الجزء الرابع - كتاب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الآفاق وكتبه إليهم

بسم الله الرحمن الرحيم

 كتاب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الآفاق وكتبه إليهم

ذكر الواقدي أن ذلك في آخر سنة ست في ذي الحجة بعد عمرة الحديبية‏.‏

وذكر البيهقي هذا الفصل في هذا الموضع بعد غزوة مؤتة، والله أعلم‏.‏

ولا خلاف بينهم أن بدء ذلك كان قبل فتح مكة، وبعد الحديبية، لقول أبي سفيان لهرقل حين سأله هل يغدر‏؟‏

فقال‏:‏ لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها‏.‏

وفي لفظ البخاري‏:‏ وذلك في المدة التي ماد فيها أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ كان ذلك ما بين الحديبية ووفاته عليه السلام، ونحن نذكر ذلك ها هنا، وإن كان قول الواقدي محتملاً، والله أعلم‏.‏

وقد روى مسلم، عن يوسف بن حماد المعني، عن عبد الأعلى، عن سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب قبل مؤتة إلى كسرى، وقيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار، يدهوهم إلى الله عز وجل، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه‏.‏

وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس، حدثني أبو سفيان من فيه إلى في، قال‏:‏ كنا قوماً تجاراً وكانت الحرب قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا، فلما كانت الهدنة - هدنة الحديبية - بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نأمن إن وجدنا أمناً‏.‏

فخرجت تاجراً إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلاً إلا وقد حملني بضاعة، وكان وجه متجرنا من الشام غزة من أرض فلسطين‏.‏

فخرجنا حتى قدمناها وذلك حين ظهر قيصر صاحب الروم على من كان في بلاده من الفرس، فأخرجهم منها، ورد عليه صليبه الأعظم وقد كان استلبوه إياه‏.‏

فلما أن بلغه ذلك وقد كان منزله بحمص من الشام، فخرج منها يمشي متشكراً إلى بيت المقدس ليصلي فيه، تبسط له البسط، ويطرح عليها الرياحين، حتى انتهى إلى إيلياء فصلى بها، فأصبح ذات غداة وهو مهموم يقلب طرفه إلى السماء، فقالت له بطارقته‏:‏ أيها الملك لقد أصبحت مهموماً‏؟‏

فقال‏:‏ أجل‏.‏

فقالوا‏:‏ وما ذاك‏؟‏

فقال‏:‏ أُريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر‏.‏

فقالوا‏:‏ والله ما نعلم أمة من الأمم تختتن إلا اليهود، وهم تحت يديك وفي سلطانك، فإن كان قد وقع ذلك في نفسك منهم، فابعث في مملكتك كلها، فلا يبقى يهودي إلا ضربت عنقه فتستريح من هذا الهم‏.‏

فإنهم في ذلك من رأيهم يديرونه بينهم، إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل من العرب قد وقع إليهم، فقال‏:‏ أيها الملك إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والإبل يحدثك عن حدث كان ببلاده فاسأله عنه‏.‏

فلما انتهى إليه قال لترجمانه‏:‏ سله ما هذا الخبر الذي كان في بلاده‏؟‏

فسأله فقال‏:‏ هو رجل من العرب من قريش، خرج يزعم أنه نبي، وقد اتبعه أقوام وخالفه آخرون، وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن، فخرجت من بلادي وهم على ذلك‏.‏

فلما أخبره الخبر قال‏:‏ جردوه فإذا هو مختتن‏.‏

فقال‏:‏ هذا والله الذي قد أريت، لا ما تقولون، أعطه ثوبه انطلق لشأنك‏.‏

ثم إنه دعا صاحب شرطته فقال له‏:‏ قلب لي الشام ظهراً لبطن، حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ فوالله إني وأصحابي لبغزة، إذ هجم علينا فسألنا ممن أنتم‏؟‏ فأخبرناه فساقنا إليه جميعاً، فلما انتهينا إليه قال أبو سفيان‏:‏ فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأغلف - يريد هرقل -‏.‏

قال‏:‏ فلما انتهينا إليه قال‏:‏ أيكم أمس به رحماً‏؟‏

فقلت‏:‏ أنا‏.‏

قال‏:‏ ادنوه مني‏.‏

قال‏:‏ فاجلسني بين يديه، ثم أمر أصحابي فأجلسهم خلفي، وقال‏:‏ إن كذب فردوا عليه‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ فلقد عرفت أني لو كذبت ما ردوا علي، ولكني كنت امرءاً سيداً أتكرم وأستحي من الكذب، وعرفت أن أدنى ما يكون في ذلك أن يرووه عني، ثم يتحدثونه عني بمكة فلم أكذبه‏.‏ ‏

فقال‏:‏ أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج فيكم‏؟‏

فزهدت له شأنه، وصغرت له أمره، فوالله ما التفت إلى ذلك مني و قال أخبرني عما أسألك من أمره‏.‏

فقلت‏:‏ سلني عما بدا لك‏؟‏

قال‏:‏ كيف نسبه فيكم‏؟‏

فقلت‏:‏ محضاً من أوسطنا نسباً‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به‏؟‏

فقلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني هل كان له ملك فأسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوه عليه‏؟‏

فقلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني عن أتباعه من هم‏؟‏

فقلت‏:‏ الأحداث، والضعفاء، والمساكين، فأما أشرافهم وذووا الأنساب منهم فلا‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني عمن صحبه؛ أيحبه ويكرمه، أم يقليه ويفارقه‏؟‏

قلت‏:‏ ما صحبه رجل ففارقه‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني عن الحرب بينكم وبينه‏؟‏

فقلت‏:‏ سجال يدال علينا، وندال عليه‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني هل يغدر، فلم أجد شيئاً أغره به إلا هي‏؟‏

قلت‏:‏ لا، ونحن منه في مدة، ولا نأمن غدره فيها، فوالله ما التفت إليها مني‏.‏

قال‏:‏ فأعاد علي الحديث‏.‏

قال‏:‏ زعمت أنه من أمحضكم نسباً، وكذلك يأخذ الله النبي لا يأخذه إلا من أوسط قومه‏.‏

وسألتك هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به، فقلت لا‏.‏

وسألتك هل كان له ملك فأسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه، فقلت لا‏.‏

وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الأحداث والمساكين والضعفاء، وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان‏.‏

وسألتك عمن يتبعه أيحبه ويكرمه، أم يقليه ويفارقه، فزعمت أنه قل من يصحبه فيفارقه، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه‏.‏

وسألتك كيف الحرب بينكم وبينه فزعمت أنها سجال، يدال عليكم وتدالون عليه، وكذلك يكون حرب الأنبياء ولهم تكون العاقبة‏.‏

وسألتك هل يغدر، فزغمت أنه لا يغدر، فلئن كنت صدقتني ليغلبن على ما تحت قدمي هاتين، ولوددت أني عنده فأغسل عن قدميه‏.‏

ثم قال‏:‏ الحق بشأنك‏.‏

قال‏:‏ فقمت وأنا أضرب إحدى يدي على الأخرى، وأقول‏:‏ يا عباد الله لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، وأصبح ملوك بني الأصفر يخافونه في سلطانهم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني الزهري قال‏:‏ حدثني أسقف من النصارى قد أدرك ذلك الزمان قال‏:‏ قدم دحية بن خليفة على هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد‏:‏ فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإن إثم الأكاريين عليك‏.‏

قال‏:‏ فلما انتهى إليه كتابه، وقرأه، أخذه فجعله بين فخذه وخاصرته، ثم كتب إلى رجل من أهل رومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ، يخبره عما جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏

فكتب إليه‏:‏ إنه النبي الذي ينتظر لا شك فيه فاتبعه‏.‏

فأمر بعظماء الروم فجمعوا له في دسكرة ملكه، ثم أمر بها فأشرحت عليهم، واطلع عليهم من علية له وهو منهم خائف، فقال‏:‏ يا معشر الروم إنه قد جاءني كتاب أحمد، وإنه والله النبي الذي كنا ننتظر، ومجمل ذكره في كتابنا نعرفه بعلاماته وزمانه، فأسلموا واتبعوه، تسلم لكم دنياكم وآخرتكم‏.‏

فنخروا نخرة رجل واحد، وابتدروا أبواب الدسكرة، فوجدوها مغلقة دونهم فخافهم، وقال‏:‏ ردوهم علي، فردوهم عليه فقال لهم‏:‏ يا معشر الروم إني إنما قلت لكم هذه المقالة أختبركم بها، لأنظر كيف صلابتكم في دينكم‏؟‏ فلقد رأيت منكم ما سرني، فوقعوا له سجداً، ثم فتحت لهم أبواب الدسكرة فخرجوا‏.‏

وقد روى البخاري قصة أبي سفيان مع هرقل بزيادات أخر، أحببنا أن نوردها بسندها وحروفها من الصحيح ليعلم ما بين السياقين من التباين، وما فيهما من الفوائد‏.‏

قال البخاري قبل الإيمان من صحيحه‏:‏ حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، ثنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره، أن أبا سفيان أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش‏.‏

وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه و هم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بالترجمان فقال‏:‏ أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي‏؟‏

قال أبو سفيان‏:‏ فقلت أنا أقربهم نسباً‏.‏

قال‏:‏ أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره‏.‏

ثم قال لترجمانه قل لهم‏:‏ إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه‏.‏

قال‏:‏ فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا عني كذباً لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال‏:‏ كيف نسبه فيكم‏؟‏

قلت‏:‏ هو فينا ذو نسب‏.‏

قال‏:‏ فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله‏؟‏

قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فهل كان من آبائه من ملك‏؟‏

قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم‏؟‏

قلت‏:‏ بل ضعفاؤهم‏.‏

قال‏:‏ أيزيدون أم ينقصون‏؟‏

قلت‏:‏ بل يزيدون‏.‏

قال‏:‏ فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه‏؟‏

قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال‏؟‏

قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فهل يغدر‏؟‏

قلت‏:‏ لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها‏؟‏

قال‏:‏ ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة‏.‏

قال‏:‏ فهل قاتلتمونه‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فكيف كان قتالكم إياه‏؟‏

قلت‏:‏ الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه‏.‏

قال‏:‏ ماذا يأمركم‏؟‏

قلت‏:‏ يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة‏.‏ ‏

فقال للترجمان‏:‏ قل له سألتك عن نسبه، فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها‏.‏

وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله، فذكرت أن لا، فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله‏.‏

وسألتك هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه‏.‏

وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله‏.‏

وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل‏.‏

وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حين يتم‏.‏

وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب‏.‏

وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر‏.‏

وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة، والصدق، والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه‏.‏

ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فإذا فيه‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد‏:‏ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين‏:‏

‏{‏يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا تشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين خرجنا‏:‏ لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام‏.‏

قال‏:‏ وكان ابن الناطور صاحب إيلياء، وهرقل أسقف على نصارى الشام، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته‏:‏ قد استنكرنا هيئتك‏.‏

قال ابن الناطور‏:‏ وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه‏:‏ إني رأيت حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمم‏؟‏

قالوا‏:‏ ليس يختتن إلا اليهود ولا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود‏.‏

فبينما هم على أمرهم، أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان، فخبرهم عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال‏:‏ اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا‏؟‏

فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال‏:‏ هم يختتنون‏.‏

فقال هرقل‏:‏ هذا ملك هذه الأمة قد ظهر‏.‏

ثم كتب إلى صاحب له برومية - وكان نظيره في العلم - وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم بحمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وهو نبي‏.‏

فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال‏:‏ يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت لكم ملككم‏؟‏ فتتابعوا لهذا النبي، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت‏.‏

فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال‏:‏ ردوهم علي، وقال‏:‏ إني إنما قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه‏.‏

فكان ذلك آخر شأن هرقل‏.‏

قال البخاري‏:‏ ورواه صالح بن كيسان، ويونس، ومعمر، عن الزهري‏.‏

وقد رواه البخاري في مواضع كثيرة في صحيحه بألفاظ يطول استقصاؤها‏.‏

وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق، عن الزهري‏.‏

وقد تكلمنا على هذا الحديث مطولاً في أول شرحنا لصحيح البخاري بما فيه كفاية، وذكرنا فيه من الفوائد، والنكت المعنوية، واللفظية، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة قال‏:‏ خرج أبو سفيان بن حرب إلى الشام تاجراً في نفر من قريش، وبلغ هرقل شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يعلم ما يعلم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فأرسل إلى صاحب العرب الذي بالشام في ملكه، يأمره أن يبعث إليه برجال من العرب يسألهم عنه، فأرسل إليه ثلاثين رجلاً منهم أبو سفيان ابن حرب، فدخلوا عليه في كنيسة إيلياء التي في جوفها‏.‏

فقال هرقل‏:‏ أرسلت إليكم لتخبروني عن هذا الذي بمكة ما أمره‏؟‏

قالوا‏:‏ ساحر كذاب، وليس بنبي‏.‏

قال‏:‏ فأخبروني من أعلمكم به، وأقربكم منه رحماً‏؟‏

قالوا‏:‏ هذا أبو سفيان ابن عمه، وقد قاتله‏.‏

فلما أخبروه ذلك أمر بهم، فاخرجوا عنه‏.‏

ثم أجلس أبا سفيان فاستخبره‏.‏

قال‏:‏ أخبرني يا أبا سفيان‏.‏

فقال‏:‏ هو ساحر كذاب‏.‏

فقال هرقل‏:‏ إني لا أريد شتمه، ولكن كيف نسبه فيكم‏؟‏

قال‏:‏ هو والله من بيت قريش‏.‏

قال‏:‏ كيف عقله ورأيه‏؟‏

قال‏:‏ لم يغب له رأي قط‏.

قال هرقل‏:‏ هل كان حلافاً كذاباً مخادعاً في أمره‏؟‏

قال‏:‏ لا والله، ما كان كذلك‏.‏

قال‏:‏ لعله يطلب ملكاً أو شرفاً كان لأحد من أهل بيته قبله‏؟‏

قال أبو سفيان‏:‏ لا‏.‏

ثم قال‏:‏ من يتبعه منكم هل يرجع إليكم منهم أحد‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال هرقل‏:‏ هل يغدر إذا عاهد‏؟‏

قال‏:‏ لا، إلا أن يغدر مدته هذه‏.‏

فقال هرقل‏:‏ وما تخاف من مدته هذه‏؟‏

قال‏:‏ إن قومي أمدوا حلفاءهم على حلفائه وهو بالمدينة‏.‏

قال هرقل‏:‏ إن كنتم أنتم بدأتم فأنتم أغدر‏.‏

فغضب أبو سفيان وقال‏:‏ لم يغلبنا إلا مرة واحدة، وأنا يومئذ غائب، وهو يوم بدر، ثم غزوته مرتين في بيوتهم نبقر البطون ونجدع الآذان والفروج‏.‏

فقال هرقل‏:‏ كذاباً تراه أم صادقاً‏؟‏

فقال‏:‏ بل هو كاذب‏.‏

فقال‏:‏ إن كان فيكم نبي فلا تقتلوه، فإن أفعل الناس لذلك اليهود‏.‏

ثم رجع أبو سفيان‏.‏

ففي هذا السياق غرابة، وفيه فوائد ليست عند ابن إسحاق ولا البخاري‏.‏

وقد أورد موسى بن عقبة في ‏(‏مغازيه‏)‏ قريباً مما ذكره عروة بن الزبير، والله أعلم‏.‏

وقال ابن جرير في ‏(‏تاريخه‏)‏‏:‏ حدثنا ابن حميد، ثنا سلمة، ثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم قال‏:‏ إن هرقل قال لدحية بن خليفة الكلبي حين قدم عليه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته فاذهب إلى صفاطر الأسقف فاذكر له أمر صاحبكم، فهو والله في الروم أعظم مني، وأجود قولاً عندهم مني، فانظر ماذا يقول لك ‏؟‏

قال‏:‏ فجاء دحية فأخبره بما جاء به من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وبما يدعو إليه‏.‏

فقال‏:‏ صفاطر والله صاحبك نبي مرسل، نعرفه بصفته، ونجده في كتابنا باسمه‏.‏

ثم دخل وألقى ثياباً كانت عليه سوداً، ولبس ثياباً بياضاً، ثم أخذ عصاه فخرج على الروم في الكنيسة فقال‏:‏ يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله، وأني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله‏.‏

قال‏:‏ فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فضربوه حتى قتلوه‏.‏

قال‏:‏ فلما رجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر قال‏:‏ قد قلت لك أنا نخافهم على أنفسنا، فصفاطر والله كان أعظم عندهم وأجوز قولاً مني‏.‏

وقد روى الطبراني من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن عبد الله بن شداد، عن دحية الكلبي قال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر صاحب الروم بكتاب فقلت‏:‏ استأذنوا لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فأتى قيصر فقيل له إن على الباب رجلاً يزعم أنه رسول رسول الله، ففزعوا لذلك وقال‏:‏ أدخله‏.‏

فأدخلني عليه وعنده بطارقته فأعطيته الكتاب فإذا فيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم، فنخر ابن أخ له أحمر أزرق سبط، فقال‏:‏ لا تقرأ الكتاب اليوم، فإنه بدأ بنفسه وكتب صاحب الروم ولم يكتب ملك الروم‏.‏

قال فقُرئ الكتاب حتى فرغ منه، ثم أمرهم فخرجوا من عنده‏.‏

ثم بعث إلي فدخلت عليه فسألني فأخبرته، فبعث إلى الأسقف فدخل عليه - وكان صاحب أمرهم يصدرون عن رأيه وعن قوله - فلما قرأ الكتاب قال الأسقف‏:‏ هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى الذي كنا ننتظر‏.‏

قال قيصر‏:‏ فما تأمرني‏؟‏

قال الأسقف‏:‏ أما أنا فإني مصدقه ومتبعه‏.‏

فقال قيصر‏:‏ أعرف أنه كذلك، ولكن لا أستطيع أن أفعل، إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم‏.‏

