سنة سبع من الهجرة غزوة خيبر في أولها
قال شعبة: عن الحاكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله: {وأثابهم فتحاً قريباً} قال: خيبر.
وقال موسى بن عقبة: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية مكث عشرين يوماً أو قريباً من ذلك، ثم خرج إلى خيبر، وهي التي وعده الله إياها.
وحكى موسى عن الزهري أن افتتاح خيبر في سنة ست، والصحيح أن ذلك في أول سنة سبع كما قدمنا.
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية، ذا الحجة، وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر.
وقال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن مروان والمسور قالا: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح بين مكة والمدينة، فقدم المدينة في ذي الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر.
فنزل بالرجيع - واد بين خيبر وغطفان - فتخوف أن تمدهم غطفان فبات به حتى أصبح، فغدا عليهم.
قال البيهقي: وبمعناه رواه الواقدي عن شيوخه في خروجه أول سنة سبع من الهجرة.
وقال عبد الله بن إدريس عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر قال: لما كان افتتاح خيبر في عقيب المحرم، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم في آخر صفر.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا حسيم يعني: ابن عراك، عن أبيه، أن أبا هريرة قدم المدينة في رهط من قومه، والنبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وقد استخلف سباع بن عرفطة، يعني: الغطفاني، على المدينة.
قال: فانتهيت إليه، وهو يقرأ في صلاة الصبح في الركعة الأولى: {كهيعص} وفي الثانية: {ويل للمطففين} فقلت في نفسي: ويل لفلان إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص.
قال: فلما صلى رددنا شيئاً حتى أتينا خيبر، وقد افتتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر.
قال: فكلم المسلمين، فأشركونا في سهامهم.
وقد رواه البيهقي من حديث سليمان بن حرب، عن وهيب، عن خيثم بن عراك، عن أبيه، عن نفر من بني غفار، قال: إن أبا هريرة قدم المدينة، فذكره.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر، وبنى له فيها مسجداً، ثم على الصهباء.
ثم أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له: الرجيع، فنزل بينهم وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبلغني أن غطفان لما سمعوا بذلك جمعوا، ثم خرجوا ليظاهروا اليهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة، خلفهم في أموالهم وأهليهم حساً، ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا في أموالهم وأهليهم، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير أن سويد بن النعمان أخبره أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء - وهي من أدنى خيبر - صلى العصر ثم دعا بالأزواد، فلم يؤتَ إلا بالسويق، فأمر به فثرى، فأكل وأكلنا، ثم قام إلى المغرب، فمضمض ثم صلى ولم يتوضأ.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسرنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر لا تسمعنا من هنيهاتك - وكان عامر رجلاً شاعراً - فنزل يحدو بالقوم يقول:
لا هُم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما أبقينا * وألقين سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا * إنا إذا صيح بنا أبينا
وبالصياح عولوا علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من هذا السائق ؟)) قالوا: عامر بن الأكوع.
قال: ((يرحمه الله)) فقال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به.
فأتينا خيبر فناصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة، ثم إن الله فتحها عليهم، فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم، أوقدوا نيراناً كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذه النيران على أي شيء توقدون؟))
قالوا: على لحم.
قال: ((على أي لحم ؟)).
قالوا: لحم الحمر الأنسية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اهريقوها واكسروها)) فقال رجل: يا رسول الله أونهريقها ونغسلها؟
فقال: ((أو ذاك)).
فلما تصاف الناس كان سيف عامر قصيراً، فتناول به ساق يهودي ليضربه، فيرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه.
فلما قفلوا قال سلمة: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي، قال: ((ما لك ؟)).
قلت: فداك أبي وأمي، زعموا أن عامراً حبط عمله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كذب من قاله، إن له لأجرين - وجمع بين إصبعيه - إنه لجاهد مجاهد، قل عربي مشى بها مثله)).
ورواه مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل، وغيره، عن يزيد بن أبي عبيد مثله.
ويكون منصوباً على الحالية من نكرة، وهو سائغ، إذا دلت على تصحيح معنى، كما جاء في الحديث: ((فصلى وراءه رجل قياماً)).
وقد روى ابن إسحاق قصة عامر بن الأكوع من وجه آخر فقال: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي الهيثم بن نصر بن دهر الأسلمي، أن أباه حدثه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع، وهو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع: ((انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك)).
فقال: فنزل يرتجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
والله لو الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
إنا إذا قوم بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا
فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يرحمك ربك)) فقال عمر بن الخطاب: وجبت يا رسول الله لو أمتعتنا به. فقتل يوم خيبر شهيداً.
ثم ذكر صفة قتله كنحو ما ذكره البخاري.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه، عن أبي معتب بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه وأنا فيهم: ((قفوا)).
ثم قال: ((اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها اقدموا بسم الله)).
وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه.
وقد رواه الحافظ البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن العطاردي، عن يونس بن بكير، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن صالح بن كيسان، عن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه، عن جده قال:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، حتى إذا كنا قريباً وأشرفنا عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: ((قفوا)) فوقف الناس.
فقال: ((اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها، اقدموا بسم الله الرحمن الرحيم)).
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوماً لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك، وإن لم يسمع أذاناً أغار، فنزلنا خيبر ليلاً فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح لم يسمع أذاناً.
فركب وركبنا معه، وركبت خلف أبي طلحة، وإن قدمي لتمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش، قالوا: محمد والخميس معه، فأدبروا هراباً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)).
قال ابن إسحاق: حدثنا هارون عن حميد عن أنس بمثله.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا مالك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، أن رسول الله أتى خيبر ليلاً، وكان إذا أتى قوماً بليل لم يغر بهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله محمد والخميس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)).
تفرد به دون مسلم.
وقال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا أبو عيينة، حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك قال: صبحنا خيبر بكرة، فخرج أهلها بالمساحي، فلما أبصروا بالنبي صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد والله، محمد والخميس !
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)).
قال: فأصبنا من لحوم الحمر، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس. تفرد به البخاري دون مسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، فوجدهم حين خرجوا إلى زرعهم ومساحيهم، فلما رأوه ومعه الجيش نكصوا فرجعوا إلى حصنهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)).
تفرد به أحمد، وهو على شرط الصحيحين.
وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح قريب من خيبر بغلس، ثم قال: ((الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)).
فخرجوا يسعون بالسكك، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة، وسبى الذرية، وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عتقها صداقها.
قال عبد العزيز بن صهيب لثابت: يا أبا محمد أأنت قلت لأنس ما أصدقها، فحرك ثابت رأسه تصديقاً له.
تفرد به دون مسلم.
وقد أورد البخاري ومسلم النهي عن لحوم الحمر الأهلية من طرق تذكر في كتاب (الأحكام).
وقد قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو طاهر الفقيه، أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي، حدثنا محمد بن حميد الأبيوردي، حدثنا محمد بن الفضل، عن مسلم الأعور الملائي، عن أنس بن مالك قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض، ويتبع الجنائز، ويجيب دعوة الملوك، ويركب الحمار، وكان يوم بني قريظة والنضير على حمار، ويوم خيبر على حمار مخطوم برسن ليف، وتحته أكاف من ليف.
وقد روى هذا الحديث بتمامه الترمذي، عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، وابن ماجه، عن محمد بن الصباح، عن سفيان، وعن عمر بن رافع، عن جرير، كلهم عن مسلم وهو ابن كيسان الملائي الأعور الكوفي، عن أنس به.
وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديثه، وهو يضعف.
قلت: والذي ثبت في الصحيح عند البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى في رفاق خيبر، حتى انحسر الإزار عن فخذه، فالظاهر أنه كان يومئذ على فرس لا على حمار.
ولعل هذا الحديث إن كان صحيحاً محمول على أنه ركبه في بعض الأيام وهو محاصرها، والله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن سعيد الخزاعي، حدثنا زياد بن الربيع، عن أبي عمران الجوني قال: نظر أنس إلى الناس يوم الجمعة، فرأى طيالسة فقال كأنهم الساعة يهود خيبر.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: كان علي بن أبي طالب تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان رمداً، فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فلحق به.
فلما بتنا الليلة التي فتحت خيبر، قال: لأعطين الراية غداً، أو ليأخذن الراية غداً رجل يحبه الله ورسوله، يفتح عليه، فنحن نرجوها.
فقيل: هذا علي فأعطاه، ففتح عليه.
وروى البخاري أيضاً، ومسلم، عن قتيبة، عن حاتم به.
ثم قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم قال: أخبرني سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)).
قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: ((أين علي بن أبي طالب ؟)).
فقالوا: هو يا رسول الله، يشتكي عينيه.
قال: ((فأرسل إليه)) فأتى، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له فبرأ، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.
فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟
فقال صلى الله عليه وسلم: ((انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم)).
وقد رواه مسلم، والنسائي جميعاً، عن قتيبة به.
وفي صحيح مسلم، والبيهقي من حديث سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه)).
قال عمر: فما أحببت الإمارة إلا يومئذ، فدعا علياً، فبعثه، ثم قال: ((اذهب فقاتل حتى يفتح الله عليك، ولا تلتفت)).
قال علي: على ما أقاتل الناس؟
قال: ((قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)) لفظ البخاري.
وقال الإمام أحمد: حدثنا مصعب بن المقدام، وجحش بن المثنى، قالا: حدثنا إسرائيل، حدثنا عبد الله بن عصمة العجلي، سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الراية فهزها، ثم قال: ((من يأخذها بحقها ؟))
فجاء فلان فقال: أنا، قال: ((امض)).
ثم جاء رجل آخر فقال: ((امض)).
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي كرم وجه محمد لأعطينها رجلاً لا يفر)).
فقال: ((هاك يا علي)) فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر، وفدك، وجاء بعجوتها وقديدها.
تفرد به أحمد، وإسناده لا بأس به، وفيه غرابة، وعبد الله بن عصمة، ويقال ابن أعصم، وهكذا يكنى بأبي علوان العجلي، وأصله من اليمامة سكن الكوفة، وقد وثقه ابن معين.
وقال أبو زرعة: لا بأس به.
وقال أبو حاتم: شيخ.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ كثيراً، وذكره في الضعفاء، وقال: يحدث عن الإثبات مما لا يشبه حديث الثقات، حتى يسبق إلى القلب أنها موهومة أو موضوعة.
وقال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق، حدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن أبيه، عن سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه إلى بعض حصون خيبر فقاتل، ثم رجع ولم يكن فتح، وقد جهد.
ثم بعث عمر رضي الله عنه فقاتل، ثم رجع ولم يكن فتح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، وليس بفرَّار)).
قال سلمة: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو يومئذ أرمد، فتفل في عينيه، ثم قال: ((خذ الراية وامض بها حتى يفتح الله عليك)).
فخرج بها، والله يصول، يهرول هرولة، وأنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع يهودي من رأس الحصن، فقال: من أنت؟
قال: أنا علي بن أبي طالب.
فقال اليهودي: غلبتم، وما أُنزل على موسى، فما رجع حتى فتح الله على يديه.
وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا العطاردي، عن يونس بن بكير، عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، أخبرني أبي قال: لما كان يوم خيبر أخذ اللواء أبو بكر، فرجع ولم يفتح له، و لما كان الغد أخذه عمر فرجع و لم يفتح له، وقتل محمود بن مسلمة، ورجع الناس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأدفعن لوائي غداً إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، لن يرجع حتى يفتح الله له)) فبتنا طيبة نفوسنا أن الفتح غداً، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة.
ثم دعا باللواء وقام قائماً، فما منا من رجل له منزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل، حتى تطاولت أنا لها، ورفعت رأسي لمنزلة كانت لي منه.
فدعا علي بن أبي طالب وهو يشتكي عينيه، قال: فمسحها، ثم دفع إليه اللواء، ففتح له، فسمعت عبد الله بن بريدة يقول: حدثني أبي أنه كان صاحب مرحب.
قال يونس: قال ابن إسحاق: كان أول حصون خيبر فتحاً حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه رحى منه فقتلته.
ثم روى البيهقي عن يونس بن بكير، عن المسيببن مسلمة الأزدي، حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما أخذته الشقيقة، فلبث اليوم واليومين لا يخرج، فلما نزل خيبر أخذته الشقيقة، فلم يخرج إلى الناس، وإن أبا بكر أخذ راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً، ثم رجع.
فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من القتال الأول.
ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لأعطينها غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يأخذها عنوة)) وليس ثم علي.
فتطاولت لها قريش، ورجا كل رجل منهم أن يكون صاحب ذلك، فأصبح.
وجاء علي بن أبي طالب على بعير له، حتى أناخ قريباً وهو أرمد، قد عصب عينه بشقة برد قطري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لك ؟))
قال: رمدت بعدك.
قال: ((ادن مني)) فتفل في عينه، فما وجعها حتى مضى لسبيله.
ثم أعطاه الراية فنهض بها وعليه جبة أرجوان حمراء، قد أخرج خملها فأتى مدينة خيبر، وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب * شاكٍ سلاحي بطلٌ مجرب
إذا الليوثُ أقبلت تلهب * وأحجمت عن صولة المغلب
فقال علي رضي الله عنه:
أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليثِ غاباتٍ شديد القسوره
أكيلكم بالصاع كيل السندره
قال: فاختلفا ضربتين، فبدره علي بضربه فقدَّ الحجر والمغفر ورأسه، ووقع في الأضراس، وأخذ المدينة.
وقد روى الحافظ البزار: عن عباد بن يعقوب، عن عبد الله بن بكر، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قصة بعث أبي بكر، ثم عمر يوم خيبر، ثم بعث علي، فكان الفتح على يديه، وفي سياقه غرابة ونكارة، وفي إسناده من هو متهم بالتشيع، والله أعلم.
وقد روى مسلم، والبيهقي، واللفظ له من طريق عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، فذكر حديثاً طويلاً وذكر فيه رجوعهم من غزوة بني فزارة قال: فلم نمكث إلا ثلاثاً حتى خرجنا إلى خيبر.
قال: وخرج عامر فجعل يقول:
والله لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
ونحن من فضلك ما استغنينا * فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من هذا القائل ؟)).
فقالوا: عامر، فقال: ((غفر لك ربك)).
قال: وما خصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أحداً به إلا استشهد.
فقال عمر وهو على جمل: لولا متعتنا بعامر.
قال: فقدمنا خيبر فخرج مرحب وهو يخطر بسيفه، ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
قال: فبرز له عامر رضي الله عنه وهو يقول:
قد علمت خيبر أني عامر * شاكي السلاح بطل مغامر
قال: فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر فذهب يسعل له، فرجع على نفسه، فقطع أكحله فكانت فيها نفسه.
قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه.
قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ((ما لك ؟)).
فقلت: قالوا إن عامراً بطل عمله.
فقال: ((من قال ذلك ؟)).
فقلت: نفر من أصحابك، فقال: ((كذب أولئك بل له الأجر مرتين)).
قال: وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله عنه يدعوه وهو أرمد، وقال: ((لأعطين الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله)) قال فجئت به أقوده، قال: فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينه فبرأ، فأعطاه الراية فبرز مرحب وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
قال: فبرز له علي وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غاباتٍ كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
قال: فضرب مرحباً ففلق رأسه فقتله. وكان الفتح.
هكذا وقع في هذا السياق أن علياً هو الذي قتل مرحباً اليهودي، لعنه الله.
وقال أحمد: حدثنا حسين بن حسن الأشقر، حدثني قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: لما قتلت مرحباً، جئت برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى موسى عن عقبة، عن الزهري أن الذي قتل مرحباً هو محمد بن مسلمة.
وكذلك قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن سهل أحد بني حارثة، عن جابر بن عبد الله قال: خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر، وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحياناً وحيناً أضرب * إذا الليوث أقبلت تلهب
إن حماي للحمى لا يقرب
قال: فأجابه كعب بن مالك:
قد علمت خيبر أني كعب * مفرج الغماء جريء صلب
إذ شبت الحرب وثار الحرب * معي حسام كالعقيق عضب
يطأكمو حتى يذل الصعب * بكف ماضٍ ليس فيه عيب
قال: وجعل مرحب يرتجز ويقول: هل من مبارز؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لهذا ؟)).
فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور والثائر، قتلوا أخي بالأمس.
فقال: ((قم إليه، اللهم أعنه عليه)).
قال: فلما دنا أحدهما من صاحبه، دخلت بينهما شجرة عمرية من الشجر العشر المسد، فجعل كل واحد منهما يلوذ من صاحبه بها، كلما لاذ بها أحدهما اقتطع بسيفه ما دونه، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن.
