الجزء الرابع - سنة ثمان من الهجرة النبوية

سنة ثمان من الهجرة النبوية

إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة

قد تقدم طرف من ذلك فيما ذكره ابن إسحاق بعد مقتل أبي رافع اليهودي، وذلك في سنة خمس من الهجرة، وإنما ذكره الحافظ البيهقي ها هنا بعد عمرة القضاء، فروى من طريق الواقدي‏:‏

أنبأنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه قال‏:‏ قال عمرو بن العاص‏:‏ كنت للإسلام مجانباً معانداً، حضرت بدراً مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحداً فنجوت، ثم حضرت الخندق فنجوت‏.‏

قال‏:‏ فقلت في نفسي‏:‏ كم أُوِضع‏؟‏ والله ليظهرن محمداً على قريش ‏!‏ فلحقت بمالي بالرهط وأقللت من الناس - أي من لقائهم - فلما حضر الحديبية وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح، ورجعت قريش إلى مكة جعلت أقول‏:‏ يدخل محمد قابلاً مكة بأصحابه، ما مكة بمنزل ولا الطائف، ولا شيء خير من الخروج، وأنا بعد نائي عن الإسلام، وأرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم، فقدمت مكة وجمعت رجالاً من قومي وكانوا يرون رأيي ويسمعون مني، ويقدمونني فيما نابهم‏.‏

فقلت لهم‏:‏ كيف أنا فيكم ‏؟‏

قالوا‏:‏ ذو رأينا ومدرهنا في يمن نفسه وبركة أمر‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ تعلمون أني والله لأرى أمر محمد أمراً يعلو الأمور علواً منكراً، وإني قد رأيت رأياً‏.‏

قالوا‏:‏ وما هو ‏؟‏

قلت‏:‏ نلحق بالنجاشي فنكون معه، فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي، نكون تحت يد النجاشي أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا‏.‏

قالوا‏:‏ هذا الرأي‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ فاجمعوا ما نُهديه له - وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم - فحملنا أدماً كثيراً ثم خرجنا حتى قدمنا على النجاشي، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه بكتاب كتبه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان‏.‏

فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي‏:‏ هذا عمرو بن أمية، ولو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سرت قريش، وكنت قد أجزأت عنها حتى قتلت رسول محمد‏.‏

فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع، فقال‏:‏ مرحباً بصديقي أهديت لي من بلادك شيئاً‏؟‏

قال‏:‏ قلت نعم أيها الملك، أهديت لك أدماً كثيراً‏.‏

ثم قدمته فأعجبه، وفرق منه شيئاً بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضعٍ، وأمر أن يكتب ويحتفظ به، فلما رأيت طيب نفسه قلت‏:‏ أيها الملك، إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول عدو لنا، قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله‏.‏

فغضب من ذلك، ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره، فابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي، فأصابني من الذل ما لو انشقت بي الأرض دخلت فيها فرقاً منه‏.‏

ثم قلت‏:‏ أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك‏.‏

قال‏:‏ فاستحيا وقال‏:‏ يا عمرو تسألني أن أعطيك رسول رسول الله من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى لتقتله‏؟‏

قال عمرو‏:‏ فغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي‏:‏ عرف هذا الحق، والعرب، والعجم، وتخالف أنت‏؟‏

ثم قلت‏:‏ أتشهد أيها الملك بهذا‏؟‏

قال‏:‏ نعم، أشهد به عند الله يا عمرو فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده‏.‏

قلت‏:‏ أتبايعني له على الإسلام‏؟‏

قال‏:‏ نعم، فبسط يده فبايعني على الإسلام، ثم دعا بطست فغسل عني الدم، وكساني ثياباً - وكانت ثيابي قد امتلأت بالدم فألقيتها - ثم خرجت على أصحابي فلما رأوا كسوة النجاشي سروا بذلك، وقالوا‏:‏ هل أدركت من صاحبك ما أردت‏؟‏

فقلت لهم‏:‏ كرهت أن أكلمه في أول مرة، وقلت أعود إليه‏.‏

فقالوا‏:‏ الرأي ما رأيت‏.‏

قال‏:‏ ففارقتهم وكأني أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن فأجد سفينة قد شحنت تدفع‏.‏

قال‏:‏ فركبت معهم ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعبة، وخرجت من السفينة ومعي نفقة، فابتعت بعيراً، وخرجت أريد المدينة، حتى مررت على مر الظهران‏.‏ ‏‏

ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدة، فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير، يريدان منزلاً، وأحدهما داخل في الخيمة والآخر يمسك الراحلتين‏.‏

قال‏:‏ فنظرت فإذا خالد بن الوليد، قال‏:‏ قلت‏:‏ أين تريد‏؟‏

قال‏:‏ محمداً، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طعم، والله لو أقمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها‏.‏

قلت‏:‏ وأنا الله قد أردت محمداً، وأردت الإسلام‏.‏

فخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعاً في المنزل، ثم اتفقنا حتى أتينا المدينة، فما أنس قول رجل لقيناه ببئر أبي عتبة يصيح‏:‏ يا رباح يا رباح يا رباح، فتفاءلنا بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا فأسمعه يقول‏:‏ قد أعطت مكة المقادة بعد هذين، وظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد‏.‏

وولى مدبراً إلى المسجد سريعاً، فظننت أنه بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت، وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا، ثم نودي بالعصر فانطلقنا على أظلعنا عليه، وإن لوجهه تهللاً والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا‏.‏

فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة، فبايع ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي حياء منه‏.‏

قال‏:‏ فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم يحضرني ما تأخر‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها‏)‏‏)‏ قال فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحداً من أصحابه في أمر حزبه منذ أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر بتلك الحالة، وكان عمر على خالد كالعاتب‏.‏

قال عبد الحميد بن جعفر شيخ الواقدي‏:‏ فذكرت هذا الحديث ليزيد بن أبي حبيب، فقال‏:‏ أخبرني راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفي، عن مولاه حبيب، عن عمرو بن العاص نحو ذلك‏.‏

قلت‏:‏ كذلك رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن راشد عن مولاه حبيب قال‏:‏ حدثني عمرو بن العاص من فيه، فذكر ما تقدم في سنة خمس بعد مقتل أبي رافع، وسياق الواقدي أبسط وأحسن‏.‏

قال الواقدي، عن شيخه عبد الحميد‏:‏ فقلت ليزيد بن أبي حبيب‏:‏ وقت لك متى قدم عمرو وخالد ‏؟‏

قال‏:‏ لا إلا أنه قال قبل الفتح‏.‏

قلت‏:‏ فإن أبي أخبرني أن عمراً وخالداً وعثمان بن طلحة قدموا لهلال صفر سنة ثمان، وسيأتي عند وفاة عمرو من صحيح مسلم ما يشهد لسياق إسلامه، وكيفية حسن صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدة حياته، وكيف مات وهو يتأسف على ما كان منه في مدة مباشرته الإمارة بعده عليه الصلاة والسلام، وصفة موته رضي الله عنه‏.‏

 طريق إسلام خالد بن الوليد

قال الواقدي‏:‏ حدثني يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال‏:‏ سمعت أبي يحدث عن خالد بن الوليد قال‏:‏ لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام وحضرني رشدي، فقلت‏:‏ قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد صلى الله عليه وسلم، فليس في موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء، وأن محمداً سيظهر‏.‏

فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، خرجت في خيل من المشركين، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان، فقمت بإزائه وتعرضت له فصلى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليهم ثم لم يعزم لنا - وكانت فيه خيرة -

فاطلع على ما في أنفسنا من الهم به، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك منا موقعاً وقلت‏:‏ الرجل ممنوع فاعتز لنا، وعدل عن سير خيلنا، وأخذ ذات اليمين، فلما صالح قريشاً بالحديبية ودافعته قريش بالرواح قلت في نفسي‏:‏ أي شيء بقي‏؟‏

أين أذهب إلى النجاشي فقد اتبع محمد وأصحابه عنده أمنون، فأخرج إلى هرقل فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية فأقيم في عجم، فأقيم في داري بمن بقي، فأنا في ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضية فتغيبت ولم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية فطلبني فلم يجدني، فكتب إلي كتاباً فإذا فيه‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد‏:‏ فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقلك عقلك، ومثل الإسلام جهله أحد‏؟‏ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك وقال‏:‏ أين خالد ‏؟‏

