الجزء الرابع - سنة ست من الهجرة

سنة ست من الهجرة

قال البيهقي‏:‏ كان يقال في المحرم، منها سرية محمد بن مسلمة قبل نجد، وأسروا فيها ثمامة بن أنال اليمامي، قلت‏:‏ لكن في سياق ابن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة‏:‏ أنه شهد ذلك، وهو إنما هاجر بعد خيبر، فيؤخر إلى ما بعدها، والله أعلم‏.‏

وهي السنة التي كان في أوائلها غزوة بني لحيان على الصحيح‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان فتح بني قريظة في ذي القعدة، وصدر من ذي الحجة، وولى تلك الحجة المشركون، يعني في سنة خمس كما تقدم‏.‏

قال‏:‏ ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ذا الحجة، والمحرم، وصفراً، وشهري ربيع، وخرج في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح بني قريظة إلى بني لحيان، يطلب بأصحاب الرجيع حبيب وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام، ليصيب من القوم غرة‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، والمقصود أنه عليه السلام لما انتهى إلى منازلهم، هربوا من بين يديه، فتحصنوا في رؤوس الجبال، فمال إلى عسفان، فلقي بها جمعاً من المشركين، وصلى بها صلاة الخوف‏.‏

وقد تقدم ذكر هذه الغزوة في سنة أربع، وهنالك ذكرها البيهقي، والأشبه ما ذكره ابن إسحاق أنها كانت بعد الخندق، وقد ثبت أنه صلى بعسفان يوم بني لحيان، فلتكتب هاهنا، وتحول من هناك اتباعاً لإمام أصحاب المغازي في زمانه وبعده، كما قال الشافعي رحمه الله‏:‏ من أراد المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق‏.‏

وقد قال كعب بن مالك في غزوة بني لحيان‏:‏

لو أن بني لحيان كانوا تناظروا * لقوا عصباً في دارهم ذات مصدق

لقوا سرعاناً يملأ السرب روعه * أمام طحون كالمجرَّة فيلق

ولكنهم كانوا وباراً تتبعت * شعاب حجازٍ غير ذي متنفق

 غزوة ذي قرد

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يقم بها إلا ليالي قلائل، حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، في خيل من غطفان على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم بالغابة، وفيها رجل من بني غفار ومعه امرأته، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ومن لا أتهم، عن عبد الله بن كعب بن مالك - كل قد حدث في غزوة ذي قرد بعض الحديث - أنه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، غداً يريد الغابة متوشحاً قوسه ونبله، ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله، معه فرس له يقوده، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم‏.‏

فأشرف في ناحية سلع ثم صرخ‏:‏ واصباحاه ‏!‏ ثم خرج يشتد في آثار القوم وكان مثل السبع، حتى لحق بالقوم، فجعل يردهم بالنبل ويقول‏:‏

خذها وأنا ابن الأكوع * اليوم يوم الرضَّع

فإذا وجهت الخيل نحوه، انطلق هارباً ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمي رمى، ثم قال‏:‏

خذها وأنا ابن الأكوع * اليوم يوم الرضع

قال‏:‏ فيقول قائلهم‏:‏ أويكعنا هو أول النهار‏.‏

قال‏:‏ وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم صياح ابن الأكوع، فصرخ بالمدينة‏:‏ ‏(‏‏(‏الفزع الفزع‏)‏‏)‏ فترامت الخيول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول من انتهى إليه من الفرسان‏:‏

المقداد بن الأسود، ثم عباد بن بشر، وسعد بن زيد، وأسيد بن ظهير - يشك فيه - وعكاشة بن محصن، ومحرز بن نضلة أخو بني أسد بن خزيمة، وأبو قتادة الحارث بن ربعي أخو بني سلمة، وأبو عياش عبيد بن زيد بن الصامت أخو بني زريق‏.‏

قال‏:‏ فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّر عليهم سعد بن زيد، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عياش فيما بلغني عن رجال من بني زريق‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا عياش لو أعطيت هذا الفرس رجلاً هو أفرس منك فلحق بالقوم‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عياش‏:‏ فقلت يا رسول الله أنا أفرس الناس، ثم ضربت الفرس فوالله ما جرى بي خمسين ذراعاً حتى طرحني، فعجبت من ذلك، فزعم رجال من زريق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى فرس أبي عياش معاذ بن ماعص، أو عائذ بن ماعص بن قيس بن خلدة، وكان ثامناً‏.‏

قال‏:‏ وبعض الناس يعد سلمة بن الأكوع ثامناً، ويطرح أسيد بن ظهير، فالله أعلم أي ذلك كان‏.‏

قال‏:‏ ولم يكن سلمة بن الأكوع يومئذ فارساً قد كان أول من لحق بالقوم على رجليه‏.‏

قال‏:‏ فخرج الفرسان حتى تلاحقوا، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة، وكان يقال له‏:‏ الأخرم، ويقال له‏:‏ قمير، وكانت الفرس التي تحته لمحمود بن مسلمة، وكان يقال للفرس ذو اللمة‏.‏

فلما انتهى إلى العدو قال لهم‏:‏ قفوا معشر بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من أدباركم من المهاجرين والأنصار، قال‏:‏ فحمل عليه رجل منهم فقتله، وجال الفرس، فلم يقدر عليه حتى وقف على أرية من بني عبد الأشهل، أي‏:‏ رجع إلى مربطه الذي كان فيه بالمدينة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولم يقتل يومئذ من المسلمين غيره‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنه قد قتل معه أيضاً وقاص بن مجرز المدلجي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني بعض من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك‏:‏ أن محرزاً كان على فرس لعكاشة بن محصن يقال لها‏:‏ الجناح، فقتل محرز واستلب جناح، فالله أعلم‏.‏

قال‏:‏ ولما تلاحقت الخيل، قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة وغشاه برده، ثم لحق بالناس، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم‏.‏

فإذا حبيب مسجى ببرد أبي قتادة، فاسترجع الناس وقالوا‏:‏ قُتل أبو قتادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ليس بأبي قتادة ولكنه قتيل لأبي قتادة‏)‏‏)‏ ووضع عليه برده، لتعرفوا أنه صاحبه‏.‏

قال‏:‏ وأدرك عكاشة بن محصن أوباراً، وابنه عمرو بن أوبار وهما على بعير واحد، فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعاً، واستنقذوا بعض اللقاح‏.‏

قال‏:‏ وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذي قرد، وتلاحق به الناس، فأقام عليه يوماً وليلة، وقال له سلمة بن الأكوع‏:‏ يا رسول الله لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح، وأخذت بأعناق القوم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني -‏:‏ ‏(‏‏(‏إنهم الآن ليغبقون في غطفان‏)‏‏)‏ فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه في كل مائة رجل جزوراً، وأقاموا عليه، ثم رجع قافلاً حتى قدم المدينة‏.‏

قال‏:‏ وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل النبي صلى الله عليه وسلم حتى قدمت عليه المدينة فأخبرته الخبر، فلما فرغت قالت‏:‏ يا رسول الله إني قد نذرت الله أن أنحرها أن نجاني الله عليها‏.‏

قال‏:‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بئسما جزيتيها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها، إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي فارجعي إلى أهلك على بركة الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ والحديث في ذلك عن أبي الزبير المكي، عن الحسن البصري‏.‏

هكذا أورد ابن إسحاق هذه القصة بما ذكر من الإسناد والسياق‏.‏

وقد قال البخاري رحمه الله بعد قصة الحديبية، وقبل خيبر غزوة ذي قرد، وهي الغزوة التي أغاروا على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم قبل خيبر بثلاث‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، سمعت سلمة بن الأكوع يقول‏:‏ خرجت قبل أن يؤذن بالأولى، وكانت لقاح النبي صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد‏.‏

قال‏:‏ فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف فقال‏:‏ أخذت لقاح النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقلت‏:‏ من أخذها ‏؟‏

قال‏:‏ غطفان‏.‏

قال‏:‏ فصرخت ثلاث صرخات واصباحاه‏.‏

قال‏:‏ فأسمعت ما بين لابتي المدينة، ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم، وقد أخذوا يستقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي وكنت رامياً وأقول‏:‏ أنا ابن الأكوع، اليوم يوم الرضع، وأرتجز حتى استنقذت اللقاح منهم، واستلبت منهم ثلاثين بردة‏.‏

قال‏:‏ وجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس فقلت‏:‏ يا رسول الله قد حميت القوم الماء وهم عطاش، فابعث إليهم الساعة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا ابن الأكوع ملكت فأسجح‏)‏‏)‏ ثم رجعنا وردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى قدمنا المدينة‏.‏

