‏

ورواه البخاري أيضاً، ومسلم من طرق، عن إسماعيل بن أبي خالد به‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وإنما بشَّرها ببيت في الجنة من قصب - يعني قصب اللؤلؤ - لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان، لا صخب فيه ولا نصب لأنها لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتعبه يوماً من الدهر فلم تصخب عليه يوماً ولا آذته أبداً‏.‏

وأخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وهلكت قبل أن يتزوجني - لما كنت أسمعه يذكرها - وأمره الله أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن‏.‏ لفظ البخاري‏.‏

وفي لفظ عن عائشة‏:‏ ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وتزوجني بعدها بثلاث سنين وأمره ربه - أو جبرائيل - أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب‏.‏

وفي لفظ له قالت‏:‏ ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة - وما رأيتها - ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة فيقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت‏:‏ كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا إسماعيل بن خليل، أخبرنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم هالة‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فغرت فقلت‏:‏ ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيراً منها‏.‏

وهكذا روى مسلم، عن سويد بن سعيد، عن علي بن مسهر به‏.‏

وهذا ظاهر في التقرير على أن عائشة خير من خديجة إما فضلاً وإما عشرةً إذا لم ينكر عليها ولا يرد عليها‏.‏ ذلك كما هو ظاهر سياق البخاري رحمه الله‏.‏

ولكن قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مؤمل أبو عبد الرحمن، حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الملك - هو ابن عمير -، عن موسى بن طلحة عن عائشة قالت‏:‏ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خديجة فأطنب في الثناء عليها، فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة، فقلت‏:‏ لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين‏.‏

قال‏:‏ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيراً لم أره تغير عند شيء قط إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى يعلم رحمةً أو عذاباً‏.‏

وكذا رواه عن بهز بن أسد، وعثمان بن مسلم، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير به‏.‏

وزاد بعده قوله‏:‏ حمراء الشدقين، هلكت في الدهر الأول‏.‏

قال‏:‏ قال‏:‏ فتمعر وجهه تمعراً ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى ينظر رحمة أو عذاباً‏.‏

تفرد به أحمد، وهذا إسناد جيد‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضاً‏:‏ عن ابن إسحاق‏:‏ أخبرنا مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة‏.‏

قالت‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها بأحسن الثناء‏.‏

قالت‏:‏ فغرت يوماً فقلت‏:‏ ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيراً منها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أبدلني الله خيراً منها، وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبنني، وآستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد أيضاً، وإسناده لا بأس به‏.‏

ومجالد روى له مسلم متابعة، وفيه كلام مشهور، والله أعلم‏.‏

ولعل هذا أعني قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء‏)‏‏)‏‏.‏

كان قبل أن يولد إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية، وقبل مقدمها بالكلية وهذا معين‏.‏

فإن جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم وكما سيأتي من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية المصرية رضي الله عنها‏.‏

وقد استدل بهذا الحديث جماعة من أهل العلم على تفضيل خديجة على عائشة رضي الله عنها وأرضاها‏.‏

وتكلم آخرون في إسناده وتأوله آخرون على أنها كانت خيراً عشرة وهو محتمل أو ظاهر‏.‏

وسببه أن عائشة تمت بشبابها وحسنها وجميل عشرتها، وليس مرادها بقولها قد أبدلك الله خيراً منها أنها تزكي نفسها وتفضلها على خديجة؛ فإن هذا أمر مرجعه إلى الله عز وجل كما قال‏:‏ ‏{‏فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 49‏]‏ الآية‏.‏

وهذه مسألة وقع النزاع فيها بين العلماء قديماً وحديثاً، وبجانبها طرقاً يقتصر عليها أهل الشيع وغيرهم ولا يعدلون بخديجة أحداً من النساء لسلام الرب عليها، وكون ولد النبي صلى الله عليه وسلم جميعهم - إلا إبراهيم - منها، وكونه لم يتزوج عليها حتى ماتت إكراماً لها وتقدير إسلامها، وكونها من الصدِّيقات ولها مقام صدق في أول البعثة، وبذلت نفسها ومالها لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما أهل السنة فمنهم من يغلو أيضاً ويثبت لكل واحدة منهما من الفضائل ما هو معروف، ولكن تحملهم قوة التسنن على تفضيل عائشة لكونها ابنة الصديق، ولكونها أعلم من خديجة؛ فإنه لم يكن في الأمم مثل عائشة في حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها، ولم يكن الرسول يحب أحداً من نسائه كمحبته إياها، ونزلت براءتها من فوق سبع سموات، وروت بعده عنه عليه السلام علماً جماً كثيراً طيباً مباركاً فيه‏.‏

حتى قد ذكر كثير من الناس الحديث المشهور‏:‏ ‏(‏‏(‏خذوا شطر دينكم عن الحميراء‏)‏‏)‏‏.‏

والحق أن كلاً منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره وحيره، والأحسن التوقف في ذلك إلى الله عز وجل‏.‏

ومن ظهر له دليل يقطع به، أو يغلب على ظنه في هذا الباب فذاك الذي يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم ومن حصل له توقف في هذه المسألة أو في غيرها فالطريق الأقوم، والمسلك الأسلم أن يقول الله أعلم‏.‏

وقد روى الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي والنسائي، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد‏)‏‏)‏ أي‏:‏ خير زمانهما‏.‏

وروى شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه قرة بن إياس رضي الله عنه‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث‏:‏ مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

رواه ابن مردويه في ‏(‏تفسيره‏)‏ وهذا إسناد صحيح إلى شعبة وبعده‏.‏

قالوا‏:‏ والقدر المشترك بين الثلاث نسوة؛ آسية ومريم وخديجة أن كلاً منهن كفلت نبياً مرسلاً، وأحسنت الصحبة في كفالتها وصدقته‏.‏

فآسية‏:‏ ربت موسى وأحسنت إليه وصدقته حين بعث‏.‏

ومريم‏:‏ كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها وصدقته حين أرسل‏.‏

وخديجة‏:‏ رغبت في تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وبذلت في ذلك أموالها كما تقدم وصدقته حين نزل عليه الوحي من الله عز وجل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام‏)‏‏)‏ هو ثابت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من طريق شعبة أيضاً، عن عمرو بن مرة، عن مرة الطيب الهمداني، عن أبي موسى الأشعري‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام‏)‏‏)‏‏.‏

