الجزء الخامس - سنة عشر من الهجرة، باب بعث رسول الله خالد بن الوليد

سنة عشر من الهجرة، باب بعث رسول الله خالد بن الوليد

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر، أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران؛ وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثاً، فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم‏.‏

فخرج خالد حتَّى قدم عليهم، فبعث الرُّكبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام، ويقولون‏:‏ أيها النَّاس أسلموا تسلموا، فأسلم النَّاس، ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام، وكتاب الله وسنة نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم كما أمره رسول الله إن هم أسلموا ولم يقاتلوا، ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد النَّبيّ رسول الله من خالد بن الوليد‏:‏ السَّلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد يا رسول الله صلى الله عليك فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب، وأمرتني إذا أتيتهم أن لا أقاتلهم ثلاثة أيام، وأن أدعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا قبلت منهم، وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنَّة نبيه، وإن لم يسلموا قاتلتهم، وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله، وبعثت فيهم ركباناً قالوا‏:‏ يا بني الحارث أسلموا تسلموا، فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم بين أظهرهم آمرهم بما أمرهم الله به، وأنهاهم عما نهاهم الله عنه، وأعلمهم معالم الإسلام وسنة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى يكتب إلي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والسَّلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته‏.‏

فكتب إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النَّبيّ رسول الله إلى خالد بن الوليد سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسولك يخبر أن بني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه فبشرهم وأنذرهم وأقبل، وليقبل معك وفدهم، والسَّلام عليك ورحمة الله وبركاته‏)‏‏)‏‏.‏

فأقبل خالد إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب، منهم‏:‏ قيس بن الحصين ذو الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجل، وعبد الله بن قراد الزيادي، وشداد بن عبيد الله القناني، وعمرو بن عبد الله الضبابي، فلما قدموا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورآهم، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند‏؟‏‏)‏‏)‏

قيل‏:‏ يا رسول الله هؤلاء بنوالحارث بن كعب، فلما وقفوا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سلموا عليه، وقالوا‏:‏ نشهد أنك رسول الله، وأنه لا إله إلا الله‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنتم الذين إذا زجروا استقدموا‏)‏‏)‏‏.‏

فسكتوا فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثانية ثم الثالثة، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الرابعة قال يزيد بن عبد المدان‏:‏ نعم يا رسول الله‏!‏نحن الذين إذا زجروا استقدموا، قالها أربع مرات‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو أن خالداً لم يكتب إلي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا، لألقيت رؤسكم تحت أقدامكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال يزيد بن عبد المدان‏:‏ أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالداً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فمن حمدتم‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ حمدنا الله الذي هدانا بك يا رسول الله‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏صدقتم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ لم نك نغلب أحداً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى قدكنتم تغلبون من قاتلكم‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله، إنا كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحداً بظلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏صدقتم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أمَّر عليهم قيس بن الحصين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/115‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم رجعوا إلى قومهم، في بقية شوال أو في صدر ذي القعدة، قال‏:‏ ثم بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم ليفقههم في الدِّين، ويعلمهم السُّنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم، وكتب له كتاباً عهد إليه فيه عهده وأمره أمره‏.‏

ثم أورده ابن إسحاق، وقد قدمناه في وفد ملوك حمير من طريق البيهقي، وقد رواه النسائي نظير ما ساقه محمد بن إسحاق بغير إسناد‏.‏

بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الأمراء إلى أهل اليمن

قال البخاري ‏(‏باب بعث أبي موسى، ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع‏)‏‏:‏ حدَّثنا موسى، ثنا أبو عوانة، ثنا عبد الملك، عن أبي بردة قال‏:‏ بعث النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أبا موسى، ومعاذ بن جبل إلى اليمن قال‏:‏ وبعث كل واحد منهما على مخلاف قال‏:‏ واليمن مخلافان ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية ‏(‏‏(‏وتطاوعا ولا تختلفا‏)‏‏)‏‏.‏

وانطلق كل واحد منهما إلى عمله قال‏:‏ وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه وكان قريباً من صاحبه أحدث به عهداً فسلم عليه، فسار معاذ في أرضه قريباً من صاحبه أبي موسى فجاء يسير على بغلته حتَّى انتهى إليه فإذا هو جالس وقد اجتمع النَّاس إليه، وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه فقال له معاذ‏:‏ يا عبد الله بن قيس أيم هذا‏؟‏