وهكذا رواه مسلم عن قتيبة به‏.‏

ورواه البخاري‏:‏ عن أبي عاصم السهلي، عن يزيد بن أبي عبيدة، عن مولاة سلمة بنحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال‏:‏ قدمنا المدينة زمن الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت أنا ورباح غلام النبي صلى الله عليه وسلم بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت بفرس لطلحة بن عبيد الله أريد أن أنديه مع الإبل‏.‏

فلما كان بغلس أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل راعيها، وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل فقلت‏:‏ يا رباح اقعد على هذا الفرس فألحقه بطلحة‏.‏

وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد أغير على سرحه‏.‏

قال‏:‏ وقمت على تل، فجعلت وجهي من قبل المدينة، ثم ناديت ثلاث مرات‏:‏ يا صباحاه ‏!‏

قال‏:‏ ثم اتبعت القوم معي سيفي ونبلي فجعلت أرميهم وأعقر بهم، وذلك حين يكثر الشجر، فإذا رجع إلي فارس جلست له في أصل شجرة، ثم رميت فلا يقبل فارس إلا عقرت به فجعلت أرميهم وأنا أقول‏:‏

أنا ابن الأكوع * واليوم يوم الرضع

قال‏:‏ فألحق برجل منهم فأرميه وهو على راحلته، فيقع سهمي في الرجل حتى انتظم كتفه، فقلت‏:‏

خذها وأنا ابن الأكوع * واليوم يوم الرضع

فإذا كنت في الشجر أحرقتهم بالنبل، فإذا تضايقت الثنايا علوت الجبل فرديتهم بالحجارة، فما زال ذاك شأني وشأنهم أتبعهم وأرتجز حتى ما خلق الله شيئاً من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، فاستنقذته من أيديهم‏.‏

ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحاً، وأكثر من ثلاثين بردة، يستخفون منها ولا يلقون من ذلك شيئاً إلا جعلت عليه حجارة، وجمعته على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا امتد الضحى أتاهم عيينة بن بدر الفزاري مدداً لهم، وهم في ثنية ضيقة، ثم علوت الجبل فأنا فوقهم‏.‏

فقال عيينة‏:‏ ما هذا الذي أرى ‏؟‏

قالوا‏:‏ لقينا من هذا البرح ما فارقنا بسحر حتى الآن، وأخذ كل شيء بأيدينا وجعله وراء ظهره‏.‏

فقال عيينة‏:‏ لولا أن هذا يرى أن وراءه طلباً لقد ترككم، ليقم إليه نفر منكم‏.‏

فقام إليه نفر منهم أربعة فصعدوا في الجبل، فلما أسمعتهم الصوت قلت‏:‏ أتعرفونني ‏؟‏

قالوا‏:‏ ومن أنت ‏؟‏

قلت‏:‏ أنا ابن الأكوع، والذي كرم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني ولا أطلبه فيفوتني‏.‏

فقال رجل منهم‏:‏ إن أظن‏.‏

قال‏:‏ فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يخللون الشجر، وإذا أولهم الأخرم الأسدي، وعلى أثره أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أثره المقداد بن الأسود الكندي، فولى المشركون مدبرين، وأنزل من الجبل فأعرض للأخرم، فأخذ عنان فرسه‏.‏

فقلت‏:‏ يا أخرم ائذن القوم - يعني احذرهم - فإني لا أمن أن يقتطعوك فاتئد حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏

قال‏:‏ يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حق، والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة‏.‏

قال‏:‏ فخليت عنان فرسه، فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة، ويعطف عليه عبد الرحمن، فاختلفا طعنتين فعقر الأخرم بعبد الرحمن، وطعنه عبد الرحمن فقتله، فتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم، فيلحق أبو قتادة بعبد الرحمن، فاختلفا طعنتين، فعقر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة، وتحول أبو قتادة على فرس الأخرم‏.‏

ثم إني خرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ويعرضون قبل غيبوبة الشمس إلى شعب فيه ماء، يقال له ذو قَرَدٍ، فأرادوا أن يشربوا منه فأبصروني أعدوا وراءهم، فعطفوا عنه وأسندوا في الثنية ثنية ذي بئر، وغربت الشمس وألحق رجلاً فأرميه فقلت‏:‏ خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع‏.‏

قال‏:‏ فقال‏:‏ يا ثكل أم أكوع بكرة‏.‏

فقلت‏:‏ نعم، أي‏:‏ عدو نفسه‏.‏

وكان الذي رميته بكرة وأتبعته سهماً آخر، فعلق به سهمان ويخلفون فرسين، فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي أجليتهم عنه ذو قرد، وإذا بنبي الله صلى الله عليه وسلم في خمسمائة، وإذا بلال قد نحر جزوراً مما خلفت، فهو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏

يا رسول الله خلني، فأنتخب من أصحابك مائة، فآخذ على الكفار بالعشوة، فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أكنت فأعلى ذلك يا سلمة ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم والذي أكرمك‏.‏

فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه في ضوء النار، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنهم يقرون الآن بأرض غطفان‏)‏‏)‏‏.‏

فجاء رجل من غطفان فقال‏:‏ مروا على فلان الغطفاني، فنحر لهم حزوراً، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها، وخرجوا هراباً، فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة‏)‏‏)‏‏.‏

فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل جميعاً، ثم أردفني وراءه على العضباء، راجعين إلى المدينة‏.‏

فلما كان بيننا وبينها قريب من ضحوة وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يسبق، جعل ينادي‏:‏ هل من مسابق، إلا رجل يسابق إلى المدينة‏؟‏ فأعاد ذلك مراراً وأنا وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم مردفي، فقلت له‏:‏ أما تكرم كريماً ولا تهاب شريفاً ‏؟‏

قال‏:‏ لا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله بأبي أنت وأمي خلني فلأسابق الرجل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شئت‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ أذهب إليك، فطفر عن راحلته وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة، ثم إني ربطت عليه شرفاً أو شرفين - يعني استبقيت من نفسي - ثم أني عدوت حتى ألحقه فأصك بين كتفيه بيدي‏.‏

قلت‏:‏ سبقتك والله أو كلمة نحوها‏.‏

قال‏:‏ فضحك، وقال‏:‏ إن أظن، حتى قدمنا المدينة‏.‏

وهكذا رواه مسلم من طرق عن عكرمة بن عمار بنحوه، وعنده فسبقته إلى المدينة فلم نلبث إلا ثلاثاً حتى خرجنا إلى خيبر‏.‏

ولأحمد هذا السياق‏.‏

ذكر البخاري، والبيهقي هذه الغزوة بعد الحديبية وقبل خيبر، وهو أشبه مما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم‏.‏

فينبغي تأخيرها إلى أوائل سنة سبع من الهجرة، فإن خيبر كانت في صفر منها‏.‏

وأما قصة المرأة التي نجت على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ونذرت نحرها لنجاتها عليها، فقد أوردها ابن إسحاق بروايته عن أبي الزبير، عن الحسن البصري مرسلاً‏.‏

وقد جاء متصلاً من وجوه أخر‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال‏:‏ كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج، فأسر الرجل، فأخذت العضباء معه‏.‏

قال‏:‏ فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة، فقال‏:‏ يا محمد علام تأخذوني وتأخذون سابقة الحاج ‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وكانت ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال‏:‏ فيما قال إني مسلم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو قتلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد إني جائع فأطعمني، وإني ظمآن فاسقني‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه حاجتك‏)‏‏)‏ ثم فدي بالرجلين، وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لرحله‏.‏

ثم قال‏:‏ إن المشركين أغاروا على سرح المدينة فذهبوا به وكانت العضباء فيه، وأسروا امرأة من المسلمين‏.‏

قال‏:‏ وكانوا إذا نزلوا أراحوا إبله بأفنيتهم‏.‏

قال‏:‏ فقامت المرأة ذات ليلة بعد ما ناموا فجعلت كلما أتت على بعير رغا حتى أتت على العضباء، فأتت على ناقة ذلول مجرسة فركبتها، ثم وجهتها قبل المدينة‏.‏

قال‏:‏ ونذرت إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة، فقيل‏:‏ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنذرها، أو أتته فأخبرته‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بئس ما جزيتيها‏)‏‏)‏ أو ‏(‏‏(‏بئس ما جزتها أن أنجاها الله عليها لتنحرنها‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم‏:‏ عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان مما قيل من الأشعار في غزوة ذي قرد قول حسان بن ثابت رضي الله عنه‏:‏

