الجزء الرابع - فصل مبايعة رسول الله الناس يوم الفتح على الإسلام والشهادة

 فصل مبايعة رسول الله الناس يوم الفتح على الإسلام والشهادة‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، أنبا عبد الله بن عثمان بن خثيم‏:‏ أن محمد بن الأسود بن خلف أخبره‏:‏ أن أباه الأسود رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يوم الفتح، قال‏:‏ جلس عند قرن مستقبله فبايع الناس على الإسلام والشهادة‏.‏

قلت‏:‏ وما الشهادة‏؟‏

قال‏:‏ أخبرني محمد بن الأسود بن خلف أنه بايعهم على الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏

وعند البيهقي‏:‏ فجاءه الناس الكبار والصغار، والرجال والنساء فبايعهم على الإسلام والشهادة‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ ثم اجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فجلس لهم - فيما بلغني - على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل من مجلسه، فأخذ على الناس السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا‏.‏

قال‏:‏ فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء، وفيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة لحدثها، لما كان من صنيعها بحمزة فهي تخاف أن يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدثها ذلك، فلما دنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعهن قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بايعنني على أن لا تشركن بالله شيئاً‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت هند‏:‏ والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال ‏؟‏

‏(‏‏(‏ولا تسرقن‏)‏‏)‏ فقالت‏:‏ والله إني كنت أصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة، وما كنت أدري أكان ذلك علينا حلالاً أم لا ‏؟‏

فقال أبو سفيان - وكان شاهداً لما تقول -‏:‏ أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏وإنك لهند بنت عتبة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ نعم، فاعف عما سلف عفا الله عنك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ولا يزنين‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت‏:‏ يا رسول الله وهل تزني الحرة ‏؟‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ولا تقتلن أولادكن‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ قد ربيناهم صغاراً حتى قتلتهم أنت وأصحابك ببدر كباراً، فضحك عمر بن الخطاب حتى استغرق‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن‏)‏‏)‏

فقالت‏:‏ والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ولا يعصينني‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت‏:‏ في معروف‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر‏:‏ ‏(‏‏(‏بايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم‏)‏‏)‏‏.‏

فبايعهن عمر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء، ولا يمس إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه‏.‏

وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط‏.‏

وفي رواية‏:‏ ما كان يبايعهن إلا كلاماً ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين عن عائشة‏:‏ أن هنداً بنت عتبة امرأة أبي سفيان أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل عليَّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك‏)‏‏)‏‏.‏

وروى البيهقي من طريق يحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة‏:‏ أن هند بنت عتبة قالت‏:‏

يا رسول الله ما كان مما على وجه الأرض أخباء أو خباء - الشك من أبي بكر - أحب إلي من أن يذلوا من أهل أخبائك أو خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل أخباء - أو خباء - أحب إلى من أن يعزوا من أهل أخبائك، أو خبائك‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏وأيضاً والذي نفس محمد بيده‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي حرج أن أطعم من الذي له ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا، بالمعروف‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه البخاري‏:‏ عن يحيى بن بكير بنحوه‏.‏

وتقدم ما يتعلق بإسلام أبي سفيان‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاووس، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة‏:‏ ‏(‏‏(‏لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم ألا فانفروا‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه البخاري‏:‏ عن عثمان بن أبي شيبة، ومسلم عن يحيى بن يحيى، عن جرير‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عفان، ثنا وهب، ثنا ابن طاووس، عن أبيه، عن صفوان بن أمية أنه قيل له‏:‏ إنه لا يدخل الجنة إلا من هاجر‏.‏

فقلت له‏:‏ لا أدخل منزلي حتى أسأل رسول الله ما سأله، فأتيته فذكرت له فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا الفضيل بن سليمان، ثنا عاصم، عن أبي عثمان النهدي، عن مجاشع بن مسعود قال‏:‏ انطلقت بأبي معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مضت الهجرة لأهلها أبايعه على الإسلام والجهاد‏)‏‏)‏، فلقيت أبا معبد فسألته، فقال‏:‏ صدق مجاشع‏.‏

وقال خالد‏:‏ عن أبي عثمان، عن مجاشع أنه جاء بأخيه مجالد‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا عمرو بن خالد، ثنا زهير، ثنا عاصم، عن أبي عثمان قال‏:‏ حدثني مجاشع قال‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخي بعد يوم الفتح فقلت‏:‏ يا رسول الله جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذهب أهل الهجرة بما فيها‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ على أي شيء تبايعه ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد‏)‏‏)‏‏.‏

فلقيت أبا معبد بعد، وكان أكبرهما سناً فسألته، فقال‏:‏ صدق مجاشع‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا محمد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد قال‏:‏ قلت لابن عمر أريد أن أهاجر إلى الشام‏.‏

فقال‏:‏ لا هجرة، ولكن انطلق فاعرض نفسك فإن وجدت شيئاً وإلا رجعت‏.‏

وقال أبو النضر‏:‏ أنا شعبة، أنا أبو بشر، سمعت مجاهداً قال‏:‏ قلت لابن عمر فقال‏:‏ لا هجرة اليوم - أو بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - مثله‏.‏

حدثنا إسحاق بن يزيد، ثنا يحيى بن حمزة، حدثني أبو عمرو الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد بن جبير، أن عبد الله بن عمر قال‏:‏ لا هجرة بعد الفتح‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا إسحاق بن يزيد، أنا يحيى بن حمزة، أنا الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح قال‏:‏ زرت عائشة مع عبيد بن عمير فسألها عن الهجرة، فقالت‏:‏ لا هجرة اليوم، وكان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله عز وجل وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، فالمؤمن يعبد ربه حيث يشاء، ولكن جهاد ونية‏.‏

وهذه الأحاديث والآثار دالة على أن الهجرة إما الكاملة، أو مطلقاً قد انقطعت بعد فتح مكة؛ لأن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً وظهر الإسلام، وثبتت أركانه ودعائمه، فلم تبق هجرة، اللهم إلا أن يعرض حال يقتضي الهجرة بسبب مجاورة أهل الحرب، وعدم القدرة على إظهار الدين عندهم، فتجب الهجرة إلى دار الإسلام‏.‏

وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء، ولكن هذه الهجرة ليست كالهجرة قبل الفتح، كما أن كلاً من الجهاد والإنفاق في سبيل الله مشروع، ورغب فيه إلى يوم القيامة، وليس كالإنفاق ولا الجهاد قبل الفتح - فتح مكة -

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري الطائي، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزلت هذه السورة‏:‏ ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏.‏‏.‏‏}‏ قرأها رسول الله حتى ختمها، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الناس خير وأنا وأصحابي خير‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له مروان‏:‏ كذبت وعنده رافع بن خديج، وزيد بن ثابت قاعدان معه على السرير‏.‏

فقال أبو سعيد‏:‏ لو شاء هذان لحدثاك، ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة، فرفع مروان عليه الدرة ليضربه، فلما رأيا ذلك قالا‏:‏ صدق‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال‏:‏ لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ‏؟‏

فقال عمر‏:‏ إنه ممن قد علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخله معه - فما رأيت أنه أدخلني فيهم يومئذ إلا ليريهم - فقال‏:‏ ما تقولون في قول الله عز وجل‏:‏ {‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ ‏؟‏

فقال بعضهم‏:‏ أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً‏.‏

فقال لي‏:‏ أكذاك تقول يا ابن عباس ‏؟‏

فقلت‏:‏ لا‏.‏

فقال‏:‏ ما تقول ‏؟‏

فقلت‏:‏ هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال‏:‏ ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ فذلك علام أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً‏.‏

قال عمر بن الخطاب‏:‏ لا أعلم منها إلا ما يقول‏.‏

تفرد به البخاري‏.‏

وهكذا روي من غير وجه عن ابن عباس أنه فسر ذلك بنعي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أجله‏.‏

وبه قال مجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وغير واحد كما قال ابن عباس، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما‏.‏

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا محمد بن فضيل، ثنا عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏نعيت إلى نفسي‏)‏‏)‏ بأنه مقبوض في تلك السنة‏.‏

تفرد به الإمام أحمد، وفي إسناده عطاء بن أبي مسلم الخراساني، وفيه ضعف تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وفي لفظه نكارة شديدة، وهو قوله‏:‏ بأنه مقبوض في تلك السنة، وهذا باطل فإن الفتح كان في سنة ثمان في رمضان منها كما تقدم بيانه، وهذا ما لا خلاف فيه، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة بلا خلاف أيضاً‏.‏

وهكذا الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني رحمه الله‏:‏ ثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي، ثنا أبي، ثنا جعفر بن عون، عن أبي العميس، عن أبي بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال‏:‏

آخر سورة نزلت من القرآن جميعاً‏:‏ ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ فيه نكارة أيضاً، وفي إسناده نظر أيضاً، ويحتمل أن يكون أنها آخر سورة نزلت جميعها كما قال، والله أعلم‏.‏

وقد تكلمنا على تفسير هذه السورة الكريمة بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عمرو بن سلمة قال لي أبو قلابة‏:‏ ألا تلقاه فنسأله ‏؟‏

فلقيته فسألته قال‏:‏ كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس ما للناس، ما هذا الرجل‏؟‏

فيقولون‏:‏ يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه، كذا فكنت أحفظ ذاك الكلام فكأنما يغري في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون‏:‏ اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال‏:‏ جئتكم والله من عند النبي حقاً‏.‏

قال‏:‏ صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني‏.‏

فقالت امرأة من الحي‏:‏ ألا تغطون عنا أست قارئكم‏؟‏ فاشتروا فقطعوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص‏.‏

تفرد به البخاري دون مسلم‏.‏

غزوة هوازن يوم حنين

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25-27‏]‏‏.‏

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه‏:‏ أن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوازن بعد الفتح في خامس شوال سنة ثمان، وزعم أن الفتح كان لعشر بقين من شهر رمضان قبل خروجه إليهم خمس عشرة ليلة‏.‏

وهكذا روي عن ابن مسعود، وبه قال عروة بن الزبير، واختاره أحمد، وابن جرير في ‏(‏تاريخه‏)‏

وقال الواقدي‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوازن لست خلون من شوال، فانتهى إلى حنين في عاشره‏.‏ وقال أبو بكر الصديق‏:‏ لن نغلب اليوم من قلة ‏!‏‏!‏ فانهزموا فكان أول من انهزم بنو سليم، ثم أهل مكة، ثم بقية الناس‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما فتح الله عليه من مكة، جمعها ملكها مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، واجتمعت نصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء‏.‏

وغاب عنها ولم يحضرها من هوازن‏:‏ كعب وكلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم، وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه، ومعرفته بالحرب، وكان شيخاً مجرباً، وفي ثقيف سيدان لهم، وفي الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث وأخوه أحمر بن الحارث، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري‏.‏

فلما أجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحضر مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به، فلما نزل قال‏:‏ بأي واد أنتم ‏؟‏

قالوا‏:‏ بأوطاس‏.‏

قال‏:‏ نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء ‏؟‏

قالوا‏:‏ ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم‏.‏

قال‏:‏ أين مالك ‏؟‏

قالوا‏:‏ هذا مالك، ودُعي له‏.‏

قال‏:‏ يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء ‏؟‏

قال‏:‏ سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم‏.‏

قال‏:‏ ولـمَ ‏؟‏

قال‏:‏ أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم‏.‏

قال‏:‏ فانقض به، ثم قال‏:‏ راعي ضأن والله، هل يرد المنهزم شيء‏؟‏ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، ثم قال‏:‏ ما فعلت كعب وكلاب ‏؟‏

قال‏:‏ لم يشهدها منهم أحد‏.‏

قال‏:‏ غاب الحد والجد، لو كان يوم علاة ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم‏؟‏

قالوا‏:‏ عمرو بن عامر، وعوف بن عامر‏.‏

قال‏:‏ ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران، ثم قال‏:‏ يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة - بيضة هوازن - إلى نحور الخيل شيئاً‏.‏

ثم قال دريد لمالك بن عوف‏:‏ ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثم ألق الصبا على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من ورائك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك‏.‏

قال‏:‏ والله لا أفعل إنك قد كبرت وكبر عقلك، ثم قال مالك‏:‏ والله لتطيعنني يا معشر هوازن، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي‏.‏

فقالوا‏:‏ أطعناك‏.‏

فقال دريد‏:‏ هذا يوم لم أشهده ولم يفتني‏:‏

يا ليتني فيها جذع * أخب فيها وأضع

أقود وطفاء الزمع * كأنها شاة صدع

ثم قال مالك للناس‏:‏ إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أنه حدث‏:‏ أن مالك بن عوف بعث عيوناً من رجاله فأتوه، وقد تفرقت أوصالهم فقال‏:‏ ويلكم ما شأنكم ‏؟‏

قالوا‏:‏ رأينا رجالاً بيضاً على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما سمع بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر‏.‏

فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعاً له سلاحاً فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا أمية أعرنا سلاحك هذا نلقى فيه عدونا غداً‏)‏‏)‏‏.‏

فقال صفوان‏:‏ أغصباً يا محمد ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يكفيهم حملها ففعل‏.‏

هكذا أورد هذا ابن إسحاق من غير إسناد‏.‏

وقد روى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه، وعن عمرو بن شعيب، والزهري، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم وغيرهم قصة حنين فذكر نحو ما تقدم، وقصة الأدراع كما تقدم‏.‏

وفيه أن ابن أبي حدرد لما رجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر هوازن كذبه عمر بن الخطاب، فقال له ابن أبي حدرد‏:‏ لئن كذبتني يا عمر فربما كذبت بالحق‏.‏

فقال عمر‏:‏ ألا تسمع ما يقول يا رسول الله ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد كنت ضالاً فهداك الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يزيد بن هارون، أنبا شريك بن عبد العزيز بن رفيع، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من أمية يوم حنين أدراعاً فقال‏:‏ أغصباً يا محمد ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل عارية مضمونة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فضاع بعضها، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له، فقال‏:‏ أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب‏.‏

ورواه أبو داود، والنسائي من حديث يزيد بن هارون به‏.‏

وأخرجه النسائي من رواية إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة عبد الرحمن بن صفوان بن أمية‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان دروعاً فذكره‏.‏

ورواه من حديث هشيم، عن حجاج، عن عطاء‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان أدراعاً وأفراساً، وساق الحديث‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أناس من آل عبد الله بن صفوان‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا صفوان هل عندك من سلاح ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ عارية أم غصباً‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل عارية‏)‏‏)‏، فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعاً، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، فلما هزم المشركون جمعت دروع صفوان ففقد منها أدراعاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصفوان‏:‏ ‏(‏‏(‏قد فقدنا من أدراعك أدراعاً فهل نغرم لك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لا يا رسول الله إن في قلبي اليوم ما لم يكن فيه يومئذ، وهذا مرسل أيضاً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ألفان من أهل مكة، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، ففتح الله بهم مكة فكانوا اثني عشر ألفاً‏.‏

قلت‏:‏ وعلى قول عروة، والزهري، وموسى بن عقبة يكون مجموع الجيشين الذين سار بهما إلى هوازن أربعة عشر ألفاً، لأنه قدم باثني عشر ألفاً إلى مكة على قولهم، وأضيف ألفان من الطلقاء‏.‏

وذكر ابن إسحاق‏:‏ أنه خرج من مكة في خامس شوال، قال‏:‏ واستخلف على أهل مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس الأموي‏.‏

قلت‏:‏ وكان عمره إذ ذاك قريباً من عشرين سنة‏.‏

قال‏:‏ ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد لقاء هوازن، وذكر قصيدة العباس بن مرداس السلمي في ذلك منها قوله‏:‏

أبلغ هوازن أعلاها وأسفلها * مني رسالة نصح فيه تبيان

إني أظن رسول الله صابحكم * جيشاً له في فضاء الأرض أركان

فيهم سليم أخوكم غير تارككم * والمسلمون عباد الله غسان

وفي عضادته اليمنى بنو أسد * والأجربان بنو عبس وذبيان

تكاد ترجف منه الأرض رهبته * وفي مقدمه أوس وعثمان

قال ابن إسحاق‏:‏ أوس وعثمان قبيلا مزينة‏.‏

قال‏:‏ وحدثني الزهري، عن سنان بن أبي سنان الدئلي، عن أبي واقد الليثي وهو الحارث بن مالك قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية‏.‏

قال فسرنا معه إلى حنين، قال‏:‏ وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط، يأتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوماً‏.‏

قال‏:‏ فرأينا ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة خضراء عظيمة، قال‏:‏ فتنادينا من جنبات الطريق يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى‏:‏ اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة‏)‏‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنكم قوم تجهلون، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى هذا الحديث الترمذي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان‏.‏

والنسائي عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر كلاهما، عن الزهري‏.‏

كما رواه ابن إسحاق عنه‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

ورواه ابن أبي حاتم في ‏(‏تفسيره‏)‏ من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده مرفوعاً‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا أبو توبة، ثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام عن السلولي أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فأطنبوا السير حتى كان العشية، فحضرت صلاة الظهر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فجاء رجل فارس فقال‏:‏ يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم وبنعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من يحرسنا الليلة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال أنس بن أبي مرثد‏:‏ أنا يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فاركب‏)‏‏)‏‏.‏

فركب فرساً له وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من قبلك الليلة‏)‏‏)‏‏.‏

فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل أحسستم فارسكم‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ يا رسول الله ما أحسسنا، فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشروا فقد جاءكم فارسكم‏)‏‏)‏‏.‏

فجعل ينظر إلى خلال الشجر في الشعب، وإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني انطلقت حتى إذا كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحداً‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هل نزلت الليلة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لا، إلا مصلياً أو قاضي حاجة‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أوجبت فلا عليك ألا تعمل بعدها‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه النسائي عن محمد بن يحيى، عن محمد بن كثير الحراني، عن أبي توبة الربيع بن نافع به‏.‏

الوقعة وما كان أول الأمر من الفرار ثم العاقبة للمتقين

قال يونس بن بكير وغيره عن محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه قال‏:‏ فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه‏.‏

وأقبل رسول الله وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح، فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل، فشدت عليهم وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أين أيها الناس هلموا إلي، أنا رسول الله، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، أنا محمد بن عبد الله‏)‏‏)‏