قال‏:‏ هذا رجل كفر بعد إسلامه‏.‏

قال‏:‏ لا أنزل حتَّى يقتل‏.‏

قال‏:‏ إنما جيء به لذلك فانزل‏.‏

قال‏:‏ ما أنزل حتَّى يقتل، فأمر به فقتل ثم نزل‏.‏

فقال‏:‏ يا عبد الله كيف تقرأ القرآن‏؟‏

قال‏:‏ أتفوقه تفوقاً‏.‏

قال‏:‏ فكيف تقرأ أنت يا معاذ‏؟‏

قال‏:‏ أنام أول الليل فأقوم، وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي‏.‏

انفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/116‏)‏

ثم قال البخاري‏:‏ ثنا إسحاق، ثنا خالد عن الشيباني، عن سعيد ابن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى الأشعريّ، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعثه إلى اليمن فسأله عن أشربة تصنع بها، فقال‏:‏ ما هي‏؟‏

قال‏:‏ البتع، والمزر‏.‏

فقلت لأبي بردة‏:‏ ما التبع‏؟‏

قال‏:‏ نبيذ العسل، والمزر نبيذ الشعير‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كل مسكر حرام‏)‏‏)‏‏.‏

رواه جرير، وعبد الواحد عن الشيباني، عن أبي بردة‏.‏

ورواه مسلم من حديث سعيد ابن أبي بردة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدَّثنا حبان، أنبأنا عبد الله عن زكريا ابن أبي إسحاق، عن يحيى بن عبد الله ابن صيفي، عن أبي معبد مولى ابن عبَّاس، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن‏:‏ ‏(‏‏(‏إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب‏)‏‏)‏‏.‏

وقد أخرجه بقية الجماعة من طرق متعددة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان، حدَّثني راشد بن سعد عن عاصم بن حميد الكسوني، عن معاذ بن جبل قال‏:‏ لما بعثه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى اليمن خرج معه يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر مسجدي هذا وقبري‏)‏‏)‏‏.‏

فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم التفت بوجهه نحو المدينة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ أولى النَّاس بي المتَّقون من كانوا وحيث كانوا‏)‏‏)‏‏.‏

ثم رواه‏:‏ عن أبي اليمان، عن صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد، عن عاصم بن حميد السكوني، أن معاذ لما بعثه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى اليمن، خرج معه يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري‏)‏‏)‏‏.‏

فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تبك يا معاذ للبكاء أوان، البكاء من الشَّيطان‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان، حدَّثني أبو زياد يحيى بن عبيد الغساني عن يزيد بن قطيب، عن معاذ أنه كان يقول‏:‏ بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى اليمن فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لعلك أن تمر بقبري ومسجدي، فقد بعثتك إلى قوم رقيقة قلوبهم يقاتلون على الحق مرتين، فقاتل بمن أطاعك منهم من عصاك، ثم يفيئون إلى الإسلام حتَّى تبادر المرأة زوجها، والولد والده، والأخ أخاه، فأنزل بين الحيين السكون والسكاسك‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5 /117‏)‏

وهذا الحديث فيه إشارة وظهور وإيماء إلى أن معاذاً رضي الله عنه لا يجتمع بالنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعد ذلك وكذلك وقع فإنَّه أقام باليمن حتَّى كانت حجة الوداع، ثم كانت وفاته عليه السلام بعد أحد وثمانين يوماً من يوم الحج الأكبر‏.‏

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا وكيع عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن معاذ أنه لما رجع من اليمن قال‏:‏ يا رسول الله رأيت رجالاً باليمن يسجد بعضهم لبعض، أفلا نسجد لك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كنت آمر بشراً أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه أحمد‏:‏ عن ابن نمير، عن الأعمش، سمعت أبا ظبيان يحدث عن رجل من الأنصار، عن معاذ بن جبل قال‏:‏ أقبل معاذ من اليمن فقال‏:‏ يا رسول الله إني رأيت رجالاً، فذكر معناه، فقصد دار على رجل منهم‏.‏

ومثله لا يحتج به، لا سيما وقد خالفه غيره ممن يعتد به، فقالوا‏:‏ لما قدم معاذ من الشام‏.‏