لولا الذي لاقت ومس نسورها * بجنوب ساية أمس في التقواد

للقبنكم يحملن كل مدجج * حامي الحقيقة ماجد الأجداد

ولسر أولاد اللقيطة أننا * سلم غداة فوارس المقداد

كنا ثمانية وكانوا جحفلاً * لجباً فشكوا بالرماح بداد

كنا من القوم الذين يلونهم * ويقدمون عنان كل جواد

كلا ورب الراقصات إلى منى * يقطعن عرض مخارم الأطواد

حتى نبيل الخيل في عرصاتكم * ونئوب بالملكات والأولاد

رهواً بكل مقلص وطمرةٍ * في كل معترك عطفن وواد

أفنى دوابرها ولاح متونها * يوم تقاد به ويوم طراد

فكذاك إن جيادنا ملبونة * والحرب مشعلة بريح غواد

وسيوفنا بيض الحدائد تجتلي * جنن الحديد وهامة المرتاد

أخذ الإله عليهم لحرامه * ولعزة الرحمن بالأسداد

كانوا بدار ناعمين فبدلوا * أيام ذي قرد وجوه عناد

قال ابن إسحاق‏:‏ فغضب سعد بن زيد أمير سرية الفوارس المتقدمين أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسان، وحلف لا يكلمه أبداً وقال‏:‏ انطلق إلى خيلي وفوارسي فجعلها للمقداد‏.‏

فاعتذر إليه حسان بأنه وافق الروي اسم المقداد، ثم قال أبياتاً يمدح بها سعد بن زيد‏:‏

إذا أردتم الأشد الجلدا * أو ذا غناء فعليكم سعدا

سعد بن زيد لا يهد هدا

قال‏:‏ فلم تقع منه بموقع‏.‏

وقال حسان بن ثابت في يوم ذي قرد‏:‏

أظن عيينة إذ زارها * بأن سوف يهدم فيها قصورا

فأكذبت ما كنت صدقته * وقلتم سنغنم أمراً كبيرا

فعفت المدينة إذ زرتها * وأنست للأسد فيها زئيرا

وولوا سراعاً كشد النعام * ولم يكشفوا عن ملط حصيرا

أمير علينا رسول المليك * أحبب بذاك إلينا أميرا

رسول يصدق ما جاءه * ويتلو كتاباً مضيئاً منيرا

وقال كعب بن مالك في يوم ذي قرد يمدح الفرسان يومئذ من المسلمين‏:‏

أيحسب أولاد اللقيطة أننا * على الخيل لسنا مثلهم في الفوارس

وأنا أناس لا نرى القتل سبة * ولا ننثني عند الرماح المداعس

وأنا لنقري الضيف من قمع الذرى * ونضرب رأس الأبلج المتشاوس

نرد كماة المعلمين إذا انتحوا * بضرب يسلي نخوة المتقاعس

بكل فتى حامي الحقيقة ماجد * كريم كسرحان العضاة مخالس

يذودون عن أحسابهم وبلادهم * ببيض تقد الهام تحت القوانس

فسائل بني بدر إذا ما لقيتهم * بما فعل الإخوان يوم التمارس

إذا ما خرجتم فاصدقوا من لقيتم * ولا تكتموا أخباركم في المجالس

وقولوا زللنا عن مخالب خادر * به وحر في الصدر ما لم يمارس

 غزوة بني المصطلق من خزاعة

قال البخاري‏:‏ وهي غزوة المريسيع‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ وذلك في سنة ست‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ سنة أربع‏.‏

وقال النعمان بن راشد عن الزهري كان حديث الإفك في غزوة المريسيع‏.‏

هكذا رواه البخاري عن مغازي موسى بن عقبة أنها كانت في سنة أربع، والذي حكاه عنه وعن عروة أنها كانت في شعبان سنة خمس‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ كانت لليلتين من شعبان سنة خمس في سبعمائة من أصحابه‏.‏

وقال محمد بن إسحاق بن يسار بعد ما أورد قصة ذي قرد‏:‏ فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجب، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة في شعبان سنة ست‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري‏.‏

ويقال‏:‏ نميلة بن عبد الله الليثي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان، كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق قالوا‏:‏ بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا‏.‏

فلما سمع بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحم الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم، ونقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لليلتين مضتا من شعبان سنة خمس من الهجرة في سبعمائة من أصحابه إلى بني المصطلق، وكانوا حلفاء بني مدلج، فلما انتهى إليهم دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق، ويقال إلى عمار بن ياسر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، ثم أمر عمر بن الخطاب فنادى في الناس‏:‏ أن قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، فأبوا فتراموا بالنبل‏.‏

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم رجل واحد، وقتل منهم عشرة وأسر سائرهم، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد‏.‏

وثبت في الصحيحين‏:‏ من حديث عبد الله بن عون قال‏:‏ كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فقال‏:‏ قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق، وهم غارون في أنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم، فأصاب يومئذ - أحسبه قال - جويرية بنت الحارث‏.‏

وأخبرني عبد الله بن عمر بذلك، وكان بذلك الجيش‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد أصيب رجل من المسلمين يقال له هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ‏.‏

وذكر ابن إسحاق‏:‏ أن أخاه مقيس بن صبابة قدم من مكة مظهراً للإسلام فطلب دية أخيه هشام من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قتل خطأ، فأعطاه ديته، ثم مكث يسيراً ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ورجع مرتداً إلى مكة، وقال في ذلك‏:‏

شفى النفس أن قد بات بالقاع مسنداً * يضرج ثوبيه دماء الأخادع

وكانت هموم النفس من قبل قتله * تلم فتحميني وطاء المضاجع

حللت به وتري وأدركت ثؤرتي * وكنت إلى الأوثان أول راجع

ثأرت به فهراً وحملت عقله * سراة بني النجار أرباب فارع

قلت‏:‏ ولهذا كان مقيس هذا من الأربعة الذين أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دماءهم، وإن وجدوا معلقين بأستار الكعبة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له‏:‏ جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا فصرخ الجهني‏:‏ يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه‏:‏ يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم‏:‏ زيد بن أرقم غلام حدث‏.‏

فقال‏:‏ أوقد فعلوها‏؟‏ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول‏:‏ سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏.‏ ‏

ثم أقبل على من حضره من قومه فقال‏:‏ هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم‏.‏

فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال‏:‏ مر به عباد بن بشر فليقتله‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه‏؟‏ لا ولكن أذن بالرحيل‏)‏‏)‏‏.‏

وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس‏.‏

وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم بلغه ما سمع منه، فحلف بالله‏:‏ ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، وكان في قومه شريفاً عظيماً‏.‏

فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه‏:‏ يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل حدباً على ابن أبي، ودفعاً عنه، فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار، لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، وقال‏:‏ يا رسول الله والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أو ما بلغك ما قال صاحبكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ أي صاحب يا رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ عبد الله بن أبي‏.‏

قال‏:‏ وما قال ‏؟‏

قال‏:‏ زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل

قال‏:‏ فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز‏.‏

ثم قال‏:‏ يا رسول الله ارفق لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً‏.‏

ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً‏.‏

وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن أبي، ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع، يقال له‏:‏ بقعاء‏.‏

فلما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم هبت على الناس ريح شديدة، فآذتهم وتخوفوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تخوفوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار‏)‏‏)‏‏.‏

فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع، وكان عظيماً من عظماء اليهود وكهفاً للمنافقين مات ذلك اليوم‏.‏

وهكذا ذكر موسى بن عقبة، والواقدي‏.‏

وروى مسلم من طريق الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر نحو هذه القصة، إلا أنه لم يسم الذي مات من المنافقين‏.‏

قال‏:‏ هبت ريح شديدة والنبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه لموت منافق‏)‏‏)‏‏.‏

فلما قدمنا المدينة إذا هو قد مات عظيم من عظماء المنافقين‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في ابن أبي ومن كان على مثل أمره، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُذن زيد بن أرقم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا الذي أوفى لله بأذنه‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد تكلمنا على تفسيرها بتمامها في كتابنا التفسير بما فيه كفاية عن إعادته ها هنا، وسردنا طرق هذا الحديث عن زيد بن أرقم، ولله الحمد والمنة، فمن أراد الوقوف عليه أو أحب أن يكتبه ها هنا فليطلبه من هناك، وبالله التوفيق‏.‏‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة‏:‏ أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فأعلى فمر لي به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من الرجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر، فأدخل النار‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا‏)‏‏)‏‏.‏

وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف ترى يا عمر أما والله لو قتلته يوم قلت لي لأرعدت له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته‏)‏‏)‏‏.‏