وبه قال محمد بن إسحاق، عن خالد بن يسار، عن رجل من قدماء أهل الشام قال‏:‏ لما أراد هرقل الخروج من أرض الشام إلى القسطنطينية لما بلغه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، جمع الروم فقال‏:‏ يا معشر الروم إني عارض عليكم أمورا فانظروا فيما أردت بها‏؟‏

قالوا‏:‏ ما هي‏؟‏

قال‏:‏ تعلمون والله أن هذا الرجل لنبي مرسل، نجده نعرفه بصفته التي وصف لنا، فهلم فلنتبعه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا‏.‏

فقالوا‏:‏ نحن نكون تحت أيدي العرب، ونحن أعظم الناس ملكاً، وأكثر رجالاً، وأقصاه بلداً ‏؟‏‏!‏

قال‏:‏ فهلم أعطيه الجزية كل سنة أكسر شوكته، وأستريح من حربه بما أعطيه إياه‏.‏

قالوا‏:‏ نحن نعطي العرب الذل والصغار بخراج يأخذونه منا، ونحن أكثر الناس عدداً، وأعظمه ملكاً، وأمنعه بلداً، لا والله لا نفعل هذا أبداً‏.‏

قال‏:‏ فهلم فلأصالحه على أن أعطيه أرض سورية، ويدعني وأرض الشام‏.‏

قال‏:‏ وكانت أرض سورية‏:‏ فلسطين، والأردن، ودمشق، وحمص، وما دون الدرب من أرض سورية، وما كان وراء الدرب عندهم فهو الشام‏.‏

فقالوا‏:‏ نحن نعطيه أرض سورية، وقد عرفت أنها سرة الشام، لانفعل هذا أبداً‏.‏

فلما أبوا عليه قال‏:‏ أما والله لتودن أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم منه في مدينتكم‏.‏

قال‏:‏ ثم جلس على بغل له، فانطلق حتى إذا أشرف على الدرب، استقبل أرض الشام ثم قال‏:‏ السلام عليك يا أرض سورية تسليم الوداع، ثم ركض حتى دخل قسطنطينية، والله أعلم‏.‏

إرساله صلى الله عليه وسلم إلى ملك العرب من النصارى بالشام

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب، أخا بني أسد بن خزيمة، إلى المنذر ابن الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وكتب معه سلام على من اتبع الهدى، وأمن به، وأدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك‏.‏

فقدم شجاع بن وهب فقرأه عليه فقال‏:‏ ومن ينتزع ملكي‏؟‏ إني سأسير إليه‏.‏

 بعثه إلى كسرى ملك الفرس

وروى البخاري من حديث الليث، عن يونس، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه مع رجل إلى كسرى، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه‏.‏

قال‏:‏ فحسبت أن ابن المسيب قال‏:‏ فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق‏.‏

وقال عبد الله بن وهب‏:‏ عن يونس، عن الزهري، حدثني عبد الرحمن بن عبد القاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم على المنبر خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم فلا تختلفوا علي كما اختلف بنو إسرائيل على عيسى بن مريم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال المهاجرون‏:‏ يا رسول الله أنا لا نختلف عليك في شيء أبداً فمرنا وابعثنا‏.‏

فبعث شجاع بن وهب إلى كسرى فأمر كسرى بإيوانه أن يزين، ثم أذن لعظماء فارس، ثم أذن لشجاع بن وهب، فلما أن دخل عليه أمر كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبض منه‏.‏

فقال شجاع بن وهب‏:‏ لا حتى أدفعه أنا إليك كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال كسرى‏:‏ ادنه، فدنا فناوله الكتاب، ثم دعا كاتباً له من أهل الحيرة، فقرأه فإذا فيه‏:‏ من محمد بن عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم فارس‏.‏

قال‏:‏ فأغضبه حين بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وصاح، وغضب، ومزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، وأمر بشجاع بن وهب فأخرج‏.‏

فلما رأى ذلك قعد على راحلته، ثم سار، ثم قال‏:‏ والله ما أبالي على أي الطريقين أكون، إذ أديت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ولما ذهب عن كسرى سورة غضبه، بعث إلى شجاع ليدخل عليه، فالتمس فلم يوجد، فطلب إلى الحيرة فسبق‏.‏

فلما قدم شجاع على النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بما كان من أمر كسرى، وتمزيقه لكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏مزق كسرى ملكه‏)‏‏)‏‏.‏

وروى محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبي سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة بكتابه إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مزق ملكه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أحمد بن حميد، ثنا سلمة، ثنا ابن إسحاق، عن زيد بن أبي حبيب قال‏:‏ وبعث عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم إلى كسرى بن هرمز ملك فارس، وكتب معه‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وأمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فإن تسلم تسلم، وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك‏.‏

قال‏:‏ فلما قرأه شقه وقال‏:‏ يكتب إلي بهذا وهو عبدي ‏؟‏‏!‏

قال‏:‏ ثم كتب كسرى إلى باذام وهو نائبه على اليمن، أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز، رجلين من عند جلدين فليأتياني به‏.‏

فبعث باذام قهرمانه - وكان كاتباً حاسباً - بكتاب فارس وبعث معه رجلاً من الفرس يقال له خرخرة، وكتب معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى‏.‏

وقال لأبا ذويه‏:‏ إيتِ بلاد هذا الرجل وكلمه وائتني بخبره‏.‏

فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجلاً من قريش في أرض الطائف، فسألوه عنه فقال‏:‏ هو بالمدينة‏.‏

واستبشر أهل الطائف - يعني وقريش بهما - وفرحوا وقال بعضهم لبعض‏:‏ أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك كفيتم الرجل‏.‏

فخرجا حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أبا ذويه فقال‏:‏ شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذام يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتب لك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك‏.‏

ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ويلكما من أمركما بهذا ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالا‏:‏ أمرنا ربنا - يعنيان كسرى -‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي، وقص شاربي‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارجعا حتى تأتياني غداً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا وكذا، من ليلة كذا وكذا من الليل، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله‏.‏

قال‏:‏ فدعاهما فأخبرهما، فقالا‏:‏ هل تدري ما تقول‏؟‏ أنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، فنكتب عنك بهذا، ونخبر الملك باذام‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم أخبراه ذاك عني، وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهي إلى الخف والحافر، وقولا له إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك من الأبناء‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أعطى خرخرة منطقة فيها ذهب وفضة، كان أهداها له بعض الملوك‏.‏

فخرجا من عنده حتى قدما على باذام، فأخبراه الخبر فقال‏:‏ والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبياً كما يقول، وليكونن ما قد قال، فلئن كان هذا حقاً فهو نبي مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأياً‏.‏

فلم ينشب باذام أن قدم عليه كتاب شيرويه أما بعد‏:‏ فإني قد قتلت كسرى، وما أقتله إلا غضباً لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم، ونحرهم في ثغورهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانطلق إلى الرجل الذي كان كسرى قد كتب فيه، فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه‏.‏

فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذام قال‏:‏ إن هذا الرجل لرسول، فأسلم وأسلمت الأبناء من فارس من كان منهم باليمن‏.‏ ‏

قال‏:‏ وقد قال باذويه لباذام‏:‏ ما كلمت أحداً أهيب عندي منه‏.‏

فقال له باذام‏:‏ هل معه شرط‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال الواقدي رحمه الله‏:‏ وكان قتل كسرى على يدي ابنه شيرويه، ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الآخرة من سنة سبع من الهجرة، لست ساعات مضت منها‏.‏

قلت‏:‏ وفي شعر بعضهم ما يرشد أن قتله كان في شهر الحرام، وهو قول بعض الشعراء‏:‏

قتلوا كسرى بليل محرماً * فتولى لم يمتع بكفن

وقال بعض شعراء العرب‏:‏

وكسرى إذ تقاسمه بنوه *بأسياف كما اقتسم اللحام

تمخضت المنون له بيوم * أتى ولكل حاملة تمام

وروى الحافظ البيهقي من حديث حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن أبي بكرة أن رجلاً من أهل فارس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن ربي قد قتل الليلة ربك‏)‏‏)‏ يعني كسرى‏.‏

قال‏:‏ وقيل له - يعني النبي صلى الله عليه وسلم -‏:‏ إنه قد استخلف ابنته فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يفلح قوم تملكهم امرأة‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وروى في حديث دحية بن خليفة الكلبي أنه لما رجع من عند قيصر، وجد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رسل كسرى، وذلك أن كسرى بعث يتوعد صاحب صنعاء ويقول له‏:‏ إلا تكفيني أمر رجل قد ظهر بأرضك يدعوني إلى دينه، لتكفينه أو لأفعلن بك‏.‏

فبعث إليه فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم كتاب صاحبهم تركهم خمس عشرة ليلة ثم قال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهبوا إلى صاحبكم أخبروه أن ربي قد قتل ربه الليلة‏)‏‏)‏ فوجدوه كما قال‏.‏

قال‏:‏ وروى داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي نحو هذا‏.‏

ثم روى البيهقي من طريق أبي بكر بن عياش، عن داود بن أبي هند، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ أقبل سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن في وجه سعد خبراً‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله هلك كسرى‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لعن الله كسرى، أول الناس هلاكاً فارس، ثم العرب‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

قلت‏:‏ الظاهر أنه لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهلاك كسرى لذينك الرجلين - يعني الأميرين اللذين قدما من نائب اليمن باذام - فلما جاء الخبر بوفق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وشاع في البلاد‏.‏

وكان سعد بن أبي وقاص أول من سمع، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بوفق إخباره عليه السلام، وهكذا بنحو هذا التقدير ذكره البيهقي رحمه الله‏.‏

ثم روى البيهقي من غير وجه، عن الزهري‏:‏ أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه بلغه أن كسرى بينما هو في دسكرة ملكه بعث له - أو قيض له - عارض يعرض عليه الحق فلم يفجأ كسرى إلا برجل يمشي وفي يده عصا‏.‏

فقال‏:‏ يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا‏؟‏

فقال كسرى‏:‏ نعم، لا تكسرها‏.‏

فولى الرجل‏.‏

فلما ذهب أرسل كسرى إلى حجابه، فقال‏:‏ من أذن لهذا الرجل علي‏؟‏

فقالوا‏:‏ ما دخل عليك أحد‏.‏

فقال‏:‏ كذبتم‏.‏

قال‏:‏ فغضب عليهم وتهددهم، ثم تركهم‏.‏

قال‏:‏ فلما كان رأس الحول أتى ذلك الرجل ومعه العصا، قال‏:‏ يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا‏؟‏

قال‏:‏ نعم لا تكسرها‏.‏

فلما انصرف عند دعا حجابه قال لهم كالمرة الأولى، فلما كان العام المستقبل أتاه ذلك الرجل معه العصا، فقال له‏:‏ هل لك يا كسرى في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا‏؟‏

فقال‏:‏ لا تكسرها لا تكسرها فكسرها، فأهلك الله كسرى عند ذلك‏.‏

وقال الإمام الشافعي‏:‏ أنبا ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، فوالذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

أخرجه مسلم من حديث ابن عيينة، وأخرجاه من حديث الزهري به‏.‏

قال الشافعي‏:‏ ولما أتى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مزقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يمزق ملكه‏)‏‏)‏‏.‏

وحفظنا أن قيصر أكرم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه في مسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ثبت ملكه‏)‏‏)‏‏.‏

قال الشافعي وغيره من العلماء‏:‏ ولما كانت العرب تأتي الشام والعراق للتجارة، فأسلم من أسلم منهم، شكوا خوفهم من ملكي العراق والشام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فباد ملك الأكاسرة بالكلية، وزال ملك قيصر عن الشام بالكلية، وإن ثبت لهم ملك في الجملة ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عظموا كتابه، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذا بشارة عظيمة بأن ملك الروم لا يعود أبداً إلى أرض الشام، وكانت العرب تسمي قيصر لمن ملك الشام مع الجزيرة من الروم، وكسرى لمن ملك الفرس، والنجاشي لمن ملك الحبشة، والمقوقس لمن ملك الإسكندرية، وفرعون لمن ملك مصر كافراً، وبطليموس لمن ملك الهند، ولهم أعلام أجناس غير ذلك، وقد ذكرناها في غير هذا الموضع، والله أعلم‏.‏ ‏

وروى مسلم‏:‏ عن قتيبة وغيره، عن أبي عوانة، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لتفتحن عصابة من المسلمين كنوز كسرى في القصر الأبيض‏)‏‏)‏‏.‏

وروى أسباط، عن سماك، عن جابر بن سمرة مثل ذلك، وزاد‏:‏ وكنت أنا وأبي فيهم، فأصبنا من ذلك ألف درهم‏.‏

 بعثه صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس صاحب مدينة الإسكندرية واسمه جريج بن مينا القبطي‏.‏

قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق‏:‏ حدثني الزهري، عن عبد الله بن عبد القاري‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حاطب بن أبي بلتعه إلى المقوقس - صاحب الإسكندرية - فمضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فقبل الكتاب وأكرم حاطباً، وأحسن نزله، وسرحه إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأهدى له مع حاطب كسوة وبغلة بسرجها، وجاريتين إحداهما أم إبراهيم، وأما الأخرى فوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحمد بن قيس العبدي‏.‏

رواه البيهقي‏.‏

ثم روي من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، ثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه، عن جده حاطب بن أبي بلتعة قال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإسكندرية، قال‏:‏ فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزلني في منزله، وأقمت عنده‏.‏

ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته، وقال‏:‏ إني سائلك عن كلام فأحب أن تفهم عني‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ هلم‏.‏

قال‏:‏ أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي ‏؟‏

قلت‏:‏ بل هو رسول الله‏.‏

قال‏:‏ فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها ‏؟‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ عيسى ابن مريم أليس تشهد أنه رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قلت‏:‏ فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه، إلا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا ‏؟‏

فقال لي‏:‏ أنت حكيم قد جاء من عند حكيم، هذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد، وأرسل معك ببذرقة يبذرقونك إلى مأمنك‏.‏

قال‏:‏ فأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث جوار منهم‏:‏ أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواحدة وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهم ابن حذيفة العدوي، وواحدة وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت الأنصاري، وأرسل إليه بطرف من طرفهم‏.‏

وذكر ابن إسحاق‏:‏ أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جوار؛ إحداهن مارية أم إبراهيم، والأخرى سيرين التي وهبها لحسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن بن حسان‏.‏

قلت‏:‏ وكان في جملة الهدية غلام أسود خصي اسمه مأبور، وخفين ساذجين أسودين، وبغلة بيضاء اسمها الدلدل، وكان مأبور هذا خصياً ولم يعلموا بأمره بادي الأمر، فصار يدخل على مارية كما كان من عاداتهم ببلاد مصر‏.‏

فجعل بعض الناس يتكلم فيهما بسبب ذلك، ولا يعلمون بحقيقة الحال وأنه خصي، حتى قال بعضهم‏:‏ إنه الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بقتله فوجده خصياً فتركه‏.‏

والحديث في صحيح مسلم من طريق‏.‏‏.‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وبعث سليط بن عمرو بن عبدود أخا بني عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى جيفر بن الجلندي وعمار بن الجنلدي الإزديين صاحبي عمان‏.‏

 غزوة ذات السلاسل

ذكرها الحافظ البيهقي ها هنا قبل غزوة الفتح، فساق من طريق موسى بن عقبة، وعروة بن الزبير قالا‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من مشارف الشام في بلي، وعبد الله ومن يليهم من قضاعة‏.‏

قال عروة بن الزبير‏:‏ وبنو بلي أخوال العاص بن وائل، فلما صار إلى هناك خاف من كثرة عدوه، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين الأولين، فانتدب أبو بكر وعمر في جماعة من سراة المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح‏.‏

قال عروة‏:‏ وعمرو يومئذ في سعد الله وتلك الناحية من قضاعة‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ فلما قدموا على عمرو قال‏:‏ أنا أميركم، وأنا أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستمده بكم‏.‏

فقال المهاجرون‏:‏ بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين‏.‏

فقال عمرو‏:‏ إنما أنتم مدد أمددته، فلما رأى ذلك أبو عبيدة وكان رجل حسن الخلق لين الشيمة، سعى لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعهده‏.‏

قال‏:‏ تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا‏)‏‏)‏ وإنك إن عصيتني لأطيعنك، فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الإسلام، وذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بني بلي، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يتألفهم بذلك‏.‏

حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له السلاسل - وبه سميت تلك الغزوة ذات السلاسل - قال‏:‏ فلما كان عليه وخاف، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين، فيهم أبو بكر وعمر، وقال لأبي عبيدة حين وجهه‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تختلفا‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو‏:‏ إنما جئت مدداً لي‏.‏

فقال له أبو عبيدة‏:‏ لا، ولكني على ما أنا عليه، وأنت على ما أنت عليه‏.‏

وكان أبو عبيدة رجلاً ليناً سهلاً هيناً عليه أمر الدنيا‏.‏

فقال له عمرو‏:‏ أنت مددي‏.‏

فقال له أبو عبيدة‏:‏ يا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لي‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تختلفا‏)‏‏)‏ وإنك إن عصيتني أطعتك‏.‏

فقال له عمرو‏:‏ فإني أمير عليك، وإنما أنت مدد لي‏.‏

قال‏:‏ فدونك، فصلى عمرو بن العاص بالناس‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني ربيعة بن عثمان، عن يزيد بن رومان‏:‏ أن أبا عبيدة لما آب إلى عمرو بن العاص، فصاروا خمسمائة، فساروا الليل والنهار حتى وطئ بلاد بلي ودوخها، وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان بهذا الموضع جمع، فلما سمعوا بك تفرقوا حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلي وعذرة وبلقين، ولقي في آخر ذلك جمعاً ليس بالكثير، فاقتتلوا ساعة، وتراموا بالنبل ساعة‏.‏

ورمي يومئذ عامر بن ربيعة وأصيب ذراعه، وحمل المسلمون عليهم فهزموا، وأعجزوا هرباً في البلاد، وتفرقوا ودوخ عمرو ما هنالك، وأقام أياماً لا يسمع لهم بجمع ولا مكان صاروا فيه، وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنعم، فكانوا ينحرون ويذبحون، ولم يكن في ذلك أكثر من ذلك، ولم تكن لهم غنائم تقسم‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا ابن المثنى، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جيبر، عن عمرو بن العاص قال‏:‏ احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك‏.‏