كذلك رواه أحمد‏:‏ ثنا إبراهيم بن مهدي، ثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن ابن أبي حسين، عن شهر بن حوشب، عن معاذ بن جبل قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏مفاتيح الجنَّة شهادة أن لا إله إلا الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا وكيع، ثنا سفيان عن حبيب ابن أبي ثابت، عن ميمون ابن أبي شبيب، عن معاذ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معاذ اتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالِق النَّاس بخلق حسن‏)‏‏)‏‏.‏

قال وكيع‏:‏ وجدته في كتابي عن أبي ذر، وهو السَّماع الأول‏.‏

وقال سفيان بن مرة‏:‏ عن معاذ‏.‏

ثم قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا إسماعيل عن ليث، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن ميمون ابن أبي شبيب، عن معاذ أنه قال‏:‏ يا رسول الله أوصني‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اتق الله حيثما كنت‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ زدني‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اتبع السيئة الحسنة تمحها‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ زدني‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خالِق النَّاس بخلق حسن‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه التِّرمذي في جامعه‏:‏ عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان الثوري به، وقال‏:‏ حسن‏.‏

قال شيخنا في ‏(‏الأطراف‏)‏ وتابعه فضيل بن سليمان‏:‏ عن ليث ابن أبي سليم، عن الأعمش، عن حبيب به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا أبو اليمان، ثنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي، عن معاذ بن جبل قال‏:‏ أوصاني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعشر كلمات‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تشرك بالله شيئاً وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من مالك وأهلك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمداً فإن من ترك صلاةً مكتوبةً متعمداً فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربن خمراً فإنَّه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية فإن بالمعصية يحل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك النَّاس، وإذا أصاب النَّاس موت وأنت فيهم فاثبت، وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدباً، وأحبهم في الله عز وجل‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5 /118‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يونس، ثنا بقية عن السري بن ينعم، عن شريح، عن مسروق، عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لما بعثه إلى اليمن قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا سليمان بن داود الهاشمي، ثنا أبو بكر - يعني‏:‏ ابن عياش - ثنا عاصم عن أبي وائل، عن معاذ قال‏:‏ بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل حالم ديناراً، أو عدله من المعافر، وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرةً مسنةً، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعاً حولياً، وأمرني فيما سقت السماء العشر، وما سقي بالدوالي نصف العشر‏.‏

وقد رواه أبو داود من حديث أبي معاوية‏.‏

والنسائي من حديث محمد بن إسحاق عن الأعمش كذلك‏.‏

وقد رواه أهل السنن الأربعة من طرق‏:‏ عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن معاذ‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا معاوية عن عمرو، وهارون بن معروف قالا‏:‏ ثنا عبد الله بن وهب عن حيوة، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن سلمة بن أسامة، عن يحيى بن الحكم أن معاذاً قال‏:‏ بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أصدق أهل اليمن، فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعاً‏.‏

قال هارون‏:‏ والتبيع الجذع أو جذعة، ومن كل أربعين مسنة، فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين، وما بين الستين والسبعين، وما بين الثمانين والتسعين، فأبيت ذلك وقلت لهم‏:‏ أسأل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن ذلك، فقدمت فأخبرت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعاً، ومن كل أربعين مسنَّة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعاً، ومن الثمانين مسنتين، ومن التسعين ثلاثة أتباع، ومن المائة مسنة وتبيعين ومن العشرة، ومائة مسنتين وتبيعاً، ومن العشرين ومائة ثلاث مسننات أو أربعة أتباع‏.‏

قال‏:‏ وأمرني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئاً إلا أن يبلغ مسنة أو جذع‏.‏

وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها، وهذا من أفراد أحمد‏.‏

وفيه دلالة على أنه قدم بعد مصيره إلى اليمن على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

والصحيح‏:‏ أنه لم ير النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعد ذلك، كما تقدَّم في الحديث‏.‏

وقد قال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا معمر عن الزُّهري، عن أبي بن كعب بن مالك قال‏:‏ كان معاذ بن جبل شاباً جميلاً سمحاً من خير شباب قومه لا يسأل شيئاً إلا أعطاه، حتَّى كان عليه دين أغلق ماله، فكلم رسول الله في أن يكلم غرماءه ففعل فلم يضعوا له شيئاً، فلو ترك لأحد بكلام أحد لترك لمعاذ بكلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، قال‏:‏ فدعاه رسول الله، فلم يبرح أن باع ماله وقسمه بين غرمائه‏.‏