فقلت‏:‏ يأتي الله به‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مثله جهل الإسلام ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين كان خيراً له، ولقدمناه على غيره‏)‏‏)‏ فاستدرك يا أخي ما قد فاتك فقد فاتتك مواطن صالحة‏.‏

قال‏:‏ فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الإسلام، وسرني سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عني، وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة مجدبة، فخرجت في بلاد خضراء واسعة، فقلت‏:‏ إن هذه لرؤيا‏.‏

فلما أن قدمت المدينة قلت لأذكرن لأبي بكر‏.‏

فقال‏:‏ مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك‏.‏

قال‏:‏ فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت من أصاحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ ‏

فلقيت صفوان بن أمية فقلت‏:‏ يا أبا وهب أما ترى ما نحن فيه، إنما نحن كأضراس وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد واتبعناه فإن شرف محمد لنا شرف، فأبى أشد الإباء فقال‏:‏ لو لم يبق غيري ما اتبعته أبداً، فافترقنا وقلت‏:‏ هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر‏.‏

فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان بن أمية‏.‏

فقال لي مثل ما قال صفوان بن أمية‏.‏

قلت‏:‏ فاكتم علي‏.‏

قال‏:‏ لا أذكره‏.‏

فخرجت إلى منزلي فأمرت براحلتي، فخرجت بها إلى أن لقيت عثمان بن طلحة فقلت‏:‏ إن هذا لي صديق فلو ذكرت له ما أرجو، ثم ذكرت من قتل من آبائه فكرهت أن أذكره، ثم قلت‏:‏ وما علي وأنا راحل من ساعتي، فذكرت له ما صار الأمر إليه‏.‏

فقلت‏:‏ إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر لو صب فيه ذنوب من ماء لخرج، وقلت له نحواً مما قلت لصاحبي، فأسرع الإجابة وقال‏:‏ لقد غدوت اليوم وأنا أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بفج مناخة‏.‏

قال‏:‏ فاتعدت أنا وهو يأجج إن سبقني أقام، وإن سبقته أقمت عليه‏.‏

قال‏:‏ فأدلجنا سحراً فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة فنجد عمرو بن العاص بها‏.‏

قال‏:‏ مرحباً بالقوم‏.‏

فقلنا‏:‏ وبك‏.‏

فقال‏:‏ إلى أين مسيركم ‏؟‏

فقلنا‏:‏ وما أخرجك ‏؟‏

فقال‏:‏ وما أخرجكم ‏؟‏

قلنا‏:‏ الدخول في الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ وذاك الذي أقدمني، فاصطحبنا جميعاً حتى دخلنا المدينة فأنخنا بظهر الحرة ركابنا، فأخبر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر بنا، فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيني أخي فقال‏:‏

أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بك فسر بقدومك وهو ينتظركم، فأسرعنا المشي فاطلعت عليه فما زال يتبسم إلي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق‏.‏

فقلت‏:‏ إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏تعال‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت أن لا يسلمك إلا إلى خير‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله إني قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً للحق فادعو الله أن يغفرها لي‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الإسلام يجب ما كان قبله‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله على ذلك ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال خالد‏:‏ وتقدم عثمان وعمرو فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ وكان قدومنا في صفر سنة ثمان‏.‏

قال‏:‏ والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه‏.‏

 سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى هوازن

قال الواقدي‏:‏ حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عمر بن الحكم قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلاً إلى جمع من هوازن، وأمره أن يغير عليهم، فخرج وكان يسير الليل ويكمن النهار، حتى جاءهم وهم غارين، وقد أوعز إلى أصحابه أن لا تمعنوا في الطلب، فأصابوا نعماً كثيراً وشاء، فاستاقوا ذلك حتى إذا قدموا المدينة فكانت سهامهم خمسة عشر بعيراً كل رجل‏.‏

وزعم غيره أنهم أصابوا سبياً أيضاً، ثم قدم أهلوهم مسلمين، فشاور النبي صلى الله عليه وسلم أميرهم في ردهن إليهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

فردوهن وخير التي عنده الجارية فاختارت المقام عنده، وقد تكون هذه السرية هي المذكورة فيما رواه الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد، فكان فيهم عبد الله بن عمر قال‏:‏ فأصبنا إبلاً كثيراً فبلغت سهامنا اثنا عشر بعيراً، ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيراً بعيراً‏.‏

أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، ورواه مسلم أيضاً من حديث الليث ومن حديث عبد الله كلهم عن نافع عن ابن عمر بنحوه‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ حدثنا هناد، حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد فخرجت فيها فأصبنا نعماً كثيراً، فنفلنا أميرنا بعيراً بعيراً لكل إنسان، ثم قدمنا على رسول الله صد فقسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كل رجل منا اثنا عشر بعيراً بعد الخمس، وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أعطانا صاحبنا ولا عاب عليه ما صنع، فكان لكل منا ثلاثة عشر بعيراً بنفله‏.‏

 سرية كعب بن عمير إلى بني قضاعة

قال الواقدي‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله عن الزهري قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلاً حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فوجدوا جمعاً من جمعهم كثيراً، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبل‏.‏

فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوهم أشد القتال حتى قتلوا، فارتث منهم رجل جريح في القتلى، فلما أن برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم بالبعثة إليهم، فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر‏.‏ ‏

 غزوة مؤتة

وهي سرية زيد بن حارثة في نحو من ثلاثة آلاف إلى أرض البلقاء من أرض الشام‏.‏

قال محمد بن إسحاق بعد قصة عمرة القضية‏:‏ فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بقية ذي الحجة، وولى تلك الحجة المشركون والمحرم وصفراً وشهري ربيع، وبعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤتة‏.‏

فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس‏)‏‏)‏

فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج وهم ثلاثة آلاف‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمرو بن الحكم، عن أبيه قال‏:‏ جاء النعمان بن فنحص اليهودي فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏زيد بن حارثة أمير الناس فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلاً فليجعلوه عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال النعمان‏:‏ أبا القاسم إن كنت نبياً فلو سميت من سميت قليلاً أو كثيراً أصيبوا جميعاً، وإن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا سموا الرجل على القوم فقالوا إن أصيب فلان ففلان، فلو سموا مائة أصيبوا جميعاً، ثم جعل يقول لزيد‏:‏ اعهد فإنك لا ترجع أبداً إن كان محمد نبياً‏.‏

فقال زيد‏:‏ أشهد أنه نبي صادق بار‏.‏

رواه البيهقي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم، فلما ودع عبد الله بن رواحة مع من ودع بكى، فقالوا‏:‏ ما يبكيك يا ابن رواحة ‏؟‏

فقال‏:‏ أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 71‏]‏‏.‏

فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود‏.‏

فقال المسلمون‏:‏ صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين‏.‏

فقال عبد الله بن رواحة‏:‏

لكنني أسأل الرحمن مغفرة * وضربة ذات فرع تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حران مجهزة * بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مروا على جدثي * أرشده الله من غاز وقد رشداً

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن القوم تهيئوا للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعه، ثم قال‏:‏

فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

إني تفرست فيك الخير نافلة * الله يعلم أني ثابت البصر

أنت الرسول فمن يحرم نوافله * والوجه منه فقد أزرى به القدر

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم خرج القوم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيعهم حتى إذا ودعهم وانصرف، قال عبد الله بن رواحة‏:‏

خلف السلام على امرئ ودعته * في النخل خير مشيع وخليل

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا أبو خالد الأحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مؤتة فاستعمل زيداً، فإن قتل زيد فجعفر، فإن قتل جعفر فابن رواحة، فتخلف ابن رواحة، فجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم فرآه فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏ما خلفك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ أجمع معك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لغدوة أو روحة خير من الدنيا وما فيها‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا أبو معاوية، ثنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة‏.‏

قال‏:‏ فقدم أصحابه وقال‏:‏ أتخلف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ألحقهم‏.‏

قال‏:‏ فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما منعك أن تغدو مع أصحابك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما أدركت غدوتهم‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث قد رواه الترمذي من حديث أبي معاوية، عن الحجاج - وهو ابن أرطأة - ثم علله الترمذي بما حكاه عن شعبة أنه قال‏:‏ لم يسمع الحكم عن مقسم إلا خمسة أحاديث وليس هذا منها‏.‏