قال‏:‏ فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ‏؟‏‏)‏‏)‏ ‏

قال‏:‏ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت‏:‏ إني سمعت الله يقول‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً‏} ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ فضحك نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً‏.‏

حدثنا محمد بن سلمة، حدثنا ابن وهب، ثنا ابن لهيعة وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جيبر، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص - وكان على سرية - ذكر الحديث بنحوه قال‏:‏ فغسل مغابنه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى بهم، فذكر نحوه ولم يذكر التيمم‏.‏

قال أبو داود‏:‏ وروى هذه القصة عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، وقال فيه‏:‏ فتيمم‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني أفلح بن سعيد، عن ابن عبد الرحمن بن رقيش، عن أبي بكر ابن حزم قال‏:‏ كان عمرو بن العاص حين قفلوا احتلم في ليلة باردة كأشد ما يكون من البرد، فقال لأصحابه‏:‏ ما ترون‏؟‏

والله احتلمت، فإن اغتسلت مت، فدعا بماء فتوضأ، وغسل فرجه وتيمم، ثم قام فصلى بهم، فكان أول من بعث عوف بن مالك بريداً‏.‏

قال عوف‏:‏ فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر وهو يصلي في بيته، فسلمت عليه‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏عوف بن مالك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ عوف بن مالك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏صاحب الجزور ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ نعم، ولم يزد على هذا بعد ذلك شيئاً‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخبرني‏)‏‏)‏‏.‏

فأخبرته بما كان من مسيرنا، وما كان من أبي عبيدة وعمرو، ومطاوعة أبي عبيدة‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم أخبرته أن عمراً صلى بالناس وهو جنب، ومعه ماء لم يزد على أن غسل فرجه وتوضأ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن صلاته فأخبره‏.‏

فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق إني لو اغتسلت لمت، ولم أجد برداً قط مثله، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً‏}‏‏.‏

قال‏:‏ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغنا أنه قال شيئاً‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عوف بن مالك الأشجعي قال‏:‏ كنت في الغزوة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن العاص - وهي غزوة ذات السلاسل - فصحبت أبا بكر وعمر‏.‏

فمررت بقوم وهم على جزور قد نحروها، وهم لا يقدرون على أن يبعضوها، وكنت امرءاً جازراً، فقلت لهم‏:‏ تعطوني منها عشراً على أن أقسمها بينكم ‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم، فأخذت الشفرة فجزأتها مكاني، وأخذت منها جزءاً فحملته إلى أصحابي، فأطبخناه وأكلناه‏.‏

فقال أبو بكر وعمر‏:‏ أنى لك هذا اللحم يا عوف ‏؟‏

فأخبرتهما، فقالا‏:‏ لا والله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا، ثم قاما يتقيآن ما في بطونهما منه، فلما أن قفل الناس من ذلك السفر، كنت أول قادم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئته وهو يصلي في بيته، فقلت‏:‏ السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته‏.‏ ‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أعوف بن مالك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ نعم بأبي أنت وأمي‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏صاحب الجزور ‏؟‏‏)‏‏)‏ ولم يزدني على ذلك شيئاً‏.‏

هكذا رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عوف بن مالك‏.‏

وهو منقطع بل معضل‏.‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ وقد رواه ابن لهيعة، وسعيد بن أبي أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط، عن مالك بن زهدم، أظنه عن عوف بن مالك فذكر نحوه، إلا أنه قال‏:‏ فعرضته على عمر، فسألني عنه فأخبرته، فقال‏:‏ قد تعجلت أجرك ولم يأكله‏.‏

ثم حكى عن أبي عبيدة مثله، ولم يذكر فيه أبا بكر، وتمامه كنحو ما تقدم‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد ابن أبي عمرو قالا‏:‏ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا علي بن عاصم، ثنا خالد الحذاء، عن أبي عثمان النهدي‏:‏ سمعت عمرو بن العاص يقول‏:‏

بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل، وفي القوم أبو بكر وعمر، فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على أبي بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده‏.‏

قال‏:‏ فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت‏:‏ يا رسول الله من أحب الناس إليك ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏عائشة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ إني لست أسألك عن أهلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فأبوها‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ثم من ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏عمر‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ثم من ‏؟‏

حتى عدد رهطاً‏.‏

قال‏:‏ قلت في نفسي‏:‏ لا أعود أسأل عن هذا‏.‏

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين‏:‏ من طريق خالد بن مهران الحذاء، عن أبي عثمان النهدي - واسمه عبد الرحمن بن مل - حدثني عمرو بن العاص‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت‏:‏ أي الناس أحب إليك ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏عائشة‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ فمن الرجال ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبوها‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ثم من ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم عمر بن الخطاب‏)‏‏)‏‏.‏

فعدد رجالاً‏.‏ وهذا لفظ البخاري‏.‏

وفي رواية‏:‏ قال عمرو‏:‏ فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم‏.‏

 سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر

قال الإمام مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً قبل الساحل، وأمر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح وهم ثلثمائة‏.‏

قال جابر‏:‏ وأنا فيهم، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأتوا أبا عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع كله فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً، حتى فني ولم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ وما تغني تمرة‏؟‏

فقال‏:‏ لقد وجدنا فقدها حين فنيت‏.‏

قال‏:‏ ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الضرب، قال‏:‏ فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشر ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلته فرحلت ثم مر تحتها فلم يصبهما‏.‏ ‏

أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك بنحوه‏.‏

وهو في الصحيحين أيضاً‏:‏ من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلثمائة راكب، وأميرنا أبو عبيدة ابن الجراح نرصد عيراً لقريش، فأصابنا جوع شديد، حتى أكلنا الخبط فسمى ذلك الجيش جيش الخبط‏.‏

قال‏:‏ ونحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم ثلاثاً، فنهاه أبو عبيدة‏.‏

قال‏:‏ وألقى البحر دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منها نصف شهر، وادهنا حتى ثابت إلينا أجسامنا وصلحت‏.‏

ثم ذكر قصة الضلع، فقوله في الحديث‏:‏ نرصد عيراً لقريش دليل على أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية، والله أعلم‏.‏

والرجل الذي نحر لهم الجزائر هو قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو بكر ابن إسحاق، ثنا إسماعيل بن قتيبة، ثنا يحيى بن يحيى، ثنا أبو خيثمة - وهو زهير بن معاوية - عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم نجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ كيف كنتم تصنعون بها ‏؟‏

قال‏:‏ كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله‏.‏

قال‏:‏ فانطلقنا إلى ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه، فإذا به دابة تدعى العنبر‏.‏

فقال أبو عبيدة‏:‏ ميتة، ثم قال‏:‏ لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا‏.‏

قال‏:‏ فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلثمائة حتى سمنا، ولقد كنا نغرف من وقب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه القدر كالثور - أو كقدر الثور - ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً، فأقعدهم في عينه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير منها فمر تحتها، وتزودنا من لحمها وشايق‏.‏

فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم شيء من لحمه تطعمونا ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه‏.‏

ورواه مسلم‏:‏ عن يحيى بن يحيى، وأحمد بن يونس، وأبو داود، عن النفيلي ثلاثتهم، عن أبي خيثمة - زهير بن معاوية الجعفي الكوفي - عن أبي الزبير - محمد بن مسلم بن تدرس المكي - عن جابر بن عبد الله الأنصاري به‏.‏

قلت‏:‏ ومقتضى أكثر هذه السياقات أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية، ولكن أوردناها ها هنا تبعاً للحافظ البيهقي رحمه الله، فإنه أوردها بعد مؤتة وقبل غزوة الفتح والله أعلم‏.‏

وقد ذكر البخاري بعد غزوة مؤتة سرية أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، فقال‏:‏ حدثنا عمرو بن محمد، ثنا هشيم، أنبأنا حصين بن جندب، ثنا أبو ظبيان قال‏:‏ سمعت أسامة بن زيد يقول‏:‏

بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناهم قال‏:‏ لا إله إلا الله فكف الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته‏.‏

فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ كان متعوذاً، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم‏.‏

وقد تقدم هذا الحديث والكلام عليه فيما سلف‏.‏

ثم روى البخاري‏:‏ من حديث يزيد بن أبي عبيدة، عن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، علينا مرة أبو بكر، ومرة أسامة بن زيد رضي الله عنهما‏.‏

ثم ذكر الحافظ البيهقي ها هنا موت النجاشي صاحب الحبشة على الإسلام، ونعي رسول الله صلى الله عليه وسلم له إلى المسلمين وصلاته عليه‏.‏

فروى‏:‏ من طريق مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى إلى الناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم وكبر أربع تكبيرات‏.‏

أخرجاه من حديث مالك، وأخرجاه أيضاً من حديث الليث عن عقيل، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة بنحوه‏.‏

وأخرجاه من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏مات اليوم رجل صالح فصلوا على أصحمة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد تقدمت هذه الأحاديث أيضاً والكلام عليها، ولله الحمد‏.‏

قلت‏:‏ والظاهر أن موت النجاشي كان قبل الفتح بكثير، فإن في صحيح مسلم أنه لما كتب إلى ملوك الآفاق كتب إلى النجاشي وليس هو بالمسلم، وزعم آخرون كالواقدي أنه هو، والله أعلم‏.‏

وروى الحافظ البيهقي، من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن موسى بن عقبة، عن أبيه، عن أم كلثوم قالت‏:‏ لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أهديت إلى النجاشي أواق من مسك وحلة، وإني لأراه قد مات، ولا أرى الهدية إلا سترد علي، فإن ردت علي - أظنه قال - قسمتها بينكن، أو فهي لك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات النجاشي وردت الهدية، فلما ردت عليه أعطى امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك، وأعطى سائره أم سلمة، وأعطاها الحلة، والله أعلم‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم

 

 

 غزوة الفتح الأعظم وكانت في رمضان سنة ثمان

وقد ذكرها الله تعالى في القرآن في غير موضع، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ الآية‏.‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1-3‏]‏‏.‏

وكان سبب الفتح بعد هدنة الحديبية ما ذكره محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم أنهما حدثاه جميعاً قالا‏:‏ كان في صلح الحديبية أنه من شاء أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فتواثبت خزاعة وقالوا‏:‏

نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر وقالوا‏:‏ نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم، فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة أو الثمانية عشر شهراً‏.‏

ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلاً بماء يقال له الوتير، وهو قريب من مكة‏.‏

وقالت قريش‏:‏ ما يعلم بنا محمد وهذا الليل، وما يرانا من أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح، وقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عمرو بن سالم ركب عند ما كان من أمر خزاعة وبني بكر بالوتير، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر الخبر‏.‏

وقد قال أبيات شعر، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدها إياه‏:

يا رب إني ناشد محمداً * حلف أبيه وأبينا الأتلدا

قد كنتموا ولداً وكنا والداً * ثمت أسلمنا فلم ينزع يدا

فانصر رسول الله نصرا أبداً * وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا * إن سيم خسفاً وجهه تربدا

في فيلق كالبحر يجري مزبداً * إن قريشاً أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا * وجعلوا لي في كداء رصدا

وزعموا أن لست أدعو أحداً * فهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالوتير هجداً * وقتلونا ركعاً وسجداً

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏نصرت يا عمرو بن سالم‏)‏‏)‏ فما برح حتى مرت بنا عنانة في السماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب‏)‏‏)‏‏.‏

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وكتمهم مخرجه، وسأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان السبب الذي هاجهم أن رجلاً من بني الحضرمي اسمه مالك بن عباد، من حلفاء الأسود بن رزن خرج تاجراً، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه، وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزن الدئلي، وهم مفخر بني كنانة وأشرافهم، سلمى وكلثوم وذؤيب فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني رجل من الدئل قال‏:‏ كان بنو الأسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين، ونودي دية دية، لفضلهم فينا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك، إذ حجز بينهم الإسلام، فلما كان يوم الحديبية ودخل بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الهدنة، اغتنمها بنو الدئل من بني بكر وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة ثأراً من أولئك النفر‏.‏

فخرج نوفل بن معاوية الدئلي في قومه وهو يومئذ سيدهم وقائدهم، وليس كل بني بكر تابعه، فبيت خزاعة وهم على الوتير ماء لهم، فأصابوا رجلاً منهم وتحاوزوا واقتتلوا، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً حتى حاوزوا خزاعة إلى الحرم‏.‏

فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر‏:‏ أنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال‏:‏ كلمة عظيمة لا إله اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري أنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم‏؟‏ ولجأت خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء بمكة، وإلى دار مولى لهم يقال له رافع، وقد قال الأخزر بن لعط الدئلي في ذلك‏:‏

ألا هل أتى قصوى الأحابيش أننا * رددنا بني كعب بأفوق ناصل

حبسناهم في دارة العبد رافع * وعند بديل محبسا غير طائل

بدار الذليل الأخذ الضيم بعد ما * شفينا النفوس منهم بالمناصل

حبسناهم حتى إذا طال يومهم * نفخنا لهم من كل شعب بوابل

نذبحهم ذبح التيوس كأننا * أسود نباري فيهم بالقواصل

هم ظلمونا واعتدوا في مسيرهم * وكانوا لدى الأنصاب أول قاتل

كأنهم بالجزع إذ يطردونهم * قفا ثور حفان النعام الجوافل

قال‏:‏ فأجابه بديل بن عبد مناة بن سلمة بن عمرو بن الأجب وكان يقال له بديل بن أم أصرم فقال‏:‏

تعاقد قوم يفخرون ولم ندع * لهم سيداً يندوهم غير نافل

أمن خيفة القوم الأولى تزدريهم * تجيز الوتير خائفاً غير آيل

وفي كل يوم نحن نحبوا حبائنا * لعقل ولا يحبى لنا في المعاقل

ونحن صبحنا بالتلاعة داركم * بأسيافنا يسبقن لوم العواذل

ونحن منعنا بين بيض وعتود * إلى خيف رضوى من مجر القبائل

ويوم الغميم قد تكفت ساعياً * عبيس فجعناه بجلد حلاحل

أإن أجمرت في بيتها أم بعضكم * بجعموسها تنزون إن لم نقاتل

كذبتم وبيت الله ما إن قتلتموا * ولكن تركنا أمركم في بلابل

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عبد الله بن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يشد في العقد ويزيد في المدة‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما أصيب منهم، ومظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشد في العقد، ويزيد في المدة، وقد رهبوا للذي صنعوا‏.‏

فلما لقي أبو سفيان بديلاً قال‏:‏ من أين أقبلت يا بديل‏؟‏ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ سرت إلى خزاعة في هذا الساحل، في بطن هذا الوادي‏.‏

قال‏:‏ فعمد أبو سفيان إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها، ففته فرأى فيه النوى فقال‏:‏ أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً، ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته‏.‏

فقال‏:‏ يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أو رغبت به عني ‏؟‏

فقالت‏:‏ هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه‏.‏

فقال‏:‏ يا بنية، والله لقد أصابك بعدي شر، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال عمر‏:‏ أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به‏.‏

ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها حسن غلام يدب بين يديهما، فقال‏:‏ يا علي إنك أمس القوم بي رحماً وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏!‏

فقال‏:‏ ويحك أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال‏:‏ يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ‏؟‏

فقالت‏:‏ والله ما بلغ ببني ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت على فانصحني ‏؟‏

قال‏:‏ والله ما أعلم شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك‏.‏

فقال‏:‏ أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً ‏؟‏

قال‏:‏ لا والله ما أظن، ولكن لا أجد لك غير ذلك‏.‏

فقام أبو سفيان في المسجد فقال‏:‏ أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق، فلما أن قدم على قريش قالوا‏:‏ ما وراءك ‏؟‏

قال‏:‏ جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد علي شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فوالله ما وجدت فيه خيراً، ثم جئت عمر فوجدته أعدى عدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم وقد أشار علي بأمر صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عنا شيئاً أم لا ‏؟‏

قالوا‏:‏ بماذا أمرك ‏؟‏

قال‏:‏ أمرني أن أجير بين الناس ففعلت‏.‏

قالوا‏:‏ هل أجاز ذلك محمد ‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قالوا‏:‏ ويحك ما زادك الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنا ما قلت‏.‏

فقال‏:‏ لا والله ما وجدت غير ذلك‏.‏

فائدة ذكرها السهيلي‏.‏

فتكلم على قول فاطمة في هذا الحديث؛ وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما جاء في الحديث، ويجير على المسلمين أدناهم قال‏:‏ وجه الجمع بينهما بأن المراد بالحديث من يجير واحداً ونفراً يسيراً‏.‏

وقول فاطمة‏:‏ فمن يجير عدداً من غزو الإمام إياهم فليس له ذلك‏.‏

قال‏:‏ كان سحنون وابن الماجشون يقولان‏:‏ إن أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام لقوله لأم هانئ‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ويروى هذا عن عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز أمان العبد، وفي قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏ويجير عليهم أدناهم‏)‏‏)‏ ما يقتضي دخول العبد والمرأة، والله أعلم‏.‏

وقد روى البيهقي‏:‏ من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قالت بنو كعب‏:‏

اللهم إني ناشد محمداً * حلف أبينا وأبيه الأتلدا

فانصر هداك الله نصراً عتداً * وادعُ عباد الله يأتوا مددا

وقال موسى بن عقبة في فتح مكة‏:‏ ثم إن بني نفاثة من بني الدئل أغاروا على بني كعب، وهم في المدة التي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش‏.‏

وكانت بنو كعب في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكانت بنو نفاثة في صلح قريش، فأعانت بنو بكر بني نفاثة، وأعانتهم قريش بالسلاح والرقيق، واعتزلتهم بنو مدلج، ووفوا بالعهد الذي كانوا عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي بني الدئل رجلان هما سيداهم؛ سلمى بن الأسود، وكلثوم بن الأسود، ويذكرون أن ممن أعانهم صفوان بن أمية، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو، فأغارت بنو الدئل على بني عمرو وعامتهم - زعموا نساء وصبيان وضعفاء الرجال - فألجؤهم وقتلوهم حتى أدخلوهم إلى دار بُديل بن ورقاء بمكة‏.‏