قال‏:‏ فقام معاذ ولا مال له‏.‏

قال‏:‏ فلمَّا حج رسول الله بعث معاذاً إلى اليمن‏.‏

قال‏:‏ فكان أول من تجر في هذا المال معاذ‏.‏

قال‏:‏ فقدم على أبي بكر الصديق من اليمن وقد توفي رسول الله، فجاء عمر فقال‏:‏ هل لك أن تعطيني فتدفع هذا المال إلى أبي بكر، فإن أعطاكه فاقبله‏.‏

قال‏:‏ فقال معاذ‏:‏ لم أدفعه إليه وإنما بعثني رسول الله ليجيرني، فلما أبى عليه انطلق عمر إلى أبي بكر، فقال‏:‏ أرسل إلى هذا الرجل فخذ منه، ودع له‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ ما كنت لأفعل، وإنما بعثه رسول الله ليجبره، فلست آخذاً منه شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فلما أصبح معاذ انطلق إلى عمر، فقال‏:‏ ما أرى إلا فاعل الذي قلت، إني رأيتني البارحة في النوم - فيما يحسب عبد الرزاق - قال‏:‏ أجر إلى النار، وأنت آخذ بحجزتي‏.‏

قال‏:‏ فانطلق إلى أبي بكر بكل شيء جاء به، حتَّى جاءه بسوطه وحلف له أنه لم يكتمه شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ هو لك، لا آخذ منه شيئاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/119‏)‏

وقد رواه أبو ثور عن معمر، عن الزُّهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك فذكره إلا أنه قال‏:‏ حتَّى إذا كان عام فتح مكة بعثه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على طائفة من اليمن أميراً، فمكث حتَّى قبض رسول الله، ثم قدم في خلافة أبي بكر، وخرج إلى الشام‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وقد قدمنا أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم استخلفه بمكة مع عتاب بن أسيد ليعلِّم أهلها، وأنه شهد غزوة تبوك؛ فالأشبه أن بعثه إلى اليمن كان بعد ذلك، والله أعلم‏.‏

ثم ذكر البيهقي لقصة منام معاذ شاهداً من طريق الأعمش عن أبي وائل، عن عبد الله، وأنه كان من جملة ما جاء به عبيد، فأتى بهم أبا بكر فلما ردَّ الجميع عليه رجع بهم، ثم قام يصلي فقاموا كلهم يصلون معه، فلما انصرف قال‏:‏ لمن صلَّيتم‏؟‏

قالوا‏:‏ لله‏.‏

قال‏:‏ فأنتم عتقاء، فأعتقهم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن أبي عون، عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص، عن معاذ، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين بعثه إلى اليمن‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف تصنع إن عرض لك قضاء‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ أقضي بما في كتاب الله‏.‏

قال ‏(‏‏(‏فإن لم يكن في كتاب الله‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ فسنة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإن لم يكن في سنة رسول الله‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ أجتهد وإني لا آلو‏.‏

قال‏:‏ فضرب رسول الله صدري، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه أحمد عن وكيع، عن عفان، عن شعبة بإسناده ولفظه‏.‏

وأخرجه أبو داود، والتِّرمذي من حديث شعبة به‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل‏.‏

وقد رواه ابن ماجه من وجه آخر عنه، إلا أنه من طريق محمد بن سعد بن حسان وهو المصلوب أحد الكذابين عن عياذ بن بشر، عن عبد الرحمن، عن معاذ به نحوه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5 /120‏)‏

وقد روى الإمام أحمد عن محمد بن جعفر، ويحيى بن سعيد، عن شعبة، عن عمرو ابن أبي حكيم، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن معمر، عن أبي الأسود الدئلي قال‏:‏ كان معاذ باليمن، فارتفعوا إليه في يهودي مات وترك أخاً مسلماً‏.‏

فقال معاذ‏:‏ إني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الإسلام يزيد ولا ينقص‏)‏‏)‏ فورَّثه‏.‏

ورواه أبو داود من حديث ابن بريدة به، وقد حكى هذا المذهب عن معاوية ابن أبي سفيان‏.‏

ورواه عن يحيى بن معمر القاضي وطائفة من السلف، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه، وخالفهم الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة وأصحابهم محتجين بما ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر‏)‏‏)‏‏.‏