والثريد‏:‏ هو الخبز واللحم جميعاً، وهو أفخر طعام العرب كما قال بعض الشعراء‏:‏

إذا ما الخبز تأدمه بلحم * فذاك أمانة الله الثريد

ويحمل قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏وفضل عائشة على النساء‏)‏‏)‏ أن يكون محفوظاً فيعم النساء المذكورات وغيرهن، ويحتمل أن يكون عاماً فيما عداهن ويبقى الكلام فيها وفيهن موقوف يحتمل التسوية بينهن، فيحتاج من رجح واحدة منهن على غيرها إلى دليل من خارج والله أعلم‏.‏

 فصل في تزويجه صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها بعائشة بنت الصديق وسودة بنت زمعة رضي الله عنهما‏.‏

والصحيح أن عائشة تزوجها أولاً كما سيأتي‏.‏

قال البخاري في باب تزويج عائشة‏:‏ حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏أريتك في المنام، مرتين أرى أنك في سرقة من حرير ويقول هذه امرأتك، فأكشف عنها فإذا هي أنت، فأقول إن كان هذا من عند الله يمضه‏)‏‏)‏‏.‏

قال البخاري باب نكاح الأبكار‏.‏

وقال ابن أبي مليكة‏:‏ قال ابن عباس لعائشة‏:‏ لم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم بكراً غيرك‏.‏

حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏في التي لم يرتع منها‏)‏‏)‏ تعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها‏.‏

انفرد به البخاري ثم قال‏:‏ حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة‏.‏

قالت‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أريتك في المنام فيجيء بك الملك في سرقة من حرير فقال لي‏:‏ هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب؛ فإذا هي أنت، فقلت‏:‏ إن يكن هذا من عند الله يمضه‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏أريتك في المنام ثلاث ليال‏)‏‏)‏‏.‏

وعند الترمذي‏:‏ أن جبريل جاءه بصورتها في خرقة من حرير خضراء فقال‏:‏ هذه زوجتك في الدنيا والآخرة‏.‏

وقال البخاري في باب تزويج الصغار من الكبار؛ حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث بن يزيد، عن عراك، عن عروة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر‏:‏ إنما أنا أخوك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت أخي في دين الله وكتابه وهي لي حلال‏)‏‏)‏‏.‏

هذا الحديث ظاهر سياقه كأنه مرسل، وهو عند البخاري والمحققين متصل لأنه من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها‏.‏

وهذا من إفراد البخاري رحمه الله‏.‏

وقال يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بعد خديجة بثلاث سنين، وعائشة يومئذ ابنة ست سنين وبنى بها وهي ابنة تسع، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة ابنة ثمانية عشرة سنة، وهذا غريب‏.‏

وقد روى البخاري، عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين فلبث سنتين - أو قريباً من ذلك - ونكح عائشة وهي بنت ست سنين، ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين‏.‏

وهذا الذي قاله عروة مرسل في ظاهر السياق كما قدمنا، ولكنه في حكم المتصل في نفس الأمر‏.‏

وقوله‏:‏ تزوجها وهي ابنة ست سنين وبنى بها وهي ابنة تسع ما لا خلاف فيه بين الناس - وقد ثبت في ‏(‏الصحاح‏)‏ وغيرها - وكان بناؤه بها عليه السلام في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة‏.‏

وأما كون تزويجها كان بعد موت خديجة بنحو ثلاث سنين ففيه نظر‏.‏

فإن يعقوب بن سفيان الحافظ قال‏:‏ حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفى خديجة قبل مخرجه من مكة، وأنا ابنة سبع - أو ست سنين - فلما قدمنا المدينة جاءني نسوة وأنا ألعب في أرجوحة وأنا مجممة، فهيآنني وصنعنني، ثم أتين بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبنى بي وأنا ابنة تسع سنين‏.‏

فقوله في هذا الحديث‏:‏ - متوفى خديجة - يقتضي أنه على أثر ذلك قريباً، اللهم إلا أن يكون قد سقط من النسخة بعد متوفى خديجة فلا ينفي ما ذكره يونس بن بكير، وأبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، والله أعلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة‏.‏

قالت‏:‏ تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج

فوعكت فتمزق شعري، وقد وفت لي جميمة، فأتتني أمي أم رومان، وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي، فصرخت بي فأتيتها ما أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئاً من ماء فمست به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار‏.‏

قال‏:‏ فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن‏:‏ على الخير والبركة وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحىً، فأسلمنني إليه وأنا يومئذٍ بنت تسع سنين‏.‏

وقال الإمام أحمد في مسند عائشة أم المؤمنين‏:‏ حدثنا محمد بن بشر، حدثنا بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة ويحيى قالا‏:‏ قالت عائشة‏:‏ لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت‏:‏ يا رسول الله ألا تزوج‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فمن البكر‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ أحب خلق الله إليك عائشة ابنة أبي بكر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن الثيب‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فاذهبي فاذكريهما علي‏)‏‏)‏‏.‏

فدخلت بيت أبي بكر فقالت‏:‏ يا أم رومان ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة‏؟‏

قالت‏:‏ وما ذاك‏؟‏

قالت‏:‏ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة‏.‏

قالت‏:‏ انظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر فقلت‏:‏ يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة ‏؟‏

قال‏:‏ وما ذاك‏؟‏

قالت‏:‏ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة‏.‏

قال‏:‏ وهل تصلح له إنما هي ابنة أخيه، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارجعي إليه فقولي له‏:‏ أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي‏)‏‏)‏‏.‏

فرجعت فذكرت ذلك له‏.‏

قال‏:‏ انتظري وخرج‏.‏

قالت أم رومان‏:‏ إن مطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعداً قط فأخلفه، فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الصبي فقالت‏:‏ يا ابن أبي قحافة لعلك مصبي صاحبنا تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك‏؟‏

فقال أبو بكر للمطعم ابن عدي‏:‏ أقول هذه تقول ‏؟‏

قال‏:‏ إنها تقول ذلك‏.‏

فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عِدته التي وعده، فرجع فقال لخولة‏:‏ ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعته فزوجها إياه وعائشة يومئذٍ بنت ست سنين‏.‏

ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة فقالت‏:‏ ما أدخل الله عليك من الخير والبركة‏؟‏

قالت‏:‏ وما ذاك‏؟‏

قالت‏:‏ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك إليه‏.‏

قالت‏:‏ وددت، ادخلي إلى أبي - بكر - فاذكري ذلك له - وكان شيخاً كبيراً قد أدركه السن قد تخلف عن الحج - فدخلت عليه فحييته بتحية الجاهلية‏.‏

فقال‏:‏ من هذه‏؟‏

قالت‏:‏ خولة بنت حكيم‏.‏

قال‏:‏ فما شأنك‏؟‏

قالت‏:‏ أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة‏.‏

فقال‏:‏ كفؤ كريم ماذا تقول صاحبتك‏؟‏

قالت‏:‏ تحب ذلك‏.‏

قال‏:‏ ادعيها إلي، فدعتها‏.‏

قال‏:‏ أي بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل بخطبتك وهو كفؤ كريم، أتحبين أن أزوجك به‏؟‏

قالت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ادعيه لي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه، فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج فجاء يحثي على رأسه التراب‏.‏

فقال بعد أن أسلم‏:‏ لعمرك إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح‏.‏

قالت‏:‏ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمي وأنا لفي أرجوحة بين عذقين يرجح بي، فأنزلتني من الأرجوحة ولي جميمة ففرقتها، ومسحت وجهي بشيء من الماء‏.‏

ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجرة ثم قالت‏:‏ هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك‏.‏

فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا ما نحرت علي جزور، ولا ذبحت علي شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذٍ ابنة تسع سنين‏.‏

وهذا السياق كأنه مرسل وهو متصل لما رواه البيهقي من طريق أحمد بن عبد الجبار‏:‏ حدثنا عبد الله بن إدريس الأزدي، عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم فقالت يا رسول الله‏:‏ ألا تزوج‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من البكر ومن الثيب‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ أما البكر فابنة أحب خلق الله إليك‏:‏ عائشة، وأما الثيب‏:‏ فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فاذكريهما علي‏)‏‏)‏‏.‏ وذكر تمام الحديث نحو ما تقدم‏.‏

وهذا يقتضي أن عقده على عائشة كان متقدماً على تزويجه بسودة بنت زمعة، ولكن دخوله على سودة كان بمكة، وأما دخوله على عائشة فتأخر إلى المدينة في السنة الثانية كما تقدم، وكما سيأتي‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسود، حدثنا شريك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة‏.‏

قالت‏:‏ لما كبرت سودة وهبت يومها لي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لي بيومها مع نسائه‏.‏

قالت‏:‏ وكانت أول امرأة تزوجها بعدي‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد، حدثني شهر، حدثني عبد الله بن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب امرأة من قومه يقال لها سودة، وكانت مصبية كان لها خمس صبية - أو ست من بعلها - مات‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما يمنعك مني‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ والله يا نبي الله ما يمنعني منك أن لا تكون أحب البرية إلي، ولكني أكرمك أن يمنعوا هؤلاء الصبية عند رأسك بكرة وعشية‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فهل منعك مني غير ذلك‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ لا والله‏.‏

قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يرحمك الله إن خير نساء ركبن أعجاز الإبل، صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعل بذات يده‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وكان زوجها قبله عليه السلام السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو، وكان ممن أسلم وهاجر إلى الحبشة كما تقدم‏.‏

ثم رجع إلى مكة فمات بها قبل الهجرة رضي الله عنه‏.‏

هذه السياقات كلها دالة على أن العقد على عائشة كان متقدماً على العقد بسودة، وهو قول عبد الله بن محمد بن عقيل‏.‏

ورواه يونس، عن الزهري، واختار ابن عبد البر أن العقد على سودة قبل عائشة، وحكاه عن قتادة وأبي عبيد‏.‏

قال‏:‏ ورواه عقيل عن الزهري‏.‏

 

 

 فصل اجتراء قريش على رسول الله بعد وفاة عمه أبي طالب‏.‏

قد تقدم ذكر موت أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان ناصراً له وقائماً في صفه ومدافعاً عنه بكل ما يقدر عليه من نفس ومال ومقال وفعال، فلما مات اجترأ سفهاء قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونالوا منه ما لم يكونوا يصلون إليه ولا يقدرون عليه‏.‏

كما قد رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم‏:‏ حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، حدثنا يوسف بن بهلول، حدثنا عبد الله بن إدريس، حدثنا محمد بن إسحاق، عمن حدثه، عن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن جعفر‏.‏

قال‏:‏ لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من سفهاء قريش، فألقى عليه تراباً، فرجع إلى بيته فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي، فجعل يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أي بنية لا تبكين فإن الله مانع أباك‏)‏‏)‏‏.‏

ويقول ما بين ذلك‏:‏ ‏(‏‏(‏ما نالت قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب ثم شرعوا‏)‏‏)‏‏.‏

قد رواه زياد البكائي، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلاً، والله أعلم‏.‏

وروى البيهقي أيضاً، عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما زالت قريش كاعين حتى مات أبو طالب‏)‏‏)‏‏.‏

ثم رواه عن الحاكم، عن الأصم، عن عباس الدوري، عن يحيى بن معين، حدثنا عقبة المجدر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما زالت قريش كاعة حتى توفي أبو طالب‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي بسنده عن ثعلبة بن صغير، وحكيم بن حزام أنهما قالا‏:‏ لما توفي أبو طالب وخديجة - وكان بينهما خمسة أيام - اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان، ولزم بيته وأقل الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع فيه، فبلغ ذلك أبا لهب فجاءه فقال‏:‏ يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعاً إذ كان أبو طالب حياً فاصنعه، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت‏.‏

وسبَّ ابن الغيطلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل إليه أبو لهب فنال منه، فولى يصيح يا معشر قريش صبا أبو عتبة، فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب فقال‏:‏ ما فارقت دين عبد المطلب، ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد‏.‏

فقالوا‏:‏ لقد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياماً يأتي ويذهب لا يعرض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب إذ جاء عقبة بن أبي معيط وأبو جهل إلى أبي لهب فقالا له‏:‏ أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك ‏؟‏