فقال عمر‏:‏ قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري‏.‏

وقد ذكر عكرمة، وابن زيد وغيرهما‏:‏ أن ابنه عبد الله رضي الله عنه وقف لأبيه عبد الله بن أبي بن سلول عند مضيق المدينة، فقال‏:‏ قف فوالله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه في ذلك، فأذن له فأرسله حتى دخل المدينة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وأصيب يومئذ من بني المصطلق ناس، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين مالكاً وابنه‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وكان شعار المسلمين‏:‏ يا منصور أمت أمت‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب منهم سبياً كثيراً فقسمهم في المسلمين‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، أخبرني إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز أنه قال‏:‏

دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل، فقال أبو سعيد‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبياً من سبي العرب فاشتهينا النساء، وأشدت علينا العزوبة وأحببنا العزل، وقلنا نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا كائنة‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار‏.‏

فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتستعينه في كتابتها قالت‏:‏ فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت‏.‏

فدخلت عليه فقالت‏:‏ يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فهل لك في خير من ذلك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ وما هو يا رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أقضي عنك كتابك وأتزوجك‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ نعم يا رسول الله قد فعلت‏.‏

قالت‏:‏ وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية بنت الحارث‏.‏

فقال الناس‏:‏ أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم‏.‏

قالت‏:‏ فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق قصة الإفك بتمامها في هذه الغزوة، وكذلك البخاري، وغير واحد من أهل العلم، وقد حررت طرق ذلك كله في تفسير سورة النور، فليلحق بكماله إلى ها هنا وبالله المستعان‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثنا حرام، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ قالت جويرية بنت الحارث‏:‏ رأيت قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر به أحداً من الناس، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سبينا رجوت الرؤيا‏.‏

قالت‏:‏ فأعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجني، والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذي أرسلوهم، وما شعرت إلا بجارية من بنات عمي تخبرني الخبر، فحمدت الله تعالى‏.‏

قال الواقدي‏:‏ ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل صداقها عتق أربعين من بني المصطلق‏.‏

وذكر موسى بن عقبة، عن بني المصطلق‏:‏ أن أباها طلبها وافتداها، ثم خطبها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه إياها‏.‏

 

 

 قصة الإفك

وهذا سياق محمد بن إسحاق حديث الإفك‏:‏ قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني الزهري، عن علقمة بن وقاص وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن عبيد الله بن عتبة‏.‏

قال الزهري‏:‏ وكل قد حدثني بهذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض، وقد جمعت كل الذي حدثني القوم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، وعبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، عن نفسها حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعاً، يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه، وكل كان عنها ثقة، فكلهم حدث عنها بما سمع‏.‏

قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كان غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه، كما كان يصنع، فخرج سهمي عليهن معه، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قالت‏:‏ وكان النساء إذ ذاك يأكلن العلق، لم يهجهن اللحم فيثقلن، وكنت إذا رحل لي بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين كانوا يرحلون لي فيحملونني ويأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير، فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به‏.‏

قالت‏:‏ فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك، وجه قافلاً حتى إذا كان قريباً من المدينة نزل منزلاً فبات به بعض الليل، ثم أذن مؤذن في الناس بالرحيل، فارتحل الناس وخرجت لبعض حاجتي، وفي عنقي عقد لي فيه جزع ظفار، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته‏.‏

وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون لي البعير، وقد كانوا فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه، كما كنت أصنع فاحتملوه فشدوه على البعير، ولم يشكوا أني فيه ثم أخذوا برأس البعير، فانطلقوا به فرجعت إلى العسكر وما فيه داع ولا مجيب، قد انطلق الناس‏.‏

قالت‏:‏ فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو افتقدت لرجع الناس إلي‏.‏

قالت‏:‏ فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجاته، فلم يبت مع الناس فرأى سوادي فأقبل حتى وقف علي، وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فلما رآني قال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ وأنا متلففة في ثيابي‏.‏

قال‏:‏ ما خلفك يرحمك الله ‏؟‏

قالت‏:‏ فما كلمته‏.‏

ثم قرب إلي البعير فقال‏:‏ اركبي، واستأخر عني‏.‏

قالت‏:‏ فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعاً يطلب الناس، فوالله ما أدركنا الناس وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي، فقال أهل الإفك ما قالوا، وارتج العسكر، والله ما أعلم بشيء من ذلك‏.‏

ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة لا يبلغني من ذلك شيء، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبوي لا يذكرون لي منه قليلاً ولا كثيراً، إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي، كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي، فلم يفعل ذلك بي في شكواي ذلك، فأنكرت ذلك منه‏.‏

كان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف تيكم ‏؟‏‏)‏‏)‏ لا يزيد على ذلك‏.‏

قالت‏:‏ حتى وجدت في نفسي، فقلت‏:‏ يا رسول الله حين رأيت ما رأيت من جفائه لي لو أذنت لي، فانتقلت إلى أمي فمرضتني ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا عليك‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فانقلبت إلى أمي، ولا علم لي بشيء مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع عشرين ليلة، وكنا قوماً عرباً لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، إنما كنا نخرج في فسح المدينة، وإنما كانت النساء يخرجن في كل ليلة في حوائجهن، فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب‏.‏

قالت‏:‏ فوالله إنها لتمشي معي إذ عثرت في مرطها فقالت‏:‏ تعس مسطح - ومسطح لقب واسمه عوف - قالت‏:‏ فقلت‏:‏ بئس لعمرو الله ما قلت لرجل من المهاجرين وقد شهد بدراً‏.‏

قالت‏:‏ أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر ‏؟‏

قالت‏:‏ قلت‏:‏ وما الخبر ‏؟‏

فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك‏.‏

قلت‏:‏ أو قد كان هذا ‏؟‏

قالت‏:‏ نعم والله لقد كان‏.‏

قالت‏:‏ فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي، ورجعت فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي؛ قالت‏:‏ وقلت لأمي‏:‏ يغفر الله لك تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً ‏؟‏

قالت‏:‏ أي بنية خففي عليك الشأن، فوالله لقل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها‏.‏

قالت‏:‏ وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فخطبهم ولا أعلم بذلك، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت عليهم إلا خيراً، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً، ولا يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن امرأة من نسائه تناصيني في المنزلة عنده غيرها، فأما زينب فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيراً، وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضارني لأختها فشقيت بذلك‏.‏

فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة، قال أسيد بن حضير‏:‏ يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا أمرك، فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم‏.‏ ‏

قالت‏:‏ فقام سعد بن عبادة، وكان قبل ذلك يرى رجلاً صالحاً فقال‏:‏ كذبت لعمر الله ما تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا‏.‏

فقال أسيد بن حضير‏:‏ كذبت لعمر الله، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين‏.‏

قالت‏:‏ وتساور الناس حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل علي، فدعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيراً وقاله‏.‏

ثم قال‏:‏ يا رسول الله أهلك، وما نعلم منهم إلا خيراً، وهذا الكذب والباطل‏.‏

وأما علي فإنه قال‏:‏ يا رسول الله إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية فإنها ستصدقك‏.‏

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة يسألها، قالت‏:‏ فقام إليها علي فضربها ضرباً شديداً ويقول‏:‏ أصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قالت‏:‏ فتقول والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب على عائشة شيئاً إلا أني كنت أعجن عجيني فأمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتي الشاة فتأكله‏.‏

قالت‏:‏ ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أبواي، وعندي امرأة من الأنصار وأنا أبكي وهي تبكي، فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله، وإن كنت قد فارقت سوءاً مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فوالله إن هو إلا أن قال لي ذلك، فقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئاً، وانتظرت أبوي أن يجيبا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتكلما‏.‏

قالت‏:‏ وأيم الله لأنا كنت أحقر في نفسي، وأصغر شأنا من أن ينزل الله في قرأنا يقرأ به ويصلى به، ولكني كنت أرجو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه شيئاً يكذب الله به عني، لما يعلم من براءتي، ويخبر خبراً، وأما قرآناً ينزل في فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك‏.‏

قالت‏:‏ فلما لم أرَ أبوي يتكلمان، قلت لهما‏:‏ ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

فقالا‏:‏ والله ما ندري بما نجيبه‏.‏

قالت‏:‏ ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل علي آل أبي بكر في تلك الأيام‏.‏

قالت‏:‏ فلما استعجما علي استعبرت فبكيت، ثم قلت‏:‏ والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس، والله يعلم أني منه بريئة، لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني‏.‏

قالت‏:‏ ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت‏:‏ ولكن سأقول كما قال أبو يوسف‏:‏ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون‏.‏

قالت‏:‏ فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجي بثوبه، ووضعت وسادة من أدم تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فوالله ما فزعت وما باليت قد عرفت أني بريئة، وأن الله غير ظالمي‏.‏

وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس‏.‏

قالت‏:‏ ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وإنه ليتحدر من وجهه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن وجهه ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشري يا عائشة قد أنزل الله عز وجل براءتك‏)‏‏)‏ قالت‏:‏ قلت الحمد لله‏.‏

ثم خرج إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله عز وجل من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدهم‏.‏

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن الزهري، وهذا السياق فيه فوائد جمة، وذكر حد القذف لحسان ومن معه رواه أبو داود في سننه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال قائل من المسلمين في ضرب حسان وأصحابه‏:‏

لقد ذاق حسان الذي كان أهله * وحمنة إذ قالوا هجيراً ومسطح

تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم * وسخطة ذي العرش الكريم فأترحوا

وآذوا رسول الله فيها فجللوا * مخازي تبقى عمموها وفضِّحوا

وصبت عليهم محصدات كأنها * شآبيب قطر في ذرا المزن تسفح

وقد ذكر ابن إسحاق أن حسان بن ثابت قال شعراً يهجو فيه صفوان بن المعطل، وجماعة من قريش ممن تخاصم على الماء من أصحاب جهجهاه كما تقدم، أوله هي‏:‏

أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا * وابن الفريعة أمسى بيضة البلد

قد ثكلت أمه من كنت صاحبه * أو كان منتشباً في برثن الأسد

ما لقتيلي الذي أعدو فآخذه * من دية فيه يعطاها ولا قود

ما البحر حين تهب الريح شامية * فيغطئل ويرمي العبر بالزبد

يوماً بأغلب مني حين تبصرني * مِلْغيظ أفري كفري العارض البرد

أما قريش فإني لا أسالمها * حتى ينيبوا من الغياث للرشد

ويتركوا اللات والعزى بمعزلة * ويسجدوا كلهم للواحد الصمد

ويشهدوا أن ما قال الرسول لهم * حق فيوفوا بحق الله والوكد

قال‏:‏ فاعترضه صفوان بن المعطل فضربه بالسيف وهو يقول‏:‏

تلقَ ذباب السيف عني فإنني * غلام إذا هوجيت لست بشاعر

وذكر أن ثابت بن قيس بن شماس أخذ صفوان حين ضرب حسان فشده وثاقاً، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال‏:‏ ضُرب حسان بالسيف، فقال عبد الله‏:‏ هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك‏؟‏

قال‏:‏ لا، فأطلقه‏.‏

ثم أتوا كلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن المعطل‏:‏ يا رسول الله آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حسان أتشوهت على قومي إذ هداهم الله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أحسن يا حسان فيما أصابك‏)‏‏)‏ فقال‏:‏ هي لك يا رسول الله، فعوضه منها بيرحاء التي تصدق بها أبو طلحة وجارية قبطية يقال لها‏:‏ سيرين، جاءه منها ابنه عبد الرحمن‏.‏

قال‏:‏ وكانت عائشة تقول‏:‏ سُئل عن ابن المعطل فوجد رجلاً حصوراً ما يأتي النساء، ثم قتل بعد ذلك شهيداً رضي الله عنه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم قال حسان بن ثابت يعتذر من الذي كان قال في شأن عائشة‏:‏

حصان رزان ما تزن بريبة * وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

عقيلة حي من لؤي بن غالب * كرام المساعي مجدهم غير زائل

وإن الذي قد قيل ليس بلائط * بك الدهر بل قيل امرئ بي ما حل

فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم * فلا رفعت سوطي إلى أناملي

فكيف وودي ما حييت ونصرتي * لآل رسول الله زين المحافل

وإن لهم عزاً ترى الناس دونه * قصاراً وطال العز كل التطاول

ولتكتب ها هنا الآيات من سورة النور، وهي من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى ‏{‏لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ ‏[‏11- 26‏]‏‏.‏

وما أوردناه هنالك من الأحاديث والطرق والآثار عن السلف والخلف، وبالله التوفيق‏.‏ ‏

 غزوة الحديبية

وقد كانت في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف، وممن نصَّ على ذلك الزهري، ونافع مولى ابن عمر، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق بن يسار وغيرهم‏.‏

وهو الذي رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة أنها كانت في ذي القعدة سنة ست‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا إسماعيل بن الخليل عن علي بن مسهر، أخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان، وكانت الحديبية في شوال، وهذا غريب جداً عن عروة‏.‏

وقد روى البخاري ومسلم جميعاً‏:‏ عن هدبة، عن همام، عن قتادة أن أنس بن مالك أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا العمرة التي مع حجته عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، ومن الجعرانة في ذي القعدة، حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته‏.‏

وهذا لفظ البخاري‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة رمضان وشوال، وخرج في ذي القعدة معتمراً لا يريد حرباً‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت ومعظماً له‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً، وساق معه الهدي سبعين بدنة‏.‏

وكان الناس سبعمائة رجل، وكانت كل بدنة عن عشرة نفر، وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني يقول‏:‏ كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة‏.‏

قال الزهري‏:‏ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال‏:‏ يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا ويح قريش ‏!‏ قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش فوالله، لا أزال أجاهد على هذا الذي بعثني الله به حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رجلاً من أسلم قال‏:‏ أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقاً وعراً أجرل بين شعاب، فلما خرجوا منه وقد شق ذلك على المسلمين فأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله للناس‏:‏ ‏(‏‏(‏قولوا نستغفر الله ونتوب إليه‏)‏‏)‏ فقالوا ذلك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض في طريق يخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته، فقال الناس‏:‏ خلأت‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطه يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال للناس‏:‏ ‏(‏‏(‏انزلوا‏)‏‏)‏‏.‏

قيل له‏:‏ يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه، فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل به في قليب من تلك القلب، فغرزه في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم‏:‏ أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد زعم بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول‏:‏ أنا الذي نزلت بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله أعلم أي ذلك كان‏.‏

ثم استدل ابن إسحاق للأول أن جارية من الأنصار جاءت البئر وناجية أسفله يميح فقالت‏:‏

يا أيها المائح دلوي دونكا * إني رأيت الناس يحمدونكا

يثنون خيرا ويمجدونكا

فأجابها فقال‏:‏

قد علمت جارية يمانيه * أني أنا المائح واسمي ناجية

وطعنة ذات رشاش واهيه * طعنتها عند صدور العادية

قال الزهري في حديثه‏:‏ فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه ما الذي جاء به‏؟‏ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حرباً وإنما جاء زائراً للبيت ومعظماً لحرمته‏.‏ ‏

ثم قال لهم نحو ما قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا‏:‏ يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، وإن محمداً لم يأت لقتال إنما جاء زائراً لهذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم وقالوا‏:‏ وإن جاء ولا يريد قتالاً فوالله لا يدخلها علينا عنوة، ولا تحدث بذلك عنا العرب‏.‏

قال الزهري‏:‏ وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئاً كان بمكة، قال‏:‏ ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا رجل غادر‏)‏‏)‏‏.‏

فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً مما قال لبديل وأصحابه‏.‏

فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعثوا بحليس بن علقمة أو ابن زبان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة‏.‏

فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى، فقال لهم ذلك‏.‏

قال‏:‏ فقالوا له اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عبد الله بن أبي بكر‏:‏ أن الحليس غضب عند ذلك وقال‏:‏ يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاهدناكم، أيصد عن بيت الله من جاءه معظماً له‏؟‏ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد‏.‏

قالوا‏:‏ مه كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به‏.‏

قال الزهري في حديثه‏:‏ ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي فقال‏:‏ يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي‏.‏

قالوا‏:‏ صدقت ما أنت عندنا بمتهم‏.‏

فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ثم قال‏:‏ يا محمد أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً‏.‏

قال‏:‏ وأبو بكر الصديق رضي الله عنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ امصص بظر اللات أنحن ننكشف عنه‏.‏

قال‏:‏ من هذا يا محمد‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا ابن أبي قحافة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ولكن هذه بهذه‏.‏

قال‏:‏ ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد‏.‏

قال‏:‏ فجعل يقرع يده إذ يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول‏:‏ اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك‏.‏

قال‏:‏ فيقول عروة‏:‏ ويحك ما أفظك وأغلظك‏.‏

قال‏:‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عروة‏:‏ من هذا يا محمد ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ أي غدر وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس ‏؟‏

قال الزهري‏:‏ فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما كلم به أصحابه وأخبره أنه لم يأت يريد حرباً، فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه‏.‏

فرجع إلى قريش فقال‏:‏ يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً فروا رأيكم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني بعض من لا أتهم، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أن قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين، أمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً‏.‏

