الجزء الرابع - سنة خمس من الهجرة النبوية غزوة دومة الجندل في ربيع الأول منها

سنة خمس من الهجرة النبوية غزوة دومة الجندل في ربيع الأول منها

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة الجندل‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ في ربيع الأول يعني من سنة خمس، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم رجع إلى المدينة قبل أن يصل إليها، ولم يلق كيداً فأقام بالمدينة بقية سنته‏.‏ هكذا قال ابن إسحاق‏.‏

وقد قال محمد بن عمر الواقدي بإسناده عن شيوخه، عن جماعة من السلف قالوا‏:‏ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدنو إلى أداني الشام، وقيل له‏:‏ إن ذلك مما يفزع قيصر، وذكر له أن بدومة الجندل جمعاً كبيراً، وأنهم يظلمون من مر بهم، وكان لها سوق عظيم، وهم يريدون أن يدنو من المدينة‏.‏

فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فخرج في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بني عذرة يقال له‏:‏ مذكور، هاد خريت‏.‏

فلما دنا من دومة الجندل أخبره دليله بسوائم بني تميم، فسار حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم، فلم يجد فيها أحد، فأقام بها أياماً وبث السرايا‏.‏

ثم رجعوا وأخذ محمد بن سلمة رجلاً منهم، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أصحابه فقال‏:‏ هربوا أمس، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وكان خروجه عليه السلام إلى دومة الجندل في ربيع الآخر سنة خمس‏.‏ ‏

قال‏:‏ وفيه توفيت أم سعد بن عبادة وابنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة‏.‏

وقد قال أبو عيسى الترمذي في ‏(‏جامعه‏)‏‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب‏:‏ أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب، فلما قدم صلى عليها، وقد مضى لذلك شهر، وهذا مرسل جيد، وهو يقتضي أنه عليه السلام غاب في هذه الغزوة شهراً فما فوقه، على ما ذكره الواقدي رحمه الله‏.‏

 غزوة الخندق أو الأحزاب

وقد أنزل الله تعالى فيها صدر سورة الأحزاب فقال تعالى

‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ * أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9-27‏]‏‏.‏ ‏

وقد تكلمنا على كل من هذه الآيات الكريمات في التفسير، ولله الحمد والمنة، ولنذكر ها هنا ما يتعلق بالقصة إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان‏.‏

وقد كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة، نص على ذلك ابن إسحاق، وعروة بن الزبير، وقتادة والبيهقي، وغير واحد من العلماء سلفاً وخلفاً‏.‏

وقد روى موسى بن عقبة، عن الزهري أنه قال‏:‏ ثم كانت وقعة الأحزاب في شوال سنة أربع‏.‏

وكذلك قال الإمام مالك بن أنس، فيما رواه أحمد بن حنبل عن موسى بن داود عنه‏.‏

قال البيهقي‏:‏ ولا اختلاف بينهم في الحقيقة لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين، وقبل استكمال خمس، ولا شك أن المشركين لما انصرفوا عن أحد، واعدوا المسلمين إلى بدر العام المقابل، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما تقدم في شعبان سنة أربع، ورجع أبو سفيان بقريش لجدب ذلك العام، فلم يكونوا ليأتوا إلى المدينة بعد شهرين، فتعين أن الخندق في شوال من سنة خمس، والله أعلم‏.‏

وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين، ولا خلاف أن أُحداً في شوال سنة ثلاث إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة الثانية لسنة الهجرة، ولم يعدوا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الأول إلى آخرها، كما حكاه البيهقي‏.‏

وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوي، وقد صرح بأن بدراً في الأولى، وأحداً في سنة ثنتين، وبدر الموعد في شعبان سنة ثلاث، والخندق في شوال سنة أربع، وهذا مخالف لقول الجمهور، فإن المشهور أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جعل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعن مالك من ربيع الأول سنة الهجرة، فصارت الأقوال ثلاثة، والله أعلم‏.‏

والصحيح قول الجمهور أن أحداً في شوال سنة ثلاث، وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة، والله أعلم‏.‏

فأما الحديث المتفق عليه في الصحيحين من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال‏:‏ عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني، فقد أجاب عنها جماعة من العلماء منهم البيهقي بأنه عرض يوم أحد في أول الرابعة عشرة، ويوم الأحزاب في أواخر الخامسة عشرة‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أنه أراد أنه لما عرض عليه يوم الأحزاب كان قد استكمل خمس عشرة سنة التي يجاز لمثلها الغلمان، فلا يبقى على هذا زيادة عليها، ولهذا لما بلَّغ نافع عمر بن عبد العزيز هذا الحديث قال‏:‏

إن هذا الفرق بين الصغير والكبير، ثم كتب به إلى الآفاق، واعتمد على ذلك جمهور العلماء، والله أعلم‏.‏

وهذا سياق القصة مما ذكره ابن إسحاق وغيره‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس، فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة ومن لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي، والزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، وغيرهم من علمائنا، وبعضهم يحدث ما لا يحدث بعض قالوا‏:‏

إنه كان من حديث الخندق أن نفراً من اليهود منهم‏:‏ سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله‏.‏

فقالت لهم قريش‏:‏ يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه‏.‏

قالوا‏:‏ بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فهم الذين أنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 51 -52‏]‏

فلما قالوا ذلك لقريش سرهم، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاؤوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم يكونون معهم عليه، وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك واجتمعوا معهم فيه‏.‏ ‏

فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع‏.‏

فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمعوا له من الأمر، ضرب الخندق على المدينة‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ يقال إن الذي أشار به سلمان‏.‏

قال الطبري، والسهيلي‏:‏ أول من حفر الخنادق منوشهر بن أيرج بن أفريدون، وكان في زمن موسى عليه السلام‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيباً للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون، وتخلف طائفة من المنافقين يعتذرون بالضعف، ومنهم من ينسل خفية بغير إذنه ولا علمه عليه الصلاة والسلام‏.‏

وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى‏:‏

{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62-64‏]‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فعمل المسلمون فيه حتى أحكموه، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جُعيل سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمراً، فقالوا فيما يقولون‏:‏

سماه من بعد جُعَيلِ عمراً * وكان للبائس يوماً ظهرا

وكانوا إذا قالوا عمراً، قال معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمراً، وإذا قالوا ظهراً قال لهم ظهراً‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن حميد سمعت أنساً قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر الأنصار والمهاجره‏)‏‏)‏ فقالوا مجيبين له‏:‏

نحن الذين بايعوا محمداً * على الجهاد ما بقينا أبدا

وفي الصحيحين من حديث شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أنس نحوه‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد، عن أنس بنحوه‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال‏:‏ جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم ويقولون‏:‏

نحن الذين بايعوا محمداً * على الإسلام ما بقينا أبدا

قال‏:‏ يقول النبي صلى الله عليه وسلم مجيباً لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجرة‏)‏‏)‏

قال‏:‏ يؤتون بملء كفي من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم، عن القعنبي، عن عبد العزيز به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه، أو أغبر بطنه يقول‏:‏

والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا

ورفع بها صوته‏:‏ أبينا أبينا‏.‏

ورواه مسلم من حديث شعبة به‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا شريح بن مسلمة، حدثني إبراهيم بن يوسف، حدثني أبي، عن أبي إسحاق، عن البراء يحدث قال‏:‏ لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وارى عني التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات عبد الله بن رواحة، وهو ينقل من التراب يقول‏:‏ ‏

اللهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا

ثم يمد صوته بآخرها‏.‏

وقال البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏‏:‏ أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل بن الفضل البجلي، حدثنا إبراهيم بن يوسف البلخي، حدثنا المسيب بن شريك، عن زياد بن أبي زياد، عن أبي عثمان، عن سلمان‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في الخندق وقال‏:‏

بسم الله وبه هُدينا * ولو عبدنا غيره شقينا

يا حبذا رباً وحبَّ دينا

وهذا حديث غريب من هذا الوجه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان، حدثنا شعبة، عن معاوية ابن قرة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهم يحفرون الخندق‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم لا خير إلا خير الآخرة فأصلح الأنصار والمهاجرة‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجاه في الصحيحين من حديث غندر، عن شعبة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان في حفر الخندق أحاديث بلغتني من الله فيها عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون‏.‏

فمن ذلك أن جابر بن عبد الله كان يحدث‏:‏ أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كُدْيَة، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء، فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح الماء على تلك الكدية‏.‏

فيقول من حضرها‏:‏ فوالذي بعثه بالحق نبياً، لانهالت حتى عادت كالكثيب، ما ترد فأساً ولا مسحاة‏.‏ هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه‏.‏

وقد قال البخاري - رحمه الله -‏:‏ حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه قال‏:‏ أتيت جابراً فقال‏:‏ أنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدْيًة شديدة، فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ هذه كدية عرضت في الخندق، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا نازل‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيباً أهيل، أو أهيم‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله ائذن لي إلى البيت‏.‏ فقلت لامرأتي‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء‏؟‏

قالت‏:‏ عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت‏:‏ طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كم هو ‏؟‏‏)‏‏)‏ فذكرت له، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كثير طيب، قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا‏)‏‏)‏ فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال‏:‏ ويحك، جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم‏.‏

قالت‏:‏ هل سألك‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ادخلوا ولا تضاغطوا‏)‏‏)‏ فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز، ويغرف حتى شبعوا، وبقي بقية‏.‏ قال‏:‏ كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة‏.‏ تفرد به البخاري‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد عن وكيع، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه أيمن الحبشي مولى بني مخزوم، عن جابر بقصة الكدية، وربط الحجر على بطنه الكريم‏.‏

ورواه البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏ عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر قصة الكدية والطعام، وطوله أتم من رواية البخاري قال فيه‏:‏

لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار الطعام، قال للمسلمين جميعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا إلى جابر‏)‏‏)‏ فقاموا، قال‏:‏ فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، وقلت‏:‏ جاءنا بخلق على صاع من شعير وعناق، ودخلت على امرأتي أقول‏:‏ افتضحت جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق أجمعين‏.‏

فقالت‏:‏ هل كان سألك كم طعامك‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

فقالت‏:‏ الله ورسوله أعلم قد أخبرناه ما عندنا‏.‏

قال‏:‏ فكشفت عني غماً شديداً‏.‏

قال‏:‏ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏خدمي ودعيني من اللحم‏)‏‏)‏ وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يثرد، ويغرف اللحم، ويخمر هذا، ويخمر هذا، فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين، ويعود التنور والقدر أملأ ما كانا‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كلي وأهدي‏)‏‏)‏ فلم تزل تأكل وتهدي يومها‏.‏

وقد رواه كذلك أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر به، وأبسط أيضاً‏.‏

وقال في آخره‏:‏ وأخبرني أنهم كانوا ثمانمائة، أو قال ثلثمائة‏.‏

وقال يونس بن بكير‏:‏ عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر فذكر القصة بطولها في الطعام فقط، وقال‏:‏ وكانوا ثلثمائة‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم، حدثنا حنظلة بن أبي سفيان، عن أبي الزبير، حدثنا ابن ميناء، سمعت جابر بن عبد الله قال‏:‏ لما حفر الخندق رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً، فانكفأت إلى امرأتي فقلت‏:‏ هل عندك شيء‏؟‏ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً‏.‏

فأخرجت لي جراباً فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها فطحنت، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه‏.‏

فجئته فساررته، فقلت‏:‏ يا رسول الله ذبحت بهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع سؤراً فحيهلا بكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء‏)‏‏)‏ فجئت، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت‏:‏ بك وبك، فقلت‏:‏ قد فعلت الذي قلت، فأخرجت لنا عجيناً فبسق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق وبارك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ادع خبازة فلتخبز معك، واقدحي من برمتك، ولا تنزلوها‏)‏‏)‏ وهم ألف، فأُقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا كما هو‏.‏

ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن أبي عاصم به نحوه‏.‏

وقد روى محمد بن إسحاق هذا الحديث، وفي سياقه غرابة من بعض الوجوه فقال‏:‏

حدثني سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وكانت عندي شويهة غير جد سمينة قال‏:‏ فقلت والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ وأمرت امرأتي، فطحنت لنا شيئاً من شعير، فصنعت لنا منه خبزاً، وذبحت تلك الشاة، فشويناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف عن الخندق، قال وكنا نعمل فيه نهاراً، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا فقلت‏:‏ يا رسول الله إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، وصنعنا معها شيئاً من خبز هذا الشعير، فأنا أحب أن تنصرف معي إلى منزلي‏.‏

قال‏:‏ وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده‏.‏

قال‏:‏ فلما أن قلت ذلك، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏ ثم أمر صارخاً فصرخ، أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

قال‏:‏ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه، قال‏:‏ فبرك وسمى الله تعالى، ثم أكل، وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا، وجاء ناس حتى صدر أهل الخندق عنها‏.‏

والعجب أن الإمام أحمد إنما رواه من طريق سعيد بن ميناء، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق عنه، عن جابر مثله سواء‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ وحدثني سعيد بن ميناء أنه قد حدث أن ابنة لبشير بن سعد أخت النعمان بن بشير قالت‏:‏ دعتني أمي عمرة بنت رواحة، فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت‏:‏ أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما‏.‏

قالت‏:‏ فأخذتها وانطلقت بها فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ألتمس أبي وخالي فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏تعالي يا بنية ما هذا معك ‏؟‏‏)‏‏)‏

قالت‏:‏ قلت يا رسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغديانه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هاتيه‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ملأتهما‏.‏ ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب‏.‏

ثم قال لإنسان عنده‏:‏ ‏(‏‏(‏اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء‏)‏‏)‏ فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب‏.‏

هكذا رواه ابن إسحاق وفيه انقطاع‏.‏

وهكذا رواه الحافظ البيهقي من طريقه، ولم يزد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال‏:‏ ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت علي صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى‏.‏

قال‏:‏ ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قال‏:‏ قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت، لمع تحت المعول وأنت تضرب‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أوقد رأيت ذلك يا سلمان ‏؟‏‏)‏‏)‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما الأولى فإن الله فتح علي باب اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وهذا الذي ذكره ابن إسحاق قد ذكره موسى بن عقبة في ‏(‏مغازيه‏)‏‏.‏

وذكره أبو الأسود عن عروة‏.‏

ثم روى البيهقي من طريق محمد بن يونس الكديمي، وفي حديثه نظر‏.‏

لكن رواه ابن جرير في ‏(‏تاريخه‏)‏ عن محمد بن بشار وبندار، كلاهما عن محمد بن خالد بن عثمة، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، فذكر حديثاً فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطَّ الخندق بين كل عشرة أربعين ذراعاً‏.‏

قال‏:‏ واحتق المهاجرون والأنصار في سلمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏سلمان منا أهل البيت‏)‏‏)‏‏.‏

قال عمرو بن عوف‏:‏ فكنت أنا وسلمان، وحذيفة، والنعمان بن مقرن، وستة من الأنصار، في أربعين ذراعاً، فحفرنا حتى إذا بلغنا الندى، ظهرت لنا صخرة بيضاء مروة، فكسرت حديدنا، وشقت علينا‏.‏

فذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة تركية، فأخبره عنها، فجاء فأخذ المعول من سلمان، فضرب الصخرة ضربة فصدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها - يعني المدينة - حتى كأنها مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلمون‏.‏

ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك، وذكر ذلك سلمان والمسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه عن ذلك النور، فقال‏:‏

‏(‏‏(‏لقد أضاء لي من الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثانية أضاءت القصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثالثة أضاءت قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا‏)‏‏)‏ واستبشر المسلمون وقالوا‏:‏ الحمد لله موعود صادق‏.‏

قال‏:‏ ولما طلعت الأحزاب قال المؤمنون‏:‏ هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً، وقال المنافقون‏:‏ يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل فيهم‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12‏]‏ وهذا حديث غريب‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا هارون بن ملول، حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، فخندق على المدينة قالوا‏:‏ يا رسول الله إنا وجدنا صفاة لا نستطيع حفرها‏.‏

فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، فلما أتاها أخذ المعول فضرب أخرى فكبر، فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏فتحت فارس‏)‏‏)‏ ثم ضرب أخرى فكبر، فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال ‏(‏‏(‏فتحت الروم‏)‏‏)‏ ثم ضرب أخرى فكبر‏.‏

فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏جاء الله بحمير أعواناً وأنصاراً‏)‏‏)‏ وهذا أيضاً غريب من هذا الوجه، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي فيه ضعف، فالله أعلم‏.‏

وقال الطبراني أيضاً‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا أبو نميلة، حدثنا نعيم بن سعيد الغري أن عكرمة حدث عن ابن عباس قال‏:‏ احتفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع‏.‏

فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال رجل‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما لا، فتقدم فدلنا عليه‏)‏‏)‏ فانطلقوا إلى بيت الرجل فإذا هو في الخندق يعالج نصيبه منه، فأرسلت امرأته أن جئ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتانا‏.‏

فجاء الرجل يسعى وقال‏:‏ بأبي وأمي، وله معزة ومعها جديها، فوثب إليها فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الجدي من ورائها‏)‏‏)‏ فذبح الجدي، وعمدت المرأة إلى طحينة لها فعجنتها وخبزت، فأدركت القدر، فثردت قصعتها فقربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏

فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعه فيها وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله اللهم بارك فيها أطعموا‏)‏‏)‏ فأكلوا منها حتى صدروا، ولم يأكلوا منها إلا ثلثها وبقي ثلثاها، فسرح أولئك العشرة الذين كانوا معه أن اذهبوا وسرحوا إلينا بعدتكم، فذهبوا فجاء أولئك العشرة، فأكلوا منها حتى شبعوا، ثم قام ودعا لربة البيت، وسمت عليها، وعلى أهل بيتها‏.‏

ثم مشوا إلى الخندق فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهبوا بنا إلى سلمان‏)‏‏)‏ وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوني فأكون أول من ضربها‏)‏‏)‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله‏)‏‏)‏ فضربها، فوقعت فلقة ثلثها، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر قصور الشام ورب الكعبة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة‏)‏‏)‏ فقال عندها المنافقون‏:‏ نحن نخندق على أنفسنا، وهو يعدنا قصور فارس والروم‏.‏

ثم قال الحافظ البيهقي‏:‏ أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا محمد بن غالب بن حرب، حدثنا هوذة، حدثنا عوف، عن ميمون بن أستاذ الزهري، حدثني البراء بن عازب الأنصاري قال‏:‏

لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة، لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها أخذ المعول وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله‏)‏‏)‏ وضرب ضربة فكسر ثلثها‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله‏)‏‏)‏ ثم ضرب الثانية فقطع ثلثاً آخر، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ضرب الثالثة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله‏)‏‏)‏ فقطع بقية الحجر، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة‏)‏‏)‏ وهذا حديث غريب أيضاً، تفرد به ميمون بن أستاذ هذا، وهو بصري روى عن البراء، وعبد الله بن عمرو وعنه حميد الطويل، والجريري، وعوف الأعرابي‏.‏

قال أبو حاتم، عن إسحاق بن منصور، عن ابن معين‏:‏ كان ثقة‏.‏

وقال علي بن المديني‏:‏ كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه‏.‏

وقال النسائي‏:‏ حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ضمرة، عن أبي زرعة السيباني، عن أبي سكينة - رجل من البحرين - عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر‏.‏

فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول، ووضع رداءه ناحية الخندق، وقال‏:‏ ‏{‏وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم‏}‏ فندر ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة‏.‏

ثم ضرب الثانية وقال‏:‏ ‏{‏وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلمات الله وهو السميع العليم‏}‏ فندر الثلث الآخر وبرقت برقة، فرآها سلمان‏.‏

ثم ضرب الثالثة وقال‏:‏ ‏{‏وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم‏}‏ فندر الثلث الباقي‏.‏

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس، فقال سلمان‏:‏ يا رسول الله رأيتك حين ضربت لا تضرب إلا كانت معها برقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا سلمان رأيت ذلك ‏؟‏‏)‏‏)‏ قال‏:‏ أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها، ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له من حضره من أصحابه‏:‏ يا رسول الله ادع أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريهم، ونخرب بأيدينا بلادهم‏.‏ فدعا بذلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم ضربت الثانية فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها، حتى رأيتها بعيني‏)‏‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريهم، ونخرب بأيدينا بلادهم، فدعا‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم ضربت الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى، حتى رأيتها بعيني‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك وما تركوكم هكذا‏)‏‏)‏ رواه النسائي مطولاً وإنما روى منه أبو داود ‏(‏‏(‏دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم‏)‏‏)‏ عن عيسى بن محمد الرملي، عن ضمرة بن ربيعة، عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو السيباني به‏.‏

ثم قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول، حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر، وزمان عثمان، وما بعده‏:‏ افتتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة، ولا تفتحونها إلى يوم القيامة، إلا وقد أعطى الله محمداً صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك‏.‏

وهذا من هذا الوجه منقطع أيضاً، وقد وصل من غير وجه ولله الحمد‏.‏

فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاري منفرداً به عن يحيى بن بكير، وسعد بن عفير، كلاهما عن الليث به‏.‏ وعنده قال أبو هريرة‏:‏ فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تنتثلونها‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي‏)‏‏)‏ وهذا إسناد جيد قوي على شرط مسلم، ولم يخرجوه‏.‏

وفي الصحيحين‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها‏)‏‏)‏‏.‏

 

 

فصل نزول قريش بمجتمع الأسيال يوم الخندق‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، بين الجرف وزغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمى، إلى جانب أحد‏.‏

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء، فجعلوا فوق الأطام‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ واستعمل على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا‏} ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عبيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار‏}‏ قالت‏:‏ ذلك يوم الخندق‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ ولما نزل الأحزاب حول المدينة أغلق بنو قريظة حصنهم دونهم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وخرج حيي بن أخطب النضري، حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقدهم وعهدهم، فلما سمع به كعب أغلق باب حصنه دون حيي، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه‏:‏ ويحك يا كعب افتح لي‏.‏

قال‏:‏ ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمداً فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقاً‏.‏

قال‏:‏ ويحك افتح لي أكلمك‏.‏

قال‏:‏ ما أنا بفاعل، قال‏:‏ والله إن أغلقت دوني إلا خوفاً على جشيشتك أن آكل معك منها، فاحفظ الرجل، ففتح له فقال‏:‏ ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وبحر طام‏.‏

قال‏:‏ وما ذاك‏؟‏

قال‏:‏ جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة وبغطفان، على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى، إلى جانب أحد، وقد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه‏.‏

فقال كعب‏:‏ جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه، يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي ‏!‏ فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا وفاءً وصدقاً‏.‏

وقد تكلم عمر بن سعد القرظي فأحسن فيما ذكره موسى بن عقبة‏:‏ ذكرهم ميثاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ومعاقدتهم إياه على نصره وقال‏:‏ إذا لم تنصروه فاتركوه وعدوه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب، حتى سمع له - يعني في نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي محاربته مع الأحزاب - على أن أعطاه حيي عهد الله وميثاقه لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد العهد، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ وأمر كعب بن أسد بنو قريظة حيي بن أخطب أن يأخذ لهم من قريش وغطفان رهائن، تكون عندهم لئلا ينالهم ضيم إن هم رجعوا ولم يناجزوا محمداً، قالوا‏:‏ وتكون الرهائن تسعين رجلاً من أشرافهم، فنازلهم حيي على ذلك، فعند ذلك نقضوا العهد ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد إلا بني سعنة أسد وأسيد وثعلبة، فإنهم خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين، بعث سعد بن معاذ وهو يومئذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة وهو يومئذ سيد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحقٌ ما بلغنا عنهم، فإن كان حقاً فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فخرجوا حتى أتوهم‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ فدخلوا معهم حصنهم، فدعوهم إلى الموادعة وتجديد الحلف، فقالوا‏:‏ الآن وقد كسر جناحنا وأخرجهم يريدون بني النضير، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم، فأغضبوه فقال له سعد بن معاذ‏:‏ إنا والله ما جئنا لهذا، ولما بيننا أكبر من المشاتمة‏.‏

ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال‏:‏ إنكم قد علمتم الذي بيننا وبينكم يا بني قريظة، وأنا خائف عليكم مثل يوم بني النضير، أو أمر منه‏.‏

فقالوا‏:‏ أكلت أير أبيك‏.‏

فقال‏:‏ غير هذا من القول كان أجمل بكم وأحسن‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ من رسول الله‏؟‏ لا عهد بيننا وبين محمد‏.‏

فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان رجلاً فيه حدة فقال له سعد بن عبادة‏:‏ دع عنك مشاتمتهم لما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه، ثم قالوا‏:‏ عضل والقارة أي‏:‏ كغدرهم بأصحاب الرجيع‏:‏ خبيب وأصحابه‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين‏)‏‏)‏‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ ثم تقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه حين جاءه الخبر عن بني قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً، فاشتد على الناس البلاء والخوف حين رأوه اضطجع، وعرفوا أنه لم يأته عن بني قريظة خير، ثم إنه رفع رأسه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشروا بفتح الله ونصره‏)‏‏)‏‏.‏

فلما أن أصبحوا، دنا القوم بعضهم من بعض، وكان بينهم رمي بالنبل والحجارة‏.‏

قال سعيد بن المسيب‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أسألك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق حتى قال معتب بن قشير - أخو بني عمرو بن عوف -‏:‏ كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط‏.‏

وحتى قال أوس بن قيظي‏:‏ يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك عن ملأ من رجال قومه، فأذن لنا أن نرجع إلى دارنا فإنها خارج من المدينة‏.‏

قلت‏:‏ هؤلاء وأمثالهم المرادون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12-13‏]‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مرابطاً، وأقام المشركون يحاصرونه بضعاً وعشرين ليلة قريبا من شهر، ولم يكن بينهم حرب إلا الرميا بالنبل، فلما اشتد على الناس البلاء، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ومن لا أتهم عن الزهري إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه‏.‏

فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا‏:‏ يا رسول الله أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به ولا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما‏)‏‏)‏

فقال له سعد بن معاذ‏:‏ يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا‏؟‏ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت وذاك‏)‏‏)‏ فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال‏:‏ ليجهدوا عليها‏.‏

قال‏:‏ فأقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه محاصرين، ولم يكن بينهم وبين عدوهم قتال، إلا أن فوارس من قريش - منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس أحد بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهر المخزوميان، وضرار بن الخطاب بن مرداس، أحد بني محارب بن فهر - تلبسوا للقتال‏.‏

ثم خرجوا على خيلهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا‏:‏ تهيئوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم، ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا‏:‏ والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكاناً من الخندق ضيقاً فضربوا خيلهم، فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع‏.‏

وخرج علي بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين، حتى أخذوا عليه الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه، فلما خرج هو وخيله قال‏:‏ من يبارز ‏؟‏

فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له‏:‏ يا عمرو إنك كنت هاعدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه‏.‏

قال‏:‏ أجل‏.‏

قال له علي‏:‏ فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام‏.‏

قال‏:‏ لا حاجة لي بذلك‏.‏

قال‏:‏ فإني أدعوك إلى النزال‏.‏ ‏

قال له‏:‏ لمَ يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك‏.‏

قال له علي‏:‏ لكني والله أحب أن أقتلك، فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه، فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه وخرجت خيلهم منهزمة، حتى اقتحمت من الخندق هاربة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال علي بن أبي طالب في ذلك‏:‏

نصر الحجارة من سفاهة رأيه * ونصرت رب محمد بصواب

فصدرت حين تركته متجدلاً * كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو أنني * كنت المقطر بزَّنى أثوابي

لا تحسبن الله خاذل دينه * ونبيه يا معشر الأحزاب

قال ابن هشام‏:‏ وأكثر أهل العلم بالشعر يشك فيها لعلي‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وألقى عكرمة رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو، فقال في ذلك حسان بن ثابت‏:‏

فر وألقى لنا رمحه * لعلك عكرم لم تفعل

ووليت تعدو كعدو الظليـ * ـم ما إن يحور عن المعدل

ولم تلو ظهرك مستأنساً * كأن قفاك قفا فرعل

قال ابن هشام‏:‏ الفراعل صغار الضباع‏.‏

وذكر الحافظ البيهقي في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏‏:‏ عن ابن إسحاق في موضع آخر من السيرة قال‏:‏ خرج عمرو بن عبد ود وهو مقنع بالحديد، فنادى من يبارز ‏؟‏

فقام علي بن أبي طالب فقال‏:‏ أنا لها يا نبي الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه عمرو اجلس‏)‏‏)‏‏.‏

ثم نادى عمرو‏:‏ ألا رجل يبرز ‏؟‏

فجعل يؤنبهم ويقول‏:‏ أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها، أفلا تبرزون إلي رجلاً ‏؟‏

فقام علي فقال‏:‏ أنا يا رسول الله ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اجلس‏)‏‏)‏‏.‏

ثم نادى الثالثة فقال‏:‏

ولقد بححت من النداء * لجمعهم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجع * موقف القرن المناجز

ولذاك إني لم أزل * متسرعاً قبل الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى * والجود من خير الغرائز

قال‏:‏ فقام علي رضي الله عنه فقال‏:‏ يا رسول الله أنا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه عمرو‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ وإن كان عمراً‏.‏ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى إليه حتى أتى وهو يقول‏:‏

لا تعجلن فقد أتاك * مجيب صوتك غير عاجز

في نية وبصيرة * والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن أقي * م عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء * يبقى ذكرها عند الهزاهز

فقال له عمرو‏:‏ من أنت ‏؟‏

قال‏:‏ أنا علي‏.‏

قال‏:‏ ابن عبد مناف ‏؟‏

قال‏:‏ أنا علي بن أبي طالب‏.‏

فقال‏:‏ يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك، فإني أكره أن أهريق دمك‏؟‏

فقال له علي‏:‏ لكني والله لا أكره أن أهريق دمك، فغضب فنزل وسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي مغضباً واستقبله علي بدرقته، فضربه عمرو في درقته فقدها، وأثبت فيها السيف، وأصاب رأسه فشجه، وضربه علي على حبل عاتقه فسقط وثار العجاج، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير، فعرفنا أن علياً قد قتله، فثم يقول علي‏:‏

أعلي تقتحم الفوارس هكذا * عني وعنهم أخروا أصحابي

اليوم يمنعني الفرار حفيظتي * ومصمم في الرأس ليس بنابي

إلى أن قال‏:‏

عبد الحجارة من سفاهة رأيه * وعبدت رب محمد بصواب

إلى آخرها‏.‏

قال‏:‏ ثم أقبل علي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلل فقال له عمر بن الخطاب‏:‏ هلا استلبته درعه، فإنه ليس للعرب درع خير منها‏؟‏ فقال‏:‏ ضربته فاتقاني بسوءته، فاستحييت ابن عمي أن أسلبه‏.‏

قال‏:‏ وخرجت خيوله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق‏.‏

وذكر ابن إسحاق فيما حكاه، عن البيهقي‏:‏ أن علياً طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه، فمات في الخندق، وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هو لكم لا نأكل ثمن الموتى‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا نصر بن باب، حدثنا حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ قتل المسلمون يوم الخندق رجلاً من المشركين، فأعطوا بجيفته مالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية‏)‏‏)‏ فلم يقبل منهم شيئاً‏.‏

وقد رواه البيهقي من حديث حماد بن سلمة، عن حجاج وهو ابن أرطأة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس‏:‏ أن رجلاً من المشركين قتل يوم الأحزاب، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن ابعث إلينا بجسده ونعطيهم اثني عشر ألفاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا خير في جسده ولا في ثمنه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه الترمذي، من حديث سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وقال غريب‏.‏

وقد ذكر موسى بن عقبة‏:‏ أن المشركين إنما بعثوا يطلبون جسد نوفل بن عبد الله المخزومي حين قتل، وعرضوا عليه الدية، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله ولعن ديته، فلا أرب لنا في ديته، ولسنا نمنعكم أن تدفنوه‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال‏:‏ وخرج نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، فسأل المبارزة فخرج إليه الزبير بن العوام، فضربه فشقه باثنتين حتى فلَّ في سيفه فلاً، وانصرف وهو يقول‏:‏

إني امرؤ أحمي وأحتمي * عن النبي المصطفى الأمي

وقد ذكر ابن جرير‏:‏ أن نوفلاً لما تورط في الخندق رماه الناس بالحجارة، فجعل يقول قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب، فنزل إليه علي فقتله وطلب المشركون رمته من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن، فأبى عليهم أن يأخذ منهم شيئاً، ومكنهم من أخذه إليهم‏.‏

وهذا غريب من وجهين‏.‏

وقد روى البيهقي‏:‏ من طريق حماد بن يزيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ جعلت يوم الخندق مع النساء والصبيان في الأطم، ومعي عمر بن أبي سلمة، فجعل يطأطئ لي، فأصعد على ظهره فأنظر إليهم كيف يقتتلون، وأطأطئ له فيصعد فوق ظهري فينظر‏.‏

قال‏:‏ فنظرت إلى أبي وهو يحمل مرة ها هنا ومرة ها هنا، فما يرتفع له شيء إلا أتاه، فلما أمسى جاءنا إلى الأطم‏.‏

قلت‏:‏ يا أبة رأيتك اليوم وما تصنع‏.‏

قال‏:‏ ورأيتني يا بني ‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فدى لك أبي وأمي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري، أخو بني حارثة‏:‏ أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة‏.‏