فقال له أبو لهب‏:‏ يا محمد أين مدخل عبد المطلب ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مع قومه‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج إليهما فقال‏:‏ قد سألته فقال‏:‏ مع قومه‏.‏

فقالا‏:‏ يزعم أنه في النار‏.‏

فقال‏:‏ يا محمد أيدخل عبد المطلب النار ‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن مات على ما مات عليه عبد المطلب دخل النار‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ أبو لهب - لعنه الله - والله لا برحت لك إلا عدواً أبداً وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار، واشتد عند ذلك أبو لهب وسائر قريش عليه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته‏:‏ أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن الحمراء، وابن الأصداء الهذلي - وكانوا جيرانه - لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص‏.‏

وكان أحدهم - فيما ذكر لي - يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجراً يستتر به منهم إذا صلى، فكان إذا طرحوا شيئاً من ذلك يحمله على عود، ثم يقف به على بابه، ثم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا بني عبد مناف أي جوار هذا‏؟‏‏)‏‏)‏ ثم يلقيه في الطريق‏.‏

قلت‏:‏ وعندي أن غالب ما روي مما تقدم من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلي‏.‏

كما رواه ابن مسعود وفيه أن فاطمة جاءت فطرحته عنه وأقبلت عليهم فشتمتهم، ثم لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على سبعة منهم كما تقدم‏.‏

وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقاً شديداً حتى حال دونه أبو بكر الصديق قائلاً‏:‏ أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله‏؟‏

وكذلك عزم أبي جهل - لعنه الله - على أن يطأ على عنقه وهو يصلي فحيل بينه وبين ذلك، وما أشبه ذلك كان بعد وفاة أبي طالب، والله أعلم‏.‏

فذكرها ههنا أنسب وأشبه‏.

 فصل في ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف يدعوهم إلى دين الله

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى، فخرج إليهم وحده‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي‏.‏

قال‏:‏ انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وعمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافهم وهم أخوة ثلاثة‏:‏ عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف‏.‏

وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله، وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه‏.‏

فقال أحدهم‏:‏ هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك‏.‏

وقال الآخر‏:‏ أما وجد الله أحداً أرسله غيرك‏؟‏

وقال الثالث‏:‏ والله لا أكلمك أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك‏.‏

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم - فيما ذكر لي -‏:‏ ‏(‏‏(‏إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي‏)‏‏)‏‏.‏

وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وهما فيه‏.‏

ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب، فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف‏.‏

وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - المرأة التي من بني جمح، فقال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏ماذا لقينا من أحمائك‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فلما اطمأن قال - فيما ذكر -‏:‏

‏(‏‏(‏اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

قال‏:‏ فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي، تحركت له رحمهما فدعوا غلاماً نصرانياً يقال له‏:‏ عداس، وقالا له‏:‏ خذ قطفاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عداس‏.‏

ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال له‏:‏ كل‏.‏

فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أكل، ثم نظر عداس في وجهه ثم قال‏:‏ والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس وما دينك‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ نصراني وأنا رجل من أهل نينوى‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من قرية الرجل الصالح يونس بن متى‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له عداس‏:‏ وما يدريك ما يونس بن متى‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ذلك أخي كان نبياً وأنا نبي‏)‏‏)‏‏.‏

فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه‏.‏

قال‏:‏ يقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاء عداس قالا له‏:‏ ويلك يا عداس ‏!‏ مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ‏؟‏

قال‏:‏ يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي‏.‏

قالا له‏:‏ ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه‏.‏

وقد ذكر موسى بن عقبة نحواً من هذا السياق إلا أنه لم يذكر الدعاء، وزاد‏:‏ وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلما مرَّ جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه، فخلص منهم وهما يسيلان الدماء، فعمد إلى ظل نخلة وهو مكروب، وفي ذلك الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة، فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله‏.‏

ثم ذكر قصة عداس النصراني كنحو ما تقدم‏.‏

وقد روى الإمام أحمد، عن أبي بكر بن أبي شيبة‏:‏ حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني، عن أبيه‏:‏ أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس - أو عصى - حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول‏:‏ ‏{‏والسماء والطارق‏}‏ حتى ختمها‏.‏

قال‏:‏ فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الإسلام‏.‏

قال‏:‏ فدعتني ثقيف فقالوا‏:‏ ماذا سمعت من هذا الرجل‏؟‏

فقرأتها عليهم‏.‏ ‏

فقال من معهم من قريش‏:‏ نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقاً لاتبعناه‏.‏

وثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من طريق عبد الله بن وهب‏:‏ أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال‏:‏ أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة حدثته‏:‏ أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال‏:‏

إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال فسلَّم علي ثم قال‏:‏ يا محمد ‏!‏ قد بعثني الله إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني ما شئت، إن شئت تطبق عليهم الأخشبين‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً‏)‏‏)‏‏.‏

 فصل سماع الجن لقراءة رسول الله عليه الصلاة والسلام‏.‏

وقد ذكر محمد بن إسحاق سماع الجن لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك مرجعه من الطائف حين بات بنخلة وصلى بأصحابه الصبح، فاستمع الجن الذين صرفوا إليه قراءته هنالك‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانوا سبعة نفر من جن أهل نصيبين وأنزل الله تعالى فيهم قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ‏} ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في التفسير، وتقدم قطعة من ذلك والله أعلم‏.‏

ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مرجعه من الطائف في جوار المطعم بن عدي، وازداد قومه عليه حنقاً وغيظاً وجرأةً وتكذيباً وعناداً، والله المستعان وعليه التكلان‏.‏

وقد ذكر الأموي في ‏(‏مغازيه‏)‏‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أريقط إلى الأخنس بن شريق، فطلب منه أن يجيره بمكة‏.‏

فقال‏:‏ إن حليف قريش لا يجير على صميمها، ثم بعثه إلى سهيل بن عمرو ليجيره فقال‏:‏ إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب بن لؤي، فبعثه إلى المطعم بن عدي ليجيره فقال‏:‏ نعم قل له‏:‏ فليأت‏.‏

فذهب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه ستة - أو سبعة - متقلدي السيوف جميعاً، فدخلوا المسجد وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ طف واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف، فأقبل أبو سفيان إلى مطعم فقال‏:‏ أمجير أو تابع‏؟‏