فأخذوا فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل‏.‏

ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال يا رسول الله‏:‏ إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان‏.‏

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته‏.‏

فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به‏.‏

فقالوا لعثمان حين بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن شئت أن تطوف بالبيت فطف‏.‏

قال‏:‏ ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نبرح حتى نناجز القوم‏)‏‏)‏ ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، وكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وكان الناس يقولون‏:‏ بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت‏.‏

وكان جابر بن عبد الله يقول‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين إلا حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، وكان جابر بن عبد الله يقول‏:‏ والله لكأني أنظر إليه لاصقاً بأبط ناقته قد ضبأ إليها يستر من الناس‏.‏

ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وذكر وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي‏:‏ أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وحدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان فضرب بإحدى يديه على الأخرى‏.‏

وهذا الحديث الذي ذكره ابن هشام بهذا الإسناد ضعيف لكنه ثابت في الصحيحين‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ قال الزهري‏:‏ ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ آت محمداً وصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها عنوة أبداً‏.‏

فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل‏)‏‏)‏‏.‏

فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام، تراجعا ثم جرى بينهما الصلح، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر فأتى أبا بكر فقال‏:‏ يا أبا بكر أليس برسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ أولسنا بالمسلمين ‏؟‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ أوليسوا بالمشركين ‏؟‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فعلام نعطي الدينة في ديننا ‏؟‏

قال أبو بكر‏:‏ يا عمر الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله‏.‏

قال عمر‏:‏ وأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله ألست برسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ أولسنا بالمسلمين ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ أوليسوا بالمشركين ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فعلام نعطي الدنية في ديننا قال أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني، وكان عمر رضي الله عنه يقول ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيراً‏.‏

قال‏:‏ ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اكتب بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقال سهيل‏:‏ لا أعرف هذا ولكن أكتب باسمك اللهم‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اكتب باسمك اللهم‏)‏‏)‏ فكتبها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقال سهيل‏:‏ لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه لا أسلال ولا أغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه‏)‏‏)‏‏.‏

فتواثبت خزاعة فقالوا‏:‏ نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا‏:‏ نحن في عقد قريش وعهدهم، وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت فيها ثلاثاً معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها‏.‏ ‏

قال‏:‏ فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم، حتى كادوا يهلكون، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وقال‏:‏ يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏صدقت‏)‏‏)‏ فجعل ينتره بتلبيبه ويجره يعني يرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته‏:‏ يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ‏!‏ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، أنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وأنا لا نغدر بهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول‏:‏ اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب، قال‏:‏ ويدني قائم السيف منه‏.‏

قال‏:‏ يقول عمر‏:‏ رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه‏.‏

قال‏:‏ فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية‏.‏

فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين، ورجالاً من المشركين أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص، وهو يومئذ مشرك، وعلي بن أبي طالب، وكتب وكان هو كاتب الصحيفة‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرباً في الحل وكان يصلي في الحرم، فلما فرغ من الصلح قام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يرحم الله المحلقين‏)‏‏)‏ قالوا‏:‏ والمقصرين يا رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يرحم الله المحلقين‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ والمقصرين يا رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يرحم الله المحلقين‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ والمقصرين يا رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏والمقصرين‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا يا رسول الله‏:‏ فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لم يشكو‏)‏‏)‏‏.‏

وقال عبد الله بن أبي نجيح‏:‏ حدثني مجاهد، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هداياه جملاً لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ بذلك المشركين‏.‏ ‏

هذا سياق محمد بن إسحاق رحمه الله لهذه القصة، وفي سياق البخاري كما سيأتي مخالفة في بعض الأماكن لهذا السياق كما ستراها إن شاء الله وبه الثقة، ولنوردها بتمامها ونذكر في الأحاديث الصحاح والحسان ما فيه‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إن شاء الله تعالى، وعليه التكلان وهو المستعان‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله، عن زيد بن خالد قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأصابنا مطر ذات ليلة، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتدرون ماذا قال ربكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قال الله تعالى أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنجم كذا فهو مؤمن بالكوكب كافر بي‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه في غير موضع من صحيحه، ومسلم من طرق عن الزهري‏.‏

وقد روي عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال‏:‏ تعدون الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية‏.‏

كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا‏.‏

انفرد به البخاري‏.‏

وقال ابن إسحاق في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ صلح الحديبية‏.‏

قال الزهري‏:‏ فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس كلم بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ والدليل على ما قاله الزهري‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة رجل في قول جابر، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا يوسف بن عيسى، حدثنا ابن فضيل، حدثنا حصين، عن سالم، عن جابر قال‏:‏ عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما لكم ‏؟‏‏)‏‏)‏

‏قالوا‏:‏ يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا ما نشرب إلا ما في ركوتك، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون‏.‏

قال‏:‏ فشربنا وتوضأنا‏.‏

فقلنا لجابر‏:‏ كم كنتم يومئذ ‏؟‏

قال‏:‏ لو كنا مائة ألف لكفأنا، كنا خمس عشرة مائة‏.‏

وقد رواه البخاري أيضاً، ومسلم من طرق‏:‏ عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد عن جابر به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قلت لسعيد بن المسيب‏:‏ بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول‏:‏ كانوا أربع عشرة مائة‏.‏

فقال لي سعيد‏:‏ حدثني جابر كانوا خمس عشرة مائة، الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية‏.‏

تابعه أبو داود‏:‏ حدثنا قرة، عن قتادة، تفرد به البخاري‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان قال عمرو‏:‏ سمعت جابراً قال‏:‏ قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية‏:‏ ‏(‏‏(‏أنتم خير أهل الأرض‏)‏‏)‏ وكنا ألفاً وأربعمائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة‏.‏

وقد روى البخاري أيضاً، ومسلم من طرق‏:‏ عن سفيان بن عيينة به‏.‏

وهكذا رواه الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ إن عبداً لحاطب جاء يشكوه فقال‏:‏ يا رسول الله ليدخلن حاطب النار‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كذبت لا يدخلها شهد بدراً والحديبية‏)‏‏)‏ رواه مسلم‏.‏

وعند مسلم أيضاً من طرق ابن جريج‏:‏ أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول‏:‏ أخبرتني أم ميسر أنها سمعت الله رسول الله صلى عليه وسلم يقول عند حفصة‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يدخل أحد النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت حفصة‏:‏ بلى يا رسول الله، فانتهرها فقالت حفصة‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 71‏]‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 72‏]‏‏.‏

قال البخاري‏:‏ وقال عبيد الله بن معاذ‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، حدثني عبد الله بن أبي أوفى قال‏:‏ كان أصحاب الشجرة ألفاً وثلثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين‏.‏

تابعه محمد بن بشار‏:‏ حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، هكذا رواه البخاري معلقاً عن عبد الله‏.‏ ‏‏

وقد رواه مسلم عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة به‏.‏

وعن محمد بن المثنى، عن أبي داود، عن إسحاق بن إبراهيم، عن النضر بن شميل كلاهما عن شعبة به‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن مروان والمسور بن مخرمة قالا‏:‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعر وأحرم منها‏.‏

تفرد به البخاري، وسيأتي هذا السياق بتمامه، والمقصود أن هذه الروايات كلها مخالفة لما ذهب إليه ابن إسحاق من أن أصحاب الحديبية كانوا سبع مائة، وهو والله أعلم إنما قال ذلك تفقهاً من تلقاء نفسه، من حيث أن البدن كن سبعين بدنة، وكل منها عن عشرة على اختياره، فيكون المهلون سبع مائة، ولا يلزم أن يهدي كلهم، ولا أن يحرم كلهم أيضاً‏.‏

فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طائفة منهم فيهم أبو قتادة ولم يحرم أبو قتادة حتى قتل ذلك الحمار الوحشي فأكل منه هو وأصحابه، وحملوا منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء الطريق فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فكلوا ما بقي من الحمار‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا شعبة بن الربيع، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة‏:‏ أن أباه حدثه قال‏:‏ انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأحرم أصحابي ولم أحرم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن رافع، حدثنا شبابة بن سوار الفزاري، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال‏:‏ لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد، فلم أعرفها‏.‏

حدثنا موسى، حدثنا أبو عوانة، حدثنا طارق، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه‏:‏ أنه كان فيمن بايع تحت الشجرة فرجعنا إليها العام المقبل فعميت علينا‏.‏

وقال البخاري أيضاً‏:‏ حدثنا محمود، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن طارق بن عبد الرحمن قال‏:‏ انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون فقلت‏:‏ ما هذا المسجد ‏؟‏