فخرج ركب من بني كعب حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له الذي أصابهم وما كان من أمر قريش عليهم في ذلك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ارجعوا فتفرقوا في البلدان‏)‏‏)‏‏.‏

وخرج أبو سفيان من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخوف الذي كان، فقال‏:‏ يا محمد اشدد العقد وزدنا في المدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ولذلك قدمت، هل كان من حدث قبلكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل‏.‏

فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى أبا بكر فقال‏:‏ جدد العقد وزدنا في المدة‏؟‏

فقال أبو بكر‏:‏ جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم‏.‏

ثم خرج فأتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ما كان من حلفنا جديد فأخلقه الله، وما كان منه مثبتاً قطعه الله، وما كان منه مقطوعاً فلا وصله الله‏.‏

فقال له أبو سفيان‏:‏ جزيت من ذي رحم شراً‏.‏

ثم دخل على عثمان فكلمه فقال عثمان‏:‏ جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم أتبع أشراف قريش يكلمهم، فكلهم يقول‏:‏ عقدنا في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما يئس مما عندهم دخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمها، فقالت‏:‏ إنما أنا امرأة، وإنما ذلك إلى رسول الله‏.‏

فقال لها‏:‏ فأمري أحد ابنيك‏.‏

فقالت‏:‏ إنها صبيان ليس مثلهما يجير‏.‏

قال‏:‏ فكلمي علياً‏.‏

فقالت‏:‏ أنت فكلمه، فكلم علياً‏.‏

فقال له‏:‏ يا أبا سفيان إنه ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتات على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار، وأنت سيد قريش وأكبرها وأمنعها، فأجر بين عشيرتك‏.‏

قال‏:‏ صدقت وأنا كذلك‏.‏

فخرج فصاح‏:‏ إلا إني قد أجرت بين الناس، ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد‏.‏

ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد إني قد أجرت بين الناس، ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد، ولا يرد جواري‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج أبو سفيان على ذلك فزعموا - والله أعلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أدبر أبو سفيان‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعوا بنا إلا فجأة‏)‏‏)‏‏.‏

وقدم أبو سفيان مكة فقالت له قريش‏:‏ ما وراءك هل جئت بكتاب من محمد أو عهد‏؟‏

قال‏:‏ لا والله، لقد أبى علي وقد تتبعت أصحابه فما رأيت قوما لملك عليهم أطوع منهم له، غير أن علي بن أبي طالب قد قال لي‏:‏ التمس جوار الناس عليك، ولا تجير أنت عليه وعلى قومك، وأنت سيد قريش وأكبرها وأحقها أن تخفر جواره، فقمت بالجوار، ثم دخلت على محمد فذكرت له أني قد أجرت بين الناس، وقلت‏:‏ ما أظن أن تخفرني‏؟‏

فقال‏:‏ أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة‏؟‏

فقالوا - مجيبين له -‏:‏ رضيت بغير رضى، وجئتنا بما لا يغني عنا ولا عنك شيئاً، وإنما لعب بك علي، لعمر الله ما جوارك بجائز، وإن إخفارك عليهم لهين‏.‏

ثم دخل على امرأته فحدثها الحديث، فقالت‏:‏ قبحك الله من وافد قوم فما جئت بخير‏.‏

قال‏:‏ ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سحاباً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هذه السحاب لتبض بنصر بني كعب‏)‏‏)‏‏.‏

فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يمكث بعد ما خرج من عنده أبو سفيان، ثم أخذ في الجهاز، وأمر عائشة أن تجهزه وتخفي ذلك‏.‏

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد أو إلى بعض حاجاته، فدخل أبو بكر على عائشة، فوجد عندها حنطة تنسف وتنقي، فقال لها‏:‏ يا بنية لم تصنعين هذا الطعام‏؟‏ فسكتت‏.‏

فقال‏:‏ أيريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزو‏؟‏ فصمتت‏.‏

فقال‏:‏ يريد بني الأصفر - وهم الروم - فذكر من ذلك أمراً فيه منهم بعض المكروه في ذلك الزمان، فصمتت‏.‏

قال‏:‏ فلعله يريد أهل نجد فذكر منهم نحواً من ذلك، فصمتت‏.‏

قال‏:‏ فلعله يريد قريشاً، فصمتت‏.‏

قال‏:‏ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له‏:‏ يا رسول الله أتريد أن تخرج مخرجاً‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فلعلك تريد بني الأصفر‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ أتريد أهل نجد‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فلعلك تريد قريشاً‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله أليس بينك وبينهم مدة‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألم يبلغك ما صنعوا ببني كعب ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بالغزو، وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، وأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على الكتاب، وذكر القصة كما سيأتي‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن جعفر، عن عروة، عن عائشة، أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تغربل حنطة، فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز‏؟‏

قالت‏:‏ نعم، فتجهر‏.‏

قال‏:‏ وإلى أين‏؟‏

قالت‏:‏ ما سمى لنا شيئاً، غير أنه قد أمرنا بالجهاز‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمر بالجد والتهيؤ، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها‏)‏‏)‏‏.‏

فتجهز الناس، فقال حسان بن ثابت يحرض الناس، ويذكر مصاب خزاعة‏:‏

عناني ولم أشهد ببطحاء مكة * رجال بني كعب تحزُ رقابها

بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم * وقتلى كثير لم تجن ثيابها

ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي * سهيل بن عمرو حرها وعقابها

وصفوان عودا حزمن شفر أسته * فهذا أوان الحرب شد عصابها

فلا تأمننا يا ابن أم مجالد * إذا احتلبت صرفاً وأعصل نابها

ولا تجزعوا منها فإن سيوفنا * لها وقعة بالموت يفتح بابها

قصة حاطب بن أبي بلتعة

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن جعفر، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا قالوا‏:‏ لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم‏.‏

ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره أنها سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به‏.‏ ‏

وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم‏)‏‏)‏‏.‏

فخرجا حتى أدركاها بالحليفة، حليفة بني أبي أحمد فاستنزلاها، فالتمساه في رحلها، فلم يجدا فيه شيئاً‏.‏

فقال لها علي‏:‏ إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك‏.‏

فلما رأت الجد منه قالت‏:‏ أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه‏.‏

فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حاطب ما حملك على هذا ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت، ولكنني كنت امرءاً ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم‏.‏

فقال عمر بن الخطاب‏:‏ يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏)‏‏)‏‏.‏

وأنزل الله في حاطب‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏أول سورة الممتحنة‏]‏ إلى آخر القصة‏.‏

هكذا أورد ابن إسحاق هذه القصة مرسلة‏.‏

وقد ذكر السهيلي أنه كان في كتاب حاطب أن رسول الله قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده، لنصره الله عليكم، فإنه منجز له ما وعده‏.‏

قال‏:‏ وفي تفسير ابن سلام‏:‏ أن حاطباً كتب‏:‏ إن محمداً قد نفر، فإما إليكم وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ ثنا قتيبة، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أخبرني الحسن بن محمد أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع، سمعت علياً يقول‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها‏)‏‏)‏‏.‏

فانطلقنا تعادي بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا‏:‏ أخرجي الكتاب‏.‏

فقالت‏:‏ ما معي‏.‏

فقلنا‏:‏ لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب‏.‏

قال‏:‏ فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه‏:‏ من حاطب بن أبي بلتعة، إلى ناس مكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حاطب ما هذا ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش - يقول‏:‏ كنت حليفاً - ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما إنه قد صدقكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال عمر‏:‏ يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدراً، فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏)‏‏)‏‏.‏

فأنزل الله سورة‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء‏} إلى قوله‏:‏ ‏{‏فقد ضل سواء السبيل‏}‏‏.‏

وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه، من حديث سفيان بن عيينة‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا حجين ويونس، قالا‏:‏ حدثنا ليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد غزوهم، فدل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المرأة التي معها الكتاب، فأرسل إليها فأخذ كتابها من رأسها، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حاطب أفعلت ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ أما إني لم أفعله غشاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفاقاً، قد علمت أن الله مظهر رسوله ومتم له أمره، غير أني كنت غريباً بين ظهرانيهم، وكانت والدتي معهم، فأردت أن أتخذ يداً عندهم‏.‏

فقال له عمر‏:‏ ألا أضرب رأس هذا‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتقتل رجلاً من أهل بدر، وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد بهذا الحديث من هذا الوجه الإمام أحمد، وإسناده على شرط مسلم، ولله الحمد‏.‏

 

 

 فصل

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال‏:‏ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، واستخلف على المدينة أبا رهم، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري‏.‏

وخرج لعشر مضين من شهر رمضان، فصام وصام الناس معه حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج، أفطر‏.‏

ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين‏.‏

وقال عروة بن الزبير‏:‏ كان معه اثنا عشر ألفاً‏.‏

وكذا قال الزهري، وموسى بن عقبة‏.‏

فسبعت سليم، وبعضهم يقول‏:‏ ألفت سليم، وألفت مزينة، وفي كل القبائل عدد وإسلام‏.‏

وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد‏.‏ ‏

وروى البخاري عن محمود، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري نحوه‏.‏

وقد روى البيهقي من حديث عاصم بن علي، عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان‏.‏

قال‏:‏ وسمعت سعيد بن المسيب يقول مثل ذلك، لا أدري أخرج في ليال من شعبان فاستقبل رمضان، أو خرج في رمضان بعد ما دخل‏؟‏

غير أن عبيد الله بن عبد الله أخبرني أن ابن عباس قال‏:‏ صام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الكديد - الماء الذي بين قديد وعسفان - أفطر، فلم يزل يفطر حتى انصرم الشهر‏.‏

ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن الليث، غير أنه لم يذكر الترديد بين شعبان ورمضان‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا علي بن عبد الله، ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاووس، عن ابن عباس قال‏:‏ سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء فشرب نهاراً ليراه الناس، فأفطر حتى قدم مكة‏.‏

قال‏:‏ وكان ابن عباس يقول‏:‏ صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر‏.‏

وقال يونس‏:‏ عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال‏:‏ مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفرة الفتح، واستعمل على المدينة أبا رهم كلثوم ابن الحصين الغفاري‏.‏

وخرج لعشر مضين من رمضان، فصام وصام الناس معه، حتى أتى الكديد - بين عسفان وأمج - فأفطر، ودخل مكة مفطراً، فكان الناس يرون آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطر، وأنه نسخ ما كان قبله‏.‏

قال البيهقي‏:‏ فقوله خرج لعشر من رمضان، مدرج في الحديث‏.‏

وكذلك ذكره عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق‏.‏

ثم روي من طريق يعقوب بن سفيان، عن جابر، عن يحيى، عن صدقة، عن ابن إسحاق أنه قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر مضين من رمضان سنة ثمان‏.‏

ثم روى البيهقي من حديث أبي إسحاق الفزاري، عن محمد بن أبي حفصة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال‏:‏ كان الفتح لثلاث عشر خلت من شهر رمضان‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وهذا الإدراج وهم، إنما هو من كلام الزهري‏.‏

ثم روي من طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهري قال قال‏:‏ غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح - فتح مكة - فخرج من المدينة في رمضان، ومعه من المسلمين عشرة آلاف، وذلك على رأس ثماني سنين ونصف سنة من مقدمه المدينة، وافتتح مكة لثلاث عشرة بقين من رمضان‏.‏

وروى البيهقي من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان، ومعه عشرة آلاف من المسلمين، فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر‏.‏

فقال الزهري‏:‏ وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث‏.

قال الزهري‏:‏ فصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، ثم عزاه إلى الصحيحين من طريق عبد الرزاق، والله أعلم‏.‏

وروى البيهقي من طريق سعيد بن عبد العزيز التنوخي، عن عطية بن قيس، عن قظعة بن يحيى، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏

آذننا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل عام الفتح ليلتين خلتا من رمضان، فخرجنا صواماً حتى بلغنا الكديد، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفطر، فأصبح الناس مرحى، منهم الصائم ومنهم المفطر، حتى إذا بلغنا المنزل الذي نلقى العدو فيه، أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعين‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد عن أبي المغيرة، عن سعيد بن عبد العزيز، حدثني عطية بن قيس، عمن حدثه عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ آذننا رسول الله بالرحيل عام الفتح لليلتين خلتا من رمضان، فخرجنا صواماً حتى بلغنا الكديد، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفطر، فأصبح الناس منهم الصائم ومنهم المفطر، حتى إذا بلغ أدنى منزل يلقى العدو أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعون‏.‏

قلت‏:‏ فعلى ما ذكره الزهري من أن الفتح كان يوم الثالث عشر من رمضان، وما ذكره أبو سعيد من أنهم خرجوا من المدينة في ثاني شهر رمضان، يقتضي أن مسيرهم كان بين مكة والمدينة في إحدى عشرة ليلة‏.‏

ولكن روى البيهقي، عن أبي الحسين بن الفضل، عن عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن سفيان، عن الحسن بن الربيع، عن ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري ومحمد بن علي بن الحسين، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعمرو بن شعيب، وعبد الله بن أبي بكر وغيرهم قالوا‏:‏ كان فتح مكة في عشر بقيت من شهر رمضان سنة ثمان‏.‏

قال أبو داود الطيالسي‏:‏ ثنا وهيب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، عن عبد الله قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح صائماً، حتى أتى كراع الغميم، والناس معه مشاة وركبانا، وذلك في شهر رمضان فقيل‏:‏ يا رسول الله إن الناس قد اشتد عليهم الصوم، وإنما ينظرون كيف فعلت ‏؟‏ ‏

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء، فرفعه فشرب والناس ينظرون، فصام بعض الناس، وأفطر البعض حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعضهم صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أولئك العصاة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث الثقفي، والدراوردي، عن جعفر بن محمد‏.‏

وروى الإمام أحمد من حديث محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني بشير بن يسار، عن ابن عباس قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في رمضان، فصام وصام المسلمون معه، حتى إذا كان بالكديد، دعا بماء في قعب وهو على راحلته فشرب والناس ينظرون، يعلمهم أنه قد أفطر، فأفطر المسلمون‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏

 فصل

في إسلام العباس بن عبد المطلب، عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي أخي أم سلمة أم المؤمنين، وهجرتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدوه في أثناء الطريق وهو ذاهب إلى فتح مكة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض، فيما ذكره ابن شهاب الزهري‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية، قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة، والتمسا الدخول عليه‏.‏

فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت‏:‏ يا رسول الله إن ابن عمك، وابن عمتك، وصهرك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فلما خرج إليهما الخبر بذلك، ومع أبي سفيان بني له فقال‏:‏ والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض، ثم نموت عطشاً وجوعاً‏.‏

فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم رق لهما، ثم أذن لهما، فدخلا عليه فأسلما، وأنشد أبو سفيان قوله في إسلامه، واعتذر إليه مما كان مضى منه‏:‏

لعمرك أني يوم أحمل رايةً * لتغلب خيل اللات خيل محمد

لكالمدلج الحيران أظلم ليله * فهذا أواني حين أُهدى وأهتدي

هدى بي هاد غير نفسي ونالني * مع الله من طردت كل مطرد

أصد وأنأى جاهداً عن محمد * وأدعى وإن لم أنتسب من محمد

هموا ما هموا من لم يقل بهواهم * وإن كان ذا رأي يلم ويفند

أريد لأرضيهم ولست بلائط * مع القوم ما لم أهد في كل مقعد

فقل لثقيف لا أريد قتالها * وقل لثقيف تلك عيري أوعدي

فما كنت في الجيش الذي نال عامر * وما كان عن جري لساني ولا يدي

قبائل جاءت من بلاد بعيدة * نزائع جاءت من سهام وسردد

قال ابن إسحاق‏:‏ فزعموا أنه حين أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ونالني مع الله من طردت كل مطرد، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في صدره وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت طردتني كل مطرد‏)‏‏)‏‏.‏

 فصل نزول النبي عليه السلام إلى مر الظهران‏.‏

ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مر الظهران نزل فيه فأقام، كما روى البخاري‏:‏ عن يحيى بن بكير، عن الليث، ومسلم عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، كلاهما عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر قال‏:‏

كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران نجتني الكباث، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏عليكم بالأسود منه فإنه أطيب‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ يا رسول الله أكنت ترعى الغنم‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم وهل من نبي إلا وقد رعاها‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن سنان بن إسماعيل، عن أبي الوليد سعيد بن مينا قال‏:‏ لما فرغ أهل مكة ورجعوا، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى مكة، فلما انتهى إلى مر الظهران نزل بالعقبة، فأرسل الجناة يجتنون الكباث، فقلت لسعيد‏:‏ وما هو ‏؟‏

قال‏:‏ ثمر الآراك‏.‏

قال‏:‏ فانطلق ابن مسعود فيمن يجتني، قال‏:‏ فجعل أحدهم إذا أصاب حبة طيبة قذفها في فيه، وكانوا ينظرون إلى دقة ساقي ابن مسعود وهو يرقى في الشجرة فيضحكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏تعجبون من دقة ساقيه فوالذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

وكان ابن مسعود ما اجتنى من شيء جاء به وخياره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال في ذلك‏:‏

هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جان يده إلى فيه

وفي الصحيحين عن أنس قال‏:‏ أنفجنا أرنباً ونحن بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا فأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذيها فقبله‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدرون ما رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعل‏.‏

وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به‏.‏

وذكره ابن لهيعة‏:‏ عن أبي الأسود، عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بين يديه عيوناً خيلاً يقتصون العيون، وخزاعة لا تدع أحداً يمضي وراءها، فلما جاء أبو سفيان وأصحابه أخذتهم خيل المسلمين، وقام إليه عمر يجأ في عنقه، حتى أجاره العباس بن عبد المطلب، وكان صاحباً لأبي سفيان‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال العباس حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران قلت‏:‏ واصباح قريش ‏!‏ والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه، فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر‏.‏