قال‏:‏ لا بل مجير‏.‏

قال‏:‏ إذاً لا تخفر، فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه وذهب أبو سفيان إلى مجلسه‏.‏

قال‏:‏ فمكث أياماً، ثم أذن له في الهجرة فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة توفي مطعم بن عدي بعده بيسير‏.‏

فقال حسان بن ثابت‏:‏ والله لأرثينه فقال فيما قال‏:‏

فلو كان مجد مخلد اليوم واحد * من الناس نحي مجده اليوم مطعما

أجرت رسول الله منهم فأصبحوا * عبادك ما لبى محل وأحرما

فلو سئلت عنه معد بأسرها * وقحطان أو باقي بقية جرهما

لقالوا هو الموفي بخفرة جاره * وذمته يوماً إذا ما تجشما

وما تطلع الشمس المنيرة فوقهم * على مثله فيهم أعز وأكرما

إباءً إذا يأبى وألين شيمة * وأنوم عن جار إذا الليل أظلما

قلت‏:‏ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أسارى بدر‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كان المطعم بن عدي حياً ثم سألني في هؤلاء النقباء لوهبتهم له‏)‏‏)‏‏.‏

 فصل في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه الكريمة على أحياء العرب‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلاً مستضعفين ممن آمن به، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب يدعوهم إلى الله عز وجل، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به‏.‏

‏قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني من أصحابنا من لا أتهم، عن زيد بن أسلم، عن ربيعة بن عباد الدؤلي - ومن حدثه أبو الزناد عنه - وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال‏:‏ سمعت ربيعة عباد يحدثه أبي قال‏:‏ إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول‏:‏

‏(‏‏(‏يا بني فلان إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل‏:‏ يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه‏.‏

قال‏:‏ فقلت لأبي يا أبت من هذا الرجل الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول‏؟‏

قال‏:‏ هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب‏.‏

وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن إبراهيم بن أبي العباس‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه‏:‏ أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد من بني الدئل وكان جاهلياً فأسلم‏.‏

قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا‏)‏‏)‏‏.‏ والناس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول‏:‏ إنه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب‏.‏

فسألت عنه فقالوا‏:‏ هذا عمه أبو لهب‏.‏

ورواه البيهقي من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة الدئلي‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول‏:‏ أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم‏.‏

قلت‏:‏ من هذا‏؟‏

قالوا‏:‏ هذا أبو لهب‏.‏

وكذا رواه أبو نعيم في ‏(‏الدلائل‏)‏ من طريق ابن أبي ذئب، وسعيد بن سلمة بن أبي الحسام كلاهما عن محمد بن المنكدر به نحوه‏.‏

ثم رواه البيهقي من طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن رجل من كنانة قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا‏)‏‏)‏‏.‏

وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب فإذا هو أبو جهل وهو يقول‏:‏ يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى‏.‏

كذا قال في هذا السياق أبو جهل‏.‏

وقد يكون وهماً ويحتمل أن يكون تارة يكون ذا، وتارة يكون ذا، وأنهما كانا يتناوبان على إذائه صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني ابن شهاب الزهري‏:‏ أنه عليه السلام أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصين أنه أتى كلباً في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم‏:‏ بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم‏)‏‏)‏، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم‏.‏

وحدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن كعب بن مالك‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فلم يك أحد من العرب أقبح رداً عليه منهم‏.‏

وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس‏:‏ والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب‏.‏

ثم قال له‏:‏ أرأيت إن نحن تابعناك في أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الأمر لله يضعه حيث يشاء‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقال له‏:‏ أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ‏!‏ لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه‏.‏

فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كان أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم‏.‏

فقالوا‏:‏ جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا‏.‏

قال‏:‏ فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال‏:‏ يا بني عامر هل لها من تلاف‏؟‏ هل لذناباها من مطلب‏؟‏ والذي نفس فلان بيده ما تقوَّلها إسماعيلي قط، وإنها لحق فأين رأيكم كان عنكم ‏؟‏

وقال موسى بن عقبة عن الزهري‏:‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أُكره أحداً منكم على شيء من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك ومن كره لم أكرهه إنما أريد أن تحرزوني فيما يراد لي من القتل حتى أبلغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء‏)‏‏)‏‏.‏

فلم يقبله أحد منهم وما يأت أحداً من تلك القبائل إلا قال‏:‏ قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلاً يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه ‏؟‏‏!‏ وكان ذلك مما ذخره الله للأنصار وأكرمهم به‏.‏

وقد روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الله بن الأجلح ويحيى بن سعيد الأموي كلاهما عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن العباس قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة فهل أنت مخرجي إلى السوق غداً حتى نقر في منازل قبائل الناس‏)‏‏)‏‏.‏

وكانت مجمع العرب قال‏:‏ فقلت‏:‏ هذه كندة ولفها وهي أفضل من يحج البيت من اليمن وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بني عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك ‏؟‏

قال‏:‏ فبدأ بكندة فأتاهم، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ممن القوم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ من أهل اليمن‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أي اليمن ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ من كندة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أي كندة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ من بني عمرو بن معاوية‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فهل لكم إلى خير ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وما هو‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏تشهدون أن لا إله إلا الله وتقيمون الصلاة وتؤمنون بما جاء من عند الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال عبد الله بن الأجلح‏:‏ وحدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له‏:‏ إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الملك لله يجعله حيث يشاء‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ لا حاجة لنا فيما جئتنا به‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ فقالوا‏:‏ أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا وننابذ العرب، الحق بقومك فلا حاجة لنا بك‏.‏

فانصرف من عندهم فأتى بكر بن وائل فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ممن القوم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ من بكر بن وائل‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أي بكر بن وائل ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ من بني قيس بن ثعلبة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف العدد ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ كثير مثل الثرى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فكيف المنعة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ لا منعة جاورنا فارس فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم وتستنكحوا نساءهم وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدوه ثلاثاً وثلاثين، وتكبروه أربعاً وثلاثين‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ومن أنت‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا رسول الله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم انطلق فلما ولى عنهم قال الكلبي‏:‏ وكان عمه أبو لهب يتبعه فيقول للناس‏:‏ لا تقبلوا قوله، ثم مر أبو لهب فقالوا‏:‏ هل تعرف هذا الرجل‏؟‏