قال‏:‏ فلا شيء، وركبت الإبل بعضها بعضاً، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس ومعه رهط من أهل بيته‏:‏ علي بن أبي طالب، وأبو سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب، وأخوه ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، وقيل الفضيل بن أبي سفيان، وأيمن ابن أم أيمن، وأسامة بن زيد‏.‏

ومن الناس من يزيد فيهم قثم بن العباس، ورهط من المهاجرين‏:‏ منهم أبو بكر، وعمر، والعباس آخذ بحكمة بغلته البيضاء وهو عليها قد شجرها‏.‏

قال‏:‏ ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام هوازن وهوازن خلفه، إذ أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه، قال فبينما هو كذلك إذ هوى له علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار يريدانه‏.‏

قال‏:‏ فيأتي عليّ من خلفه، فضرب عرقوبي الجمل فوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه فانعجف عن رحله‏.‏

قال‏:‏ واجتلد الناس، فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ورواه الإمام أحمد‏:‏ عن يعقوب بن إبراهيم الزهري، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب، وكان ممن صبر يومئذ، وكان حسن الإسلام حين أسلم، وهو آخذ بثفر بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من هذا‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ابن أمك يا رسول الله‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما انهزم الناس تكلم رجال من جفاة الأعراب بما في أنفسهم من الظغن، فقال أبو سفيان صخر بن حرب - يعني وكان إسلامه بعد مدخولاً، وكانت الأزلام بعد معه يومئذ - قال‏:‏ لا تنتهي هزيمتهم دون البحر‏.‏

وصرخ كلدة بن الحنبل وهو مع أخيه صفوان بن أمية - يعني لأمه - وهو مشرك في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا بطل السحر اليوم‏.‏

فقال له صفوان‏:‏ اسكت فض الله فاك، فوالله لئن يربني رجل من قريش، أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان بن مسلم، ثنا حماد بن سلمة، أنبا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك‏:‏ أن هوازن جاءت يوم حنين بالنساء والصبيان، والإبل والغنم، فجعلوها صفوفاً يكثرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما التقوا ولىّ المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار أنا عبد الله ورسوله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فهزم الله المشركين ولم يضرب بسيف ولم يطعن برمح‏.‏

قال‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ‏:‏ ‏(‏‏(‏من قتل كافراً فله سلبه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلاً وأخذ أسلابهم‏.‏

وقال أبو قتادة‏:‏ يا رسول الله إني ضربت رجلاً على حبل العاتق وعليه درع له، فأجهضت عنه فانظر من أخذها‏.‏

قال‏:‏ فقام رجل فقال‏:‏ أنا أخذتها فأرضه منها وأعطنيها‏.‏

قال‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل شيئاً إلا أعطاه أو سكت، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر‏:‏ والله لا يفئها الله على أسد من أسد الله ويعطيكها‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏صدق عمر‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ولقي أبو طلحة أم سليم ومعها خنجر فقال أبو طلحة‏:‏ ما هذا ‏؟‏

فقالت‏:‏ إن دنا مني بعض المشركين أن أبعج في بطنه‏.‏

فقال أبو طلحة‏:‏ أما تسمع ما تقول أم سليم‏؟‏ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول الله أقتل من بعدها من الطلقاء انهزموا بك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله قد كفى وأحسن يا أم سليم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى مسلم منه قصة خنجر أم سليم، وأبو داود قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏من قتل قتيلاً فله سلبه‏)‏‏)‏ كلاهما من حديث حماد بن سلمة به‏.‏

وقول عمر في هذا مستغرب، والمشهور أن ذلك أبو بكر الصديق‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا أبي، ثنا نافع أبو غالب، شهد أنس بن مالك فقال العلاء بن زياد العدوي‏:‏ يا أبا حمزة بسن أي الرجال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بعث ‏؟‏

قال‏:‏ ابن أربعين سنة‏.‏

قال‏:‏ ثم كان ماذا ‏؟‏

قال‏:‏ ثم كان بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، فتمت له ستون سنة، ثم قبضه الله إليه‏.‏

قال‏:‏ بسن أي الرجال هو يومئذ ‏؟‏

قال‏:‏ كأشب الرجال وأحسنه وأجمله وألحمه‏.‏

قال‏:‏ يا أبا حمزة وهل غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

قال‏:‏ نعم غزوت معه يوم حنين، فخرج المشركون بكرة فحملوا علينا، حتى رأينا خيلنا وراء ظهورنا وفي المشركين رجل يحمل علينا فيدقنا ويحطمنا، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل، فهزمهم الله فولوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى الفتح فجعل يجاء بهم أسارى رجل رجل فيبايعونه على الإسلام‏.‏

فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن علي نذراً لئن جيء بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا لأضربن عنقه‏.‏

قال‏:‏ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيء بالرجل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يا نبي الله تبت إلى الله‏.‏

قال‏:‏ وأمسك نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يبايعه ليوفي الآخر نذره‏.‏

قال‏:‏ وجعل ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليأمره بقتله ويهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يصنع شيئاً بايعه، فقال‏:‏ يا نبي الله نذري ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لم أمسك عنه منذ اليوم إلا لتوفي نذرك‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله ألا أومأت إلي ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه ليس لنبي أن يومي‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، ثنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إنك إن تشاء لا تعبد في الأرض بعد اليوم‏)‏‏)‏‏.‏

إسناده ثلاثي على شرط الشيخين، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا محمد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمع البراء بن عازب - وسأله رجل من قيس أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين‏؟‏ - فقال‏:‏ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كانت هوازن رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فاستقبلتنا بالسهام‏.‏

ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان آخذ بزمامها وهو يقول‏:‏

أنا النبي لا كذب‏.‏

ورواه البخاري‏:‏ عن أبي الوليد، عن شعبة به، وقال‏:‏

أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب

قال البخاري‏:‏ وقال إسرائيل وزهير، عن أبي إسحاق، عن البراء، ثم نزل عن بغلته‏.‏

ورواه مسلم، والنسائي، عن بندار‏.‏

زاد مسلم‏:‏ وأبي موسى كلاهما عن غندر به‏.‏

وروى مسلم‏:‏ من حديث زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن البراء قال‏:‏ ثم نزل فاستنصر وهو يقول‏:‏

‏(‏‏(‏اللهم نزل نصرك‏)‏‏)‏‏.‏

قال البراء‏:‏ ولقد كنا إذا حمي البأس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الشجاع الذي يحاذى به‏.‏

وروى البيهقي من طرق‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا ابن العواتك‏)‏‏)‏‏.‏ ‏‏

وقال الطبراني‏:‏ ثنا عباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا عمرو بن عوف الواسطي، ثنا هشيم، أنبا يحيى بن سعيد، عن عمرو بن سعيد بن العاص، عن شبابة، عن ابن عاصم السلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا ابن العواتك‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا عبد الله بن يوسف، أنبا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف، فقطعت الدرع وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت‏.‏

ثم أدركه الموت فأرسلني فلحقت عمر، فقلت‏:‏ ما بال الناس ‏؟‏

فقال‏:‏ أمر الله، ورجعوا وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه‏)‏‏)‏ فقمت فقلت‏:‏ من يشهد لي، ثم جلست‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله‏.‏

فقلت‏:‏ من يشهد لي ثم جلست‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله‏.‏

فقلت‏:‏ من يشهد لي، ثم جلست‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله، فقمت، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مالك يا أبا قتادة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فأخبرته، فقال رجل‏:‏ صدق سلبه عندي فأرضه مني‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ لاها الله، إذاً تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏صدق فأعطه‏)‏‏)‏ فأعطانيه فابتعت به مخرافاً في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام‏.‏

ورواه بقية الجماعة إلا النسائي من حديث يحيى بن سعيد به‏.‏

قال البخاري‏:‏ وقال الليث بن سعد، حدثني يحيى بن سعيد، عن عمرو بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد مولى أبي قتادة‏:‏ أن أبا قتادة قال‏:‏

لما كان يوم حنين نظرت إلي رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين، وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله، فأسرعت إلى الذي يختله فرفع يده ليضربني، فأضرب يده فقطعتها، ثم أخذني فضمني ضماً شديداً حتى تخوفت، ثم ترك فتحلل فدفعته ثم قتلته، وانهزم المسلمون فانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس فقلت له‏:‏ ما شأن الناس ‏؟‏

قال‏:‏ أمر الله، ثم تراجع الناس إلى رسول الله، فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏من أقام بينة على قتيل فله سلبه‏)‏‏)‏ فقمت لألتمس بينة على قتيلي، فلم أر أحداً يشهد لي فجلست، ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من جلسائه‏:‏ سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي فأرضه مني‏.‏ ‏

فقال أبو بكر‏:‏ كلا لا يعطيه أُضَيْبِع من قريش ويدع أسداً من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله‏.‏

قال‏:‏ فقام رسول الله فأداه إلي، فاشتريت به مخرافاً فكان أول مال تأثلته‏.‏

وقد رواه البخاري في مواضع أخر، ومسلم كلاهما عن قتيبة، عن الليث بن سعد به‏.‏

وقد تقدم من رواية نافع أبي غالب، عن أنس‏:‏ أن القائل لذلك عمر بن الخطاب، فلعله قاله متابعة لأبي بكر الصديق ومساعدة وموافقة له، أو قد اشتبه على الراوي، والله أعلم‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبا الحاكم، أنبا الأصم، أنبا أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبد الله‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين حين رأى من الناس ما رأى‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عباس ناد يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشجرة‏)‏‏)‏‏.‏

فأجابوه‏:‏ لبيك لبيك، فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك، فيقذف درعه عن عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ثم يؤم الصوت، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة، فاستعرض الناس فاقتتلوا‏.‏

وكانت الدعوة أول ما كانت للأنصار، ثم جعلت آخراً للخزرج وكانوا صبراً عند الحرب، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركايبه فنظر إلى مجتلد القوم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الآن حمي الوطيس‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما راجعه الناس إلا والأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتفون، فقتل الله منهم من قتل، وانهزم منهم من انهزم، وأفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أموالهم ونساءهم وأبناءهم‏.‏

وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة‏.‏

وذكر موسى بن عقبة في ‏(‏مغازيه‏)‏ عن الزهري‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه مكة، وأقر بها عينه، خرج إلى هوازن وخرج معه أهل مكة لم يغادر منهم أحداً، ركباناً ومشاة، حتى خرج النساء يمشين على غير دين نظاراً ينظرون، ويرجون الغنائم، ولا يكرهون مع ذلك أن تكون الصدمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏

قالوا‏:‏ وكان معه أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وكانت امرأته مسلمة وهو مشرك لم يفرق بينهما‏.‏

قالوا‏:‏ وكان رئيس المشركين يومئذ مالك بن عوف النصري، ومعه دريد بن الصمة يرعش من الكبر، ومعه النساء والذراري والنعم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد عيناً، فبات فيهم، فسمع مالك بن عوف يقول لأصحابه‏:‏

إذا أصبحتم فاحملوا عليهم حملة رجل واحد، واكسروا أغماد سيوفكم، واجعلوا مواشيكم صفاً ونساءكم صفاً، فلما أصبحوا اعتزل أبو سفيان وصفوان، وحكيم بن حزام وراءهم ينظرون لمن تكون الدائرة، وصف الناس بعضهم لبعض‏.‏ ‏

وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة له شهباء فاستقبل الصفوف، فأمرهم وحضهم على القتال، وبشرهم بالفتح - إن صبروا - فبينما هم كذلك إذ حمل المشركون على المسلمين حملة رجل واحد، فجال المسلمون جولة ثم ولوا مدبرين، فقال حارثة بن النعمان‏:‏ لقد حزرت من بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أدبر الناس فقلت‏:‏ مائة رجل‏.‏

قالوا‏:‏ ومر رجل من قريش بصفوان بن أمية فقال‏:‏ أبشر بهزيمة محمد وأصحابه، فوالله لا يجتبرونها أبداً، فقال له صفوان‏:‏ تبشرني بظهور الأعراب، فوالله لربٌّ من قريش أحب إلي من ربٍّ من الأعراب، وغضب صفوان لذلك‏.‏

قال عروة‏:‏ وبعث صفوان غلاماً له فقال‏:‏ اسمع لمن الشعار‏؟‏ فجاءه فقال‏:‏ سمعتهم يقولون‏:‏ يا بني عبد الرحمن، يا بني عبد الله، يا بني عبيد الله، فقال‏:‏ ظهر محمد، وكان ذلك شعارهم في الحرب‏.‏

قالوا‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غشيه القتال قام في الركابين، وهو على البغلة، فرفع يديه إلى الله يدعوه يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أنشدك ما وعدتني، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا‏)‏‏)‏‏.‏

ونادى أصحابه وزمرهم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أصحاب البيعة يوم الحديبية ‏!‏ الله الله الكرة على نبيكم‏)‏‏)‏‏.‏

ويقال‏:‏ حرضهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أنصار الله وأنصار رسوله يا بني الخزرج، يا أصحاب سورة البقرة‏)‏‏)‏ وأمر من أصحابه من ينادي بذلك، قالوا‏:‏ وقبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين ونواصيهم كلها، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏شاهت الوجوه‏)‏‏)‏‏.‏

وأقبل أصحابه إليه سراعاً يبتدرون، وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الآن حمي الوطيس‏)‏‏)‏ فهزم الله أعداءه من كل ناحية حصبهم منها، وأتبعهم المسلمون يقتلونهم وغنمهم الله نساءهم وذراريهم‏.‏

وفر مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف هو وأناس من أشراف قومه، وأسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة حين رأوا نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وإعزازه دينه‏.‏

رواه البيهقي‏:‏ وقال ابن وهب‏:‏ أخبرني يونس، عن الزهري، أخبرني كثير بن العباس بن عبد المطلب قال‏:‏ قال العباس‏:‏ شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث لا نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى الناس ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار‏.‏

قال العباس‏:‏ وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أي عباس ناد أصحاب السمرة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوالله لكأنما عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا‏:‏ يا لبيكاه يا لبيكاه‏.‏

قال‏:‏ فاقتتلوا هم والكفار والدعوة في الأنصار وهم يقولون‏:‏ يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا‏:‏ يا بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا حين حمي الوطيس‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أخذ حصيات فرمى بهن في وجوه الكفار، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏انهزموا ورب محمد‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال‏:‏ فوالله ما هو إلا أن رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلاً، وأمرهم مدبراً‏.‏

ورواه مسلم‏:‏ عن أبي الطاهر، عن ابن وهب به نحوه‏.‏

ورواه أيضاً عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري نحوه‏.‏

وروى مسلم من حديث عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال‏:‏ غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، فلما واجهنا العدو تقدمت فأعلو ثنية، فاستقبلني رجل من المشركين فأرميه بسهم، وتوارى عني فما دريت ما صنع‏.‏

ثم نظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى فالتقوا هم وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرجع منهزماً، وعليَّ بردتان متزراً بإحداهما مرتدياً بالأخرى‏.‏

قال‏:‏ فاستطلق إزاري فجمعتها جمعاً، ومررت على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا منهزم وهو على بغلته الشهباء، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد رأى ابن الأكوع فزعاً‏)‏‏)‏‏.‏

فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض واستقبل به وجوههم، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏شاهت الوجوه‏)‏‏)‏ فما خلى الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً من تلك القبضة، فولوا مدبرين فهزمهم الله، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي في‏(‏مسنده‏)‏‏:‏ ثنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن عبد الله بن يسار، عن أبي عبد الرحمن الفهري، قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين، فسرنا في يوم قايظ شديد الحر، فنزلنا تحت ظلال السمر، فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فسطاطه فقلت‏:‏ السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، قد حان الرواح يا رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجل‏)‏‏)‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا بلال‏)‏‏)‏ فثار من تحت سمرة كأن ظله ظل طائر، فقال‏:‏ لبيك وسعديك وأنا فداؤك ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أسرج لي فرسي‏)‏‏)‏ فأتاه بدفتين من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر‏.‏

قال‏:‏ فركب فرسه، فسرنا يومنا فلقينا العدو وتسامت الخيلان فقاتلناهم، فولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله‏)‏‏)‏ واقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه‏.‏

وحدثني من كان أقرب إليه مني أنه أخذ حفنة من التراب فحثى بها وجوه العدو وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏شاهت الوجوه‏)‏‏)‏‏.‏

قال يعلى بن عطاء‏:‏ فحدثنا أبناؤهم عن أبائهم قالوا‏:‏ ما بقي أحد إلا امتلأت عيناه وفمه من التراب، وسمعنا صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست الحديد، فهزمهم الله عز وجل‏.‏

ورواه أبو داود السجستاني في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة به نحوه‏.‏ ‏‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عفان، ثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا الحارث بن حصين، ثنا القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال‏:‏ قال عبد الله بن مسعود‏:‏

كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس، وثبت معه ثمانون رجلاً من المهاجرين والأنصار، فنكصنا على أعقابنا نحواً من ثمانين قدماً ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة‏.‏

قال‏:‏ ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته يمضي قدماً، فحادت به بغلته فمال عن السرج، فقلت له‏:‏ ارتفع رفعك الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ناولني كفاً من تراب‏)‏‏)‏ فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم تراباً قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أين المهاجرين والأنصار ‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ هم أولاء، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اهتف بهم‏)‏‏)‏ فهتفت بهم فجاؤوا سيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، وولى المشركون أدبارهم‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الحسين محمد بن أحمد بن تميم القنطري، ثنا أبو قلابة، ثنا أبو عاصم، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، أخبرني عبد الله بن عياض بن الحارث الأنصاري، عن أبيه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى هوازن في اثني عشر ألفاً، فقتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر‏.‏

قال‏:‏ وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاً من حصى، فرمى بها في وجوهنا فانهزمنا‏.‏

ورواه البخاري في‏(‏تاريخه‏)‏ ولم ينسب عياضاً‏.‏

وقال مسدد‏:‏ ثنا جعفر بن سليمان، ثنا عوف بن عبد الرحمن، مولى أم برثن، عمن شهد حنيناً كافراً قال‏:‏

لما التقينا نحن ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقوموا لنا حلب شاة، فجئنا نهش سيوفنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذ غشيناه، فإذا بيننا وبينه رجال حسان الوجوه فقالوا‏:‏ شاهت الوجوه فارجعوا، فهزمنا من ذلك الكلام‏.‏