قال‏:‏ وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن‏.‏

قالت عائشة‏:‏ وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب‏.‏ قالت‏:‏ فمر سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده حربته يرفل بها ويقول‏:‏

لبّثْ قليلاً يشهد الهيجا جمَل * لا بأس بالموت إذا حان الأجل

فقالت له أمه‏:‏ الحق بني فقد والله أخرت‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فقلت لها يا أم سعد، والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي‏.‏

قالت‏:‏ وخفت عليه، حيث أصاب السهم منه، فرُمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل‏.‏ ‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال‏:‏ رماه حيان بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي، فلما أصابه قال‏:‏ خذها مني وأنا ابن العرقة، فقال له سعد‏:‏ عرق الله وجهك في النار، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك أنه كان يقول‏:‏ ما أصاب سعداً يومئذ إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم‏.‏

وقد قال أبو أسامة في ذلك شعراً قاله لعكرمة بن أبي جهل‏:‏

أعكرم هلاّ لمتني إذ تقول لي * فداك بآطام المدينة خالدَ

ألست الذي ألزمت سعداً مريشة * لها بين أثناء المرافق عاند

قضى نحبه منها سعيد فأعولت * عليه مع الشمط العذارى النواهد

وأنت الذي دافعت عنه وقد دعا * عبيدة جمعاً منهم إذ يكابد

على حين ما هم جائر عن طريقه * وآخر مرعوبٌ عن القصد قاصد

قال ابن إسحاق‏:‏ والله أعلم أي ذلك كان‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ويقال إن الذي رمى سعداً خفاجة بن عاصم بن حبان‏.‏

قلت‏:‏ وقد استجاب الله دعوة وليه سعد بن معاذ في بني قريظة، أقر الله عينه فحكم فيهم بقدرته وتيسيره، وجعلهم هم الذين يطلبون ذلك كما سيأتي بيانه، فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم، حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبع أرقعة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد قال‏:‏ كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع، حصن حسان بن ثابت، قالت‏:‏ وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان، فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إذ أتانا آت‏.‏

فقلت‏:‏ يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما أمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فانزل إليه فاقتله‏.‏

قال‏:‏ يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا‏.‏

قالت‏:‏ فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً احتجزت، ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت‏:‏ يا حسان انزل فاستلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل‏.‏

قال‏:‏ مالي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ وأحاط المشركون بالمسلمين حتى جعلوهم في مثل الحصن من كتائبهم، فحاصروهم قريباً من عشرين ليلة، وأخذوا بكل ناحية حتى لا يدرى أتم أم لا‏.‏

قال‏:‏ ووجهوا نحو منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة، فقاتلوهم يوماً إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت الكتيبة، فلم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا، فانكفأت الكتيبة مع الليل، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقلوبهم‏)‏‏)‏ وفي رواية ‏(‏‏(‏وقبورهم ناراً‏)‏‏)‏‏.‏

فلما اشتد البلاء نافق ناس كثير، وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بالناس من البلاء والكرب، جعل يبشرهم ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق أمناً، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا إسحاق، حدثنا روح، حدثنا هشام، عن محمد، عن عبيدة، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق‏:‏ ‏(‏‏(‏ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي به‏.‏

ورواه مسلم والترمذي، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن عبيدة، عن علي به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا المكي بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله‏:‏ أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش وقال‏:‏ يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏والله ما صليتها‏)‏‏)‏ فنزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب‏.‏

وقد رواه البخاري أيضاً، ومسلم، والترمذي، والنسائي من طرق، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا ثابت، حدثنا هلال، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ قاتل النبي صلى الله عليه وسلم عدواً، فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها، فلما رأى ذلك قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى فاملأ بيوتهم ناراً، واملأ قبورهم ناراً‏)‏‏)‏ ونحو ذلك تفرد به أحمد، وهو من رواية هلال بن خباب العبدي الكوفي، وهو ثقة يصحح له الترمذي وغيره‏.‏

وقد استدل طائفة من العلماء بهذه الأحاديث على كون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، كما هو منصوص عليه في هذه الأحاديث، وألزم القاضي الماوردي مذهب الشافعي بهذا لصحة الحديث‏.‏

وقد حررنا ذلك نقلاً واستدلالاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ‏} ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏}‏

وقد استدل طائفة بهذا الصنيع على جواز تأخير الصلاة لعذر القتال، كما هو مذهب مكحول والأوزاعي‏.‏

وقد بوب البخاري ذلك، واستدل بهذا الحديث، وبقوله صلى الله عليه وسلم يوم أمرهم بالذهاب إلى بني قريظة - كما سيأتي - ‏(‏‏(‏لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة‏)‏‏)‏ وكان من الناس من صلى العصر في الطريق، ومنهم من لم يصل إلا في بني قريظة بعد الغروب، ولم يعنف واحداً من الفريقين‏.‏

واستدل بما ذكره عن الصحابة ومن معهم في حصار تستر، سنة عشرين في زمن عمر، حيث صلوا الصبح بعد طلوع الشمس لعذر القتال، واقتراب فتح الحصن‏.‏

وقال آخرون من العلماء وهم الجمهور منهم الشافعي‏:‏ هذا الصنيع يوم الخندق منسوخ بشرعية صلاة الخوف بعد ذلك، فإنها لم تكن مشروعة إذ ذاك، فلهذا أخروها يومئذ، وهو مشكل‏.‏

قال ابن إسحاق وجماعة‏:‏ ذهبوا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بعسفان‏.‏

وقد ذكرها ابن إسحاق - وهو إمام في المغازي - قبل الخندق، وكذلك ذات الرقاع ذكرها قبل الخندق، فالله أعلم‏.‏

وأما الذين قالوا‏:‏ إن تأخير الصلاة يوم الخندق وقع نسياناً كما حكاه شراح مسلم عن بعض الناس، فهو مشكل إذ يبعد أن يقع هذا من جمع كبير مع شدة حرصهم على محافظة الصلاة، كيف وقد روي أنهم تركوا يومئذ الظهر والعصر والمغرب حتى صلوا الجميع في وقت العشاء، من رواية أبي هريرة وأبي سعيد‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد وحجاج قالا‏:‏ حدثنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال‏:‏ حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هَويٌ من الليل حتى كفينا، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً‏} ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمره، فأقام فصلى الظهر كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك، وذلك قبل أن ينزل‏.‏

قال حجاج في صلاة الخوف‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 239‏]‏‏.‏

وقد رواه النسائي عن الفلاس، عن يحيى القطان، عن ابن أبي ذئب به‏.‏

قال‏:‏ شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس فذكره‏.‏ ‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا هشيم، حدثنا أبو الزبير، عن نافع بن جبير، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه‏:‏ أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن أربع صلوات، حتى ذهب من الليل ما شاء الله‏.‏

قال‏:‏ فأمر بلالاً فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن معمر، حدثنا مؤمل - يعني ابن إسماعيل- حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - عن عبد الكريم - يعني ابن أبي المخارق- عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله‏:‏

أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى الظهر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العصر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العشاء، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما على وجه الأرض قوم يذكرون الله في هذه الساعة غيركم‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به البزار وقال‏:‏ لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏

وقد رواه بعضهم، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن أبي عبيدة، عن عبد الله‏.‏

 فصل في دعائه عليه السلام على الأحزاب

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عامر، حدثنا الزبير - يعني ابن عبد الله - حدثنا ربيح بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال‏:‏ قلنا يوم الخندق‏:‏ يا رسول الله هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فضرب الله وجوه أعدائه بالريح‏.‏

وقد رواه ابن أبي حاتم في ‏(‏تفسيره‏)‏ عن أبيه، عن أبي عامر - وهو العقدي - عن الزبير بن عبد الله مولى عثمان بن عفان، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه عن أبي سعيد، فذكره وهذا هو الصواب‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين، عن ابن أبي ذئب، عن رجل من بني سلمة، عن جابر بن عبد الله‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد الأحزاب فوضع رداءه، وقام ورفع يديه مداً يدعو عليهم ولم يصل‏.‏

قال‏:‏ ثم جاء ودعا عليهم وصلى‏.‏

وثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوفى قال‏:‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم‏)‏‏)‏ وفي الرواية‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

وروى البخاري، عن قتيبة، عن الليث، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة، لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم‏.‏

قال‏:‏ ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة‏)‏‏)‏ فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية فقال‏:‏ يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم‏.‏

قالوا‏:‏ صدقت لست عندنا بمتهم‏.‏

فقال لهم‏:‏ إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها‏.‏

وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه‏.‏

قالوا‏:‏ لقد أشرت بالرأي، ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب، ومن معه من رجال قريش‏:‏ قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموا عني‏.‏

قالوا‏:‏ نفعل‏.‏

قال‏:‏ تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم ‏؟‏

فأرسل إليهم‏:‏ أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً، ثم خرج حتى أتى غطفان فقال‏:‏ يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني‏.‏

قالوا‏:‏ صدقت ما أنت عندنا بمتهم‏.‏

قال‏:‏ فاكتموا عني‏.‏

قالوا‏:‏ نفعل، ثم قال لهم ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم‏.‏

فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنيع الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان، إلى بني قريظة‏:‏ عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان‏.‏

فقال لهم‏:‏ إنا لسنا بدار مقام، هلك الخف والحافر، فأعدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه‏.‏

فأرسلوا إليهم‏:‏ إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً، فأصابهم ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك منه‏.‏

فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان‏:‏ والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة‏:‏ إنا ولله لا ندفع إليكم رجلاً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا‏.‏

فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا‏:‏ إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم‏.‏

فأرسلوا إلى قريش وغطفان‏:‏ إنا والله ما نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم، وخذل الله بينهم، وبعث الله الريح في ليلة شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم‏.‏

وهذا الذي ذكره ابن إسحاق من قصة نعيم بن مسعود أحسن مما ذكره موسى بن عقبة‏.‏

وقد أورده عنه البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏ فإنه ذكر ما حاصله‏:‏ أن نعيم بن مسعود كان يذيع ما يسمعه من الحديث، فاتفق أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم عشاء، فأشار إليه أن تعال، فجاء فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما وراءك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ إنه قد بعثت قريش وغطفان إلى بني قريظة يطلبون منهم أن يخرجوا إليهم فيناجزوك، فقالت قريظة‏:‏ نعم، فأرسلوا إلينا بالرهن، وقد ذكر فيما تقدم‏:‏ أنهم إنما نقضوا العهد على يدي حيي بن أخطب، بشرط أن يأتيهم برهائن تكون عندهم توثقة‏.‏

قال‏:‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني مسر إليك شيئاً فلا تذكره‏)‏‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنهم قد أرسلوا إلي يدعونني إلى الصلح، وأرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج نعيم بن مسعود عامداً إلى غطفان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الحرب خدعة، وعسى أن يصنع الله لنا‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

فأتى نعيم غطفان وقريشاً فأعلمهم، فبادر القوم وأرسلوا إلى بني قريظة عكرمة وجماعة معه، واتفق ذلك ليلة السبت، يطلبون منهم أن يخرجوا للقتال معهم، فاعتلت اليهود بالسبت، ثم أيضاً طلبوا الرهن توثقة، فأوقع الله بينهم واختلفوا‏.‏

قلت‏:‏ وقد يحتمل أن تكون قريظة لما يئسوا من انتظام أمرهم مع قريش وغطفان، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون منه الصلح على أن يرد بني النضير إلى المدينة، والله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جمعهم، دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان‏:‏ يا أبا عبد الله أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه ‏؟‏

قال‏:‏ نعم يا ابن أخي‏.‏

قال‏:‏ فكيف كنتم تصنعون ‏؟‏

قال‏:‏ والله لقد كنا نجتهد‏.‏

قال‏:‏ والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا‏.‏

قال‏:‏ فقال حذيفة‏:‏ يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إلينا فقال‏:‏ من رجل يقول فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع - فشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة - أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة ‏؟‏

فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد، فلما لم يقم أحد دعاني، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون، ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال‏:‏ يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه ‏؟‏

قال حذيفة‏:‏ فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت‏:‏ من أنت ‏؟‏

قال‏:‏ فلان ابن فلان، ثم قال أبو سفيان‏:‏ يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل‏.‏

ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي لا تحدث شيئاً حتى تأتيني لقتلته بسهم‏.‏

قال حذيفة‏:‏ فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل، فلما رآني أدخلني إلى رجليه، وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم، وهذا منقطع من هذا الوجه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 131‏)‏

وقد روى هذا الحديث مسلم بن الحجاج في صحيحه‏:‏ من حديث الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه قال‏:‏ كنا عند حذيفة فقال له رجل‏:‏ لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت، فقال له حذيفة‏:‏ أنت كنت تفعل ذلك‏؟‏

لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا رجل يأتيني بخبر القوم، يكون معي يوم القيامة ‏؟‏‏)‏‏)‏ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حذيفة قم فأتنا بخبر القوم‏)‏‏)‏ فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب ائتني بخبر القوم، ولا تذعرهم عليَّ‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فمضيت، كأنما أمشي في حمام، حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد قوسي وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تذعرهم علي‏)‏‏)‏ ولو رميته لأصبته‏.‏

فرجعت كأنما أمشي في حمام، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابني برد حين رجعت وقررت، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أبرح نائماً حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قم يا نومان‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى الحاكم والحافظ البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏ هذا الحديث مبسوطاً من حديث عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدؤلي، عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة، قال‏:‏ ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جلساؤه‏:‏ أما والله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا‏.‏

فقال حذيفة‏:‏ لا تمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحاً منها في أصوات ريحها، أمثال الصواعق وهي ظلمة، ما يرى أحدنا أصبعه‏.‏

فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون‏:‏ إن بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم ويتسللون، ونحن ثلاثمائة ونحو ذلك إذا استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً رجلاً‏.‏

حتى أتى عليَّ وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي، ما يجاوز ركبتي، قال‏:‏ فأتاني وأنا جاث على ركبتي، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من هذا ‏؟‏‏)‏‏)‏ فقلت‏:‏ حذيفة، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏حذيفة ‏!‏‏)‏‏)‏ فتقاصرت للأرض، فقلت‏:‏ بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم، فقمت فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه كائن في القوم خبر، فأتني بخبر القوم‏)‏‏)‏ قال‏:‏ وأنا من أشد الناس فزعاً، وأشدهم قراً‏.‏

قال‏:‏ فخرجت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما خلق الله فزعاً، ولا قراً في جوفي، إلا خرج من جوفي فما أجد فيه شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فلما وليت، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتيني‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

قال‏:‏ فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم، نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم، يقول بيديه على النار، ويمسح خاصرته، ويقول‏:‏ الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك‏.‏

فانتزعت سهماً من كنانتي أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تحدثن فيهم شيئاً حتى تأتيني‏)‏‏)‏ فأمسكت، ورددت سهمي إلى كنانتي‏.‏

ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون‏:‏ يا آل عامر الرحيل الرحيل، لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضرب بها‏.‏

ثم إني خرجت نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتصفت بي الطريق أو نحو من ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمين، فقالوا‏:‏ أخبر صاحبك أن الله قد كفاه‏.‏

قال‏:‏ فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر، وجعلت أقرقف، فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل علي شملته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم، أخبرته أني تركتهم يرحلون‏.‏

قال‏:‏ وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ يعني الآيات كلها، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً‏} ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏‏.‏

أي‏:‏ صرف الله عنهم عدوهم، بالريح التي أرسلها عليهم والجنود من الملائكة وغيرهم، التي بعثها الله إليهم، وكفى الله المؤمنين القتال أي‏:‏ لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم، بل صرفهم القوي العزيز بحوله وقوته‏.‏

لهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده‏)‏‏)‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وكفى الله المؤمنين القتال‏}‏ إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبينهم، وهكذا وقع ولم ترجع قريش بعدها إلى حرب المسلمين، كما قال محمد بن إسحاق رحمه الله‏.‏

فلما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا‏:‏ ‏(‏‏(‏لن تغزوكم قريش بعد عامكم، ولكنكم تغزونهم‏)‏‏)‏ قال‏:‏ فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله عليه مكة، وهذا بلاغ من ابن إسحاق‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني أبو إسحاق، سمعت سليمان بن صرد رضي الله عنه يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الآن نغزوهم ولا يغزوننا‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه البخاري من حديث إسرائيل، وسفيان الثوري، كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي، عن سليمان بن صرد به‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ واستشهد من المسلمين يوم الخندق ثلاثة من بني عبد الأشهل، وهم‏:‏ سعد بن معاذ - وستأتي وفاته مبسوطة - وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة الجشميان السلميان، وكعب بن زيد النجاري، أصابه سهم غرب فقتله‏.‏