قال‏:‏ نعم هذا في الذروة منا فعن أي شأنه تسألون‏؟‏

فأخبروه بما دعاهم إليه وقالوا‏:‏ زعم أنه رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ألا لا ترفعوا برأسه قولاً فإنه مجنون يهذي من أم رأسه‏.‏

قالوا‏:‏ قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر‏.‏

قال الكلبي‏:‏ فأخبرني عبد الرحمن المعايري عن أشياخ من قومه قالوا‏:‏ أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بسوق عكاظ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ممن القوم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ من بني عامر بن صعصعة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أي بني عامر بن صعصعة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بنو كعب بن ربيعة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف المنعة فيكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ لا يرام ما قبلنا، ولا يسطلى بنارنا‏.‏

قال‏:‏ فقال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني رسول الله وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي ولاأُكره أحداً منكم على شيء‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ومن أي قريش أنت‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من بني عبد المطلب‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ فأين أنت من عبد مناف‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هم أول من كذبني وطردني‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ولكنا لا نطردك ولا نؤمن بك وسنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك‏.‏

قال‏:‏ فنزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بيحرة بن فراس القشيري فقال‏:‏ من هذا الرجل أراه عندكم أنكره‏؟‏

قالوا‏:‏ محمد بن عبد الله القرشي‏.‏

قال‏:‏ فما لكم وله‏؟‏

قالوا‏:‏ زعم لنا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه‏.‏

قال‏:‏ ماذا رددتم عليه‏؟‏

قالوا‏:‏ بالترحيب والسعة نخرجك إلى بلادنا ونمنعك ما نمنع به أنفسنا‏.‏

قال بحيرة‏:‏ ما أعلم أحداً من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشد من شيء ترجعون به بدأ تم ثم لتنابذوا الناس وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به لو آنسوا منه خيراً لكانوا أسعد الناس به، أتعمدون إلى زهيق قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه فبئس الرأي رأيتم‏.‏

ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قم فالحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك‏.‏

قال‏:‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقته فركبها فغمز الخبيث بيحرة شاكلتها فقمصت برسول الله صلى الله عليه وسلم فألقته‏.‏

وعند بني عامر يومئذٍ ضباعة ابنة عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت‏:‏ يا آل عامر - ولا عامر لي - أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم ‏؟‏

فقام ثلاثة من بني عمها إلى بيحرة واثنين أعاناه، فأخذ كل رجل منهم رجلاً فجلد به الأرض، ثم جلس على صدره ثم علوا وجوههم لطماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم بارك على هؤلاء والعن هؤلاء‏)‏‏)‏

قال‏:‏ فأسلم الثلاثة الذين نصروه وقتلوا شهداء وهم‏:‏ غطيف، وغطفان ابنا سهل، وعروة - أو عذرة - بن عبد الله بن سلمة رضي الله عنهم‏.‏

وقد روى هذا الحديث بتمامه الحافظ سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في ‏(‏مغازيه‏)‏ عن أبيه به‏.‏

وهلك الآخرون‏:‏ وهم بيحرة بن فراس، وحزن بن عبد الله بن سلمة بن قشير، ومعاوية بن عبادة أحد بني عقيل - لعنهم الله لعناً كثيراً -، وهذا أثر غريب كتبناه لغرابته والله أعلم‏.‏

وقد روى أبو نعيم له شاهداً من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة عامر بن صعصعة وقبيح ردهم عليه وأغرب من ذلك وأطول ما رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي - والسياق لأبي نعيم رحمهم الله - من حديث أبان بن عبد الله البجلي، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس حدثني علي بن أبي طالب

قال‏:‏ لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه، وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فسلم، وكان أبو بكر مقدماً في كل خير، وكان رجلاً نسابة‏.‏

فقال‏:‏ ممن القوم‏؟‏

قالوا‏:‏ من ربيعة‏.‏

قال‏:‏ وأي ربيعة أنتم أمن هامها أم من لهازمها‏؟‏ ‏

قالوا‏:‏ بل من هامها العظمى‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ فمن أي هامتها العظمى أنتم‏؟‏

فقالوا‏:‏ ذهل الأكبر‏.‏

قال لهم أبو بكر‏:‏ منكم عوف الذي كان يقال له لاحر بوادي عوف‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمنكم بسطام بن قيس‏:‏ أبو اللواء ومنتهى الأحياء ‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمنكم الحوفزان بن شريك قاتل الملوك وسالبها أنفسها‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمنكم جساس بن مرة بن ذهل حامي الذمار ومانع الجار‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأنتم أخوال الملوك من كندة‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأنتم أصهار الملوك من لخم‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال لهم أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ فلستم بذهل الأكبر بل أنتم من ذهل الأصغر‏.‏

قال‏:‏ فوثب إليه منهم غلام يدعى دغفل بن حنظلة الذهلي - حين بقل وجهه - فأخذ بزمام ناقة أبي بكر وهو يقول‏:‏

إن على سائلنا أن نسأله * والعبء لا نعرفه أو نحمله

يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئاً، ونحن نريد أن نسألك فمن أنت‏؟‏

قال‏:‏ رجل من قريش‏.‏

فقال الغلام‏:‏ بخ بخ أهل السؤدد والرئاسة قادمة العرب وهاديها فمن أنت من قريش‏؟‏

فقال له‏:‏ رجل من بني تيم بن مرة‏.‏

فقال له الغلام‏:‏ أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة‏؟‏ أفمنكم قصي بن كلاب الذي قتل بمكة المتغلبين عليها وأجلى بقيتهم، وجمع قومه من كل أوب حتى أوطنهم مكة، ثم استولى على الدار، وأنزل قريشاً منازلها فسمته العرب بذلك مجمعاً وفيه يقول الشاعر‏:‏

أليس أبوكم كان يدعى مجمعاً * به جمع الله القبائل من فهر

فقال أبو بكر‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمنكم عبد مناف الذي انتهت إليه الوصايا وأبو الغطاريف السادة ‏؟‏

فقال أبو بكر‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمنكم عمرو بن عبد مناف هاشم الذي هشم الثريد لقومه ولأهل مكة ففيه يقول الشاعر‏:‏