قلت‏:‏ والحجاج بن أرطأة في روايته نظر، والله أعلم‏.‏

والمقصود من إيراد هذا الحديث أنه يقتضي أن خروج الأمراء إلى مؤتة كان في يوم جمعة، والله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم مضوا حتى نزلوا معاناً من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليه من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف منهم، عليهم رجل من بلي‏.‏

ثم أحد أراشة يقال له مالك بن رافلة‏.‏

وفي رواية يونس، عن ابن إسحاق‏:‏ فبلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا‏:‏ نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له‏.‏

قال‏:‏ فشجع الناس عبد الله بن رواحة‏.‏

وقال‏:‏ يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة‏.‏

قال‏:‏ فقال الناس‏:‏ قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس، فقال عبد الله بن رواحة في محبسهم ذلك‏:‏

جلبنا الخيل من أجأ وفرع * تعر من الحشيش لها العكوم

حذوناها من الصوان سبتاً * أزل كأن صفحته أديم

أقامت ليلتين على معان * فأعقب بعد فترتها جموم

فرحنا والجياد مسومات * تنفس في مناخرها سموم

فلا وأبي مآب لنأتينها * وإن كانت بها عرب وروم

فعبأنا أعنتها فجاءت * عوابس والغبار لها يريم

بذي لجب كأن البيض فيه * إذا برزت قوانسها النجوم

فراضية المعيشة طلقتها * أسنتنا فتنكح أو تئيم

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن زيد بن أرقم قال‏:‏ كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلتئذ سمعته وهو ينشد أبياته هذه‏:‏

إذا أدنيتني وحملت رحلي * مسيرة أربع بعد الحساء

فشأنك أنعم وخلاك ذم * ولا أرجع إلى أهلي ورائي

وجاء المسلمون وغادروني * بأرض الشام مشتهي الشواء

وردك كل ذي نسب قريب * إلى الرحمن منقطع الإخاء

هنالك لا أبالي طلع بعل * ولا نخل أسافلها رواء

قال‏:‏ فلما سمعتهن منه بكيت، فخفقني بالدرة وقال‏:‏ ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل ‏؟‏

ثم قال عبد الله بن رواحة في بعض سفره ذلك وهو يرتجز‏:‏

يا زيد زيد اليعملات الذبل * تطاول الليل هديت فانزل

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم، والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة‏.‏

فالتقى الناس عندها، فتعبى لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عباية بن مالك‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني ربيعة بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة قال‏:‏ شهدت مؤتة، فلما دنا منا المشركون رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري، فقال لي ثابت بن أرقم‏:‏ يا أبا هريرة كأنك ترى جموعاً كثيرة ‏؟‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ إنك لم تشهد بدراً معنا، إنا لم ننصر بالكثرة‏.‏

رواه البيهقي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل القوم حتى قتل، فكان جعفر أول المسلمين عقر في الإسلام‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال‏:‏ والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل وهو يقول‏:‏

يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارداً شرابها

والروم روم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها

عليَّ إن لاقيتها ضرابها*

وهذا الحديث قد رواه أبو داود من حديث أبي إسحاق ولم يذكر الشعر، وقد استدل من جواز قتل الحيوان خشية أن ينتفع به العدو، كما يقول أبو حنيفة في الإغنام إذا لم تتبع في السير، ويخشى من لحوق العدو وانتفاعهم بها أنها تذبح وتحرق ليحال بينهم وبين ذلك، والله أعلم‏.‏

قال السهيلي‏:‏ ولم ينكر أحد على جعفر، فدل على جوازه إلا إذا أمن أخذ العدو له، ولا يدخل ذلك في النهي عن قتل الحيوان عبثاً‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وحدثني من أثق به من أهل العلم أن جعفر أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء‏.‏

ويقال‏:‏ إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه بنصفين‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد قال‏:‏ حدثني أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرة بن عوف قال‏:‏ فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ويقول‏:‏

أقسمت يا نفس لتنزلنه * لتنزلن أو لتكرهنه

إن أجلب الناس وشدوا الرنة * مالي أراك تكرهين الجنة

قد طال ما قد كنت مطمئنة * هل أنت إلا نطفة في شنة

وقال أيضاً‏:‏

يا نفس إن لا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صليت

وما تمنيت فقد أعطيت * إن تفعلي فعلهما هديت

يريد صاحبيه زيداً وجعفراً، ثم نزل‏.‏

فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال‏:‏ شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال‏:‏ وأنت في الدنيا، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه‏.‏

قال‏:‏ ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان فقال‏:‏ يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم‏.‏

قالوا‏:‏ أنت‏.‏

قال‏:‏ ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشى بهم، ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف بالناس‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني -‏:‏ ‏(‏‏(‏أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً‏)‏‏)‏ ‏

قال‏:‏ ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد رفعوا إليَّ في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلت عم هذا‏؟‏ فقيل لي‏:‏ مضيا وتردد عبد الله بن رواحة بعض التردد ثم مضى‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا ذكر ابن إسحاق هذا منقطعاً‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ ثنا أحمد بن واقد، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبر‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله قد فتح الله عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به البخاري، ورواه في موضع آخر وقال فيه وهو على المنبر‏:‏ وما يسرهم أنهم عندنا‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا أحمد بن أبي بكير، ثنا مغيرة بن عبد الرحمن المخزومي - وليس بالحرامي - عن عبد الله بن سعيد، عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة‏)‏‏)‏‏.‏

قال عبد الله‏:‏ كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا في جسده بضعاً وتسعين من ضربة ورمية، تفرد به البخاري أيضاً‏.‏

وقال البخاري أيضاً‏:‏ حدثنا أحمد، ثنا ابن وهب، عن ابن عمرو، عن ابن أبي هلال - وهو سعيد بن أبي هلال الليثي - قالا‏:‏ وأخبرني نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر بن أبي طالب يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره‏.‏

وهذا أيضاً من إفراد البخاري‏.‏

ووجه الجمع بين هذه الرواية والتي قبلها‏:‏ أن ابن عمر اطلع على هذا العدد وغيره اطلع على أكثر من ذلك، وأن هذه في قبله أصيبها قبل أن يقتل، فلما صرع إلى الأرض ضربوه أيضاً ضربات في ظهره، فعدَّ ابن عمر ما كان في قبله وهو في وجوه الأعداء قبل أن يقتل رضي الله عنه‏.‏

ومما يشهد لما ذكره ابن هشام من قطع يمينه وهي ممسكة اللواء، ثم شماله ما رواه البخاري‏:‏ ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا عمر بن علي، عن إسماعيل بن أبي خلاد، عن عامر قال‏:‏ كان ابن عمر إذا حيى ابن جعفر قال‏:‏ السلام عليك يا ابن ذي الجناحين‏.‏

ورواه أيضاً في ‏(‏المناقب‏)‏، والنسائي من حديث يزيد بن هارون، عن إسماعيل بن أبي خالد‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان بن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ سمعت خالد بن الوليد يقول‏:‏ لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفحة يمانية‏.‏

ثم رواه عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن إسماعيل، حدثني قيس‏:‏ سمعت خالد بن الوليد يقول‏:‏ لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفحة يمانية‏.‏

انفرد به البخاري‏.‏

قال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ ثنا أبو نصر ابن قتادة، ثنا أبو عمرو مطر، ثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، ثنا سليمان بن حرب، ثنا الأسود، ثنا شيبان، عن خالد بن سمير قال‏:‏ قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري، وكانت الأنصار تفقهه فغشيه فيمن غشيه فقال‏:‏ حدثنا أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏عليكم زيد بن حارثة‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أصيب زيد فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوثب جعفر وقال‏:‏ يا رسول الله ‏!‏ ما كنت أرهب أن تستعمل زيداً علي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏امض فإنك لا تدري أي ذلك خير‏)‏‏)‏‏.‏

فانطلقوا فلبثوا ما شاء الله، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فأمر فنودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخبركم عن جيشكم هذا، إنهم انطلقوا فلقوا العدو فقتل زيد شهيداً‏)‏‏)‏ فاستغفر له‏.‏

‏(‏‏(‏ثم أخذ اللواء جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيداً‏)‏‏)‏ - شهد له بالشهادة واستغفر له - ‏(‏‏(‏ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً‏)‏‏)‏ فاستغفر له‏.‏