والمقصود‏:‏ أن معاذ رضي الله عنه كان قاضياً للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم باليمن، وحاكماً في الحروب، ومصدّقاً إليه تدفع الصدقات، كما دلَّ عليه حديث ابن عبَّاس المتقدم، وقد كان بارزاً للناس يصلي بهم الصلوات الخمس‏.‏

كما قال البخاري‏:‏ حدثنا سليمان بن حرب، ثنا شعبة عن حبيب ابن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن عمرو بن ميمون أن معاذاً لما قدم اليمن صلى بهم الصبح، فقرأ ‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏‏.‏

فقال رجل من القوم‏:‏ لقد قرت عين إبراهيم، انفرد به البخاري‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏
باب بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم علي ابن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع

حدثنا أحمد بن عثمان، ثنا شريح بن مسلمة، ثنا إبراهيم بن يوسف بن إسحاق ابن أبي إسحاق، حدثني أبي عن أبي إسحاق، سمعت البراء بن عازب قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مع خالد بن الوليد إلى اليمن قال‏:‏ ثم بعث عليا بعد ذلك مكانه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مُر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل‏)‏‏)‏‏.‏

فكنت فيمن عقب معه، قال‏:‏ فغنمت أواقي ذات عدد‏.‏

انفرد به البخاري من هذا الوجه‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، ثنا روح بن عبادة، ثنا علي بن سويد بن منجوف عن عبد الله ابن بريدة، عن أبيه قال‏:‏ بعث النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم علياً إلى خالد بن الوليد ليقبض الخمس، وكنت أبغض علياً، فأصبح وقد اغتسل، فقلت لخالد‏:‏ ألا ترى إلى هذا‏؟‏

فلما قدمنا على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذكرت ذلك له‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا بريدة أتبغض علياً‏؟‏‏)‏‏)‏

فقلت‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك‏)‏‏)‏‏.‏

انفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يحيى بن سعيد، ثنا عبد الجليل قال‏:‏ انتهيت إلى حلقة فيها أبو مجلز، وابنا بريدة، فقال عبد الله بن بريدة‏:‏ حدثني أبو بريدة قال‏:‏ أبغضت علياً بغضاً لم أبغضه أحداً قط، قال‏:‏ وأحببت رجلاً من قريش لم أحبه إلا على بغضه علياً قال‏:‏ فبعث ذلك الرجل على خيل فصحبته ما أصحبه إلا على بغضه علياً، قال‏:‏ فأصبنا سبياً، قال‏:‏ فكتب إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أبعث إلينا من يخمسه، قال‏:‏ فبعث إلينا علياً، وفي السبي وصيفة من أفضل السبي‏.‏

قال‏:‏ فخمس، وقسَّم، فخرج ورأسه يقطر‏.‏

فقلنا‏:‏ يا أبا الحسن ما هذا‏؟‏

فقال‏:‏ ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي فإني قسمت وخمست فصارت في أهل بيت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم صارت في آل علي ووقعت بها‏.‏

قال‏:‏ فكتب الرجل إلى نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقلت‏:‏ ابعثني فبعثني مصدقاً، فجعلت أقرأ الكتاب وأقول صدق قال‏:‏ فأمسك يدي والكتاب فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتبغض علياً‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حباً، فوالذي نفس محمد بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فما كان من النَّاس أحد بعد قول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أحب إلي من علي‏.‏ ‏(‏ج /ص‏:‏5/ 121‏)‏

قال عبد الله بن بريدة‏:‏ فوالذي لا إله غيره ما بيني وبين النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا الحديث غير أبي بريدة‏.‏

تفرَّد به بهذا السياق عبد الجليل بن عطية الفقيه أبو صالح البصري، وثَّقه ابن معين وابن حبان‏.‏

