الجزء الخامس - سنة إحدى عشرة من الهجرة

(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏

سنة إحدى عشرة من الهجرة

استهلت هذه السنة وقد استقر الركاب الشريف النبوي بالمدينة النبوية المطهرة مرجعه من حجة الوداع، وقد وقعت في هذه السنة أمور عظام من أعظمها خطباً وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولكنه عليه السلام نقله الله عز وجل من هذه الدار الفانية إلى النعيم الأبدي في محلة عالية رفيعة، ودرجة في الجنة لا أعلى منها ولا أسنى كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى‏)‏ وذلك بعد ما أكمل أداء الرسالة التي أمره الله تعالى بإبلاغها، ونصح أمته، ودلهم على خير ما سيعلمه لهم، وحذرهم ونهاهم عما فيه مضرة عليهم في دنياهم وأخراهم، وقد قدمنا ما رواه صاحبا الصحيح من حديث عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ نزل قوله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً‏)‏‏)‏ يوم الجمعة ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واقف بعرفة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/234‏)‏

وروينا من طريق جيد أن عمر بن الخطاب حين نزلت هذه الآية بكى، فقيل‏:‏ ما يبكيك‏؟‏

فقال‏:‏ إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان، وكأنه استشعر وفاة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد أشار عليه السلام إلى ذلك فيما رواه مسلم من حديث ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقف عند جمرة العقبة وقال لنا‏:‏ ‏(‏‏(‏خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا‏)‏‏)‏ وقدمنا ما رواه الحافظان أبو بكر البزار والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة الربذي، عن صدقة بن يسار، عن ابن عمر قال‏:‏ نزلت هذه السورة ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏}‏ في أوسط أيام التشريق، فعرف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت، ثم ذكر خطبته في ذلك اليوم كما تقدم‏.‏

وهكذا قال عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما‏:‏ لعمر بن الخطاب حين سأله عن تفسير هذه السورة بمحضر كثير من الصحابة ليريهم فضل ابن عبَّاس وتقدمه وعلمه، حين لامه بعضهم على تقديمه وإجلاسه له مع مشايخ بدر، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه من حيث تعلمون‏)‏‏)‏

ثم سألهم وابن عبَّاس حاضر عن تفسير هذه السورة ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً‏}‏‏.‏

فقالوا‏:‏ أمرنا إذا فتح لنا أن نذكر الله ونحمده ونستغفره‏.‏

فقال‏:‏ ما تقول يا ابن عبَّاس‏؟‏

فقال‏:‏ هو أجل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نعي إليه‏.‏

فقال عمر‏:‏ لا أعلم منها إلا ما تعلم‏.‏

وقد ذكرنا في تفسير هذه السورة ما يدل على قول ابن عبَّاس من وجوه، وإن كان لا ينافي ما فسر به الصحابة رضي الله عنهم‏.‏

وكذلك ما رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لما حج بنسائه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما هي هذه الحجة ثم الزمن ظهور الحصر‏)‏‏)‏ تفرد به أحمد من هذا الوجه‏.‏

وقد رواه أبو داود في سننه من وجه آخر جيد‏.‏

والمقصود‏:‏ أن النفوس استشعرت بوفاته عليه السلام في هذه السنة، ونحن نذكر ذلك ونورد ما روي فيما يتعلق به من الأحاديث والآثار، وبالله المستعان‏.‏

ولنقدم على ذلك ما ذكره الأئمة محمد بن إسحاق بن يسار، وأبو جعفر بن جرير، وأبو بكر البيهقي في هذا الموضع قبل الوفاة من تعداد حججه، وغزواته، وسراياه، وكتبه، ورسله إلى الملوك، فلنذكر ذلك ملخصاً مختصراً، ثم نتبعه بالوفاة‏.‏

ففي الصحيحين من حديث أبي إسحاق السبيعي عن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزا تسع عشرة غزوة، وحج بعد ما هاجر حجة الوداع، ولم يحج بعدها‏.‏

قال أبو إسحاق‏:‏ وواحدة بمكة، كذا قال أبو إسحاق السبيعي‏.‏

وقد قال زيد بن الحباب عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حج ثلاث حجات‏:‏ حجتين قبل أن يهاجر، وواحدة بعد ما هاجر معها عمرة، وساق ستاً وثلاثين بدنة، وجاء علي بتمامها من اليمن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5 /235‏)‏

وقد قدمنا عن غير واحد من الصحابة منهم أنس بن مالك في الصحيحين أنه عليه السلام اعتمر أربع عمر‏:‏ عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، والعمرة التي مع حجة الوداع‏.‏

وأما الغزوات‏:‏ فروى البخاري عن أبي عاصم النَّبيّل، عن يزيد ابن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ غزوت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سبع غزوات، ومع زيد بن حارثة تسع غزوات يؤمِّره علينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وفي الصحيحين عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن زيد بن سلمة قال‏:‏ غزوت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، مرة علينا أبو بكر، ومرة على أسامة بن زيد‏.‏

وفي صحيح البخاري من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء قال‏:‏ غزا رسول الله خمس عشرة غزوة‏.‏

وفي الصحيحين من حديث شعبة عن أبي إسحاق، عن البراء أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزا تسع عشرة غزوة، وشهد معه منها سبع عشرة، أولها‏:‏ العشير، أو العسير‏.‏

وروى مسلم عن أحمد بن حنبل، عن معتمر، عن كهمس بن الحسن، عن ابن بريدة، عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ست عشرة غزوة‏.‏

وفي رواية لمسلم من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تسع عشرة غزوة قاتل منها في ثمان‏.‏

وفي رواية عنه بهذا الإسناد‏:‏ وبعث أربعاً وعشرين سرية، قاتل يوم بدر، وأُحد، والأحزاب، والمريسيع، وخيبر، ومكة، وحنين‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزا إحدى وعشرين غزوة، غزوت معه منها تسع عشرة غزوة، ولم أشهد بدراً، ولا أحداً منعني أبي، فلما قتل أبي يوم أُحد لم أتخلف عن غزاة غزاها‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا معمر عن الزُّهري قال‏:‏ سمعت سعيد بن المسيب يقول‏:‏ غزا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثمان عشرة غزوة قال‏:‏ وسمعته مرة يقول‏:‏ أربعاً وعشرين غزوة، فلا أدري أكان ذلك وهماً، أو شيئاً سمعته بعد ذلك‏.‏

وقال قتادة‏:‏ غزا رسول الله تسع عشرة، قاتل في ثمان منها، وبعث من البعوث أربعاً وعشرين، فجميع غزواته وسراياه ثلاث وأربعون‏.‏

وقد ذكر عروة بن الزبير، والزُّهري، وموسى بن عقبة، ومحمد إسحاق بن يسار، وغير واحد من أئمة هذا الشأن أنه عليه السلام قاتل يوم بدر في رمضان من سنة اثنتين، ثم في أُحد في شوال سنة ثلاث، ثم الخندق وبني قريظة في شوال أيضاً من سنة أربع وقيل‏:‏ خمس، ثم في بني المصطلق بالمريسيع في شعبان سنة خمس، ثم في خيبر في صفر سنة سبع، ومنهم من يقول‏:‏ سنة ست، والتحقيق أنه في أول سنة سبع، وآخر سنة ست، ثم قاتل أهل مكة في رمضان سنة ثمان، وقاتل هوازن وحاصر أهل الطائف في شوال وبعض ذي الحجة سنة ثمان، كما تقدم تفصيله، وحج سنة ثمان بالنَّاس عتاب بن أسيد نائب مكة، ثم في سنة تسع أبو بكر الصديق، ثم حج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالمسلمين سنة عشر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5 /236‏)‏