قال‏:‏ وقُتل من المشركين ثلاثة وهم‏:‏ منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، اقتحم الخندق بفرسه فتورط فيه فقتل هناك، وطلبوا جسده بثمن كبير كما تقدم، وعمرو بن عبد ود العامري، قتله علي بن أبي طالب‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وحدثني الثقة أنه حدث عن الزهري أنه قال‏:‏ قتل علي يومئذ عمرو بن عبد ود، وابنه حسل بن عمرو‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ويقال عمرو بن عبد ود، ويقال عمرو بن عبد‏.‏

 فصل في غزوة بني قريظة

وما أحل الله تعالى بهم من البأس الشديد، مع ما أعد الله لهم في الآخرة من العذاب الأليم، وذلك لكفرهم ونقضهم العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وممالأتهم الأحزاب عليه، فما أجدى ذلك عنهم شيئاً، وباؤا بغضب من الله ورسوله، والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25-27‏]‏‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا عبد الله، حدثنا موسى بن عقبة، عن سالم ونافع عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من الغزو والحج والعمرة، يبدأ فيكبر ثم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده‏)‏‏)‏‏.‏

قال محمد بن إسحاق رحمه الله‏:‏ ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن الخندق راجعاً إلى المدينة و المسلمون، ووضعوا السلاح، فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني الزهري معتجراً بعمامة من استبرق، على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج فقال‏:‏ أو قد وضعت السلاح يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏ فقال جبريل‏:‏ ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم‏.‏

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس‏:‏ ‏(‏‏(‏من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح، واغتسل، أتاه جبريل فقال‏:‏ قد وضعت السلاح والله ما وضعناه ‏!‏ فاخرج إليهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإلى أين ‏؟‏‏)‏‏)‏ قال‏:‏ ها هنا، وأشار إلى بني قريظة‏.‏ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ وحدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الأحزاب دخل المغتسل ليغتسل، وجاء جبريل فرأيته من خلل البيت قد عصب رأسه الغبار، فقال‏:‏ يا محمد أوضعتم أسلحتكم‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وضعنا أسلحتنا‏)‏‏)‏ فقال‏:‏ إنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهد إلى بني قريظة‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جرير بن حازم، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً في زقاق بني غنم موكب جبريل، حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، حدثنا جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة‏)‏‏)‏ فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم‏:‏ لا نصلي العصر حتى نأتيها‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ بل نصلي لم يرد منا ذلك‏.‏ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم‏.‏

وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد بن أسماء به‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ حدثنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا‏:‏ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن خالد بن علي، حدثنا بشر بن حرب، عن أبيه، حدثنا الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عمه عبيد الله أخبره‏:‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الأحزاب، وضع عنه اللأمة واغتسل واستحم، فتبدى له جبريل عليه السلام فقال‏:‏ عذيرك من محارب إلا أراك قد وضعت اللأمة، وما وضعناها بعد‏.‏ ‏‏

قال‏:‏ فوثب النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً، فعزم على الناس أن لا يصلوا صلاة العصر إلا في بني قريظة، قال‏:‏ فلبس الناس السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس، فاختصم الناس عند غروب الشمس‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، فإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس علينا إثم‏.‏ وصلى طائفة من الناس احتساباً، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس، فصلوها حين جاؤوا بني قريظة احتساباً فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين‏.‏

ثم روى البيهقي من طريق عبد الله العمري، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها فسلم علينا رجل ونحن في البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً، وقمت في أثره فإذا بدحية الكلبي‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا جبريل أمرني أن أذهب إلى بني قريظة‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد وضعتم السلاح، لكنا لم نضع، طلبنا المشركين حتى بلغنا حمراء الأسد‏)‏‏)‏ وذلك حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق‏.‏

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً، وقال لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏عزمت عليكم أن لا تصلوا صلاة العصر حتى تأتوا بني قريظة‏)‏‏)‏ فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فقالت طائفة من المسلمين‏:‏

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن تدعوا الصلاة فصلوا، وقالت طائفة‏:‏ والله إنا لفي عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما علينا من إثم، فصلت طائفة إيماناً واحتساباً، وتركت طائفة إيماناً واحتساباً، ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين‏.‏

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بمجالس بينه وبين بني قريظة، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل مر بكم أحد ‏؟‏‏)‏‏)‏ فقالوا‏:‏ مر علينا دحية الكلبي، على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذلك جبريل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم، ويقذف في قلوبهم الرعب‏)‏‏)‏‏.‏

فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه أن يستروه بالجحف حتى يسمع كلامهم فناداهم‏:‏ يا إخوة القردة والخنازير‏.‏

فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم لم تكن فحاشاً، فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ‏.‏

وكانوا حلفاءه فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم‏.‏

ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها‏.‏

وقد اختلف العلماء في المصيب من الصحابة يومئذ من هو‏؟‏ بل الإجماع على أن كلا من الفريقين مأجور ومعذور غير معنف، فقالت طائفة من العلماء‏:‏ الذين أخروا الصلاة يومئذ عن وقتها المقدر لها حتى صلوها في بني قريظة هم المصيبون، لأن أمرهم يومئذ تأخير الصلاة خاص فيقدم على عموم الأمر بها في وقتها المقدر لها شرعاً‏.‏

قال أبو محمد بن حزم الظاهري في كتاب ‏(‏السيرة‏)‏‏:‏ وعلم الله أنا لو كنا هناك، لم نصل العصر إلا في بني قريظة، ولو بعد أيام‏.‏

وهذا القول منه ماش على قاعدته الأصلية في الأخذ بالظاهر‏.‏

وقالت طائفة أخرى من العلماء‏:‏ بل الذين صلوا الصلاة في وقتها، لما أدركتهم وهم في مسيرهم هم المصيبون، لأنهم فهموا أن المراد إنما هو تعجيل السير إلى بني قريظة، لا تأخير الصلاة، فعملوا بمقتضى الأدلة الدالة على أفضلية الصلاة في أول وقتها، مع فهمهم عن الشارع ما أراد، ولهذا لم يعنفهم، ولم يأمرهم بإعادة الصلاة في وقتها التي حولت إليه يومئذ كما يدعيه أولئك‏.‏

وأما أولئك الذين أخروا فعذروا بحسب ما فهموا، وأكثر ما كانوا يؤمرون بالقضاء، وقد فعلوه‏.‏

وأما على قول من يجوز تأخير الصلاة لعذر القتال، كما فهمه البخاري، حيث احتج على ذلك بحديث ابن عمر المتقدم في هذا، فلا إشكال على من أخر، ولا على من قدم أيضاً، والله أعلم‏.‏

ثم قال ابن إسحاق‏:‏ وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، ومعه رايته، وابتدرها الناس‏.‏

وقال موسى بن عقبة في ‏(‏مغازيه‏)‏ عن الزهري‏:‏ فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغتسله كما يزعمون، قد رجل أحد شقيه، أتاه جبريل على فرس، عليه لأمته، حتى وقف بباب المسجد، عند موضع الجنائز، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل‏:‏ غفر الله لك، أو قد وضعت السلاح‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏ فقال جبريل‏:‏ لكنا لم نضعه منذ نزل بك العدو، وما زلت في طلبهم حتى هزمهم الله - ويقولون إن على وجه جبريل لأثر الغبار - فقال له جبريل‏:‏ إن الله قد أمرك بقتال بني قريظة، فأنا عامد إليهم بمن معي من الملائكة نزلزل بهم الحصون، فاخرج بالناس‏.‏

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثر جبريل، فمر على مجلس بني غنم وهم ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مر عليكم فارس آنفاً ‏؟‏‏)‏‏)‏ قالوا‏:‏ مر علينا دحية الكلبي على فرس أبيض، تحته نمط أو قطيفة ديباج، عليه اللأمة‏.‏

فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذاك جبريل‏)‏‏)‏‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبه دحية الكلبي بجبريل، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألحقوني ببني قريظة، فصلوا فيهم العصر‏)‏‏)‏ فقاموا وما شاء الله من المسلمين، فانطلقوا إلى بني قريظة، فحانت صلاة العصر وهم بالطريق، فذكروا الصلاة فقال بعضهم لبعض‏:‏ ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمركم أن تصلوا العصر في بني قريظة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هي الصلاة، فصلى منهم قوم، وأخرت طائفة الصلاة حتى صلوها في بني قريظة بعد أن غابت الشمس، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عجل منهم الصلاة، ومن أخرها، فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنف واحداً من الفريقين‏.‏

قال‏:‏ فلما رأى علي بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، تلقاه وقال‏:‏ ارجع يا رسول الله فإن الله كافيك اليهود‏.‏

وكان علي قد سمع منهم قولاً سيئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه رضي الله عنهن، فكره أن يسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لمَ تأمرني بالرجوع ‏؟‏‏)‏‏)‏ فكتمه ما سمع منهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أظنك سمعت فيَّ منهم أذى، فامض فإن أعداء الله لو رأوني لم يقولوا شيئاً مما سمعت‏)‏‏)‏‏.‏

فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصنهم، وكانوا في أعلاه نادى بأعلى صوته نفراً من أشرافهم حتى أسمعهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجيبوا يا معشر يهود، يا إخوة القردة، قد نزل بكم خزي الله عز وجل‏)‏‏)‏

فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة، ورد الله حيي بن أخطب حتى دخل حصن بني قريظة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم الحصار، فصرخوا بأبي لبابة بن عبد المنذر - وكانوا حلفاء الأنصار - فقال أبو لبابة‏:‏ لا آتيهم حتى يأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أذنت لك‏)‏‏)‏ فأتاهم أبو لبابة فبكوا إليه، وقالوا‏:‏ يا أبا لبابة ماذا ترى، وماذا تأمرنا، فإنه لا طاقة لنا بالقتال‏.‏

فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، وأمر عليه أصابعه، يريهم إنما يراد بهم القتل‏.‏

فلما انصرف أبو لبابة سقط في يده، ورأى أنه قد أصابته فتنة عظيمة، فقال‏:‏ والله لا أنظر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أحدث لله توبة نصوحاً يعلمها الله من نفسي‏.‏

فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد، وزعموا أنه ارتبط قريباً من عشرين ليلة‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غاب عليه أبو لبابة‏:‏ ‏(‏‏(‏أما فرغ أبو لبابة من حلفائه ‏؟‏‏)‏‏)‏ فذكر له ما فعل‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد أصابته بعدي فتنة، ولو جاءني لاستغفرت له، وإذ قد فعل هذا فلن أحركه من مكانه، حتى يقضي الله فيه ما يشاء‏.‏

وهكذا رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة‏.‏

وكذا ذكره محمد بن إسحاق في ‏(‏مغازيه‏)‏ في مثل سياق موسى بن عقبة، عن الزهري، ومثل رواية أبي الأسود عن عروة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بئر من آبار بني قريظة، من ناحية أموالهم، يقال لها بئر أنى، فحصرهم خمساً وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب‏.‏

وقد كان حيي بن أخطب دخل معهم حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاءً لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه‏.‏

فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد‏:‏ يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر، ما ترون وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً، فخذوا بما شئتم منها‏.‏

قالوا‏:‏ وما هن‏؟‏

قال‏:‏ نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم، فتُأمنون به على دمائكم، وأموالكم، وأبنائكم، ونسائكم قالوا‏:‏ لا نفارق حكم التوراة أبداً، ولا نستبدل به غيره‏.‏

قال‏:‏ فإذا أبيتم عليَّ هذه فهلم، فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه، رجالاً مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلاً، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك، ولم نترك نسلاً نخشى عليه، وإن نظهر، فلعمري لنجدن النساء والأبناء‏.‏

قالوا‏:‏ أنقتل هؤلاء المساكين‏؟‏ فما خير العيش بعدهم‏؟‏

قال‏:‏ فإن أبيتم علي هذه، فالليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة‏.‏

قالوا‏:‏ أنفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عنك، من المسخ فقال‏:‏ ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازماً‏.‏

ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم وقالوا يا أبا لبابة‏:‏ أترى أن ننزل على حكم محمد ‏؟‏

قال‏:‏ نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح‏.‏

قال أبو لبابة‏:‏ فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال‏:‏ لا أبرح مكاني حتى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله أن لا أطأ بني قريظة أبداً، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وأنزل الله فيما قال سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 27‏]‏‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ أقام مرتبطاً ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة، فتحله حتى يتوضأ ويصلي، ثم يرتبط حتى نزلت توبته في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وقول موسى بن عقبة‏:‏ إنه مكث عشرين ليلة مرتبطاً به، والله أعلم‏.‏

وذكر ابن إسحاق‏:‏ أن الله أنزل توبته على رسوله من آخر الليل وهو في بيت أم سلمة، فجعل يبتسم، فسألته أم سلمة فأخبرها بتوبة الله على أبي لبابة، فاستأذنته أن تبشره فأذن لها، فخرجت فبشرته، فثار الناس إليه يبشرونه، وأرادوا أن يحلوه من رباطه، فقال‏:‏ والله لا يحلني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفجر حله من رباطه، رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من بني هدل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك، هم بنو عم القوم أسلموا في تلك الليلة التي أنزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج في تلك عمرو بن سُعدى القرظي فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم محمد بن مسلمة تلك الليلة، فلما رآه قال‏:‏ من هذا ‏؟‏

قال‏:‏ أنا عمرو بن سعدى - وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ لا أغدر بمحمد أبداً - فقال محمد بن مسلمة حين عرفه‏:‏

اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، ثم خلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة، ثم ذهب لم يدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا، فذكر شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذاك رجل نجاه الله بوفائه‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

قال‏:‏ وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة، فأصبحت رمته ملقاة ولم يدر أين ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تلك المقالة، والله أعلم أي ذلك كان‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت، يعنون عفوه عن بني قينقاع، حين سأله فيهم عبد الله ابن أبيّ كما تقدم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فذلك إلى سعد بن معاذ‏)‏‏)‏‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده، وكانت تداوي الجرحى، فلما حكمه في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً جميلاً‏.‏

ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون‏:‏ يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال‏:‏ قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم‏.‏

فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا إلى سيدكم‏)‏‏)‏‏.‏

فأما المهاجرون من قريش فيقولون‏:‏ إنما أراد الأنصار، وأما الأنصار فيقولون‏:‏ قد عم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، فقاموا إليه فقالوا‏:‏ يا أبا عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم‏.‏

فقال سعد‏:‏ عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، إن الحكم فيهم لما حكمت ‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ وعلي من ها هنا في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

قال سعد‏:‏ فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ حدثني من أثق به من أهل العلم‏:‏ إن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة‏:‏ يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير بن العوام وقال‏:‏ والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو أقتحم حصنهم‏.‏

فقالوا‏:‏ يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، سمعت أبا أمامة بن سهل، سمعت أبا سعيد الخدري قال‏:‏ نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ قال‏:‏ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتاه على حمار، فلما دنا قريباً من المسجد قال‏:‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا لسيدكم أو خيركم‏)‏‏)‏ ثم قال‏:‏ إن هؤلاء نزلوا على حكمك‏.‏

قال‏:‏ نقتل مقاتلتهم ونسبي ذريتهم‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قضيت بحكم الله‏)‏‏)‏ وربما قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قضيت بحكم الملك‏)‏‏)‏ وفي رواية ‏(‏‏(‏الملك‏)‏‏)‏ أخرجاه في الصحيحين من طرق عن شعبة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حجين، ويونس قالا‏:‏ حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أنه قال‏:‏ رمى يوم الأحزاب سعد بن معاذ فقطعوا أكحله، فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، فانتفخت يده فنزفه فحسمه أخرى، فانتفخت يده فنزفه‏.‏

فلما رأى ذلك قال‏:‏ اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستمسك عرقه فما قطر قطرة حتى نزلوا على حكم سعد، فأرسل إليه فحكم أن تقتل رجالهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم، يستعين بهم المسلمون‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أصبت حكم الله فيهم‏)‏‏)‏ وكانوا أربعمائة، فلما فرغ من قتلهم انفتق عرقه فمات‏.‏

وقد رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة، عن الليث به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن نمير، عن هشام، أخبرني أبي عن عائشة قالت‏:‏ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل وعلى رأسه الغبار فقال‏:‏ قد وضعت السلاح، فوالله ما وضعتها، أُخرج إليهم‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فأين ‏؟‏‏)‏‏)‏ قال‏:‏ ها هنا، وأشار إلى بني قريظة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم‏.‏

قال هشام‏:‏ فأخبرني أبي أنهم نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، فرد الحكم فيهم إلى سعد، قال‏:‏ فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وتسبى النساء والذرية وتقسم أموالهم‏.‏

قال هشام‏:‏ قال أبي‏:‏ فأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد حكمت فيهم بحكم الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له‏:‏ حِبَّان بن العرقة، رماه في الأكحل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب‏.‏

فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار فقال‏:‏ قد وضعت السلاح، والله ما وضعته، أُخرج إليهم‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فأين ‏؟‏‏)‏‏)‏ فأشار إلى بني قريظة، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على حكمه، فرد الحكم إلى سعد، قال‏:‏ فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم‏.‏

قال هشام‏:‏ فأخبرني أبي عن عائشة‏:‏ أن سعداً قال‏:‏ اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليَّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء، فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتي فيها‏.‏

فانفجرت من لبته، فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم فقالوا‏:‏ يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم‏؟‏ فإذا هو سعد يغدو جرحه دماً فمات منها‏.‏

وهذا رواه مسلم من حديث عبد الله بن نمير به‏.‏

قلت‏:‏ كان دعا أولاً بهذا الدعاء قبل أن يحكم في بني قريظة ولهذا قال فيه‏:‏ ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة فاستجاب الله له، فلما حكم فيهم وأقر الله عينه أيَّ قرار، دعا ثانياً بهذا الدعاء، فجعلها الله له شهادة رضي الله عنه وأرضاه‏.‏ وسيأتي ذكر وفاته قريباً إن شاء الله‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر عن عائشة مطولاً جداً وفيه فوائد فقال‏:‏ حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده علقمة بن وقاص قال‏:‏ أخبرتني عائشة قالت‏:‏ خرجت يوم الخندق أقفو الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي، فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة‏.‏

قالت‏:‏ فجلست إلى الأرض، فمر سعد وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه، فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت‏:‏ وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم، فمر وهو يرتجز ويقول‏:‏

لبث قليلاً يدركَ الهيجا جملٌ * ما أحسنَ الموت إذا حانَ الأجل

قالت‏:‏ فقمت فاقتحمت حديقة فإذا نفر من المسلمين، فإذا فيها عمر بن الخطاب، وفيهم رجل عليه سبغة له - تعني المغفر - فقال عمر‏:‏ ما جاء بك والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوّز، فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض فتحت ساعتئذ فدخلت فيها‏.‏

فرفع الرجل السبغة عن وجهه، فإذا هو طلحة بن عبيد الله فقال‏:‏ يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله عز وجل‏.‏

قالت‏:‏ ويرمي سعداً رجل من قريش يقال له‏:‏ ابن العرقة وقال‏:‏ خذها، وأنا ابن العرقة، فأصاب أكحله فقطعه، فدعا الله سعد فقال‏:‏ اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة‏.‏

قالت‏:‏ وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، قالت‏:‏ فرقأ كلمة، وبعث الله الريح على المشركين، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً‏.‏

فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد في المسجد‏.‏

قالت‏:‏ فجاء جبريل وإن على ثناياه لنقع الغبار، فقال‏:‏ أقد وضعت السلاح لا والله ما وضعت الملائكة السلاح بعد، أخرج إلى بني قريظة فقاتلهم‏.‏

قالت‏:‏ فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا، فمر على بني غنم وهم جيران المسجد حوله فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من مر بكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ مر بنا دحية الكلبي - وكان دحية الكلبي تشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه السلام - فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة‏.‏

فلما اشتد حصرهم، واشتد البلاء قيل لهم‏:‏ انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح قالوا‏:‏ ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏انزلوا على حكم سعد بن معاذ‏)‏‏)‏‏.‏

فأُتي به على حمار عليه أكاف من ليف قد حمل عليه، وحف به قومه فقالوا‏:‏ يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية ومن قد علمت، قالت‏:‏ ولا يرجع إليهم شيئاً، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال‏:‏ قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم‏.‏

قالت‏:‏ قال أبو سعيد‏:‏ فلما طلع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا إلى سيدكم فأنزلوه‏)‏‏)‏ قال عمر‏:‏ سيدنا الله، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنزلوه‏)‏‏)‏ فأنزلوه‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اُحكم فيهم‏)‏‏)‏ فقال سعد‏:‏ فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم دعا سعد فقال‏:‏ اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك‏.‏

قالت‏:‏ فانفجر كلمه، وكان قد برئ حتى لا يرى منه إلا مثل الخرص، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر قالت‏:‏ فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر، من بكاء أبي بكر، وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله‏:‏ ‏{‏رحماء بينهم‏}‏‏.‏

قال علقمة‏:‏ فقلت‏:‏ يا أمة فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع‏؟‏

قالت‏:‏ كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته‏.‏

وهذا الحديث إسناده جيد، وله شواهد من وجوه كثيرة، وفيه التصريح بدعاء سعد مرتين مرة قبل حكمه في بني قريظة، ومرة بعد ذلك كما قلناه أولاً، ولله الحمد والمنة، وسنذكر كيفية وفاته ودفنه وفضله في ذلك رضي الله عنه وأرضاه، بعد فراغنا من القصة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار قلت‏:‏ هي نسيبة ابنة الحارث بن كرز بن حبيب بن عبد شمس، وكانت تحت مسيلمة الكذاب، ثم خلف عليها عبد الله بن عامر بن كريز‏.‏

ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، فخرج بهم إليه أرسالاً وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد، رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة‏.‏ والمكثر لهم يقول‏:‏ كانوا ما بين الثمانمائة والتسعمائة‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم فيما رواه الليث عن أبى الزبير عن جابر‏:‏ أنهم كانوا أربعمائة، فالله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد قالوا لكعب بن أسد، وهم يُذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً‏:‏ يا كعب ما تراه يصنع بنا‏؟‏ قال‏:‏ أفي كل موطن لا تعقلون، ألا ترون الداعي لا ينزع، ومن ذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل‏.‏

فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم، وأُتي بحيي بن أخطب وعليه حلة له فقاحية، قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل‏.‏

فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل‏.‏

ثم أقبل على الناس فقال‏:‏ أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل‏.‏ ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوال الثعلبي‏:‏

لعمرك ما لام ابن أخطبَ نفسه * ولكنه مَنْ يخذلِ الله يخُذل

لجاهدَ حتى أبلغَ النفس عُذرها * وقلقل يبغي العزّ كل مقلقل

وذكر ابن إسحاق قصة الزبير بن باطا، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، وكان قد منَّ يوم بعاث على ثابت بن قيس بن شماس، وجزَّ ناصيته، فلما كان هذا اليوم أراد أن يكافئه فجاءه فقال‏:‏ هل تعرفني يا أبا عبد الرحمن‏؟‏ قال‏:‏ وهل يجهل مثلي مثلك‏؟‏ فقال له ثابت‏:‏ أريد أن أكافئك فقال‏:‏ إن الكريم يجزي الكريم‏.‏

فذهب ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستطلقه فأطلقه له، ثم جاءه فأخبره فقال‏:‏ شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة‏؟‏ فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستطلق له امرأته وولده، فأطلقهم له ثم جاءه فقال‏:‏ أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك‏؟‏

فأتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستطلق مال الزبير بن باطا فأطلقه له، ثم جاءه فأخبره فقال له‏:‏ يا ثابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى حي كعب بن أسد‏؟‏

قال‏:‏ قتل‏.‏

قال‏:‏ فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب‏؟‏

قال‏:‏ قتل‏.‏

قال‏:‏ قال‏:‏ فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا‏:‏ عزال بن شموال‏؟‏

قال‏:‏ قتل‏.‏

قال‏:‏ فما فعل المجلسان‏؟‏ - يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة - قال‏:‏ ذهبوا قتلوا‏.‏

قال‏:‏ فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله فيلة دلو ناضح، حتى ألقى الأحبة‏.‏ فقدمه ثابت فضربت عنقه‏.‏

فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله‏:‏ ألقى الأحبة، قال‏:‏ يلقاهم والله في نار جهنم خالداً فيها مخلداً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فيلة بالفاء والياء المثناة من أسفل‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ بالقاف والباء الموحدة‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ الناضح البعير الذي يستقي عليه الماء لسقي النخل‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ معناه إفراغه دلو‏.‏ ‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر كل بقتل من أنبت منهم‏.‏

فحدثني شعبة بن الحجاج عن عبد الملك بن عُمير، عن عطية القرظي قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يقتل من بني قريظة كل من أنبت منهم، وكنت غلاماً فوجدوني لم أنبت، فخلوا سبيلي‏.‏

ورواه أهل السنن الأربعة من حديث عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي نحوه‏.‏

وقد استدل به من ذهب من العلماء إلى أن إنبات الشعر الخشن حول الفرج دليل على البلوغ، بل هو بلوغ في أصح قولي الشافعي، ومن العلماء من يقرن بين صبيان أهل الذمة يكون بلوغاً في حقهم دون غيرهم، لأن المسلم قد يتأذى بذلك لمقصد‏.‏

وقد روى ابن إسحاق عن أيوب بن عبد الرحمن، أن سلمى بنت قيس، أم المنذر استطلقت من رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن شموال، وكان قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك فأطلقه لها، وكانت قالت‏:‏ يا رسول الله إن رفاعة يزعم أنه سيصلى ويأكل لحمل الجمل، فأجابها إلى ذلك فأطلقه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، قالت‏:‏ والله إنها لعندي تحدث معي، تضحك ظهراً وبطناً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالها في السوق، إذ هتف هاتف باسمها‏:‏ أين فلانة‏؟‏

قالت‏:‏ أنا والله، قالت‏:‏ قلت لها‏:‏ ويلك مالك‏؟‏ قالت‏:‏ أقتل ‏!‏ قلت‏:‏ ولم‏؟‏ قالت‏:‏ لحدث أحدثته، قالت‏:‏ فانطلق بها فضربت عنقها‏.‏

وكانت عائشة تقول‏:‏ فوالله ما أنسى عجباً منها طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه عن محمد بن إسحاق به‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ هي التي طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته، يعني‏:‏ فقتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم به‏.‏

قال ابن إسحاق في موضع آخر‏:‏ وسماها نباتة امرأة الحكم القرظي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسَّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، بعد ما أخرج الخمس، وقسَّم للفارس ثلاثة أسهم، سهمين للفرس، وسهماً لراكبه، وسهماً للراجل، وكانت الخيل يومئذ ستاً وثلاثين‏.‏

قال‏:‏ وكان أول فيء وقعت فيه السهمان وخمس‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد بن زيد بسبايا من بني قريظة إلى نجد، فابتاع بها خيلاً وسلاحاً‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، وكان عليها حتى توفي عنها، وهي في ملكه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليها الإسلام فامتنعت، ثم أسلمت بعد ذلك‏.‏

فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامها، وقد عرض عليها أن يعتقها ويتزوجها، فاختارت أن تستمر على الرق ليكون أسهل عليها، فلم تزل عنده حتى توفي عليه الصلاة والسلام‏.‏

ثم تكلم ابن إسحاق على ما نزل من الآيات في قصة الخندق من أول سورة الأحزاب، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في تفسيرها، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد قال ابن إسحاق‏:‏ واستشهد من المسلمين يوم بني قريظة‏:‏ خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو الخزرجي، طرحت عليه رحا فشدخته شدخاً شديداً، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن له لأجر شهيدين‏)‏‏)‏ قلت‏:‏ كان الذي ألقى عليه الرحى تلك المرأة التي لم يقتل من بني قريظة امرأة غيرها كما تقدم، والله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ومات أبو سنان بن محصن بن حُرثان، من بني أسد بن خزيمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر بني قريظة فدفن في مقبرتهم اليوم‏.‏

وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه

قد تقدم‏:‏ أن حبان بن العرقة لعنه الله، رماه بسهم فأصاب أكحله فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كياً بالنار فاستمسك الجرح، وكان سعد قد دعا الله أن لا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة، وذلك حين نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهود، والمواثيق، والذمام، ومالوا عليه مع الأحزاب‏.‏

فلما ذهب الأحزاب وانقشعوا عن المدينة، وباءت بنو قريظة بسواد الوجه، والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، وسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحاصرهم كما تقدم، فلما ضيق عليهم وأخذهم من كل جانب، أنابوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم فيهم بما أراد الله، فرد الحكم فيهم إلى رئيس الأوس‏.‏

وكانوا حلفاءهم في الجاهلية وهو‏:‏ سعد بن معاذ، فرضوا بذلك، ويقال‏:‏ بل نزلوا ابتداءً على حكم سعد، لما يرجون من حنوه عليهم، وإحسانه وميله إليهم، ولم يعلموا بأنهم أبغض إليه من أعدادهم من القردة والخنازير، لشدة إيمانه وصديقيته رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في خيمة في المسجد النبوي، فجيء به على حمار تحته إكاف قد وطئ تحته لمرضه، ولما قارب خيمة الرسول صلى الله عليه وسلم أمر عليه السلام من هناك بالقيام له‏.‏

قيل‏:‏ لينزل من شدة مرضه، وقيل‏:‏ توقيراً له بحضرة المحكوم عليهم، ليكون أبلغ في نفوذ حكمه، والله أعلم‏.‏

فلما حكم فيهم بالقتل، والسبي، وأقر الله عينه، وشفى صدره منهم، وعاد إلى خيمته من المسجد النبوي صحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا الله عز وجل أن تكون له شهادة، واختار الله له ما عنده، فانفجر جرحه من الليل، فلم يزل يخرج منه الدم حتى مات رضي الله عنه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه، فمات منه شهيداً‏.‏ ‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني معاذ بن رفاهة الزرقي قال‏:‏ حدثني من شئت من رجال قومي‏:‏ أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قبض سعد بن معاذ من جوف الليل معتجراً بعمامة من استبرق، فقال‏:‏ يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء، واهتز له العرش‏؟‏

قال‏:‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً يجر ثوبه إلى سعد، فوجده قد مات رضي الله عنه‏.‏

هكذا ذكره ابن إسحاق رحمه الله‏.‏

وقد قال الحافظ البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏‏:‏ حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أبي وشعيب بن الليث قالا‏:‏ حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن الهاد، عن معاذ بن رفاعة، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏

جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ من هذا العبد الصالح الذي مات، فتحت له أبواب السماء، وتحرك له العرش‏؟‏

قال‏:‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سعد بن معاذ‏.‏

قال‏:‏ فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره وهو يدفن، فبينما هو جالس إذ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏سبحان الله‏)‏‏)‏ مرتين، فسبَّح القوم، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر، الله أكبر‏)‏‏)‏ فكبر القوم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏عجبت لهذا العبد الصالح، شُدد عليه في قبره، حتى كان هذا حين فرِّج له‏)‏‏)‏‏.‏

وروى الإمام أحمد والنسائي‏:‏ من طريق يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، ويحيى بن سعيد، عن معاذ بن رفاعة، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد يوم مات وهو يدفن‏:‏ ‏(‏‏(‏سبحان الله لهذا الصالح الذي تحرك له عرش الرحمن، وفتحت له أبواب السماء، شُدِّد عليه، ثم فرج الله عنه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني معاذ بن رفاعة، عن محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ لما دفن سعد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح الناس معه، ثم كبر فكبر الناس معه، فقالوا‏:‏ يا رسول الله ممَّ سبحت ‏؟‏‏:‏ ‏(‏‏(‏قال لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرج الله عنه‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق به‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ومجاز هذا الحديث قول عائشة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن للقبر ضمة، لو كان أحد منها ناجياً لكان سعد بن معاذ‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى، عن شعبة، عن سعد ابن إبراهيم، عن نافع، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن للقبر ضغطة، ولو كان أحد ناجياً منها لنجا سعد بن معاذ‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث سنده على شرط الصحيحين، إلا أن الإمام أحمد رواه عن غندر عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن إنسان، عن عائشة به‏.‏

ورواه الحافظ البزار عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ حدثنا عبد الأعلى بن حماد، حدثنا داود، عن عبد الرحمن، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ سبعون ألف ملك إلى الأرض لم يهبطوا قبل ذلك، ولقد ضمه القبر ضمة‏)‏‏)‏ ثم بكى نافع‏.‏

وهذا إسناد جيد، لكن قال البزار‏:‏ رواه غيره عن عبيد الله عن نافع مرسلاً‏.‏

ثم رواه البزار عن سليمان بن سيف، عن أبي عتاب، عن سكين بن عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما وطئوا الأرض قبلها‏)‏‏)‏ وقال حين دفن‏:‏ ‏(‏‏(‏سبحان الله لو انفلت أحد من ضغطة القبر لانفلت منها سعد‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البزار‏:‏ حدثنا إسماعيل بن حفص، عن محمد بن فضيل، حدثنا عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عمر قال‏:‏ اهتز العرش لحب لقاء الله سعد بن معاذ‏.‏