وقال البخاري‏:‏ إنما يهم في الشيء‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ثنا أبان بن صالح عن عبد الله بن نيار الأسلميّ، عن خاله عمرو بن شاس الأسلميّ، وكان من أصحاب الحديبية، قال‏:‏ كنت مع علي ابن أبي طالب في خيله التي بعثه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى اليمن فجفاني علي بعض الجفاء، فوجدت في نفسي عليه، فلما قدمت المدينة اشتكيته في مجالس المدينة وعند من لقيته، فأقبلت يوماً ورسول الله جالس فلما رآني أنظر إلى عينيه، نظر إلي حتَّى جلست إليه فلما جلست إليه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه والله يا عمرو بن شاس لقد آذيتني‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون، أعوذ بالله والإسلام أن أوذي رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من آذى علياً فقد آذاني‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البيهقي من وجه آخر عن ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن الفضل بن معقل بن سنان، عن عبد الله بن نيار، عن خاله عمرو بن شاس، فذكره بمعناه‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو إسحاق المولى، ثنا عبيدة ابن أبي السفر، سمعت إبراهيم بن يوسف ابن أبي إسحاق عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام‏.‏

قال البراء‏:‏ فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، ثم إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعث علي ابن أبي طالب وأمره أن يقفل خالداً، إلا رجلاً كان ممن يمم مع خالد فأحب أن يعقب مع علي، فليعقب معه‏.‏

قال البراء‏:‏ فكنت فيمن عقب مع علي، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، ثم تقدم فصلى بنا علي، ثم صفنا صفاً واحداً، ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأسلمت همدان جميعاً، فكتب علي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بإسلامها، فلما قرأ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الكتاب خرَّ ساجداً، ثم رفع رأسه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏السلام على همدان، السلام على همدان‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/122‏)‏

قال البيهقي‏:‏ رواه البخاري مختصراً من وجه آخر عن إبراهيم بن يوسف‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو الحسين محمد بن الحسين محمد بن الفضل القطان، أنبأنا أبو سهل ابن زياد القطان، حدثنا أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا إسماعيل ابن أبي أويس، حدثني أخي عن سليمان بن بلال، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، عن أبي سعيد الخدري أنه قال‏:‏ بعث رسول الله علي ابن أبي طالب إلى اليمن‏.‏

قال أبو سعيد‏:‏ فكنت فيمن خرج معه، فلما أخذ من إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا وكنا قد رأينا في إبلنا خللاً فأبى علينا وقال‏:‏ إنما لكم فيها سهم كما للمسلمين‏.‏

قال‏:‏ فلما فرغ علي وانطفق من اليمن راجعاً أمر علينا إنساناً، وأسرع هو وأدرك الحج فلما قضى حجته، قال له النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ارجع إلى أصحابك حتَّى تقدم عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو سعيد‏:‏ وقد كنا سألنا الذي استخلفه ما كان علي منعنا إياه ففعل، فلما عرف في إبل الصدقة أنها قد ركبت، ورأى أثر الركب قدم الذي أمره ولامه، فقلت‏:‏ أما أن الله علي لئن قدمت المدينة لأذكرن لرسول الله ولأخبرنه ما لقينا من الغلظة والتضييق‏.‏

قال‏:‏ فلما قدمنا المدينة غدوت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أريد أن أفعل ما كنت حلفت عليه، فلقيت أبا بكر خارجاً من عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلما رآني وقف معي ورحب بي، وساءلني وساءلته، وقال‏:‏ متى قدمت‏؟‏

فقلت‏:‏ قدمت البارحة‏.‏

فرجع معي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فدخل وقال‏:‏ هذا سعد بن مالك ابن الشهيد‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إئذن له‏)‏‏)‏‏.‏

فدخلت فحييت رسول الله وحياني، وأقبل علي وسألني عن نفسي وأهلي وأحفى المسألة‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله ما لقينا من علي من الغلظة وسوء الصحبة والتضييق‏.‏

فاتئد رسول الله وجعلت أنا أعدد ما لقينا منه، حتَّى إذا كنا في وسط كلامي ضرب رسول الله على فخذي، وكنت منه قريباً وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا سعد بن مالك ابن الشهيد مه، بعض قولك لأخيك علي، فوالله لقد علمت أنه أحسن في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقلت في نفسي‏:‏ - ثكلتك أمك سعد بن مالك - ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم ولا أدري لا جرم والله لا أذكره بسوء أبداً، سراً ولا علانية‏.‏

وهذا إسناد جيد على شرط النسائي، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة‏.‏

وقد قال يونس‏:‏ عن محمد بن إسحاق، حدثني يحيى بن عبد الله ابن أبي عمر، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال‏:‏ إنما وجد جيش علي ابن أبي طالب الذين كانوا معه باليمن لأنهم حين أقبلوا خلف عليهم رجلاً وتعجل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ فعمد الرجل فكسى كل رجل حلة، فلما دنوا خرج عليهم علي يستلقيهم فإذا عليهم الحلل، قال علي‏:‏ ما هذا‏؟‏