‏(‏‏(‏ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء هو أمر نفسه‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إنه سيف من سيوفك، أنت تنصره‏)‏‏)‏ فمن يومئذ سمي خالد سيف الله‏.‏

ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك، عن الأسود بن شيبان به نحوه، وفيه زيادة حسنة‏:‏ وهو أنه عليه الصلاة والسلام لما اجتمع إليه الناس قال‏:‏ ‏(‏‏(‏باب خير باب خير‏)‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال‏:‏ لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وكشف الله له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معتركهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخذ الراية زيد بن حارثة فجاء الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت، وحبب إليه الدنيا فقال‏:‏ الآن استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلى الدنيا، فمضى قدماً حتى استشهد‏)‏‏)‏‏.‏

فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏استغفروا له فقد دخل الجنة وهو شهيد‏)‏‏)‏‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما قتل زيد‏:‏ ‏(‏‏(‏أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت، ومناه الدنيا فقال‏:‏ الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين يمنيني الدنيا‏)‏‏)‏‏.‏

ثم مضى قُدُماً حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏استغفروا لأخيكم فإنه شهيد، دخل الجنة وهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث يشاء في الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة، فاستشهد ثم دخل الجنة معترضاً‏)‏‏)‏‏.‏

فشق ذلك على الأنصار، فقيل‏:‏ يا رسول الله ما اعترضُهُ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لما أصابته الجراح نكل، فعاتب نفسه فتشجع، واستشهد ودخل الجنة فسري عن قومه‏)‏‏)‏‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه قال‏:‏ لما أخذ خالد بن الوليد الراية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الآن حمي الوطيس‏)‏‏)‏‏.‏

قال الواقدي‏:‏ فحدثني العطاف بن خالد قال‏:‏ لما قتل ابن رواحة مساءً، بات خالد بن الوليد فلما أصبح غدا، وقد جعل مقدمته ساقته، وساقته مقدمته، وميمنته ميسرته، و ميسرته ميمنته‏.‏

قال‏:‏ فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم، وقالوا‏:‏ قد جاءهم مدد، فرعبوا وانكشفوا منهزمين‏.‏

قال‏:‏ فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم‏.‏

وهذا يوافق ما ذكره موسى بن عقبة رحمه الله في ‏(‏مغازيه‏)‏ فإنه قال‏:‏ بعد عمرة الحديبية ثم صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فمكث بها ستة أشهر، ثم إنه بعث جيشاً إلى مؤتة وأمر عليهم زيد بن حارثة، وقال‏:‏

‏(‏‏(‏إن أصيب فجعفر بن أبي طالب أميرهم، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة أميرهم‏)‏‏)‏‏.‏

فانطلقوا حتى إذا لقوا ابن أبي سبرة الغساني بمؤتة، وبها جموع من نصارى العرب والروم، بها تنوخ وبهراء، فأغلق ابن أبي سبرة دون المسلمين الحصن ثلاثة أيام، ثم التقوا على زرع أحمر، فاقتتلوا قتالاً شديداً‏.‏

فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقتل، ثم أخذه جعفر فقتل، ثم أخذه عبد الله بن رواحة فقتل، ثم اصطلح المسلمون بعد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد المخزومي، فهزم الله العدو وأظهر المسلمين‏.‏

قال‏:‏ وبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى - يعني سنة ثمان -‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مر علي جعفر في الملائكة يطير كما يطيرون وله جناحان‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وزعموا - والله أعلم - أن يعلى بن أمية قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شئت فأخبرني، وإن شئت أخبرك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ أخبرني يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم كله ووصفه لهم‏.‏

فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم‏)‏‏)‏‏.‏

فهذا السياق فيه فوائد كثيرة ليست عند ابن إسحاق، وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق من أن خالد إنما حاش بالقوم حتى تخلصوا من الروم وعرب النصارى فقط‏.‏

وموسى بن عقبة، والواقدي، مصرحان بأنهم هزموا جموع الروم والعرب الذين معهم، وهو ظاهر الحديث المتقدم عن أنس مرفوعاً‏.‏

ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه‏.‏

ورواه البخاري، وهذا هو الذي رجحه، ومال إليه الحافظ البيهقي بعد حكاية القولين، لما ذكر من الحديث‏.‏

قلت‏:‏ ويمكن الجمع بين قول ابن إسحاق، وبين قول الباقين، وهو أن خالد لما أخذ الراية حاش بالقوم المسلمين حتى خلصهم من أيدي الكافرين من الروم والمستعربة‏.‏

فلما أصبح وحوَّل الجيش ميمنة وميسرة، ومقدمة وساقة، كما ذكره الواقدي، توهم الروم أن ذلك عن مدد جاء إلى المسلمين، فلما حمل عليهم خالد هزموهم بإذن الله، والله أعلم‏.‏

وقد قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن جعفر، عن عروة قال‏:‏ لما أقبل أصحاب مؤتة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه‏.‏

قال‏:‏ ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر،‏)‏‏)‏ فأتي بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه، فجعلوا يحثون عليهم التراب ويقولون‏:‏ يا فرار فررتم في سبيل الله‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله عز وجل‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا مرسل من هذا الوجه، وفيه غرابة‏.‏

وعندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق فظن أن هذا الجمهور الجيش، وإنما كان للذين فروا حين التقى الجمعان، وأما بقيتهم فلم يفروا بل نصروا، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين وهو على المنبر في قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه‏)‏‏)‏‏.‏

فما كان المسلمون ليمسونهم فراراً بعد ذلك، وإنما تلقوهم إكراماً وإعظاماً، وإنما كان التأنيب وحثي التراب للذين فروا وتركوهم هنالك، وقد كان فيهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن، ثنا زهير، ثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص، فقلنا‏:‏ كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب‏؟‏

ثم قلنا‏:‏ لو دخلنا المدينة قتلنا، ثم قلنا‏:‏ لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة، وإلا ذهبنا‏.‏

فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من القوم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلنا نحن فرارون‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا بل أنتم الكرارون، أنا فئتكم، وأنا فئة المسلمين‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأتيناه حتى قبلنا يده‏.‏

ثم رواه غندر، عن شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن ابن عمر قال‏:‏ كنا في سرية ففررنا فأردنا أن نركب البحر، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا‏:‏ يا رسول الله نحن الفرارون، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا بل أنتم العكارون‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

و رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث يزيد بن أبي زياد‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن لا نعرفه إلا من حديثه‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا إسحاق بن عيسى، وأسود بن عامر، قالا‏:‏ حدثنا شريك، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن عمر قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فلما لقينا العدو انهزمنا في أول غادية، فقدمنا المدينة في نفر ليلاً، فاختفينا ثم قلنا‏:‏ لو خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذرنا إليه‏.‏

فخرجنا إليه ثم لقيناه، قلنا‏:‏ نحن الفرارون يا رسول الله، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل أنتم العكارون، وأنا فئتكم‏)‏‏)‏‏.‏

قال الأسود‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنا فئة كل مسلم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة‏:‏ مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين‏؟‏

قالت‏:‏ ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس‏:‏ يا فرار فررتم في سبيل الله، حتى قعد في بيته ما يخرج، وكان في غزاة مؤتة‏.‏

قلت‏:‏ لعل طائفة منهم فروا لما عاينوا كثرة جموع الروم - و كانوا على أكثر من أضعاف الأضعاف فإنهم كانوا ثلاثة آلاف، وكان العدو على ما ذكروه مائتي ألف، ومثل هذا يسوغ الفرار على ما قد تقرر‏.‏

فلما فر هؤلاء ثبت باقيهم وفتح الله عليهم، وتخلصوا من أيدي أولئك، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، كما ذكره الواقدي، وموسى بن عقبة من قبله‏.‏

ويؤيد ذلك ويشاكله بالصحة ما رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي قال‏:‏

خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة من المسلمين في غزوة مؤتة، ووافقني مددي من اليمن، ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزوراً، فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه فاتخذه كهيئة الدرقة، ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر، عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يغري بالمسلمين، وقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقبه، فخر وعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه‏.‏

فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد يأخذ من السلب‏.‏

قال عوف‏:‏ فأتيته فقلت‏:‏ يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ‏؟‏

قال‏:‏ بلى، ولكني استكثرته فقلت‏؟‏

فقلت‏:‏ لتردنه إليه أو لأعرفتكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرد عليه‏.‏