وقال محمد ابن إسحاق‏:‏ وكان جميع ما غزا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بنفسه الكريمة سبعاً وعشرين غزوة‏:‏ غزوة وِدَّان، وهي غزوة الأبواء، ثمَّ غزوة بواط من ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأولى بطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر العظمى التي قتل الله فيها صناديد قريش، ثمَّ غزوة بني سليم حتَّى بلغ الكدر، ثم غزوة السويق بطلب أبا سفيان بن حرب، ثمَّ غزوة غطفان - وهي غزوة ذي أمر-، ثمَّ غزوة نجران معدن بالحجاز، ثم غزوة أُحد، ثم حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة ذات الرِّقاع من نخل، ثم غزوة بدر الآخرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثمَّ غزوة بني قريظة، ثمَّ غزوة بني لحيان من هذيل، ثم غزوة ذي قرد، ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالاً فصده المشركون، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة القضاء، ثم غزوة الفتح، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطَّائف، ثمَّ غزوة تبوك‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ قاتل منها في تسع غزوات‏:‏ غزوة بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطَّائف‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدَّم ذلك كله مبسوطاً في أماكنه بشواهده وأدلته، ولله الحمد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانت بعوثه عليه السَّلام وسراياه ثمانياً وثلاثين من بين بعث وسرية، ثم شرع رحمه الله في ذكر تفصيل ذلك، وقد قدمنا ذلك كله، أو أكثره مفصلاً في مواضعه، ولله الحمد والمنة‏.‏

ولنذكر ملخص ما ذكره ابن إسحاق‏:‏ بعث عبيدة بن الحارث إلى أسفل ثنية المرة، ثم بعث حمزة بن عبد المطلب إلى السَّاحل من ناحية العيص، ومن النَّاس من يقدِّم هذا على بعث عبيدة كما تقدم، فالله أعلم، بعث سعد ابن أبي وقاص إلى الخرار، بعث عبد الله بن جحش إلى نخلة، بعث زيد بن حارثة إلى القردة، بعث محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف، بعث مرثد ابن أبي مرتد الغنوي إلى الرجيع، بعث المنذر بن عمرو إلى بئر معونة، بعث أبي عبيدة إلى ذي القصة، بعث عمر بن الخطَّاب إلى برية في أرض بني عامر، بعث علي إلى اليمن، بعث غالب بن عبد الله الكلبي إلى الكديد فأصاب بني الملوح أغار عليهم في اللَّيل، فقتل طائفة منهم فاستاق نعمهم، فجاء نفرهم في طلب النعم فلما اقتربوا حال بينهم واد من السيل، وأسروا في مسيرهم هذا الحارث بن مالك بن البرصاء، وقد حرر ابن إسحاق هذا هاهنا، وقد تقدم بيانه‏.‏

بعث علي ابن أبي طالب إلى أرض فدك، بعث أبي العوجاء السَّلمي إلى بني سليم أصيب هو وأصحابه، بعث عكاشة إلى الغمرة، بعث أبي سلمة بن عبد الأسد إلى قطن - وهو‏:‏ ماء بنجد لبني أسد -، بعث محمد بن مسلمة إلى القرطاء من هوازن، بعث بشير بن سعد إلى بني مرة بفدك، وبعثه أيضاً إلى ناحية حنين، بعث زيد بن حارثة إلى الجموم من أرض بني سليم، بعث زيد بن حارثة إلى جذام من أرض بني خشين‏.‏ ‏(‏ج /ص‏:‏5/237‏)‏

قال ابن هشام‏:‏ وهي من أرض حسمى، وكان سببها فيما ذكره ابن إسحاق وغيره‏:‏ أنَّ دحية بن خليفة لما رجع من عند قيصر وقد أبلغه كتاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يدعوه إلى الله فأعطاه من عنده تحفاً وهدايا، فلما بلغ وادياً في أرض بني جذام يقال له‏:‏ شنار أغار عليه الهنيد بن عوص، وابنه عوص بن الهنيد الضليعيان - والضليع بطن من جذام - فأخذا ما معه، فنفر حيّ منهم قد أسلموا، فاستنقذوا ما كان أخذ لدحية فردوه عليه، فلما رجع دحية إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أخبره الخبر، واستسقاه دم الهنيد، وابنه عوص، فبعث حينئذ زيد بن حارثة في جيش إليهم، فساروا إليهم من ناحية الأولاج، فأغار بالماقض من ناحية الحرة، فجمعوا ما وجدوا من مال وناس، وقتلوا الهنيد وابنه، ورجلين من بني الأحنف، ورجلاً من بني خصيب، فلمَّا احتاز زيد أموالهم وذراريهم اجتمع نفر منهم برفاعة بن زيد، وكان قد جاءه كتاب من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يدعوهم إلى الله، فقرأه عليهم رفاعة، فاستجاب له طائفة منهم، ولم يكن زيد بن حارثة يعلم ذلك، فركبوا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المدينة في ثلاثة أيام، فأعطوه الكتاب فأمر بقراءته جهرة على النَّاس‏.‏

ثم قال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف أصنع بالقتلى‏؟‏‏)‏‏)‏ ثلاث مرات‏.‏

فقال رجل منهم - يقال له‏:‏ أبو زيد ابن عمرو -‏:‏ أطلق لنا يا رسول الله من كان حيَّاً، ومن قتل فهو تحت قدمي هذه‏.‏

فبعث معهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم علي ابن أبي طالب‏.‏

فقال علي‏:‏ إن زيداً لا يطيعني‏.‏

فأعطاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سيفه علامة، فسار معهم على جمل لهم، فلقوا زيداً وجيشه ومعهم الأموال والذراريّ بفيفاء الفحلتين، فسلمهم علي جميع ما كان أخذ لهم، لم يفقدوا منه شيئاً‏.‏

بعث زيد بن حارثة أيضاً إلى بني فزارة بوادي القرى، فقتل طائفة من أصحابه وارتث هو من بين القتلى، فلما رجع آلى أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتَّى يغزوهم أيضاً، فلما استبل من جراحه بعثه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثانياً في جيش فقتلهم بوادي القرى، وأسر أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر، وكانت عند مالك بن حذيفة بن بدر، ومعها ابنة لها وعبد الله بن مسعدة، فأمر زيد بن حارثة قيس بن المسحر اليعمري فقتل أم قرفة، واستبقى ابنتها، وكانت من بيت شرف، يضرب بأم قرفة المثل في عزِّها، وكانت بنتها مع سلمة بن الأكوع، فاستوهبها منه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأعطاه إياها، فوهبها رسول الله لخاله حزن ابن أبي وهب، فولدت له ابنه عبد الرَّحمن‏.‏

بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر مرتين، أحداهما‏:‏ التي أصاب فيها اليسير بن رزام، وكان يجمع غطفان لغزو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فبعث رسول الله عبد الله بن رواحة في نفر، منهم عبد الله بن أنيس، فقدموا عليه فلم يزالوا يرغبونه ليقدموه على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسار معهم، فلمَّا كانوا بالقرقرة على ستة أميال من خيبر ندم اليسير على مسيره، ففطن له عبد الله بن أنيس - وهو يريد السَّيف -فضربه بالسَّيف فأطن قدمه، وضربه اليُسير بمخرش من شوحط في رأسه فأمة، ومال كل رجل من المسلمين على صاحبه من اليهود فقتله، إلا رجلاً واحداً أفلت على قدميه، فلما قدم ابن أنيس تفل في رأسه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يقح جرحه، ولم يؤذه‏.‏

قلت‏:‏ وأظن البعث الآخر إلى خيبر لما بعثه عليه السَّلام خارصاً على نخيل خيبر، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/238‏)‏

بعث عبد الله بن عتيك وأصحابه إلى خيبر فقتلوا أبا رافع اليهودي‏.‏

بعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان بن نبيح فقتله بعرنه‏.‏

وقد روى ابن إسحاق قصته هاهنا مطولة، وقد تقدم ذكرها في سنة خمس، والله أعلم‏.‏

بعث زيد بن حارثة، وجعفر، وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشَّام، فأصيبوا كما تقدم‏.‏

بعث كعب بن عمير إلى ذات أطلاح من أرض الشَّام، فأصيبوا جميعاً أيضاً‏.‏

بعث عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر إلى بني العنبر من تميم، فأغار عليهم فأصاب منهم أناساً، ثمَّ ركب وفدهم إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أسراهم فأعتق بعضاً، وفدى بعضاً‏.‏