قالوا‏:‏ كسانا فلان‏.‏

قال‏:‏ فما دعاك إلى هذا قبل أن تقدم على رسول الله فيصنع ما شاء فنزع الحلل منهم، فلما قدموا على رسول الله اشتكوه لذلك، وكانوا قد صالحوا رسول الله؛ وإنما بعث عليه إلى جزية موضوعة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/123‏)‏

قلت‏:‏ هذا السياق أقرب من سياق البيهقي، وذلك أن علياً سبقهم لأجل الحج وساق معه هدياً، وأهلَّ بإهلال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأمره أن يمكث حراماً‏.‏

وفي رواية‏:‏ البراء بن عازب أنه قال له‏:‏ أني سقت الهدي وقرنت‏.‏

والمقصود‏:‏ أن علياً لما كثر فيه القيل والقال من ذلك الجيش بسبب منعه إياهم استعمال إبل الصدقة، واسترجاعه منهم الحلل التي أطلقها لهم نائبه، وعلي معذور فيما فعل، لكن اشتهر الكلام فيه في الحجيج، فلذلك و الله أعلم لما رجع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من حجته، وتفرغ من مناسكه، ورجع إلى المدينة فمر بغد يرخم قام في النَّاس خطيبا فبرأ ساحة علي، ورفع من قدره، ونبه على فضله ليزيل ما وقر في نفوس كثير من النَّاس، وسيأتي هذا مفصلاً في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا قتيبة، ثنا عبد الواحد عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة، حدثني عبد الرحمن ابن أبي نُعم، سمعت أبا سعيد الخدري يقول‏:‏ بعث علي ابن أبي طالب إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها‏.‏

قال‏:‏ فقسمها بين أربعة؛ بين‏:‏ عيينة بن بدر، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع‏:‏ إما علقمة بن علاثة، وإما عامر بن الطفيل‏.‏

فقال رجل من أصحابه‏:‏ كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء‏.‏

فبلغ ذلك النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا تأمنوني‏؟‏ وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار فقال‏:‏ يا رسول الله اتق الله‏!‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ويلك أولست أحق النَّاس أن يتقي الله‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ ثم ولى الرجل‏.‏

قال خالد بن الوليد‏:‏ يا رسول الله ألا أضرب عنقه‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا لعله أن يكون يصلي‏)‏‏)‏‏.‏

قال خالد‏:‏ وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لم أومر أن أنقب عن قلوب النَّاس، ولا أشق بطونهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم نظر إليه وهو مقف‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه يخرج من ضئضئي هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية‏)‏‏)‏ أظنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاري في مواضع أخر من كتابه‏.‏

ومسلم في ‏(‏كتاب الزكاة‏)‏ من صحيحه، من طرق متعددة إلى عمارة بن القعقاع به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/124‏)‏

ثم قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يحيى عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي قال‏:‏ بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى اليمن وأنا حديث السن، قال‏:‏ فقلت‏:‏ تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث، ولا علم لي بالقضاء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله سيهدي لسانك، ويثبت قلبك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فما شككت في قضاء بين اثنين‏.‏

ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسود بن عامر، ثنا شريك عن سماك، عن حنش، عن علي قال‏:‏ بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى اليمن قال‏:‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني، وأنا حدث لا أبصر القضاء‏.‏

قال‏:‏ فوضع يده على صدري وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم ثبَّت لسانه، واهد قلبه، يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتَّى تسمع من الآخر ما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فما اختلف عليقضاء بعد - أو ما أشكل علي قضاء بعد -‏.‏

ورواه أحمد أيضاً وأبو داود من طرق عن شريك، والتِّرمذي من حديث زائدة، كلاهما عن سماك بن حرب، عن حنش بن المعتمر‏.‏

وقيل‏:‏ ابن ربيعة الكناني الكوفي عن علي به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان بن عيينة عن الأجلح، عن الشعبي، عن عبد الله ابن أبي الخليل، عن زيد بن أرقم‏:‏ أن نفراً وطئوا امرأة في طهر، فقال علي‏:‏ لاثنين أتطيبان نفساً لذا‏؟‏