رواه البيهقي‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا أبو سفيان، ثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن إبراهيم، ثنا الوليد بن مسلم، حدثني محمد بن عبد الله الشعبي، عن الحارث بن بدل النصري، عن رجل من قومه شهد ذلك يوم حنين وعمرو بن سفيان الثقفي قالا‏:‏ انهزم المسلمون يوم حنين فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عباس وأبو سفيان بن الحارث‏.‏

قال‏:‏ فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من الحصباء فرمى بها في وجوههم‏.‏

قال‏:‏ فانهزمنا فما خيل إلينا إلا أن كل حجر أو شجر فارس يطلبنا‏.‏

قال الثقفي‏:‏ فأعجزت على فرسي حتى دخلت الطائف‏.‏

وروى يونس بن بكير في ‏(‏مغازيه‏)‏ عن يوسف بن صهيب بن عبد الله أنه لم يبق مع رسول الله يوم حنين إلا رجل واحد اسمه زيد‏.‏

وروى البيهقي من طريق الكديمي، ثنا موسى بن مسعود، ثنا سعيد بن السائب بن يسار الطائفي، عن السائب بن يسار، عن يزيد بن عامر السوائي أنه قال‏:‏ عند انكشافة انكشفها المسلمون يوم حنين، فتبعهم الكفار وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من الأرض، ثم أقبل على المشركين فرمى بها وجوههم، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارجعوا شاهت الوجوه‏)‏‏)‏ فما أحد يلقى أخاه إلا وهو يشكو قذى في عينيه‏.‏

ثم روى من طريقين آخرين عن أبي حذيفة‏:‏ ثنا سعيد بن السائب بن يسار الطائفي، حدثني أبي السائب بن يسار سمعت يزيد بن عامر السوائي - وكان شهد حنيناً مع المشركين ثم أسلم بعد - قال‏:‏ فنحن نسأله عن الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين يوم حنين كيف كان ‏؟‏

قال‏:‏ فكان يأخذ لنا بحصاة فيرمي بها في الطست فيطن، قال‏:‏ كنا نجد في أجوافنا مثل هذا‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبا أبو عبد الله الحافظ، ومحمد بن موسى بن الفضل قالا‏:‏ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد قال‏:‏ حدثنا محمد بن بكير الحضرمي، ثنا أيوب بن جابر، عن صدقة بن سعيد، عن مصعب بن شيبة، عن أبيه قال‏:‏

خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به، ولكن أبيت أن تظهر هوازن على قريش فقلت وأنا واقف معه‏:‏ يا رسول الله إني أرى خيلاً بلقاً، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر‏)‏‏)‏ فضرب يده في صدري ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهد شيبة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ضربها الثانية فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهد شيبة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ضربها الثالثة ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهد شيبة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إلي منه‏.‏

ثم ذكر الحديث في التقاء الناس، وانهزام المسلمين ونداء العباس، واستنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى هزم الله المشركين‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو محمد أحمد عبد الله المزني، ثنا يوسف بن موسى، ثنا هشام بن خالد، ثنا الوليد بن مسلم‏:‏ حدثني عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن شيبة بن عثمان قال‏:‏

لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قد عري‏:‏ ذكرت أبى وعمي وقتل علي وحمزة إياهما فقلت‏:‏ اليوم أدرك ثأري من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ فذهبت لأجيئه عن يمينه فإذا بالعباس بن عبد المطلب قائم عليه درع بيضاء كأنها فضة، ينكشف عنها العجاج، فقلت‏:‏ عمه ولن يخذله‏.‏

قال‏:‏ ثم جئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فقلت‏:‏ ابن عمه ولن يخذله‏.‏

قال‏:‏ ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أن أساوره سورة بالسيف إذ رفع شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق، فخفت أن يمحشني، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا شيب ادن مني، اللهم أذهب عنه الشيطان‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فرفعت إليه بصري ولهو أحب إلي من سمعي وبصري، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا شيب قاتل الكفار‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار قلت‏:‏ اليوم أدرك ثأري من محمد - وكان أبوه قد قتل يوم أحد - اليوم أقتل محمداً‏.‏ ‏

قال‏:‏ فأدرت برسول الله صلى الله عليه وسلم لأقتله فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي، فلم أطق ذاك، وعلمت أنه ممنوع مني‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ وحدثني والدي إسحاق بن يسار عمن حدثه، عن جبير بن مطعم قال‏:‏ إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين والناس يقتتلون إذا نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء، حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة‏.‏

ورواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق به‏.‏

وزاد فقال خديج بن العوجا النصري - يعني في ذلك -‏:‏

ولما دنونا من حنين ومائه * رأينا سواداً منكر اللون أخصفا

بملمومة شهباء لو قذفوا بها * شماريخ من عروى إذا عاد صفصفا

ولو أن قومي طاوعتني سراتهم * إذا ما لقينا العارض المتكشفا

إذاً ما لقينا جند آل محمد * ثمانين ألفاً واستمدوا بخندفا

وقد ذكر ابن إسحاق من شعر مالك بن عوف النصري رئيس هوازن يوم القتال، وهو في حومة الوغا يرتجز ويقول‏:‏

أقدم مجاج إنه يوم نكر * مثلي على مثلك يحمي ويكر

إذا أضيع الصف يوماً والدبر * ثم احزالت زمر بعد زمر

كتائب يكل فيهن البصر * قد أطعن الطعنة تقدي بالسبر

حين يذم المستكن المنحجر * وأطعن النجلاء تعوي وتهر

لها من الجوف رشاش منهمر * تفهق تارات وحينا تنفجر

وثعلب العامل فيها منكسر * يا زين يا ابن همهم أين تفر

قد أنفذ الضرس وقد طال العمر * قد علم البيض الطويلات الخمر

إني في أمثالها غير غمر * إذ تخرج الحاصن من تحت الستر

وذكر البيهقي من طريق يونس بن بكير، عن أبي إسحاق أنه أنشد من شعر مالك أيضاً حين ولى أصحابه منهزمين، وذلك قوله بعد ما أسلم وقيل هي لغيره‏:

أذكر مسيرهم والناس كلهم * ومالك فوقه الرايات تختفق

ومالك مالك ما فوقه أحد * يوم حنين عليه التاج يأتلق

حتى لقوا الناس حين البأس يقدمهم * عليهم البيض والأبدان والدرق

فضاربوا الناس حتى لم يروا أحداً * حول النبي وحتى جنه الغسق

حتى تنزل جبريل بنصرهم * فالقوم منهزم منا ومعتلق

منا ولو غير جبريل يقاتلنا * لمنعتنا إذاً أسيافنا الفلق

وقد وفى عمر الفاروق إذ هزموا * بطعنة كان منها سرجه العلق

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما هزم المشركون وأمكن الله رسوله منهم قالت امرأة من المسلمين‏:‏

قد غلبت خيل الله خيل اللات * والله أحق بالثبات

قال ابن هشام‏:‏ وقد أنشدنيه بعض أهل الرواية للشعر‏:‏

قد غلبت خيل الله خيل اللات * وخيله أحق بالثبات

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف في بني مالك، فقتل منهم سبعون رجلاً تحت رايتهم، وكانت مع ذي الخمار، فلما قتل أخذها عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب فقاتل بها حتى قتل، فأخبرني عامر بن وهب بن الأسود‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتله قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبعده الله فإنه كان يبغض قريشاً‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة أنه قتل مع عثمان هذا غلام له نصراني، فجاء رجل من الأنصار ليسلبه، فإذا هو أغرل فصاح بأعلى صوته‏:‏ يا معشر العرب إن ثقيفاً غرل‏.‏

قال المغيرة بن شعبة الثقفي‏:‏ فأخذت بيده وخشيت أن تذهب عنا في العرب، فقلت‏:‏ لا تقل كذلك فداك أبي وأمي إنما هو غلام لنا نصراني، ثم جعلت أكشف له القتلى فأقول له‏:‏ ألا تراهم مختتنين كما ترى ‏؟‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانت راية الأحلاف مع قارب بن الأسود، فلما انهزم الناس أسند رايته إلى شجرة وهرب هو وبنو عمه وقومه، فلم يقتل من الأحلاف غير رجلين؛ رجل من بني غيرة يقال له وهب، ورجل من بني كبة يقال له الجلاح‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه قتل الجلاح‏:‏ ‏(‏‏(‏قتل اليوم سيد شباب ثقيف إلا ما كان من ابن هنيدة‏)‏‏)‏ يعني الحارث بن أويس‏.‏ ‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فقال العباس بن مرداس يذكر قارب بن الأسود، وفراره من بني أبيه، وذا الخمار وحبسه نفسه وقومه للموت‏:‏

ألا من مبلغ غيلان عني * وسوف أخال يأتيه الخبير

وعروة إنما أهدى جواباً * وقولاً غير قولكما يسير

بأن محمداً عبد رسول * لرب لا يضل ولا يجور

وجدناه نبياً مثل موسى * فكل فتى بخايره مخير

وبئس الأمر أمر بني قسي * بوج إذا تقسمت الأمور

أضاعوا أمرهم ولكل قومٍ * أمير والدوائر قد تدور

فجئنا أسد غابات إليهم * جنود الله ضاحية تسير

نؤم الجمع جمع بني قسي * على حنق نكاد له نطير

وأقسم لو هموا مكثوا لسرنا * إليهم بالجنود ولم يغوروا

فكنا أسدلية ثم حتى * أبحناها وأسلمت النصور

ويوم كان قبل لدى حنين * فأقلع والدماء به تمور

من الأيام لم تسمع كيوم * ولم يسمع به قوم ذكور

قتلنا في الغبار بني حطيط * على راياتها والخيل زور

ولم يك ذو الخمار رئيس قوم * لهم عقل يعاقب أو نكير

أقام بهم على سنن المنايا * وقد بانت لمبصرها الأمور

فأفلت من نجا منهم حريضاً * وقتل منهم بشر كثير

ولا يغني الأمور أخو التواني * ولا الغلق الصريرة الحصور

أحانهم وحان وملكوه * أمورهم وأفلتت الصقور

بنو عوف يميح بهم جياد * أهين لها الفصافص والشعير

فلولا قارب وبنو أبيه * تقسمت المزارع والقصور

ولكن الرياسة عمموها * على يمن أشار به المشير

أطاعوا قارباً ولهم جدود * وأحلام إلى عز تصير

فإن يهدوا إلى الإسلام يلفوا * أنوف الناس ما سمر السمير

فإن لم يسلموا فهموا أذان * بحرب الله ليس لهم نصير

كما حكمت بني سعد وجرت * برهط بني غزية عنقفير

كأن بني معاوية بن بكر * إلى الإسلام ضائنة تخور

فقلنا أسلموا أنا أخوكم * وقد برأت من الإحن الصدور

كأن القوم إذ جاؤوا إلينا * من البغضاء بعد السلم عور

فصل هزيمة هوازن‏.‏

ولما انهزمت هوازن وقف ملكهم مالك بن عوف النصري على ثنية مع طائفة من أصحابه فقال‏:‏ قفوا حتى تجوز ضعفاؤكم وتلحق أخراكم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فبلغني أن خيلاً طلعت ومالك وأصحابه على الثنية، فقال لأصحابه‏:‏ ماذا ترون ‏؟‏

قالوا‏:‏ نرى قوماً واضعي رماحهم بين آذان خيلهم، طويلة بوادهم، فقال‏:‏ هؤلاء بنو سليم ولا بأس عليكم منهم، فلما أقبلوا سلكوا بطن الوادي، ثم طلعت خيل أخرى تتبعها فقال لأصحابه‏:‏ ماذا ترون ‏؟‏

قالوا‏:‏ نرى قوماً عارضي رماحهم أغفالاً على خيلهم، فقال‏:‏ هؤلاء الأوس والخزرج، ولا بأس عليكم منهم‏.‏

فلما انتهوا إلى أصل الثنية سلكوا طريق بني سليم، ثم طلع فارس فقال لأصحابه‏:‏ ماذا ترون ‏؟‏

فقالوا‏:‏ نرى فارساً طويل الباد واضعاً رمحه على عاتقه، عاصباً رأسه بملاءة حمراء‏.‏

قال‏:‏ هذا الزبير بن العوام، وأقسم باللات ليخالطنكم فاثبتوا له، فلما انتهى الزبير إلى أصل الثنية أبصر القوم فصمد لهم، فلم يزل يطاعنهم حتى أزاحهم عنها‏.‏

 

 

 فصل

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغنائم فجمعت من الإبل والغنم والرقيق، وأمر أن تساق إلى الجعرانة فتحبس هناك‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الغنائم مسعود بن عمرو الغفاري‏.‏

 فصل

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني بعض أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر يومئذ بامرأة قتلها خالد بن الوليد والناس متقصفون عليها، فقال لبعض أصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏أدرك خالداً فقل له‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاك أن تقتل وليداً أو امرأة أو عسيفاً‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا رواه ابن إسحاق منقطعاً‏.

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، ثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، حدثني المرقع بن صيفي، عن جده رباح بن ربيع أخي بني حنظلة الكاتب أنه أخبره‏:‏

أنه رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فمر رباح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها ويتعجبون من خلقها حتى لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما كانت هذه لتقاتل‏)‏‏)‏

فقال لأحدهم‏:‏ ‏(‏‏(‏الحق خالداً فقل له‏:‏ لا يقتلن ذرية ولا عسيفاً‏)‏‏)‏

وكذلك رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث المرقع بن صيفي به نحوه‏.‏

 غزوة أوطاس

وكان سببها أن هوازن لما انهزمت ذهبت فرقة منهم فيهم الرئيس مالك بن عوف النصري، فلجأوا إلى الطائف فتحصنوا بها، وسارت فرقة فعسكروا بمكان يقال له أوطاس، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من أصحابه عليهم أبو عامر الأشعري فقاتلوهم فغلبوهم‏.‏

ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة، فحاصر أهل الطائف كما سيأتي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما انهزم المشركون يوم حنين أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم إلى نخلة، ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف، وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك الثنايا‏.‏

قال‏:‏ فأدرك ربيعة بن رفيع بن أهان السلمي ويعرف بابن الدغنة - وهي أمه - دريد بن الصمة فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة، وذلك أنه في شجار لهم، فإذا برجل فأناخ به، فإذا شيخ كبير، وإذا دريد بن الصمة ولا يعرفه الغلام، فقال له دريد‏:‏ ماذا تريد بي ‏؟‏

قال‏:‏ أقتلك‏.‏

قال‏:‏ ومن أنت ‏؟‏

قال‏:‏ أنا ربيعة بن رفيع السلمي، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئاً‏.‏

قال‏:‏ بئس ما سلحتك أمك ‏!‏ خذ سيفي هذا من مؤخر رحلي في الشجار، ثم اضرب به، وارفع عن العظام، واخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أضرب الرجال‏.‏

ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلك دريد بن الصمة، قرب والله يوم منعت فيه نساءك، فزعم بنو سليم أن ربيعة قال‏:‏ لما ضربته فوقع تكشف، فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القراطيس من ركوب الخيل أعراء‏.‏ ‏

فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه، فقالت‏:‏ أما والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثاً‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق ما رثت به عمرة بنت دريد أباها، فمن ذلك قولها‏:‏

قالوا قتلنا دريداً قلت قد صدقوا * فظل دمعي على السربال منحدر

لولا الذي قهر الأقوام كلهم * رأت سليم وكعب كيف يأتمر

إذن لصبحهم غباً وظاهرة * حيث استقرت نواهم جحفل ذفر

قال ابن إسحاق‏:‏ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعري، فأدرك من الناس بعض من انهزم، فناوشوه القتال، فرمى أبو عامر فقتل، فأخذ الراية أبو موسى الأشعري وهو ابن عمه، فقاتلهم ففتح الله عليه وهزمهم الله عز وجل‏.‏

ويزعمون أن سلمة بن دريد هو الذي رمى أبا عامر الأشعري بسهم فأصاب ركبته فقتله، وقال‏:‏

إن تسألوا عني فإني سلمه * ابن سمادير لمن توسمه

أضرب بالسيف رؤوس المسلمه

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني من أثق به من أهل العلم بالشعر وحديثه‏:‏ أن أبا عامر الأشعري لقي يوم أوطاس عشرة أخوة من المشركين، فحمل عليه أحدهم، فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول‏:‏ اللهم اشهد عليه فقتله أبو عامر، ثم حمل عليه آخر، فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول‏:‏ اللهم اشهد عليه، فقتله أبو عامر‏.‏

ثم جعلوا يحملون عليه وهو يقول ذلك، حتى قتل تسعة وبقي العاشر، فحمل على أبي عامر، وحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول‏:‏ اللهم اشهد عليه‏.‏

فقال الرجل‏:‏ اللهم لا تشهد عليَّ، فكف عنه أبو عامر فأفلت، فأسلم بعد فحسن إسلامه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا شريد أبي عامر‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ورمى أبا عامر؛ أخوان‏:‏ العلاء وأوفى ابنا الحارث، من بني جشم بن معاوية، فأصاب أحدهما قلبه، والآخر ركبته فقتلاه، وولى الناس أبا موسى، فحمل عليهما فقتلهما، فقال رجل من بني جشم بن معاوية يرثيهما‏:‏

إن الرزية قتل العلا * ء وأوفى جميعاً ولم يسندا

هما القاتلان أبا عامر * وقد كان داهية أربدا

هما تركاه لدى معرك * كأن على عطفه مجسدا

فلم ير في الناس مثليهما * أقل عثاراً وأرمى يدا

وقال البخاري‏:‏ ثنا محمد بن العلاء، وحدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال‏:‏ لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد وهزم الله أصحابه‏.‏

قال أبو موسى‏:‏ وبعثني مع أبي عامر، فرمى أبو عامر في ركبته، رماه جشمي بسهم فأثبته في ركبته‏.‏

قال‏:‏ فانتهيت إليه فقلت‏:‏ يا عم من رماك ‏؟‏

فأشار إلى أبي موسى فقال‏:‏ ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدت له فلحقته، فلما رآني ولى، فاتبعته وجعلت أقول له‏:‏ ألا تستحي ألا تثبت ‏؟‏

فكف فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت لأبي عامر‏:‏ قتل الله صاحبك‏.‏