قال‏:‏ فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الآراك فقلت‏:‏ لعلي أجد بعض الحطابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخل عليهم عنوة‏.‏

قال‏:‏ فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبي سفيان، وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول‏:‏ ما رأيت كالليلة نيراناً قط، ولا عسكراً‏.‏

قال‏:‏ يقول بديل‏:‏ هذه والله خزاعة حمشتها الحرب‏.‏

قال‏:‏ يقول أبو سفيان‏:‏ خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها‏.‏

قال‏:‏ فعرفت صوته، فقلت‏:‏ يا أبا حنظلة ‏؟‏

فعرف صوتي فقال‏:‏ أبو الفضل ‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ مالك فدى لك أبي وأمي ‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس‏.‏

فقال‏:‏ واصباح قريش والله، فما الحيلة فداك أبي وأمي ‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك‏.‏

قال‏:‏ فركب خلفي ورجع صاحباه‏.‏

وقال عروة‏:‏ بل ذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما، وجعل يستخبرهما عن أهل مكة‏.‏ ‏

وقال الزهري وموسى بن عقبة‏:‏ بل دخلوا مع العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ قال فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا‏:‏ من هذا ‏؟‏

فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا‏:‏ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ وقام إلي‏.‏

فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال‏:‏ أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ‏؟‏

وزعم عروة بن الزبير أن عمر وجأ في رقبة أبي سفيان، وأراد قتله فمنعه منه العباس‏.‏

وهكذا ذكر موسى بن عقبة، عن الزهري‏:‏ أن عيون رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذوهم بأزمة جمالهم، فقالوا‏:‏ من أنتم‏؟‏

قالوا‏:‏ وفد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيهم العباس فدخل بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحادثهم عامة الليل، ثم دعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فشهدوا، وأن محمداً رسول الله فشهد حكيم وبديل‏.‏

وقال أبو سفيان‏:‏ ما أعلم ذلك، ثم أسلم بعد الصبح، ثم سألوه أن يؤمن قريشاً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من دخل دار أبي سفيان فهو آمن - وكانت بأعلى مكة - ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن - وكانت بأسفل مكة - ومن أغلق بابه فهو آمن‏)‏‏)‏

قال العباس‏:‏ ثم خرج عمر يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء‏.‏

قال‏:‏ فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر فقال‏:‏ يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت‏:‏ والله لا يناجيه الليلة دوني رجل، فلما أكثر عمر في شأنه قال‏:‏ قلت‏:‏ مهلاً يا عمر فوالله أن لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف‏.‏

فقال‏:‏ مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فذهبت به إلى رحلي فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ‏؟‏

فقال‏:‏ بأبي أنت وأمي ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك، أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً‏.‏

فقال له العباس‏:‏ ويحك أسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك‏.‏

قال‏:‏ فشهد شهادة الحق فأسلم‏.‏

قال العباس‏:‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فاجعل له شيئاً ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏)‏‏)‏ زاد عروة‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا قال موسى بن عقبة، عن الزهري‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر موسى بن عقبة، عن الزهري‏:‏ أن أبا سفيان وبديلاً وحكيم بن حزام، كانوا وقوفاً مع العباس عند خطم الجبل، وذكر أن سعداً لما قال لأبي سفيان‏:‏ اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فشكى أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزله عن راية الأنصار، وأعطاها الزبير بن العوام‏.‏

فدخل بها من أعلى مكة، وغرزها بالحجون، ودخل خالد من أسفل مكة فلقيه بنو بكر وهذيل، فقتل من بني بكر عشرين، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وانهزموا فقتلوا بالحزورة، حتى بلغ قتلهم باب المسجد‏.‏

قال العباس‏:‏ فخرجت بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه‏.‏

قال‏:‏ ومرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال‏:‏ يا عباس من هؤلاء ‏؟‏

فأقول‏:‏ سليم، فيقول‏:‏ ما لي ولسليم، ثم تمر به القبيلة فيقول‏:‏ يا عباس من هؤلاء ‏؟‏

فأقول‏:‏ مزينة فيقول مالي ولمزينة، حتى نفذت القبائل ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال‏:‏ مالي ولبني فلان، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد‏.‏

فقال‏:‏ سبحان الله يا عباس من هؤلاء ‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار‏.‏

قال‏:‏ ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً ‏!‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ يا أبا سفيان إنها النبوة‏.‏

قال‏:‏ فنعم إذن‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته‏:‏ يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏.‏

فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت‏:‏ اقتلوا الحميت الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏.‏

قالوا‏:‏ قاتلك الله وما تغني عنا دارك ‏؟‏

قال‏:‏ ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد‏.‏

وذكر عروة بن الزبير‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بأبي سفيان قال له‏:‏ إني لأرى وجوهاً كثيرة لا أعرفها، لقد كثرت هذه الوجوه علي‏.‏

فقال له رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت فعلت هذا وقومك، إن هؤلاء صدقوني إذ كذبتموني، ونصروني إذ أخرجتموني‏)‏‏)‏‏.‏

ثم شكى إليه قول سعد بن عبادة حين مر عليه فقال‏:‏ يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ كذب سعد بل هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة‏.‏

وذكر عروة‏:‏ أن أبا سفيان لما أصبح صبيحة تلك الليلة التي كان عند العباس، ورأى الناس يجنحون للصلاة، وينتشرون في استعمال الطهارة خاف، وقال للعباس‏:‏ ما بالهم ‏؟‏

قال‏:‏ إنهم سمعوا النداء فهم ينتشرون للصلاة، فلما حضرت الصلاة، ورآهم يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده‏.‏

قال‏:‏ يا عباس ما يأمرهم بشيء إلا فعلوه‏.‏

قال‏:‏ نعم، والله لو أمرهم بترك الطعام والشراب لأطاعوه‏.‏

وذكر موسى بن عقبة، عن الزهري‏:‏ أنه لما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلوا يتكففون، فقال‏:‏ يا عباس ما رأيت كالليلة ولا ملك كسرى وقيصر‏.‏

وقد روى الحافظ البيهقي‏:‏ عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أحمد بن الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر هذه القصة بتمامها كما أوردها زياد البكائي، عن ابن إسحاق منقطعة، فالله أعلم‏.‏

على أنه قد روى البيهقي‏:‏ من طريق أبي بلال الأشعري، عن زياد البكائي، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس قال‏:‏ جاء العباس بأبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فذكر القصة، إلا أنه ذكر أنه أسلم ليلته قبل أن يصبح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ وما تسع داري ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن دخل الكعبة فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وما تسع الكعبة ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن دخل المسجد فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وما تسع المسجد ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن أغلق عليه بابه فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ هذه واسعة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبيد بن إسماعيل، ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه قال‏:‏ لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشاً خرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ ما هذه كأنها نيران عرفة ‏؟‏

فقال بديل بن ورقاء‏:‏ نيران بني عمرو‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم، فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال للعباس‏:‏ ‏(‏‏(‏احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين‏)‏‏)‏‏.‏

فحبسه العباس فجعلت القبائل تمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان، فمرت كتيبة فقال‏:‏ يا عباس من هذه ‏؟‏

قال‏:‏ هذه غفار‏.‏

قال‏:‏ مالي ولغفار ‏؟‏

ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم فقال مثل ذلك، ومرت سليم فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها فقال‏:‏ من هذه ‏؟‏

قال‏:‏ هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية‏.‏

فقال سعد بن عبادة‏:‏ يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ يا عباس حبذا يوم الذمار، ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال‏:‏ ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما قال ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ كذا وكذا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة‏)‏‏)‏‏.‏

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون‏.‏

قال عروة‏:‏ أخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال‏:‏ سمعت العباس يقول للزبير بن العوام‏:‏ ها هنا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من كدى فقتل من خيل خالد بن الوليد يومئذ رجلان‏:‏ حنيش بن الأشعر، وكرز بن جابر الفهري‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن آدم، ثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح جاءه العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان بن حرب فأسلم بمر الظهران‏.‏

فقال له العباس‏:‏ يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فلو جعلت له شيئاً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

 صفة دخوله صلى الله عليه وسلم مكة

ثبت في الصحيحين من حديث مالك، عن الزهري، عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال‏:‏ إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اقتلوه‏)‏‏)‏‏.‏

قال مالك‏:‏ ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى - والله أعلم - محرماً‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا عفان، ثنا حماد، أنبا أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء‏.‏

ورواه أهل السنن الأربعة من حديث حماد بن سلمة، وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

ورواه مسلم‏:‏ عن قتيبة، ويحيى بن يحيى، عن معاوية بن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء من غير إحرام‏.‏

وروى مسلم من حديث أبي أسامة، عن مساور الوراق، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه قال‏:‏ كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وعليه عمامة حرقانية سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه‏.‏

وروى مسلم في صحيحه، والترمذي، والنسائي من حديث عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء‏.‏

وروى أهل السنن الأربعة‏:‏ من حديث يحيى بن آدم، عن شريك القاضي، عن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة أبيض‏.‏

وقال ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عائشة‏:‏ كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أبيض، ورايته سوداء تسمى العقاب، وكانت قطعة من مرط مرجل‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن عبد الله بن قرة قال‏:‏ سمعت عبد الله بن مغفل يقول‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يرجّع، وقال‏:‏ لولا أن يجتمع الناس حولي لرجّعت كما رجّع‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجراً بشقة برد حبرة حمراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبا أبو عبد الله الحافظ، أنبا دعلج بن أحمد، ثنا أحمد بن علي الأبار، ثنا عبد الله بن أبي بكر المقدسي، ثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على راحلته متخشعاً‏.‏

وقال‏:‏ أنبا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، ثنا أحمد بن محمد بن صاعد، ثنا إسماعيل بن أبي الحارث، ثنا جعفر بن عون، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن ابن مسعود‏:‏ أن رجلاً كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فأخذته الرعدة‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وهكذا رواه محمد بن سليمان بن فارس، وأحمد بن يحيى بن زهير، عن إسماعيل بن أبي الحارث موصولاً‏.‏

ثم رواه عن أبي زكريا المزكي، عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب، عن محمد بن عبد الوهاب، عن جعفر بن عون، عن إسماعيل، عن قيس مرسلاً‏.

وهو المحفوظ، وهذا التواضع في هذا الموطن عند دخوله صلى الله عليه وسلم مكة في مثل هذا الجيش الكثيف العرمرم بخلاف ما اعتمده سفهاء بني إسرائيل، حين أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس وهم سجود - أي ركع - يقولون حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون‏:‏ حنطة في شعرة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا القاسم بن خارجة، ثنا حفص بن ميسرة، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن عائشة أخبرته‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح من كداء التي بأعلى مكة، تابعه أبو أسامة ووهب في كداء‏.‏

حدثنا عبيد بن إسماعيل، ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من أعلى مكة من كداء، وهو أصح إن أراد أن المرسل أصح من المسند المتقدم انتظم الكلام، وإلا فكداء بالمد هي المذكورة في الروايتين، وهي في أعلى مكة، وكُدَى مقصور في أسفل مكة، وهذا هو المشهور والأنسب‏.‏

وقد تقدم أنه عليه السلام بعث خالد بن الوليد من أعلى مكة، ودخل هو عليه السلام من أسفلها من كدى، وهو في صحيح البخاري والله أعلم‏.‏

وقد قال البيهقي‏:‏ أنبا أبو الحسين بن عبدان، أنبا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبد الله بن إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا معن، ثنا عبد الله بن عمر بن حفص، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وأتى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم إلى أبي بكر وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا بكر كيف قال حسان ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فأنشده أبو بكر رضي الله عنه‏:‏

عدمت بنيتي إن لم تروها * تثير النقع من كنفي كداء

ينازعن الأعنة مسرجات * يلطمهن بالخمر النساء

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ادخلوها من حيث قال حسان‏)‏‏)‏‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى، قال أبو قحافة لابنة له من أصغر ولده‏:‏ أي بنية اظهري بي على أبي قبيس‏.‏

قالت‏:‏ وقد كف بصره، قالت‏:‏ فأشرفت به عليه‏.‏

فقال‏:‏ أي بنية ماذا ترين ‏؟‏

قالت‏:‏ أرى سواداً مجتمعاً‏.‏

قال‏:‏ تلك الخيل‏.‏

قالت‏:‏ وأرى رجلاً يسعى بين يدي ذلك السواد مقبلا ومدبراً‏.‏

قال‏:‏ أي بنية ذلك الوزاع - يعني الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها -

ثم قالت‏:‏ قد والله انتشر السواد‏.‏

فقال‏:‏ قد والله إذن دفعت الخيل، فأسرعي بي إلى بيتي فانحطت به، وتلقاه الخيل قبل أن يصل بيته‏.‏

قالت‏:‏ وفي عنق الجارية طوق من ورق فيلقاها رجل فيقتطعه من عنقها‏.‏

قالت‏:‏ فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ودخل المسجد، أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه، فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أسلم فأسلم‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ ودخل به أبو بكر وكان رأسه كالثغامة بياضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏غيروا هذا من شعره‏)‏‏)‏

ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته وقال‏:‏ أنشد الله والإسلام طوق أختي، فلم يجبه أحد‏.‏

قالت‏:‏ فقال‏:‏ أي أخية احتسبي طوقك، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل‏.‏ يعني به الصديق ذلك اليوم على التعيين لأن الجيش فيه كثرة، ولا يكاد أحد يلوي على أحد مع انتشار الناس، ولعل الذي أخذه تأول أنه من حربي، والله أعلم‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبا أبو عبد الله الحافظ، أنبا أبو العباس الأصم، أنبا بحر بن نصر، أنبا ابن وهب، أخبرني ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر‏:‏ أن عمر بن الخطاب أخذ بيد أبي قحافة فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏غيروه ولا تقربوه سواداً‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن وهب‏:‏ وأخبرني عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هنأ أبا بكر بإسلام أبيه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عبد الله بن أبى نجيح‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كداء، وكان الزبير على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كدى‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فزعم بعض أهل العلم أن سعداً حين وجه داخلاً قال‏:‏ اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة‏.‏ فسمعها رجل من المهاجرين‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ يقال إنه عمر بن الخطاب، فقال‏:‏ يا رسول الله أتسمع ما يقول سعد بن عبادة‏؟‏ ما نأمن أن يكون له في قريش صولة‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ ‏(‏‏(‏أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وذكر غير محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكى إليه أبو سفيان قول سعد بن عبادة حين مر به، وقال‏:‏ يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة - يعني الكعبة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏بل هذا يوم تعظم فيه الكعبة‏)‏‏)‏ وأمر بالراية - راية الأنصار - أن تؤخذ من سعد بن عبادة كالتأديب له، ويقال إنها دفعت إلى ابنه قيس بن سعد‏.‏ ‏

وقال موسى بن عقبة، عن الزهري‏:‏ دفعها إلى الزبير بن العوام، فالله أعلم‏.‏

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة يعقوب بن إسحاق بن دينار، ثنا عبد الله بن السري الأنطاكي، ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، وحدثني موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يوم فتح مكة إلى سعد بن عبادة فجعل يهزها ويقول‏:‏ اليوم يوم الملحمة، يوم تستحل الحرمة‏.‏

قال‏:‏ فشق ذلك على قريش وكبر في نفوسهم، قال‏:‏ فعارضت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره وأنشأت تقول‏:‏

يا نبي الهدى إليك لجاحي * قريش ولات حين لجاء

حين ضاقت عليهم سعة الأر * ض وعاداهم إله السماء

والتقت حلقتا البطان على القو * م ونودوا بالصليم الصلعاء

إن سعداً يريد قاصمة الطهر * ر بأهل الحجون والبطحاء

خزرجي لو يستطيع من الغي * ظ رمانا بالنشر والعواء

فانهينه فإنه الأسد الأس * ود والليث والغ في الدماء

فلئن أقحم اللواء ونادى * يا حماة اللواء أهل اللواء

لنكوننَّ بالبطاح قريش * بقعة القاع في أكف الإماء

إنه مصلت يريد لها الرأ * ي صموت كالحية الصماء

قال‏:‏ فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشعر دخله رحمة لهم ورأفة بهم، وأمر بالراية فأخذت من سعد بن عبادة ودفعت إلى ابنه قيس بن سعد‏.‏

قال‏:‏ فيروى أنه عليه الصلاة والسلام أحب أن لا يخيبها إذ رغبت إليه واستغاثت به، وأحب أن لا يغضب سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وذكر ابن أبي نجيح في حديثه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خالد بن الوليد فدخل من الليط أسفل مكة في بعض الناس، وكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم وسُليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب‏.‏

وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة، فضربت له هنالك قبته‏.‏

وروى البخاري‏:‏ من حديث الزهري، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح‏:‏ يا رسول الله أين تنزل غداً ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وهل ترك لنا عُقيل من رباع‏)‏‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

ثم قال البخاري‏:‏ ثنا أبو اليمان، ثنا شعيب، ثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخيف حيث تقاسموا على الكفر‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يونس، ثنا إبراهيم - يعني ابن سعد - عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏منزلنا غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه البخاري، من حديث إبراهيم بن سعد به نحوه‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، وعبد الله بن أبي بكر‏:‏ أن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناساً بالخندمة ليقاتلوا، وكان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحاً قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلح منه‏.‏

فقالت له امرأته‏:‏ لماذا تعد ما أرى ‏؟‏

قال‏:‏ لمحمد وأصحابه‏.‏

فقالت‏:‏ والله ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء‏.‏

قال‏:‏ والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال‏:‏

إن يقبلوا اليوم فمالي عله * هذا سلاح كامل والَّه

وذو غرارين سريع السله

قال‏:‏ ثم شهد الخندمة مع صفوان وعكرمة وسهيل، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد ناوشوهم شيئاً من قتال، فقتل كرز بن جابر أحد بني محارب بن فهر، وحنيش بن خالد بن ربيعة بن أصرم حليف بني منقذ، وكانا في جيش خالد، فشذا عنه فسلكا غير طريقه فقتلا جميعاً‏.‏