فقيل‏:‏ إنما يعني‏:‏ السرير، ورفع أبويه على العرش‏.‏

قال‏:‏ تفتحت أعواده‏.‏

قال‏:‏ ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبره، فاحتبس فلما خرج قيل له‏:‏ يا رسول الله ما حبسك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ضم سعد في القبر ضمة، فدعوت الله فكشف عنه‏)‏‏)‏‏.‏

قال البزار‏:‏ تفرد به عطاء بن السائب‏.‏

قلت‏:‏ وهو متكلم فيه‏.‏

وقد ذكر البيهقي رحمه الله بعد روايته ضمة سعد رضي الله عنه في القبر أثراً غريباً فقال‏:‏ حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا أحمد ابن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن ابن إسحاق، حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد‏:‏ ما بلغكم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا‏؟‏

فقالوا‏:‏ ذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك فقال‏:‏ كان يقصر في بعض الطهور من البول‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الفضل بن مساور، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اهتز العرش لموت سعد بن معاذ‏)‏‏)‏‏.‏

وعن الأعمش‏:‏ حدثنا أبو صالح، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله فقال رجل لجابر‏:‏ فإن البراء بن عازب يقول‏:‏ اهتز السرير‏.‏

فقال‏:‏ إنه كان بين هذين الحيين ضغائن، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم عن عمرو الناقد، عن عبد الله بن إدريس، وابن ماجه، عن علي بن محمد، عن أبي معاوية كلاهما، عن الأعمش به، وليس عندهما زيادة قول الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وجنازة سعد بن معاذ بين أيديهم -‏:‏ ‏(‏‏(‏اهتز لها عرش الرحمن‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم عن عبد بن حميد، والترمذي عن محمود بن غيلان كلاهما عن عبد الرزاق به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عوف، حدثنا أبو نضرة، سمعت أبا سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اهتز العرش لموت سعد بن معاذ‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عبد الوهاب عن سعيد، قال قتادة‏:‏ حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وجنازته موضوعة اهتز لها عرش الرحمن‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم عن محمد بن عبد الله الأزدي، عن عبد الوهاب به‏.‏

وقد روى البيهقي من حديث المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن البصري قال‏:‏ اهتز عرش الرحمن فرحاً بروحه‏.‏

وقال الحافظ البزار‏:‏ حدثنا زهير بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ لما حملت جنازة سعد قال المنافقون‏:‏ ما أخف جنازته وذلك لحكمه في بني قريظة، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لا ولكن الملائكة تحملته‏.‏

إسناد جيد‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت البراء بن عازب يقول‏:‏ أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتعجبون من لين هذه، لمناديل سعد بن معاذ خير منها أو ألين‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ رواه قتادة والزهري، سمعنا أنساً عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد - هو ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك‏:‏ أن أكيدر دومة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير، فلبسها فعجب الناس منها فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذه‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا إسناد على شرط الشيخين ولم يخرجوه، وإنما ذكره البخاري تعليقاً‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، حدثني واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال محمد‏:‏ وكان واقد من أحسن الناس وأعظمهم وأطولهم قال‏:‏ دخلت على أنس بن مالك فقال لي‏:‏ من أنت‏؟‏

قلت‏:‏ أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ‏.‏

فقال‏:‏ إنك بسعد لشبيه، ثم بكى وأكثر البكاء، وقال‏:‏ رحمة الله على سعد كان من أعظم الناس وأطولهم‏.‏

ثم قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى أكيدر دومة، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة من ديباج منسوج فيها الذهب، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر، وجلس فلم يتكلم، ثم نزل فجعل الناس يلمسون الجبة وينظرون إليها‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أتعجبون منها، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن مما ترون‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه الترمذي، والنسائي، من حديث محمد بن عمرو به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ بعد ذكر اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ، وفي ذلك يقول رجل من الأنصار‏:‏

وما اهتز عرش الله من موت هالك * سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو

قال‏:‏ وقالت أمه يعني كبيشسة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة الخدرية الخزرجية حين احتمل سعد على نعشه تندبه‏:‏

ويل أم سعد سعداً * صرامة وحدّا

وسؤدداً ومجداً * وفارساً معداً

سد به مسداً * يقدّها ما قدّا

قال‏:‏ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ كانت وفاته بعد انصراف الأحزاب بنحو من خمس وعشرين ليلة، إذ كان قدوم الأحزاب في شوال سنة خمس كما تقدم، فأقاموا قريباً من شهر، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحصار بني قريظة، فأقام عليهم خمساً وعشرين ليلة‏.‏

ثم نزلوا على حكم سعد، فمات بعد حكمه عليهم بقليل، فيكون ذلك في أواخر ذي القعدة، أو أوائل ذي الحجة من سنة الحجة من سنة خمس، والله أعلم‏.‏

وهكذا قال محمد بن إسحاق‏:‏ إن فتح بنى قريظة كان في ذي القعدة وصدر ذي الحجة‏.‏

قال‏:‏ وولي تلك الحجة المشركون‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال حسان بن ثابت يرثي سعد بن معاذ رضي الله عنه‏:‏

لقد سجمت من دمع عيني عبرة * وحق لعيني أن تفيض على سعد

قتيل ثوى في معرك فجعت به * عيون ذواري الدمع دائمة الوجد

على ملة الرحمن وارث جنَّة * مع الشهداء وفدها أكرم الوفد

فإن تك قد وعدتنا وتركتنا * وأمسيت في غبراء مظلمة اللحد

فأنت الذي يا سعد أبت بمشهد * كريم وأثواب المكارم والمجد

بحكمك في حيي قريظة بالذي * قضى الله فيهم ما قضيت على عمد

فوافق حكم الله حكمك فيهم * ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد

فإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى * شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد

فنعم مصير الصادقين إذا دعوا * إلى الله يوما للوجاهة والقصد

 فصل الأشعار في الخندق وبني قريظة

قال البخاري‏:‏ حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا شعبة، حدثنا عدي بن ثابت أنه سمع البراء بن عازب قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان‏:‏ ‏(‏‏(‏اهجهم أو هاجهم وجبريل معك‏)‏‏)‏‏.‏

قال البخاري‏:‏ وزاد إبراهيم بن طهمان، عن الشيباني، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لحسان بن ثابت‏:‏ ‏(‏‏(‏أهج المشركين فإن جبريل معك‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاري أيضاً، ومسلم، والنسائي من طرق عن شعبة بدون الزيادة التي ذكرها البخاري يوم بني قريظة‏.‏

قال ابن إسحاق رحمه الله‏:‏ وقال ضرار بن الخطاب بن مرداس أخو بني محارب بن فهر في يوم الخندق، قلت‏:‏ وذلك قبل إسلامه‏:‏

ومشفقة تظن بنا الظنونا * وقد قدنا عرندسة طحونا

كأن زهاءها أحد إذا ما * بدت أركانه للناظرينا

ترى الأبدان فيها مسبغات * على الأبطال واليلب الحصينا

وجردا كالقداح مسومات * نؤم بها الغَواة الخاطئينا

كأنهم إذا صالوا وصُلنا * بباب الخندقين مصافحونا

أناسٌ لا نرى فيهم رشيداً * وقد قالوا ألسنا راشدينا

فأحجرناهم شهراً كريتاً * وكنا فوقهم كالقاهرينا

نُراوحهم ونغدو كل يوم * عليهم في السلاح مدججينا

بأيدينا صوارم مرهفات * نقدُّ بها المفارق والشئونا

كأن وميضهن معرِّيات * إذا لاحت بأيدي مصلتينا

وميضُ عقيقةٍ لمعت بليلٍ * ترى فيها العقائق مستبينا

فلولا خندق كانوا لديه * لدمرنا عليهم أجمعينا

ولكن حال دونهم وكانوا * به من خوفنا متعوذينا

فإن نرحل فأنا قد تركنا * لدى أبياتكم سعداً رهينا

إذا جن الظلام سمعت نوحاً * على سعدٍ يرجعن الحنينا

وسوف نزوركم عما قريبٍ * كما زرناكم متوازرينا

بجمعٍ من كنانة غير عُزلٍ * كأسد الغاب إذ حمَت العرينا

قال‏:‏ فأجابه كعب بن مالك أخو بني سلمة رضي الله عنه فقال‏:‏

وسائلةٍ تسائل ما لقينا * ولو شهدتُ رأتنا صابرينا

صبرنا لا نرى لله عدلاً * على ما نابنا متوكلينا

وكان لنا النبي وزير صدقٍ * به نعلو البرية أجمعينا

نقاتلُ معشراً ظلموا وعقوا * وكانوا بالعداوة مرصدينا

نعالجهم إذا نهضوا إلينا * بضرب يعجل المتسرعينا

ترانا في فضافض سابغاتٍ * كغُدران الملا مُتَسَرْبلينا

وفي أيماننا بيض خفاف * بها نشفي مِراح الشاغبينا

بباب الخندقين كأن أسداً * شوابكهن يحمين العرينا

فوارسنا إذا بكروا وراحوا * على الأعداء شوساً معلمينا

لننصر أحمداً والله حتى * نكون عبادَ صدقٍ مخلصينا

ويعلم أهل مكة حين ساروا * وأحزاب أتوا متحزبينا

بأن الله ليس له شريك * وأن الله مولى المؤمنينا

فأما تقتلوا سعداً سفاهاً * فإن الله خير القادرينا

سيدخله جناتاً طيباتٍ * تكون مقامة للصالحينا

كما قد ردَّكم فلا شريداً * بغيظكم خزايا خائبينا

خزايا لم تنالوا ثم خيراً * وكدتم أن تكونوا دامرينا

بريحٍ عاصف هبتْ عليكم * فكنتم تحتها متكمِّهينا

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال عبد الله بن الزبعري السهمي في يوم الخندق، قلت‏:‏ وذلك قبل أن يسلم‏:‏

حيِّ الديار محا معارفَ رسمها * طولُ البلى وتراوحُ الأحقاب

فكأنما كتب اليهودُ رسومها * ألا الكنيف ومعقد الأطناب

قفراً كأنك لم تكن تلهو بها * في نعمةٍ بأوانس أتراب

فاترك تذكُّر ما مضى من عيشةٍ * ومحلَّة خلقِ المقام يباب

واذكر بلاء معاشرٍ واشكرهمُ * ساروا بأجمعهم من الأنصاب

أنصاب مكةَ عامدين ليثرب * في ذي غياطلَ جحفلٍ جبجاب

يدع الحرُون مناهجاً معلومة * في كل نشْزٍ ظاهرٍ وشِعاب

فيها الجيادُ شوازبٌ مجنوبةٌ * قُبَّ البطون واحقُ الأقراب

من كل سلهبةٍ وأجردَ سلهب * كالسيدِ بادر غفلةَ الرقاب

جيشُ عيينةُ قاصد بلوائه * فيه وصخرُ قائد الأحزاب

قرمان كالبدرين أصبح فيهما * غيث الفقير ومعقلُ الهرّاب

حتى إذا وردوا المدينة وارتدوا * للموت كل مجرَّب قضَّاب

شهراً وعشراً قاهرين محمداً * وصحابُهُ في الحرب خيرُ صحاب

نادوا برحلتهم صبيحةَ قلتم * كدنا نكون بها مع الخيَّاب

لولا الخنادقُ غادروا من جمعهم * قتلى لطيرٍ سُغّب وذئاب

قال‏:‏ فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال‏:‏

هل رسم دراسة المقام يباب * متكلم لمحاورٍ بجواب

قفر عفا رهمُ السحاب رسومَه * وهبوب كل مطلةٍ مرباب

ولقد رأيتُ بها الحلول يزينُهم * بيض الوجوه ثواقبُ الأحساب

فدع الديارَ وذكر كل خريدةٍ * بيضاءَ أنسةِ الحديث كَعاب

واشكُ الهموم إلى الإله وما ترى * من معشرٍ ظلموا الرسول غضاب

ساروا بأجمعهم إليه وألَّبوا * أهل القرى وبواديَ الأعراب

جيشٌ عيينةُ وابن حربٍ فيهم * متخمطون بحلبةِ الأحزاب

حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا * قتل الرسول ومغنم الأسلاب

وغدوا علينا قادرين بأيدهم * رُدوا بغيظهم على الأعقاب

بهبوبِ معصفةٍ تُفرِّق جمعهم * وجنودُ ربك سيد الأرباب

فكفى الإله المؤمنينَ قتالهم * وأثابهم في الأجر خير ثواب

من بعد ما قنطوا ففرَّق جمعهم * تنزيل نصر مليكنا الوهاب

وأقر عين محمدٍ وصحابه * وأذل كل مكذِّب مرتاب

عاتي الفؤاد موقعٌ ذي ريبة * في الكفر ليس بطاهر الأثواب

عِلَق الشقاءُ بقلبه ففؤاده * في الكفر آخر هذه الأحقاب

قال‏:‏ وأجابه كعب بن مالك رضي الله عنه أيضاً فقال‏:‏

أبقى لنا حدثُ الحروب بقية * من خير نحلةِ ربنا الوهاب

بيضاءَ مشرفة الذُرى ومعاطناً * حُمَّ الجذوع غزيرة الأحلاب

كاللوب يُبذل جمُّها وحفيلها * للجار وابن العمِّ والمنتاب

ونزائعاً مثل السراج نمى بها * علفُ الشعير وجزَّة المقضاب

عرَّى الشَّوى منها وأردف نحضها * جردُ المتون وسائر الأراب

قَوْداً تُراح إلى الصباح إذا غدت * فعلَ الضِّراء تُراحُ للكلاب

وتحوط سائمة الديار وتارةً * تُردي العدى وتئوبُ بالأسلاب

حوشُ الوحوش مطارةً عند الوغى * عبسُ اللقاء مبينة الأنجاب

عُلفت على دَعَةٍ فصارت بُدناً * دُخْسُ البضيع خفيفة الأقصاب

يغدون بالزغف المضاعف شكَّه * وبمترصاتٍ في الثَّقاف صياب

وصوارمٍ نزعَ الصياقلُ عُلبها * وبكل أروعَ ماجدِ الأنساب

يصلُ اليمين بمارنٍ متقارب * وكلت وقيعته إلى خَباب

وأغرّ أزرق في القناة كأنه * في طُيْخة الظلماء ضوءُ شهاب

وكتيبةٍ ينفي القران قتيرُها * وتردُّ حد قواحِزِ النشاب

جأوى ململمةً كأن رماحها * في كل مجمعةٍ صريمة غاب

تأوي إلى ظل اللواء كأنه * في صعدة الخطي فيءُ عُقاب

أعيت أبا كربٍ وأعيت تبعاً * وأبت بسالتها على الأعراب

ومواعظٍ من ربنا نهدي بها * بلسان أزهر طيب الأثواب

عرضت علينا فاشتهينا ذكرها * من بعد ما عرضت على الأحزاب

حكماً يراها المجرمون بزعمهم * حرجاً ويفهمها ذوو الألباب

جاءت سخينةُ كي تغالب ربها * فليغلبن مغالبُ الغلاب

قال ابن هشام‏:‏ حدثني من أثق به، حدثني عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لما سمع منه هذا البيت‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ومراده بسخينة قريش، وإنما كانت العرب تسميهم بذلك لكثرة أكلهم الطعام السخن، الذي لا يتهيأ لغيرهم غالباً من أهل البوادي، فالله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال كعب بن مالك أيضاً‏:‏

من سرَّه ضربٌ يمعمع بعضه * بعضاً كمعمعة الإناء المحرق

فليأت مأسدة تسن سيوفها * بين الذاد وبين جذع الخندق

دربوا بضرب المعلّمين وأسلموا * مهجات أنفسهم لربِّ المشرق

في عُصبةٍ نصرَ الإله نبيَّه * بهمُ وكان بعبده ذا مرفق

في كل سابغةٍ تخطّ فُضُولها * كالنهي هبَّتْ ريحه المترقرق

بيضاءَ محكمةٍ كأن قتيرها * حدق الجنادب ذات شك موثق

جدلاء يحفرها نجاد مهندٍ * صافي الحديدة صارمٍ ذي رونق

تلكم مع التقوى تكون لباسَنا * يوم الهياج وكل ساعة مصدق

نصلُ السيوف إذا قصرن بخطونا * قدماً ونلحقها إذا لم تلحق

فترى الجماجم ضاحياً هاماتها * بُله الأكف كأنها لم تخلق

نلقى العدو بفخمةٍ ملمومةٍ * تنفي الجموع كقصد رأس المشرق

ونعدُّ للأعداء كل مقلص * ورد ومحجول القوائم أبلق

تردى بفرسان كأن كماتهم * عند الهياج أسودُ طل ملتق

صُدقٍ يعاطون الكماة حتوفهم * تحت العماية بالوشيج المزهق

أمر الإله بربطها لعدوه * في الحرب إن الله خير موفق

لتكون غيظاً للعدو وحيِّطاً * للدار إن دلفت خيول النزق

ويعيننا الله العزيز بقوة * منه وصدق الصبر ساعة نلتقي

ونطيع أمر نبينا ونجيبه * وإذا دعا لكريهة لم نسبق

ومتى ينادى للشدائد نأتها * ومتى نرى الحومات فيها نعتق

من يتبع قول النبي فإنه * فينا مطاع الأمر حق مصدق

فبذاك ينصرنا ويظهر عزنا * ويصيبنا من نيل ذاك بمرفق

إن الذين يكذبون محمداً * كفروا وضلوا عن سبيل المتقي

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال كعب بن مالك أيضاً‏:‏

لقد علم الأحزاب حين تألبوا * علينا وراموا ديننا ما نوادع

أضاميمُ من قيس بن غيلان أصفقت * وخندف لم يدروا بما هو واقع

يذودوننا عن ديننا ونذودهم * عن الكفر والرحمن رادٌ وسامع

إذا غايظونا في مقام أعاننا * على غيظهم نصر من الله واسع

وذلك حفظ الله فينا وفضله * علينا ومن لم يحفظ الله ضائع

هدانا لدين الحق واختاره لنا * ولله فوق الصانعين صانع

قال ابن هاشم‏:‏ وهذه الأبيات في قصيدة له - يعني طويلة -، قال ابن إسحاق‏:‏ وقال حسان بن ثابت في مقتل بني قريظة‏:‏