قال‏:‏ فانتزع هذا السهم، فنزعته فنزا منه الماء‏.‏

قال‏:‏ يا ابن أخي أقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، وقل له‏:‏ استغفر لي، واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيراً ثم مات، فرجعت فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته على سرير مرمل وعليه فراش قد أثر رمال السرير بظهره وجنبيه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقوله‏:‏ قل له استغفر لي‏.‏

قال‏:‏ فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اغفر لعبيد أبي عامر‏)‏‏)‏ ورأيت بياض إبطيه ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك - أو من الناس‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ ولي فاستغفر‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو بردة‏:‏ إحداهما لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى رضي الله عنهما‏.‏

ورواه مسلم، عن أبي كريب محمد بن العلاء، وعبد الله بن أبي براد، عن أبي أسامة به نحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أنبا سفيان - وهو الثوري - عن عثمان البتي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ أصبنا نساء من سبي أوطاس ولهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فاستحللنا بها فروجهن‏.‏

وهكذا رواه الترمذي، والنسائي من حديث عثمان البتي به‏.‏

وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث شعبة، عن قتادة عن، أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري‏.‏ ‏

وقد رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة، زاد مسلم، وشعبة، والترمذي من حديث همام، عن يحيى ثلاثتهم عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد‏:‏

أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج من أهل الشرك، فكان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن، فنزلت هذه الآية في ذلك‏:‏ ‏{‏والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم‏}

وهذا لفظ أحمد بن حنبل، فزاد في هذا الإسناد أبا علقمة الهاشمي وهو ثقة، وكان هذا هو المحفوظ، والله أعلم‏.‏

وقد استدل جماعة من السلف بهذه الآية الكريمة على أن بيع الأمة طلاقها‏.‏

روى ذلك عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري وخالفهم الجمهور مستدلين بحديث بريرة حيث بيعت، ثم خيرت في فسخ نكاحها أو إبقائه، فلو كان بيعها طلاقها لها لما خيرت‏.‏

وقد تقصينا الكلام على ذلك في التفسير بما فيه كفاية وسنذكره إن شاء الله في ‏(‏الأحكام الكبير‏)‏، وقد استدل جماعة من السلف على إباحة الأمة المشركة بهذا الحديث في سبايا أوطاس، وخالفهم الجمهور وقالوا‏:‏ هذه قضية عين، فلعلهن أسلمن أو كن كتابيات، وموضع تقرير ذلك في ‏(‏الأحكام الكبير‏)‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

 من استشهد يوم حنين وأوطاس

أيمن ابن أم أيمن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أيمن بن عبيد‏.‏

وزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد جمح به فرسه الذي يقال له الجناح فمات‏.‏

وسراقة بن مالك بن الحارث بن عدي الأنصاري من بني العجلان‏.‏

وأبو عامر الأشعري أمير سرية أوطاس‏.‏

فهؤلاء أربعة رضي الله عنهم‏.‏

 ما قيل من الأشعار في غزوة هوازن

فمن ذلك قول بجير بن زهير بن أبي سلمى‏:‏

لولا الإله وعيده وليتم * حين استخف الرعب كل جبان

بالجزع يوم حبالنا أقراننا * وسوابح يكبون للأذقان

من بين ساع ثوبه في كفه * ومقطر بسنانك وثبان

والله أكرمنا وأظهر ديننا * وأعزنا بعبادة الرحمن

والله أهلكهم وفرق جمعهم * وأذلهم بعبادة الشيطان

قال ابن هشام‏:‏ ويروى فيها بعض الرواة‏:‏

إذ قام عم نبيكم ووليه * يدعون‏:‏ بالكتيبة الإيمان

أين الذين هم أجابوا ربهم * يوم العريض وبيعة الرضوان

وقال عباس بن مرداس السلمي‏:‏

فإني والسوابح يوم جمع *وما يتلو الرسول من الكتاب

لقد أحببت ما لقيت ثقيف * بجنب الشعب أمس من العذاب

هم رأس العدو من أهل نجد * فقتلهم ألذ من الشراب

هزمنا الجمع جمع بني قسي * وحلت بركها ببني رئاب

وصرماً من هلال غادرتهم * بأوطاس تعفر بالتراب

ولو لاقين جمع بني كلاب * لقام نساؤهم والنقع كابي

ركضنا الخيل فيهم بين بس * إلى الأورال تنحط بالتهاب

بذي لجب رسول الله فيهم * كتيبته تعرض للضراب

وقال عباس بن مرداس أيضاً‏:‏

يا خاتم النباء إنك مرسل * بالحق كل هدى السبيل هداكا

إن الإله بنى عليك محبة * في خلقه ومحمداً سماكا

ثم الذين وفوا بما عاهدتهم * جند بعثت عليهم الضحاكا

رجلاً به درب السلاح كأنه * لما تكنفه العدو يراكا

يغشى ذوي النسب القريب وإنما * يبغي رضا الرحمن ثم رضاكا

أنبئك أني قد رأيت مكره * تحت العجاجة يدمغ الإشراكا

طوراً يعانق باليدين وتارة * يفري الجماجم صارماً فتاكا

يغشى به هام الكماة ولو ترى * منه الذي عاينت كان شفاكا

وبنو سليم معنقون أمامه * ضرباً وطعناً في العدو دراكا

يمشون تحت لوائه وكأنهم * أسد العرين أردن ثم عراكا

ما يرتجون من القريب قرابة * إلا لطاعة ربهم وهواكا

هذي مشاهدنا التي كانت لنا * معروفة وولينا مولاكا

وقال عباس بن مرداس أيضاً‏:‏

عفا مجدل من أهله فمتالع *فمطلاً أريك قد خلا فالمصانع

ديار لنا يا جمل إذ جل عيشنا * رخي وصرف الدهر للحي جامع

حبيبة ألوت بها غربة النوى * لبين فهل ماض من العيش راجع

فإن تبتغي الكفار غير ملومة * فإني وزير للنبي وتابع

دعانا إليه خير وفد علمتهم * خزيمة والمرار منهم وواسع

فجئنا بألف من سليم عليهم * لبوس لهم من نسج داود رائع

نبايعه بالأخشبين وإنما * يد الله بين الأخشبين نبايع

فجسنا مع المهدي مكة عنوة * بأسيافنا والنقع كاب وساطع

علانية والخيل يغشى متونها * حميم وآن من دم الجوف ناقع

ويوم حنين حين سارت هوازن * إلينا وضاقت بالنفوس الأضالع

صبرنا مع الضحاك لا يستفزنا * قراع الأعادي منهم والوقائع

أمام رسول الله يخفق فوقنا * لواء كخذروف السحابة لامع

عشية ضحاك بن سفيان معتص * بسيف رسول الله والموت كانع

نذود أخانا عن أخينا ولو نرى * مصالاً لكنا الأقربين نتابع

ولكن دين الله، دين محمد * رضينا به فيه الهدى والشرائع

أقام به بعد الضلالة أمرنا * وليس لأمر حمه الله دافع

وقال عباس أيضاً‏:‏

تقطع باقي وصل أم مؤمل * بعاقبة واستبدلت نية خلفا

وقد حلفت بالله لا تقطع القوى * فما صدقت فيه ولا برت الحلفا

خفافية بطن العقيق مصيفها * وتحتل في البادين وجرة فالعرفا

فإن تتبع الكفار أم مؤمل * فقد زودت قلبي على نأيها شغفا

وسوف ينبئها الخبير بأننا * أبينا ولم نطلب سوى ربنا حلفا

وأنا مع الهادي النبي محمد * وفينا ولم يستوفها معشر ألفا

بفتيان صدق من سليم أعزة * أطاعوا فما يعصون من أمره حرفا

خفاف وذكوان وعوف تخالهم * مصاعب زافت في طروقتها كلفا

كأن نسيج الشهب والبيض ملبس * أسوداً تلاقت في مراصدها غضفا

بنا عز دين الله غير تنحل * وزدنا على الحي الذي معه ضعفا

بمكة إذ جئنا كأن لواءنا * عقاب أرادت بعد تحليقها خطفا

على شخص الأبصار تحسب بينها * إذا هي جالت في مراودها عزفا

غداة وطئنا المشركين ولم نجد * لأمر رسول الله عدلاً ولا صرفا

بمعترك لا يسمع القوم وسطه * لنا زحمة إلا التذامر والنقفا

ببيض تطير الهام عن مستقرها * وتقطف أعناق الكماة بها قطفا

فكائن تركنا من قتيل ملحب * وأرملة تدعو على بعلها لهفا

رضا الله ننوي لا رضا الناس نبتغي * ولله ما يبدو جميعاً وما يخفى

وقال عباس أيضاً رضي الله عنه‏:‏

ما بال عينك فيها عائر سهر * مثل الحماطة أغضى فوقها الشُّفُر

عين تأوَّبها من شجوها أرق * فالماء يغمرها طوراً وينحدر

كأنه نظم در عند ناظمه * تقطع السلك منه فهو منتثر

يا بعد منزل من ترجو مودته * ومن أتى دونه الصمان فالحفر

دع ما تقدم من عهد الشباب فقد * ولى الشباب وزار الشيب والزعر

واذكر بلاء سليم في مواطنها * وفي سليم لأهل الفخر مفتخر

قوم هموا نصروا الرحمن واتبعوا * دين الرسول وأمر الناس مشتجر

لا يغرسون فسيل النخل وسطهم * ولا تخاور في مشتاهم البقر

إلا سوابح كالعقبان مقربة * في دارة حولها الأخطار والعكر

تدعى خفاف وعوف في جوانبها * وحي ذكوان لا ميل ولا ضجر

الضاربون جنود الشرك ضاحية * ببطن مكة والأرواح تبتدر

حتى رفعنا وقتلاهم كأنهم * نخل بظاهرة البطحاء منقعر

ونحن يوم حنين كان مشهدنا * للدين عزاً وعند الله مدخر

إذ نركب الموت مخضراً بطائنه * والخيل ينجاب عنها ساطع كدر

تحت اللواء مع الضحاك يقدمنا * كما مشى الليث في غاباته الخدر

في مأزق من مجر الحرب كلكلُها * تكاد تأفل منه الشمس والقمر

وقد صبرنا بأوطاس أسنتنا * لله ننصر من شئنا وننتصر

حتى تأوب أقوام منازلهم * لولا المليك ولولا نحن ما صدروا

فما ترى معشرا قلوا ولا كثروا * إلا وقد أصبح منا فيهم أثر

وقال عباس أيضاً رضي الله عنه‏:‏

يا أيها الرجل الذي تهوي به * وجناء مجمرة المناسم عرمس

إما أتيت على النبي فقل له * حقاً عليك إذا اطمأن المجلس

يا خير من ركب المطي ومن مشى * فوق التراب إذا تعد الأنفس

إنا وفينا بالذي عاهدتنا * والخيل تقدع بالكماة وتضرس

إذ سال من أفناء بهثة كلها * جمع تظل به المخارم ترجس

حتى صبحنا أهل مكة فيلقاً * شهباء يقدمها الهمام الأشوس

من كل أغلب من سليم فوقه * بيضاء محكمة الدخال وقونس

يروي القناة إذا تجاسر في الوغى * ونخاله أسداً إذا ما يعبس

يغشى الكتيبة معلما وبكفه * عضب يقد به ولدن مدعس

وعلى حنين قد وفى من جمعنا * ألف أمد به الرسول عرندس

كانوا أمام المؤمنين دريئة * والشمس يومئذ عليهم أشمس

نمضي ويحرسنا الإله بحفظه * والله ليس بضائع من يحرس

ولقد حبسنا بالمناقب محبساً * رضي الإله به فنعم المحبس

وغداة أوطاس شددنا شدة * كفت العدو وقيل منها يا احبسوا

تدعو هوازن بالأخوة بيننا * ثدي تمد به هوازن أيبس

حتى تركنا جمعهم وكأنه * عير تعاقبه السباع مفرس

وقال أيضاً رضي الله عنه‏:‏

من مبلغ الأقوام أن محمداً * رسول الإله راشد حيث يمما

دعا ربه واستنصر الله وحده * فأصبح قد وفى إليه وأنعما

سرينا وواعدنا قديداً محمداً * يؤم بنا أمراً من الله محكما

تماروا بنا في الفجر حتى تبينوا * مع الفجر فتياناً وغاباً مقوما

على الخيل مشدوداً علينا دروعنا * ورجلاً كدفاع الأتي عرمرما

فإن سراة الحي إن كنت سائلا * سليم وفيهم منهم من تسلما

وجند من الأنصار لا يخذلونه * أطاعوا فما يعصونه ما تكلما

فإن تك قد أمرت في القوم خالداً * وقدمته فإنه قد تقدما

بجند هداه الله أنت أميره * تصيب به في الحق من كان أظلما

حلفت يمينا برة لمحمد * فأكملتها ألفاً من الخيل ملجما

وقال نبي المؤمنين تقدموا * وحب إلينا أن نكون المقدما

وبتنا بنهي المستدير ولم يكن * بنا الخوف إلا رغبة وتحزما

أطعناك حتى أسلم الناس كلهم * وحتى صبحنا الجمع أهل يلملما

يظل الحصان الأبلق الورد وسطه * ولا يطمئن الشيخ حتى يسوما

سمونا لهم ورد القطا زفه ضحى * وكلٌ تراه عن أخيه قد أحجما

لدن غدوة حتى تركنا عشية * حنينا وقد سالت دوامعه دما

إذا شئت من كل رأيت طمرة * وفارسها يهوي ورمحا محطما

وقد أحرزت منا هوازن سربها * وحب إليها أن نخيب ونحرما

هكذا أورد الإمام أحمد بن إسحاق هذه القصائد من شعر عباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه، وقد تركنا بعض ما أورده من القصائد خشية الإطالة وخوف الملالة ثم أورد من شعر غيره أيضاً وقد حصل فيه كفاية من ذلك، والله أعلم‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

 غزوة الطائف

قال عروة وموسى بن عقبة عن الزهري‏:‏ قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وحاصر الطائف في شوال سنة ثمان‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ولما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها، وصنعوا الصنائع للقتال، ولم يشهد حنيناً ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور‏.‏

قال ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حين فرغ من حنين فقال كعب بن مالك في ذلك‏:‏

قضينا من تهامة كل ريب * وخيبر ثم أجممنا السيوفا

نخبرها ولو نطقت لقالت * قواطعهن‏:‏ دوساً أو ثقيفا

فلست لحاضن إن لم تروها * بساحة داركم منا ألوفا

وننتزع العروش ببطن وجٍ * وتصبح دوركم منكم خلوفا

ويأتيكم لنا سرعان خيل * يغادر خلفه جمعاً كثيفا

إذا نزلوا بساحتكم سمعتم * لها مما أناخ بها رجيفا

بأيديهم قواضب مرهفات * يزرن المصطلين بها الحتوفا

كأمثال العقائق أخلصتها * قيون الهند لم تضرب كتيفا

تخال جدية الأبطال فيها * غداة الزحف جادياً مدوفا

أجدهم أليس لهم نصيح * من الأقوام كان بنا عريفا

يخبرهم بأنا قد جمعنا * عتاق الخيل والنجب الطروفا

وأنا قد أتيناهم بزحف * يحيط بسور حصنهم صفوفا

رئيسهم النبي وكان صلباً * نقي القلب مصطبراً عزوفا

رشيد الأمر ذا حكم وعلم * وحلم لم يكن نزقاً خفيفا

نطيع نبيناً ونطيع رباً * هو الرحمن كان بنا رؤوفا

فإن تلقوا إلينا السلم نقبل * ونجعلكم لنا عضداً وريفا

وإن تأبوا نجاهدكم ونصبر * ولا يك أمرنا رعشاً ضعيفا

نجالد ما بقينا أو تنيبوا * إلى الإسلام إذعاناً مضيفا

نجاهد لا نبالي ما لقينا * أأهلكنا التلاد أم الطريفا

وكم من معشر ألبوا علينا * صميم الجذم منهم والحليفا

أتونا لا يرون لهم كفاء * فجدعنا المسامع والأنوفا

بكل مهند لين صقيل * نسوقهم بها سوقاً عنيفا

لأمر الله والإسلام حتى * يقوم الدين معتدلاً حنيفا

وتنسى اللات والعزى وود * ونسلبها القلائد والشنوفا

فأمسوا قد أقروا واطمأنوا * ومن لا يمتنع يقبل خسوفا

وقال ابن إسحاق فأجابه كنانة بن عبد يا ليل بن عمرو بن عمير الثقفي‏:‏

قلت‏:‏ وقد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في وفد ثقيف فأسلم معهم‏.‏

قاله موسى بن عقبة، وأبو إسحاق، وأبو عمر بن عبد البر، وابن الأثير، وغير واحد، وزعم المدايني أنه لم يسلم بل صار إلى بلاد الروم فتنصر ومات بها‏:‏

من كان يبغينا يريد قتالنا * فإنا بدار معلم لا نريمها

وجدنا بها الآباء من قبل ما ترى * وكانت لنا أطواؤها وكرومها

وقد جربتنا قبل عمرو بن عامر * فأخبرها ذو رأيها وحليمها

وقد علمت - إن قالت الحق - أننا * إذا ما أتت صعر الخدود نقيمها

نقومها حتى يلين شريسها * ويعرف للحق المبين ظلومها

علينا دلاص من تراب محرق * كلون السماء زينتها نجومها

نرفعها عنا ببيض صوارم * إذا جردت في غمرة لا نشيمها

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال شداد بن عارض الجشمي في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف‏:‏

لا تنصروا اللات إن الله مهلكها * وكيف ينصر من هو ليس ينتصر

إن التي حرقت بالسد فاشتعلت * ولم تقاتل لدى أحجارها هدر

إن الرسول متى ينزل بلادكم * يظعن وليس بها من أهلها بشر

قال ابن إسحاق‏:‏ فسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني من حنين إلى الطائف - على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرغاء من لية فابتنى بها مسجداً فصلى فيه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عمرو بن شعيب أنه عليه السلام أقاد يومئذ ببحرة الرغاء، حين نزلها بدم، وهو أول دم أقيد به في الإسلام، رجل من بني ليث قتل رجلاً من هذيل فقتله به وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بلية بحصن مالك بن عوف فهدم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم سلك في الطريق يقال لها الضيقة فلما توجه رسول الله ص سأل عن اسمها فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما اسم هذه الطريق ‏؟‏‏)‏‏)‏ فقيل‏:‏ الضيقة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل هي اليسرى‏)‏‏)‏ ثم خرج منها على نخب حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة قريباً من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تخرج إلينا وإما أن نخرب عليك حائطك، فأبى أن يخرج فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخرابه‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير سمعت عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فابتدره الناس فاستخرجوا معه الغصن‏.‏