وكان قتل كرز قبل حنيش، قالا‏:‏ وقتل من خيل خالد أيضاً سلمة بن الميلاء الجهني، وأصيب من المشركين قريب من اثني عشر أو ثلاثة عشر، ثم انهزموا فخرج حماس منهزماً حتى دخل بيته ثم قال لامرأته‏:‏ أغلقي علي بابي‏.‏

قالت‏:‏ فأين ما كنت تقول ‏؟‏

فقال‏:‏

إنك لو شهدت يوم الخندمة * إذ فر صفوان وفر عكرمة

وأبو يزيد قائم كالمؤتمة * واستقبلتهم بالسيوف المسلمة

يقطعن كل ساعد وجمجمه * ضرباً فلا يسمع إلا غمغمه

لهم نهيت خلفنا وهمهمه * لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة

قال ابن هشام‏:‏ وتروى هذه الأبيات للرعاش الهذلي‏.‏

قال‏:‏ وكان شعار المهاجرين يوم الفتح وحنين والطائف‏:‏ يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج‏:‏ يا بني عبد الله، وشعار الأوس‏:‏ يا بني عبيد الله‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ ثنا علي بن سعيد الرازي، ثنا أبو حسان الزيادي، ثنا شعيب بن صفوان، عن عطاء بن السائب، عن طاووس، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض، وصاغه يوم صاغ الشمس والقمر، وما حياله من السماء حرام، وإنه لا يحل لأحد قبلي، وإنما حل لي ساعة من نهار ثم عاد كما كان‏)‏‏)‏‏.‏

فقيل له‏:‏ هذا خالد بن الوليد يقتل ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قم يا فلان فأت خالد بن الوليد فقل له فليرفع يديه من القتل‏)‏‏)‏ فأتاه الرجل فقال‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ اقتل من قدرت عليه، فقتل سبعين إنساناً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأرسل إلى خالد فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألم أنهك عن القتل ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ جاءني فلان يأمرني أن أقتل من قدرت عليه، فأرسل إليه‏:‏ ‏(‏‏(‏ألم آمرك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ أردت أمراً، وأراد الله أمراً فكان أمر الله فوق أمرك، وما استطعت إلا الذي كان، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فما رد عليه شيئاً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أمرائه أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، غير أنه أهدر دم نفر سماهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم‏:‏ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم وكتب الوحي ثم ارتد‏.‏

فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد أهدر دمه، فر إلى عثمان وكان أخاه من الرضاعة، فلما جاء به ليستأمن له، صمت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

فلما انصرف مع عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله‏:‏ ‏(‏‏(‏أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني قد صمت فيقتله ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ يا رسول الله هلا أومأت إلينا ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن النبي لا يقتل بالإشارة‏)‏‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وقد حسن إسلامه بعد ذلك، وولاه عمر بعض أعماله، ثم ولاه عثمان‏.‏

قلت‏:‏ ومات وهو ساجد في صلاة الصبح، أو بعد انقضاء صلاتها في بيته كما سيأتي بيانه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وعبد الله بن خطل رجل من بني تيم بن غالب‏.‏

قلت‏:‏ ويقال‏:‏ إن اسمه عبد العزى بن خطل، ويحتمل أنه كان كذلك، ثم لما أسلم سمى عبد الله، ولما أسلم بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً، وبعث معه رجلاً من الأنصار وكان معه مولى له، فغضب عليه غضبة فقتله، ثم ارتد مشركاً‏.‏

وكان له قينتان فرتني وصاحبتها، فكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلهذا أهدر دمه ودم قينتيه، فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة، اشترك في قتله أبو برزة الأسلمي، وسعيد بن حريث المخزومي، وقتلت إحدى قينتيه، واستؤمن للأخرى‏.‏

قال‏:‏ والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد قصي، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولما تحمل العباس بفاطمة وأم كلثوم ليذهب بهما إلى المدينة يلحقهما برسول الله صلى الله عليه وسلم أول الهجرة، نخس بهما الحويرث هذا الجمل الذي هما عليه فسقطتا إلى الأرض، فلما أهدر دمه قتله علي بن أبي طالب‏.‏

قال‏:‏ ومقيس بن صبابة، لأنه قتل قاتل أخيه خطأ بعد ما أخذ الدية، ثم ارتد مشركاً، قتله رجل من قومه يقال له‏:‏ نميلة بن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ وسارة مولاة لبني عبد المطلب ولعكرمة بن أبي جهل، لأنها كانت تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بمكة‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم عن بعضهم أنها التي تحملت الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة، وكأنها عفى عنها أو هربت، ثم أهدر دمها، والله أعلم، فهربت حتى استؤمن لها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنها، فعاشت إلى زمن عمر فأوطأها رجل فرساً فماتت‏.‏

وذكر السهيلي أن فرتني أسلمت أيضاً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وأما عكرمة بن أبي جهل فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، واستأمنت له من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه، فذهبت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمس الفقيه، أنبا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أنبا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا أحمد بن المفضل، ثنا أسباط بن نصر الهمداني قال‏:‏ زعم السدي عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال‏:‏ لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة‏)‏‏)‏‏.‏

وهم‏:‏ عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح؛ فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً، وكان أشب الرجلين فقتله‏.‏

وأما مقيس فأدركه الناس في السوق فقتلوه‏.‏

وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم قاصف، فقال أهل السفينة لأهل السفينة‏:‏ أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ها هنا، فقال عكرمة‏:‏ والله لئن لم ينج في البحر إلا الإخلاص فإنه لا ينجي في البر غيره، اللهم إن لك علي عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه، أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً، فجاء فأسلم‏.‏

وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح؛ فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 342‏)‏

فقالوا‏:‏ ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أبو داود، والنسائي، من حديث أحمد بن المفضل به نحوه‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبا أبو عبد الله الحافظ، أنبا أبو العباس الأصم، أنبا أبو زرعة الدمشقي، ثنا الحسن بن بشر الكوفي، ثنا الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ أمَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة إلا أربعة‏:‏ عبد العزى بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأم سارة‏.‏

فأما عبد العزى بن خطل فإنه قتل وهو متعلق بأستار الكعبة‏.‏

قال‏:‏ ونذر رجل من الأنصار أن يقتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح إذا رآه، وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له، فلما أبصر به الأنصاري اشتمل على السيف ثم أتاه، فوجده في حلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يتردد ويكره أن يقدم عليه، فبسط النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه‏.‏

ثم قال للأنصاري‏:‏ ‏(‏‏(‏قد انتظرتك أن توفي بنذرك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ يا رسول الله هبتك أفلا أومضت إلي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه ليس للنبي أن يومض‏)‏‏)‏‏.‏

وأما مقيس بن صبابة فذكر قصته في قتله رجلاً مسلماً بعد إسلامه، ثم ارتداده بعد ذلك‏.‏

قال‏:‏ وأما أم سارة فكانت مولاة لقريش، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فشكت إليه الحاجة فأعطاها شيئاً، ثم بعث معها رجل كتاب إلى أهل مكة فذكر قصة حاطب بن أبي بلتعة‏.‏

وروى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن مقيس بن صبابة قتل أخوه هشام يوم بني المصطلق، قتله رجل من المسلمين وهو يظنه مشركاً، فقدم مقيس مظهراً للإسلام ليطلب دية أخيه، فلما أخذها عدا على قاتل أخيه فقتله، ورجع إلى مكة مشركاً، فلما أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه قتل وهو بين الصفا والمروة‏.‏

وقد ذكر ابن إسحاق والبيهقي شعره حين قتل قاتل أخيه وهو قوله‏:‏

شفى النفس من قد بات بالقاع مسنداً * يضرج ثوبيه دماء الأخادع

وكانت هموم النفس من قبل قتله * تلم وتنسيني وطاء المضاجع

قتلت به فهراً وغرمت عقله * سراة بني النجار أرباب فارع

حللت به نذري وأدركت ثورتي * وكنت إلى الأوثان أول راجع

قلت‏:‏ وقيل إن القينتين التين أهدر دمهما كانتا لمقيس بن صبابة هذا، وأن ابن عمه قتله بين الصفا والمروة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ قتل ابن خطل الزبير بن العوام رضي الله عنه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب، أن أم هانئ ابنة أبي طالب قالت‏:‏ لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي، قالت‏:‏ فدخل علي أخي علي بن أبي طالب فقال‏:‏ والله لأقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتي‏.‏

ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم انصرف إلي فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مرحباً وأهلاً بأم هانئ ما جاء بك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت فلا يقتلهما‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى قال‏:‏ ما أخبرنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانئ، فإنها ذكرت يوم فتح مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل في بيتها، ثم صلى ثمان ركعات‏.‏

قالت‏:‏ ولم أره صلى صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن أبي هند، أن أبا مرة مولى عقيل حدثه أن أم هانئ بنت أبي طالب حدثته أنه لما كان عام الفتح فر إليها رجلان من بني مخزوم فأجارتهما‏.‏

قالت‏:‏ فدخل عليَّ علي فقال‏:‏ اقتلهما، فلما سمعته أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فلما رآني رحب وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما جاء بك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ يا نبي الله كنت أمنت رجلين من أحمائي، فأراد علي قتلهما‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله، فسترت عليه فاطمة، ثم أخذ ثوباً فالتحف به، ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى‏.‏

وفي رواية أنها دخلت عليه وهو يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من هذه ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ أم هانئ‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مرحباً بأم هانئ‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ يا رسول الله زعم ابن أم علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلين قد أجرتهما‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ ثم صلى ثماني ركعات، وذلك ضحى، فظن كثير من العلماء أن هذه كانت صلاة الضحى‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل كانت هذه صلاة الفتح، وجاء التصريح بأنه كان يسلم من كل ركعتين، وهو يرد على السهيلي وغيره ممن يزعم أن صلاة الفتح تكون ثمانياً بتسليمة واحدة‏.‏

وقد صلى سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن في إيوان كسرى ثماني ركعات، يسلم من كل ركعتين، ولله الحمد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعاً على راحلته يستلم، الركن بمحجن في يده‏.‏

فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس في المسجد‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ ثم سجد سجدتين ثم انصرف إلى زمزم، فاطلع فيها ودعا بماء فشرب منها، وتوضأ والناس يبتدرون وضوءه، والمشركون يتعجبون من ذلك ويقولون‏:‏ ما رأينا ملكاً قط ولا سمعنا به - يعني مثل هذا - وأخر المقام إلى مقامه اليوم، وكان ملصقاً بالبيت‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة فقال‏:‏

‏(‏‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو موضوع تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها، يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب‏)‏‏)‏‏.‏

ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية كلها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ خيراً أخ كريم وابن أخ كريم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهبوا فأنتم الطلقاء‏)‏‏)‏‏.‏

ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال‏:‏ يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أين عثمان بن طلحة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فدعي له فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان، عن ابن جدعان، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وهو على درج الكعبة‏:‏ ‏(‏‏(‏الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، إلا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط أو العصا فيه مائة من الإبل‏)‏‏)‏‏.‏

وقال مرة أخرى‏:‏ ‏(‏‏(‏مغلظة فيها أربعون خلفة في بطونها أولادها، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية ودم ودعوى‏)‏‏)‏

وقال مرة‏:‏ ‏(‏‏(‏ومال تحت قدمي هاتين إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت، فإنهما أمضيتهما لأهلهما على ما كانت‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث علي بن زيد بن جدعان، عن القاسم بن ربيعة بن جوشن الغطفاني، عن ابن عمر به‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، ورأى إبراهيم مصوراً في يده الأزلام يستقسم بها، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ما شأن إبراهيم والأزلام ‏{‏ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين‏}‏‏)‏‏)‏ ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان، أنبا عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ كان في الكعبة صور فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمحوها، فبل عمر ثوباً ومحاها به، فدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيها منها شيء‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا صدقة بن الفضل، ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وحول البيت ستون وثلثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدي الباطل وما يعيد‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث ابن عيينة‏.‏

وروى البيهقي عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح مكة، وعلى الكعبة ثلثمائة صنم، فأخذ قضيبه فجعل يهوي به إلى الصنم، وهو يهوي حتى مر عليها كلها‏.‏

ثم يروى من طريق سويد بن سعيد، عن القاسم بن عبد الله، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة وجد بها ثلثمائة وستين صنماً فأشار إلى كل صنم بعصا، وقال‏:‏ ‏{‏وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏‏.‏

فكان لا يشير إلى صنم إلا ويسقط من غير أن يمسه بعصاه، ثم قال‏:‏ وهذا الإسناد وإن كان ضعيفاً فالذي قبله يؤكده‏.‏

وقال حنبل بن إسحاق‏:‏ أنبا أبو الربيع، عن يعقوب القمي، ثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال‏:‏ لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاءت عجوز شمطاء حبشية تخمش وجهها، وتدعو بالويل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏تلك نائلة أيست أن تعبد ببلدكم هذا أبداً‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ حدثني من أثق به من أهل الرواية في إسناد له، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول الكعبة أصنام مشدودة بالرصاص‏.‏

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول‏:‏ ‏{‏جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً‏}‏ فما أشار إلى صنم في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع‏.‏

فقال تميم بن أسد الخزاعي‏:‏

وفي الأصنام معتبر وعلم * لمن يرجو الثواب أو العقابا

وفي صحيح مسلم‏:‏ عن سنان بن فروخ، عن سليمان، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي هريرة في حديث فتح مكة قال‏:‏ وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الحجر فاستلمه وطاف بالبيت، وأتى إلى صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس وهو آخذ بسيتها‏.‏

فلما أتى على الصنم فجعل يطعن في عينه، ويقول‏:‏ ‏{‏جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً‏}‏‏.‏

فلما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه، حتى نظر إلى البيت فرفع يديه وجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا إسحاق بن منصور، ثنا عبد الصمد، ثنا أبي، ثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، أبى أن يدخل البيت وفيه، الإلهة فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وفي أيديهما الأزلام فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط‏)‏‏)‏‏.‏

ثم دخل البيت فكبر في نواحي البيت وخرج ولم يصل‏.‏

تفرد به البخاري دون مسلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عبد الصمد، ثنا همام، ثنا عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها ست سواري، فقام إلى كل سارية ودعا ولم يصل فيه‏.‏

ورواه مسلم، عن شيبان بن فروخ، عن همام بن يحيى العوذي، عن عطاء به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هارون بن معروف، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكيراً حدثه، عن كريب، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل البيت، وجد فيه صورة إبراهيم، وصورة مريم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة هذا إبراهيم مصوراً، فما باله يستقسم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاري، والنسائي، من حديث ابن وهب به‏.

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عبد الرزاق، أنبا معمر، أخبرني عثمان الخزرجي، أنه سمع مقسماً يحدث عن ابن عباس قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، فدعا في نواحيه ثم خرج فصلى ركعتين، تفرد به أحمد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا إسماعيل، أنبا ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في البيت ركعتين‏.‏

قال البخاري‏:‏ وقال الليث، ثنا يونس، أخبرني نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفاً أسامة بن زيد، ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة، حتى أناخ في المسجد فأمر أن يؤتى بمفتاح الكعبة، فدخل ومعه أسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة فمكث فيه نهاراً طويلاً‏.‏

ثم خرج فاستبق الناس، فكان عبد الله بن عمر أول من دخل فوجد بلالاً وراء الباب قائماً فسأله أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فأشار له إلى المكان الذي صلى فيه، قال عبد الله‏:‏ ونسيت أن أسأله كم صلى من سجدة‏.‏

ورواه الإمام أحمد عن هشيم، ثنا غير واحد وابن عون، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الفضل بن عباس، وأسامة بن زيد، وعثمان بن طلحة، وبلال، فأمر بلالاً فأجاف عليهم الباب، فمكث فيه ما شاء الله، ثم خرج‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ فكان أول من لقيت منهم بلالاً، فقلت‏:‏ أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

قال‏:‏ ها هنا بين الأسطوانتين‏.‏

قلت‏:‏ وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أنه عليه السلام صلى في الكعبة تلقاء وجهة بابها من وراء ظهره، فجعل عمودين عن يمينه، وعموداً عن يساره، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، وكان بينه وبين الحائط الغربي مقدار ثلاثة أذرع‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، أنبا ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في البيت ركعتين‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح، ومعه بلال فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة‏.‏

فقال عتاب‏:‏ لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا، فسمع منه ما يغيظه‏.‏

فقال الحارث بن هشام‏:‏ أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصا‏.‏

فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد علمت الذي قلتم‏)‏‏)‏ ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب‏:‏ نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك‏.‏

وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق‏:‏ حدثني والدي، حدثني بعض آل جبير بن مطعم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة أمر بلالاً فعلا على الكعبة على ظهرها، فأذن عليها بالصلاة، فقال بعض بني سعيد بن العاص‏:‏ لقد أكرم الله سعيداً إذ قبضه قبل أن يسمع هذا الأسود على ظهر الكعبة‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب قال‏:‏ قال‏:‏ ابن أبي مليكة‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن يوم الفتح فوق الكعبة، فقال رجل من قريش للحارث بن هشام‏:‏ ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد‏؟‏

فقال‏:‏ دعه فإن يكن الله يكرهه فسيغيره‏.‏

وقال يونس بن بكير وغيره، عن هشام بن عروة، عن أبيه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً عام الفتح فأذن على الكعبة ليغيظ به المشركين‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ عن الواقدي، عن محمد بن حرب، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، أن أبا سفيان بن حرب بعد فتح مكة كان جالساً فقال في نفسه‏:‏ لو جمعت لمحمد جمعاً‏؟‏ فإنه ليحدث نفسه بذلك، إذ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين كتفيه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذاً يخزيك الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فرفع رأسه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسه فقال‏:‏ ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ - إجازة - أنبا أبو حامد أحمد علي بن الحسن المقري، أنبا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا محمد بن يوسف الفريابي، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، عن ابن عباس قال‏:‏ رأى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي والناس يطئون عقبه، فقال بينه وبين نفسه‏:‏ لو عاودت هذا الرجل القتال‏؟‏