قال عوف‏:‏ فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا خالد رد عليه ما أخذت منه‏)‏‏)‏‏.‏

قال عوف‏:‏ فقلت‏:‏ دونك يا خالد ألم أف لك ‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏وما ذاك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فأخبرته فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا خالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركوا أمرائي لكم صفوة أمرهم وعليهم كدرة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال الوليد‏:‏ سألت ثوراً عن هذا الحديث فحدثني عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن عوف بنحوه‏.‏

ورواه مسلم، وأبو داود من حديث جبير بن نفير، عن عوف بن مالك به نحوه، وهذا يقتضي أنهم غنموا منهم وسلبوا من أشرافهم، وقتلوا من أمرائهم‏.‏

وقد تقدم فيما رواه البخاري‏:‏ أن خالداً رضي الله عنه قال‏:‏ اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفحة يمانية، وهذا يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلاً ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم، وهذا وحده دليل مستقل والله أعلم‏.‏

وهذا هو اختيار موسى بن عقبة، والواقدي، والبيهقي وحكاه ابن هشام عن الزهري‏.‏

قال البيهقي رحمه الله‏:‏ اختلف أهل المغازي في فرارهم وانحيازهم، فمنهم من ذهب إلى ذلك، ومنهم من زعم أن المسلمين ظهروا على المشركين، وأن المشركين انهزموا‏.‏

قال‏:‏ وحديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم أخذها خالد ففتح الله عليه‏)‏‏)‏ يدل على ظهورهم عليهم، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكر ابن إسحاق‏:‏ أن قطبة بن قتادة العذري - وكان رأس ميمنة المسلمين - حمل على مالك بن زافلة، ويقال‏:‏ رافلة وهو أمير أعراب النصارى فقتله، وقال‏:‏ يفتخر بذلك‏:‏

طعنت ابن رافلة بن الأراش * برمح مضى فيه ثم انحطم

ضربت على جيده ضربة * فمال كما مال غصن السلم

وسقنا نساء بني عمة * غداة رقوقين سوق النعم

وهذا يؤيد ما نحن فيه لأن من عادة أمير الجيش إذا قتل أن يفر أصحابه، ثم إنه صرح في شعره بأنهم سبوا من نسائهم، وهذا واضح فيما ذكرناه، والله أعلم‏.‏ ‏

وأما ابن إسحاق‏:‏ فإنه ذهب إلى أنه لم يكن إلا المخاشاة والتخلص من أيدي الروم، وسمى هذا نصراً وفتحاً أي باعتبار ما كانوا فيه من إحاطة العدو بهم، وتراكمهم وتكاثرهم وتكاثفهم عليهم، فكان مقتضى العادات أن يصطلحوا بالكلية، فلما تخلصوا منهم وانحازوا عنهم كان هذا غاية المرام في هذا المقام‏.‏

وهذا محتمل لكنه خلاف الظاهر من قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏‏(‏ففتح الله عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

والمقصود أن ابن إسحاق يستدل على ما ذهب إليه فقال‏:‏ وقد قال فيما كان من أمر الناس وأمر خالد بن الوليد ومخاشاته بالناس، وانصرافه بهم قيس بن المحسر اليعمري يعتذر مما صنع يومئذ، وصنع الناس يقول‏:‏

فوالله لا تنفك نفسي تلومني * على موقفي والخيل قابعة قبل

وقفت بها لا مستجيزاً فنافذاً * ولا مانعاً من كل حم له القتل

على أنني آسيت نفسي بخالد * إلا خالد في القوم ليس له مثل

وجاشت إلي النفس من نحو جعفر * بمؤتة إذ لا ينفع النابل النبل

وضم إلينا حجزتيهم كليهما * مهاجرة لا مشركون ولا عذل

قال ابن إسحاق‏:‏ فبين قيس ما اختلف فيه الناس من ذلك في شعره أن القوم جاحزوا وكرهوا الموت، وحقق انحياز خالد بمن معه‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وأما الزهري فقال - فيما بلغنا عنه -‏:‏ أمر المسلمون عليهم خالد بن الوليد، ففتح الله عليهم، وكان عليهم حتى رجع إلى المدينة‏.‏

فصل إصابة جعفر وأصحابه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن أم عيسى الخزاعية، عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عميس قالت‏:‏ لما أصيب جعفر وأصحابه دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دبغت أربعين مناء، وعجنت عجيني، وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ائتني بابني جعفر‏)‏‏)‏ فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم أصيبوا هذا اليوم‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فقمت أصيح واجتمع إلي النساء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاماً فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث ابن إسحاق‏.‏

ورواه ابن إسحاق من طريق عبد الله بن أبي بكر، عن أم عيسى، عن أم عون بنت محمد بن جعفر، عن أسماء فذكر الأمر بعمل الطعام، والصواب أنها أم جعفر وأم عون‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان، ثنا جعفر بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال‏:‏ لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم أمر يشغلهم أو أتاهم ما يشغلهم‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة، عن جعفر بن خالد بن سارة المخزومي المكي، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن‏.‏

ثم قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ لما أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن‏.‏

قالت‏:‏ فدخل عليه رجل فقال‏:‏ يا رسول الله إن النساء عييننا وفتننا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارجع إليهن فأسكتهن‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فذهب، ثم رجع فقال له مثل ذلك‏.‏

قالت‏:‏ يقول‏:‏ وربما ضر التكلف - يعني أهله -

قالت‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فاذهب فأسكتهن فإن أبين فاحثوا في أفواههن التراب‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ وقلت في نفسي‏:‏ أبعدك الله ‏!‏ فوالله ما تركت نفسك وما أنت بمطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قالت‏:‏ وعرفت أنه لا يقدر يحثي في أفواههن التراب‏.‏

انفرد به ابن إسحاق من هذا الوجه، وليس في شيء من الكتب‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا قتيبة، ثنا عبد الوهاب، سمعت يحيى بن سعيد قال‏:‏ أخبرتني عمرة قالت‏:‏ سمعت عائشة تقول‏:‏ لما قتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الحزن‏.‏

قالت عائشة‏:‏ وأنا أطلع من صاير الباب - شق - فأتاه رجل فقال‏:‏ أي رسول الله إن نساء جعفر وذكر بكاءهن، فأمره أن ينهاهن‏.‏

قالت‏:‏ فذهب الرجل ثم أتى فقال‏:‏ قد نهيتهن وذكر أنه لم يطعنه، قال فأمر أيضاً فذهب ثم أتى فقال‏:‏ والله لقد غلبننا فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فاحث في أفواههن من التراب‏)‏‏)‏‏.‏

قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فقلت‏:‏ أرغم الله أنفك فوالله ما أنت تفعل ذلك، وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء‏.‏

وهكذا رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، من طرق، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة عنها‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، سمعت محمد بن أبي يعقوب يحدث عن الحسن بن سعيد، عن عبد الله بن جعفر قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً استعمل عليهم زيد بن حارثة وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة‏)‏‏)‏‏.‏

فلقوا العدو فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه‏.‏

وأتى خبرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن إخوانكم لقوا العدو، وإن زيداً أخذ الراية فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية سيفاً من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتهم، ثم أتاهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تبكوا على أخي بعد اليوم ادعوا لي بني أخي‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فجيء بنا كأننا أفراخ‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ادعوا لي الحلاق‏)‏‏)‏‏.‏

فجيء بالحلاق فحلق رؤسنا، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أخذ بيدي فأشألها وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه‏)‏‏)‏ قالها ثلاث مرات‏.‏

قال‏:‏ فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا وجعلت تفرح له فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أبو داود ببعضه، والنسائي في السير بتمامه من حديث وهب بن جرير به، وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام أرخص لهم في البكاء ثلاثة أيام، ثم نهاهم عنه بعدها‏.‏

ولعله معنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد من حديث الحكم بن عبد الله بن شداد، عن أسماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها لما أصيب جعفر‏:‏ ‏(‏‏(‏تسلبي ثلاثاً ثم اصنعي ما شئت‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد، فيحتمل أنه أذن لها في التسلب وهو المبالغة في البكاء وشق الثياب، ويكون هذا من باب التخصيص لها بهذا لشدة حزنها على جعفر أبي أولادها، وقد يحتمل أن يكون أمراً لها بالتسلب وهو المبالغة في الإحداد ثلاثة أيام، ثم تصنع ما شاءت مما يفعله المعتدات على أزواجهن من الإحداد المعتاد، والله أعلم‏.‏