فقالا‏:‏ لا، فأقبل على الآخرين‏.‏

فقال‏:‏ أتطيبان نفساً لذا‏؟‏

فقالا‏:‏ لا‏.‏

فقال‏:‏ أنتم شركاء متشاكسون‏.‏

فقال‏:‏ إني مقرع بينكم فأيكم قرع أغرمته ثلثي الدية، وألزمته الولد‏.‏

قال‏:‏ فذكر ذلك للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أعلم إلا ما قال علي‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا شريح بن النعمان، ثنا هشيم، أنبأنا الأجلح عن الشعبي، عن أبي الخليل، عن زيد بن أرقم‏:‏ أن علياً أتى في ثلاثة نفر إذ كان في اليمن، اشتركوا في ولد فأقرع بينهم، فضمن الذي أصابته القرعة ثلثي الدية، وجعل الولد له‏.‏

قال زيد بن أرقم‏:‏ فأتيت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأخبرته بقضاء علي، فضحك حتَّى بدت نواجذه‏.‏

ورواه أبو داود عن مسدد، عن يحيى القطان‏.‏

والنسائي عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، كلاهما عن الأجلح بن عبد الله، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن الخليل‏.‏

وقال النسائي في رواية عبد الله ابن أبي الخليل، عن زيد بن أرقم قال‏:‏ كنت عند النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فجاء رجل من أهل اليمن فقال‏:‏ إن ثلاثة نفر أتوا علياً يختصمون في ولد وقعوا على امرأة في طهر واحد، فذكر نحو ما تقدم وقال‏:‏ فضحك النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد روياه أعني أبا داود، والنسائي، من حديث شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبي، عن أبي الخليل، أو ابن الخليل، عن علي قوله‏:‏ فأرسله ولم يرفعه‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد أيضاً، عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن الأجلح، عن الشعبي، عن عبد خير، عن زيد بن أرقم، فذكر نحو ما تقدم‏.‏

وأخرجه أبو داود والنسائي جميعاً عن حنش بن أصرم‏.‏

وابن ماجه عن إسحاق ابن منصور، كلاهما عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن صالح الهمداني، عن الشعبي، عن عبد خير، عن زيد بن أرقم به‏.‏ ‏(‏ج/ ص‏:‏5/125‏)‏

قال شيخنا في الأطراف‏:‏ لعل عبد خير هذا هو ‏(‏عبد الله بن الخليل‏)‏، ولكن لم يضبط الراوي اسمه‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا يقوى الحديث، وإن كان غيره كان أجود لمتابعته له، لكن الأجلح بن عبد الله الكندي فيه كلام ما، وقد ذهب إلى القول بالقرعة في الأنساب الإمام أحمد، وهو من أفراده‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو سعيد، ثنا إسرائيل، ثنا سماك عن حنش، عن علي قال‏:‏ بعثني رسول الله إلى اليمن، فانتهينا إلى قوم قد بنوا زبية للأسد، فبينما هم كذلك يتدافعون إذ سقط رجل فتعلق بآخر ثم تعلق آخر بآخر حتَّى صاروا فيها أربعة، فجرحهم الأسد، فانتدب له رجل بحربة فقتله، وماتوا من جراحتهم كلهم، فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر فأخرجوا السلاح ليقتتلوا، فأتاهم علي على تعبية ذلك فقال‏:‏ تريدون أن تقاتلوا ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حي، إني أقضي بينكم قضاء إن رضيتم فهو القضاء، وإلا أحجز بعضكم عن بعض حتَّى تأتوا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيكون هو الذي يقضي بينكم، فمن عدا بعد ذلك فلا حق له، اجمعوا من قبائل الذين حضروا البئر ربع الدية، وثلث الدية، ونصف الدية، والدية كاملة، فللأول‏:‏ الربع، لأنه هلك، والثاني‏:‏ ثلث الدية، والثالث‏:‏ نصف الدية، والرابع‏:‏ الدية، فأبوا أن يرضوا فأتوا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو عند مقام إبراهيم، فقصُّوا عليه القصة، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا أحكم بينكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال رجل من القوم‏:‏ يا رسول الله إن عليا قضى علينا فقصُّوا عليه القصة، فأجازه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

ثم، رواه الإمام أحمد أيضاً عن وكيع، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن حنش، عن علي فذكره‏.‏