عمرو العلا هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنون عجاف

سنُّوا إليه الرحلتين كليهما * عند الشتاء ورحلة الأصياف

كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمخُّ خالصةٌ لعبد مناف

الرايشين وليس يعرف رايشٌ * والقائلين هلمَّ للأضياف

والضاربين الكبش يبرق بيضه * والمانعين البيض بالأسياف

لله درك لو نزلت بدارهم * منعوك من أزل ومن إقراف

فقال أبو بكر‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمنكم عبد المطلب شيبة الحمد، وصاحب عير مكة، ومطعم طير السماء والوحوش والسباع في الفلا الذي كأن وجهه قمر يتلألأ في الليلة الظلماء ‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أفمن أهل الإفاضة أنت‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أفمن أهل الحجابة أنت‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أفمن أهل الندوة أنت‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أفمن أهل السقاية أنت‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أفمن أهل الرفادة أنت‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمن المفيضين أنت‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

ثم جذب أبو بكر رضي الله عنه زمام ناقته من يده

فقال له الغلام‏:‏

صادف درَّ السيلِ درٌّ يدفعه * يَهيضه حيناً وحيناً يرفعه

ثم قال‏:‏ أما والله يا أخا قريش لو ثبت لخبرتك أنك من زمعات قريش ولست من الذوائب‏.‏

قال‏:‏ فأقبل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم‏.‏

قال علي‏:‏ فقلت له‏:‏ يا أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة

فقال‏:‏ أجل يا أبا الحسن إنه ليس من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالقول‏.‏

قال‏:‏ ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة والوقار، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات، فتقدم أبو بكر فسلم - قال علي‏:‏ وكان أبو بكر مقدماً في كل خير - فقال لهم أبو بكر‏:‏ ممن القوم‏؟‏

قالوا‏:‏ من بني شيبان بن ثعلبة‏.‏

فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ بأبي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم‏.‏

وفي رواية‏:‏ ليس وراء هؤلاء عذر من قومهم، وهؤلاء غرر في قومهم، وهؤلاء غرر الناس‏.‏

وكان في القوم مفروق ابن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق بن عمرو، وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بياناً ولساناً، وكانت له غديرتان تسقطان على صدره، فكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر‏.‏

فقال له أبو بكر‏:‏ كيف العدد فيكم‏؟‏

فقال له‏:‏ إنا لنزيد على ألف ولن تغلب ألف من قلة‏.‏

فقال له‏:‏ فكيف المنعة فيكم‏؟‏

فقال‏:‏ علينا الجهد ولكل قوم جد‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم‏؟‏

فقال مفروق‏:‏ إنا أشدُّ ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى لعلك أخو قريش‏؟‏

فقال أبو بكر‏:‏ إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو هذا‏.‏

فقال مفروق‏:‏ قد بلغنا أنه يذكر ذلك فإلى ما تدعو يا أخا قريش، ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وأن تؤوني وتنصروني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد‏)‏‏)‏‏.‏

قال له‏:‏ وإلى ما تدعو أيضاً يا أخا قريش‏؟‏

فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏‏.‏

فقال له مفروق‏:‏ وإلى ما تدعو أيضاً يا أخا قريش‏؟‏ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه‏.‏

فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏} ‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏‏.‏

فقال له مفروق‏:‏ دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة‏.‏

فقال‏:‏ وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا‏.‏

فقال له هانئ‏:‏ قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وصدقت قولك، وإني أرى أن تركنا ديننا واتِّباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لم نتفكر في أمرك، وننظر في عاقبة ما تدعو إليه زلة في الرأي، وطيشة في العقل، وقلة نظر في العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة، وإن من ورائنا قوماً نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة‏.‏

فقال‏:‏ وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا‏.‏

فقال المثنى‏:‏ قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلمت به‏.‏

والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة وتركنا ديننا واتِّباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا وإنا إنما نزلنا بين صريين أحدهما اليمامة، والآخر السماوة‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما هذان الصريان‏؟‏

فقال له‏:‏ أما أحدهما‏:‏ فطفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر‏:‏ فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثاً، ولا نؤوي محدثاً‏.‏

ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول‏.‏

فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي العرب فعلنا‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيراً حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويفرشكم بناتهم أتسبحون الله وتقدسونه‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له النعمان ابن شريك‏:‏ اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش‏!‏

فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏‏.‏

ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قابضاً على يدي أبي بكر‏.‏

قال علي‏:‏ ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقال يا علي‏:‏ ‏(‏‏(‏أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية - ما أشرفها - بها يتحاجزون في الحياة الدنيا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال علي‏:‏ وكانوا صدقاء صبراء فسرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من معرفة أبي بكر رضي الله عنه بأنسابهم‏.‏

قال‏:‏ فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيراً حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏احمدوا الله كثيراً فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم واستباحوا عسكرهم وبي نصروا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وكانت الوقعة بقراقر إلى جنب ذي قار وفيها يقول الأعشى‏:‏

فدى لبني ذُهلِ بن شيبان ناقتي * وراكبها عند اللقاء وقلَّت

هموا ضربوا بالحنو حنو قراقر * مقدمة الهامرز حتى تولت

فلله عيناً من رأى من فوارسٍ * كذهل بن شيبان بها حين ولت

فثاروا وثرنا والمودة بيننا * وكانت علينا غمرة فتجلت

هذا حديث غريب جداً كتبناه لما فيه من دلائل النبوة ومحاسن الأخلاق ومكارم الشيم وفصاحة العرب، وقد ورد هذا من طريق أخرى

وفيه‏:‏ أنهم لما تحاربوا هم وفارس والتقوا معهم بقراقر مكان قريب من الفرات جعلوا شعارهم‏:‏ اسم محمد صلى الله عليه وسلم فنصروا على فارس بذلك، وقد دخلوا بعد ذلك في الإسلام‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ أخبرنا عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قال‏:‏ جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منازلنا بمنى ونحن نازلون بإزاء الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، وهو على راحلته مردفاً خلفه زيد بن حارثة، فدعانا فوالله ما استجبنا له ولا خير لنا، قال‏:‏ وقد كنا سمعنا به وبدعائه في المواسم، فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له، وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي فقال لنا‏:‏ أحلف بالله لو قد صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط بلادنا لكان الرأي‏.‏

فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ‏.‏

فقال القوم‏:‏ دعنا منك لا تعرضنا لما لا قِبل لنا به‏.‏

وطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ميسرة فكلمه‏.‏

فقال ميسرة‏:‏ ما أحسن كلامك وأنوره، ولكن قومي يخالفونني وإنما الرجل بقومه فإذا لم يعضدوه فالعدى أبعد‏.‏

فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج القوم صادرين إلى أهليهم‏.‏

فقال لهم ميسرة‏:‏ ميلوا نأتي فدك فإن بها يهوداً نسائلهم عن هذا الرجل‏.‏

فمالوا إلى يهود فأخرجوا سِفراً لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي يركب الحمار ويجتزي بالكسرة ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالجعد ولا بالسبط، في عينيه حمرة مشرق اللون‏.‏

فإن كان هو الذي دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه فإنا نحسده ولا نتبعه، وإنا منه في مواطن بلاء عظيم ولا يبقى أحد من العرب إلا اتبعه وإلا قاتله فكونوا ممن يتبعه‏.‏

فقال ميسرة‏:‏ يا قوم ألا إن هذا الأمر بيـِّن‏.‏

فقال القوم‏:‏ نرجع إلى الموسم ونلقاه فرجعوا إلى بلادهم وأبى ذلك عليهم رجالهم فلم يتبعه أحد منهم‏.‏

فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً وحج حجة الوداع لقاه ميسرة فعرفه‏.‏

فقال يا رسول الله‏:‏ والله ما زلت حريصاً على اتباعك من يوم أنخت بنا حتى كان ما كان وأبى الله إلا ما ترى من تأخر إسلامي، وقد مات عامة النفر الذين كانوا معي فأين مدخلهم يا رسول الله‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كل من مات على غير دين الإسلام فهو في النار‏)‏‏)‏‏.‏

فقال الحمد لله الذي أنقذني، فأسلم وحسن إسلامه، وكان له عند أبي بكر مكان‏.‏

وقد استقصى الإمام محمد بن عمر الواقدي فقص خبر القبائل واحدة واحدة، فذكر عرضه عليه السلام نفسه على بني عامر، وغسان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني حنيفة، وبني سليم، وبني عبس، وبني نضر بن هوازن، وبني ثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبني الحارث بن كعب، وبني عذرة، وقيس بن الحطيم وغيرهم‏.‏

وسياق أخبارها مطولة وقد ذكرنا من ذلك طرفاً صالحاً ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسود بن عامر، أنا إسرائيل بن يونس، عن عثمان - يعني‏:‏ ابن المغيرة - عن سالم ابن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول‏:‏ ‏(‏‏(‏هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل‏؟‏‏)‏‏)‏، فأتاه رجل من همدان، فقال‏:‏ ممن أنت‏؟‏

قال الرجل‏:‏ من همدان‏.‏

قال‏:‏ فهل عند قومك من منعة‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ آتيهم فأخبرهم ثم آتيك من عام قابل ‏!‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب‏.‏

وقد رواه أهل السنن الأربعة من طرق عن إسرائيل به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

فصل قدوم وفد الأنصار لمبايعة رسول الله عليه الصلاة والسلام‏.‏

في قدوم وفد الأنصار عاماً بعد عام حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة بعد بيعة، ثم بعد ذلك تحول إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‏.‏

 حديث سويد بن صامت الأنصاري

وهو سويد بن الصامت بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وأمه‏:‏ ليلى بنت عمرو النجارية أخت سلمى بنت عمرو أم عبد المطلب بن هاشم‏.‏

فسويد هذا ابن خالة عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال محمد بن إسحاق بن يسار‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره كلما اجتمع الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة ولا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف، إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى، وعرض عليه ما عنده‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ من قومه‏.‏

قالوا‏:‏ قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجاً - أو معتمراً - وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره وشرفه ونسبه، وهو الذي يقول‏:‏

ألا رب من تدعو صديقاً ولو ترى * مقالته بالغيب ساءك ما يفري

مقالته كالشهد ما كان شاهداً * وبالغيب مأثور على ثغرة النحر

يسرك باديه وتحت أديمه * تميمة غش تبتري عقب الظهر

تبين لك العينان ما هو كاتم * من الغل والبغضاء بالنظر الشَّزر

فرشني بخيرٍ طالما قد بريتني * وخير الموالي من يريشُ ولا يبري

قال‏:‏ فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد‏:‏ فلعل الذي معك مثل الذي معي‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏وما الذي معك‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ مجلة لقمان - يعني‏:‏ حكمة لقمان -‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أعرضها علي‏)‏‏)‏، فعرضها عليه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله عليّ هو هدىً ونور‏)‏‏)‏‏.‏

فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام‏.‏

فلم يبعد منه وقال‏:‏ إن هذا القول حسن‏.‏

ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج‏.‏

فإن كان رجال من قومه ليقولون‏:‏ إنا لنراه قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل بعاث‏.‏

وقد رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق بأخصر من هذا‏.‏

 إسلام إياس بن معاذ

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد، قال‏:‏ لما قدم أبو الحيسر، أنس بن رافع، مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجلس إليهم، فقال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏هل لكم في خير مما جئتم له‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ قالوا‏:‏ وما ذاك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأنزل عليَّ الكتاب‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن‏.‏ ‏

قال‏:‏ فقال إياس بن معاذ - وكان غلاماً حدثاً -‏:‏ يا قوم هذا والله خير مما جئتم له‏.‏

فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال‏:‏ دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا‏.‏

قال‏:‏ فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج‏.‏

قال‏:‏ ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك‏.‏

قال محمود بن لبيد‏:‏ فأخبرني من حضرني من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات فما كانوا يشكون أنه قد مات مسلماً، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع‏.‏

قلت‏:‏ كان يوم بعاث - وبعاث موضع بالمدينة - كانت فيه وقعة عظيمة قتل فيها خلق من أشراف الأوس والخزرج وكبرائهم، ولم يبق من شيوخهم إلا القليل‏.‏

وقد روى البخاري في ‏(‏صحيحه‏)‏، عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أمامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ كان يوم بعاث يوماً قدَّمه الله لرسوله، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد افترق ملاؤهم، وقتل سراتهم‏.‏