ويروى‏:‏ ‏(‏‏(‏تسلي ثلاثاً‏)‏‏)‏ أي‏:‏ تصبري ثلاثاً وهذا بخلاف الرواية الأخرى، والله أعلم‏.‏

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، ثنا محمد بن طلحة، ثنا الحكم بن عيينة، عن عبد الله بن شداد، عن أسماء بنت عميس قالت‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر فقال‏:‏

‏(‏‏(‏لا تحدي بعد يومك هذا‏)‏‏)‏ فإنه من إفراد أحمد أيضاً، وإسناده لا بأس به، ولكنه مشكل إن حمل على ظاهره لأنه قد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميتها أكثر من ثلاثة أيام، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرة‏)‏‏)‏‏.‏

فإن كان ما رواه الإمام أحمد محفوظاً فتكون مخصوصة بذلك، أو هو أمر بالمبالغة في الإحداد هذه الثلاثة أيام كما تقدم، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ ورثت أسماء بنت عميس زوجها بقصيدة تقول فيها‏:‏

فآليت لا تنفك نفسي حزينة * عليك ولا ينفك جلدي أغبرا

فلله عيناً من رأى مثله فتى * أكر وأحمى في الهياج وأصبرا

ثم لم تنشب أن انقضت عدتها فخطبها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فتزوجها، فأولم وجاء الناس للوليمة، فكان فيهم علي بن أبي طالب، فلما ذهب الناس استأذن علي أبا بكر رضي الله عنهما في أن يكلم أسماء من وراء الستر، فأذن له، فلما اقترب من الستر نفحه ريح طيبها فقال لها علي‏:‏ على وجه البسط من القائلة في شعرها‏:‏

فآليت لا تنفك نفسي حزينة * عليك ولا ينفك جلدي أغبرا

قالت‏:‏ دعنا منك يا أبا الحسن فإنك امرؤ فيك دعابة، فولدت للصديق محمد بن أبي بكر، ولدته بالشجرة بين مكة والمدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى حجة الوداع، فأمرها أن تغتسل وتهل وسيأتي في موضعه‏.‏

ثم لما توفي الصديق تزوجها بعده علي بن أبي طالب، وولدت له أولاداً رضي الله عنه عنها، وعنهم أجمعين‏.‏

 فصل عطف رسول الله عليه السلام على ابن جعفر عند إصابة أبيه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال‏:‏ فلما دنوا من المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، قال‏:‏ ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر‏)‏‏)‏‏.‏

فأتي بعبد الله بن جعفر فحمله بين يديه‏.‏

قال‏:‏ وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون‏:‏ يا فرار أفررتم في سبيل الله‏.‏

قال‏:‏ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله‏)‏‏)‏ وهذا مرسل‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو معاوية، ثنا عاصم، عن مؤرق العجلي، عن عبد الله بن جعفر قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقى الصبيان من أهل بيته، وأنه قدم من سفر فسبق بي إليه قال‏:‏ فحملني بين يديه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏جيء بأحد بني فاطمة‏)‏‏)‏ إما حسن وإما حسين، فأردفه خلفه فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة‏.‏

وقد رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عاصم الأحول عن مؤرق به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا روح، حدثنا ابن جريج، ثنا خالد بن سارة‏:‏ أن أباه أخبره أن عبد الله بن جعفر قال‏:‏ لو رأيتني وقثماً وعبيد الله ابني العباس ونحن صبيان نلعب، إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم على دابة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارفعوا هذا إلي‏)‏‏)‏ فحملني أمامه وقال لقثم‏:‏ ‏(‏‏(‏ارفعوا هذا إلي‏)‏‏)‏ فجعله وراءه‏.‏

وكان عبيد الله أحب إلى عباس من قثم، فما استحى من عمه أن حمل قثماً وتركه، قال‏:‏ ثم مسح على رأسه ثلاثاً وقال كلما مسح‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اخلف جعفراً في ولده‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت لعبد الله‏:‏ ما فعل قثم ‏؟‏

قال‏:‏ استشهد‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم بالخير‏.‏

قال‏:‏ أجل‏.‏

ورواه النسائي في ‏(‏اليوم والليلة‏)‏ من حديث ابن جريج به‏.‏ وهذا كان بعد الفتح، فإن العباس إنما قدم المدينة بعد الفتح‏.‏

فأما الحديث رواه الإمام أحمد‏:‏ ثنا إسماعيل، ثنا حبيب بن الشهيد، عن عبد الله بن أبي مليكة قال‏:‏ قال عبد الله بن جعفر لابن الزبير‏:‏ أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت وابن عباس ‏؟‏

قال‏:‏ نعم، فحملنا وتركك‏.‏

وبهذا اللفظ أخرجه البخاري، ومسلم من حديث حبيب بن الشهيد، وهذا يعد من الأجوبة المسكتة‏.‏

ويروى أن عبد الله بن عباس أجاب به ابن الزبير أيضاً، وهذه القصة قصة أخرى كانت بعد الفتح كما قدمنا بيانه، والله أعلم‏.‏

 فصل في فضل هؤلاء الأمراء الثلاثة زيد وجعفر وعبد الله رضي الله عنهم

أما زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبدود بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة الكلبي القضاعي، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وذلك أن أمه ذهبت تزور أهلها فأغارت عليهم خيل فأخذوه، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد‏.‏

وقيل‏:‏ اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، فوهبته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، فوجده أبوه فاختار المقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، فكان يقال له‏:‏ زيد بن محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حباً شديداً‏.‏

وكان أول من أسلم من الموالي، ونزل فيه آيات من القرآن منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ‏} ‏[‏الأحزاب‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏‏.‏

أجمعوا أن هذه الآيات أنزلت فيه، ومعنى ‏{‏أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ بالإسلام‏.‏

‏{‏وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ بالعتق‏.‏

وقد تكلمنا عليها في التفسير، والمقصود أن الله تعالى لم يسم أحداً من الصحابة في القرآن غيره، وهداه إلى الإسلام وأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجه مولاته أم أيمن واسمها بركة، فولدت له أسامة بن زيد، فكان يقال له‏:‏ الحب ابن الحب‏.‏

ثم زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش، وآخى بينه وبين عمه حمزة بن عبد المطلب، وقدمه في الإمرة على ابن عمه جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة كما ذكرناه‏.‏

وقد قال الإمام أحمد، والإمام الحافظ أبو بكر ابن أبي شيبة - وهذا لفظه -‏:‏ ثنا محمد بن عبيد، عن وائل بن داود، سمعت البهي يحدث‏:‏ أن عائشة كانت تقول‏:‏ ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم، ولو بقي بعد لاستخلفه‏.‏

ورواه النسائي عن أحمد بن سلمان، عن محمد بن عبيد الطنافسي به، وهذا إسناد جيد قوي على شرط الصحيح، وهو غريب جداً، والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا سليمان، ثنا إسماعيل، أخبرني ابن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعض الناس في أمرته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏إن تطعنوا في أمرته فقد كنتم تطعنون في أمرة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقاً للأمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجاه في الصحيحين‏:‏ عن قتيبة، عن إسماعيل- هو ابن جعفر بن أبي كثير المدني - عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر فذكره‏.‏

ورواه البخاري من حديث موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه‏.‏

ورواه البزار من حديث عاصم بن عمر، عن عبيد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر، ثم استغربه من هذا الوجه‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ ثنا عمر بن إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت‏:‏ لما أصيب زيد بن حارثة، وجيء بأسامة بن زيد وأوقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخر، ثم عاد من الغد فوقف بين يديه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألاقي منك اليوم ما لقيت منك أمس‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث فيه غرابة، والله أعلم‏.‏

وقد تقدم في الصحيحين‏:‏ أنه لما ذكر مصابهم وهو عليه السلام فوق المنبر جعل يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله ففتح الله عليه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وإن عينيه لتذرفان وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وما يسرهم أنهم عندنا‏)‏‏)‏