قالوا‏:‏ هذه الشجرة حيث بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد‏:‏ حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال‏:‏ فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها‏.‏

ثم قال سعيد‏:‏ إن أصحاب محمد لم يعلموها وعلمتموها أنتم ‏!‏ فأنتم أعلم‏.‏

ورواه البخاري، ومسلم من حديث الثوري، وأبي عوانة، وشبابة عن طارق‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا سعيد، حدثني أخي، عن سليمان، عن عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم قال‏:‏ لما كان يوم الحرة والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة، فقال ابن زيد‏:‏ على ما يبايع ابن حنظلة الناس ‏؟‏

قيل له‏:‏ على الموت‏.‏

فقال‏:‏ لا أبايع على ذلك أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شهد معه الحديبية‏.‏

وقد رواه البخاري أيضاً، ومسلم من طرق، عن عمرو بن يحيى به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد قلت لسلمة بن الأكوع‏:‏ على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية‏؟‏

قال‏:‏ على الموت‏.‏

ورواه مسلم من حديث يزيد بن أبي عبيد‏.‏ وفي صحيح مسلم عن سلمة أنه بايع ثلاث مرات‏:‏ في أوائل الناس، ووسطهم، وأواخرهم‏.‏

وفي الصحيح عن معقل بن يسار أنه كان آخذاً بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس، وكان أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ‏:‏ أبو سنان، وهو وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن، وقيل‏:‏ سنان بن أبي سنان‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثني شُجاع بن الوليد، سمع النضر بن محمد، حدثنا صخر بن الربيع، عن نافع قال‏:‏ إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر وليس كذلك‏.‏

ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله فانطلق، فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي تحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر‏.‏

وقال هشام بن عمار‏:‏ حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عمر بن محمد العمري، أخبرني نافع عن ابن عمر أن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجرة، فإذا الناس محدِّقون بالنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ يا عبد الله أنظر ما شأن الناس، قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع‏.‏

تفرد به البخاري من هذين الوجهين‏.‏

سياق البخاري لعمرة الحديبية

قال في كتاب ‏(‏المغازي‏)‏‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث حفظت بعضه، وثبتني معمر، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه، قالا‏:‏

خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي، وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عيناً له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه قال‏:‏ إن قريشاً قد جمعوا لك جموعاً، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ومانعوك‏.‏

فقال‏:‏ أشيروا أيها الناس عليَّ أترون أن أميل إلى عيالهم، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله قد قطع عيناً من المشركين، وإلا تركنا لهم محروبين‏.‏ ‏

قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏امضوا على اسم الله‏)‏‏)‏ هكذا رواه ها هنا، ووقف ولم يزد شيئاً على هذا‏.‏

وقال في كتاب ‏(‏الشهادات‏)‏‏:‏ حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، أخبرني الزهري، أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا‏:‏

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين‏)‏‏)‏‏.‏

فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي هبط عليهم منها، بركت به راحلته فقال الناس‏:‏ حل حل، فألحت‏.‏

فقالوا‏:‏ خلأت القصواء، خلأت القصواء‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها‏)‏‏)‏‏.‏

ثم زجرها فوثبت، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه‏.‏

فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة - وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة - فقال‏:‏ إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن أمر الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال بديل‏:‏ سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشاً فقال‏:‏ إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا‏.‏

فقال سفهاؤهم‏:‏ لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء‏.‏

وقال ذوو الرأي منهم‏:‏ هات ما سمعته يقول‏.‏

قال‏:‏ سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال‏:‏ أي قوم ألست بالوالد ‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ أولستم بالولد ‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فهل تتهموني ‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه‏.‏

فقالوا‏:‏ ائته‏.‏

فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل‏.‏

فقال عروة عند ذلك‏:‏ أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك‏؟‏ وإن تكن الأخرى فإني والله لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك‏.‏

فقال له أبو بكر‏:‏ امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه ‏؟‏

قال‏:‏ من ذا ‏؟‏

قالوا‏:‏ أبو بكر‏.‏

قال‏:‏ أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك‏.‏

قال‏:‏ وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف وقال له‏:‏ أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فرفع عروة رأسه فقال‏:‏ من هذا ‏؟‏

قالوا‏:‏ المغيرة بن شعبة‏.‏

فقال‏:‏ أي غدر، ألست أسعى في غدرتك ‏؟‏

وكان المغيرة بن شعبة صحب قوماً في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء‏)‏‏)‏‏.‏

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له‏.‏

فرجع عروة إلى أصحابه فقال‏:‏ أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً‏.‏

والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها‏.‏

فقال رجل من بني كنانة‏:‏ دعوني آتيه‏.‏

فقالوا‏:‏ ائته‏.‏

فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له‏)‏‏)‏‏.‏

فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال‏:‏ سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال‏:‏ رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت‏.‏

فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال‏:‏ دعونى آتيه‏.‏

قالوا‏:‏ ائته، فلما أشرف عليهم، فلما أشرف عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا مكرز وهو رجل فاجر‏)‏‏)‏‏.‏

فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو‏.‏

قال معمر‏:‏ فأخبرني أيوب عن عكرمة‏:‏ أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد سهل لكم من أمركم‏)‏‏)‏

قال معمر‏:‏ قال الزهري في حديثه‏:‏ فجاء سهيل فقال‏:‏ هات فاكتب بيننا وبينكم كتاباً‏.‏

فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اكتب بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال سهيل‏:‏ أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب‏.‏

فقال المسلمون‏:‏ والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اكتب باسمك اللهم‏)‏‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله‏)‏‏)‏‏.‏

فقال سهيل‏:‏ والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال الزهري‏:‏ وذلك لقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به‏)‏‏)‏‏.‏

قال سهيل‏:‏ والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل‏.‏ فكتب‏.‏

فقال سهيل‏:‏ وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا‏.‏

قال المسلمون‏:‏ سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً ‏؟‏

فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين‏.‏

فقال سهيل‏:‏ هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنا لم نقض الكتاب بعد‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فأجزه لي‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ما أنا بمجيزه لك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى فافعل‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ما أنا بفاعل‏.‏

قال مكرز‏:‏ بلى قد أجزناه لك‏.‏

قال أبو جندل‏:‏ أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت - وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله -

فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ ألست نبي الله حقاً‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإنك آتيه ومطوف به‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأتيت أبا بكر فقلت‏:‏ يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً ‏؟‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قلت‏:‏ ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ‏؟‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ‏؟‏

قال‏:‏ أيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق‏.‏

قلت‏:‏ أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ‏؟‏

قال‏:‏ بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام ‏؟‏

فقلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فإنك آتيه ومطوف به‏.‏

قال الزهري‏:‏ قال عمر‏:‏ فعملت لذلك أعمالاً‏.‏

قال‏:‏ فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا فانحروا ثم احلقوا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس‏.‏

فقالت أم سلمة‏:‏ يا نبي الله أتحب ذلك‏؟‏ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك‏:‏ نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً‏.‏ ‏

ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ‏}‏ حتى بلغ ‏{‏بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏‏.‏

فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية‏.‏

ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا‏:‏ العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم‏.‏

فقال أبو بصير لأحد الرجلين‏:‏ والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال‏:‏ أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت‏.‏

فقال أبو بصير‏:‏ أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه به حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد رأى هذا ذعراً‏)‏‏)‏ فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قتل والله صاحبي وإني لمقتول‏.‏

فجاء أبو بصير فقال‏:‏ يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد‏)‏‏)‏‏.‏

فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر‏.‏

قال‏:‏ وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم‏.‏

فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو أمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ‏}‏ حتى بلغ ‏{‏الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت‏.‏

فهذا سياق فيه زيادات وفوائد حسنة ليست في رواية ابن إسحاق عن الزهري‏.‏

فقد رواه عن الزهري عن جماعة منهم‏:‏ سفيان بن عيينة، ومعمر، ومحمد بن إسحاق، كلهم عن الزهري، عن عروة، عن مروان ومسور، فذكر القصة‏.‏

وقد رواه البخاري في أول كتاب الشروط عن يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر القصة‏.‏

وهذا هو الأشبه فإن مروان ومسوراً كانا صغيرين يوم الحديبية، والظاهر أنهما أخذاه عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا الحسن بن إسحاق، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا مالك بن مغول، سمعت أبا حصين قال‏:‏ قال أبو وائل‏:‏ لما قدم سهيل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره فقال‏:‏

اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا عن عواتقنا لأمر يقطعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما نسد منها خصماً إلا انفجر علينا خصم، ما ندري كيف نأتي له‏.