بعث غالب بن عبد الله أيضاً إلى أرض بني مرة، فأصيب بها مرداس بن نهيك حليف لهم من الحرقة من جهينة، قتله أسامة بن زيد، ورجل من الأنصار أدركاه فلما شهرا السِّلاح قال‏:‏ لا إله إلا الله، فلما رجعا لامهما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أشد اللوم، فاعتذرا بأنه ما قال ذلك إلا تعوذا من القتل‏.‏

فقال لأسامة‏:‏ ‏(‏‏(‏هلا شققت عن قلبه‏)‏‏)‏ وجعل يقول لأسامة‏:‏ ‏(‏‏(‏من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

قال أسامة‏:‏ فما زال يكررها حتَّى لوددت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك، وقد تقدم الحديث بذلك‏.‏

بعث عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من أرض بني عذرة يستنفر العرب إلى الشام، وذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بلي، فلذلك بعث عمراً يستنفرهم ليكون أنجع فيهم، فلما وصل إلى ماء لهم - يقال له‏:‏ السلسل - خافهم، فبعث يستمد رسول الله، فبعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سرية فيهم أبو بكر، وعمر، وعليها أبو عبيدة بن الجراح، فلما انتهوا إليه تأمَّر عليهم كلهم عمرو وقال‏:‏ إنما بعثتم مدداً لي، فلم يمانعه أبو عبيدة لأنه كان رجلاً سهلاً ليناً هيناً عند أمر الدنيا، فسلم له، وانقاد معه، فكان عمرو يصلي بهم كلهم، ولهذا لما رجع قال‏:‏ يا رسول الله أي النَّاس أحب إليك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏عائشة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فمن الرجال‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبوها‏)‏‏)‏‏.‏

بعث عبد الله ابن أبي حدرد إلى بطن أضم، وذلك قبل فتح مكة، وفيها قصة محلم بن جثامة، وقد تقدم مطولاً في سنة سبع‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/239‏)‏

بعث ابن أبي حدرد أيضاً إلى الغابة‏.‏

بعث عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني من لا أتهم عن عطاء ابن أبي رباح قال‏:‏ سمعت رجلاً من أهل البصرة يسأل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن إرسال العمامة من خلف الرجل إذا اعتمّ‏.‏

قال‏:‏ فقال عبد الله‏:‏ أخبرك إن شاء الله عن ذلك، تعلم أني كنت عاشر عشرة رهط من أصحاب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في مسجده‏:‏ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وحذيفة ابن اليمان، وأبو سعيد الخدريّ، وأنا، مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذ أقبل فتى من الأنصار فسلم على رسول الله ثم جلس فقال‏:‏ يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أحسنهم خلقاً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأي المؤمنين أكيس‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم استعداداً له قبل أن ينزل به، أولئك الأكياس‏)‏‏)‏‏.‏

ثم سكت الفتى، وأقبل علينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا نزلن بكم - وأعوذ بالله أن تدركوهن - أنَّه لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتَّى يغلبوا عليها إلا ظهر فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان، ولم يمنعوا الزكاة من أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، فلولا البهائم ما مطروا، وما نقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلط عليهم عدواً من غيرهم، فأخذ بعض ما كان في أيديهم، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله، ويجبروا فيما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم أمر عبد الرحمن بن عوف أن يتجهز لسرية بعثه عليها، فأصبح وقد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء، فأدناه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم نقضها، ثم عممه بها، وأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحواً من ذلك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هكذا يا ابن عوف فاعتم، فإنه أحسن، وأعرف‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أمر بلالاً أن يدفع إليه اللِّواء، فدفعه إليه، فحمد الله، وصلى على نفسه ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذه يا بن عوف إغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله وسيرة نبيكم فيكم‏)‏‏)‏‏.‏

فأخذ عبد الرحمن بن عوف اللواء‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ فخرج إلى دومة الجندل‏.‏

بعث أبي عبيدة بن الجراح، وكانوا قريباً من ثلاثمائة راكب إلى سيف البحر، وزودوه عليه السلام جراباً من تمر، و فيها قصة العنبر، وهي الحوت العظيم الذي دسره البحر، وأكلهم كلهم منه قريباً من شهر، حتَّى سمنوا، وتزودوا منه وشائق - أي شرائح - حتَّى رجعوا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأطعموه منه، فأكل منه، كما تقدم بذلك الحديث‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ومما لم يذكر ابن إسحاق من البعوث - يعني‏:‏ هاهنا - بعث عمرو بن أمية الضمري لقتل أبي سفيان صخر بن حرب بعد مقتل خبيب بن عدي، وأصحابه، فكان من أمره ما قدمناه، وكان مع عمرو بن أمية جبار بن صخر، ولم يتفق لهما قتل أبي سفيان بل قتلا رجلاً غيره، وأنزلا خبيبا عن جذعه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/240‏)‏

وبعث سالم بن عمير أحد البكائين، إلى أبي عفك أحد بني عمرو بن عوف، وكان قد نجم نفاقه حين قتل رسول الله الحارث بن سويد بن الصامت كما تقدم‏.‏

فقال يرثيه ويذم قبحه الله الدخول في الدين‏:‏

لَقدْ عشتُ دَهراً وَما أنْ أرَى * مِنَ النَّاسِ دَاراً وَلا مجمَعا

أَبَرُّ عهوداً وأوفي لمنْ * يعاقدُ فيهم إذا ما دَعا

منْ أَولادِ قيلةَ في جمعهِمْ * يهدِ الجبالَ ولم يخضعَا

فصدَّعهُم راكبٌ جاءهُم * حلالٌ حرامٌ لشتى معَا

فلو أن بالعزِّ صدقتُمُ * أو الملكُ تابعتُمُ تبَّعا

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏من لي بهذا الخبيث‏)‏‏)‏ فانتدب له سالم بن عمير هذا فقتله‏.‏

فقالت أمامة المريدية في ذلك‏:‏

تكذِّب دينَ اللهِ والمرءَ أَحمدَا * لعمرو الذي أَمنَاك بئس الذي يمْني

حَباكَ حنيفٌ آخرُ الليل طعنةً * أَبا عِفك خُذها على كبر السِّن

وبعث عمير بن عدي الخطمي لقتل العصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد، كانت تهجو الإسلام وأهله، ولما قتل أبو عفك المذكور أظهرت النفاق وقالت في ذلك‏:‏

بأَسَت بني مالك والنَّبيّتَ * وَعوف وباست بني الخزرجِ

أَطعتمْ أَتاوي من غيركمْ * فلا منْ مُرادَ ولا مذحجِ

ترجونَهَ بعد قتل الرؤوسِ * كما يرتجى وَرقَ المنضجِ

ألا آنفُ يبتغي غِرةً * فيقطع من أملِ المرتجِي

قال‏:‏ فأجابها حسان بن ثابت فقال‏:‏

بَنو وائلٍ وبنو واقفِ * وخطمةَ دونَ بني الخزرجِ

متى ما دعتْ سفهاً ويحها * بُعولتَها والمنايا تجِي

فهزَّت فتى ماجداً عرقُه * كريمُ المداخلِ والمخرجِ

فضرَّجها من نجيعِ الدما * وبعيد الهدوِّ فلم يحرجِ

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين بلغه ذلك‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا آخذ لي من ابنة مروان‏)‏‏)‏ فسمع ذلك عمير بن عدي، فلما أمسى من تلك الليلة سرى عليها فقتلها، ثم أصبح فقال‏:‏ يا رسول الله قتلتها فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏نصرت الله ورسوله يا عمير‏)‏‏)‏‏.‏

قال يا رسول الله‏:‏ هل علي من شأنها‏.‏

قال‏:‏ لا تنتطح فيها عنزان، فرجع عمير إلى قومه وهم يختلفون في قتلها، وكان له خمسة بنون فقال‏:‏ أنا قتلتها فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون، فذلك أول يوم عز الإسلام في بني خطمة، فأسلم منهم بشر كثير لما رأوا من عز الإسلام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/241‏)‏