ورواه أبو داود عن يحيى بن معين، عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه، عن محمد بن إسحاق به‏.‏

ورواه البيهقي‏:‏ من حديث يزيد بن زريع عن روح بن القاسم، عن إسماعيل بن أمية به‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قريباً من الطائف، فضرب به عسكره فقتل ناس من أصحابه بالنبل، وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف فتأخروا إلى موضع مسجده عليه السلام اليوم بالطائف الذي بنته ثقيف بعد إسلامها، بناه عمرو بن أمية بن وهب وكانت فيه سارية لا تطلع عليها الشمس صبيحة كل يوم إلا سمع لها نقيض فيما يذكرون‏.‏

قال‏:‏ فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة‏.‏ ‏

قال ابن هشام ويقال‏:‏ سبع عشرة ليلة‏.‏

وقال عروة وموسى بن عقبة عن الزهري‏:‏ ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وترك السبي بالجعرانة، وملئت عرش مكة منهم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكمة عند حصن الطائف بضع عشرة ليلة يقاتلهم ويقاتلونه من وراء حصنهم، ولم يخرج إليه أحد منهم غير أبي بكرة بن مسروح أخي زياد لأمه‏.‏

فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثرت الجراح، وقطعوا طائفة من أعنابهم ليغيظوهم بها، فقالت لهم ثقيف‏:‏ لا تفسدوا الأموال فإنها لنا أو لكم‏.‏

وقال عروة‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل رجل من المسلمين أن يقطع خمس نخلات وخمس حبلات، وبعث منادياً ينادي من خرج إلينا فهو حر، فاقتحم إليه نفر منهم فيهم أبو بكرة بن مسروح أخو زياد بن أبي سفيان لأمه، فأعتقهم ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يعوله ويحمله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يزيد ثنا حجاج، عن الحكم عن مقسم، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتق من جاءه من العبيد قبل مواليهم إذا أسلموا، وقد أعتق يوم الطائف رجلين‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا عبد القدوس بن بكر بن خنيس، ثنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال‏:‏ حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف فخرج إليه عبدان فأعتقهما أحدهما أبو بكرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا خرجوا إليه‏.‏

وقال أحمد أيضاً‏:‏ ثنا نصر بن رئاب عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف‏:‏ ‏(‏‏(‏من خرج إلينا من العبيد فهو حر‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج عبيد من العبيد فيهم أبو بكرة فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث تفرد به أحمد ومداره على الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف، لكن ذهب الإمام أحمد إلى هذا فعنده أن كل عبد جاء من دار الحرب إلى دار الإسلام عتق حكماً شرعياً مطلقاً عاماً‏.‏

وقال آخرون إنما كان هذا شرطاً لا حكماً عاماً، ولو صح الحديث لكان التشريع العام أظهر كما في قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏من قتل قتيلاً فله سلبه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن المكرم الثقفي قال‏:‏ لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، خرج إليه رقيق من رقيقهم أبو بكرة عبداً للحارث بن كلدة، والمنبعث وكان اسمه المضطجع فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبعث، ويحنس ووردان في رهط من رقيقهم فأسلموا‏.‏

فلما قدم وفد أهل الطائف فأسلموا، قالوا‏:‏ يا رسول الله رد علينا رقيقنا الذين أتوك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أولئك عتقاء الله‏)‏‏)‏ ورد على ذلك الرجل ولاء عبده فجعله له‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا محمد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن عاصم‏:‏ سمعت أبا عثمان قال‏:‏ سمعت سعداً - وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله وأبا بكرة وكان تسور حصن الطائف في أناس فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -قالا‏:‏ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه فالجنة عليه حرام‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث عاصم به‏.‏

قال البخاري‏:‏ وقال هشام أنبا معمر، عن عاصم، عن أبي العالية أو أبي عثمان النهدي قال‏:‏ سمعت سعداً وأبا بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عاصم‏:‏ قلت لقد شهد عندك رجلان حسبك بهما‏.‏

قال‏:‏ أجل أما أحدهما فأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأما الآخر فنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتان من نسائه، إحداهما أم سلمة، فضرب لهما قبتين فكان يصلي بينهما، فحاصرهم وقاتلهم قتالاً شديداً وتراموا بالنبل‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ورماهم بالمنجنيق‏.‏

فحدثني من أثق به أن النبي صلى الله عليه وسلم أول من رمى في الإسلام بالمنجنيق رمى به أهل الطائف‏.‏

وذكر ابن إسحاق أن نفراً من الصحابة دخلوا تحت دبابة، ثم زحفوا ليحرقوا جدار أهل الطائف فأرسلت عليهم سكك الحديد محماة، فخرجوا من تحتها فرمتهم ثقيف بالنبل، فقتلوا منهم رجالاً، فحينئذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف فوقع الناس فيها يقطعون‏.‏

قال‏:‏ وتقدم أبو سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة منادياً ثقيفاً بالأمان حتى يكلموهم، فأمنوهم فدعوا نساء من قريش وبني كنانة ليخرجن إليهم وهما يخافان عليهن السباء إذا فتح الحصن، فأبين‏.‏

فقال لهما أبو الأسود بن مسعود‏:‏ ألا أدلكما على خير مما جئتما له‏؟‏ إن مال أبي الأسود حيث قد علمتما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلاً بوادٍ يقال له‏:‏ العقيق وهو بين مال بني الأسود، وبين الطائف، وليس بالطائف مال أبعد رشاء، ولا أشد مؤونة ولا أبعد عمارة منه، وإن محمداً إن قطعه لم يعمر أبداً فكلماه فليأخذه لنفسه أو ليدعه لله وللرحم‏.‏

فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركه لهم‏.‏

وقد روى الواقدي عن شيوخه نحو هذا وعنده أن سلمان الفارسي هو الذي أشار بالمنجنيق، وعمله بيده‏.‏

وقيل‏:‏ قدم به وبدبابتين فالله أعلم‏.‏

وقد أورد البيهقي من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود عن عروة‏:‏ أن عيينة بن حصن استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يأتي أهل الطائف فيدعوهم إلى الإسلام فأذن له، فجاءهم فأمرهم بالثبات في حصنهم وقال‏:‏ لا يهولنكم قطع ما قطع من الأشجار في كلام طويل، فلما رجع قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما قلت لهم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ دعوتهم إلى الإسلام وأنذرتهم النار وذكرتهم بالجنة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كذبت بل قلت لهم كذا وكذا‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ صدقت يا رسول الله أتوب إلى الله وإليك من ذلك‏.‏

وقد روى البيهقي‏:‏ عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن سعدان بن أبي طلحة عن ابن أبي نجيح السلمي - وهو عمرو بن عبسة رضي الله عنه -قال‏:‏ ‏

حاصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الطائف فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من بلغ بسهم فله درجة في الجنة‏)‏‏)‏ فبلغت يومئذ ستة عشر سهماً، وسمعته يقول‏:‏

‏(‏‏(‏من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة وأيما رجل أعتق رجلاً مسلماً فإن الله جاعل كل عظم من عظامه وقاء كل عظم بعظم، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل كل عظم من عظامها وقاء كل عظم من عظامها من النار‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أبو داود، والترمذي، وصححه النسائي من حديث قتادة به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا الحميدي، سمع سفيان، ثنا هشام، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة قالت‏:‏ دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث فسمعه يقول لعبد الله بن أبي أمية‏:‏ أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يدخلن هؤلاء عليكن‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن عيينة وقال ابن جريج‏:‏ المخنث هيت‏.‏

وقد رواه البخاري أيضاً، ومسلم من طرق، عن هشام بن عروة، عن أبيه به وفي لفظ وكانوا يرونه من غير أولي الإربة من الرجال‏.‏

وفي لفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكن هؤلاء‏)‏‏)‏ يعني إذا كان ممن يفهم ذلك فهو داخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء‏}‏‏.‏

والمراد بالمخنث في عرف السلف الذي لا همة له إلى النساء وليس المراد به الذي يؤتى إذ لو كان كذلك لوجب قتله حتماً كما دل عليه الحديث، وكما قتله أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومعنى قوله‏:‏ تقبل بأربع وتدبر بثمان يعني‏:‏ بذلك عكن بطنها فإنها تكون أربعاً إذا أقبلت، ثم تصير كل واحدة اثنتين إذا أدبرت‏.‏

وهذه المرأة هي بادية بنت غيلان بن سلمة من سادات ثقيف، وهذا المخنث قد ذكر البخاري عن ابن جريج أن اسمه هيت وهذا هو المشهور‏.‏

لكن قال يونس عن ابن إسحاق قال‏:‏ وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مولى لخالته بنت عمرو بن عايد مخنث يقال له‏:‏ مانع، يدخل على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، ولا نرى أنه يفطن لشيء من أمور النساء مما يفطن إليه رجال، ولا يرى أن له في ذلك إرباً فسمعه وهو يقول لخالد بن الوليد‏:‏

يا خالد إن افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فلا تنفلتن منكم بادية بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع هذا منه‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا أرى هذا يفطن لهذا‏)‏‏)‏ الحديث ثم قال لنسائه‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يدخلن عليكم‏)‏‏)‏ فحجب عن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي العباس الشاعر الأعمى، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فلم ينل منهم شيئاً قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنا قافلون غداً إن شاء الله‏)‏‏)‏ فنقل عليهم وقالوا نذهب ولا نفتح ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اغدوا على القتال‏)‏‏)‏ فغدوا فأصابهم جراح فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنا قافلون غداً إن شاء الله‏)‏‏)‏ فأعجبهم فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال سفيان‏:‏ مرة فتبسم‏.‏

ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به وعنده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب واختلف في نسخ البخاري ففي نسخة كذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والله أعلم‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني كثير بن زيد بن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة قال‏:‏ لما مضت خمس عشرة من حصار الطائف استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الدئلي فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا نوفل ما ترى في المقام عليهم‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ يا رسول الله ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وهو محاصر ثقيفاً‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا بكر إني رأيت أني أهديت لي قبعة مملوءة زبداً فنقرها ديك فهراق ما فيها‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنا لا أرى ذلك‏)‏‏)‏، قال‏:‏ ثم إن خولة بنت حكيم السلمية وهي امرأة عثمان بن مظعون قالت‏:‏ يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك حلي بادية بنت غيلان بن سلمة أو حلي الفارعة بنت عقيل - وكانت من أحلى نساء ثقيف - فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏وإن كان لم يؤذن في ثقيف يا خويلة‏)‏‏)‏‏.‏

فخرجت خولة فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خولة زعمت أنك قلته ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد قلته‏)‏‏)‏‏.‏

قال أو ما أذن فيهم‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أفلا أؤذن بالرحيل ‏؟‏

قال‏:‏ بلى، فأذن عمر بالرحيل‏.‏

فلما استقبل الناس نادى سعيد بن عبيد بن أسيد بن أبي عمرو بن علاج ألا إن الحي مقيم‏.‏ قال‏:‏ يقول عيينة بن حصن أجل والله مجدة كراماً، فقال له رجل من المسلمين‏:‏ قاتلك الله يا عيينة، أتمدح المشركين بالامتناع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جئت تنصره ‏؟‏

فقال‏:‏ إني والله ما جئت لأقاتل ثقيفاً معكم ولكني أردت أن يفتح محمد الطائف، فأصيب من ثقيف جارية أطؤها لعلها تلد لي رجلاً فإن ثقيفاً مناكير‏.‏

وقد روى ابن لهيعة‏:‏ عن أبي الأسود، عن عروة قصة خولة بنت حكيم وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال‏.‏

وتأذين عمر بالرحيل، قال‏:‏ وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن لا يسرحوا ظهرهم، فلما أصبحوا ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودعا حين ركب قافلاً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم‏)‏‏)‏‏.‏

وروى الترمذي من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قالوا يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهد ثقيفاً‏)‏‏)‏ ثم قال هذا حديث حسن غريب‏.‏

وروى يونس عن ابن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر، وعبد الله بن المكرم عمن أدركوا من أهل العلم قالوا‏:‏ حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ثلاثين ليلة أو قريباً من ذلك، ثم انصرفوا عنهم ولم يؤذن فيهم، فقدم المدينة فجاءه وفدهم في رمضان فأسلموا‏.‏

وسيأتي ذلك مفصلاً في رمضان من سنة تسع إن شاء الله‏.‏

وهذه تسمية من استشهد من المسلمين بالطائف فيما قاله ابن إسحاق فمن قريش؛ سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية، وعرفطة بن حباب حليف لبني أمية بن الأسد بن الغوث، وعبد الله بن أبي بكر الصديق رمي بسهم فتوفي منه بالمدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي من رمية رميها يومئذ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة حليف لبني عدي، والسائب بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي وأخوه عبد الله، وجليحة بن عبد الله من بني سعد بن ليث ومن الأنصار‏.‏

ثم من الخزرج‏:‏ ثابت بن الجذع الأسلمي، والحارث بن سهل بن أبي صعصعة المازني، والمنذر بن عبد الله من بني ساعدة‏.‏

ومن الأوس‏:‏ رقيم بن ثابت بن ثعلبة بن زيد بن لوذان بن معاوية فقط، فجميع من استشهد يومئذ اثنا عشر رجلاً سبعة من قريش، وأربعة من الأنصار، ورجل من بني ليث رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً عن الطائف قال بجير بن زهير بن أبي سلمى يذكر حنيناً والطائف‏:‏

كانت علالة يوم بطن حنينٍ * وغداة أوطاس ويوم الأبرق

جمعت بإغواء هوازن جمعها * فتبددوا كالطائر المتمزق

لم يمنعوا منا مقاماً واحداً * إلا جدارهم وبطن الخندق

ولقد تعرضنا لكيما يخرجوا * فاستحصنوا منا بباب مغلق

ترتد حسراناً إلى رجراجةٍ * شهباء تلمع بالمنايا فيلق

ملمومة خضراء لو قذفوا بها * حصناً لظل كأنه لم يخلق

مشي الضراء على الهراس كأننا * قدر تفرق في القياد ويلتقي

في كل سابغةٍ إذا ما استحصنت * كالنهي هبت ريحه المترقرق

جدلٍ تمس فضولهن نعالنا * من نسج داود وآل محرق

وقال أبو داود‏:‏ ثنا عمر بن الخطاب أبو حفص، ثنا الفريابي، ثنا أبان ثنا عمرو - هو بن عبد الله بن أبي حازم - ثنا عثمان بن أبي حازم، عن أبيه، عن جده صخر - هو أبي العيلة الأحمسي - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا ثقيفاً، فلما أن سمع ذلك صخر ركب في خيل يمد النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد انصرف ولم يفتح‏.‏

فجعل صخر حينئذ عهد وذمة لا أفارق هذا القصر حتى ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفارقهم حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب إليه صخر؛ أما بعد فإن ثقيفاً قد نزلت على حكمك يا رسول الله وأنا مقبل بهم وهم في خيلي‏.‏

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة جامعة فدعا لأحمس عشر دعوات‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم بارك لأحمس في خيلها ورجالها‏)‏‏)‏‏.‏

وأتى القوم فتكلم المغيرة بن شعبة فقال‏:‏ يا رسول الله إن صخراً أخذ عمتي ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، فدعاه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم فادفع إلى المغيرة عمته‏)‏‏)‏‏.‏

فدفعها إليه وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء لبني سليم قد هربوا عن الإسلام وتركوا ذلك الماء فقال‏:‏ يا رسول الله أنزلنيه أنا وقومي ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏ فأنزله وأسلم - يعني‏:‏ الأسلميين، فأتوا صخراً فسألوه أن يدفع إليهم الماء فأبى فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله أسلمنا وأتينا صخراً ليدفع إلينا ماءنا فأبى علينا، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم فادفع إليهم ماءهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ نعم يا نبي الله فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير عند ذلك حمرة حياء من أخذه الجارية وأخذه الماء‏.‏

تفرد به أبو داود وفي إسناده اختلاف‏.‏

قلت‏:‏ وكانت الحكمة الإلهية تقتضي أن يؤخر الفتح عامئذ ليلا يستأصلوا قتلاً لأنه قد تقدم أنه عليه السلام لما كان خرج إلى الطائف فدعاهم إلى الله تعالى وإلى أن يؤووه حتى يبلغ رسالة ربه عز وجل وذلك بعد موت عمه أبي طالب، فردوا عليه قوله وكذبوه، فرجع مهموماً فلم يستفق إلا عند قرن الثعالب‏.‏

فإذا هو بغمامة وإذا فيها جبريل فناداه ملك الجبال فقال‏:‏ يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام وقد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏بل أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده وحده لا يشرك به شيئاً‏)‏‏)‏ فناسب قوله‏:‏ بل استأني بهم أن لا يفتح حصنهم لئلا يقتلوا عن آخرهم وأن يؤخر الفتح ليقدموا بعد ذلك مسلمين في رمضان من العام المقبل كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

مرجعه عليه السلام من الطائف وقسمة غنائم هوازن

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف عن الطائف على دحنا حتى نزل الجعرانة فيمن معه من المسلمين ومعه من هوازن سبي كثير، وقد قال له رجل من أصحابه يوم ظعن عن ثقيف‏:‏ يا رسول الله ادع عليهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم‏)‏‏)‏، قال‏:‏ ثم أتاه وفد هوازن بالجعرانة وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سبي هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء ومن الإبل والشاء ما لا يدرى عدته‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عمرو بن شعيب وفي رواية يونس بن بكير عنه قال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، فلما أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا‏:‏

يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا منَّ الله عليك وقام خطيبهم زهير بن صرد، أبو صرد فقال‏:‏

يا رسول الله إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك ولو أنا ملحنا لابن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت رسول الله خير المكفولين، ثم أنشأ يقول‏:‏