ثم حمل على محمد بن مسلمة فضربه فأتقاه بالدرقة فوقع سيفه فيها، فعضت فاستله، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله.
وقد رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن إسحاق بنحوه.
قال ابن إسحاق: وزعم بعض الناس أن محمداً ارتجز حين ضربه وقال:
قد علمت خيبر أني ماض * حلو إذا شئت وسمُّ قاض
وهكذا رواه الواقدي: عن جابر وغيره من السلف: أن محمد بن مسلمة هو الذي قتل مرحباً.
ثم ذكر الواقدي أن محمداً قطع رجلي مرحب، فقال له: أجهز علي.
فقال: لا ذق الموت كما ذاقه محمود بن مسلمة، فمر به علي وقطع رأسه، فاختصما في سلبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة سيفه، ورمحه، ومغفره، وبيضته.
قال: وكان مكتوباً على سيفه:
هذا سيف مرحب * من يذقه يعطب
ثم ذكر ابن إسحاق أن أخا مرحب وهو ياسر، خرج بعده وهو يقول: هل من مبارز؟
فزعم هشام ابن عروة أن الزبير خرج له، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: يقتل ابني يا رسول الله !
فقال: ((بل ابنك يقتله إن شاء الله)).
فالتقيا فقتله الزبير.
قال: فكان الزبير إذا قيل له: والله إن كان سيفك يومئذ صارماً.
يقول: والله ما كان بصارم، ولكني أكرهته.
وقال يونس عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن الحسن عن بعض أهله، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: خرجنا مع علي إلى خيبر، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته.
فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل منهم من يهود، فطرح ترسه من يده، فتناول علي باب الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.
وفي هذا الخبر جهالة وانقطاع ظاهر.
ولكن روى الحافظ البيهقي، والحاكم، من طريق مطلب بن زياد، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر الباقر، عن جابر: أن علياً حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فافتتحوها وأنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلاً.
وفيه ضعف أيضاً.
وفي رواية ضعيفة عن جابر: ثم اجتمع عليه سبعون رجلاً، وكان جهدهم أن أعادوا الباب.
وقال البخاري: حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد، قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم ما هذه الضربة؟
قال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل قال: التقى النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون في بعض مغازيه فاقتتلوا، فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجل لا يدع من المشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها فضربها بسيفه، فقيل: يا رسول الله ما أجزأ منا أحد، ما أجزأ فلان.
قال: إنه من أهل النار.
فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟
فقال رجل من القوم: لأتبعنه فإذا أسرع وأبطأ كنت معه، حتى جرح فاستعجل الموت فوضع نصاب سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه.
فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله.
وقال: ((وما ذاك ؟)).
فأخبره فقال: ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وأنه من أهل الجنة)).
رواه أيضاً عن قتيبة، عن يعقوب عن أبي حازم، عن سهل، فذكره مثله أو نحوه.
ثم قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري،: أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: شهدنا خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام: ((هذا من أهل النار)).
فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة حتى كاد بعض الناس يرتاب.
فوجد الرجل ألم جراحه فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهماً فنحر بها نفسه فاشتد رجال من المسلمين، فقالوا: يا رسول الله صدَّق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه. فقال: ((قم يا فلان فأذن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر)).
وقد روى موسى بن عقبة، عن الزهري قصة العبد الأسود الذي رزقه الله الإيمان والشهادة في ساعة واحدة.
وكذلك رواها ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة قالا: وجاء عبد حبشي أسود من أهل خيبر، كان في غنم لسيده فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح سألهم، قال: ما تريدون؟
قالوا: نقاتل هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي.
فوقع في نفسه ذكر النبي، فأقبل بغنمه حتى عمد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إلى ما تدعو؟
قال: ((أدعوك إلى الإسلام إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لا تعبدوا إلا الله))
قال: فقال العبد: فماذا يكون لي إن شهدت بذلك وآمنت بالله؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجنة إن مت على ذلك)).
فأسلم العبد، فقال: يا نبي الله إن هذه الغنم عندي أمانة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخرجها من عسكرنا وارمها بالحصا فإن الله سيؤدي عنك أمانتك)). ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها، فعرف اليهودي أن غلامه قد أسلم.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظ الناس فذكر الحديث في إعطائه الراية علياً، ودنوه من حصن اليهود، وقتله مرحباً، وقتل مع علي ذلك العبد الأسود، فاحتمله المسلمون إلى عسكرهم، فأدخل في الفسطاط، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع في الفسطاط، ثم اطلع على أصحابه، فقال: ((لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير، قد كان الإسلام في قلبه حقاً، وقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين)).
وقد روى الحافظ البيهقي: من طريق ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، فخرجت سرية فأخذوا إنساناً معه غنم يرعاها، فذكر نحو قصة هذا العبد الأسود، وقال فيه: قتل شهيداً وما سجد لله سجدة.
ثم قال البيهقي: حدثنا محمد بن محمد بن محمد الفقيه، حدثنا أبو بكر القطان، حدثنا أبو الأزهر، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أنس: أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رجل أسود اللون، قبيح الوجه، لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة؟
قال: ((نعم)).
فتقدم فقاتل حتى قتل، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقتول، فقال: ((لقد حسن الله وجهك وطيب روحك، وكثر مالك)).
وقال: ((لقد رأيت زوجتيه من الحور العين يتنازعان جبته عليه، يدخلان فيما بين جلده وجبته)).
ثم روى البيهقي من طريق ابن جريج: أخبرني عكرمة بن خالد عن ابن أبي عمار، عن شداد بن الهاد: أن رجلاً من الأعراب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، فقال: أُهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه، وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه؛ فقال: ما هذا؟
قالوا: قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأخذه فجاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا يا محمد؟
قال: ((قسم قسمته لك)).
فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمي ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة.
فقال: ((إن تصدق الله يصدقك)).
ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل وقد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هو هو ؟)).
قالوا: نعم.
قال: ((صدق الله فصدقه)).
وكفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدمه فصلى عليه، وكان مما ظهر من صلاته: ((اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، قتل شهيداً وأنا عليه شهيد)).
وقد رواه النسائي عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن جريج به نحوه.
فصل فتح رسول الله عليه السلام للحصون.
قال ابن إسحاق: وتدَّنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال يأخذها مالاً مالاً، ويفتتحها حصناً حصناً، وكان أول حصونهم فتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى منه فقتلته، ثم القموص حصن بني أبي الحقيق.
وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا منهن صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وبنتي عم لها، فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، وكان دحية بن خليفة قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية، فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها.
قال: وفشت السبايا من خيبر في المسلمين، وأكل الناس لحوم الحمر، فذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عن أكلها.
وقد اعتنى البخاري بهذا الفصل، فأورد النهي عنها من طرق جيدة وتحريمها مذهب جمهور العلماء سلفاً وخلفاً، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
وقد ذهب بعض السلف منهم: ابن عباس إلى إباحتها، وتنوعت أجوبتهم عن الأحاديث الواردة في النهي عنها؛ فقيل: لأنها كانت ظهراً يستعينون بها في الحمولة، وقيل: لأنها لم تكن خمست بعد، وقيل: لأنها كانت تأكل العذرة يعني: جلالة.
والصحيح أنه نهى عنها لذاتها، فإنه في الأثر الصحيح أنه نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس، فأكفئوها والقدور تفور بها، وموضع تقرير ذلك في كتاب (الأحكام).
قال ابن إسحاق: حدثني سلام بن كركرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله - ولم يشهد جابر خيبر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر، أذن لهم في لحوم الخيل.
وهذا الحديث أصله ثابت في الصحيحين، من حديث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، عن جابر رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخَّص في الخيل)).
لفظ البخاري.
قال ابن إسحاق: وحدثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مكحول، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم يومئذ عن أربع: عن إتيان الحبالى من النساء، وعن أكل الحمار الأهلي، وعن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم. وهذا مرسل.
وقال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق مولى نجيب، عن حسن الصنعاني، قال: غزونا مع رويفع بن ثابت الأنصاري المغرب، فافتتح قرية من قرى المغرب يقال له: جربة، فقام فيها خطيباً فقال: أيها الناس، إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فينا يوم خيبر، قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
((لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماء زرع غيره يعني: إتيان الحبالى من السبي، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنماً حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها ردهاً فيه، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس يوماً من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه)).
وهكذا روى هذا الحديث أبو داود من طريق محمد بن إسحاق.
ورواه الترمذي عن حفص بن عمرو الشيباني، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن ربيعة بن سليم، عن بشر بن عبيد الله، عن رويفع بن ثابت مختصراً، وقال: حسن.
وفي صحيح البخاري: عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وعن أكل الثوم.
وقد حكى ابن حزم عن علي وشريك بن حنبل، أنهما ذهبا إلى تحريم البصل والثوم النيء، والذي نقله الترمذي عنهما الكراهة، فالله أعلم.
وقد تكلم الناس في الحديث الوارد في الصحيحين من طريق الزهري، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية، عن أبيهما، عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية.
هذا لفظ الصحيحين من طريق مالك وغيره، عن الزهري، وهو يقتضي تقييد تحريم نكاح المتعة بيوم خيبر، وهو مشكل من وجهين:
أحدهما: أن يوم خيبر لم يكن ثم نساء يتمتعون بهن، إذ قد حصل لهم الاستغناء بالسباء عن نكاح المتعة.
الثاني: أنه قد ثبت في صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة، عن معبد، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لهم في المتعة زمن الفتح، ثم لم يخرج من مكة حتى نها عنها وقال: ((إن الله قد حرمها إلى يوم القيامة)).
فعلى هذا يكون قد نهى عنها ثم أذن فيها، ثم حرمت، فيلزم النسخ مرتين، وهو بعيد.
ومع هذا فقد نصَّ الشافعي على أنه لا يعلم شيئاً أبيح ثم حرم، ثم أبيح ثم حرم، غير نكاح المتعة، وما حداه على هذا رحمه الله إلا اعتماده على هذين الحديثين كما قدمناه.
وقد حكى السهيلي وغيره عن بعضهم: أنه ادعى أنها أبيحت ثلاث مرات، وحرمت ثلاث مرات.
وقال آخرون: أربع مرات، وهذا بعيد جداً، والله أعلم.
واختلفوا أي وقت أول ما حرمت، فقيل: في خيبر، وقيل: في عمرة القضاء، وقيل: في عام الفتح، وهذا يظهر، وقيل: في أوطاس، وهو قريب من الذي قبله، وقيل: في تبوك، وقيل: في حجة الوداع.
رواه أبو داود.
وقد حاول بعض العلماء أن يجيب عن حديث علي رضي الله عنه بأنه وقع فيه تقديم وتأخير، وإنما المحفوظ فيه ما رواه الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن الحسن وعبد الله ابني محمد، عن أبيهما - وكان حسن أرضاهما في أنفسهما - أن علياً قال لابن عباس:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر.
قالوا: فاعتقدنا الراوي أن قوله خيبر ظرف للمنهي عنهما، وليس كذلك، إنما هو ظرف للنهي عن لحوم الحمر؛ فأما نكاح المتعة فلم يذكر له ظرفاً، وإنما جمعه معه لأن علياً رضي الله عنه بلغه أن ابن عباس أباح نكاح المتعة، ولحوم الحمر الأهلية، كما هو المشهور عنه.
فقال له أمير المؤمنين علي: إنك امرؤ تائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، فجمع له النهي ليرجع عما كان يعتقده في ذلك من الإباحة.
وإلى هذا التقرير كان ميل شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي تغمده الله برحمته أمين.
ومع هذا ما رجع ابن عباس عما كان يذهب إليه من إباحة الحمر والمتعة، أما النهي عن الحمر فتأوله بأنها كانت حمولتهم، وأما المتعة فإنما كان يبيحها عند الضرورة في الأسفار، وحمل النهي على ذلك في حال الرفاهية والوجدان.
وقد تبعه على ذلك طائفة من أصحابه وأتباعهم، ولم يزل ذلك مشهوراً عن علماء الحجاز إلى زمن ابن جريج وبعده.
وقد حكي عن الإمام أحمد بن حنبل رواية كمذهب ابن عباس وهي ضعيفة، وحاول بعض من صنف في الحلال نقل رواية عن الإمام بمثل ذلك، ولا يصح أيضاً، والله أعلم. وموضع تحرير ذلك في كتاب (الأحكام) وبالله المستعان.
قال ابن إسحاق: ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدنى الحصون والأموال، فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدثه بعض من أسلم أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً يعطيهم إياه.
فقال: ((اللهم إنك قد عرفت حالهم، وإن ليست لهم قوة، وإن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غنى، وأكثرها طعاماً وودكاً)).
فغدا الناس ففتح عليهم حصن الصعب بن معاذ وما بخيبر حصن كان أكثر طعاماً وودكاً منه.
قال ابن إسحاق: ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنهم الوطيح والسلالم، وكان آخر حصون خيبر افتتاحاً، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشر ليلة.
قال ابن هشام: وكان شعارهم يوم خيبر: يا منصور أمت أمت.
قال ابن إسحاق: وحدثني بريدة بن سفيان الأسدي الأسلمي، عن بعض رجال بني سلمة، عن أبي اليسر بن كعب بن عمرو، قال: إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ذات عشية، إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم، ونحن محاصروهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رجل يطعمنا من هذه الغنم ؟)).
قال أبو اليسر: فقلت أنا يا رسول الله.
قال: ((فافعل)).
قال: فخرجت أشتد مثل الظليم، فلما نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً قال: ((اللهم أمتعنا به)).
قال: فأدركت الغنم وقد دخلت أولها الحصن، فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدي، ثم جئت بهما أشتد كأنه ليس معي شيء حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحوهما فأكلوهما.
فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موتاً، وكان إذا حدث هذا الحديث بكى، ثم قال: أمتعوا بي لعمري حتى كنت من آخرهم.
وقال الحافظ البيهقي في (الدلائل): أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني، حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، أو عن أبي قلابة قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، قدم والثمرة خضرة.
قال: فأسرع الناس إليها فحموا، فشكوا ذلك إليه، فأمرهم أن يقرسوا الماء في الشنان ثم يجرونه عليهم إذا أتى الفجر، ويذكرون اسم الله عليه، ففعلوا ذلك فكأنما نشطوا من عقل.
قال البيهقي: ورويناه عن عبد الرحمن بن رافع موصولاً، وعنه بين صلاتي المغرب والعشاء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى وبهز، قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، حدثنا عبد الله بن مغفل، قال: دلى جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت: لا أعطى أحداً منه شيئاً.
قال: فالتفتُّ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم.
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفل، قال: كنا نحاصر قصر خيبر، فأُلقي إلينا جراب في شحم، فذهبت فأخذته فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيت.
وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة.
ورواه مسلم أيضاً عن شيبان بن فروخ، عن عثمان بن المغيرة.
وقال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن مغفل المزني قال: أصبت من فيء خيبر جراب شحم، قال: فاحتملته على عنقي إلى رحلي وأصحابي، قال: فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها فأخذ بناحيته، وقال: هلم حتى تقسمه بين المسلمين، قال: وقلت: لا والله لا أعطيكه، قال: وجعل يجاذبني الجراب.
قال: فرآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصنع ذلك، فتبسم ضاحكاً، ثم قال لصاحب المغانم خلِّ بينه وبينه، قال: فأرسله فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه.
وقد استدل الجمهور بهذا الحديث على الإمام مالك في تحريمه شحوم ذبائح اليهود، وما كان غلبهم عليه غيرهم من المسلمين، لأن الله تعالى قال: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال لكم.
قال: وليس هذا من طعامهم، فاستدلوا عليه بهذا الحديث، وفيه نظر، وقد يكون هذا الشحم مما كان حلالاً لهم، والله أعلم.
وقد استدلوا بهذا الحديث على أن الطعام لا يخمس ويعضد، ذلك ما رواه الإمام أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو معاوية، حدثنا إسحاق الشيباني، عن محمد بن أبي مجالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال:
قلت: كنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أصبنا طعاماً يوم خيبر، وكان الرجل يجيء فيأخذ منه قدر ما يكفيه ثم ينصرف.
تفرد به أبو داود، وهو حسن.
ذكر قصة صفية بنت حيي النضرية
كان من شأنها أنه لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير من المدينة كما تقدم، فذهب عامتهم إلى خيبر، وفيهم حيي بن أخطب، وبنو أبي الحقيق، وكانوا ذوي أموال وشرف في قومهم، وكانت صفية إذ ذاك طفلة دون البلوغ.