ثم ذكر البعث الذين أسروا ثمامة بن أثال الحنفي، وما كان من أمره في إسلامه، وقد تقدم ذلك في الأحاديث الصحاح، وذكر ابن هشام أنه هو الذي قال فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء‏)‏‏)‏ لما كان من قلة أكله بعد إسلامه، وأنه لما انفصل عن المدينة دخل مكة معتمراً وهو يلبي، فنهاه أهل مكة عن ذلك فأبى عليهم، وتوعدهم بقطع الميرة عنهم من اليمامة، فلما عاد إلى اليمامة منعهم الميرة حتَّى كتب إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأعادها إليهم‏.‏

وقال بعض بني حنيفة‏:‏

ومِنَّا الذي لبى بمكة محرماً * برغم أبي سفيانَ في الأشهرِ الحرمِ

وبعث علقمة بن مجزز المدلجي ليأخذ بثأر أخيه وقاص بن مجزز يوم قتل بذي قرد، فاستأذن رسول الله ليرجع في آثار القوم فأذن له، وأمَّره على طائفة من النَّاس، فلما فقلوا أذن لطائفة منهم في التقدم، واستعمل عليهم عبد الله بن حذافة، وكانت فيه دعابة، فاستوقد ناراً وأمرهم أن يدخلوها، فلما عزم بعضهم على الدخول قال‏:‏ إنما كنت أضحك، فلما بلغ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه‏)‏‏)‏، والحديث في هذا ذكره ابن هشام عن الدراوردي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن عمرو ابن الحكم بن ثوبان، عن أبي سعيد الخدري‏.‏

وبعث كرز بن جابر لقتل أولئك النفر الذين قدموا المدينة، وكانوا من قيس من بجيلة فاستوخموا المدينة واستوبؤها، فأمرهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يخرجوا إلى إبله فيشربوا من ألبانها، فلما صحوا قتلوا راعيها، وهو يسار مولى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذبحوه، وغرزوا الشوك في عينيه واستاقوا اللقاح، فبعث في آثارهم كرز بن جابر في نفر من الصحابة، فجاؤوا بأولئك النفر من بجيلة مرجعه عليه السلام من غزوة ذي قرد، فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، وهؤلاء النفر إن كانوا هم المذكورين في حديث أنس المتفق عليه، أن نفراً ثمانية من عكل أو عرينة قدموا المدينة الحديث‏.‏

والظاهر أنهم هم فقد تقدم قصتهم مطولة، وإن كانوا غيرهم فها قد أوردنا عيون ما ذكره ابن هشام، والله أعلم‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وغزوة علي ابن أبي طالب اليمن التي غزاها مرتين‏.‏

قال أبو عمرو المدني‏:‏ بعث رسول الله علياً إلى اليمن، وخالداً في جند آخر، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن اجتمعتم فالأمير علي ابن أبي طالب‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وقد ذكر ابن إسحاق بعث خالد، ولم يذكره في عدد البعوث والسرايا، فينبغي أن تكون العدة في قوله‏:‏ تسعاً وثلاثين‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وبعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشام، وأمرة أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء، والداروم من أرض فلسطين، فتجهز النَّاس وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/242‏)‏

قال ابن هشام‏:‏ وهو آخر بعث بعثه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا إسماعيل، ثنا مالك عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعث بعثاً، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن النَّاس في إمارته، فقام النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب النَّاس إليّ، وإن هذا لمن أحب النَّاس إلي بعده‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه التِّرمذي من حديث مالك وقال‏:‏ حديث صحيح حسن‏.‏

وقد انتدب كثير من الكبار من المهاجرين الأولين والأنصار في جيشه، فكان من أكبرهم عمر بن الخطاب ومن قال‏:‏ أن أبا بكر كان فيهم فقد غلط، فإن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اشتد به المرض، وجيش أسامة مخيم بالجرف، وقد أمر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أبا بكر أن يصلي بالنَّاس، كما سيأتي، فكيف يكون في الجيش وهو إمام المسلمين بإذن الرسول من رب العالمين، ولو فرض أنه كان قد انتدب معهم فقد استثناه الشارع من بينهم بالنص عليه للإمامة في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، ثم لما توفي عليه الصلاة والسلام استطلق الصديق من أسامة عمر بن الخطاب فأذن له في المقام عند الصديق، ونفذ الصديق جيش أسامة، كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه، إن شاء الله‏.‏

فصل في الآيات والأحاديث المنذرة بوفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم

وكيف ابتدئ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بمرضه الذي مات فيه

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏‏[‏الزمر‏:‏ 30-31‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ‏}‏‏[‏الأنبياء‏:‏ 34‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرُّسل أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرَّ الله شيئاً وسيجزي الله الشَّاكرين‏)‏‏)‏‏.‏

وهذه الآية هي التي تلاها الصديق يوم وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلما سمعها النَّاس كأنهم لم يسمعوها قبل‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً‏}‏‏.‏

قال عمر بن الخطاب وابن عبَّاس‏:‏ هو أجل رسول الله نعي إليه‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ نزلت أوسط أيام التشريق في حجة الوداع، فعرف رسول الله أنه الوداع، فخطب النَّاس خطبة أمرهم فيها ونهاهم - الخطبة المشهورة - كما تقدم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/243‏)‏

وقال جابر‏:‏ رأيت رسول الله يرمي الجمار فوقف وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لتأخذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد عامي هذا‏)‏‏)‏‏.‏

وقال عليه السلام لابنته فاطمة كما سيأتي‏:‏ ‏(‏‏(‏إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وإنه عارضني به العام مرتين، وما أرى ذلك إلا اقتراب أجلي‏)‏‏)‏‏.‏

وفي صحيح البخاري من حديث أبي بكر ابن عياش عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ كان رسول الله يعتكف في كل شهر رمضان عشرة أيام، فلما كان من العام الذي توفي فيه اعتكف عشرين يوماً‏.‏

وكان يعرض عليه القرآن في كل رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عرض عليه القرآن مرتين‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ رجع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من حجة الوداع في ذي الحجة فأقام بالمدينة بقيته، والمحرم، وصفراً، وبعث أسامة بن زيد، فبينا النَّاس على ذلك ابتدىء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بشكواه الذي قبضه الله فيه إلى ما أراده الله من رحمته وكرامته في ليال بقين من صفر، أو في أول شهر ربيع الأول، فكان أول ما ابتدئ به رسول الله من ذلك فيما ذكر لي، أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل فاستغفر لهم ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عبد الله بن جعفر عن عبيد بن جبر مولى الحكم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ بعثني رسول الله من جوف الليل فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي‏)‏‏)‏‏.‏

فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح النَّاس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أقبل عليَّ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف، فبدئ برسول الله وجعه الذي قبضه الله فيه‏.‏

لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب، وإنما رواه أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق به‏.‏ ‏(‏ج /ص‏:‏5/244‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو النضر، ثنا الحكم بن فضيل، ثنا يعلى بن عطاء عن عبيد بن جبر، عن أبي مويهبة قال‏:‏ أمر رسول الله أن يصلي على أهل البقيع فصلى عليهم ثلاث مرات فلما كانت الثالثة قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا مويهبة أسرج لي دابتي‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فركب ومشيت حتَّى انتهى إليهم، فنزل عن دابته وأمسكت الدابة فوقف - أو قال‏:‏ قام عليهم - فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ليهنكم ما أنتم فيه مما فيه النَّاس، أتت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، الآخرة أشدّ من الأولى، فليهنكم ما أنتم فيه مما فيه النَّاس‏)‏‏)‏‏.‏

ثم رجع فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا مويهبة إني أعطيت‏)‏‏)‏ أو قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خيرت بين مفاتيح ما يفتح على أمتي من بعدي والجنة، أو لقاء ربي‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ بأبي أنت وأمي فاخترنا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لأن ترد علي عقبها ما شاء الله، فاخترت لقاء ربي‏)‏‏)‏‏.‏