وفي الحديث الآخر‏:‏ أنه شهد لهم بالشهادة، فهم ممن يقطع لهم بالجنة‏.‏

وقد قال حسان بن ثابت يرثي زيد بن حارثة، وابن رواحة‏:‏

عين جودي بدمعك المنزور * واذكري في الرخاء أهل القبور

واذكري مؤتة وما كان فيها * يوم راحوا في وقعة التغوير

حين راحوا وغادروا ثم زيداً * نعم مأوى الضريك والمأسور

حب خير الأنام طُزا جميعاً * سيد الناس حبه في الصدور

ذاكم أحمد الذي لا سواه * ذاك حزني له معا وسروري

إن زيداً قد كان منا بأمر * ليس أمر المكذب المغرور

ثم جودي للخزرجي بدمع * سيداً كان ثم غير نزور

قد أتانا من قتلهم ما كفانا * فبحزن نبيت غير سرور

وأما جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم‏:‏ فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أكبر من أخيه علي بعشر سنين، وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وكان طالب أسن من عقيل بعشر سنين‏.‏

أسلم جعفر قديماً وهاجر إلى الحبشة، وكانت له هناك مواقف مشهورة ومقامات محمودة، وأجوبة سديدة، وأحوال رشيدة، وقد قدمنا ذلك في هجرة الحبشة، ولله الحمد‏.‏

وقد قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أدري أنا بأيهما أسر بقدوم جعفر أم بفتح خيبر‏)‏‏)‏ وقام إليه واعتنقه وقبل بين عينيه‏.‏

وقال له يوم خرجوا من عمرة القضية‏:‏ ‏(‏‏(‏أشبهت خلقي وخلقي‏)‏‏)‏ فيقال‏:‏ إنه حجل عند ذلك فرحاً كما تقدم في موضعه، ولله الحمد والمنة‏.‏

ولما بعثه إلى مؤتة جعل في الإمرة مصلياً - أي‏:‏ نائباً - لزيد بن حارثة، ولما قتل وجدوا فيه بضعاً وتسعين ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وهو في ذلك كله مقبل غير مدبر، وكانت قد طعنت يده اليمنى، ثم اليسرى وهو ممسك للواء، فلما فقدهما احتضنه حتى قتل، وهو كذلك‏.‏

فيقال‏:‏ إن رجلاً من الروم ضربه بسيف فقطعه باثنتين، رضي الله عن جعفر ولعن قاتله، وقد أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد، فهو ممن يقطع له بالجنة، وجاء بالأحاديث تسميته بذي الجناحين‏.‏

وروى البخاري، عن ابن عمر‏:‏ أنه كان إذا سلم على أبيه عبد الله بن جعفر يقول‏:‏ السلام عليك يا ابن ذي الجناحين، وبعضهم يرويه عن عمر بن الخطاب نفسه، والصحيح ما في الصحيح عن ابن عمر قالوا‏:‏ لأن الله تعالى عوضه عن يديه بجناحين في الجنة‏.‏

وقد تقدم بعض ما روي في ذلك‏.‏

قال الحافظ أبو عيسى الترمذي‏:‏ حدثنا علي بن حجر، ثنا عبد الله بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيت جعفراً يطير في الجنة مع الملائكة‏)‏‏)‏‏.‏

وتقدم في حديث أنه رضي الله عنه قتل وعمره ثلاث وثلاثين سنة‏.‏

وقال ابن الأثير في ‏(‏الغابة‏)‏‏:‏ كان عمره يوم قتل إحدى وأربعين‏.‏

قال‏:‏ وقيل غير ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وعلى ما قيل إنه كان أسن من علي بعشر سنين يقتضي أن عمره يوم قتل تسع وثلاثون سنة، لأن علياً أسلم وهو ابن ثمان سنين على المشهور، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وهاجر وعمره إحدى وعشرين سنة، ويوم مؤتة كان في سنة ثمان من الهجرة، والله أعلم‏.‏

وقد كان يقال لجعفر بعد قتله الطيار لما ذكرنا، وكان كريماً جواداً ممدحاً، وكان لكرمه يقال له أبا المساكين لإحسانه إليهم‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ وحدثنا عفان بن وهيب، ثنا خالد، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ ما احتذى النعال، ولا انتعل ولا ركب المطايا، ولا لبس الثياب من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب‏.‏

وهذا إسناد جيد إلى أبي هريرة، وكأنه إنما يفضله في الكرم، فأما في الفضيلة الدينية فمعلوم أن الصديق والفاروق بل وعثمان بن عفان أفضل منه‏.

وأما أخوه علي رضي الله عنهما فالظاهر أنهما متكافئان، أو علي أفضل منه، وإنما أراد أبو هريرة تفضيله في الكرم بدليل ما رواه البخاري‏:‏ ثنا أحمد بن أبي بكر، ثنا محمد بن إبراهيم بن دينار أبو عبد الله الجهني، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة‏:‏

أن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة، وأني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني خبز، لا آكل الخمير، ولا ألبس الحرير، ولا يخدمني فلان وفلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لاستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني‏.‏

وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها‏.‏

تفرد به البخاري‏.‏

وقال حسان بن ثابت يرثي جعفراً‏:‏

ولقد بكيت وعز مهلك جعفر * حب النبي على البرية كلها

ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي * من للجلاد لدى العقاب وظلها

بالبيض حين تسل من أغمادها * ضرباً وأنهال الرماح وعلها

بعد ابن فاطمة المبارك جعفر * خير البرية كلها وأجلها

رزءاً وأكرمها جميعاً محتداً * وأعزها متظلماً وأذلها

للحق حين ينوب غير تنحل * كذباً وأنداها يداً وأقلها

فحشاً وأكثرها إذا ما يجتدي * فضلاً وأنداها يداً وأبلها

بالعرف غير محمد لا مثله * حي من أحياء البرية كلها

وأما ابن رواحة‏:‏ فهو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج أبو محمد

ويقال أبو رواحة، ويقال أبو عمرو الأنصاري الخزرجي، وهو خال النعمان بن بشير أخته عمرة بنت رواحة، أسلم قديماً وشهد العقبة، وكان أحد النقباء ليلتئذ لبني الحارث بن الخزرج، وشهد بدراً وأحداً والخندق، والحديبية، وخيبر، وكان يبعثه على خرصها كما قدمنا‏.‏

وشهد عمرة القضاء ودخل يومئذ وهم ممسك بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل بغرزها - يعني الركاب - وهو يقول‏:‏

خلوا بني الكفار عن سبيله *

الأبيات كما تقدم‏.‏

وكان أحد الأمراء الشهداء يوم مؤتة كما تقدم، وقد شجع المسلمين للقاء الروم حين اشتوروا في ذلك، وشجع نفسه أيضاً حتى نزل بعد ما قتل صاحباه، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهادة، فهو ممن يقطع له بدخول الجنة، ويروى أنه لما أنشد النبي صلى الله عليه وسلم شعره حين ودعه الذي يقول فيه‏:‏

فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنت فثبتك الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال هشام بن عروة‏:‏ فثبته الله حتى قتل شهيداً ودخل الجنة‏.‏

وروى حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى‏:‏ أن عبد الله بن رواحة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فسمعه يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اجلسوا‏)‏‏)‏ فجلس مكانه خارجاً من المسجد حتى فرغ الناس من خطبته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏زادك الله حرصاً على طواعية الله وطواعية رسوله‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البخاري في صحيحه‏:‏ وقال ابن معاذ‏:‏ اجلس بنا نؤمن ساعة‏.‏

وقد ورد الحديث المرفوع في ذلك عن عبد الله بن رواحة بنحو ذلك‏.‏

فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، عن عمارة، عن زياد النحوي، عن أنس قال‏:‏ كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول‏:‏ تعال نؤمن بربنا ساعة‏.‏

فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل، فجاء فقال‏:‏ يا رسول الله إلا ترى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة ‏!‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏رحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا حديث غريب جداً‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ ثنا الحاكم، ثنا أبو بكر، ثنا محمد بن أيوب، ثنا أحمد بن يونس، ثنا شيخ من أهل المدينة، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن رواحة قال لصاحب له‏:‏ تعال نؤمن ساعة‏.‏

قال‏:‏ أولسنا مؤمنين ‏؟‏

قال‏:‏ بلى، ولكنا نذكر الله فيزداد إيماناً‏.‏

وقد روى الحافظ أبو القاسم اللاكائي من حديث أبي اليمان، عن صفوان بن سليم، عن شريح بن عبيد‏:‏ أن عبد الله بن رواحة كان يأخذ بيد الرجل من أصحابه فيقول‏:‏ قم بنا نؤمن ساعة، فنجلس في مجلس ذكر، وهذا مرسل من هذين الوجهين، وقد استقصينا الكلام على ذلك في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي صحيح البخاري عن أبي الدرداء قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في حر شديد، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وقد كان من شعراء الصحابة المشهورين، ومما نقله البخاري من شعره في رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