لقد لقيت قريظة ما ساءها * وما وجدت لذل من نصير

أصابهم بلاء كان فيه * سوى ما قد أصاب بني النضير

غداة أتاهم يهوي إليهم * رسول الله كالقمر المنير

له خيل مجنبةٌ تغادي * بفرسان عليها كالصقور

تركناهم وما ظفروا بشيءٍ * دماؤهم عليها كالعبير

فهم صرعى تحوم الطير فيهم * كذاك يدان ذو العند الفجور

فأنذر مثلها نصحاً قريشاً * من الرحمن إن قبلت نذيري

قال‏:‏ وقال حسان بن ثابت أيضاً في بني قريظة‏:‏

تعاقد معشر نصروا قريشاً *وليس لهم ببلدتهم نصير

هم أوتوا الكتاب فضيعوه * وهم عميٌّ من التوراة بور

كفرتم بالقرآن وقد أتيتم * بتصديق الذي قال النذير

فهان على سراة بني لؤيٍ * حريق بالبويرة مستطير

فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقال‏:‏

أدام الله ذلك من صنيعٍ * وحرَّق في طائفها السعير

ستعلم أينا منها بنزه * وتعلم أي أرضينا تضير

فلو كان النخيل بها ركاباً * لقالوا لا مقام لكم فسيروا

قلت‏:‏ وهذا قاله أبو سفيان بن الحارث قبل أن يسلم‏.‏

وقد تقدم في صحيح البخاري بعض هذه الأبيات‏.‏

وذكر ابن إسحاق جواب حسان في ذلك لجبل بن جوال الثعلبي تركناه قصداً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال حسان بن ثابت أيضاً يبكي سعداً وجماعة ممن استشهد يوم بني قريظة‏:‏

ألا يا لقومي هل لما حم دافع * وهل ما مضى من صالح العيش راجع

تذكرت عصراً قد مضى فتهافتت * بنات الحشا وأنهل مني المدامع

صبابة وجد ذكرتني إخوة * وقتلى مضى فيها طفيل ورافع

وسعد فأضحوا في الجنان وأوحشت * منازلهم فالأرض منهم بلاقع

وفوا يوم بدر للرسول وفوقهم * ظلال المنايا والسيوف اللوامع

دعا فأجابوه بحق وكلهم * مطيع له في كل أمر وسامع

فما نكلوا حتى توالوا جماعة * ولا يقطع الآجال إلا المصارع

لأنهم يرجون منه شفاعة * إذا لم يكن إلا النبيون شافع

فذلك يا خير العباد بلاؤنا * إجابتنا لله والموت ناقع

لنا القدم الأولى إليك وخلفنا * لأولنا في ملة الله تابع

ونعلم أن الملك لله وحده * وأن قضاء الله لا بد واقع

 مقتل أبي رافع اليهودي

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما انقضى شأن الخندق وأمر بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحقيق - وهو أبو رافع - فيمن حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف، فاستأذن الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر، فأذن لهم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك قال‏:‏ وكان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيين من الأنصار الأوس والخزرج، كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئاً فيه غناء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقالت الخزرج‏:‏

والله لا يذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئاً قالت الأوس مثل ذلك‏.‏

قال‏:‏ ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت الخزرج‏:‏ والله لا يذهبون بها فضلاً علينا أبداً‏.‏

قال‏:‏ فتذكروا من رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العداوة كابن الأشرف‏؟‏

فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم‏.‏

فخرج من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر‏:‏ عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث ابن ربعي، وخزاعى بن أسود حليف لهم من أسلم‏.‏

فخرجوا وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليداً أو امرأة، فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر، أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلاً، فلم يدعوا بيتاً في الدار حتى أغلقوه على أهله‏.‏

قال‏:‏ وكان في علية له إليها عجلة، قال‏:‏ فأسندوا إليها حتى قاموا على بابه، فاستأذنوا فخرجت إليهم امرأته فقالت‏:‏ من أنتم‏؟‏

قالوا‏:‏ أناس من العرب نلتمس الميرة‏.‏

قالت‏:‏ ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليه الحجرة تخوفاً أن يكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه‏.‏

قال‏:‏ فصاحت امرأته فنوهت بنا، فابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الله إلا بياضه كأنه قبطية ملقاة‏.‏

قال‏:‏ فلما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم يذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل‏.‏

قال‏:‏ فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول‏:‏ قطني قطني أي‏:‏ حسبي حسبي‏.‏

قال‏:‏ وخرجنا وكان عبد الله بن عتيك سيء البصر، قال فوقع من الدرجة فوثبت يده وثباً شديداً، وحملناه حتى نأتي به منهراً من عيونهم فندخل فيه، فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبونا، حتى إذا يئسوا رجعوا إليه فاكتنفوه وهو يقضي‏.‏

قال‏:‏ فقلنا كيف لنا بأن نعلم بأن عدو الله قد مات ‏؟‏

قال‏:‏ فقال رجل منا‏:‏ أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس‏.‏

قال‏:‏ فوجدتها - يعني امرأته - ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه وتحدثهم، وتقول‏:‏ أما والله قد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت نفسي وقلت‏:‏ أنى ابن عتيك بهذه البلاد، ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه فقالت‏:‏ فاظ وإله يهود، فما سمعت كلمة كانت ألذ على نفسي منها‏.‏

قال‏:‏ ثم جاءنا فأخبرنا فاحتملنا صاحبنا، وقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله كلنا يدعيه‏.‏

قال‏:‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هاتوا أسيافكم‏)‏‏)‏ فجئنا بها فنظر إليها فقال‏:‏ لسيف عبد الله بن أنيس هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فقال حسان بن ثابت في ذلك‏:‏

لله در عصابة لاقيتهم * يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف

يسرون بالبيض الخفاف إليكم * مرحاً كأسد في عرين مغرف

حتى أتوكم في محل بلادكم * فسقوكم حتفاً ببيض ذفف

مستبصرين لنصر دين نبيهم * مستصغرين لكل أمر مجحف

هكذا أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق رحمه الله‏.‏ ‏

وقد قال الإمام أبو عبد الله البخاري‏:‏ حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال‏:‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً إلى أبي رافع، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلاً وهو نائم فقتله‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالاً من الأنصار، وأمر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم قال عبد الله لأصحابه‏:‏

اجلسوا مكانكم فإني منطلق متلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس فهتف به البواب‏:‏ يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على ود‏.‏

قال‏:‏ فقمت إلى الأقاليد وأخذتها، وفتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل‏.‏

فقلت‏:‏ إن القوم سدروا لي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت‏.‏

قلت‏:‏ أبا رافع‏.‏ قال‏:‏ من هذا‏؟‏

فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف ضربة وأنا دهش فما أغنيت شيئاً، وصاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت‏:‏ ما هذا الصوت يا أبا رافع‏؟‏

فقال‏:‏ لأمك الويل إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف‏.‏

قال‏:‏ فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت صبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً، حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة حتى انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت‏:‏ لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته‏.‏

فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال‏:‏ أنعي أبا رافع ناصر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ابسط رجلك‏)‏‏)‏ فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها قط‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، حدثنا شريح، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق سمعت البراء قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن عتبة في ناس معهم، فانطلقوا حتى دنوا من الحصن، فقال لهم عبد الله بن عتيك‏:‏ امكثوا أنتم حتى أنطلق أنا فأنظر‏.‏

قال‏:‏ فتلطفت حتى أدخل الحصن، ففقدوا حماراً لهم فخرجوا بقبس يطلبونه، قال‏:‏ فخشيت أن أعرف قال‏:‏ فغطيت رأسي وجلست كأني أقضي حاجة، ثم نادى صاحب الباب فقال‏:‏ من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه، فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن، فتعشوا عند أبي رافع وتحدثوا حتى ذهب ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما هدأت الأصوات ولا أسمع حركة خرجت‏.‏

قال‏:‏ ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة، فأخذته ففتحت به باب الحصن‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ إن نذر بي القوم انطلقت على مهل، ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها عليهم من ظاهر، ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم، فإذا البيت مظلم قد طفئ سراجه، فلم أدر أين الرجل‏.‏

فقلت‏:‏ يا أبا رافع‏.‏

قال‏:‏ من هذا ‏؟‏

فعمدت نحو الصوت فأضربه وصاح فلم تغن شيئاً، قال‏:‏ ثم جئته كأني أغيثه، فقلت‏:‏ ما لك يا أبا رافع‏؟‏ وغيرت صوتي‏.‏

قال‏:‏ لا أعجبك لأمك الويل دخل علي رجل فضربني بالسيف‏.‏

قال‏:‏ فعمدت إليه أيضاً فأضربه أخرى، فلم تغن شيئاً فصاح وقام أهله، ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث فإذا هو مستلق على ظهره، فأضع السيف في بطنه ثم أنكفئ عليه، حتى سمعت صوت العظم، ثم خرجت دهشاً حتى أتيت السلم أريد أن أنزل، فأسقط منه فانخلعت رجلي فعصبتها، ثم أتيت أصحابي أحجل، فقلت‏:‏ انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية‏.‏

فلما كان وجه الصبح صعد الناعية فقال‏:‏ أنعي أبا رافع‏.‏

قال‏:‏ فقمت أمشي ما بي قلبه، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبشرته‏.‏

تفرد به البخاري بهذه السياقات من بين أصحاب الكتب الستة‏.‏

ثم قال‏:‏ قال الزهري‏:‏ قال أبي بن كعب‏:‏ فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أفلحت الوجوه‏)‏‏)‏ قال‏:‏ أفلح وجهك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أفتكتموه‏)‏‏)‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ناولني السيف‏)‏‏)‏ فسله فقال‏:‏ أجل هذا طعامه في ذباب السيف‏.‏ ‏

قلت‏:‏ يحتمل أن عبد الله بن عتيك لما سقط من تلك الدرجة انفكت قدمه، وانكسرت ساقه، ووثبت رجله، فلما عصبها استكن ما به لما هو فيه من الأمر الباهر‏.‏

ولما أراد المشي أعين على ذلك لما هو فيه من الجهاد النافع، ثم لما وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقرت نفسه ثاوره الوجع في رجله، فلما بسط رجله ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب ما كان بها ما بأس في الماضي، ولم يبق بها وجع يتوقع حصوله في المستقبل، جمعاً بين هذه الرواية والتي تقدمت، والله أعلم‏.‏

هذا وقد ذكر موسى بن عقبة في ‏(‏مغازيه‏)‏ مثل سياق محمد بن إسحاق، وسمى الجماعة الذين ذهبوا إليه كما ذكره ابن إسحاق، وإبراهيم، وأبو عبيد‏.‏

 

 مقتل خالد بن سفيان الهذلي

ذكره الحافظ البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏ تلو مقتل أبي رافع‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن ابن عبد الله بن أنيس، عن أبيه قال‏:‏ دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني، وهو بعرنة فائته فاقتله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا رأيته وجدت له قشعريرة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فخرجت متوشحاً سيفي حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلاً، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة، فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي للركوع والسجود‏.‏

فلما انتهيت إليه قال‏:‏ من الرجل ‏؟‏

قلت‏:‏ رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك لذلك‏.‏

قال‏:‏ أجل أنا في ذلك‏.‏

قال‏:‏ فمشيت معه شيئاً، حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أفلح الوجه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ قتلته يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏صدقت‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل في بيته، فأعطاني عصا فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فخرجت بها على الناس فقالوا‏:‏ ما هذه العصا‏؟‏

قال‏:‏ قلت أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها، قالوا‏:‏ أولاً ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك‏.‏

قال‏:‏ فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏آية بيني وبينك يوم القيامة إن أقل الناس المتخصرون يومئذ‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت في كفنه، ثم دفنا جميعاً‏.‏ ‏

ثم رواه الإمام أحمد‏:‏ عن يحيى بن آدم، عن عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن بعض ولد عبد الله بن أنيس - أو قال عن عبد الله بن عبد الله بن أنيس - عن عبد الله بن أنيس فذكر نحوه‏.‏

وهكذا رواه أبو داود‏:‏ عن أبي معمر، عن عبد الوارث، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، فذكر نحوه‏.‏

ورواه الحافظ البيهقي‏:‏ من طريق محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن أنيس، عن أبيه فذكره‏.‏

وقد ذكر قصة عروة بن الزبير، وموسى بن عقبة، في ‏(‏مغازيهما‏)‏ مرسلة، فالله أعلم‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وقال عبد الله بن أنيس في قتله خالد بن سفيان‏:‏

تركت ابن ثور كالحوار وحوله * نوائح تفري كل جيب معدد

تناولته والظعن خلفي وخلفه * بأبيض من ماء الحديد المهند

عجوم لهام الدارعين كأنه * شهاب غضي من ملهب متوقد

أقول له والسيف يعجم رأسه * أنا ابن أنيس فارس غير قعدد

أنا ابن الذي لم ينزل الدهر قدره * رحيب فناء الدار غير مزند

وقلت له‏:‏ خذها بضربة ماجد * خفيف على دين النبي محمد

وكنت إذا هم النبي بكافر * سبقت إليه باللسان وباليد

قلت‏:‏ عبد الله بن أنيس بن حرام‏:‏ أبو يحيى الجهني صحابي مشهور كبير القدر، كان فيمن شهد العقبة وشهد أحداً والخندق وما بعد ذلك، وتأخر موته بالشام إلى سنة ثمانين على المشهور، وقيل توفي سنة أربع وخمسين، والله أعلم‏.‏

وقد فرق علي بن الزبير، وخليفة بن خياط بينه وبين عبد الله بن أنيس أبي عيسى الأنصاري، الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا يوم أحد بأداوة فيها ماء، فحل فمها وشرب منها‏.‏

كما رواه أبو داود، والترمذي من طريق عبد الله العمري، عن عيسى بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه‏.‏

ثم قال الترمذي‏:‏ وليس إسناده يصح، وعبد الله العمري ضعيف من قبل حفظه‏.‏

 قصة عمرو بن العاص مع النجاشي

قال محمد بن إسحاق بعد مقتل أبي رافع‏:‏ وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب بن أوس أبي الثقفي، عن حبيب بن أبي أوس، حدثني عمرو بن العاص من فيه قال‏:‏ لما انصرفنا يوم الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم‏:‏ تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً، وإني لقد رأيت أمراً فما ترون فيه‏؟‏ ‏

قالوا‏:‏ وما رأيت ‏؟‏

قال‏:‏ رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا إن نكن تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير‏.‏

قالوا‏:‏ إن هذا لرأي‏.‏

قلت‏:‏ فاجمعوا لنا ما نهدي له، فكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدماً كثيراً، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه‏.‏

قال‏:‏ فدخل عليه، ثم خرج من عنده‏.‏

قال‏:‏ فقلت لأصحابي‏:‏ هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد‏.‏

قال‏:‏ فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع‏.‏

فقال‏:‏ مرحباً بصديقي هل أهديت لي من بلادك شيئاً ‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم أيها الملك قد أهديت لك أدماً كثيراً‏.‏

قال‏:‏ ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له‏:‏ أيها الملك إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا‏.‏

قال‏:‏ فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت الأرض لدخلت فيها فرقاً، ثم قلت‏:‏ أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه‏.‏

قال‏:‏ أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى فتقتله ‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ أيها الملك أكذاك هو ‏؟‏

قال‏:‏ ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى بن عمران على فرعون وجنوده‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ أفتبايعني له على الإسلام ‏؟‏

قال‏:‏ نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة‏.‏

فقلت‏:‏ أين أبا سليمان ‏؟‏

فقال‏:‏ والله لقد استقام الميسم، وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم فحتى متى ‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ والله ما جئت إلا لأسلم‏.‏

قال‏:‏ فقدمنا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فتقدم خال بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت‏:‏ يا رسول الله إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عمرو بايع فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فبايعته ثم انصرفت‏.‏ ‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد حدثني من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة كان معهما أسلم حين أسلما، فقال عبد الله بن أبي الزبعري السهمي‏:‏

أنشد عثمان بن طلحة خلفنا * وملقى نعال القوم عند المقبل

وما عقد الإباء من كل حلقة * وما خالد من مثلها بمحلل

أمفتاح بيت غير بيتك تبتغي * وما تبتغي من بيت مجد مؤثل

فلا تأمنن خالداً بعد هذه * وعثمان جاءا بالدهيم المعضل

قلت‏:‏ كان إسلامهم بعد الحديبية، وذلك أن خالد بن الوليد كان يومئذ في خيل المشركين كما سيأتي بيانه، فكان ذكر هذا الفصل في إسلامهم بعد ذلك أنسب‏.‏

ولكن ذكرنا ذلك تبعاً للإمام محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى، لأن أول ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشي كان بعد وقعة الخندق، الظاهر أنه ذهب بقية سنة خمس، والله أعلم‏.‏

 فصل في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة

ذكر البيهقي بعد وقعة الخندق من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 7‏]‏‏.‏

قال‏:‏ هو تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين‏.‏

ثم قال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ قال‏:‏ حدثنا علي بن عيسى قال‏:‏ حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، أنبأنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن أم حبيبة أنها كانت عند عبد الله بن جحش، وكان رحل إلى النجاشي فمات‏.‏

وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بأم حبيبة وهي بأرض الحبشة، وزوجها إياه النجاشي ومهرها أربعة آلاف درهم، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وجهزها من عنده، وما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء‏.