ثم لما تأهلت للتزويج تزوجها بعض بني عمها، فلما زفت إليه وأدخلت إليه بنى بها، ومضى على ذلك ليالي، رأت في منامها كأن قمر السماء قد سقط في حجرها، فقصت رؤياها على ابن عمها فلطم وجهها وقال: أتتمنين ملك يثرب أن يصير بعلك، فما كان إلا مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصاره إياهم، فكانت صفية في جملة السبي، وكان زوجها في جملة القتلى.
ولما اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصارت في حوزه وملكه كما سيأتي، وبنى بها بعد استبرائها وحلها، وجد أثر تلك اللطمة في خدها، فسألها ما شأنها، فذكرت له ما كانت رأت من تلك الرؤيا الصالحة رضي الله عنها وأرضاها.
قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح قريباً من خيبر بغلس، ثم قال: ((الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)).
فخرجوا يسعون في السكك، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة، وسبى الذرية، وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عتقها صداقها.
ورواه مسلم أيضاً من حديث حماد بن زيد، وله طرق عن أنس.
وقال البخاري: حدثنا آدم، عن شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سبى النبي صلى الله عليه وسلم صفية فأعتقها وتزوجها.
قال ثابت لأنس: ما أصدقها؟
قال: أصدقها نفسها فأعتقها.
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال البخاري: حدثنا عبد الغفار بن داود، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ح، وحدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا ابن وهب، أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن عمرو مولى المطلب، عن أنس بن مالك قال:
قدمنا خيبر فلما فتح صلى الله عليه وسلم الحصن، ذُكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب، وقد قتل زوجها وكانت عروساً، فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، فخرج بها حتى بلغ بها سُدَّ الصهباء حلت، فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صنع حيساً في نطع صغير، ثم قال لي: ((آذن من حولك)) فكانت تلك وليمته على صفية.
ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب.
تفرد به دون مسلم.
وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، أخبرني حميد أنه سمع أنساً يقول: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يُبنى عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالاً بالأنطاع فبسطت، فألقي عليها التمر والأقط والسمن، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أوما ملكت يمينه؟
فقالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه. فلما ارتحل وطأ لها خلفه، ومد الحجاب.
انفرد به البخاري.
وقال أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: صارت صفية لدحية الكلبي، ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو داود: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: جمع السبي - يعني: بخيبر - فجاء دحية فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي، قال: ((اذهب فخذ جارية)) فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أعطيت دحية، قال يعقوب: صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير ما تصلح إلا لك.
قال: ((ادعوا بها)) فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خذ جارية من السبي غيرها)) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها وتزوجها.
وأخرجاه من حديث ابن علية.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن خلاد الباهلي، حدثنا بهز بن أسد، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت، عن أنس قال: وقع في سهم دحية جارية جميلة، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، ثم دفعها إلى أم سلمة تصنعها وتهيئها.
قال حماد: وأحسبه قال: ((وتعتد في بيتها صفية بنت حيي)).
تفرد به أبو داود.
قال ابن إسحاق: فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم القموص حصن بني أبي الحقيق، أُتي بصفية بنت حيي ابن أخطب، وأخرى معها، فمر بهما بلال - وهو الذي جاء بهما - على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت، وصكت وجهها، وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((أعزبوا عني هذه الشيطانة)) وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقى عليها رداءه، فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفاها لنفسه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال - فيما بلغني - حين رأى بتلك اليهودية ما رأى: ((أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمر بامرأتين على قتلى رجالهما ؟))
وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، أن قمراً وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمداً، فلطم وجهها لطمة خضَّر عينها منها.
فأُتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منه، فسألها ((ما هذا ؟)) فأخبرته الخبر.
قال ابن إسحاق: وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه فجحد أن يكون يعلم مكانه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: ((أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك ؟)).
قال: نعم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي، فأبى أن يؤديه، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده.
وكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة.
فصل محاصرة النبي عليه السلام أهل خيبر في حُصنيهم
قال ابن إسحاق: وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم، حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم، وأن يحقن دماءهم ففعل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاز الأموال كلها: الشق، والنطاة، والكتيبة، وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين، فلما سمع أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم، ويحقن دماءهم، ويخلوا له الأموال ففعل.
وكان ممن مشى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم في ذلك، محيصة بن مسعود أخو بني حارثة، فلما نزل أهل خيبر على ذلك، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم في الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم، وأعمر لها، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، وعامل أهل فدك بمثل ذلك.
فصل في فتح حصونها وقسيمة أرضها
قال الواقدي: لما تحولت اليهود من حصن ناعم وحصن الصعب بن معاذ، إلى قلعة الزبير، حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود يُقال له: غزَّال، فقال: يا أبا القاسم، تُؤمنني على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النطاة، وتخرج إلى أهل الشق فإن أهل الشق قد هلكوا رعباً منك؟
قال: فأمنه رسول الله على أهله وماله، فقال له اليهودي: إنك لو أقمت شهراً تحاصرهم ما بالوا لك، إن لهم تحت الأرض دبولاً يخرجون بالليل فيشربون منها، ثم يرجعن إلى قلعتهم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع دبولهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، وقتل من المسلمين يومئذ نفر، وأصيب من اليهود عشرة، وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر حصون النطاة، وتحول إلى الشق وكان به حصون ذوات عدد.
فكان أول حصن بدأ به منها حصن أبي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على قلعة يقال لها: سموان، فقاتل عليها أشد القتال، فخرج منهم رجل يقال له: عزول، فدعا إلى البراز، فبرز إليه الحباب بن المنذر، فقطع يده اليمنى من نصف ذراعه، ووقع السيف من يده، وفر اليهودي راجعاً، فاتبعه الحباب فقطع عرقوبه.
وبرز منهم آخر، فقام إليه رجل من المسلمين فقتله اليهودي، فنهض إليه أبو دجانة فقتله، وأخذ سلبه، وأحجموا عن البراز، فكبر المسلمون ثم تحاملوا على الحصن، فدخلوه وأمامهم أبو دجانة، فوجدوا فيه أثاثاً، ومتاعاً، وغنماً، وطعاماً، وهرب من كان فيه من المقاتلة، وتقحموا الجزر كأنهم الضباب، حتى صاروا إلى حصن البزاة بالشق، وتمنعوا أشد الامتناع.
فزحف إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فتراموا، ورمى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة، حتى أصاب نبلهم بنانه عليه الصلاة والسلام، فأخذ عليه السلام كفاً من الحصا، فرمى حصنهم بها، فرجف بهم، حتى ساخ في الأرض، وأخذهم المسلمون أخذاً باليد.
قال الواقدي: ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأخبية، والوطيح، والسلالم، حصني ابن أبي الحقيق، وتحصنوا أشد التحصن، وجاء إليهم كل من كان انهزم من النطاة إلى الشق، فتحصنوا معهم في القموص وفي الكتيبة، وكان حصناً منيعاً، وفي الوطيح والسلالم، وجعلوا لا يطلعون من حصونهم حتى هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب المنجنيق عليهم.
فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوماً، نزل إليه ابن أبي الحقيق فصالحه على حقن دمائهم، ويسيرهم ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من الأرض، والأموال، والصفراء، والبيضاء، والكراع، والحلقة، وعلى البر، إلا ما كان على ظهر إنسان - يعني لباسهم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله، إن كتمتم شيئاً، فصالحوه على ذلك.
قلت: ولهذا لما كتموا، وكذبوا، وأخفوا ذلك المسك الذي كان فيه أموال جزيلة تبين أنه لا عهد لهم، فقتل ابني أبي الحقيق وطائفة من أهله، بسبب نقض العهود منهم والمواثيق.
وقال الحافظ البيهقي: حدثني أبو الحسن علي بن محمد المقري الإسفرايني، حدثنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا عبد الواحد بن غياث، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا عبيد الله بن عمر، فيما يحسب أبو سلمة، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر، حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء، والبيضاء، و الحلقة، ويخرجون منها.
واشترط عليهم أن لا يكتموا، ولا يغيبوا شيئاً، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكاً فيه مال وحلي لحيي بن أخطب، وكان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ لعم حيي: ((ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير ؟)).
فقال: أذهبته النفقات والحروب.
فقال: ((العهد قريب، والمال أكثر من ذلك)) فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب.
وقد كان حيي قبل ذلك دخل خربة، فقال: قد رأيت حيياً يطوف في خربة ها هنا، فذهبوا فطافوا، فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق، وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم، وقسَّم أموالهم بالنكث الذي نكثوا، وأراد إجلاءهم منهما.
فقالوا: يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها، ونقوم عليها، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون أن يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخيل، وشيء ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم، ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله شدة خرصه، وأرادوا أن يرشوه، فقال: يا أعداء الله تطعموني السحت، والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم.
فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
قال: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة فقال: ((يا صفية ما هذه الخضرة ؟)).
فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق وأنا نائمة، فرأيت كأن قمراً وقع في حجري، فأخبرته بذلك فلطمني، وقال: تتمنين ملك يثرب.
قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبغض الناس إلي، قَتَل زوجي وأبي، فما زال يعتذر إلي ويقول: ((إن أباك ألَّب عليَّ العرب، وفعل ما فعل)) حتى ذهب ذلك من نفسي.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقاً من تمر كل عام، وعشرين وسقاً من شعير، فلما كان في زمان عمر غشوا المسلمين، وألقوا ابن عمر من فوق بيت، ففدعوا يديه، فقال عمر: من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها، فقسمها بينهم فقال رئيسهم: لا تخرجنا، دعنا نكون فيها كما أقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر.
فقال عمر: أتراني سقط عليَّ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف بك إذا وقصت بك راحلتك نحو الشام يوماً، ثم يوماً، ثم يوماً)) وقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية.
وقد رواه أبو داود مختصراً من حديث حماد بن سلمة.
قال البيهقي: وعقله البخاري في كتابه، فقال: ورواه حماد بن سلمة، قلت: ولم أره في الأطراف، فالله أعلم.
وقال أبو داود: حدثني سليمان بن داود المهري، حدثنا ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد الليثي، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: لما فتحت خيبر سألت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرهم، على أن يعملوا على النصف مما خرج منها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقركم فيها على ذلك ما شئنا)) فكانوا على ذلك، وكان التمر يقسم على السهمان من نصف خيبر، ويأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس، وكان أطعم كل امرأة من أزواجه من الخمس مائة وسق من تمر، وعشرين وسقاً من شعير.
فلما أراد عمر إخراج اليهود، أرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهن: من أحب منكن أن أقسم لها مائة وسق فيكون لها أصلها، وأرضها، وماؤها، ومن الزرع مزرعة عشرين وسقاً من شعير فعلنا، ومن أحب أن نعزل الذي لها في الخمس كما هو فعلنا.
وقد روى أبو داود من حديث محمد بن إسحاق: حدثني نافع، عن عبد الله بن عمر، أن عمر قال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أن يخرجهم إذا شاء، فمن كان له مال فليلحق به، فإني مخرج يهود فأخرجهم.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن جبير بن مطعم أخبره قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة منك، فقال: ((إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد)).
قال جبير بن مطعم: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس وبني نوفل شيئاً.
تفرد به دون مسلم.
وفي لفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن بني هاشم وبني عبد المطلب شيء واحد، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام)).
قال الشافعي: دخلوا معهم في الشعب، وناصروهم في إسلامهم وجاهليتهم، قلت: وقد ذم أبو طالب بني عبد شمس ونوفلاً حيث يقول:
جزى الله عنا عبد شمسٍ ونوفلاً * عقوبة شرٍ عاجلاً غيرَ آجلِ
وقال البخاري: حدثنا الحسن بن إسحاق، ثنا محمد بن ثابت، ثنا زائدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين، وللراجل سهماً، قال: فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، وإن لم يكن معه فرس فله سهم.
وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد، عن أبيه، أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس بباناً ليس لهم شيء، ما فتحت على قرية إلا قسمتها، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها.
وقد رواه البخاري أيضاً من حديث مالك وأبو داود، عن أحمد بن حنبل، عن ابن مهدي، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر به.
وهذا السياق يقتضي أن خيبر بكمالها قسمت بين الغانمين.
وقد قال أبو داود: ثنا ابن السرح، أنبأنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال، وترك من ترك من أهلها على الجلاء بعد القتال.
وبهذا قال الزهري: خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، ثم قسَّم سائرها على من شهدها، وفيما قاله الزهري نظر، فإن الصحيح أن خيبر جميعها لم تقسم، وإنما قسم نصفها بين الناس، كما سيأتي بيانه.
وقد احتج بهذا مالك، ومن تابعه، على أن الإمام مخير في الأراضي المغنومة، إن شاء قسَّمها، وإن شاء رصدها لمصالح المسلمين، وإن شاء قسَّم بعضها وأرصد بعضها، لما ينوبه في الحاجات والمصالح.
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، ثنا أسد بن موسى، حدثنا يحيى بن زكريا، حدثني سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، قال: قسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين، نصفاً لنوائبه، ونصفاً بين المسلمين، قسَّمها بينهم على ثمانية عشر سهماً.
تفرد به أبو داود.
ثم رواه أبو داود من حديث بشير بن يسار مرسلاً، فعين نصف النوائب الوطيح، والكتيبة، والسلالم، وما حيز معها، ونصف المسلمين الشق، والنطاة، وما حيز معهما، وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حيز معهما.
وقال أيضاً حسين بن علي: ثنا محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار مولى الأنصار، عن رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر، فقسمها على ستة وثلاثين سهماً، جمع كل سهم مائة سهم.
فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك، وعزل النصف الثاني لمن نزل به من الوفود، والأمور، ونوائب الناس.
تفرد به أبو داود.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى، ثنا مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الأنصاري، سمعت أبي يعقوب بن مجمع يقول، عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري، عن عمه مجمع بن حارثة الأنصاري - وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن - قال: قسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها، رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة، فيهم ثلثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهماً.
تفرد به أبو داود.
وقال مالك عن الزهري، أن سعيد بن المسيب أخبره، أن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح بعض خيبر عنوة.
ورواه أبو داود، ثم قال أبو داود: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد، أخبركم ابن وهب: حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، أن خيبر بعضها كان عنوة، وبعضها صلحاً، والكتيبة أكثرها عنوة وفيها صلح، قلت لمالك: وما الكتيبة؟
قال: أرض خيبر، وهي أربعون ألف عذق.
قال أبو داود: والعذق: النخلة، والعذق: العرجون.
ولهذا قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، ثنا حرمي، ثنا شعبة، ثنا عمارة، عن عكرمة، عن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر.
حدثنا الحسن، ثنا قرة بن حبيب، ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر قال: ما شبعنا - يعني من التمر - حتى فتحنا خيبر.
وقال محمد بن إسحاق: كانت الشق والنطاة في سهمان المسلمين، الشق ثلاثة عشر سهماً، ونطاة خمسة أسهم، قسم الجميع على ألف وثمانمائة سهم، ودفع ذلك إلى من شهد الحديبية من حضر خيبر ومن غاب عنها، ولم يغب عن خيبر ممن شهد الحديبية إلا جابر بن عبد الله فضرب له بسهمه.
قال: وكان أهل الحديبية ألفاً وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فصرف إلى كل مائة رجل سهم من ثمانية عشر سهماً، وزيد المائتا فارس أربعمائة سهم لخيولهم.
وهكذا رواه البيهقي من طريق سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن صالح بن كيسان، أنهم كانوا ألفاً وأربعمائة، معهما مائتا فرس.
قلت: وضرب رسول الله معهم بسهم، وكان أول سهم من سهمان الشق مع عاصم بن عدي.
قال ابن إسحاق: وكانت الكتيبة خمساً لله تعالى، وسهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وطعمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وطعمة أقوام مشوا في صلح أهل فدك، منهم محيصة بن مسعود، أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين وسقاً من تمر، وثلاثين وسقاً من شعير.
قال: وكان وادياها اللذان قسمت عليه يقال لهما: وادي السرير، ووادي خاص.
ثم ذكر ابن إسحاق تفاصيل الإقطاعات منها، فأجاد وأفاد رحمه الله.
قال: وكان الذي ولي قسمتها وحسابها جبار بن صخر بن أمية بن خنساء، أخو بني سلمة وزيد بن ثابت، رضي الله عنهما.
قلت: وكان الأمير على خرص نخيل خيبر عبد الله بن رواحة، فخرصها سنتين، ثم لما قتل رضي الله عنه كما سيأتي في يوم مؤتة، ولي بعده جبار بن صخر رضي الله عنه.
وقد قال البخاري: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن عبد المجيد بن سهيل، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاء بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكل تمر خيبر هكذا ؟)).
قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: ((لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً)).
قال البخاري: وقال الدراوردي عن عبد المجيد، عن سعيد بن المسيب، أن أبا سعيد وأبا هريرة حدثاه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي من الأنصار إلى خيبر وأمَّره عليها.
وعن عبد المجيد، عن أبي صالح السمان، عن أبي سعيد، وأبي هريرة مثله.
قلت: كان سهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي أصاب مع المسلمين، مما قسم بخيبر وفدك بكمالها، وهي طائفة كبيرة من أرض خيبر، نزلوا من شدة رعبهم منه صلوات الله وسلامه عليه، فصالحوه وأموال بني النضير المتقدم، ذكرها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت هذه الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.
وكان يعزل منها نفقة أهله لسنة، ثم يجعل ما بقي مجعل مال الله، يصرفه في الكراع، والسلاح، ومصالح المسلمين، فلما مات صلوات الله وسلامه عليه اعتقدت فاطمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم - أو أكثرهن - أن هذه الأراضي تكون موروثة عنه، ولم يبلغهم ما ثبت عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: ((نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة)).
ولما طلبت فاطمة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والعباس، نصيبهم من ذلك، وسألوا الصديق أن يسلمه إليهم، وذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نورث ما تركنا صدقة)).
وقال: أنا أعول من كان يعول رسول الله، والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي، وصدق رضي الله عنه وأرضاه فإنه البار الراشد في ذلك التابع للحق.
وطلب العباس وعلي على لسان فاطمة، إذ قد فاتهم الميراث أن ينظرا في هذه الصدقة، وأن يصرفا ذلك في المصارف التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصرفها فيها، فأبى عليهم الصديق ذلك، ورأى أن حقاً عليه أن يقوم فيما كان يقوم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يخرج من مسلكه ولا عن سنته.
فتغضبت فاطمة رضي الله عنها عليه في ذلك، ووجدت في نفسها بعض الموجدة ولم يكن لها ذلك، والصديق من قد عرفت هي والمسلمون، محله ومنزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامه في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، فجزاه الله عن نبيه وعن الإسلام وأهله خيراً.
وتوفيت فاطمة رضي الله عنها بعد ستة أشهر، ثم جدد على البيعة بعد ذلك، فلما كان أيام عمر بن الخطاب سألوه أن يفوض أمر هذه الصدقة إلى علي والعباس، وثقلوا عليه بجماعة من سادات الصحابة، ففعل عمر رضي الله عنه ذلك، وذلك لكثرة أشغاله، واتساع مملكته، وامتداد رعيته، فتغلب علي على عمه العباس فيها.
ثم تساوقا يختصمان إلى عمر، وقدما بين أيديهما جماعة من الصحابة، وسألا منه أن يقسمها بينهما، فينظر كل منهما فيما لا ينظر فيه الآخر، فامتنع عمر من ذلك أشد الامتناع، وخشي أن تكون هذه القسمة تشبه قسمة المواريث.
وقال: انظرا فيها، وأنتما جميع فإن عجزتما عنها، فادفعاها إلي، والذي تقوم السماء والأرض بأمره لا أقضي فيها غير هذا.
فاستمرا فيها ومن بعدهما إلى ولدهما إلى أيام بني العباس، تصرف في المصارف التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفها فيها، أموال بني النضير، وفدك، وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر.
فصل تخصيص شيء من الغنيمة للعبيد والنساء ممن شهدوا خيبر.
وأما من شهد خيبر من العبيد، والنساء، فرضخ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الغنيمة، ولم يسهم لهم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا بشر بن المفضل، عن محمد بن زيد، حدثني عمير مولى أبي اللحم، قال: شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا فيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بي، فقلدت سيفاً، فإذا أنا أجره، فأخبر أني مملوك، فأمر لي بشيء من طريق المتاع.
ورواه الترمذي، والنسائي، جميعاً عن قتيبة، عن بشر بن المفضل به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه ابن ماجه، عن علي بن محمد، عن وكيع، عن هشام بن سعد، عن محمد بن زيد بن المهاجر، عن منقذ، عن عمير به.
وقال محمد بن إسحاق: وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء، فرضخ لهن من الفيء، ولم يضرب لهن بسهم، حدثني سليمان بن سحيم، عن أمية بنت أبي الصلت، عن امرأة من بني غفار قد سماها لي، قالت:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار، فقلنا: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا - وهو يسير إلى خيبر - فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا؛ فقال: ((على بركة الله)).
قالت: فخرجنا معه، قالت: وكنت جارية حدثة السن، فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله، قالت: فوالله لنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح، ونزلت عن حقيبة رحله، قالت: وإذا بها دم مني، وكانت أول حيضة حضتها، قالت فتقبضت إلى الناقة واستحيت.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي، ورأى الدم قال: ((ما لك؟ لعلك نفست)).
قالت: قلت: نعم.
قال: ((فأصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء، فاطرحي فيه ملحاً، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك)).
قالت: فلما فتح الله خيبر، رضخ لنا من الفيء، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها، وعلقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبداً.
وكانت في عنقها حتى ماتت، ثم أوصت أن تدفن معها.
قالت: وكانت لا تطهر من حيضها، إلا جعلت في طهورها ملحاً، وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت.
وهكذا رواه الإمام، وأبو داود، من حديث محمد بن إسحاق به.
قال شيخنا أبو الحجاج المزي في (أطرافه): ورواه الواقدي، عن أبي بكر بن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن أم علي بنت أبي الحكم، عن أمية بنت قيس بن أبي الصلت، عن النبي صلى الله عليه وسلم به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، ثنا رافع بن سلمة الأشجعي، حدثني حشرج بن زياد، عن جدته أم أبيه، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة خيبر، وأنا سادسة ست نسوة، قالت: فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن معه نساء.
قالت: فأرسل إلينا فدعانا، قالت: فرأينا في وجهه الغضب، فقال: ((ما أخرجكن وبأمر من خرجتن ؟)).
قلنا: خرجنا نناول السهام، ونسقي السويق، ومعنا دواء للجرحى، ونغزل الشعر، فنعين به في سبيل الله.
قال: ((فمرن فانصرفن)) قالت: فلما فتح الله عليه خيبر أخرج لنا سهاماً كسهام الرجال، فقلت لها: يا جدة وما الذي أخرج لكن؟ قالت: تمراً.
قلت: إنما أعطاهن من الحاصل، فأما أنه أسهم لهن في الأرض كسهام الرجال فلا ! والله أعلم.
وقال الحافظ البيهقي: وفي كتابي عن أبي عبد الله الحافظ، أن عبد الله الأصبهاني أخبره: حدثنا الحسين بن الجهم، ثنا الحسين بن الفرج، ثنا الواقدي، حدثني عبد السلام بن موسى بن جبير، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن أنيس، قال:
خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، ومعي زوجتي وهي حبلى، فنفست في الطريق، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: ((انقع لها تمراً، فإذا انغمر فأمر به لتشربه)) ففعلت، فما رأت شيئاً تكرهه.
فلما فتحنا خيبر أجدى النساء ولم يسهم لهن، فأجدى زوجتي وولدي الذي ولد، قال عبد السلام: لست أدري غلام أو جارية.
ذكر قدوم جعفر بن أبي طالب ومسلمو الحبشة المهاجرون
قال البخاري: حدثنا محمد بن العلاء، ثنا أبو أسامة، ثنا يزيد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه، أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهم أبو بردة، والآخر أبو رهم، إما قال في بضع، وإما قال في ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي.
فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً، فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فكان أناس من الناس يقولون لنا - يعني لأهل السفينة - سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس - وهي ممن قدم معنا - على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر.
فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال حين رأى أسماء: من هذه؟
قالت: أسماء ابنة عميس.
قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟
قالت أسماء: نعم.
قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم.
فغضبت وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار - أو في أرض - البعداء والبغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيم الله لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله، ووالله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد عليه.
فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا، قالت: قال: ((فما قلتِ له ؟)).
قالت: قلت: كذا وكذا.
قال: ((ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان)).
قالت: فلقد رأيت أبا موسى، وأهل السفينة، يأتوني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم، مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني.
وقال أبو بردة: عن أبي موسى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنهار، ومنهم حكيم بن حزام، إذا لقي العدو - أو قال الخيل - قال لهم إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم)).
وهكذا رواه مسلم، عن أبي كريب وعبد الله بن براد، عن أبي أسامة به.
ثم قال البخاري: قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا حفص بن غياث، ثنا يزيد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن افتتح خيبر، فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا.
تفرد به البخاري دون مسلم.
ورواه أبو داود، والترمذي، وصححه من حديث يزيد به.
وقد ذكر محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، يطلب منه من بقي من أصحابه بالحبشة، فقدموا صحبة جعفر، وقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر.
قال: وقد ذكر سفيان بن عيينة، عن الأجلح، عن الشعبي، أن جعفر بن أبي طالب قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر، فقبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه والتزمه، وقال: ((ما أدري بأيهما أنا أُسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ؟)).
هكذا رواه سفيان الثوري عن الأجلح، عن الشعبي مرسلاً.
وأسند البيهقي من طريق حسن بن حسين العرزمي، عن الأجلح، عن الشعبي، عن جابر قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، قدم جعفر من الحبشة، فتلقاه وقبَّل جبهته، وقال: ((والله ما أدري بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ؟)).
ثم قال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا الحسين بن أبي إسماعيل العلوي، ثنا أحمد بن محمد البيروتي، ثنا محمد بن أحمد بن أبي طيبة، حدثني مكي بن إبراهيم الرعيني، ثنا سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر، قال:
لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر جعفر إليه حجل - قال مكي: يعني مشى على رجل واحدة - إعظاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه، ثم قال البيهقي: في إسناده من لا يعرف إلى الثوري.
قال ابن إسحاق: وكان الذين تأخروا مع جعفر من أهل مكة، إلى أن قدموا معه خيبر ستة عشر رجلاً، وسرد أسماءهم، وأسماء نسائهم وهم:
جعفر بن أبي طالب الهاشمي، وامرأته أسماء بنت عميس، وابنه عبد الله ولد بالحبشة، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد، وولداه سعيد وأمه بنت خالد، ولدا بأرض الحبشة، وأخوه عمرو بن سعيد بن العاص، ومسعيب بن أبي فاطمة، وكان إلى آل سعيد بن العاص.
قال: وأبو موسى الأشعري، عبد الله بن قيس حليف آل عتبة بن ربيعة، وأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد الأسدي، وجهم بن قيس بن عبد شرحبيل العبدري، وقد ماتت امرأته أم حرملة بنت عبد الأسود بأرض الحبشة، وابنا عمرو، وابنته خزيمة، ماتا بها رحمهم الله، وعامر بن أبي وقاص الزهري.
وعتبة بن مسعود حليف لهم من هذيل، والحارث بن خالد بن صخر التيمي، وقد هلكت بها امرأته ريطة بنت الحارث رحمها الله، وعثمان بن ربيعة بن أهبان الجمحي، ومحمية بن جزء الزبيدي حليف بني سهم، ومعمر بن عبد الله بن نضلة العدوي، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس، ومالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس العامريان، ومع مالك هذا امرأته عمرة بنت السعدي، والحارث بن عبد شمس بن لقيط الفهري.
قلت: ولم يذكر ابن إسحاق أسماء الأشعريين الذين كانوا مع أبي موسى الأشعري، وأخويه أبا بردة، وأبا رهم، وعمه أبا عامر، بل لم يذكر من الأشعريين غير أبي موسى، ولم يتعرض لذكر أخويه، وهما أسن منه، كما تقدم في صحيح البخاري، وكأن ابن إسحاق رحمه الله لم يطلع على حديث أبي موسى في ذلك، والله أعلم.
قال: وقد كان معهم في السفينتين نساءٌ من نساء من هلك من المسلمين هنالك، وقد حرر ها هنا شيئاً كثيراً حسناً.
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، سمعت الزهري، وسأله إسماعيل بن أمية قال: أخبرني عنبسة بن سعيد، أن أبا هريرة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله - يعني أن يقسم له - فقال بعض بني سعيد بن العاص: لا تعطه.
فقال أبو هريرة: هذا قاتل ابن قوقل.
فقال: واعجباً لو بر تدلى من قدوم الضال.
تفرد به دون مسلم.
قال البخاري: ويذكر عن الزبيدي، عن الزهري، أخبرني عنبسة بن سعيد، أنه سمع أبا هريرة يخبر سعيد بن العاص، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أباناً على سرية من المدينة قبل نجد.
قال أبو هريرة: فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد ما افتتحها، وإن حزم خيلهم لليف.
قال أبو هريرة: فقلت يا رسول الله لا تقسم لهم، فقال أبان: وأنت بهذا يا وبر تحدر من رأس ضال.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبان اجلس)) ولم يقسم لهم.
وقد أسند أبو داود هذا الحديث، عن سعيد بن منصور، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن الوليد الزبيدي به نحوه.
ثم قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، أخبرني جدي وهو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، أن أبان بن سعيد أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فقال أبو هريرة:
يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل، فقال أبان لأبي هريرة: واعجباً لك يا وبر تردى من قدوم ضال، تنعي على امرء أكرمه الله بيدي، ومنعه أن يهينني بيده؟
هكذا رواه منفرداً به ها هنا.
وقال في الجهاد بعد حديث الحميدي: عن سفيان، عن الزهري، عن عنبسة بن سعيد، عن أبي هريرة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعد ما افتتحها، فقلت: يا رسول الله أسهم لي، فقال بعض آل سعيد بن العاص: لا تقسم له، فقلت: يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل. الحديث.
قال سفيان حدثنيه السعدي - يعني عمرو بن يحيى بن سعيد - عن جده عن أبي هريرة بهذا ففي هذا التصريح من أبي هريرة بأنه لم يشهد خيبر. وتقدم في أول هذه الغزوة.
رواه الإمام أحمد من طريق عراك بن مالك، عن أبي هريرة، وأنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما افتتح خيبر، فكلم المسلمين فأشركونا في أسهامهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا روح، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمار بن أبي عمار قال: ما شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مغنماً قط، إلا قسم لي، إلا خيبر فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة.
قلت: وكان أبو هريرة وأبو موسى جاءا بين الحديبية وخيبر.
وقد قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا أبو إسحاق، عن مالك بن أنس، حدثني ثور، حدثني سالم مولى عبد الله بن مطيع، أنه سمع أبا هريرة يقول: افتتحنا خيبر فلم نغنم ذهباً ولا فضة، إنما غنمنا الإبل والبقر، والمتاع والحوائط.
ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى، ومعه عبد له يقال له: مدعم أهداه له بعض بني الضبيب، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه سهم عاثر حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئاً له بالشهادة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه ناراً)).
فجاء رجل حين سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراك أو شراكين، فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شراك أو شراكين من نار)).
قصة الشاة المسمومة والبرهان الذي ظهر
قال البخاري: رواه عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، حدثني سعيد، عن أبي هريرة قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، هكذا أورده ها هنا مختصراً.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا ليث، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجمعوا لي من كان ها هنا من يهود)) فجمعوا له.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه ؟)).
قالوا: نعم يا أبا القاسم.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أبوكم ؟))
قالوا: أبونا فلان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذبتم بل أبوكم فلان)).
قالوا: صدقت وبررت.
فقال: ((هل أنتم صادقي عن شيء إذا سألتكم عنه ؟)).
قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أهل النار ؟)).
فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لا نخلفكم فيها أبداً)).
ثم قال لهم: ((هل أنتم صادقي عن شيء إذا سألتكم ؟)).
فقالوا: نعم يا أبا القاسم.
فقال: ((هل جعلتم في هذه الشاة سماً ؟)).
فقالوا: نعم.
قال: ((ما حملكم على ذلك ؟)).
قالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك.
وقد رواه البخاري في الجزية، عن عبد الله بن يوسف، وفي (المغازي) أيضاً عن قتيبة كلاهما عن الليث به.
وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو العباس الأصم قال: حدثنا العباس بن محمد، قال: حدثنا سعيد بن سليمان، ثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن امرأة من يهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة.
فقال لأصحابه: ((أمسكوا فإنها مسمومة)) وقال لها: ((ما حملك على ما صنعت ؟)).
قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبياً، فسيطلعك الله عليه، وإن كنت كاذباً أريح الناس منك.
قال: فما عرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه أبو داود، عن هارون بن عبد الله، عن سعيد بن سليمان به.
ثم روى البيهقي عن طريق عبد الملك بن أبي نضرة، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله نحو ذلك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح، ثنا عباد، عن هلال - هو ابن خباب - عن عكرمة، عن ابن عباس، أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة، فأرسل إليها فقال: ((ما حملك على ما صنعت ؟)).