أمنن علينا رسول الله في كرمٍ * فإنك المرء نرجوه وننتظر

أمنن على بيضةٍ قد عاقها قدر * ممزقٍ شملها في دهرها غير

أبقت لنا الدهر هتافاً على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر

إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلماً حين يختبر

أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك تملؤه من مخضها الدرر

أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزنيك ما تأتي وما تذر

لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر

إنا لنشكر آلاء وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر

قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ يا رسول الله خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا‏؟‏ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين؛ وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا فإني سأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم‏)‏‏)‏‏.‏

فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر، قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال المهاجرون‏:‏ وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الأنصار‏:‏ وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الأقرع بن حابس‏:‏ أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة‏:‏ أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس السلمي‏:‏ أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم‏:‏ بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ يقول عباس بن مرداس لبني سليم‏:‏ وهنتموني‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من أمسك منكم بحقه، فله بكل إنسان ستة فرائض، من أول فيء نصيبه‏)‏‏)‏، فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم‏.‏

ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبعه الناس يقولون‏:‏ يا رسول الله اقسم علينا فيئنا، حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت رداءه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أيها الناس ردوا عليّ ردائي فوالذي نفسي بيده لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب بعير فأخذ من سنامه وبرة فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أيها الناس والله مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم فأدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

فجاء رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال‏:‏ يا رسول الله أخذت هذه لأخيط بها برذعة بعير لي دبر‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما حقي منها فلك‏)‏‏)‏‏.‏

فقال الرجل‏:‏ أما إذا بلغ الأمر فيها فلا حاجة لي بها فرمى بها من يده‏.‏

وهذا السياق يقتضي أنه عليه السلام رد إليهم سبيهم قبل القسمة كما ذهب إليه محمد بن إسحاق بن يسار خلافاً لموسى بن عقبة وغيره‏.‏

وفي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ من طريق الليث بن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوا أن ترد إليهم أموالهم ونساؤهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال‏؟‏ وقد كنت استأنيت بكم‏)‏‏)‏‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم أموالهم إلا إحدى الطائفتين قالوا‏:‏ إنا نختار سبينا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤوا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول مال يفيء الله علينا فليفعل‏)‏‏)‏‏.‏

فقال الناس‏:‏ قد طيبنا ذلك يا رسول الله‏.‏

فقال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم‏)‏‏)‏‏.‏

فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بأنهم قد طيبوا وأذنوا‏.‏

فهذا ما بلغنا عن سبي هوازن‏.‏

ولم يتعرض البخاري لمنع الأقرع وعيينة وقومهما بل سكت عن ذلك والمثبت مقدم على النافي فكيف الساكت‏.‏

وروى البخاري‏:‏ من حديث الزهري أخبرني عمر بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، أخبره جبير بن مطعم أنه بينما هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفله من حنين، علقت الأعراب برسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه حتى اضطروه إلى شجرة فخطفت رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏

‏(‏‏(‏أعطوني ردائي فلو كان عدد هذه العضاة نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به البخاري‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني أبو وجزة يزيد بن عبيد السعدي‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى علي بن أبي طالب جارية يقال لها‏:‏ ريطة بنت هلال بن حيان بن عميرة، وأعطى عثمان بن عفان جارية يقال لها‏:‏ زينب بنت حيان بن عمرو بن حيان، وأعطى عمر جارية فوهبها من ابنه عبد الله‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني نافع عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ بعثت بها إلى أخوالي من بني جمح، ليصلحوا لي منها ويهيئوها حتى أطوف بالبيت، ثم آتيهم وأنا أريد أن أصيبها إذا رجعت إليها، قال‏:‏ فجئت من المسجد حين فرغت، فإذا الناس يشتدون، فقلت ما شأنكم‏؟‏

قالوا‏:‏ رد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءنا وأبناءنا‏.‏

قلت‏:‏ تلكم صاحبتكم في بني جمح فاذهبوا فخذوها فذهبوا إليها فأخذوها‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وأما عيينة بن حصن فأخذ عجوزاً من عجائز هوازن، وقال حين أخذها‏:‏ أرى عجوزاً إني لأحسب لها في الحي نسباً وعسى أن يعظم نداؤها، فلما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم السبايا بست فرائض أبى أن يردها‏.‏

فقال له زهير بن صرد‏:‏ خذها عنك فوالله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد، ولا درها بماكد، إنك ما أخذتها والله بيضاء غريرة، ولا نصفا وثيرة، فردها بست فرائض‏.‏

قال الواقدي‏:‏ ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بالجعرانة أصاب كل رجل أربع من الإبل، وأربعون شاة‏.‏

وقال سلمة عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر‏:‏ أن رجلاً ممن شهد حنين قال‏:‏ والله إني لأسير إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة لي، وفي رجلي نعل غليظة، إذ زحمت ناقتي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوجعه، فقرع قدمي بالسوط وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أوجعتني فتأخر عني‏)‏‏)‏ فانصرفت‏.‏

فلما كان الغد إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسني‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ هذا والله لما كنت أصبت من رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمس‏.‏

قال‏:‏ فجئته وأنا أتوقع، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنك أصبت قدمي بالأمس فأوجعتني فقرعت قدمك بالسوط، فدعوتك لأعوضك منها‏)‏‏)‏ فأعطاني ثمانين نعجة بالضربة التي ضربني‏.‏

والمقصود من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد إلى هوازن سبيهم بعد القسمة، كما دل عليه السياق وغيره‏.‏

وظاهر سياق حديث عمرو بن شبيب الذي أورده محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد إلى هوازن سبيهم قبل القسمة، ولهذا لما رد السبي وركب علقت الأعراب برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون له‏:‏ أقسم علينا فيئنا حتى اضطروه إلى سمرة‏.‏

فخطفت رداءه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ردوا علي ردائي أيها الناس، فوالذي نفسي بيده لو كان لكم عدد هذه العضاة نعماً لقسمته فيكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً‏)‏‏)‏‏.‏

كما رواه البخاري، عن جبير بن مطعم بنحوه‏.‏

وكأنهم خشوا أن يرد إلى هوازن أموالهم، كما رد إليهم نساءهم، وأطفالهم فسألوه قسمة ذلك، فقسمها عليه الصلاة والسلام بالجعرانة، كما أمره الله عز وجل وآثر أناساً في القسمة، وتألف أقواماً من رؤساء القبائل وأمرائهم‏.‏

فعتب عليه أناس من الأنصار حتى خطبهم، وبين لهم وجه الحكمة فيما فعله تطبيباً لقلوبهم، وتنقد بعض من لا يعلم من الجهلة والخوارج، كذي الخويصرة وأشباهه قبحه الله، كما سيأتي تفصيله وبيانه في الأحاديث الواردة في ذلك وبالله المستعان‏.‏ ‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عارم، ثنا معتمر بن سليمان، سمعت أبي يقول‏:‏ ثنا السميط السدوسي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ فتحنا مكة ثم إنا غزونا حنيناً، فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت، فصفت الخيل، ثم صفت المقاتلة، ثم صفت النساء من وراء ذلك، ثم صفت الغنم، ثم النعم‏.‏

قال‏:‏ ونحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف، وعلى مجنبة خيلنا خالد بن الوليد‏.‏

قال‏:‏ فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا‏.‏

قال‏:‏ فلم نلبث أن انكشف خيلنا، وفرت الأعراب، ومن نعلم من الناس‏.‏

قال‏:‏ فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا للمهاجرين، يا للمهاجرين، يا للأنصار ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال أنس‏:‏ هذا حديث عمته‏.‏

قال‏:‏ قلنا‏:‏ لبيك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وأيم الله ما أتيناهم حتى هزمهم الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقبضنا ذلك المال، ثم انطلقنا إلى الطائف فحاصرناهم أربعين ليلة، ثم رجعنا إلى مكة‏.‏

قال‏:‏ فنزلنا فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل المائة، ويعطي الرجل المائتين‏.‏

قال‏:‏ فتحدث الأنصار بينها، أما من قاتله فيعطيه، وأما من لم يقاتله فلا يعطيه‏؟‏ ‏!‏ فرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر بسراة المهاجرين والأنصار أن يدخلوا عليه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يدخلن علي إلا أنصاري - أو الأنصار -‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فدخلنا القبة حتى ملأناها، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار‏)‏‏)‏ أو كما قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما حديث أتاني ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ما أتاك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما حديث أتاني ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ما أتاك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وتذهبون برسول الله حتى تدخلوه بيوتكم ‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ رضينا يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ فرضوا أو كما قال‏.‏

وهكذا رواه مسلم من حديث معتمر بن سليمان، وفيه من الغريب قوله‏:‏ أنهم كانوا يوم هوازن ستة آلاف، وإنما كانوا في اثني عشر ألفاً، وقوله‏:‏ إنهم حاصروا الطائف أربعين ليلة، وإنما حاصروها قريباً من شهر ودون العشرين ليلة، فالله أعلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا عبد الله بن محمد، ثنا هشام، ثنا معمر، عن الزهري، حدثني أنس بن مالك قال‏:‏ قال ناس من الأنصار حين أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً المائة من الإبل‏.‏

فقالوا‏:‏ يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم‏؟‏ ‏

قال أنس بن مالك‏:‏ فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة أدم، ولم يدع معهم غيرهم‏.‏

فلما اجتمعوا قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما حديث بلغني عنكم ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال فقهاء الأنصار‏:‏ أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً، وأما ناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا‏:‏ يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فإني لأعطي رجالاً حديثي عهد بالكفر أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم‏؟‏ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ يا رسول الله قد رضينا‏.‏

فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فستجدون أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض‏)‏‏)‏‏.‏

قال أنس‏:‏ فلم يصبروا‏.‏

تفرد به البخاري من هذا الوجه‏.‏

ثم رواه البخاري ومسلم، من حديث ابن عوف، عن هشام بن زيد، عن جده أنس بن مالك قال‏:‏ لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء فأدبروا، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ لبيك يا رسول الله وسعديك، لبيك نحن بين يديك‏.‏

فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا عبد الله ورسوله‏)‏‏)‏ فانهزم المشركون، فأعطى الطلقاء والمهاجرين ولم يعط الأنصار شيئاً، فقالوا فدعاهم فأدخلهم في قبته، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية للبخاري من هذا الوجه‏:‏ قال لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنعمهم وذراريهم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقي وحده، فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما‏.‏

التفت عن يمينه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار ‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك‏.‏

ثم التفت عن يساره فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك، وهو على بغلة بيضاء، فنزل فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا عبد الله ورسوله‏)‏‏)‏‏.‏

فانهزم المشركون، وأصاب يومئذ مغانم كثيرة، فقسم بين المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئاً‏.‏

فقالت الأنصار‏:‏ إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا، فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار ما حديث بلغني ‏؟‏‏)‏‏)‏ فسكتوا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى بيوتكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

قال هشام‏:‏ قلت يا أبا حمزة وأنت شاهد ذلك‏؟‏

قال‏:‏ وأين أغيب عنه‏.‏

ثم رواه البخاري ومسلم أيضاً، من حديث شعبة، عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن قريش حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجاه أيضاً من حديث شعبة، عن أبي التياح يزيد بن حميد، عن أنس بنحوه، وفيه فقالوا‏:‏ والله إن هذا لهو العجب، إن سيوفنا لتقطر من دمائهم والغنائم تقسم فيهم‏.‏ فخطبهم وذكر نحو ما تقدم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عفان، ثنا حماد، ثنا ثابت، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان، وعيينة، والأقرع، وسهيل بن عمرو، في آخرين يوم حنين فقالت الأنصار‏:‏ يا رسول الله سيوفنا تقطر من دمائهم، وهم يذهبون بالمغنم‏؟‏

فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجمعهم في قبة له حتى فاضت فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏فيكم أحد من غيركم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ لا إلا ابن أختنا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ابن أخت القوم منهم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أقلتم كذا وكذا ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنتم الشعار والناس الدثار، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دياركم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الأنصار كرشي وعيبتي، لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعبهم، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ قال حماد‏:‏ أعطى مائة من الإبل، فسمى كل واحد من هؤلاء‏.‏

تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط مسلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي‏؟‏ ألم آتكم متفرقين فجمعكم الله بي، ألم آتكم أعداء فألف الله بين قلوبكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أفلا تقولون جئتنا خائفاً فأمناك، وطريداً فأويناك، ومخذولاً فنصرناك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بل لله المن علينا ولرسوله‏.‏

وهذا إسناد ثلاثي على شرط الصحيحين، فهذا الحديث كالمتواتر عن أنس بن مالك‏.‏

وقد روي عن غيره من الصحابة‏.‏

قال البخاري‏:‏ ثنا موسى ابن إسماعيل، ثنا وهيب، ثنا عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد بن عاصم، قال‏:‏ لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم وجدوا في أنفسهم إذ لم يصيبهم ما أصاب الناس‏.‏

فخطبهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

كلما قال شيئاً، قالوا‏:‏ الله ورسوله أمن‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم‏؟‏ لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث عمرو بن يحيى المازني به‏.‏

وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري، قال‏:‏ لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين، وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى قال قائلهم‏:‏ لقي والله رسول الله قومه‏.‏

فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏فيم ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فأين أنت من ذلك يا سعد ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ما أنا إلا امرؤ من قومي‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج سعد فصرخ فيهم، فجمعهم في تلك الحظيرة فجاء رجل من المهاجرين فأذن له فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه، فقال‏:‏ يا رسول الله قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم‏.‏

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا تجيبون يا معشر الأنصار ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وما نقول يا رسول الله‏؟‏ وبماذا نجيبك‏؟‏ المن لله ولرسوله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، جئتنا طريداً فأويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمناك، ومخذولاً فنصرناك‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ المن لله ولرسوله‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا‏:‏ رضينا بالله رباً ورسوله قسماً ثم انصرف وتفرقوا‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد‏:‏ من حديث ابن إسحاق، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه، وهو صحيح‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد، عن يحيى بن بكير، عن الفضل بن مرزوق، عن عطية بن سعد العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال رجل من الأنصار لأصحابه‏:‏ أما والله لقد كنت أحدثكم أنه لو استقامت الأمور قد آثر عليكم‏.‏

قال‏:‏ فردوا عليه رداً عنيفاً، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقال لهم أشياء لا أحفظها‏.‏

قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وكنتم لا تركبون الخيل‏)‏‏)‏ وكلما قال لهم شيئاً، قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله، ثم ذكر بقية الخطبة كما تقدم‏.‏

تفرد به أحمد أيضاً‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد منفرداً به من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد بنحوه‏.‏

ورواه أحمد أيضاً عن موسى بن عقبة، عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر مختصراً‏.‏

وقال سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد بن مسروق، عن أبيه، عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عن جده رافع بن خديج‏:‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من سبي حنين مائة من الإبل، وأعطى أبا سفيان بن حرب مائة، وأعطى صفوان بن أمية مائة، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة، وأعطى علقمة بن علاثة مائة، وأعطى مالك بن عوف مائة، وأعطى العباس بن مرداس دون المائة، ولم يبلغ به أولئك، فأنشأ يقول‏:‏

أتجعل نهبي ونهب العبيد * بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في المجمع

وما كنت دون امرئ منهما * ومن تخفض اليوم لا يرفع

وقد كنت في الحرب ذا تدري * فلم أعط شيئاً ولم أمنع

قال‏:‏ فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة‏.‏

رواه مسلم من حديث ابن عيينة بنحوه، وهذا لفظ البيهقي‏.‏

وفي رواية ذكرها موسى بن عقبة، وعروة بن الزبير، وابن إسحاق، فقال‏:‏

كانت نهاباً تلافيتها * بكري على المهر في الأجرع

وإيقاظي الحي أن يرقدوا * إذا هجع الناس لم أهجع

فأصبح نهبي ونهب العبد * بين عيينة والأقرع

وقد كنت في الحرب ذا تدرئ * فلم أعط شيئاً ولم أمنع

إلا أفايل أعطيتها * عديد قوائمها الأربع

وما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في المجمع

وما كنت دون امرئ منهما * ومن تضع اليوم لا يرفع

قال عروة وموسى بن عقبة، عن الزهري‏:‏ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت القائل أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ ما هكذا قال يا رسول الله، ولكن والله ما كنت بشاعر، وما ينبغي لك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف قال ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏ فأنشده أبو بكر‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هما سواء ما يضرك بأيهما بدأت‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اقطعوا عني لسانه‏)‏‏)‏ فخشي بعض الناس أن يكون أراد المثلة به، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم العطية‏.‏

قال‏:‏ وعبيد فرسه‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن العلاء، ثنا أسامة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال‏:‏ كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة، بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال‏:‏ ألا تنجز لي ما وعدتني‏؟‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشر‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ قد أكثرت علي من أبشر ‏!‏

فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏رد البشرى فاقبلا أنتما‏)‏‏)‏ ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه وفيه ومج فيه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما، وأبشرا‏)‏‏)‏ فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما، فأفضلا لها منه طائفة‏.‏ هكذا رواه‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا يحيى بن بكير، ثنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته‏.‏

قال‏:‏ مر لي من مال الله الذي عندك‏.‏

فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء‏.‏

وقد ذكر ابن إسحاق الذين أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مائة من الإبل وهم‏:‏

أبو سفيان صخر بن حرب، وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن كلدة أخو بني عبد الدار، وعلقمة بن علاثة، والعلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة، والحارث بن هشام، وجبير بن مطعم، ومالك بن عوف النصري، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، وعيينة ابن حصن، وصفوان بن أمية، والأقرع بن حابس‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي‏:‏ أن قائلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه‏:‏ يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمري ‏؟‏‏!‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما والذي نفس محمد بيده، لجعيل خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع، ولكن تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق من أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون المائة ممن يطول ذكره‏.‏

وفي الحديث الصحيح عن صفوان بن أمية أنه قال‏:‏ ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني من غنائم حنين وهو أبغض الخلق إلي، حتى ما خلق الله شيئاً أحب إلي منه‏.‏

 قدوم مالك بن عوف النصري على الرسول

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن وسألهم عن مالك بن عوف ما فعل‏؟‏

فقالوا‏:‏ هو بالطائف مع ثقيف‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخبروه أنه إن أتاني مسلماً رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل‏)‏‏)‏‏.‏