قال‏:‏ وكان مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة، قلت‏:‏ والصحيح أن مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت ثنتي عشرة أوقية ونشا، والوقية‏:‏ أربعون درهماً‏.‏ والنش‏:‏ النصف‏.‏ وذلك يعدل خمسمائة درهم‏.‏

ثم روى البيهقي‏:‏ من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة أن عبيد الله بن جحش مات بالحبشة نصرانياً، فخلف على زوجته أم حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها منه عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

قلت‏:‏ أما تنصر عبيد الله بن جحش فقد تقدم بيانه، وذلك على أثر ما هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة، استزله الشيطان فزين له دين النصارى، فصار إليه حتى مات عليه لعنه الله، وكان يعير المسلمين فيقول لهم‏:‏ أبصرنا وصأصأتم، وقد تقدم شرح ذلك في هجرة الحبشة‏.‏

وأما قول عروة‏:‏ إن عثمان زوجها منه فغريب، لأن عثمان كان قد رجع إلى مكة قبل ذلك، ثم هاجر إلى المدينة وصحبته زوجته رقية كما تقدم، والله أعلم‏.‏

والصحيح ما ذكره يونس، عن محمد بن إسحاق قال‏:‏ بلغني أن الذي ولي نكاحها ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص‏.‏

قلت‏:‏ وكان وكيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبول العقد أصحمة النجاشي ملك الحبشة، كما قال يونس، عن محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وساق عنه أربعمائة دينار‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ حدثني محمد بن الحسن، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن زهير، عن إسماعيل بن عمرو‏:‏ أن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت‏:‏ ما شعرت وأنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشي، جارية يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ووهنه، فاستأذنت علي، فأذنت لها فقالت‏:‏ إن الملك يقول لك‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجكه‏.‏

فقلت‏:‏ بشرك الله بالخير‏.‏

وقالت‏:‏ يقول لك الملك وكلي من يزوجك‏.‏

قالت‏:‏ فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته، وأعطيت أبرهة سوارين من فضة، وخذمتين من فضة كانتا علي، وخواتيم من فضة في كل أصابع رجلي سروراً بما بشرتني به، فلما أن كان من العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب، ومن كان هناك من المسلمين أن يحضروا‏.‏

وخطب النجاشي وقال‏:‏ الحمد لله الملك القدوس المؤمن العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، أما بعد‏:‏

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصدقها أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم‏.‏

فتكلم خالد بن سعيد فقال‏:‏ الحمد لله أحمده وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد‏:‏

فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال‏:‏ اجلسوا فإن من سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا‏.‏

قلت‏:‏ فلعل عمرو بن العاص لما رأى عمرو بن أمية خارجاً من عند النجاشي بعد الخندق إنما كان في قضية أم حبيبة فالله أعلم‏.‏

لكن قال الحافظ البيهقي‏:‏ ذكر أبو عبد الله ابن منده أن تزويجه عليه السلام بأم حبيبة كان في سنة ست، وأن تزويجه بأم سلمة كان في سنة أربع‏.‏

قلت‏:‏ وكذا قال خليفة، وأبو عبيد الله معمر بن المثنى، وابن البرقي، وأن تزويج أم حبيبة كان في سنة ست، وقال بعض الناس‏:‏ سنة سبع‏.‏

قال البيهقي‏:‏ هو أشبه‏.‏

قلت‏:‏ قد تقدم تزويجه عليه السلام بأم سلمة في أواخر سنة أربع، وأما أم حبيبة فيحتمل أن يكون قبل ذلك، ويحتمل أن يكون بعده، وكونه بعد الخندق أشبه لما تقدم من ذكر عمرو بن العاص، أنه رأى عمرو بن أمية عند النجاشي، فهو في قضيتها، والله أعلم‏.‏

وقد حكى الحافظ ابن الأثير في ‏(‏الغابة‏)‏‏:‏ عن قتادة أن أم حبيبة لما هاجرت من الحبشة إلى المدينة، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها‏.‏

وحكي عن بعضهم أنه تزوجها بعد إسلام أبيها بعد الفتح‏.‏ واحتج هذا القائل بما رواه مسلم‏:‏ من طريق عكرمة بن عمار اليماني، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس أن أبا سفيان قال‏:‏ يا رسول الله ثلاث أعطنيهن‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ تؤمرني على أن أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏

قال‏:‏ ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏

قال‏:‏ وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها‏.‏

الحديث بتمامه‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وهذا الحديث مما أنكر على مسلم، لأن أبا سفيان لما جاء يجدد العقد قبل الفتح، دخل على ابنته أم حبيبة، فثنت عنه فراش النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ والله ما أدري أرغبت بي عنه، أو به عني‏؟‏

قالت‏:‏ بل هذا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك‏.‏

فقال‏:‏ والله لقد أصابك بعدي يا بنية شر‏.‏

وقال ابن حزم‏:‏ هذا الحديث وضعه عكرمة بن عمار، وهذا القول منه لا يتابع عليه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ أراد أن يجدد العقد لما فيه بغير إذنه من الغضاضة عليه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لأنه اعتقد انفساخ نكاح ابنته بإسلامه‏.‏

وهذه كلها ضعيفة، والأحسن في هذا أنه أراد أن يزوجه ابنته الأخرى مرة، لما رأى في ذلك من الشرف له، واستعان بأختها أم حبيبة كما في الصحيحين، وإنما وهم الراوي في تسميته أم حبيبة، وقد أوردنا لذلك خبراً مفرداً‏.‏

قال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ توفيت أم حبيبة سنة أربع وأربعين‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة‏:‏ توفيت قبل معاوية لسنة، وكانت وفاة معاوية في رجب سنة ستين‏.‏ ‏

تزويجه بزينب بنت جحش

ابن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدية أم المؤمنين، وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه‏.‏

قال قتادة، والواقدي، وبعض أهل المدينة‏:‏ تزوجها عليه السلام سنة خمس، زاد بعضهم في ذي القعدة‏.‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ تزوجها بعد بني قريظة‏.‏

وقال خليفة بن خياط، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وابن منده‏:‏ تزوجها سنة ثلاث‏.‏

والأول أشهر، وهو الذي سلكه ابن جرير، وغير واحد من أهل التاريخ‏.‏

وقد ذكر غير واحد من المفسرين، والفقهاء، وأهل التاريخ في سبب تزويجه إياها عليه السلام حديثاً ذكره أحمد بن حنبل في مسنده، تركنا إيراده قصداً لئلا يضعه من لا يفهم على غير موضعه‏.‏

وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37-38‏]‏‏.‏

وقد تكلمنا على ذلك في التفسير بما فيه كفاية، فالمراد بالذي أنعم الله عليه ها هنا‏:‏ زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتق، وزوجه بابنة عمه زينب بنت جحش‏.‏

قال مقاتل بن حبان‏:‏ وكان صداقه لها عشرة دنانير، وستين درهماً، وخماراً، وملحفة، ودرعاً، وخمسين مداً، وعشرة أمداد من تمر، فمكثت عنده قريباً من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما، فجاء زوجها يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول له‏:‏ ‏(‏‏(‏اتق الله وأمسك عليك زوجك‏)‏‏)‏‏.‏

قال الله‏:‏ ‏{‏وتخفي في نفسك ما الله مبديه‏}‏‏.‏

قال علي بن الحسين زيد العابدين، والسدي‏:‏ كان رسول الله قد علم أنها ستكون من أزواجه، فهو الذي كان في نفسه عليه السلام‏.‏

وقد تكلم كثير من السلف ها هنا بآثار غريبة، وبعضها فيه نظر، تركناها‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها‏}‏ ذلك أن زيداً طلقها، فلما انقضت عدتها بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها إلى نفسها ثم تزوجها، وكان الذي زوجها منه رب العالمين تبارك وتعالى‏.‏

كما ثبت في صحيح البخاري‏:‏ عن أنس بن مالك أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول‏:‏ زوجكن أهليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات‏.‏

وفي رواية من طريق عيسى بن طهمان عن أنس قال‏:‏ كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول‏:‏ أنكحني الله من السماء‏.‏

وفيها أنزلت آية الحجاب ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه‏} الآية‏.‏ ‏

وروى البيهقي من حديث حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ جاء زيد يشكو زينب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اتق الله وأمسك عليك زوجك‏)‏‏)‏‏.‏

قال أنس‏:‏ فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه، فكانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول‏:‏ زوجكن أهليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات‏.‏

ثم قال‏:‏ رواه البخاري عن أحمد، عن محمد بن أبي بكر المقدمي، عن حماد بن زيد‏.‏

ثم روى البيهقي‏:‏ من طريق عفان، عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ جاء زيد يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أمسك عليك أهلك‏)‏‏)‏ فنزلت ‏{‏وتخفي في نفسك ما الله مبديه‏}‏‏.‏

ثم قال أخرجه البخاري‏:‏ عن محمد بن عبد الرحيم، عن يعلى بن منصور، عن محمد مختصراً‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال‏:‏ كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهم‏:‏ إن جدي وجدك واحد - تعني عبد المطلب - فإنه أبو أبي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو أمها أميمة بنت عبد المطلب، وإني أنكحنيك الله عز وجل من السماء، وإن السفير جبريل عليه السلام‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هاشم - يعني ابن القاسم - حدثنا النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ لما انقضت عدة زينب قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب فاذكرها علي‏)‏‏)‏‏.‏

فانطلق حتى أتاها، وهي تخمر عجينها قال‏:‏ فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، وقلت‏:‏ يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكرك، قالت‏:‏ ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل‏.‏

ثم قامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن‏.‏

قال أنس‏:‏ ولقد رأيتنا حين دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته، فجعل يتبع حجر نسائه، يسلم عليهم ويقلن‏:‏ يا رسول الله كيف وجدت أهلك‏؟‏

فما أدري أنا أخبرته، والقوم قد خرجوا أو أخبر‏.‏

قال‏:‏ فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب، ووعظ القوم بما وعظوا به ‏{‏لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وكذا رواه مسلم، والنسائي، من طريق سليمان بن المغيرة‏.‏

نزول الحجاب صبيحة عرس زينب

فناسب نزول الحجاب في هذا العرس صيانة لها، ولأخواتها من أمهات المؤمنين، وذلك وفق الرأي العمري‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله الرقاش، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت أبي حدثنا أبو مجلز، عن أنس بن مالك قال‏:‏ لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا وجلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا‏.‏

فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

وقد رواه البخاري في مواضع أخر، ومسلم، والنسائي، من طرق، عن معتمر‏.‏

ثم رواه البخاري منفرداً به من حديث أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس نحوه‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال‏:‏ بُني على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعياً، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه، فقلت‏:‏ يا نبي الله ما أجد أحداً أدعوه، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارفعوا طعامكم‏)‏‏)‏‏.‏

وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته‏)‏‏)‏ قالت‏:‏ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، كيف وجدت أهلك بارك الله لك‏؟‏ فتقرَّى حجر نسائه كلهن، ويقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة‏.‏

ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رهط ثلاثة في البيت يتحدثون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة، فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا، فخرج حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب، وأخرى خارجه أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب‏.‏

تفرد به البخاري من هذا الوجه، ثم رواه منفرداً به أيضاً‏:‏ عن إسحاق هو ابن نصر، عن عبد الله بن بكير السهمي، عن حميد بن أنس بنحو ذلك، وقال‏:‏ رجلان بدل ثلاثة، فالله أعلم‏.‏

قال البخاري‏:‏ وقال إبراهيم بن طهمان، عن الجعد أبي عثمان، عن أنس فذكر نحوه‏.‏

وقد قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو المظفر، حدثنا جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان اليشكري، عن أنس بن مالك قال‏:‏ أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه، فصنعت أم سليم حيساً، ثم حطته في ثور فقالت‏:‏ اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره إن هذا منا له قليل‏.‏

قال أنس‏:‏ والناس يومئذ في جهد، فجئت به فقلت‏:‏ يا رسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك، وهي تقرئك السلام وتقول‏:‏ إن هذا منا له قليل، فنظر إليه ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ضعه في ناحية البيت‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً‏)‏‏)‏ فسمى رجالاً كثيراً‏.‏

قال‏:‏ ومن لقيت من المسلمين، فدعوت من قال لي، ومن لقيت من المسلمين، فجئت والبيت والصفة والحجرة ملاء من الناس، فقلت‏:‏ يا أبا عثمان كم كانوا‏؟‏

قال‏:‏ كانوا زهاء ثلثمائة‏.‏

قال أنس‏:‏ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏جيء‏)‏‏)‏ فجئت به إليه، فوضع يده عليه، ودعا، وقال ما شاء الله، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ليتلحق عشرة عشرة ويسموا، وليأكل كل أنسان مما يليه‏)‏‏)‏ فجعلوا يسمون، ويأكلون، حتى أكلوا كلهم‏.‏

فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ارفعه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فجئت فأخذت الثور، فنظرت فيه فلا أدري أهو حين وضعته أكثر أم حين رفعته‏؟‏

قال‏:‏ وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم، مولية وجهها إلى الحائط، فأطالوا الحديث، فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس حياء، ولو علموا كان ذلك عليهم عزيزاً‏.‏

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب، فخرجوا وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر، ودخل البيت وأنا في الحجرة، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيراً، وأنزل الله القرآن فخرج وهو يقرأ هذه الآية‏:‏

{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53-54‏]‏‏.‏

قال أنس‏:‏ فقرأهن عليَّ قبل الناس، وأنا أحدث الناس بهن عهداً‏.‏

وقد رواه مسلم، والترمذي، والنسائي جميعاً، عن قتيبة، عن جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

ورواه مسلم أيضاً عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الجعد أبي عثمان به‏.‏

وقد روى هذا الحديث البخاري، والترمذي، والنسائي، من طرق‏:‏ عن أبي بشر الأحمسي الكوفي، عن أنس بنحوه‏.‏

ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي نضرة العبدي، عن أنس بنحوه، ولم يخرجوه‏.‏

ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد، ومن حديث الزهري عن أنس نحو ذلك‏.‏

قلت‏:‏ كانت زينب بنت جحش رضي الله عنها من المهاجرات الأول، وكانت كثيرة الخير والصدقة، وكان اسمها أولاً بره، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب، وكانت تكنى بأم الحكم‏.‏

قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ما رأيت امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم أمانة وصدقة‏.‏

وثبت في الصحيحين كما سيأتي في حديث الإفك، عن عائشة أنها قالت‏:‏ وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عني زينب بنت جحش، وهي التي كانت تساميني من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع، فقالت‏:‏ يا رسول الله احمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيراً‏.‏

وقال مسلم بن الحجاج في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا الفضل بن موسى الشيباني، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فكنا نتطاول أينا أطول يداً، قالت‏:‏ فكانت زينب أطولنا يداً، لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق‏.‏

انفرد به مسلم‏.‏

قال الواقدي وغيره من أهل السير، والمغازي، والتواريخ‏:‏ توفيت سنة عشرين من الهجرة، وصلى عليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودفنت بالبقيع، وهي أول امرأة صنع لها النعش‏.‏ ‏