قالت: أحببت - أو أردت - إن كنت نبياً، فإن الله سيطلعك عليه، وإن لم تكن نبياً أريح الناس منك.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد من ذلك شيئاً احتجم.
قال: فسافر مرة، فلما أحرم وجد من ذلك شيئاً، فاحتجم.
تفرد به أحمد، وإسناده حسن.
وفي الصحيحين من حديث شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك، أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك قالت: أردت لأقتلك.
فقال: ((ما كان الله ليسلطك علي)) أو قال: ((على ذلك)).
قالوا: ألا تقتلها؟
قال: ((لا)).
قال أنس: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: كان جابر بن عبد الله يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية، ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه.
ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارفعوا أيديكم)) وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة، فدعاها فقال لها: ((أسممت هذه الشاة ؟)).
قالت اليهودية: من أخبرك؟
قال: ((أخبرتني هذه التي في يدي)) وهي الذراع.
قالت: نعم.
قال: ((فما أردت بذلك ؟)).
قالت: قلت إن كنت نبياً فلن يضرك، وإن لم تكن نبياً استرحنا منك. فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعاقبها، وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة.
واحتجم النبي صلى الله عليه وسلم على كأهله من أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة، وهو مولى لبني بياضة من الأنصار.
ثم قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، ثنا خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية نحو حديث جابر.
قال: فمات بشر بن البراء بن معرور، فأرسل إلى اليهودية فقال: ((ما حملك على الذي صنعت ؟)).
فذكر نحو حديث جابر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت، ولم يذكر أمر الحجامة.
قال البيهقي: ورويناه من حديث حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: ويحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء، ثم لما مات بشر بن البراء أمر بقتلها.
وروى البيهقي من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن امرأة يهودية أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصلية بخيبر، فقال: ((ما هذه ؟)).
قالت: هدية، وحذرت أن تقول صدقة فلا يأكل.
قال: فأكل وأصحابه، ثم قال: ((أمسكوا)) ثم قال للمرأة: ((هل سممت ؟)).
قالت: من أخبرك هذا؟
قال: ((هذا العظم لساقها)) وهو في يده.
قالت: نعم.
قال: ((لم ؟)).
قالت: أردت إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك.
قال: فاحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكاهل، وأمر أصحابه فاحتجموا، ومات بعضهم.
قال الزهري: فأسلمت، فتركها النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي: هذا مرسل، ولعله قد يكون عبد الرحمن حمله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
وذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة، وكذلك موسى بن عقبة، عن الزهري قالوا: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وقتل منهم من قتل، أهدت زينب بنت الحارث اليهودية وهي ابنة أخي مرحب لصفية شاة مصلية وسمتها، وأكثرت في الكتف والذراع، لأنه بلغها أنه أحب أعضاء الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور، وهو أحد بني سلمة، فقدمت إليهم الشاة المصلية، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف وانتهش منها، وتناول بشر عظماً فانتهش منه، فلما استرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمته، استرط بشر بن البراء ما في فيه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارفعوا أيديكم، فإن كتف هذه الشاة يخبرني أني نعيت فيها)).
فقال بشر بن البراء: والذي أكرمك، لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت فما منعني أن ألفظها، إلا أني أعظمتك أن أبغضك طعامك، فلما أسغت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا تكون استرطتها وفيها نعي.
فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان، وماطله وجعه حتى كان لا يتحول حتى يحول.
قال الزهري: قال جابر: واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، حجمه مولى بني بياضة بالقرن والشفرة، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي فيه.
فقال: ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر عداداً، حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري)) فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً.
وقال محمد بن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة ثم جاءت بها.
فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع، فلاك منها مضغة، فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها.
ثم قال: ((إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم)) ثم دعا بها فاعترفت.
فقال: ((ما حملك على ذلك ؟)).
قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان كذاباً استرحت منه، وإن كان نبياً فسيخبر.
قال: فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بشر من أكلته التي أكل.
قال ابن إسحاق: وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في مرضه الذي توفي فيه - ودخلت عليه أخت بشر بن البراء بن معرور -: ((يا أم بشر إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر)).
قال ابن هشام: الأبهر: العرق المعلق بالقلب.
قال: فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا هلال بن بشر، وسليمان بن يوسف الحراني، قالا: ثنا أبو غياث سهل بن حماد، ثنا عبد الملك بن أبي نضرة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن يهودية أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة سميطاً.
فلما بسط القوم أيديهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمسكوا فإن عضو من أعضائها يخبرني أنها مسمومة)).
فأرسل إلى صاحبتها: ((أسممت طعامك ؟)).
قالت: نعم.
قال: ((ما حملك على ذلك ؟)).
قالت: إن كنت كذاباً أن أريح الناس منك، وإن كنت صادقاً علمت أن الله سيطلعك عليه.
فبسط يده وقال: ((كلوا بسم الله)) قال: فأكلنا وذكرنا اسم الله فلم يضر أحداً منا.
ثم قال: لا يروى عن عبد الملك بن أبي نضرة إلا من هذا الوجه.
قلت: وفيه نكارة وغرابة شديدة، والله أعلم.
وذكر الواقدي: أن عيينة بن حصن قبل أن يسلم رأى في منامه رؤيا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر خيبر، فطمع من رؤياه أن يقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظفر به.
فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وجده قد افتتحها؛ فقال: يا محمد أعطني ما غنمت من حلفائي - يعني: أهل خيبر -.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذبت رؤياك)) وأخبره بما رأى.
فرجع عيينة فلقيه الحارث بن عوف فقال: ألم أقل إنك توضع في غير شيء، والله ليظهرن محمد على ما بين المشرق والمغرب، وإن يهود كانوا يخبروننا بهذا، أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول: إنا لنحسد محمداً على النبوة حيث خرجت من بني هارون، إنه لمرسل، ويهود لا تطاوعني على هذا.
ولنا منه ذبحان، واحد بيثرب وآخر بخيبر.
قال الحارث: قلت لسلام يملك الأرض ؟
قال: نعم والتوراة التي أنزلت على موسى وما أحب أن تعلم يهود بقولي فيه.
فصل انصراف رسول الله إلى وادي القرى ومحاصرة أهله.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر انصرف إلى وادي القرى، فحاصر أهله ليال ثم انصرف راجعاً إلى المدينة.
ثم ذكر من قصة مدعم وكيف جاءه سهم غارب فقتله، وقال الناس: هنيئاً له الشهادة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر لم يصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً)).
وقد تقدم في (صحيح البخاري) نحو ما ذكره ابن إسحاق والله أعلم.
وسيأتي ذكر قتاله عليه السلام بوادي القرى.
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أبي عمرة عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلاً من أشجع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((صلوا على صاحبكم)).
فتغير وجوه الناس من ذلك، فقال: ((إن صاحبكم غل في سبيل الله)).
ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز يهود ما يساوي درهمين.
وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث يحيى بن سعيد القطان.
ورواه أبو داود، وبشر بن المفضل، وابن ماجه، من حديث الليث بن سعد ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري به.
وقد ذكر البيهقي: أن بني فزارة أرادوا أن يقاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من خيبر وتجمعوا لذلك، فبعث إليهم يواعدهم موضعاً معيناً فلما تحققوا ذلك هربوا كل مهرب؛ وذهبوا من طريقه كل مذهب.
وتقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلت صفية من استبرائها دخل بها بمكان يقال له: سد الصهباء، في أثناء طريقه إلى المدينة؛ وأولم عليها بحيس.
وأقام ثلاثة أيام يبني عليه بها، وأسلمت فأعتقها وتزوجها وجعل عتاقها صداقها، وكانت إحدى أمهات المؤمنين كما فهمه الصحابة لما مد عليها الحجاب وهو مردفها وراءه رضي الله عنها.
وذكر محمد بن إسحاق في السيرة قال: لما أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية بخيبر - أو ببعض الطريق - وكانت التي جمّلتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشطتها وأصلحت من أمرها أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك.
وبات بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة له وبات أبو أيوب متوشحاً بسيفه يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطيف بالقبة، حتى أصبح، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه قال: ((ما لك يا أبا أيوب؟)).
قال: خفت عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك.
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني)).
ثم قال: حدثني الزهري عن سعيد بن المسيب فذكر نومهم عن صلاة الصبح مرجعهم من خيبر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أولهم استيقاظاً فقال: ((ماذا صنعت بنا يا بلال ؟)).
قال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك.
قال: ((صدقت)).
ثم اقتاد ناقته غير كثير ثم نزل، فتوضأ وصلى كما كان يصليها قبل ذلك.
وهكذا رواه مالك، عن الزهري، عن سعيد مرسلاً، وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقد قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر، فسار ليلة حتى إذا أدركنا الكرى عرّس وقال لبلال: ((اكلأ لنا الليل)).
قال: فغلبت بلالاً عيناه وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظاً ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((يا بلال)).
قال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
قال: فاقتادوا رواحلهم شيئاً، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بلالاً فأقام الصلاة وصلى لهم الصبح، فلما أن قضى الصلاة قال: ((من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول: {وأقم الصلاة لذكري})).
قال يونس: وكان ابن شهاب يقرأها كذلك.
وهكذا رواه مسلم عن حرملة بن يحيى عن عبد الله بن وهب به وفيه أن ذلك كان مرجعهم من خيبر.
وفي حديث شعبة عن جامع بن شداد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، عن ابن مسعود: أن ذلك كان مرجعهم من الحديبية.
ففي رواية عنه أن بلالاً هو الذي كان يكلؤهم، وفي رواية عنه أنه هو الذي كان يكلؤهم.
قال الحافظ البيهقي: فيحتمل أن ذلك كان مرتين.
قال: وفي حديث عمران بن حصين، وأبي قتادة، نومهم عن الصلاة، وفيه حديث الميضاة فيحتمل أن ذلك إحدى هاتين المرتين أو مرة ثالثة.
قال: وذكر الواقدي في حديث أبي قتادة أن ذلك كان مرجعهم من غزوة تبوك.
قال: وروى زافر بن سليمان، عن شعبة، عن جامع بن شداد، عن عبد الرحمن، عن ابن مسعود أن ذلك كان مرجعهم من تبوك، فالله أعلم.
ثم أورد البيهقي ما رواه صاحب الصحيح من قصة عوف الأعرابي، عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين، في قصة نومهم عن الصلاة، وقصة المرأة صاحبة السطيحتين، وكيف أخذوا منهما ماء روى الجيش بكماله، ولم ينقص ذلك منهما شيئاً.
ثم ذكر ما رواه مسلم من حديث ثابت البناني عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، وهو حديث طويل، وفيه نومهم عن الصلاة، وتكثير الماء من تلك الميضاة.
وقد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة.
وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا عبد الواحد، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن أبي موسى الأشعري قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبراً، وقال لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر لا إله إلا الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم)).
وأنا خلف دابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعني وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: ((يا عبد الله بن قيس)).
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: ((ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة)).
قلت: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي.
قال: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)).
وقد رواه بقية الجماعة من طرق، عن عبد الرحمن بن مل أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري، والصواب أنه كان مرجعهم من خيبر، فإن أبا موسى إنما قدم بعد فتح خيبر كما تقدم.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - قد أعطى ابن لقيم العبسي حين افتتح خيبر ما بها من دجاجة أو داجن، وكان فتح خيبر في صفر، فقال ابن لقيم في فتح خيبر:
رميت نطاة من الرسول بفيلقٍ * شهباء ذات مناكب وفقار
واستيقنت بالذلّ لما شيعت * ورجال أسلم وسطها وغفار
صبحت بني عمرو بن زرعة غدوة * والشق أظلم أهله بنهار
جرّت بأبطحها الذيول فلم تدع * إلا الدجاج تصيح بالأسحار
ولكل حصنٍ شاغل من خيلهم * من عبد الأشهل أو بني النجّار
ومهاجرين قد أعلموا سيماهم * فوق المغافر لم ينوا لفرار
ولقد علمت ليغلبن محمد * وليثوين بها إلى أصفار
فرّت يهود عند ذلك في الوغى * تحت العجاج غمائم الأبصار
فصل من استشهد بخيبر من الصحابة
على ما ذكره ابن إسحاق بن يسار رحمه الله، وغيره من أصحاب المغازي.
فمن خير المهاجرين ربيعة بن أكثم بن سخبرة الأسدي مولى بني أمية، وثقيف بن عمرو، ورفاعة بن مسروح حلفاء بني أمية، وعبد الله بن الهبيب بن أهيب بن سحيم بن غيرة من بني سعد بن ليث، حليف بني أسد وابن أختهم.
ومن الأنصار بشر بن البراء بن معرور، من أكلة الشاة المسمومة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وفضيل بن النعمان السلميّان، ومسعود بن سعد بن قيس بن خالد بن عامر بن زريق الزرقي، ومحمود بن مسلمة الأشهلي، وأبو ضياح حارثة بن ثابت بن النعمان العمري.
والحارث بن حاطب، وعروة بن مرة بن سراقة، وأوس بن الفائد، وأنيف بن حبيب، وثابت بن أثلة، وطلحة، وعمارة بن عقبة رُمي بسهم فقتله.
وعامر بن الأكوع ثم سلمة بن عمرو بن الأكوع، أصابه طرف سيفه في ركبته فقتله رحمه الله كما تقدم، والأسود الراعي.
وقد أفرد ابن إسحاق ها هنا قصته وقد أسلفناها في أوائل الغزوة، ولله الحمد والمنة.
قال ابن إسحاق: وممن استشهد بخيبر فيما ذكره ابن شهاب من بني زهرة مسعود بن ربيعة، حليف لهم من القارة، ومن الأنصار ثم من بني عمرو بن عوف أوس بن قتادة، رضي الله عنهم أجمعين.
خبر الحجاج بن علاط البهزي
قال ابن إسحاق: ولما فتحت خيبر كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجاج بن علاط السلمي، ثم البهزي فقال: يا رسول الله إن لي بمكة مالاً عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة - وكانت عنده، له منها معوض بن الحجاج - ومالاً متفرقاً في تجار أهل مكة، فائذن لي يا رسول الله.
فأذن له، فقال: إنه لا بد لي يا رسول الله أن أقول.
قال: ((قل)).
قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة، وجدت بثينة البيضاء رجالاً من قريش يستمعون الأخبار، ويسألون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز ريفاً ومنعة ورجالاً، وهم يتجسسون الأخبار من الركبان.
فلما رأوني قالوا: الحجاج بن علاط - قال ولم يكونوا علموا بإسلامي - عنده والله الخبر.
أخبرنا يا أبا محمد فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر، وهي بلد يهود وريف الحجاز ؟
قال: قلت: قد بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسركم.
قال: فالتبطوا بجنبي ناقتي يقولون: إيه يا حجاج ؟
قال: قلت: هُزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط.
وقد قتل أصحابه قتلاً لم يسمعوا بمثله قط، وأسر محمد أسراً وقالوا: لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم.
قال: فقاموا وصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر، وهذا محمد إنما تنتظرون أن يُقدم به عليكم فيُقتل بين أظهركم.
قال: قلت: أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي، فإني أريد أن أقدم خيبر، فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك.
قال: فقاموا فجمعوا لي ما كان لي كأحث جمع سمعت به.
قال: وجئت صاحبتي فقلت: مالي، وكان عندها مال موضوع، فلعلي ألحق بخيبر فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني التجار.
قال: فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر وما جاءه عني، أقبل حتى وقف إلى جنبي وأنا في خيمة من خيم التجار، فقال: يا حجاج ما هذا الذي جئت به ؟
قال: قلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك ؟
قال: نعم !
قال: قلت: فاستأخر حتى ألقاك على خلاء، فإني في جمع مالي كما ترى فانصرف حتى أفرغ.
قال: حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة وأجمعت الخروج لقيت العباس، فقلت: احفظ علي حديثي يا أبا الفضل فإني أخشى الطلب ثلاثاً، ثم قل: ما شئت.
قال: أفعل.
قلت: فإني والله تركت ابن أخيك عروساً على بنت ملكهم - يعني: صفية بنت حيي - وقد افتتح خيبر وانتثل ما فيها وصارت له ولأصحابه.
قال: ما تقول يا حجاج ؟
قال: قلت: أي والله فاكتم عني ولقد أسلمت، وما جئت إلا لآخذ مالي فرقاً عليه من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما تحب.
قال: حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له، وتخلق وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحر المصيبة !