فما لبث بعد ذلك إلا سبعاً، أو ثمانياً حتَّى قبض‏.‏

وقال عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏نصرت بالرعب، وأعطيت الخزائن، وخيّرت بين أن أبقى حتَّى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل، فاخترت التعجيل‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وهذا مرسل، وهو شاهد لحديث أبي مويهبة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يعقوب بن عتبة عن الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود، عن عائشة قالت‏:‏ رجع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول‏:‏ وارأساه، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل أنا والله يا عائشة وارأساه‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك، وكفنتك، وصليت عليك، ودفنتك‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ قلت‏:‏ والله لكأني بك لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك‏.‏

قالت‏:‏ فتبسم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ونام به وجعه، وهو يدور على نسائه حتَّى استعزبه في بيت ميمونة فدعا نسائه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي، فأذنَّ له‏.‏

قالت‏:‏ فخرج رسول الله بين رجلين من أهله أحدهما‏:‏ الفضل بن عبَّاس، ورجل آخر، عاصباً رأسه، تخطّ قدماه الأرض حتَّى دخل بيتي‏.‏

قال عبيد الله‏:‏ فحدثت به ابن عبَّاس‏.‏

فقال‏:‏ أتدري من الرجل الآخر‏؟‏ هو علي ابن أبي طالب، وهذا الحديث له شواهد ستأتي قريباً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/245‏)‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني يعقوب بن عتبة عن الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة قالت‏:‏ دخل علي رسول الله وهو يصدع وأنا أشتكي رأسي فقلت‏:‏ وارأساه ‏!‏‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل أنا والله يا عائشة وارأساه ‏!‏‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وما عليك لو متّ قبلي فوليت أمرك، وصليت عليك، وواريتك‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ والله إني لأحسب لو كان ذلك، لقد خلوت ببعض نسائك في بيتي من آخر النهار فأعرست بها‏.‏

فضحك رسول الله ثم تمادى به وجعه، فاستعز به وهو يدور على نسائه في بيت ميمونة، فاجتمع إليه أهله فقال العبَّاس‏:‏ إنا لنرى برسول الله ذات الجنب، فهلموا فلنلده فلدوه فأفاق رسول الله فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من فعل هذا‏؟‏‏)‏‏)‏

فقالوا‏:‏ عمك العبَّاس تخوَّف أن يكون بك ذات الجنب‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏إنها من الشيطان، وما كان الله ليسلطه علي، لا يبقى في البيت أحد إلا لددتموه إلا عمي العبَّاس‏)‏‏)‏

فلدَّ أهل البيت كلهم حتَّى ميمونة وإنها لصائمة، وذلك بعين رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي، فأذنَّ له، فخرج وهو بين العبَّاس، ورجل آخر - لم تسمه - تخط قدماه بالأرض إلى بيت عائشة‏.‏

قال عبيد الله‏:‏ قال ابن عبَّاس‏:‏ الرجل الآخر علي ابن أبي طالب‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا سعيد بن عفير، ثنا الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عائشة زوج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالت‏:‏ لما ثقل رسول الله، واشتد به وجعه، استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذنَّ له، فخرج وهو بين الرجلين تخط رجلاه الأرض بين عبَّاس قال‏:‏ ابن عبد المطلب، وبين رجل آخر قال‏:‏ عبيد الله، فأخبرت عبد الله - يعني‏:‏ ابن عبَّاس - بالذي قالت عائشة‏.‏

فقال لي عبد الله بن عبَّاس‏:‏ هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسمِّ عائشة‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ لا‏!‏

قال ابن عبَّاس‏:‏ هو علي، فكانت عائشة زوج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم تحدِّث أن رسول الله لما دخل بيتي واشتد به وجعه قال‏:‏ هريقوا عليَّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى النَّاس، فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتَّى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن قالت عائشة‏:‏ ثم خرج إلى النَّاس فصلى لهم، وخطبهم‏.‏

وقد رواه البخاري أيضاً في مواضع أخر من صحيحه، ومسلم من طرق عن الزُّهري به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا إسماعيل، ثنا سليمان بن بلال قال هشام بن عروة‏:‏ أخبرني أبي عن عائشة، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه أين أنا غداً، أين أنا غداً، يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة، حتَّى مات عندها‏.‏

قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فمات في اليوم الذي كان يدور علي فيه في بيتي، وقبضه الله وإن رأسه لبين سحري ونحري، وخالط ريقه ريقي، قالت‏:‏ ودخل عبد الرحمن ابن أبي بكر ومعه سواك يستن به، فنظر إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقلت له‏:‏ أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فأعطانيه، فقضمته ثم مضغته فأعطيته رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاستن به، وهو مسند إلى صدري‏.‏

انفرد به البخاري من هذا الوجه‏.‏ ‏(‏ج /ص‏:‏5/246‏)‏

وقال البخاري‏:‏ أخبرنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، حدثني ابن الهاد عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ مات النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنه لبين حاقنتي، وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا حيان، أنبأنا عبد الله، أنبأنا يونس عن ابن شهاب قال‏:‏ أخبرني عروة أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عنه‏.‏

ورواه مسلم من حديث ابن وهب عن يونس بن يزيد الإيلي، عن الزُّهري به، والفلاس ومسلم عن محمد بن حاتم كلهم‏.‏

وثبت في الصحيحين من حديث أبي عوانة عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت‏:‏ اجتمع نساء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عنده لم يغادر منهن امرأة، فجاءت فاطمة تمشي لا تخطئ مشيتها مشية أبيها فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مرحباً بابنتي‏)‏‏)‏ فأقعدها عن يمينه، أو شماله، ثم سارَّها بشيء فبكت، ثم سارَّها فضحكت‏.‏

فقلت لها‏:‏ خصك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالسرار وأنت تبكين‏!‏فلما أن قامت قلت‏:‏ أخبريني ما سارَّك‏؟‏

فقالت‏:‏ ما كنت لأفشي سر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلما توفي قلت لها‏:‏ أسألك لما لي عليك من الحق لما أخبرتيني‏.‏

قالت‏:‏ أما الآن فنعم‏!‏

قالت‏:‏ سارني في الأول قال لي‏:‏ ‏(‏‏(‏إن جبريل كان يعارضني في القرآن كل سنة مرة، وقد عارضني في هذا العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي؛ فاتقي الله واصبري، فنعم السلف أنا لك‏)‏‏)‏ فبكيت‏.‏

ثم سارَّني فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ترضيني أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة‏)‏‏)‏ فضحكت، وله طرق عن عائشة‏.‏

وقد روى البخاري عن علي بن عبد الله، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن موسى ابن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة قالت‏:‏ لددنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مرضه، فجعل يشير إلينا ‏(‏‏(‏أن لا تلدوني‏)‏‏)‏‏.‏

فقلنا‏:‏ كراهية المريض للدواء، فلما أفاق، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألم أنهكم أن لا تلدوني‏؟‏‏)‏‏)‏

قلنا‏:‏ كراهية المريض للدواء‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يبقى أحد في البيت إلا لد، وأنا أنظر إلا العبَّاس، فإنه لم يشهدكم‏)‏‏)‏‏.‏

قال البخاري‏:‏ ورواه ابن أبي الزناد عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ وقال يونس عن الزُّهري قال عروة‏:‏ قالت عائشة‏:‏ كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في مرضه الذي مات فيه‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا ذكره البخاري معلقاً‏.‏ ‏(‏ج /ص‏:‏5/247‏)‏