فلما بلغ ذلك مالكاً انسل من ثقيف حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة - أو بمكة - فأسلم وحسن إسلامه، فرد عليه أهله وماله، ولما أعطاه مائة فقال مالك بن عوف رضي الله عنه‏:‏

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله * في الناس كلهم بمثل محمد

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى * ومتى تشأ يخبرك عما في غد

وإذا الكتيبة عردت أنيابها * بالسمهري وضرب كل مهند

فكأنه ليث على أشباله * وسط الهباءة خادر في مرصد

قال‏:‏ واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وتلك القبائل ثمالة، وسلمة، وفهم، فكان يقاتل بهم ثقيفاً لا يخرج لهم سرج إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير بن حازم، ثنا الحسن، حدثني عمرو بن تغلب قال‏:‏ أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني أعطي قوماً أخاف هلعهم وجزعهم وأكِل قوماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب‏)‏‏)‏‏.‏

قال عمرو‏:‏ فما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم‏.‏

زاد أبو عاصم عن جرير‏:‏ سمعت الحسن، ثنا عمرو بن تغلب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال - أو سبي - فقسمه بهذا‏.‏

وفي رواية للبخاري قال‏:‏ أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال - أو بشيء - فأعطى رجالاً وترك رجالاً فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما بعد‏)‏‏)‏ فذكر مثله سواء‏.‏

تفرد به البخاري‏.‏

وقد ذكر ابن هشام أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال فيما كان من أمر الأنصار وتأخرهم عن الغنيمة‏:‏

ذر الهموم فماء العين منحدر * سحاً إذا حفلته عبرة درر

وجداً بشماء إذ شماء بهكنة * هيفاء لا ذنن فيها ولا خور

دع عنك شماء إذ كانت مودتها * نزراً وشر وصال الواصل النزر

وائت الرسول وقل يا خير مؤتمن * للمؤمنين إذ ما عدد البشر

علام تدعي سليم وهي نازحة * قدام قوم هموا آووا وهم نصروا

سماهم الله أنصاراً بنصرهم * دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترضوا * للنائبات وما خانوا وما ضجروا

والناس إلب علينا فيك ليس لنا * إلا السيوف وأطراف القنا وزر

تجالد الناس لا نبقي على أحد * ولا نضيع ما توحي به السور

ولا تهز جناة الحرب نادينا * ونحن حين تلظى نارها سعر

كما رددنا ببدر دون ما طلبوا * أهل النفاق وفينا ينزل الظفر

ونحن جندك يوم النعف من أحد * إذ حزبت بطراً أحزابها مضر

فما ونينا وما خمنا وما خبروا * منا عثاراً وكل الناس قد عثروا

 اعتراض بعض أهل الشقاق على الرسول

قال البخاري‏:‏ ثنا قبيصة، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال‏:‏ لما قسم النبي قسمة حنين قال رجل من الأنصار‏:‏ ما أراد بها وجه الله‏.‏

قال‏:‏ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فتغير وجهه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث الأعمش به‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله قال‏:‏ لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناساً، أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناساً، فقال رجل‏:‏ ما أريد بهذه القسمة وجه الله‏.‏

فقلت‏:‏ لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه من حديث منصور، عن المعتمر به‏.‏

وفي رواية للبخاري‏:‏ فقال رجل‏:‏ والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله‏.‏

فقلت‏:‏ والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأخبرته فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ‏؟‏‏!‏ رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر‏)‏‏)‏‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن مقسم أبي القاسم، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل قال‏:‏ خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي، حتى أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو يطوف بالبيت معلقاً نعله بيده، فقلنا له‏:‏ هل حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كلمه التميمي يوم حنين ‏؟‏

قال‏:‏ نعم، جاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف عليه وهو يعطي الناس فقال له‏:‏ يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أجل فكيف رأيت ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لم أرك عدلت‏.‏

قال‏:‏ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ألا نقتله ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء، ثم في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث والدم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ أتى رجل بالجعرانة النبي صلى الله عليه وسلم منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها ويعطي الناس، فقال‏:‏ يا محمد اعدل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل‏؟‏ لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل‏)‏‏)‏‏.‏

فقال عمر بن الخطاب‏:‏ دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤن القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم‏:‏ عن محمد بن رمح، عن الليث‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا أبو عامر، ثنا قرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال‏:‏ بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مغانم حنين إذ قام إليه رجل فقال‏:‏ اعدل‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد شقيت إذ لم أعدل‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه البخاري‏:‏ عن مسلم بن إبراهيم، عن قرة بن خالد السدوسي به‏.‏

وفي الصحيحين من حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد قال‏:‏ بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً إذ أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم، فقال‏:‏ يا رسول الله اعدل‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ويلك ومن يعدل إن لم أعدل، لقد خبت وخسرت إذ لم أعدل فمن يعدل‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال عمر بن الخطاب‏:‏ يا رسول الله ايذن لي فيه فأضرب عنقه‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو سعيد‏:‏ فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت‏.‏

ورواه مسلم أيضاً من حديث القاسم بن الفضل، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد به نحوه‏.‏

 مجيء أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة عليه بالجعرانة

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني بعض بني سعد بن بكر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم هوازن‏:‏ ‏(‏‏(‏إن قدرتم على نجاد - رجل من بني سعد بن بكر - فلا يفلتنكم‏)‏‏)‏‏.‏

وكان قد أحدث حدثاً‏.‏ ‏

فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة‏.‏

قال‏:‏ فعنفوا عليها في السوق، فقالت للمسلمين‏:‏ تعلمون والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة‏؟‏ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني يزيد بن عبيد السعدي - هو أبو وجزة - قال‏:‏ فلما انتهى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ يا رسول الله إني أختك من الرضاعة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وما علامة ذلك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك‏.‏

قال‏:‏ فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، فبسط لها رداءه فأجلسها عليه وخيرها، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ بل تمتعني وتردني إلى قومي، فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وردها إلى قومها، فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاماً يقال له مكحول وجارية، فزوجت أحدهما الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية‏.‏

وروى البيهقي‏:‏ من حديث الحكم بن عبد الملك، عن قتادة قال‏:‏ لما كان يوم فتح هوازن جاءت جارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله أنا أختك، أنا شيماء بنت الحارث‏.‏

فقال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏إن تكوني صادقة فإن بك مني أثر لا يبلى‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فكشفت عن عضدها فقالت‏:‏ نعم يا رسول الله حملتك وأنت صغير فعضضتني هذه العضة‏.‏

قال‏:‏ فبسط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏سلي تعطي، واشفعي تشفعي‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبا أبو نصر بن قتادة، أنبا عمرو بن إسماعيل بن عبد السلمي، ثنا مسلم، ثنا أبو عاصم، ثنا جعفر بن يحيى بن ثوبان، أخبرني عمي عمارة بن ثوبان‏:‏ أن أبا الطفيل أخبره قال‏:‏ كنت غلاماً أحمل عضو البعير، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم نعماً بالجعرانة، قال‏:‏ فجاءته امرأة فبسط لها رداءه، فقلت‏:‏ من هذه‏؟‏

قالوا‏:‏ أمه التي أرضعته‏.‏

هذا حديث غريب، ولعله يريد أخته وقد كانت تحضنه مع أمها حليمة السعدية، وإن كان محفوظاً فقد عمرت حليمة دهراً، فإن من وقت أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقت الجعرانة أزيد من ستين سنة، وأقل ما كان عمرها حين أرضعته صلى الله عليه وسلم ثلاثين سنة، ثم الله أعلم بما عاشت بعد ذلك‏.‏

وقد ورد حديث مرسل فيه‏:‏ أن أبويه من الرضاعة قدما عليه والله أعلم بصحته‏.‏

قال أبو داود في ‏(‏المراسيل‏)‏‏:‏ ثنا أحمد بن سعيد الهمداني، ثنا ابن وهب، ثنا عمرو بن الحارث‏:‏ أن عمر بن السائب حدثه‏:‏

أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً فجاءه أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم جاءه أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه‏.‏

وقد تقدم أن هوازن بكمالها متوالية برضاعته من بني سعد بن بكر - وهم شرذمة من هوازن - فقال خطيبهم زهير بن صرد‏:‏ يا رسول الله إنما في الحظائر أمهاتك وخالاتك وحواضنك، فأمنُن علينا منَّ الله عليك، وقال فيما قال‏:‏

أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملؤه من محضها درر

أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر

فكان هذا سبب إعتاقهم عن بكرة أبيهم، فعادت فواضله عليه السلام عليهم قديماً وحديثاً، خصوصاً وعموماً‏.‏

وقد ذكر الواقدي، عن إبراهيم بن محمد بن شرحبيل، عن أبيه قال‏:‏ كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس، فكان يقول‏:‏ الحمد لله الذي منَّ علينا بالإسلام، ومنَّ علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الأخوة وبنو العم‏.‏

ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه خرج مع قومه من قريش إلى حنين وهم على دينهم بعد، قال‏:‏ ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه، فلم يمكنا ذلك، فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنضير ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ لبيك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل لك إلى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأقبلت إليه سريعاً‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم زده ثباتاً‏)‏‏)‏

قال النضير‏:‏ فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجر ثباتاً في الدين، وتبصرة بالحق‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الحمد لله الذي هداه‏)‏‏)‏‏.‏

 عمرة الجعرانة في ذي القعدة

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا بهز وعبد الصمد المعنى قالا‏:‏ ثنا همام بن يحيى، ثنا قتادة قال‏:‏ سألت أنس بن مالك قلت‏:‏ كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

قال‏:‏ حجة واحدة، واعتمر أربع مرات‏.‏

عمرته زمن الحديبية، وعمرته في ذي القعدة من المدينة، وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة، حيث قسم غنيمة حنين، وعمرته مع حجته‏.‏

ورواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي من طرق عن همام بن يحيى به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو النضر، ثنا داود - يعني العطار - عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر؛ عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع حجته‏.‏

ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث داود بن عبد الرحمن العطار المكي، عن عمرو بن دينار به‏.‏ وحسنه والترمذي‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ثنا حجاج بن أرطأة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - قال‏:‏ اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر، كل ذلك في ذي القعدة يلبي حتى يستلم الحجر‏.‏

غريب من هذا الوجه‏.‏ وهذه الثلاث عمر اللاتي وقعن في ذي القعدة ما عدا عمرته مع حجته فإنها وقعت في ذي الحجة مع الحجة، وإن أراد ابتداء الإحرام بهن في ذي القعدة فلعله لم يرد عمرة الحديبية لأنه صد عنها، ولم يفعلها، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ وقد كان نافع ومولاه ابن عمر ينكران أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة بالكلية، وذلك فيما قال البخاري‏:‏ ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ أن عمر بن الخطاب قال‏:‏ يا رسول الله إنه كان علي اعتكاف يوم في الجاهلية فأمره أن يفي به‏.‏

قال‏:‏ وأصاب عمر جاريتين من سبي حنين، فوضعهما في بعض بيوت مكة، قال‏:‏ فمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبي حنين فجعلوا يسعون في السكك، فقال عمر‏:‏ يا عبد الله انظر ما هذا ‏؟‏

قال‏:‏ منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السبي‏.‏

قال‏:‏ اذهب فأرسل الجاريتين‏.‏

قال نافع‏:‏ ولم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، ولو اعتمر لم يخف على عبد الله‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر به‏.‏

ورواه مسلم أيضاً، عن أحمد بن عبدة الضبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع قال‏:‏ ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فقال‏:‏ لم يعتمر منها‏.‏

وهذا غريب جداً عن ابن عمرو عن مولاه نافع في إنكارهما عمرة الجعرانة، وقد أطبق النقلة ممن عداهما على رواية ذلك من أصحاب الصحاح، والسنن، والمسانيد، وذكر ذلك أصحاب المغازي والسنن كلهم‏.‏

وهذا أيضاً كما ثبت في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح، عن عروة، عن عائشة أنها أنكرت على ابن عمر قوله‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب، وقالت‏:‏ يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب قط‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا نمير، ثنا الأعمش، عن مجاهد قال‏:‏ سأل عروة بن الزبير ابن عمر في أي شهر اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

قال‏:‏ في رجب، فسمعتنا عائشة فسألها ابن الزبير وأخبرها بقول ابن عمر، فقالت‏:‏ يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وقد شهدها، وما اعتمر قط إلا في ذي القعدة‏.‏

وأخرجه البخاري، ومسلم من حديث جرير، عن منصور عن مجاهد به نحوه‏.‏

ورواه أبو داود، والنسائي أيضاً من حديث زهير، عن أبي إسحاق، عن مجاهد‏:‏ سئل ابن عمر كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

فقال‏:‏ مرتين، فقالت عائشة‏:‏ لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثاً سوى التي قرنها بحجة الوداع‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يحيى بن آدم، ثنا مفضل، عن منصور، عن مجاهد قال‏:‏ دخلت مع عروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر مستند إلى حجرة عائشة، وأناس يصلون الضحى، فقال عروة‏:‏ أبا عبد الرحمن ما هذه الصلاة ‏؟‏

قال‏:‏ بدعة‏.‏ ‏

فقال له عروة‏:‏ أبا عبد الرحمن كم اعتمر رسول الله ‏؟‏

فقال‏:‏ أربعاً إحداهن في رجب‏.‏

قال‏:‏ وسمعنا استنان عائشة في الحجرة، فقال لها عروة‏:‏ إن أبا عبد الرحمن يزعم أن رسول الله اعتمر أربعاً إحداهن في رجب‏.‏

فقالت‏:‏ يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط‏.‏

وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن الحسن بن موسى، عن شيبان، عن منصور‏.‏

وقال‏:‏ حسن صحيح غريب‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا روح، ثنا ابن جريج، أخبرني مزاحم بن أبي مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن مخرش الكعبي‏:‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الجعرانة ليلاً حتى أمسى معتمراً، فدخل مكة ليلاً يقضي عمرته، ثم خرج من تحت ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، حتى إذا زالت الشمس خرج من الجعرانة في بطن سرف، حتى جاء مع الطريق - طريق المدينة - بسرف‏.‏

قال مخرش‏:‏ فلذلك خفيت عمرته على كثير من الناس‏.‏

ورواه الإمام أحمد‏:‏ عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج كذلك، وهو من أفراده‏.‏

والمقصود أن عمرة الجعرانة ثابتة بالنقل الصحيح الذي لا يمكن منعه ولا دفعه، ومن نفاها لا حجة معه في مقابلة من أثبتها، والله أعلم‏.‏

ثم هم كالمجمعين على أنها كانت في ذي القعدة بعد غزوة الطائف، وقسم غنائم حنين‏.‏

وما رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ‏(‏معجمه الكبير‏)‏ قائلاً‏:‏ حدثنا الحسن بن إسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا محمد بن الحسن الأسدي، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عمير - مولى عبد الله بن عباس - عن ابن عباس قال‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف نزل بالجعرانة فقسم بها الغنائم، ثم اعتمر منها، وذلك لليلتين بقيتا من شوال، فإنه غريب جداً، وفي إسناده نظر، والله أعلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا إسماعيل، ثنا ابن جريج، أخبرني عطاء بن صفوان بن يعلى بن أمية، أخبره أن يعلى كان يقول‏:‏ ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه‏.‏

قال‏:‏ فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وعليه ثوب قد أظل به معه فيه ناس من أصحابه، إذ جاءه أعرابي عليه جبة متضمخ بطيب، قال‏:‏ فأشار عمر بن الخطاب إلى يعلى بيده أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سرى عنه، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أين الذي يسألني عن العمرة آنفاً ‏؟‏‏)‏‏)‏

فالتمس الرجل فأتي به‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث ابن جريج، وأخرجاه من وجه آخر عن عطاء كلاهما، عن صفوان بن يعلى بن أمية به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو أسامة، أنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كداء من أعلى مكة، ودخل في العمرة من كدى‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا موسى أبو سلمة، ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت ثلاثاً ومشوا أربعاً، وجعلوا أرديتهم تحت أباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى‏.‏

تفرد به أبو داود‏.‏ ‏

ورواه أيضاً، وابن ماجه من حديث ابن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس مختصراً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، حدثني الحسن بن مسلم، عن طاووس‏:‏ أن ابن عباس أخبره، أن معاوية أخبره قال‏:‏ قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص - أو قال‏:‏ رأيته يقصر عنه بمشقص عند المروة -

وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن جريج به‏.‏

ورواه مسلم أيضاً‏:‏ من حديث سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاووس، عن ابن عباس، عن معاوية به‏.‏

ورواه أبو داود، والنسائي أيضاً‏:‏ من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه به‏.‏

وقال عبد الله بن الإمام أحمد‏:‏ حدثني عمرو بن محمد الناقد، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن ابن عباس، عن معاوية قال‏:‏ قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة‏.‏

والمقصود أن هذا إنما يتوجه أن يكون في عمرة الجعرانة، وذلك أن عمرة الحديبية لم يدخل إلى مكة فيها، بل صد عنها كما تقدم بيانه، وأما عمرة القضاء فلم يكن أبو سفيان أسلم، ولم يبق بمكة من أهلها أحد حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل خرجوا منها وتغيبوا عنها مدة مقامه عليه السلام بها تلك الثلاثة الأيام‏.‏

وعمرته التي كانت مع حجته لم يتحلل منها بالاتفاق، فتعين أن هذا التقصير الذي تعاطاه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة إنما كان في عمرة الجعرانة كما قلنا، والله تعالى أعلم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق رحمه الله‏:‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمراً، وأمر ببقاء الفيء فحبس بمجنة بناحية مر الظهران‏.‏

قلت‏:‏ الظاهر أنه عليه السلام إنما استبقى بعض المغنم ليتألف به من يلقاه من الأعراب فيما بين مكة والمدينة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن‏.‏

وذكر عروة وموسى بن عقبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف معاذاً مع عتاب بمكة قبل خروجه إلى هوازن، ثم خلفهما بها حين رجع إلى المدينة‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ وبلغني عن زيد بن أسلم أنه قال‏:‏ لما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة، رزقه كل يوم درهماً، فقام فخطب الناس فقال‏:‏ أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهماً كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانت عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، وقدم المدينة في بقية ذي القعدة، أو في أول ذي الحجة‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ قدمها لست بقين من ذي القعدة فيما قال أبو عمرو المديني‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحج الناس ذلك العام على ما كانت العرب تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك السنة عتاب بن أسيد وهي سنة ثمان‏.‏