قال: كلا والله الذي حلفتم به، لقد افتتح محمد خيبر، ونزل عروساً على بنت ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها وأصبحت له ولأصحابه.
قالوا: من جاءك بهذا الخبر ؟
قال: الذي جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلماً وأخذ أمواله فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه.
فقالوا: يا لعباد الله انفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن.
قال: ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك.
هكذا ذكر ابن إسحاق هذه القصة منقطعة.
وقد أسند ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال: حدثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، سمعت ثابتاً يحدث عن أنس قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر قال الحجاج بن علاط: يا رسول الله إني لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وإني أريد أن آتيهم أفأنا في حل إن أنا نلت منك أو قلت شيئاً ؟
فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء.
فأتى امرأته حين قدم فقال: اجمعي لي ما كان عندك فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم.
قال: وفشى ذلك بمكة فانقمع المسلمون، وأظهر المشركون فرحاً وسروراً.
قال: وبلغ الخبر العباس فعقر وجعل لا يستطيع أن يقوم.
قال معمر: فأخبرني عثمان الخزرجي عن مقسم قال: فأخذ ابناً يقال له: قثم، واستلقى ووضعه على صدره وهو يقول:
حبي قثم * شبه ذي الأنف الأشم * بني ذي النعم * بزعم من زعم
قال ثابت عن أنس: ثم أرسل غلاماً له إلى حجاج بن علاط فقال: ويلك ما جئت به وماذا تقول؟ فما وعد الله خير مما جئت به.
فقال حجاج بن علاط: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له: فليخل لي في بعض بيوته لآتيه فإن الخبر على ما يسره.
فجاء غلامه فلما بلغ الدار قال: أبشر يا أبا الفضل.
قال: فوثب العباس فرحاً حتى قبَّل بين عينيه، فأخبره ما قال حجاج فأعتقه.
قال: ثم جاءه الحجاج فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد افتتح خيبر، وغنم أموالهم، وجرت سهام الله في أموالهم، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي واتخذها لنفسه، وخيرها أن يعتقها وتكون زوجه أو تلحق بأهلها فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته.
قال: ولكني جئت لمال كان ها هنا أردت أن أجمعه فأذهب به، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لي أن أقول ما شئت، فاخفِ علي ثلاثاً ثم اذكر ما بدا لك.
قال: فجمعت امرأته ما كان عندها من حلي أو متاع فجمعته ودفعته إليه ثم انشمر به، فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج فقال: ما فعل زوجك ؟
فأخبرته أنه ذهب يوم كذا وكذا، وقالت: لا يحزنك الله يا أبا الفضل لقد شق علينا الذي بلغك.
قال: أجل لا يحزنني الله ولم يكن بحمد الله إلا ما أحببنا، فتح الله خيبر على رسوله، وجرت فيها سهام الله واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، فإن كانت لك حاجة في زوجك فالحقي به.
قالت: أظنك والله صادقاً ؟
قال: فإني صادق والأمر على ما أخبرتك.
ثم ذهب حتى أتى مجالس قريش وهم يقولون إذا مر بهم: لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل.
قال: لم يصيبني إلا خير بحمد الله، أخبرني الحجاج بن علاط أن خيبر فتحها الله على رسوله وجرت فيها سهام الله واصطفى صفية لنفسه، وقد سألني أن أخفي عنه ثلاثاً، وإنما جاء ليأخذ ماله وما كان له من شيء ها هنا ثم يذهب.
قال: فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين، وخرج المسلمون من كان دخل بيته مكتئباً حتى أتى العباس فأخبرهم الخبر، فسر المسلمون ورد ما كان من كآبة أو غيظ أو حزن على المشركين.
وهذا الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى النسائي، عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق به نحوه.
ورواه الحافظ البيهقي من طريق محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق.
ورواه أيضاً من طريق يعقوب بن سفيان، عن زيد بن المبارك، عن محمد بن ثور، عن معمر به نحوه.
وكذلك ذكر موسى بن عقبة في مغازيه: أن قريشاً كان بينهم تراهن عظيم وتبايع، منهم من يقول: يظهر محمد وأصحابه، ومنهم من يقول: يظهر الحليفان ويهود خيبر.
وكان الحجاج بن علاط السلمي، ثم البهزي قد أسلم وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح خيبر، وكان تحته أم شيبة أخت عبد الدار بن قصي، وكان الحجاج مكثراً من المال، وكانت له معادن أرض بني سليم.
فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر استأذن الحجاج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى مكة يجمع أمواله، فأذن له نحو ما تقدم، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: ومما قيل من الشعر في غزوة خيبر قول حسان:
بئس ما قاتلت خيابر عما * جمعوا من مزارع ونخيل
كرهوا الموت فاستبيح حماهم * وأقروا فعل الذميم الذليل
أمن الموت يهربون فإن المو * ت موت الهزال غير جميل
وقال كعب بن مالك فيما ذكره ابن هشام عن أبي زيد الأنصاري:
ونحن وردنا خيبراً وفروضه * بكل فتى عاري الأشاجع مزود
جوادٍ لدى الغايات لا واهن القوى * جريء على الأعداء في كل مشهد
عظيم رماد القدر في كل شتوة * ضروب بنصل المشرفيّ المهند
يرى القتل مدحاً إن أصاب شهادة * من الله يرجوها وفوزاً بأحمد
يذود ويحمي عن ذمار محمدٍ * ويدفع عنه باللسان وباليد
وينصره من كل أمرٍ يريبه * يجود بنفس دون نفس محمد
يصدق بالأنباء بالغيب مخلصاً * يريد بذاك العز والفوز في غد
فصل مروره صلى الله عليه وسلم بوادي القرى ومحاصرة اليهود ومصالحتهم
قال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى، وكان رفاعة بن زيد بن وهب الجذامي قد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً أسود يقال له: مدعم، وكان يُرحِّل لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما نزلنا بوادي القرى، انتهينا إلى يهود، وقدم إليها ناس من العرب، فبينا مدعم يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استقبلتنا يهود بالرمي حين نزلنا، ولم نكن على تعبية، وهم يصيحون في آطامهم، فيقبل سهم عاثر فأصاب مدعماً فقتله.
فقال الناس: هنيئاً له بالجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه ناراً)).
فلما سمع بذلك الناس، جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراك أو شراكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((شراك من نار أو شراكان من نار)).
وهذا الحديث في الصحيحين من حديث مالك، عن ثور بن يزيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
قال الواقدي: فعبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال، وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، و راية إلى الحباب بن المنذر، و راية إلى سهل بن حنيف، و راية إلى عباد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام، وأخبرهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءهم، وحسابهم على الله.
قال: فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه عليّ فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً، كل ما قتل منهم رجلاً دعى من بقي منهم إلى الإسلام.
ولقد كانت الصلاة تحضر ذلك اليوم فيصلي بأصحابه، ثم يعود فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله عز وجل ورسوله، وقاتلهم حتى أمسى، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوة، وغنمهم الله أموالهم، وأصابوا أثاثاً ومتاعاً كثيراً.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القرى أربعة أيام، فقسم ما أصاب على أصحابه وترك الأرض والنخيل في أيدي اليهود وعاملهم عليها، فلما بلغ يهود تيماء ما وطئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم.
فلما كان عمر أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى، لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز، ومن وراء ذلك من الشام.
قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة بعد أن فرغ من خيبر ووادي القرى، وغنَّمه الله عز وجل.
قال الواقدي: حدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجرف وهو يقول: ((لا تطرقوا النساء بعد صلاة العشاء)).
قالت: فذهب رجل من الحي فطرق أهله فوجد ما يكره، فخلى سبيلها ولم يهجر، وضنَّ بزوجته أن يفارقها، وكان له منها أولاد وكان يحبها، فعصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى ما يكره.
فصل تقسيم الثمار و الزروع في خيبر بين المسلمين و اليهود بالعدل.
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح خيبر، عامل يهودها عليها على شطر ما يخرج منها من تمر أو زرع.
وقد ورد في بعض ألفاظ هذا الحديث على أن يعملوها من أموالها، وفي بعضها، وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((نقركم ما شئنا)).
وفي السنن: أنه كان يبعث عليهم عبد الله بن رواحة يخرصها عليهم عند استواء ثمارها ثم يضمنهم إياه، فلما قتل عبد الله بن رواحة بمؤتة، بعث جبار بن صخر كما تقدم.
وموضع تحرير ألفاظه، وبيان طرقه، كتاب المزارعة من كتاب (الأحكام) إن شاء الله وبه الثقة.
وقال محمد بن إسحاق: سألت ابن شهاب كيف أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر نخلهم؟
فأخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال، وكانت خيبر مما أفاء الله عليه خمسها، وقسمها بين المسلمين، ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال.
فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوها، وتكون ثمارها بيننا وبينكم فأقركم ما أقركم الله)) فقبلوا وكانوا على ذلك يعملونها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيقسم ثمرها، ويعدل عليهم في الخرص، فلما توفَّى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، أقرها أبو بكر بأيديهم على المعاملة التي عاملهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي.
ثم أقرهم عمر بن الخطاب صدراً من إمارته، ثم بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الذي قبضه الله فيه: ((لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان)).
ففحص عمر عن ذلك، حتى بلغه الثبت، فأرسل إلى يهود فقال: إن الله أذن لي في إجلائكم، وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((لا يجتمعن في جزيرة العرب دينان)) فمن كان عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأتني به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد فليتجهز للجلاء، فأجلى عمر من لم يكن عنده عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
قلت: قد ادعى يهود خيبر في أزمان متأخرة بعد الثلثمائة أن بأيديهم كتاباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أنه وضع الجزية عنهم، وقد اغتر بهذا الكتاب بعض العلماء حتى قال بإسقاط الجزية عنهم، من الشافعية الشيخ أبو علي خيرون، وهو كتاب مزور مكذوب مفتعل لا أصل له، وقد بينت بطلانه من وجوه عديدة في كتاب مفرد.
وقد تعرض لذكره وإبطاله جماعة من الأصحاب في كتبهم كابن الصباغ في مسائله، والشيخ أبي حامد في تعليقته، وصنف فيه ابن المسلمة جزءاً منفرداً للرد عليه، وقد تحركوا به بعد السبعمائة، وأظهروا كتاباً فيه نسخة ما ذكره الأصحاب في كتبهم.
وقد وقفت عليه فإذا هو مكذوب، فإن فيه شهادة سعد بن معاذ، وقد كان مات قبل زمن خيبر، وفيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يومئذ.
وفي آخره: وكتبه علي بن أبي طالب وهذا لحن وخطأ، وفيه وضع الجزية ولم تكن شرعت بعد، فإنها إنما شرعت أول ما شرعت وأخذ من أهل نجران. وذكروا أنهم وفدوا في حدود سنة تسع، والله أعلم.
ثم قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر قال: خرجت أنا، والزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعاهدها، فلما قدمنا تفرقنا في أموالنا.
قال: فعدي عليَّ تحت الليل، وأنا نائم على فراشي ففدعت يداي من مرفقي، فلما استصرخت عليَّ صاحباي فأتياني فسألاني: من صنع هذا بك؟
فقلت: لا أدري، فأصلحا من يدي، ثم قدما بي على عمر فقال: هذا عمل يهود خيبر.
ثم قام في الناس خطيباً فقال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر، ففدعوا يديه كما بلغكم مع عدوتهم على الأنصاري قبله، لا نشك أنهم كانوا أصحابه، ليس لنا هناك عدو غيرهم، فمن كان له مال من خيبر فليلحق به، فإني مخرج يهود، فأخرجهم.
قلت: كان لعمر بن الخطاب سهمه الذي بخيبر، وقد كان وقفه في سبيل الله، وشرط في الوقف ما أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو ثابت في الصحيحين، وشرط أن يكون النظر فيه للأرشد فالأرشد من بناته وبنيه.
قال الحافظ البيهقي في (الدلائل): جماع أبواب السرايا التي تذكر بعد فتح خيبر، وقبل عمرة القضية، وإن كان تاريخ بعضها ليس بالواضح عند أهل المغازي.
سرية أبي بكر الصديق إلى بني فزارة
قال الإمام أحمد: حدثنا بهز، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا أياس بن سلمة، حدثني أبي قال: خرجنا مع أبي بكر بن أبي قحافة وأمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فغزونا بني فزارة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرَّسنا، فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر فشننا الغارة فقتلنا على الماء من مر قبلنا.
قال سلمة: ثم نظرت إلى عنق من الناس، فيه من الذرية والنساء نحو الجبل، وأنا أعدو في آثارهم فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل.
قال: فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر حتى أتيته على الماء، وفيهم امرأة من فزارة عليها قشع من أدم، ومعها ابنة لها من أحسن العرب.
قال: فنفلني أبو بكر بنتها.
قال: فما كشفت لها ثوباً حتى قدمت المدينة، ثم بت فلم أكشف لها ثوباً.
قال: فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق، فقال لي: ((يا سلمة هب لي المرأة)).
قال: فقلت والله يا رسول الله لقد أعجبتني، وما كشفت لها ثوباً.
قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني، حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: ((يا سلمة هب لي المرأة)).
قال: فقلت يا رسول الله والله لقد أعجبتني، وما كشفت لها ثوباً.
قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني، حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق: ((فقال يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك)).
قال: قلت يا رسول الله والله ما كشفت لها ثوباً وهي لك يا رسول الله.
قال: بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، وفي أيديهم أسارى من المسلمين، ففداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة.
وقد رواه مسلم، والبيهقي، من حديث عكرمة بن عمار به.
سرية عمر بن الخطاب إلى تُرَبَة وراء مكة بأربعة أميال
ثم أورد البيهقي من طريق الواقدي بأسانيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ثلاثين راكباً إلى عجز هوازن بتربة، ومعه دليل من بني هلال، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار.
فلما انتهوا إلى بلادهم هربوا منهم، وكرَّ عمر راجعاً إلى المدينة، فقيل له: هل لك في قتال خثعم؟
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرني إلا بقتال هوازن في أرضهم.
سرية عبد الله بن رواحة إلى يسير بن رزام اليهودي
ثم أورد من طريق إبراهيم بن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، ومن طريق موسى بن عقبة، عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن رواحة في ثلاثين راكباً، فيهم عبد الله بن رواحة إلى يسير بن رزام اليهودي، حتى أتوه بخيبر.
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يجمع غطفان ليغزوه بهم، فأتوه فقالوا: أرسلنا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملك على خيبر، فلم يزالوا به حتى تبعهم في ثلاثين رجلاً، مع كل رجل منهم رديف من المسلمين.
فلما بلغوا قرقرة نيار، وهي من خيبر على ستة أميال، ندم يسير بن رزام، فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن رواحة، ففطن له عبد الله بن رواحة فزجر بعيره.
ثم اقتحم يسوق بالقوم حتى استمكن من يسير ضرب رجله فقطعها، واقتحم يسير وفي يده مخراش من شوحط، فضرب به وجه عبد الله بن رواحة فشجه شجة مأمومة.
وانكفأ كل رجل من المسلمين على رديفه فقتله غير رجل واحد من اليهود أعجزهم شداً، ولم يصب من المسلمين أحد.
وبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شجة عبد الله بن رواحة فلم تقيح، ولم تؤذه حتى مات.
سرية أخرى مع بشير بن سعد
روي من طريق الواقدي بإسناده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بشير بن سعد في ثلاثين راكباً إلى بني مرة من أرض فدك فاستاق نعمهم، فقاتلوه وقتلوا عامة من معه، وصبر هو يومئذ صبراً عظيماً، وقاتل قتالاً شديداً.
ثم لجأ إلى فدك فبات بها عند رجل من اليهود، ثم كر راجعاً إلى المدينة.
قال الواقدي: ثم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله ومعه جماعة من كبار الصحابة، فذكر منهم أسامة بن زيد، وأبا مسعود البدري، وكعب بن عجرة.
ثم ذكر مقتل أسامة بن زيد لمرداس بن نهيك حليف بني مرة، وقوله حين علاه بالسيف: لا إله إلا الله، وأن الصحابة لاموه على ذلك حتى سقط في يده وندم على ما فعل.
وقد ذكر هذه القصة يونس بن بكير عن ابن إسحاق، عن شيخ من بني سلمة، عن رجال من قومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غالب بن عبد الله الكلبي إلى أرض بني مرة، فأصاب مرداس بن نهيك حليفاً لهم من الحرقة فقتله أسامة.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن أسامة بن محمد بن أسامة عن أبيه، عن جده أسامة بن زيد قال: أدركته أنا ورجل من الأنصار - يعني مرداس بن نهيك - فلما شهرنا عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله فلم ننزع عنه حتى قتلناه.
فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه، فقال: ((يا أسامة من لك بلا إله إلا الله)).
فقلت: يا رسول الله إنما قالها تعوذاً من القتل.
قال: ((فمن لك يا أسامة بلا إله إلا الله)) فوالذي بعثه بالحق ما زال يرددها عليَّ حتى تمنيت أن ما مضى من إسلامي لم يكن، وأني أسلمت يومئذ ولم أقتله.
فقلت: إني أعطي الله عهداً أن لا أقتل رجلاً يقول لا إله إلا الله أبداً.
فقال: ((بعدي يا أسامة)).
فقلت: بعدك.
قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم بن بشير، أنبأنا حصين، عن أبي ظبيان، قال: سمعت أسامة بن زيد يحدث قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة.
قال: فصبحناهم، وكان منهم رجل إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا، وإذا أدبروا كان حاميتهم.
قال: فغشيته أنا ورجل من الأنصار، فلما تغشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري وقتلته.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله)).
قال: قلت يا رسول الله إنما كان متعوذاً من القتل.
قال: فكررها عليَّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
وأخرجه البخاري ومسلم، من حديث هشيم به نحوه.
وقال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة، عن مسلم بن عبد الله الجهني، عن جندب بن مكيث الجهني قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي - كلب ليث إلى بني الملوح بالكديد - وأمره أن يغير عليهم وكنت في سريته.
فمضينا حتى إذا كنا بالقديد، لقينا الحارث بن مالك بن البرصاء الليثي فأخذناه فقال: إني إنما جئت لأسلم، فقال له غالب بن عبد الله: إن كنت إنما جئت لتسلم فلا يضيرك رباط يوم وليلة، وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك.
قال: فأوثقه رباطاً وخلف عليه رويجلاً أسود كان معنا، وقال: أمكث معه حتى نمر عليك، فإن نازعك فاحتز رأسه.
ومضينا حتى أتينا بطن الكديد، فنزلنا عشية بعد العصر، فبعثني أصحابي إليه، فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر فانبطحت عليه، وذلك قبل غروب الشمس، فخرج رجل منهم فنظر فرآني منبطحاً على التل.
فقال لامرأته: إني لأرى سواداً على هذا التل ما رأيته في أول النهار، فانظري لا تكون الكلاب اجترت بعض أوعيتك؟ فنظرت فقالت: والله ما أفقد منها شيئاً.
قال: فناوليني قوسي وسهمين من نبلي، فناولته فرماني بسهم في جنبي، أو قال في جبيني، فنزعته فوضعته ولم أتحرك، ثم رماني بالآخر فوضعه في رأس منكبي فنزعته فوضعته ولم أتحرك، فقال لامرأته: أما والله لقد خالطه سهماي ولو كان ريبة لتحرك، فإذا أصبحت فابتغي سهمي فخذيهما لا تمضغهما علي الكلاب.
قال: فأمهلنا حتى إذا راحت روايحهم، وحتى احتلبوا وعطنوا وسكنوا، وذهبت عتمة من الليل، شننا عليهم الغارة فقتلنا، واستقنا النعم، ووجهنا قافلين به، وخرج صريخ القوم إلى قومهم بقربنا.
قال: وخرجنا سراعاً حتى نمر بالحارث بن مالك بن البرصاء وصاحبه، فانطلقنا به معنا وأتانا صريخ الناس فجاءنا ما لا قبل لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي من قديد، بعث الله من حيث شاء ماء ما رأينا قبل ذلك مطراً ولا حالاً، وجاء بما لا يقدر أحد أن يقدم عليه.
فلقد رأيتهم وقوفاً ينظرون إلينا ما يقدر أحد منهم أن يقدم عليه، ونحن نجديها أو نحدوها - شك النفيلي - فذهبنا سراعاً حتى أسندنا بها في المسلك، ثم حذرنا عنه حتى أعجزنا القوم بما في أيدينا.
وقد رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق، في روايته عبد الله بن غالب، والصواب غالب بن عبد الله كما تقدم.
وذكر الواقدي هذه القصة بإسناد آخر وقال فيه: وكان معه من الصحابة مائة وثلاثون رجلاً.
ثم ذكر البيهقي من طريق الواقدي سرية بشير بن سعد أيضاً إلى ناحية خيبر، فلقوا جمعاً من العرب وغنموا نعماً كثيراً، وكان بعثه في هذه السرية بإشارة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكان معه من المسلمين ثلاثمائة رجل، ودليله حسيل بن نويرة، وهو الذي كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر.
قاله الواقدي.
سرية بني حدرد إلى الغابة
قال يونس عن محمد بن إسحاق: كان من حديث قصة أبي حدرد وغزوته إلى الغابة ما حدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم، عن أبي حدرد قال: تزوجت امرأة من قومي فأصدقتها مائتي درهم.
قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحي فقال: ((كم أصدقت ؟)).
فقلت: مائتي درهم.
فقال: ((سبحان الله ! والله لو كنتم تأخذونها من وادٍ ما زدتم، والله ما عندي ما أعينك به)).
فلبثت أياماً، ثم أقبل رجل من جشم بن معاوية يقال له: رفاعة بن قيس - أو قيس بن رفاعة - في بطن عظيم من جشم، حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة يريد أن يجمع قيساً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذا اسم وشرف في جشم.
قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين معي من المسلمين فقال: ((اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوا منه بخبر وعلم)).
وقدم لنا شارفاً عجفاء، فحمل عليه أحدنا، فوالله ما قامت به ضعفاً حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم، حتى استقلت وما كادت، وقال: ((تبلغوا على هذه)).
فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف، حتى إذا جئنا قريباً من الحاضر مع غروب الشمس فكمنت في ناحية، وأمرت صاحبي، فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم، وقلت لهما: إذا سمعتماني قد كبرت وشددت في العسكر فكبرا وشدا معي، فوالله أنا كذلك ننتظر أن نرى غرة أو نرى شيئاً، وقد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء.
وقد كان لهم راعٍ قد سرح في ذلك البلد، فأبطأ عليهم وتخوفوا عليه، فقام صاحبهم رفاعة بن قيس، فأخذ سيفه فجعله في عنقه فقال: والله لأتيقنن أمر راعينا ولقد أصابه شر.
فقال نفر ممن معه: والله لا تذهب نحن نكفيك.
فقال: لا إلا أنا.
قالوا: نحن معك.
فقال: والله لا يتبعني منكم أحد.
وخرج حتى مر بي فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فوالله ما تكلم فوثبت إليه، فاحتززت رأسه ثم شددت ناحية العسكر وكبرت، وشد صاحباي وكبرا، فوالله ما كان إلا التجأ ممن كان فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم، وما خف معهم من أموالهم.
واستقنا إبلاً عظيمة، وغنماً كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجئت برأسه أحمله معي، فأعطاني من تلك الإبل ثلاثة عشر بعيراً في صداقي فجمعت إلي أهلي.
السرية التي قتل فيها محلم بن جثامة عامر بن الأضبط
قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن ابن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلى أضم في نفر من المسلمين، منهم أبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحلم بن جثامة بن قيس.
فخرجنا حتى إذا كنا ببطن أضم، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له ووطب من لبن، فسلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتيعه.
فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه الخبر، فنزل فينا القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء: 94].
هكذا رواه الإمام أحمد، عن يعقوب، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه فذكره.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر، سمعت زياد بن ضميرة بن سعد الضمري يحدث، عن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن جده قالا - وكانا شهدا حنيناً - قالا: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر.
فقام إلى ظل شجرة فقعد فيه، فقام إليه عيينة بن بدر، فطلب بدم عامر بن الأضبط الأشجعي، وهو سيد عامر: ((هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين بعيراً، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة)).
فقال عيينة بن بدر: والله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحزن مثل ما أذاق نسائي.
فقال رجل من بني ليث يقال له: ابن مكيتل وهو قصير من الرجال، فقال: يا رسول الله ما أجد لهذا القتيل شبهاً في غرة الإسلام، إلا كغنم وردت فشربت أولاها، فنفرت أخراها، استن اليوم وغير غداً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل لكم أن تأخذوا خمسين بعيراً الآن، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة)) فلم يزل بهم حتى رضوا بالدية.
فقال قوم محلم بن جثامة: إيتوا به حتى يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فجاء رجل طوال ضرب اللحم في حلة قد تهيأ فيها للقتل، فقام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تغفر لمحلم)) قالها ثلاثاً، فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه.
قال محمد بن إسحاق: زعم قومه أنه استغفر له بعد ذلك.
وهكذا رواه أبو داود، من طريق حماد بن سلمة، عن ابن إسحاق.
ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن زيد بن ضميرة، عن أبيه، عن عمه، فذكر بعضه.
والصواب كما رواه ابن إسحاق عن محمد بن جعفر، عن زياد بن سعد بن ضميرة، عن أبيه، وعن جده.
وهكذا رواه أبو داود من طريق ابن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، وعن عبد الرحمن بن الحارث، عن محمد بن جعفر، عن زياد بن سعد بن ضميرة، عن أبيه وجده بنحوه، كما تقدم.
وقال ابن إسحاق: حدثني سالم أبو النضر أنه قال: لم يقبلوا الدية حتى قام الأقرع بن حابس فخلا بهم، وقال:
يا معشر قيس سألكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيلاً تتركونه ليصلح به بين الناس، فمنعتموه إياه، أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيغضب الله لغضبه ويلعنكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلعنكم الله بلعنته لكم، لتسلمنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآتين بخمسين من بني تميم، كلهم يشهدون أن القتيل كافر ما صلى قط فلا يطلبن دمه.
فلما قال ذلك لهم أخذوا الدية.
وهذا منقطع معضل.
وقد روى ابن إسحاق عمن لا يتهم، عن الحسن البصري: أن محلماً لما جلس بين يديه عليه الصلاة والسلام قال له: ((أمنته ثم قتلته ؟)) ثم دعا عليه.
قال الحسن: فوالله ما مكث محلم إلا سبعاً حتى مات فلفظته الأرض، ثم دفنوه فلفظته الأرض، ثم دفنوه فلفظته الأرض، فرضموا عليه من الحجارة حتى واروه، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الأرض لتطابق على من هو شر منه، ولكن الله أراد أن يعظكم في حرم ما بينكم لما أراكم منه)).
وقال ابن جرير: ثنا وكيع، ثنا جرير، عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثاً فلقيهم عامر بن الأضبط فحياهم بتحية الإسلام - وكانت بينهم هنة في الجاهلية - فرماه محلم بسهم فقتله.
فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: يا رسول الله سن اليوم وغير غداً.
فقال عيينة: لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي، فجاء محلم في بردين فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا غفر الله لك)) فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة حتى مات، فدفنوه فلفظته الأرض.
فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: ((إن الأرض لتقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم من حرمتكم)).
ثم طرحوه في جبل فألقوا عليه من الحجارة، ونزلت: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا..} الآية
وقد ذكره موسى بن عقبة، عن الزهري، ورواه شعيب، عن الزهري، عن عبد الله بن وهب، عن قبيصة بن ذؤيب نحو هذه القصة، إلا أنه لم يسم محلم بن جثامة، ولا عامر بن الأضبط.
وكذلك رواه البيهقي، عن الحسن البصري بنحو هذه القصة وقال: فيه نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا..} الآية.
قلت: وقد تكلمنا في سبب نزول هذه الآية ومعناها في التفسير بما فيه الكفاية، ولله الحمد والمنة.
سرية عبد الله بن حذافة السهمي
ثبت في الصحيحين من طريق الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن علي بن أبي طالب قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار على سرية بعثهم، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا.
قال: فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطباً فجمعوا.
فقال: أوقدوا ناراً فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا ؟
قالوا: بلى.
قال: فادخلوها.
قال: فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار.
قال: فسكن غضبه وطفئت النار، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال: ((لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف)).
وهذه القصة ثابتة أيضاً في الصحيحين من طريق يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وقد تكلمنا على هذه بما فيه كفاية في التفسير، ولله الحمد والمنة.
بسم الله الرحمن الرحيم
عمرة القضاء
ويقال: القِصاص. ورجحه السهيلي. ويقال: عمرة القضية.
فالأولى قضاء عما كان أحصر عام الحديبية.
والثاني من قوله تعالى: {والحرمات قصاص}.
والثالث من المقاضاة التي كان قاضاهم عليها على أن يرجع عنهم عامه هذا، ثم يأتي في العام القابل، ولا يدخل مكة إلا في جلبان السلاح، وأن لا يقيم أكثر من ثلاثة أيام.
وهذه العمرة هي المذكورة في قوله تعالى في سورة الفتح المباركة: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله أمنين محلقين رؤسكم ومقصرين لا تخافون..} الآية.
وقد تكلمنا عليها مستقصى في كتابنا التفسير بما فيه كفاية وهي الموعود بها في قوله عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب حين قال له: ألم تكن تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟
قال: ((بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا)).
قال: لا.
قال: ((فإنك آتيه ومطوف به)).
وهي المشار إليها في قول عبد الله بن رواحة، حين دخل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة يوم عمرة القضاء وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله * اليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله
أي: هذا تأويل الرؤيا التي كان رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت مثل فلق الصبح.
قال ابن إسحاق: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة أقام بها شهري ربيع وجماديين ورجباً وشعبان، وشهر رمضان وشوالاً يبعث فيما بين ذلك سراياه، ثم خرج من ذي القعدة في الشهر الذي صده فيه المشركون، معتمراً عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عويف بن الأضبط الدئلي.
ويقال لها عمرة القصاص: لأنهم صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ست، فاقتص رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فدخل مكة في ذي القعدة في الشهر الحرام الذي صدوه فيه من سنة سبع، بلغنا عن ابن عباس أنه قال: فأنزل الله تعالى في ذلك: {والحرمات قصاص}.
وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه في (مغازيه): لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر أقام بالمدينة، وبعث سراياه حتى استهل ذي القعدة، فنادى في الناس أن تجهزوا للعمرة فتجهزوا، وخرجوا إلى مكة.
وقال ابن إسحاق: وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه في عمرته تلك، وهي سنة سبع، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه، وتحدثت قريش بينها أن محمداً في عسرة وجهد وشدة.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن عباس قال: صفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى ثم قال: ((رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة)).
ثم استلم الركن، ثم خرج يهرول ويهرول أصحابه معه حتى إذا واراه البيت منهم، واستلم الركن اليماني مشى حتى استلم الركن الأسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ومشى سائرها.
فكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم حتى حج حجة الوداع فلزمها فمضت السنة بها.
وقال البخاري: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد - هو ابن زيد - عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاث، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
قال أبو عبد الله: ورواه أبو سلمة - يعني حماد بن سلمة - عن أيوب، عن سعيد، عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامهم الذي استأمن قال: ((ارملوا ليرى المشركون قوتكم)) والمشركون من قبل قعيقعان.
ورواه مسلم، عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد.
وأسند البيهقي من طريق حماد بن سلمة.
وقال البخاري: ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، سمع ابن أبي أوفى يقول: لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي بقية الكلام على هذا المقام.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة في تلك العمرة دخلها وعبد الله بن رواحة آخذ بخطام ناقته يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله * خلوا فكل الخير في رسوله
يا رب إني مؤمن بقيله * أعرف حق الله في قبوله
نحن قتلناكم على تأويله * كما قتلناكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
قال ابن هشام: نحن قتلناكم على تأويله إلى آخر الأبيات لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم - يعني يوم صفين - قاله السهيلي.
قال ابن هشام: والدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين، والمشركون لم يقروا بالتنزيل، وإنما يقاتل على التأويل من أقر بالتنزيل.
وفيما قاله ابن هشام نظر، فإن الحافظ البيهقي روى من غير وجه عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أنس قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء مشى عبد الله بن رواحة بين يديه، وفي رواية وهو آخذ بغرزه وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله * قد نزل الرحمن في تنزيله
بأن خير القتل في سبيله * نحن قتلناكم على تأويله
وفي رواية بهذا الإسناد بعينه:
خلوا بني الكفار عن سبيله * اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
يا رب إني مؤمن بقيله
وقال يونس بن بكير، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام القضية مكة فطاف بالبيت على ناقته، واستلم الركن بمحجنه.