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضرب بيده في صدره فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذاً يخزيك الله‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ أتوب إلى الله وأستغفر الله مما تفوهت به‏.‏

ثم روى البيهقي‏:‏ من طريق ابن خزيمة وغيره، عن أبي حامد بن الشرقي، عن محمد بن يحيى الذهلي، ثنا محمد موسى بن أعين الجزري، ثنا أبي، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ لما كان ليلة دخل الناس مكة ليلة الفتح، لم يزالوا في تكبير، وتهليل، وطواف بالبيت حتى أصبحوا‏.‏

فقال أبو سفيان لهند‏:‏ أتري هذا من الله‏؟‏

قالت‏:‏ نعم، هذا من الله‏.‏

قال‏:‏ ثم أصبح أبو سفيان فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قلت لهند أتري هذا من الله‏؟‏ قالت‏:‏ نعم هذا من الله‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ أشهد أنك عبد الله ورسوله، والذي يحلف به ما سمع قولي هذا أحد من الناس غير هند‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا إسحاق، ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، أخبرني حسن بن مسلم، عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لا تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحلل لي إلا ساعة من الدهر، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يختلى خلاؤها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

فقال العباس بن عبد المطلب‏:‏ إلا الأذخر يا رسول الله، فإنه لا بد منه للدفن والبيوت‏؟‏

فسكت ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إلا الأذخر فإنه حلال‏)‏‏)‏‏.‏

وعن ابن جريج‏:‏ أخبرني عبد الكريم - هو ابن مالك الجزري - عن عكرمة، عن ابن عباس بمثل هذا، أو نحو هذا‏.‏

ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفرد به البخاري من هذا الوجه الأول وهو مرسل، ومن هذا الوجه الثاني أيضاً‏.‏

وبهذا وأمثاله استدل من ذهب إلى أن مكة فتحت عنوة، وللوقعة التي كانت في الخندمة كما تقدم‏.‏

وقد قتل فيها قريب من عشرين نفساً من المسلمين والمشركين، وهي ظاهرة في ذلك، وهو مذهب جمهور العلماء‏.‏

والمشهور عن الشافعي أنها فتحت صلحاً لأنها لم تقسم، ولقوله صلى الله عليه وسلم ليلة الفتح‏:‏ ‏(‏‏(‏من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل الحرم فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

وموضع تقرير هذه المسألة في كتاب ‏(‏الأحكام الكبير‏)‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

‏(‏يتبع‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏

‏(‏تابع‏.‏‏.‏‏.‏ 1‏)‏‏:‏ ثبت في الصحيحين من حديث مالك، عن الزهري، عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا سعيد بن شرحبيل، ثنا الليث، عن المقبري، عن أبي شريح الخزاعي، أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة‏:‏ ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجراً، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا‏:‏ إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب‏)‏‏)‏‏.‏

فقيل لأبي شريح‏:‏ ماذا قال لك عمرو‏؟‏

قال‏:‏ قال‏:‏ أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً، ولا فاراً بدم، ولا فاراً بجزية‏.‏

وروى البخاري أيضاً ومسلم، عن قتيبة، عن الليث بن سعد به نحوه‏.‏

وذكر ابن إسحاق أن رجلاً يقال له ابن الأثوغ قتل رجلاً في الجاهلية من خزاعة يقال له أحمر بأساً، فلما كان يوم الفتح قتلت خزاعة ابن الأثوغ وهو بمكة، قتله خراش بن أمية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، لقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم رجلاً لأدينه‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع خراش بن أمية قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن خراشاً لقتَّال‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي قال‏:‏ لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزبير، جئته فقلت له‏:‏ يا هذا أنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل، فقتلوه وهو مشرك‏.‏

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيها الناس إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام من حرام الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد فيها شجراً لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضباً على أهلها‏.‏

ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها فقولوا‏:‏ إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا فدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ودى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الرجل الذي قتلته خزاعة، فقال عمرو لأبي شريح‏:‏ انصرف أيها الشيخ فنحن أعلم بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم، ولا خالع طاعة، ولا مانع جزية‏.‏

فقال أبو شريح‏:‏ إني كنت شاهداً، وكنت غائباً، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد أبلغتك فأنت وشأنك‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وبلغني أن أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح جنيدب بن الأكوع قتله بنو كعب، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة ناقة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى، عن حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ لما فتحت مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كفوا السلاح إلا خزاعة من بني بكر‏)‏‏)‏ فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كفوا السلاح‏)‏‏)‏‏.‏

فلقي رجل من خزاعة رجلاً من بني بكر من غد بالمزدلفة فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خطيباً فقال - فرأيته وهو مسند ظهره إلى الكعبة - قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أعدى الناس على الله من قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول الجاهلية‏)‏‏)‏ وذكر تمام الحديث، وهذا غريب جداً‏.‏

وقد روى أهل السنن بعض هذا الحديث؛ فأما ما فيه من أنه رخص لخزاعة أن تأخذ بثأرها من بني بكر إلى العصر من يوم الفتح، فلم أره إلا في هذا الحديث، وكأنه إن صح من باب الاختصاص لهم مما كانوا أصابوا منهم ليلة الوتير، والله أعلم‏.‏ ‏‏

وروى الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد، وسفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، ومحمد بن عبيد كلهم، عن زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي، عن الحارث بن مالك بن البرصا الخزاعي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه الترمذي عن بندار، عن يحيى بن سعيد القطان به‏.‏ وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

قلت‏:‏ فإن كان نهياً فلا إشكال، وإن كان نفياً فقال البيهقي‏:‏ معناه على كفر أهلها‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن مطيع، عن أبيه مطيع بن الأسود العدوي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يقتل قرشي صبراً بعد اليوم إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

والكلام عليه كالأول سواء‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وبلغني عن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة ودخلها، قام على الصفا يدعو الله وقد أحدقت به الأنصار فقالوا فيما بينهم‏:‏ أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها‏؟‏

فلما فرغ من دعائه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ماذا قلتم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الذي علقه ابن هشام قد أسنده الإمام أحمد بن حنبل في ‏(‏مسنده‏)‏ فقال‏:‏ ثنا بهز وهاشم قالا‏:‏ حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت‏.‏

وقال هاشم‏:‏ حدثني ثابت البناني، ثنا عبد الله بن رباح قال‏:‏ وفدت وفود إلى معاوية أنا فيهم، وأبو هريرة، وذلك في رمضان، فجعل بعضنا يصنع لبعض الطعام، قال‏:‏ وكان أبو هريرة يكثر ما يدعونا‏.‏

قال هاشم‏:‏ يكثر أن يدعونا إلى رحله‏.‏

قال‏:‏ فقلت ألا أصنع طعاماً فأدعوهم إلى رحلي‏؟‏

قال‏:‏ فأمرت بطعام يصنع، فلقيت أبا هريرة من العشاء قال‏:‏ قلت‏:‏ يا أبا هريرة الدعوة عندي الليلة‏.‏

قال‏:‏ استبقتني‏.‏

قال هاشم‏:‏ قلت‏:‏ نعم، فدعوتهم فهم عندي، فقال أبو هريرة ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار، قال‏:‏ فذكر فتح مكة‏.‏

قال‏:‏ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة، قال‏:‏ فبعث الزبير على أحد المجنبتين، وبعث خالداً على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الجسر، وأخذوا بطن الوادي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته، وقد وبشت قريش أوباشها‏.‏

قال‏:‏ قالوا‏:‏ نقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطيناه الذي سألنا‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ فنظر فرآني فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا هريرة‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ لبيك رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اهتف لي بالأنصار، ولا يأتيني إلا أنصاري‏)‏‏)‏‏.‏

فهتفت بهم فجاؤوا فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى‏:‏ ‏(‏‏(‏أحصدوهم حصداً حتى توافوني بالصفا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقال أبو هريرة فانطلقنا فما يشاء واحد منا أن يقتل منهم ما شاء، وما أحد منهم يوجه إلينا منهم شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فقال أبو سفيان‏:‏ يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فغلق الناس أبوابهم‏.‏

قال‏:‏ وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت، قال‏:‏ وفي يده قوس آخذ بسية القوس‏.‏

قال‏:‏ فأتى في طوافه على صنم إلى جنب البيت يعبدونه، قال‏:‏ فجعل يطعن بها في عينه، ويقول‏:‏ ‏{‏جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً‏}‏‏.‏

قال‏:‏ ثم أتى الصفا فعلاه حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره ويدعوه، قال‏:‏ والأنصار تحت، قال‏:‏ يقول بعضهم لبعض‏:‏ أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ وجاء الوحي وكان إذا جاء لم يخف علينا، فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي‏.‏

قال هاشم‏:‏ فلما قضي الوحي رفع رأسه ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار أقلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ قلنا ذلك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فما أسمي إذاً، كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأقبلوا إليه يبكون ويقولون‏:‏ والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه مسلم، والنسائي، من حديث سليمان بن المغيرة، زاد النسائي، وسلام بن مسكين‏.‏

ورواه مسلم أيضاً من حديث حماد بن سلمة ثلاثتهم عن ثابت، عن عبد الله بن رباح الأنصاري نزيل البصرة، عن أبي هريرة به نحوه‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ وحدثني - يعني بعض أهل العلم - أن فضالة بن عمير بن الملوح - يعني الليثي - أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أفضالة‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ نعم فضالة يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ماذا كنت تحدث به نفسك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لا شيء كنت أذكر الله‏.‏

قال‏:‏ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏استغفر الله‏)‏‏)‏ ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول‏:‏ والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه‏.‏

قال فضالة‏:‏ فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت‏:‏ هلم إلى الحديث‏.‏

فقال‏:‏ لا‏.‏

وانبعث فضالة يقول‏:‏

قالت هلم إلى الحديث فقلت لا * يأبى عليك الله والإسلام

أو ما رأيت محمداً وقبيله * بالفتح يوم تكسر الأصنام

لرأيت دين الله أضحى بيناً * والشرك يغشى وجهه الإظلام

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهب‏:‏ يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر، فأمنه يا رسول الله صلى الله عليك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك‏؟‏

فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة فخرج بها عمير حتى أدركه وهو يريد أن يركب في البحر، فقال‏:‏ يا صفوان فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جئتك به‏.‏

قال‏:‏ ويلك أعزب عني فلا تكلمني‏.‏

قال‏:‏ أي صفوان فداك أبي وأمي، أفضل الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس، ابن عمك عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك‏.‏

قال‏:‏ إني أخافه على نفسي‏.‏

قال‏:‏ هو أحلم من ذلك وأكرم‏.‏

فرجع معه حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صفوان‏:‏ إن هذا يزعم أنك قد أمنتني‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏صدق‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فاجعلني بالخيار فيه شهرين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت بالخيار أربعة أشهر‏)‏‏)‏‏.‏

ثم حكى ابن إسحاق عن الزهري أن فاختة بنت الوليد امرأة صفوان، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، وقد ذهبت وراءه إلى اليمن فاسترجعته، فأسلم، فلما أسلما أقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتهما بالنكاح الأول‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، قال‏:‏ رمى حسان بن الزبعري وهو بنجران ببيت واحد ما زاد عليه‏:‏

لا تَعْدَ مَنْ رجلاً أحلك بغضه * نجران في عيش أحذَّ لئيم

فلما بلغ ذلك ابن الزبعري خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقال حين أسلم‏:‏

يا رسول المليك إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور

إذ أباري الشيطان في سنن الغي * ومن مال ميله مثبور

آمن اللحم والعظام لربي * ثم قلبي الشهيد أنت النذير

إنني عنك زاجرٌ ثم حيا * من لؤي وكلهم مغرور

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال عبد الله بن الزبعري أيضاً حين أسلم‏:‏

منع الرقاد بلابل وهموم * والليل معتلج الرواق بهيم

مما أتاني أن أحمد لامني * فيه فبت كأنني محموم

يا خير من حملت على أوصالها * عيرانة سرح اليدين غشوم

إني لمعتذر إليك من الذي * أسديت إذ أنا في الضلال أهيم

أيام تأمرني بأغوى خطة * سهم وتأمرني بها مخزوم

وأمد أسباب الردى ويقودني * أمر الغواة وأمرهم مشؤوم

فاليوم آمن بالنبي محمد * قلبي ومخطئ هذه محروم

مضت العداوة وانقضت أسبابها * ودعت أواصر بيننا وحلوم

فاغفر فدى لك والدي كلاهما * زللي فإنك راحم مرحوم

وعليك من علم المليك علامة * نور أغر وخاتم مختوم

أعطاك بعد محبة برهانه * شرفاً وبرهان الإله عظيم

ولقد شهدت بأن دينك صادق * حق وأنك في المعاد جسيم

والله يشهد أن أحمد مصطفى * مستقبل في الصالحين كريم

قرم علا بنيانه من هاشم * فرع تمكن في الذرى وأروم

قال ابن هشام‏:‏ وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له‏.‏

قلت‏:‏ وكان عبد الله بن الزبعري السهمي من أكبر أعداء الإسلام، ومن الشعراء الذين استعملوا قواهم في هجاء المسلمين، ثم من الله عليه بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الإسلام، والقيام بنصره والذب عنه‏.‏

 فصل عدد الذين شهدوا فتح مكة من المسلمين‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، من بني سليم سبعمائة، ويقول بعضهم ألف، ومن بني غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم، وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد‏.‏

وقال عروة والزهري وموسى بن عقبة‏:‏ كان المسلمون يوم الفتح الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ألفاً، فالله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان مما قيل من الشعر في يوم الفتح قول حسان بن ثابت‏:‏

عفت ذات الأصابع فالجواء * إلى عذراء منزلها خلاء

ديار من بني الحسحاس قفر * تعفيها الروامس والسماء

وكانت لا يزال بها أنيس * خلال مروجها نعم وشاء

فدع هذا ولكن من لطيف * يؤرقني إذا ذهب العشاء

لشعثاء التي قد تيمته * فليس لقلبه منها شفاء

كأن خبيئة من بيت رأس * يكون مزاجها عسل وماء

إذا ما الأشربات ذكرن يوماً * فهن لطيب الراح الفداء

نوليها الملامة إن المنا * إذا ما كان مغت أو لحاء

ونشربها فتتركنا ملوكاً * وأسداً ما ينهنها اللقاء

عدمنا خيلنا أن لم تروها * تثير النقع موعدها كداء

ينازعن الأعنة مصغيات * على أكتافها الأسل الظماء

تظل جيادنا متمطرات * يلطمهن بالخمر النساء

فإما تعرضوا عنا اعتمرنا * وكان الفتح وانكشف الغطاء

وإلا فاصبروا لجلاد يوم * يعز الله فيه من يشاء

وجبريل رسول الله فينا * وروح القدس ليس له كفاء

وقال الله قد أرسلت عبداً * يقول الحق إن نفع البلاء

شهدت به فقوموا صدقوه * فقلتم لا نقوم ولا نشاء

وقال الله قد سيرت جنداً * هم الأنصار عرضتها اللقاء

لنا في كل يوم من معد * سباب أو قتال أو هجاء

فنحكم بالقوافي من هجانا * ونضرب حين تختلط الدماء

ألا أبلغ أبا سفيان عني * مغلغلة فقد برح الخفاء

بأن سيوفنا تركتك عبداً * وعبد الدار سادتها الإماء

هجوت محمداً فأجبت عنه * وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء

هجوت مباركاً براً حنيفاً * أمين الله شيمته الوفاء

أمن يهجو رسول الله منكم * ويمدحه وينصر سواء

فإن أبي ووالده وعرضي * لعرض محمد منكم وقاء

لساني صارم لا عيب فيه * وبحري لا تكدره الدلاء

قال ابن هشام‏:‏ قالها حسان قبل الفتح‏.‏

قلت‏:‏ والذي قاله متوجه لما في أثناء هذه القصيدة مما يدل على ذلك، وأبو سفيان المذكور في البيت هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وبلغني عن الزهري أنه قال‏:‏ لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء يلطمن الخيل بالخمر تبسم إلى أبي بكر رضي الله عنه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال أنس بن زنيم الدئلي يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان قال فيهم عمرو بن سالم الخزاعي - يعني لما جاء يستنصر عليهم - كما تقدم‏:‏

أأنت الذي تهدى معد بأمره * بل الله يهديهم وقال لك أشهد

وما حملت من ناقة فوق رحلها * أبر وأوفى ذمة من محمد

أحث على الخير وأسبغ نائلاً * إذا راح كالسيف الصقيل

المهند

وأكسى لبرد الخال قبل ابتذاله * وأعطى لرأس السابق المتجرد

تعلم رسول الله أنك مذركي * وأن وعيداً منك كالأخذ باليد

تعلم رسول الله أنك قادر * على كل صرم متهمين ومنجد

تعلم أن الركب ركب عويمر * هموا الكاذبون المخلفوا كل موعد

ونبوا رسول الله أني هجوته * فلا حملت سوطي إلي إذن يدي

سوى أنني قد قلت ويل أم فتية * أصيبوا بنحس لا بطلق وأسعد

أصابهموا من لم يكن لدمائهم * كفاء فعزت عبرتي وتبلدي

وإنك قد أخبرت أنك ساعياً * بعبد بن عبد الله وابنة مهود

ذؤيب وكلثوم وسلمى تتابعوا * جميعاً فإن لا تدمع العين أكمد

وسلمى وسلمى ليس حي كمثله * وإخوته وهل ملوك كأعبد

فإني لا ذنباً فتقت ولا دماً * هرقت تبين عالم الحق واقصد

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال بجير بن زهير بن أبي سلمى في يوم الفتح‏:‏