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره، وكان عمر بن الخطاب يسير معه ليلاً، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه‏.‏

فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك‏.‏

قال عمر‏:‏ فحركت بعيري، ثم تقدمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل فيَّ قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قرأ‏:‏ ‏{‏إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد تكلمنا على سورة الفتح بكمالها في كتابنا التفسير بما فيه الكفاية، ولله الحمد والمنة، ومن أحب أن يكتب ذلك هنا فليفعل‏.‏

 فصل في السرايا التي كانت في سنة ست من الهجرة

وتلخيص ذلك ما أورده الحافظ البيهقي، عن الواقدي‏:‏

في ربيع الأول منها أو الآخر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن في أربعين رجلاً إلى الغمر، وفيهم ثابت بن أقرن وسباع بن وهب، فأغذا السير ونذر القوم بهم، فهربوا منه ونزل على مياههم، وبعث في آثارهم وأخذ منهم مائتي بعير فاستاقها إلى المدينة‏.‏ ‏

وفيها كان بعث أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة بأربعين رجلاً أيضاً، فساروا إليهم مشاة، حتى أتوها في عماية الصبح، فهربوا منه في رؤوس الجبال، فأسر منهم رجلاً فقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه محمد بن مسلمة في عشرة نفر، وكمن القوم لهم حتى باتوا، فما شعروا إلا بالقوم فقتل أصحاب محمد بن مسلمة كلهم، وأفلت هو جريحاً‏.‏

وفيها كان بعث زيد بن حارثة بالحموم، فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلتهم على محلة من محال بني سليم، فأصابوا منها نعماً وشاءً وأسروا من المشركين، وكان فيهم زوج حليمة هذه، فوهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها وأطلقهما‏.‏

وفيها كان بعث زيد بن حارثة أيضاً في جمادى الأولى إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلاً، فهربت منه الأعراب فأصاب من نعمهم عشرين بعيراً، ثم رجع بعد أربع ليال‏.‏

وفيها خرج زيد بن حارثة في جمادى الأولى إلى العيص‏.‏

قال‏:‏ وفيها أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع فاستجار بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجارته‏.‏

وقد ذكر ابن إسحاق قصته حين أخذت العير التي كانت معه، وقتل أصحابه وفر هو من بينهم حتى قدم المدينة، وكانت امرأته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هاجرت بعد بدر، فلما جاء المدينة استجار بها فأجارته بعد صلاة الصبح، فأجاره لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس برد ما أخذوا من عيره فردوا كل شيء كانوا أخذوه منه حتى لم يفقد منه شيئاً‏.‏

فلما رجع بها إلى مكة وأدى إلى أهلها ما كان لهم معه من الودائع أسلم، وخرج من مكة راجعاً إلى المدينة، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته بالنكاح الأول، ولم يحدث نكاحاً ولا عقداً كما تقدم بيان ذلك‏.‏

وكان بين إسلامه وهجرتها ست سنين، وقد بينا أنه لا منافاة بين الروايتين، وأن إسلامه تأخر عن وقت تحريم المؤمنات على الكفار بسنتين، وكان إسلامه في سنة ثمان في سنة الفتح، لا كما تقدم في كلام الواقدي من أنه سنة ست، فالله أعلم‏.‏

وذكر الواقدي في هذه السنة أن دحية بن خليفة الكلبي أقبل من عند قيصر قد أجازه بأموال وخلع، فلما كان بحسمى لقيه ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق فلم يتركوا معه شيئاً، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة أيضاً رضي الله عنه‏.‏ ‏

قال الواقدي‏:‏ حدثني عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة قال‏:‏ خرج علي رضي الله عنه في مائة رجل إلى أن نزل إلى حي من بني أسد بن بكر، وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعاً يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار إليهم بالليل وكمن بالنهار، وأصاب عيناً لهم فأقر له أنه بعث إلى خيبر يعرض عليهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر‏.‏

قال الواقدي رحمه الله تعالى‏:‏ وفي سنة ست في شعبان كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هم أطاعوا فتزوج بنت ملكهم‏)‏‏)‏ فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن بنت ملكهم تماضر بنت الأصبع الكلبية، وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف‏.‏

قال الواقدي‏:‏ في شوال سنة ست كانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم كرز بن جابر في عشرين فارساً، فردوهم وكان من أمرهم ما أخرجه البخاري ومسلم‏:‏ من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك‏:‏

أن رهطاً من عكل وعرينة - وفي رواية‏:‏ من عكل أو عرينة - أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله أنا أناس أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، فاستوخمنا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة، قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، وكفرو بعد إسلامهم‏.‏

فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأمر بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمَّر أعينهم، وتركهم في الحَّرة حتى ماتوا وهم كذلك‏.‏

قال قتادة‏:‏ فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب بعد ذلك حض على الصدقة، ونهى عن المثلة‏.‏

وهذا الحديث قد رواه جماعة عن قتادة‏.‏

ورواه جماعة عن أنس بن مالك‏.‏

وفي رواية مسلم‏:‏ عن معاوية بن قرة، عن أنس‏:‏ أن نفراً من عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وبايعوه، وقد وقع في المدينة الموم - وهو البرسام - فقالوا‏:‏ هذا الموم قد وقع يا رسول الله، لو أذنت لنا فرجعنا إلى الإبل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم فاخرجوا فكونوا فيها‏)‏‏)‏ فخرجوا فقتلوا الراعيين، وذهبوا بالإبل، وعنده سار من الأنصار قريب عشرين، فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفاً يقتص أثرهم، فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمَّر أعينهم‏.‏

وفي صحيح البخاري‏:‏ من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس أنه قال‏:‏ قدم رهط من عكل فأسلموا واجتووا المدينة، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الحقوا بالإبل واشربوا من أبوالها وألبانها‏)‏‏)‏‏.‏

فذهبوا وكانوا فيها ما شاء الله، فقتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فجاء الصريخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ترتفع الشمس حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت فكواهم بها، وقطع أيديهم وأرجلهم، وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ولم يحمهم‏.‏

وفي رواية عن أنس قال‏:‏ فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه من العطش‏.‏

قال أبو قلابة‏:‏ فهؤلاء قتلوا، وسرقوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد روى البيهقي‏:‏ من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن سليمان، عن محمد بن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث في آثارهم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم عمِ عليهم الطريق واجعلها عليهم أضيق من مسك جمل‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فعمَّى الله عليهم السبيل فأدركوا، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمَّل أعينهم‏.‏

وفي صحيح مسلم‏:‏ إنما سملهم لأنهم سملوا أعين الرعاء‏.‏

 فصل فيما وقع من الحوادث في هذه السنة

أعني سنة ست من الهجرة، فيها نزل فرض الحج كما قرره الشافعي رحمه الله، زمن الحديبية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ولهذا ذهب إلى أن الحج على التراخي لا على الفور، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في سنة عشر‏.‏

وخالفه الثلاثة‏:‏ مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، فعندهم أن الحج يجب على كل من استطاعه على الفور، ومنعوا أن يكون الوجوب مستفاداً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ وإنما في هذه الآية الأمر بالإتمام بعد الشروع فقط، واستدلوا بأدلة قد أوردنا كثيراً منها عند تفسير هذه الآية من كتابنا التفسير، ولله الحمد والمنة، بما فيه الكفاية‏.‏

وفي هذه السنة حُرِّمت المسلمات على المشركين تخصيصاً لعموم ما وقع به الصلح عام الحديبية، على أنه لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك إلا رددته علينا، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ‏

وفي هذه السنة كانت غزوة المريسيع، التي كان فيها قصة الإفك ونزول براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما تقدم‏.‏

وفيها كانت عمرة الحجيبية، وما كان من صد المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف وقع الصلح بينهم على وضع الحرب بينهم عشر سنين، فأمن الناس فيهن بعضهم بعضاً، وعلى أنه لا إغلال ولا إسلال، وقد تقدم كل ذلك مبسوطاً في أماكنه، ولله الحمد والمنة‏.‏

وولي الحج في هذه السنة المشركون‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفيها في ذي الحجة منها‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر، مصطحبين حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، وشجاع بن وهب بن أسد بن جذيمة، شهد بدراً، إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يعني‏:‏ ملك عرب النصارى‏.‏

ودحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر، وهو هرقل ملك الروم، وعبد الله بن حذافة السهمي، إلى كسرى ملك الفرس، وسليط بن عمرو العامري، إلى هوذة بن علي الحنفي، وعمرو بن أمية الضمري، إلى النجاشي ملك النصارى بالحبشة وهو أصحمة بن الحر‏.‏