قال ابن هشام: من غير علة، والمسلمون يشتدون حوله وعبد الله بن رواحة يقول:
بسم الذي لا دين إلا دينه * بسم الذي محمد رسوله
خلوا بني الكفار عن سبيله *
قال موسى بن عقبة، عن الزهري: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل من عام الحديبية معتمراً في ذي القعدة سنة سبع، وهو الشهر الذي صده المشركون عن المسجد الحرام، حتى إذا بلغ يأجج وضع الأداة كلها الحجف والمجان، والرماح، والنبل، ودخلوا بسلاح الراكب السيوف.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه جعفر بن أبي طالب إلى ميمونة بنت الحارث العامرية، فخطبها عليه فجعلت أمرها إلى العباس، وكان تحته أختها أم الفضل بنت الحارث، فزوجها العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه قال: ((اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف)) ليرى المشركون جلدهم وقوتهم، وكان يكايدهم بكل ما استطاع.
فاستكف أهل مكة الرجال والنساء والصبيان ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو يطوفون بالبيت، وعبد الله بن رواحة يرتجز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحاً بالسيف وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله * أنا الشهيد أنه رسوله
قد أنزل الرحمن في تنزيله * في صحف تتلى على رسوله
فاليوم نضربكم على تأويله * كما ضربناكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
قال: وتغيب رجال من أشراف المشركين أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيظاً وحنقاً، ونفاسة وحسداً.
وخرجوا إلى الخندمة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وأقام ثلاث ليال، وكان ذلك آخر القضية يوم الحديبية.
فلما أتى الصبح من اليوم الرابع، أتاه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فصاح حويطب بن عبد العزى: نناشدك الله والعقد لما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث.
فقال سعد بن عبادة: كذبت لا أم لك ليس بأرضك ولا بأرض آبائك والله لا يخرج.
ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلاً وحويطباً فقال: ((إن قد نكصت فيكم امرأة، لا يضركم أن أمكث حتى أدخل بها ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا)).
فقالوا: نناشدك الله والعقد إلا خرجت عنا.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع فأذن بالرحيل، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل ببطن سرف، وأقام المسلمون، وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع ليحمل ميمونة، وأقام بسرف حتى قدمت عليه ميمونة.
وقد لقيت ميمونة ومن معها عناء وأذى من سفهاء المشركين ومن صبيانهم، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف فبنى بها، ثم أدلج فسار حتى أتى المدينة، وقدر الله أن يكون موت ميمونة بسرف بعد ذلك بحين، فماتت حيث بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر قصة ابنة حمزة إلى أن قال: وأنزل الله عز وجل في تلك العمرة: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص} فاعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام الذي صد فيه.
وقد روى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير نحواً من هذا السياق، ولهذا السياق شواهد كثيرة من أحاديث متعددة:
ففي صحيح البخاري من طريق فليح بن سليمان، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحاً إلا سيوفاً، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا.
فاعتمر من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثاً أمروه أن يخرج فخرج.
وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: لم تكن هذه عمرة قضاء، وإنما كانت شرطاً على المسلمين أن يعتمروا من قابل في الشهر الذي صدهم فيه المشركون.
وقال أبو داود: ثنا النفيلي، ثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن ميمون: سمعت أبا حاضر الحميري يحدث أن ميمون بن مهران قال: خرجت معتمراً عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة، وبعث معي رجال من قومي بهدي.
قال: فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم.
قال: فنحرت الهدي مكاني، ثم أحللت، ثم رجعت، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي، فأتيت ابن عباس فسألته فقال: أبدل الهدي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء.
تفرد به أبو داود من حديث أبي حاضر عثمان بن حاضر الحميري، عن ابن عباس فذكره.
وقال الحافط البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني عمرو بن ميمون قال:
كان أبي يسأل كثيراً أهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدل هديه الذي نحر حين صده المشركون عن البيت؟ ولا يجد في ذلك شيئاً، حتى سمعته يسأل أبا حاضر الحميري عن ذلك.
فقال له: على الخبير سقطت، حججت عام ابن الزبير في الحصر الأول فأهديت هدياً فحالوا بيننا وبين البيت، فنحرت في الحرم ورجعت إلى اليمن، وقلت: لي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، فلما كان العام المقبل حججت فلقيت ابن عباس فسألته عما نحرت عليَّ بدله أم لا ؟
قال: نعم فأبدل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد أبدلوا الهدي الذي نحروا عام صدهم المشركون، فأبدلوا ذلك في عمرة القضاء، فعزت الإبل عليهم فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقر.
وقال الواقدي: حدثني غانم بن أبي غانم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب الأسلمي على هديه يسير بالهدي أمامه، يطلب الرعي في الشجر، معه أربعة فتيان من أسلم، وقد ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية ستين بدنة.
فحدثني محمد بن نعيم المجمر، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: كنت مع صاحب البدن أسوقها.
قال الواقدي: وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي والمسلمون معه يلبون، ومضى محمد بن مسلمة بالخيل إلى مر الظهران فيجد بها نفراً من قريش، فسألوا محمد بن مسلمة؟
فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غداً إن شاء الله، ورأوا سلاحاً كثيراً مع بشير بن سعد فخرجوا سراعاً حتى أتوا قريشاً فأخبروهم بالذي رأوا من السلاح والخيل، ففزعت قريش وقالوا: والله ما أحدثنا حدثاً وإنا على كتابنا وهدنتنا ففيم يغزونا محمد في أصحابه ؟
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح إلى بطن يأجج حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وبعثت قريش مكرز بن حفص بن الأحنف في نفر من قريش حتى لقوه ببطن يأجج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه والهدي والسلاح قد تلاحقوا.
فقالوا: يا محمد ما عرفت صغيراً ولا كبيراً بالغدر، تدخل بالسلاح في الحرم على قومك، وقد شرطت لهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر، السيوف في القرب.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لا أدخل عليهم السلاح)).
فقال مكرز بن حفص: هذا الذي تعرف به البر والوفاء، ثم رجع سريعاً بأصحابه إلى مكة، فلما أن جاء مكرز بن حفص بخبر النبي صلى الله عليه وسلم خرجت قريش من مكة إلى رؤوس الجبال وخلوا مكة، وقالوا: لا ننظر إليه ولا إلى أصحابه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي أمامه حتى حبس بذي طوى.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رحمهم الله، وهو على ناقته القصواء وهم محدقون به يلبون، وهم متوشحون السيوف.
فلما انتهى إلى ذي طوى وفق على ناقته القصواء والمسلمون حوله، ثم دخل من الثنية التي تطلعه على الحجون على راحلته القصواء، وابن رواحة آخذ بزمامها وهو يرتجز بشعره ويقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله * إلى آخره
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة - يعني من ذي القعدة سنة سبع - فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن الصباح، ثنا إسماعيل بن زكريا، عن عبد الله بن عثمان، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران من عمرته، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تقول ما يتباعثون من العجف.
فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا، فأكلنا من لحومه وحسونا من مرقه أصبحنا غداً حين ندخل مكة على القوم وبنا جمامة.
فقال: ((لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم)) فجمعوا له وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تركوا، وحشى كل واحد منهم في جرابه، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد، وقعدت قريش نحو الحجر، فاضطبع بردائه ثم قال: ((لا يرى القوم فيكم غميزة)).
فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي، أما أنهم لينفرون نفر الظباء، ففعل ذلك ثلاثة أطواف فكانت سنة.
قال أبو الطفيل: وأخبرني ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع.
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
قال أبو داود: ثنا أبو سلمة موسى، ثنا حماد - يعني ابن سلمة - أنبأنا أبو عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة ؟
فقال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما صدقوا وما كذبوا ؟
قال: صدقوا رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذبوا ليس بسنة، إن قريشاً زمن الحديبية قالت: دعوا محمداً وأصحابه حتى يموتوا موت النغف.
فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون من قبل قعيقعان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((ارملوا بالبيت ثلاثاً)) قال: وليس بسنة.
وقد رواه مسلم من حديث سعيد الجريري، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، وعبد الملك بن سعيد بن أبجر ثلاثتهم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن ابن عباس به نحوه.
وكون الرمل في الطواف سنة مذهب الجمهور، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في عمرة القضاء وفي عمرة الجعرانة أيضاً، كما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس فذكره.
وثبت في حديث جابر عند مسلم وغيره أنه عليه السلام رمل في حجة الوداع في الطواف، ولهذا قال عمر بن الخطاب: فيم الرملان وقد أطال الله الإسلام ؟
ومع هذا لا نترك شيئاً فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموضع تقرير هذا كتاب (الأحكام).
وكان ابن عباس في المشهور عنه لا يرى ذلك سنة كما ثبت في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إنما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت، وبالصفا والمروة ليري المشركين قوته. لفظ البخاري.
وقال الواقدي: لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه في القضاء دخل البيت، فلم يزل فيه حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك، فقال عكرمة بن أبي جهل: لقد أكرم الله أبا الحكم حين لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول.
وقال صفوان بن أمية: الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا.
وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أمات أبي، ولم يشهد هذا اليوم حتى يقوم بلال ينهق فوق البيت.
وأما سهيل بن عمرو ورجال معه لما سمعوا بذلك غطوا وجوههم.
قال الحافظ البيهقي: قد أكرم الله أكثرهم بالإسلام.
قلت: كذا ذكره البيهقي من طريق الواقدي أن هذا كان في عمرة القضاء، والمشهور أن ذلك كان في عام الفتح، والله أعلم.
قصة تزويجه عليه السلام بميمونة
فقال ابن إسحاق: حدثني أبان بن صالح وعبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء ومجاهد، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك وهو حرام، وكان الذي زوجه إياها العباس بن عبد المطلب.
قال ابن هشام: كانت جعلت أمرها إلى أختها أم الفضل، فجعلت أم الفضل أمرها إلى زوجها العباس، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها عنه أربعمائة درهم.
وذكر السهيلي: أنه لما انتهت إليها خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وهي راكبة بعيراً، قالت: الجمل وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وفيها نزلت الآية: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين}.
وقد روى البخاري من طريق أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال، وماتت بسرف.
قال السهيلي: وروى الدارقطني من طريق أبي الأسود يتيم عروة، ومن طريق مطر الوراق، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال.
قال: وتأولوا رواية ابن عباس الأولى أنه كان محرماً أي: في شهر حرام كما قال الشاعر:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً * فدعا فلم أر مثله مخذولاً
أي: في شهر حرام.
قلت: وفي هذا التأويل نظر، لأن الرواية متظافرة عن ابن عباس بخلاف ذلك، ولا سيما قوله: تزوجها وهو محرم وبنى بها وهو حلال، وقد كان في شهر ذي القعدة أيضاً وهو شهر حرام.
وقال محمد بن يحيى الذهلي: ثنا عبد الرزاق قال: قال لي الثوري: لا يلتفت إلى قول أهل المدينة.
أخبرني عمرو، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج وهو محرم.
قال أبو عبد الله: قلت لعبد الرزاق: روى سفيان الحديثين جميعاً عن عمرو بن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، وابن خثيم، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ؟
قال: نعم، أما حديث ابن خثيم فحدثنا ها هنا - يعني باليمن - وأما حديث عمرو فحدثنا ثمَّ - يعني بمكة - وأخرجاه في الصحيحين من حديث عمرو بن دينار به.
وفي صحيح البخاري من طريق الأوزاعي: أنبأنا عطاء، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم.
فقال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها إلا بعد ما أحل.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني بقية، عن سعيد بن المسيب أنه قال: هذا عبد الله بن عباس يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم فذكر كلمته، إنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فكان الحل والنكاح جميعاً، فشبه ذلك على ابن عباس.
وروى مسلم وأهل السنن: من طرق عن يزيد بن الأصم العامري، عن خالته ميمونة بنت الحارث قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلال بسرف.
لكن قال الترمذي: روى غير واحد هذا الحديث عن يزيد بن الأصم مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة.
وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصفهاني الزاهد، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، ثنا مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع قال:
تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت الرسول بينهما.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعاً، عن قتيبة، عن حماد بن زيد به.
ثم قال الترمذي: حسن ولا نعلم أحداً أسنده عن حماد، عن مطر، ورواه مالك عن ربيعة عن سليمان مرسلاً، ورواه سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلاً.
قلت: وكانت وفاتها بسرف سنة ثلاث وستين، ويقال سنة ستين رضي الله عنها.
ذكر خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة بعد قضاء عمرته
قد تقدم ما ذكره موسى بن عقبة أن قريشاً بعثوا إليه حويطب بن عبد العزى بعد مضي أربعة أيام ليرحل عنهم كما وقع به الشرط، فعرض عليهم أن يعمل وليمة عرسه بميمونة عندهم، وإنما أراد تأليفهم بذلك فأبوا عليه، وقالوا: بل اخرج عنا، فخرج.
وكذلك ذكره ابن إسحاق.
وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله.
قالوا: لا نقر بهذا لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً، ولكن أنت محمد بن عبد الله.
قال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله، ثم قال لعلي بن أبي طالب: ((امح رسول الله)).
قال: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع من أصحابه أحداً أراد أن يقيم بها.
فلما دخل ومضى الأجل أتوا علياً فقالوا: قل لصاحبك فليخرج عنا فقد مضى الأجل.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر.
فقال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي.
وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي.
وقال زيد: ابنة أخي.
فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: ((الخالة بمنزلة الأم)) وقال لعلي: ((أنت مني وأنا منك)) وقال لجعفر: ((أشبهت خلقي وخلقي)) وقال لزيد: ((أنت أخونا ومولانا)).
قال علي: ألا تتزوج ابنة حمزة ؟
قال: ((إنها ابنة أخي من الرضاعة)).
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقد روى الواقدي قصة ابنة حمزة فقال: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عمارة ابنة حمزة بن عبد المطلب وأمها سلمى بنت عميس كانت بمكة، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم علي بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: علام نترك ابنة عمنا يتيمة بين ظهراني المشركين ؟
فلم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن إخراجها، فخرج بها فتكلم زيد بن حارثة وكان وصي حمزة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بينهما حين آخى بين المهاجرين، فقال: أنا أحق بها ابنة أخي.
فلما سمع بذلك جعفر قال: الخالة والدة وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي أسماء بنت عميس.
وقال علي: ألا أراكم تختصمون هي ابنة عمي وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين، وليس لكم إليها سبب دوني، وأنا أحق بها منكم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا أحكم بينكم، أما أنت يا زيد فمولى الله ومولى رسول الله، وأما أنت يا علي فأخي وصاحبي، وأما أنت يا جعفر فتشبه خَلْقي وخُلُقي، وأنت يا جعفر أولى بها تحتك خالتها، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها)) فقضى بها لجعفر.
قال الواقدي: فلما قضى بها لجعفر، قام جعفر فحجل حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما هذا يا جعفر ؟))
فقال: يا رسول الله كان النجاشي إذا أرضى أحداً قام فحجل حوله.
فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: تزوجها.
فقال: ((ابنة أخي من الرضاعة)) فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((هل جزيت سلمة)).
قلت: لأنه ذكر الواقدي وغيره أنه هو الذي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة، لأنه كان أكبر من أخيه عمر بن أبي سلمة، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ذي الحجة، وتولى المشركون تلك الحجة.
قال ابن هشام: وأنزل الله في هذه العمرة فيما حدثني أبو عبيدة قوله تعالى: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله أمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً} يعني خيبر.
فصل إرسال سرية ابن أبي العوجاء إلى بني سليم.
ذكر البيهقي ها هنا سرية ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم، ثم ساق بسنده عن الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله بن مسلم، عن الزهري قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضية رجع في ذي الحجة من سنة سبع.
فبعث ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين فارساً، فخرج العين إلى قومه فحذرهم وأخبرهم فجمعوا جمعاً كثيراً، وجاءهم ابن أبي العوجاء والقوم معدون، فلما أن رأوهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا جمعهم دعوهم إلى الإسلام، فرشقوهم بالنبل، ولم يسمعوا قولهم وقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه.
فرموهم ساعة وجعلت الأمداد تأتي حتى أحدقوا بهم من كل جانب، فقاتل القوم قتالاً شديداً حتى قتل عامتهم، وأصيب ابن أبي العوجاء بجراحات كثيرة، فتحامل حتى رجع إلى المدينة بمن بقي معه من أصحابه في أول يوم من شهر صفر سنة ثمان.
فصل رد رسول الله عليه السلام ابنته زينب على زوجها أبي العاص.
قال الواقدي: في الحجة من هذه السنة - يعني سنة سبع - رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع، وقد قدمنا الكلام على ذلك، وفيها قدم حاطب بن أبي بلتعة من عند المقوقس ومعه مارية وسيرين وقد أسلمتا في الطريق، وغلام خصي.
قال الواقدي: وفيها اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منبره درجتين ومقعده، قال: والثبت عندنا أنه عمل في سنة ثمان.
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن بحولك وقوتك