قال‏:‏ وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم في طائفهم ما بين ذي القعدة إلى رمضان من سنة تسع‏.‏

 إسلام كعب بن زهير بن أبي سلمى وذكر قصيدته بانت سعاد

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من منصرفه عن الطائف، كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى أخيه لأبويه كعب بن زهير، يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالاً بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقي من شعراء قريش؛ ابن الزبعري، وهبيرة بن أبي وهب، هربوا في كل وجه‏.‏

فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحداً جاءه تائباً، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض‏.‏

وكان كعب قد قال‏:‏

ألا بلغا عني بجيراً رسالة * فويحك فيما قلت ويحك هل لكا

فبين لنا إن كنت لست بفاعل * على أي شيء غير ذلك دلكا

على خلق لم ألف يوماً أباً له * عليه وما تلقى عليه أباً لكا

فإن أنت لم تفعل فلست بآسف * ولا قائل أما عثرت لعالكا

سقاك بها المأمون كأساً روية * فأنهلك المأمون منها وعلَّكا

قال ابن هشام‏:‏ وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر‏:‏

من مبلع عني بجيراً رسالة * فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا

شربت مع المأمون كأساً روية * فأنهلك المأمون منها وعلكا

وخالفت أسباب الهدى واتبعته * على أي شيء ويب غيرك دلكا

على خلق لم تلف أماً ولا أباً * عليه ولم تدرك عليه أخاً لكا

فإن أنت لم تفعل فلست بآسف * ولا قائل أما عثرت لعاً لكا

قال ابن إسحاق‏:‏ وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجير أكره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سمع سقاك بها المأمون‏:‏ ‏(‏‏(‏صدق وإنه لكذوب، أنا المأمون‏)‏‏)‏‏.‏

ولما سمع على خلق لم تلف أماً ولا أباً عليه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه‏)‏‏)‏‏.‏

قال ثم كتب بجير إلى كعب يقول له‏:‏

من مبلغ كعباً فهل لك في التي * تلوم عليها باطلاً وهي أحزم

إلى الله لا العزى ولا اللات وحده * فتنجو إذا كان النجاء وتسلم

لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت * من الناس إلا طاهر القلب مسلم

فدين زهير وهو لا شيء دينه * ودين أبي سلمى عليَّ محرم

قال‏:‏ فلما بلغ كعب الكتاب ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان في حاضره من عدوه، وقالوا‏:‏ هو مقتول، فلما لم يجد من شيء بداً قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها خوفه، وإرجاف الوشاة به من عدوه‏.‏

ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة كما ذكر لي، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أشار له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ هذا رسول الله، فقم إليه فاستأمنه‏.‏

فذُكر لي‏:‏ أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليه، ووضع يده في يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، فقال‏:‏ يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائباً مسلماً فهل أنت قابل منه إن جئتك به‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ إذاً أنا يا رسول الله كعب بن زهير‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه‏:‏ وثب عليه رجل من الأنصار فقال‏:‏ يا رسول الله، دعني وعدو الله أضرب عنقه‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏دعه عنك، فإنه جاء تائباً نازعاً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فغضب كعب بن زهير على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير، فقال في قصيدته التي قال حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم عندها لم يفد مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا * إلا أغن غضيض الطرف مكحول

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة * لا يشتكي قصر منها ولا طول

تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت * كأنه منهل بالراح معلول

شجت بذي شيم من ماء محنية * صاف بأبطح أضحى وهو مشمول

تنفي الرياح الفدى عنه وأمرعه * من صوب غادية بيض يعاليل

فيا لها خلة لو أنها صدقت * بوعدها أو لو آن النصح مقبول

لكنها خلة قد سيط من دمها * فجع وولع وإحلاف وتبديل

فما تدوم على حال تكون بها * كما تلون في أثوابها الغول

وما تمسك بالعهد الذي زعمت * إلا كما يمسك الماء الغرابيل

فلا يغرنك ما منت وما وعدت * إن الأماني الأحلام تضليل

كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً * وما مواعيدها إلا الأباطيل

أرجو وآمل أن تدنو مودتها * وما لهن أخال الدهر تعجيل

أمست سعاد عرضتها بأرض لا تبلغها * إلا العتاق النجيبات المراسيل

ولن يبلغها إلا عذافرة * فيها على الأبن إرقال وتبغيل

من كل نضاحة الذفري إذا عرقت * عرضتها طامس الأعلام مجهول

ترمي الغيوب بعيني مفرد لهق * إذا توقدت الحزان والميل

ضخم مقلدها فعمَّ مقيدها * في خلقها عن بنات الفحل تفضيل

حرف أخوها أبوها من مهجنة * وعمها خالها قوداء شمليل

يمشى القراد عليها ثم يزلقه * منها لبان وأقراب زهاليل

عيرانةٌ قذفت بالنحص عن عرض * مرفقها عن بنات الزور مفتول

قنواءٌ في حربتيها للبصير بها * عتق مبين وفي الخدين تسهيل

كأنما فات عينيها ومذبحها * من خطمها ومن اللحيين برطيل

تمر مثل عسيب النخل ذا خصل * في غادر لم تخونه الأحاليل

تهوي على يسرات وهي لاهية * ذوابل وقعهن الأرض تحليل

يوماً تظل به الحرباء مصطخداً * كأن ضاحية بالشمس محلول

وقال للقوم حاديهم وقد جعلت * ورق الجنادب يركضن الحصا قيلوا

أوبٌ بذي فاقدٍ شمطاء معولة * قامت فجاء بها نكر مثاكيل

نواحةٌ رخوة الضبعين ليس لها * لما نعى بكرها الناعون معقول

تفري اللبان بكفيها ومدرعها * مشقق عن تراقيها رعابيل

تسعى الغواة جنابيها وقولهم * إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول

وقال كل صديق كنت أمله * لا ألهينك إني عنك مشغول

فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم * فكل ما قدر الرحمن مفعول

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته * يوماً على آلة حدباء محمول

نبئتُ أن رسول الله أوعدني * والعفو عند رسول الله مأمول

مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة * القرآن فيه مواعيظ وتفصيل

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم * أذنب ولو كثرت فيَّ الأقاويل

لقد أقوم مقاماً لو يقوم به * أرى وأسمع ما قد يسمع الفيل

لظل يرعد من وجد موارده * من الرسول بإذن الله تنزيل

حتى وضعت يميني ما أنازعها * في كف ذي نقمات قوله القيل

فلهو أخوف عندي إذ أكلمه * وقيل إنك منسوب ومسئول

من ضيغم بضراء الأرض مخدرة * في بطن عثر غيل ذرنه غيل

يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما * لحم من الناس معفور خراديل

إذا يساور قرناً لا يحل له * أن يترك القرن إلا وهو مغلول

منه تظل حمير الوحش نافرة * ولا تمشي بواديه الأراجيل

ولا يزال بواديه أخو ثقة * مضرج البر والدرسان مأكول

إن الرسول لنور يستضاء به * مهند من سيوف الله مسلول

في عصبة من قريش قال قائلهم * ببطن مكة لما أسلموا زولوا

زالوا فما زال أنكاس ولا كشف * عند اللقاء ولا ميل معازيل

يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم * ضرب إذا عرد السود التنابيل

شم العرانين أبطال لبوسهم * من نسج داود في الهيجا سرابيل

بيض سوابغ قد شكت لها حلق * كأنها حلق القفعاء مجدول

ليسوا معاريج إن نالت رماحهم * قوما وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا

لا يقع الطعن إلا في نحورهم * ولا لهم عن حياض الموت تهليل

قال ابن هشام‏:‏ هكذا أورد محمد بن إسحاق هذه القصيدة ولم يذكر لها إسناداً‏.‏

وقد رواها الحافظ البيهقي في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ بإسناد متصل فقال‏:‏ أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد الأسدي بهذان، ثنا إبراهيم بن الحسين، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير بن أبي سلمى، عن أبيه، عن جده قال‏:‏

خرج كعب وبجير ابنا زهير، حتى أتيا أبرق العزاف فقال بجير لكعب‏:‏ اثبت في هذا المكان حتى آتي هذا الرجل - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأسمع ما يقول، فثبت كعب وخرج بجير، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام فأسلم فبلغ ذلك كعباً فقال‏:‏

ألا أبلغا عني بجيراً رسالة * على أي شيء ويب غيرك دلكا

على خلق لم تلف أماً ولا أباً * عليه ولم تدرك عليه أخاً لكا

سقاك أبو بكر بكأس روية * وأنهلك المأمون منها وعلكا

فلما بلغت الأبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دمه، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من لقي كعباً فليقتله‏)‏‏)‏‏.‏

فكتب بذلك بجير إلى أخيه، وذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه، ويقول له‏:‏ النجاء وما أراك تنفلت‏.‏

ثم كتب إليه بعد ذلك‏:‏ أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله إلا قبل ذلك منه، وأسقط ما كان قبل ذلك، فإذا جاءك كتابي هذا، فأسلم وأقبل‏.‏

قال‏:‏ فأسلم كعب وقال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كالمائدة بين القوم، و القوم متحلقون معه حلقة خلف حلقة، يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم، وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم‏.‏

قال كعب‏:‏ فأنخت راحلتي بباب المسجد، ثم دخلت المسجد فعرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة، حتى جلست إليه فأسلمت، وقلت‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله، الأمان يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن أنت ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ كعب بن زهير‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الذي يقول‏)‏‏)‏‏.‏

ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف قال يا أبا بكر ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فأنشده أبو بكر‏:‏

سقاك بها المأمون كأساً روية * وأنهلك المأمون منها وعلكا

قال‏:‏ يا رسول الله ما قلت هكذا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فكيف قلت ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏

سقاك بها المأمون كأساً روية * وأنهلك المأمون منها وعلكا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏مأمون والله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أنشده القصيدة كلها حتى أتى على آخرها، وهي هذه القصيدة‏:‏

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم عندها لم يغد مكبول

وقد تقدم ما ذكرناه من الرمز لما اختلف فيه إنشاد ابن إسحاق والبيهقي رحمهما الله عز وجل‏.‏

وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب ‏(‏الاستيعاب‏)‏ أن كعباً لما انتهى إلى قوله‏:‏

إن الرسول لنور يستضاء به * مهند من سيوف الله مسلول

نبئتُ أن رسول الله أوعدني * والعفو عند رسول الله مأمول

قال‏:‏ فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من معه أن اسمعوا‏.‏

وقد ذكر ذلك قبله موسى بن عقبة في مغازيه، ولله الحمد والمنة‏.‏

قلت‏:‏ ورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه بردته حين أنشده القصيدة، وقد نظر ذلك الصرصري في بعض مدائحه‏.‏

وهكذا ذكر ذلك الحافظ أبو الحسن بن الأثير في ‏(‏الغابة‏)‏، قال‏:‏ وهي البردة التي عند الخلفاء‏.‏

قلت‏:‏ وهذا من الأمور المشهورة جداً، ولكن لم أر ذلك في شيء من هذه الكتب المشهورة بإسناد أرتضيه، فالله أعلم‏.‏

وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لما قال‏:‏ بانت سعاد‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن سعاد ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ زوجتي يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لم تبن، ولكن لم يصح ذلك‏)‏‏)‏ وكأنه على ذلك توهم أن بإسلامه تبين امرأته، والظاهر أنه إنما أراد البينونة الحسية لا الحكمية، والله تعالى أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال عاصم بن عمر بن قتادة‏:‏ فلما قال كعب - يعني في قصيدته - إذا عرد السود التنابيل، وإنما يريدنا معشر الأنصار، لما كان صاحبنا صنع به ما صنع، وخص المهاجرين من قريش بمدحته، غضبت عليه الأنصار‏.‏

فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار، ويذكر بلاءهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموضعهم من اليمن‏:‏

من سره كرم الحياة فلا يزل * في مقنب من صالحي الأنصار

ورثوا المكارم كابراً عن كابر * إن الخيار هموا بنوا الأخيار

المكرهين السمهري بأذرع * كسوالف الهندي غير قصار

والناظرين بأعين محمرة * كالجمر غير كليلة الأبصار

والبائعين نفوسهم لنبيهم * للموت يوم تعانق وكرار

والقائدين الناس عن أديانهم * بالمشرفي وبالقنال الخطار

يتطهرون يرونه نسكاً لهم * بدماء من علقوا من الكفار

دربوا كما دربت بطون خيفة * غلب الرقاب من الأسود ضواري

وإذا حللت لينعوك إليهم * أصبحت عند معاقل الأعفار

ضربوا علياً يوم بدر ضربةً * دانت لوقعتها جميع نزار

لو يعلم الأقوام علمي كله * فيهم لصدقني الذين أُماري

قوم إذا خوت النجوم فإنهم * للطارقين النازلين مقاري

قال ابن هشام‏:‏ ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أنشده بانت سعاد‏:‏ ‏(‏‏(‏لولا ذكرت الأنصار بخير فإنهم لذلك أهل‏)‏‏)‏‏.‏

فقال كعب هذه الأبيات وهي في قصيدة له‏.‏

قال‏:‏ وبلغني عن علي بن زيد بن جدعان‏:‏ أن كعب بن زهير أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد‏:‏ بانت سعاد فقلبي اليوم متبول‏.‏

وقد رواه الحاقظ البيهقي بإسناده المتقدم إلى إبراهيم بن المنذر الحزامي‏:‏ حدثني معن بن عيسى، حدثني محمد بن عبد الرحمن، الأفطس عن ابن جدعان فذكره، وهو مرسل‏.‏

وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في ‏(‏كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب‏)‏ بعد ما أورد طرفاً من ترجمة كعب بن زهير إلى أن قال‏:‏ وقد كان كعب بن زهير شاعراً مجوداً كثير الشعر، مقدماً في طبقته هو وأخو بجير، وكعب أشعرهما، وأبوهما زهير فوقهما، ومما يستجاد من شعر كعب بن زهير قوله‏:‏

لو كنت أعجب من شيء لأعجبني * سعي الفتى وهو مخبوء له القدر

يسعى الفتى لأمور ليس يدركها * فالنفس واحدة والهم منتشر

والمرء ما عاش ممدود له أمل * لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر

ثم أورد له ابن عبد البر أشعاراً كثيرة يطول ذكرها، ولم يؤرخ وفاته، وكذا لم يؤرخها أبو الحسن بن الأثير في كتاب ‏(‏الغابة في معرفة الصحابة‏)‏ ولكن حكى أن أباه توفي قبل المبعث بسنة، فالله أعلم‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ ومما أجاد فيه كعب بن زهير قوله يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

تجري به الناقة الأدماء معتجراً * بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم

ففي عطافيه أو أثناء بردته * ما يعلم الله من دين ومن كرم

الحوادث المشهورة في سنة ثمان والوفيات

فكان في جمادى منها وقعة مؤتة، وفي رمضان غزوة فتح مكة، وبعدها في شوال غزوة هوازن بحنين، وبعده كان حصار الطائف‏.‏

ثم كانت عمرة الجعرانة في ذي القعدة، ثم عاد إلى المدينة في بقية السنة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لليالي بقين من ذي الحجة في سفرته هذه‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر، وعمرو ابني الجلندي من الأزد، وأخذت الجزية من مجوس بلدهما ومن حولها من الأعراب‏.‏

قال‏:‏ وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي في ذي القعدة، فاستعاذت منه عليه السلام ففارقها، وقيل بل خيرها فاختارت الدنيا ففارقها‏.‏

قال‏:‏ وفي ذي الحجة منها ولد إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية، فاشتدت غيره أمهات المؤمنين منها حين رزقت ولداً ذكراً، وكانت قابلتها فيه سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فخرجت إلى أبي رافع فأخبرته، فذهب فبشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه مملوكاً، ودفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم برة بنت المنذر بن أسيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد بن عوف بن مبذول‏.‏

وكانت فيها وفاة من ذكرنا من الشهداء في هذه الوقائع، وقد قدمنا هدم خالد بن الوليد البيت الذي كانت العزى تعبد فيه بنخلة بين مكة والطائف، وذلك لخمس بقين من رمضان منها‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفيها كان هدم سواع الذي كانت تعبده هذيل برهاط، هدمه عمرو بن العاص رضي الله عنه، ولم يجد في خزانته شيئاً‏.‏

وفيها هدم مناة بالمشلل؛ وكانت الأنصار أوسها وخزرجها يعظمونه، هدمه سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه‏.‏

وقد ذكرنا من هذا فصلاً مفيداً مبسوطاً في تفسير سورة النجم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكر البخاري بعد فتح مكة قصة تخريب خثعم البيت الذي كانت تعبوه، ويسمونه الكعبة اليمانية مضاهية للكعبة التي بمكة، ويسمون التي بمكة الكعبة الشامية، ولتلك - الكعبة اليمانية -‏.‏

فقال البخاري‏:‏ ثنا يوسف بن موسى، ثنا أبو أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا تريحني من ذي الخلصة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ بلى‏.‏ فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده في صدري حتى رأيت أثر يده في صدري، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فما وقعت عن فرس بعد‏.‏

قال‏:‏ وكان ذو الخلصة بيتاً باليمن لخثعم وبجيلة، فيه نصب تعبد يقال له‏:‏ الكعبة اليمانية‏.‏

قال‏:‏ فأتاها فحرقها في النار وكسرها‏.‏

قال‏:‏ فلما قدم جرير اليمن، كان بها رجل يستقسم بالأزلام، فقيل له‏:‏ إن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ها هنا، فإن قدر عليك ضرب عنقك‏.‏

قال‏:‏ فبينما هو يضرب بها، إذ وقف عليه جرير فقال‏:‏ لتكسرنها وتشهد أن لا إله إلا الله، أو لأضربن عنقك‏؟‏ فكسرها وشهد‏.‏

ثم بعث جرير رجلاً من أحمس يكنى أرطأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك‏.‏

قال‏:‏ فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب‏.‏

قال‏:‏ فبارك رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات‏.‏

ورواه مسلم من طرق متعددة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي بنحوه‏.‏

تم والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات الجزء الرابع من تاريخ البداية والنهاية لابن كثير، ويتلوه الجزء الخامس، وأوله ذكر غزوة تبوك في رجب منها‏.‏