وقد أسنده الحافظ البيهقي‏:‏ عن الحاكم، عن أبي بكر ابن محمد بن أحمد بن يحيى الأشقر، عن يوسف بن موسى، عن أحمد بن صالح، عن عنبسة، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الزُّهري به‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ لئن أحلف تسعاً أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قتل قتلا، أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك أن الله اتخذه نبياً، واتخذه شهيداً‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا إسحاق بن بشر، حدثنا شعيب عن أبي حمزة، حدثني أبي عن الزُّهري قال‏:‏ أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري - وكان كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين تيب عليهم -‏:‏ أن عبد الله بن عبَّاس، أخبره‏:‏ أن علي ابن أبي طالب خرج من عند رسول الله في وجعه الذي توفي فيه فقال النَّاس‏:‏ يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏

فقال‏:‏ أصبح بحمد الله بارئاً‏.‏

فأخذ بيده عبَّاس بن عبد المطلب فقال له‏:‏ أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سوف يتوفى من وجعه هذا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، اذهب بنا إلى رسول الله فلنسأله فيمن هذا الأمر‏؟‏ إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا‏.‏

فقال علي‏:‏ إنا والله لئن سألناها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فمنعناها لا يعطيناها النَّاس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

انفرد به البخاري‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا قتيبة، ثنا سفيان عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قال ابن عبَّاس‏:‏ يوم الخميس وما يوم الخميس‏؟‏ اشتد برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجعه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبي تنازع -‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ ما شأنه أهجر استفهموه، فذهبوا يردون عنه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه‏)‏‏)‏‏.‏

فأوصاهم بثلاث‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم‏)‏‏)‏‏.‏

وسكت عن الثالثة أو قال‏:‏ فنسيتها‏.‏

ورواه البخاري في موضع آخر، ومسلم من حديث سفيان بن عيينة به‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا علي بن عبد الله، ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ لما حضر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وفي البيت رجال فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده أبداً‏)‏‏)‏‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ إن رسول الله قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول‏:‏ قرِّبوا يكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف‏.‏

قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/248‏)‏

قال عبيد الله، قال ابن عبَّاس‏:‏ إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم‏.‏

ورواه مسلم عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق بنحوه‏.‏

وقد أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه من حديث معمر ويونس عن الزُّهري به‏.‏

وهذا الحديث مما قد توَّهم به بعض الأغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم، كل مدع أنه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم، وهذا هو التمسك بالمتشابه وترك المحكم، وأهل السنة يأخذون بالمحكم ويردون ما تشابه إليه، وهذه طريقة الراسخين في العلم كما وصفهم الله عز وجل في كتابه، وهذا الموضع مما زل فيه أقدام كثير من أهل الضلالات‏.‏

وأما أهل السنة فليس لهم مذهب إلا اتباع الحق يدورون معه كيفما دار، وهذا الذي كان يريد عليه الصلاة والسلام أن يكتبه قد جاء في الأحاديث الصحيحة التصريح بكشف المراد منه‏.‏

فإنه قد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مؤمل، ثنا نافع عن ابن عمرو، ثنا ابن أبي مليكة عن عائشة قالت‏:‏ لما كان وجع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي قبض فيه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إدعو لي أبا بكر وابنه لكي لا يطمع في أمر أبي بكر طامع ولا يتمناه متمن‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يأبى الله ذلك والمؤمنون مرتين‏)‏‏)‏‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فأبى الله ذلك والمؤمنون‏.‏

انفرد به أحمد من هذا الوجه‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، ثنا عبد الرحمن ابن أبي بكر القرشي عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت‏:‏ لما ثقل رسول الله قال لعبد الرحمن ابن أبي بكر‏:‏ ‏(‏‏(‏ائتني بكتف أو لوح حتَّى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه أحد‏)‏‏)‏‏.‏

فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال‏:‏ أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر‏.‏

انفرد به أحمد من هذا الوجه أيضاً‏.‏

وروى البخاري عن يحيى بن يحيى، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى متمنون‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ يأبى الله - أو يدفع المؤمنون أو يدفع الله - ويأبى المؤمنون‏.‏

وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال‏:‏ أتت امرأة إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأمرها أن ترجع إليه فقالت‏:‏ أرأيت إن جئت ولم أجدك - كأنها تقول الموت -‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن لم تجديني فأت أبا بكر‏)‏‏)‏‏.‏

والظاهر والله أعلم أنها إنما قالت ذلك له عليه السلام في مرضه الذي مات فيه صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

وقد خطب عليه الصلاة والسلام في يوم الخميس قبل أن يقبض عليه السلام بخمس أيام خطبة عظيمة بين فيها فضل الصديق من سائر الصحابة، مع ما كان قد نص عليه أن يؤم الصحابة أجمعين، كما سيأتي بيانه مع حضورهم كلهم‏.‏

ولعل خطبته هذه كانت عوضاً عما أراد أن يكتبه في الكتاب، وقد اغتسل عليه السلام بين يدي هذه الخطبة الكريمة، فصبوا عليه من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، وهذا من باب الاستشفاء بالسبع، كما وردت بها الأحاديث في غير هذا الموضع، والمقصود أنه عليه السلام اغتسل ثم خرج فصلَّى بالنَّاس، ثم خطبهم كما تقدَّم في حديث عائشة رضي الله عنها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/249‏)‏

ذكر الأحاديث الواردة في ذلك‏.‏

قال البيهقي‏:‏ أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن الزُّهري، عن أيوب بن بشير أن رسول الله قال في مرضه‏:‏ ‏(‏‏(‏أفيضوا عليَّ من سبع قرب من سبع آبار شتى، حتَّى أخرج فأعهد إلى النَّاس‏)‏‏)‏‏.‏

ففعلوا، فخرج فجلس على المنبر فكان أول ما ذكر بعد حمد الله والثناء عليه ذكر أصحاب أُحد، فاستغفر لهم ودعا لهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر المهاجرين إنكم أصبحتم تزيدون، والأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم عيبتي التي أوتيت إليها، فأكرموا كريمهم، وتجاوزوا من مسيئهم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏أيها النَّاس إن عبداً من عباد الله قد خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله‏)‏‏)‏‏.‏

ففهمها أبو بكر رضي الله عنه من بين النَّاس فبكى‏.‏

وقال‏:‏ بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا وأموالنا‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏على رسلك يا أبا بكر‏!‏انظروا إلى هذه الأبواب الشارعة في المسجد فسدوها، إلا ما كان من بيت أبي بكر، فإني لا أعلم أحداً عندي أفضل يداً في الصحبة منه‏)‏‏)‏‏.‏

هذا مرسل له شواهد كثيرة‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني فروة بن زبيد بن طوسا عن عائشة بنت سعد، عن أم ذرة، عن أم سلمة زوج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالت‏:‏ خرج رسول الله عاصباً رأسه بخرقة، فلما استوى على المنبر تحدَّق النَّاس بالمنبر، واستكفوا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده إني لقائم على الحوض الساعة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم تشهَّد فلما قضى تشهده كان أول ما تكلَّم به، أن استغفر للشهداء الذين قتلوا بأُحد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن عبداً من عباد الله خيِّر بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار العبد ما عند الله‏)‏‏)‏‏.‏

فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه وقال‏:‏ بأبي وأمي نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا‏.‏

فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجعل رسول الله يقول له‏:‏ ‏(‏‏(‏على رسلك‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عامر، ثنا فليح عن سالم أبي النضر، عن بشر بن سعيد، عن أبي سعيد قال‏:‏ خطب رسول الله النَّاس فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الله خيِّر عبداً بين الدنيا، وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فبكى أبو بكر‏.‏

قال‏:‏ فتعجَّبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد، فكان رسول الله هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا به‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أمنَّ النَّاس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خلة الإسلام ومودته لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه البخاري من حديث أبي عامر العقدي به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/250‏)‏

ثم رواه الإمام أحمد عن يونس، عن فليح، عن سالم أبي النضر، عن عبيد بن حنين، وبشر بن سعيد عن أبي سعيد به‏.‏

وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث فليح ومالك بن أنس عن سالم، عن بشر بن سعيد وعبيد بن حنين، كلاهما عن أبي سعيد بنحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو الوليد، ثنا هشام، ثنا أبو عوانة عن عبد الملك، عن ابن أبي المعلى، عن أبيه أن رسول الله خطب يوماً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن رجلاً خيَّره ربه بين أن يعيش في الدنيا ما شاء أن يعيش فيها، يأكل من الدنيا ما شاء أن يأكل منها، وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه‏)‏‏)‏‏.‏

فبكى أبو بكر، فقال أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ألا تعجبون من هذا الشيخ أن ذكر رسول الله رجلاً صالحاً خيَّره ربه بين البقاء في الدنيا، وبين لقاء ربه، فاختار لقاء ربه‏.‏

فكان أبو بكر أعلمهم بما قال رسول الله‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ بل نفديك بأموالنا وأبنائنا‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما من النَّاس أحد أمنّ علينا في صحبته وذات يده من ابن أبي قحافة، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت ابن أبي قحافة، ولكن ود وإخاء وإيمان، ولكن ود وإخاء وإيمان مرتين، وإن صاحبكم خليل الله عز وجل‏)‏‏)‏‏.‏

تفرَّد به أحمد‏.‏

قالوا‏:‏ وصوابه أبو سعيد بن المعلى فالله أعلم‏.‏

وقد روى الحافظ البيهقي من طريق إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه ثنا زكريا بن عدي، ثنا عبيد الله بن عمرو الرقي عن زيد ابن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث حدثني جندب أنه سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبل أن يتوفى بخمس وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏قد كان لي منكم أخوة وأصدقاء، وإني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، وإن ربي اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، وإن قوماً ممن كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم، وصلحائهم مساجد فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه مسلم في صحيحه عن إسحاق بن راهويه بنحوه‏.‏

وهذا اليوم الذي كان قبل وفاته عليه السلام بخمس أيام هو يوم الخميس الذي ذكره ابن عبَّاس فيما تقدَّم‏.‏

وقد روينا هذه الخطبة من طريق ابن عبَّاس‏.‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد المقرئ، أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب - هو ابن عوانة الإسفراييني - قال‏:‏ ثنا محمد ابن أبي بكر، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي سمعت يعلى بن حكيم يحدِّث عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ خرج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه ليس من النَّاس أحد أمنّ عليَّ بنفسه وماله من أبي بكر، ولو كنت متخذاً من النَّاس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر‏)‏‏)‏‏.‏

رواه البخاري عن عبيد الله بن محمد الجعفي، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/251‏)‏

وفي قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏سدوا عني كل خوخة - يعني‏:‏ الأبواب الصغار - إلى المسجد غير خوخة أبي بكر‏)‏‏)‏‏.‏

إشارة إلى الخلافة أي‏:‏ ليخرج منها إلى الصلاة بالمسلمين‏.‏

وقد رواه البخاري أيضاً من حديث عبد الرحمن بن سليمان بن حنظلة بن الغسيل عن عكرمة، عن ابن عبَّاس أن رسول الله خرج في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بعصابة دسماء، ملتحفاً بملحفة على منكبيه، فجلس على المنبر، فذكر الخطبة، وذكر فيها الوصاة بالأنصار إلى أن قال‏:‏ فكان آخر مجلس جلس فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى قبض - يعني‏:‏ آخر خطبة خطبها عليه السلام‏.‏

وقد روي من وجه آخر عن ابن عبَّاس بإسناد غريب، ولفظ غريب‏.‏

فقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا ابن أبي قماش - وهو محمد بن عيسى - ثنا موسى بن إسماعيل أبو عمران الجبلي، ثنا معن بن عيسى القزاز عن الحارث بن عبد الملك بن عبد الله بن أناس الليثي، عن القاسم بن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عبَّاس، عن الفضل بن عبَّاس قال‏:‏ أتاني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يوعك وعكاً شديداً، وقد عصب رأسه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذ بيدي يا فضل‏)‏‏)‏

قال‏:‏ فأخذت بيده حتَّى قعد على المنبر‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ناد في النَّاس يا فضل‏)‏‏)‏‏.‏

فناديت‏:‏ الصلاة جامعة‏.‏

قال‏:‏ فاجتمعوا فقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خطيباً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما بعد أيها النَّاس، إنه قد دنى مني خلوف من بين أظهركم ولن تروني في هذا المقام فيكم، وقد كنت أرى أن غيره غير مغن عني حتَّى أقوِّمه فيكم، ألا فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد، ولا يقولن قائل أخاف الشحناء من قبل رسول الله، ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خلقي، وإن أحبكم إليَّ من أخذ حقاً إن كان له عليَّ أو حللني، فلقيت الله عز وجل وليس لأحد عندي مظلمة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقام منهم رجل فقال‏:‏ يا رسول الله لي عندك ثلاثة دراهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما أنا فلا أكذب قائلاً، ولا مستحلفه علي يمين فيم كانت لك عندي‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ أما تذكر أنه مرَّ بك سائل فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أعطه يا فضل‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وأمر به فجلس‏.‏

قال‏:‏ ثم عاد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مقالته الأولى ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيها النَّاس من عنده من الغلول شيء فليرده‏)‏‏)‏‏.‏

فقام رجل فقال‏:‏ يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فلم غللتها‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ كنت إليها محتاجاً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذها منه يا فضل‏)‏‏)‏‏.‏

ثم عاد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مقالته الأولى وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيها النَّاس من أحس من نفسه شيئاً فليقم أدعو الله له‏)‏‏)‏‏.‏

فقام إليه رجل فقال‏:‏ يا رسول الله إني لمنافق، وإني لكذوب، وإني لشئوم‏.‏

فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ويحك أيها الرجل لقد سترك الله لو سترت على نفسك‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏مه يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقاً، وإيماناً، وأذهب عنه الشؤم إذا شاء‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏عمر معي، وأنا مع عمر، والحق بعدي مع عمر‏)‏‏)‏‏.‏

وفي إسناده ومتنه غرابة شديدة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/252‏)‏

ذكر أمره عليه السلام أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يصلي بالصحابة أجمعين

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يعقوب، ثنا أبي عن ابن إسحاق قال‏:‏ وقال ابن شهاب الزُّهري‏:‏ حدثني عبد الملك ابن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه، عن عبد الله بن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد قال‏:‏ لما استعز برسول الله وأنا عنده في نفر من المسلمين دعا بلال للصلاة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مروا من يصلي بالنَّاس‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فخرجت فإذا عمر في النَّاس، وكان أبو بكر غائباً‏.‏

فقلت‏:‏ قم يا عمر فصل بالنَّاس‏.‏

قال‏:‏ فقام فلما كبَّر عمر سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صوته، وكان عمر رجلاً مجهراً‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏فأين أبو بكر، يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد ما صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالنَّاس‏.‏

وقال عبد الله بن زمعة‏:‏ قال لي عمر‏:‏ ويحك ماذا صنعت يا ابن زمعة، ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله أمرني بذلك، ولولا ذلك ما صليت‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ والله ما أمرني رسول الله، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة‏.‏

وهكذا رواه أبو داود من حديث ابن إسحاق، حدثني الزُّهري‏.‏

ورواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق، حدثني يعقوب بن عتبة، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن زمعة فذكره‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن أبي فديك، حدثني موسى بن يعقوب عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن زمعة أخبره بهذا الخبر قال‏:‏ لما سمع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم صوت عمر‏.‏

قال ابن زمعة‏:‏ خرج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى أطلع رأسه من حجرته، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا لا، لا يصلي للناس إلا ابن أبي قحافة‏)‏‏)‏ يقول ذلك مغضباً‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا عمر بن حفص، ثنا أبي، ثنا الأعمش عن إبراهيم، قال الأسود‏:‏ كنا عند عائشة فذكرنا المواظبة على الصلاة والمواظبة لها‏.‏

قالت‏:‏ لما مرض النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة، فأذَّن بلال‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مروا أبا بكر فليصل بالنَّاس‏)‏‏)‏‏.‏