وفينا رسول الله نتلو كتابه * إذا انشق معروف من الفجر ساطع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه * إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

أتى بالهدي بعد العمي فقلوبنا * به موقنات أن ما قال واقع

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عمران بن ميسرة، ثنا محمد بن فضيل، عن حصين، عن عامر، عن النعمان بن بشير قال‏:‏ أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي، واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه، فقال حين أفاق‏:‏ ما قلت شيئاً إلا قيل لي أنت كذلك ‏؟‏

حدثنا قتيبة، ثنا خيثمة، عن حصين، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال‏:‏ أغمي على عبد الله بن رواحة بهذا‏.‏

فلما مات لم تبك عليه، وقد قدمنا ما رثاه به حسان بن ثابت مع غيره‏.‏

وقال شاعر من المسلمين ممن رجع من مؤتة مع من رجع رضي الله عنهم‏:‏

كفى حزناً إني رجعت وجعفر * وزيد وعبد الله في رمس أقبُر

قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم * وخلفت للبلوى مع المتغير

وسيأتي إن شاء الله تعالى بقية ما رثي به هؤلاء الأمراء الثلاث من شعر حسان بن ثابت، وكعب بن مالك رضي الله عنهما وأرضاهما‏.‏

 فصل في من استشهد يوم مؤتة

فمن المهاجرين‏:‏ جعفر بن أبي طالب، ومولاهم زيد بن حارثة الكلبي، ومسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة العدوي، ووهب بن سعد بن أبي سرح، فهؤلاء أربعة نفر‏.‏

ومن الأنصار‏:‏ عبد الله بن رواحة، وعباد بن قيس الخزرجيان، والحارث بن النعمان بن أساف بن نضلة النجاري، وسراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء المازني أربعة نفر، فمجموع من قتل من المسلمين يومئذ هؤلاء الثمانية على ما ذكره ابن إسحاق‏.‏

لكن قال ابن هشام‏:‏ وممن استشهد يوم مؤتة فيما ذكره ابن شهاب الزهري‏:‏ أبو كليب، وجابر ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول المازنيان، وهما شقيقان لأب وأم، وعمرو وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد بن سعد بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أقصى، فهؤلاء أربعة من الأنصار أيضاً‏.‏

فالمجموع على القولين اثنا عشر رجلاً، وهذا عظيم جداً أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون، ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً، وقد قتل من المشركين خلق كثير‏.‏ ‏

هذا خالد وحده يقول‏:‏ لقد اندقت في يدي يومئذ تسعة أسياف، وما صبرت في يدي إلا صفحة يمانية، فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها ‏؟‏‏!‏

دع غيره من الأبطال والشجعان من حملة القرآن، وقد تحكموا في عبدة الصلبان، عليهم لعائن الرحمن، في ذلك الزمان وفي كل أوان‏.‏

وهذا مما يدخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 13‏]‏‏.‏

حديث فيه فضيلة عظيمة لأمراء هذه السرية

وهم زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم‏.‏

قال الإمام العالم الحافظ أبو زرعة عبد الله بن عبد الكريم الرازي نضر الله وجهه في كتابه ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ - وهو كتاب جليل - حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي، ثنا الوليد، ثنا ابن جابر، وحدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، ثنا الوليد وعمرو - يعني ابن عبد الواحد - قالا‏:‏

ثنا ابن جابر، سمعت سليم بن عامر الخبائري يقول‏:‏ أخبرني أبو أمامة الباهلي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

‏(‏‏(‏بينا أنا نائم إذا أتاني رجلاًن فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا اصعد، فقلت لا أطيقه، فقالا‏:‏ أنا سنسهله لك، قال فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات شديدة فقلت ما هؤلاء الأصوات‏؟‏

فقالا‏:‏ عواء أهل النار، ثم انطلقا بي فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، فقلت‏:‏ ما هؤلاء فقالا هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم، فقال‏:‏ خابت اليهود والنصارى‏)‏‏)‏‏.‏

قال سليم‏:‏ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم من رأيه‏؟‏

‏(‏‏(‏ثم انطلقا بي فإذا قوم أشد شيء انتفاخاً وأنتن شيء ريحاً كأن ريحهم المراحيض، قلت‏:‏ من هؤلاء ‏؟‏

قال‏:‏ هؤلاء قتلى الكفار، ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد انتفاخاً وأنتن شيء ريحاً كأن ريحهم المراحيض، قلت‏:‏ من هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ هؤلاء الزانون والزواني، ثم انطلقا بي فإذا بنساء ينهش ثديهن الحيات، فقلت‏:‏ ما بال هؤلاء‏؟‏ قالا‏:‏ هؤلاء اللاتي يمنعن أولادهن ألبانهن‏.‏

ثم انطلقا بي فإذا بغلمان يلعبون بين بحرين، قلت‏:‏ من هؤلاء‏؟‏ قالا‏:‏ هؤلاء ذراري المؤمنين، ثم أشرفا بي شرفاً فإذا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم، فقلت‏:‏ من هؤلاء‏؟‏ قالا‏:‏ هذا جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة‏.‏

ثم أشرفا بي شرفاً آخر فإذا أنا بنفر ثلاثة، فقلت‏:‏ من هؤلاء‏؟‏ قالا‏:‏ هذا إبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، وهم ينتظرونك‏)‏‏)‏‏.‏

 ما قيل من الأشعار في غزوة مؤتة

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان مما بكى به أصحاب مؤتة قول حسان‏:‏

تأوبني ليلٌ بيثرب أعسر * وهم إذا ما نوم الناس مسهر

لذكرى حبيب هيجت لي عبرة * سفوحاً وأسباب البكاء التذكر

بلى إن فقدان الحبيب بليةٌ * وكم من كريم يبتلى ثم يصبر

رأيت خيار المسلمين تواردوا * شعوباً وخلفاً بعدهم يتأخر

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا * بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيدٌ وعبد الله حين تتابعوا * جميعاً وأسباب المنية تخطر

غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم * إلى الموت ميمون النقيبة أزهر

أغرَ كضوء البدر من آل هاشم * أبيٌ إذا سيم الظلامة مجسر

فطاعن حتى مال غير مؤسد * بمعتركٍ فيه القنا متكسر

فصار مع المستشهدين ثوابه * جنان وملتف الحدائق أخضر

وكنا نرى في جعفر من محمد * وفاء وأمراً حازماً حين يأمر

وما زال في الإسلام من آل هاشم * دعائم عزٍ لا يزلن ومفخر

هموا جبل الإسلام والناس حولهم * رضامٌ إلى طود يروق ويبهر

بهاليل منهم جعفر وابن أمه * علي ومنهم أحمد المتخير

وحمزة والعباس منهم ومنهموا * عقيل وماء العودِ من حيث يعصر

بهم تفرج اللأواء في كل مأزق * عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر

هم أولياء الله أنزل حكمه * عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر

وقال كعب بن مالك رضي الله عنه‏:‏

نام العيون ودمع عينك يهمل * سحاً كما وكف الطباب المخضل

في ليلة وردت علي همومها * طورا أخن وتارة أتمهل

واعتادني حزن فبت كأنني * ببنات نعش والسماكِ موكل

وكأنما بين الجوانح والحشا * مما تأوبني شهاب مدخل

وجداً على النفر الذين تتابعوا * يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا

صلى الإله عليهم من فتية * وسقى عظامهم الغمام المسبل

صبروا بمؤتة للإله نفوسهم * حذر الردى ومخافة أن ينكلوا

فمضوا أمام المسلمين كأنهم * فنق عليهن الحديد المرفل

إذ يهتدون بجعفر ولوائه * حيث التقى وعث الصفوف

فتغير القمر المنير لفقده * والشمس قد كسفت وكادت تأفل

قرمٌ على بنيانه من هاشم * فرعاً أشم وسؤدداً ما ينقل

قوم بهم عصم الإله عباده * وعليهم نزل الكتاب المنزل

فضلوا المعاشر عزة وتكرماً * وتغمدت أحلامهم من يجهل

لا يطلقون إلى السفاه حباهموا * وترى خطيبهم بحق يفصل

بيض الوجوه ترى بطون أكفهم * تندى إذا اعتذر الزمان الممحل

ويهديهم رضي الإله لخلقه * وبجدهم نُصر النبي المرسل