نفى أهل الحبلق كل فج * مزينة غدوة وبنو خفاف

ضربناهم بمكة يوم فتح النـ* ـبي الخير بالبيض الخفاف

صبحناهم بسبع من سليم * وألف من بني عثمان واف

نطأ أكتافهم ضرباً وطعناً * ورشقاً بالمريشة اللطاف

ترى بين الصفوف لها حفيفاً * كما انصاع الفواق من الرصاف

فرحنا والجياد تجول فيهم * بأرماح مقومة الثقاف

فأبنا غانمين بما اشتهينا * وأبوا نادمين على الخلاف

وأعطينا رسول الله منا * مواثقنا على حسن التصافي

وقد سمعوا مقالتنا فهموا * غداة الروع منا بانصراف

وقال ابن هشام‏:‏ وقال عباس بن مرداس السلمي في فتح مكة‏:‏

منا بمكة يوم فتح محمد * ألف تسيل به البطاح مسوم

نصروا الرسول وشاهدوا آياته * وشعارهم يوم اللقاء مقدم

في منزل ثبتت به أقدامهم * ضنك كأن الهام فيه الحنتم

جرت سنابكها بنجد قبلها * حتى استقام لها الحجاز الأدهم

الله مكنه له وأذله * حكم السيوف لنا وجد مزحم

عود الرياسة شامخ عرنينه * متطلع ثغر المكارم خضرم

وذكر ابن هشام في سبب إسلام عباس بن مرداس‏:‏ أن أباه كان يعبد صنماً من حجارة يقال له ضمار، فلما حضرته الوفاة أوصاه به، فبينما هو يوماً يخدمه إذ سمع صوتاً من جوفه وهو يقول‏:‏

قل للقبائل من سليم كلها * أودى ضمار وعاش أهل المسجد

إن الذي ورث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريش مهتدي

أودى ضمار وكان يعبد مدة * قبل الكتاب إلى النبي محمد

قال‏:‏ فحرق عباس ضمار، ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقد تقدمت هذه القصة بكمالها في باب هواتف الجان مع أمثالها وأشكالها، ولله الحمد والمنة‏.‏

بعثه عليه السلام خالد بن الوليد بعد الفتح إلى بني جذيمة من كنانة

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن علي قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حين افتتح مكة داعياً ولم يبعثه مقاتلاً، ومعه قبائل من العرب وسليم بن منصور، ومدلج بن مرة، فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد‏:‏ ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة قال‏:‏ لما أمرنا خالد أن نضع السلاح، قال رجل منا يقال له جحدم‏:‏ ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا الأسار، وما بعد الأسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبداً‏.‏

قال‏:‏ فأخذه رجال من قومه فقالوا‏:‏ يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا، إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب، وأمن الناس، فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم سلاحهم لقول خالد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فقال حكيم بن حكيم، عن أبي جعفر قال‏:‏ فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ حدثني بعض أهل العلم أنه انفلت رجل من القوم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هل أنكر عليه أحد ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ نعم، قد أنكر عليه رجل أبيض ربعه، فنهمه خالد فسكت عنه، وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب فاشتدت مراجعتهما، فقال عمر بن الخطاب‏:‏ أما الأول يا رسول الله فابني عبد الله، وأما الآخر فسالم مولى أبي حذيفة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني حكيم بن حكيم، عن أبي جعفر قال‏:‏ ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج علي حتى جاءهم، ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فودى لهم الدماء، وما أصيب لهم من الأموال، حتى أنه ليدي ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال فقال لهم علي حين فرغ منهم‏:‏ هل بقي لكم دم أو مال يود لكم ‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أصبت وأحسنت‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد‏)‏‏)‏ ثلاث مرات‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد قال بعض من يعذر خالداً أنه قال‏:‏ ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبد الله بن حذافة السهمي، وقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم من الإسلام‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ قال أبو عمرو المديني‏:‏ لما أتاهم خالد بن الوليد قالوا‏:‏ صبأنا صبأنا‏.‏ وهذه مرسلات ومنقطعات‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني - أحسبه قال - جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا‏:‏ أسلمنا، فجعلوا يقولون‏:‏ صبأنا صبأنا، وخالد يأخذ بهم أسراً وقتلاً‏.‏

قال‏:‏ ودفع إلى كل رجل منا أسيراً حتى إذا أصبح يوماً أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ فقلت‏:‏ والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره‏.‏

قال‏:‏ فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا صنيع خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني ابرأ إليك مما صنع خالد‏)‏‏)‏ مرتين‏.‏

ورواه البخاري، والنسائي، من حديث عبد الرزاق به نحوه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد قال لهم جحدم لما رأى ما يصنع خالد‏:‏ يا بني جذيمة ضاع الضرب قد كنت حذرتكم مما وقعتم فيه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف - فيما بلغني - كلام في ذلك، فقال له عبد الرحمن‏:‏ عملت بأمر الجاهلية في الإسلام ‏؟‏

فقال‏:‏ إنما ثأرت بأبيك‏.‏

فقال عبد الرحمن‏:‏ كذبت قد قتلت قاتل أبي، ولكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة حتى كان بينهما شر، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مهلاً يا خالد دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحد ذهباً ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق قصة الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم عم خالد بن الوليد في خروجه هو، وعوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة، ومعه ابنه عبد الرحمن وعفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ومعه ابنه عثمان في تجارة إلى اليمن، ورجوعهم ومعهم مال لرجل من بني جذيمة كان هلك باليمن‏.‏

فحملوه إلى ورثته فادعاه رجل منهم يقال له خالد بن هشام، ولقيهم بأرض بني جذيمة فطلبه منهم قبل أن يصلوا إلى أهل الميت، فأبوا عليه، فقاتلهم فقاتلوه حتى قتل عوف والفاكه، وأخذت أموالهما وقتل عبد الرحمن قاتل أبيه خالد بن هشام، وفر منهم عفان ومعه ابن عثمان إلى مكة‏.‏

فهمت قريش بغزو بني جذيمة، فبعث بنو جذيمة يعتذرون إليهم بأنه لم يكن عن ملأ منهم، وودوا لهم القتيلين وأموالهما، ووضعوا الحرب بينهم‏.‏

يعني فلهذا قال خالد لعبد الرحمن‏:‏ إنما ثأرت بأبيك يعني حين قتلته بنو جذيمة، فأجابه بأنه قد أخذ ثأره وقتل قاتله‏.‏

ورد عليه بأنه إنما ثأر بعمه الفاكه بن المغيرة حين قتلوه، وأخذوا أمواله، والمظنون بكل منهما أنه لم يقصد شيئاً من ذلك، وإنما يقال هذا في وقت المخاصمة، فإنما أراد خالد بن الوليد نصرة الإسلام وأهله، وإن كان قد أخطأ في أمر واعتقد أنهم ينتقصون الإسلام بقولهم صبأنا صبأنا، ولم يفهم عنهم أنهم أسلموا، فقتل طائفة كثيرة منهم وأسر بقيتهم، وقتل أكثر الأسرى أيضاً، ومع هذا لم يعزله رسول الله صلى الله عليه وسلم بل استمر به أميراً‏.‏

وإن كان قد تبرأ منه في صنيعه ذلك وودى ما كان جناه خطأ في دم أو مال، ففيه دليل لأحد القولين بين العلماء في أن خطأ الإمام يكون في بيت المال لا في ماله، والله أعلم‏.‏ ولهذا لم يعزله الصديق حين قتل مالك بن نويرة أيام الردة، وتأول عليه ما تأول حين ضرب عنقه، واصطفى امرأته أم تميم‏.‏

فقال له عمر بن الخطاب‏:‏ اعزله فإن في سيفه رهقاً‏.‏

فقال الصديق‏:‏ لا أغمد سيفاً سله الله على المشركين‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، عن الزهري، عن ابن أبي حدرد الأسلمي قال‏:‏ كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد فقال فتى من بني جذيمة وهو في سني، وقد جمعت يداه إلى عنقه برمة، ونسوة مجتمعات غير بعيد منه‏:‏ يا فتى، قلت‏:‏ ما تشاء ‏؟‏

قال‏:‏ هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي إلى هذه النسوة، حتى أقضي إليهن حاجة، ثم تردني بعد فتصنعوا ما بدا لكم‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ والله ليسير ما طلبت فأخذت برمته فقدته بها حتى وقفته عليهن‏.‏

فقال‏:‏ أسلمي حبيش على نفد من العيش‏:‏

أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم * بحلية أو ألفيتكم بالخوانق

ألم يك أهلاً أن ينول عاشق * تكلف إدلاج السرى والودائق

فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معا * أثيبي بود قبل إحدى الصفائق

أثيبي بود قبل أن يشحط النوى * وينأى الأمير بالحبيب المفارق

فإني لا ضيعت سر أمانة * ولا راق عيني عنك بعدك رائق

سوى أن ما نال العشيرة شاغل * عن الود إلا أن يكون التوامق

قالت‏:‏ وأنت فحييت عشراً وتسعاً وتراً وثمانية تترى‏.‏

قال‏:‏ ثم انصرفت به فضربت عنقه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني أبو فراس ابن أبي سنبلة الأسلمي، عن أشياخ منهم، عمن كان حاضرها منهم قالوا‏:‏ فقامت إليه حين ضربت عنقه فأكبت عليه، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده‏.‏

وروى الحافظ البيهقي‏:‏ من طريق الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، أنه سمع رجلاً من مزينة يقال له ابن عصام، عن أبيه قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا أحداً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، وأمرنا بذلك، فخرجنا قبل تهامة، فأدركنا رجلاً يسوق بظعائن فقلنا له‏:‏ أسلم‏.‏

فقال‏:‏ وما الإسلام ‏؟‏

فأخبرناه به فإذا هو لا يعرفه‏.‏

قال‏:‏ أفرأيتم إن لم أفعل ما أنتم صانعون ‏؟‏

قال‏:‏ قلنا نقتلك‏.‏

فقال‏:‏ فهل أنتم منظري حتى أدرك الظعائن ‏؟‏

قال‏:‏ قلنا‏:‏ نعم، ونحن مدركوك‏.‏

قال‏:‏ فأدرك الظعائن فقال‏:‏ أسلمي حبيش قبل نفاد العيش‏.‏

فقالت الأخرى‏:‏ أسلم عشراً وتسعاً وتراً وثمانياً تترى‏.‏

ثم ذكر الشعر المتقدم إلى قوله‏:‏

وينأى الأمير بالحبيب المفارق‏.‏

ثم رجع إلينا فقال‏:‏ شأنكم‏.‏

قال‏:‏ فقدمناه فضربنا عنقه‏.‏

قال‏:‏ فانحدرت الأخرى من هودجها فجثت عليه حتى ماتت‏.‏

ثم روى البيهقي‏:‏ من طريق أبي عبد الرحمن النسائي، ثنا محمد بن علي بن حرب المروزي، ثنا علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا وفيهم رجل، فقال لهم‏:‏ إني لست منهم، إني عشقت امرأة فلحقتها فدعوني أنظر إليها ثم اصنعوا بي ما بدا لكم‏.‏

قال‏:‏ فإذا امرأة أدماء طويلة‏.‏

فقال لها‏:‏ أسلمي حبيش قبل نفاد العيش‏.‏

ثم ذكر البيتين بمعناهما‏.‏

قال‏:‏ فقالت‏:‏ نعم فديتك‏.‏

قال‏:‏ فقدموه فضربوا عنقه، فجاءت المرأة فوقعت عليه، فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما كان فيكم رجل رحيم‏)‏‏)‏‏.‏

بعث خالد بن الوليد لهدم العزى

قال ابن جرير‏:‏ وكان هدمها لخمس بقين من رمضان عامئذ‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى، وكانت بيتاً بنخلة يعظمه قريش وكنانة ومضر، وكان سدنتها وحجابها من بني شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم، فلما سمع حاجبها السلمي بمسير خالد بن الوليد إليها علق سيفه عليها، ثم اشتد في الجبل الذي هي فيه وهو يقول‏:‏

أيا عز شدي شدة لا شوى لها * على خالد ألقي القناع وشمري

أيا عز إن لم تقتلي المرء خالداً * فبوئي بإثم عاجل أو تنصَّري

قال‏:‏ فلما انتهى خالد إليها هدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد روى الواقدي وغيره‏:‏ أنه لما قدمها خالد لخمس بقين من رمضان فهدمها ورجع، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما رأيت ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لم أر شيئاً، فأمره بالرجوع فلما رجع خرجت إليه من ذلك البيت امرأة سوداء ناشرة شعرها تولول، فعلاها بالسيف وجعل يقول‏:‏

يا عُزَّى كفرانك لا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك

ثم خرب ذلك البيت الذي كانت فيه، وأخذ ما كان فيه من الأموال رضي الله عنه وأرضاه، ثم رجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏تلك العزى ولا تعبد أبداً‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبا محمد بن أبي بكر الفقيه، أنبا محمد بن أبي جعفر، أنبا أحمد بن علي، ثنا أبو كريب، عن ابن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل قال‏:‏ لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، فأتاها وكانت على ثلاث سمرات، فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها‏.‏

ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارجع فإنك لم تصنع شيئاً‏)‏‏)‏ فرجع خالد فلما نظرت إليه السدنة وهم حجابها، أمعنوا هرباً في الجبل وهم يقولون‏:‏ يا عزى خبليه يا عزى عوريه وإلا فموتي برغم‏.‏

قال‏:‏ فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها ووجهها، فعممها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏تلك العزى‏)‏‏)‏‏.‏

 فصل في مدة إقامته عليه السلام بمكة

لا خلاف أنه عليه الصلاة والسلام أقام بقية شهر رمضان يقصر الصلاة ويفطر، وهذا دليل من قال من العلماء‏:‏ أن المسافر إذا لم يجمع الإقامة فله أن يقصر ويفطر إلى ثماني عشر يوماً في أحد القولين، وفي القول الآخر كما هو مقرر في موضعه‏.‏

قال البخاري‏:‏ ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان ح، وحدثنا قبيصة ثنا سفيان، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس بن مالك قال‏:‏ أقمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشراً يقصر الصلاة‏.‏

وقد رواه بقية الجماعة من طرق متعددة، عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي البصري، عن أنس به نحوه‏.‏

قال البخاري‏:‏ ثنا عبدان، ثنا عبد الله، أنبا عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين‏.‏

ورواه البخاري أيضاً من وجه، زاد البخاري وأبو حصين كلاهما، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث عاصم بن سليمان الأحول، عن عكرمة، عن ابن عباس به‏.‏

وفي لفظ لأبي داود سبعة عشر يوماً‏.‏

وحدثنا أحمد بن يونس، ثنا أحمد بن شهاب، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ أقمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تسع عشرة نقصر الصلاة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ فنحن نقصر ما بقينا بين تسع عشرة فإذا زدنا أتممنا‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا إبراهيم بن موسى، ثنا ابن علية، ثنا علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين قال‏:‏ غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام ثماني عشر ليلة لا يصلي إلا ركعتين، يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا قوم سفر‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه الترمذي من حديث علي بن زيد بن جدعان وقال‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏

ثم رواه من حديث محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال‏:‏ أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة، ثم قال‏:‏ رواه غير واحد عن ابن إسحاق لم يذكروا ابن عباس‏.‏

وقال ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري ومحمد بن علي بن الحسين، وعاصم بن عمرو بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، وعمرو بن شعيب وغيرهم قالوا‏:‏ أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة ليلة‏.‏

 فصل فيما حكم عليه السلام بمكة من الأحكام

قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن مسلم، عن مالك بن شهاب، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الليث‏:‏ حدثني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة قالت‏:‏

كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد أن يقبض ابن وليدة زمعة، وقال عتبة‏:‏ إنه ابني، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في الفتح أخذ سعد بن أبي وقاص ابن وليدة زمعة، فأقبل به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل معه عبد بن زمعة‏.‏

فقال سعد بن أبي وقاص‏:‏ هذا ابن أخي عهد إلي أنه ابنه‏.‏

قال عبد بن زمعة‏:‏ يا رسول الله هذا أخي، هذا ابن زمعة ولد على فراشه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن وليدة زمعة، فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هو لك هو أخوك يا عبد بن زمعة من أجل أنه ولد على فراشه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏احتجبي منه يا سودة‏)‏‏)‏ لما رأى من شبه عتبة بن أبي وقاص‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ قالت عائشة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الولد للفراش وللعاهر الحجر‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ وكان أبو هريرة يصرح بذلك‏.‏

وقد رواه البخاري أيضاً، ومسلم، وأبو داود، والترمذي جميعاً عن قتيبة عن الليث به، وابن ماجه من حديثه، وانفرد البخاري بروايته له من حديث مالك عن الزهري‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ ثنا محمد بن مقاتل، أنبا عبد الله، أنا يونس، عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه‏.‏

قال عروة‏:‏ فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتكلمني في حد من حدود الله‏)‏‏)‏

فقال أسامة‏:‏ استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما بعد فإنما هلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت‏.‏

قالت عائشة‏:‏ كانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد رواه البخاري في موضع آخر، ومسلم من حديث ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة به‏.‏

وفي صحيح مسلم‏:‏ من حديث سبرة بن معبد الجهني قال‏:‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخل مكة، ثم لم يخرج حتى نهى عنها‏.‏

وفي رواية فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا إنها حرام حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية في مسند أحمد والسنن‏:‏ أن ذلك كان في حجة الوداع، فالله أعلم‏.‏

وفي صحيح مسلم‏:‏ عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يونس بن محمد، عن عبد الواحد بن زياد، عن أبي العميس، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه أنه قال‏:‏ رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في متعة النساء ثلاثاً، ثم نهانا عنه‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وعام أوطاس هو عام الفتح، فهو وحديث سبرة سواء‏.‏

قلت‏:‏ من أثبت النهي عنها في غزوة خيبر قال‏:‏ إنها أبيحت مرتين، وحرمت مرتين، وقد نص على ذلك الشافعي وغيره‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنها أبيحت وحرمت أكثر من مرتين، فالله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ إنها إنما حرمت مرة واحدة وهي هذه المرة في غزوة الفتح‏.‏

وقيل‏:‏ إنها إنما أبيحت للضرورة، فعلى هذا إذا وجدت ضرورة أبيحت‏.‏

وهذا رواية عن الإمام أحمد‏.‏

وقيل‏:‏ بل لم تحرم مطلقاً وهي على الإباحة، هذا هو المشهور عن ابن عباس وأصحابه، وطائفة من الصحابة، وموضع تحرير ذلك في الأحكام‏.‏