فقيل له‏:‏ إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالنَّاس، وأعاد، فأعادوا له، فأعاد الثالثة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالنَّاس‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج أبو بكر فوجد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في نفسه خفة، فخرج يهادي بين رجلين كأني أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخَّر، فأومأ إليه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن مكانك، ثم أتى به حتَّى جلس إلى جنبه‏.‏ ‏(‏ج /ص‏:‏5/253‏)‏

قيل للأعمش‏:‏ فكان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي، وأبو بكر يصلي بصلاته، والنَّاس يصلون بصلاة أبي بكر‏.‏

فقال برأسه‏:‏ نعم‏!‏

ثم قال البخاري‏:‏ رواه أبو داود عن شعبة بعضه، وزاد أبو معاوية عن الأعمش جلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائماً‏.‏

وقد رواه البخاري في غيرما موضع من كتابه، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه من طرق متعددة عن الأعمش به‏.‏

منها ما رواه البخاري عن قتيبة‏.‏

ومسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة‏.‏

ويحيى بن يحيى عن أبي معاوية به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت‏:‏ إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال في مرضه‏:‏ ‏(‏‏(‏مروا أبا بكر فليصل بالنَّاس‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ فأخبرني عبيد الله بن عبد الله عن عائشة أنها قالت‏:‏ لقد عاودت رسول الله في ذلك، وما حملني على معاودته إلا أني خشيت أن يتشاءم النَّاس بأبي بكر، وإلا أني علمت أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم النَّاس به، فأحببت أن يعدل ذلك رسول الله عن أبي بكر إلى غيره‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن الزُّهري قال‏:‏ وأخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر عن عائشة قالت‏:‏ لما دخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بيتي قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مُروا أبا بكر فليصل بالنَّاس‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، فلو أمرت غير أبي بكر‏.‏

قالت‏:‏ والله‏!‏ما بي إلا كراهية أن يتشاءم النَّاس بأول من يقوم في مقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قالت‏:‏ فراجعته مرتين، أو ثلاثاً‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ليصل بالنَّاس أبو بكر، فإنكن صواحب يوسف‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين من حديث عبد الملك بن عمير عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن أبيه قال‏:‏ مرض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مروا أبا بكر فليصل بالنَّاس‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت عائشة‏:‏ يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، متى يقم مقامك لا يستطيع يصلي بالنَّاس‏.‏

قال‏:‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مروا أبا بكر يصل بالنَّاس، فإنكن صواحب يوسف‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فصلى أبو بكر حياة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عبد الرحمن بن مهدي، أنبأنا زائدة بن قدامة عن موسى ابن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله قال‏:‏ دخلت على عائشة فقلت‏:‏ ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقالت‏:‏ بلى‏!‏ثقل برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجعه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أصلى النَّاس‏؟‏‏)‏‏)‏

قلنا‏:‏ لا، هم ينتظرونك يا رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏صبوا إلي ماء في المخضب‏)‏‏)‏ ففعلنا قالت‏:‏ فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمى عليه، ثم أفاق فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أصلى النَّاس‏؟‏‏)‏‏)‏

قلنا‏:‏ لا هم ينتظرونك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ضعوا لي ماء في المخضب‏)‏‏)‏ ففعلنا، فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أصلى النَّاس‏؟‏‏)‏‏)‏

قلنا‏:‏ لا، هم ينتظرونك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ضعوا لي ماء في المخضب‏)‏‏)‏ ففعلنا، فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أصلى النَّاس‏؟‏‏)‏‏)‏

قلنا‏:‏ لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قالت‏:‏ والنَّاس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لصلاة العشاء، فأرسل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أبي بكر بأن يصلي بالنَّاس، وكان أبو بكر رجلاً رقيقاً فقال‏:‏ يا عمر صلِّ بالنَّاس‏.‏

فقال‏:‏ أنت أحق بذلك‏.‏ ‏(‏ج /ص‏:‏5/254‏)‏

فصلى بهم تلك الأيام، ثم إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجد خفة، فخرج بين رجلين أحدهما‏:‏ العبَّاس لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخَّر، فأومأ إليه أن لا يتأخَّر، وأمرهما فأجلساه إلى جنبه، فجعل أبو بكر يصلي قائماً، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي قاعداً‏.‏

قال عبيد الله‏:‏ فدخلت على ابن عبَّاس فقلت‏:‏ ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ هات، فحدَّثته فما أنكر منه شيئاً غير أنه قال‏:‏ سمَّت لك الرجل الذي كان مع العبَّاس‏؟‏

قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ هو علي‏.‏

وقد رواه البخاري ومسلم جميعاً عن أحمد بن يونس، عن زائدة به‏.‏

وفي رواية‏:‏ فجعل أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله وهو قائم، والنَّاس يصلون بصلاة أبي بكر، ورسول الله قاعد‏.‏

قال البيهقي‏:‏ ففي هذا أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم تقدم في هذه الصلاة، وعلَّق أبو بكر صلاته بصلاته‏.‏

قال‏:‏ وكذلك رواه الأسود وعروة عن عائشة‏.‏

وكذلك رواه الأرقم بن شرحبيل عن ابن عبَّاس يعني‏:‏ بذلك - ما رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة، حدثني أبي عن أبي إسحاق، عن الأرقم بن شرحبيل، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ لما مرض النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمر أبا بكر أن يصلي بالنَّاس، ثم وجد خفة فخرج، فلما أحسَّ به أبو بكر أراد إن ينكص، فأومأ إليه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فجلس إلى جنب أبي بكر عن يساره، واستفتح من الآية التي انتهى إليها أبوبكر رضي الله عنه‏.‏

ثم رواه أيضاً عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أرقم، عن ابن عبَّاس بأطول من هذا‏.‏

وقال وكيع مرة‏:‏ فكان أبو بكر يأتم بالنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم والنَّاس يأتمون بأبي بكر‏.‏

ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد، عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أرقم بن شرحبيل، عن ابن عبَّاس بنحوه‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا شبابة بن سوار، ثنا شعبة عن نعيم ابن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة قالت‏:‏ صلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خلف أبا بكر قاعداً في مرضه الذي مات فيه‏.‏

وقد رواه التِّرمذي، والنسائي من حديث شعبة‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا بكر بن عيسى سمعت شعبة بن الحجاج عن نعيم ابن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة أن أبا بكر صلى بالنَّاس ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الصفّ‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أنبأنا عبد الله بن جعفر، أنبأنا يعقوب بن سفيان، حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا شعبة عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى خلف أبا بكر‏.‏

وهذا إسناد جيد، ولم يخرِّجوه‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وكذلك رواه حميد عن أنس بن مالك، ويونس عن الحسن مرسلاً، ثم أسند ذلك من طريق هشيم، أخبرنا يونس عن الحسن قال هشيم‏:‏ وأنبانا حميد عن أنس بن مالك‏:‏ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خرج وأبو بكر يصلي بالنَّاس فجلس إلى جنبه، وهو في بردة قد خالف بين طرفيها، فصلى بصلاته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/255‏)‏

قال البيهقي‏:‏ وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبيد بن شريك، أنبأنا ابن أبي مريم، أنبأنا محمد بن جعفر، أخبرني حميد أنه سمع أنساً يقول‏:‏ آخر صلاة صلاها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مع القوم، في ثوب واحد ملتحفاً به خلف أبي بكر‏.‏

قلت‏:‏ وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح، ولم يخرّجوه، وهذا التقييد جيد بأنها آخر صلاة صلاها مع النَّاس صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

وقد ذكر البيهقي من طريق سليمان بن بلال، ويحيى بن أيوب عن حميد، عن أنس أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد برد مخالفاً بين طرفيه، فلما أراد إن يقوم، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أدع لي أسامه بن زيد‏)‏‏)‏ فجاء، فأسند ظهره إلى نحره، فكانت آخر صلاة صلاها‏.‏

قال البيهقي‏:‏ ففي هذا دلالة أن هذه الصلاة كانت صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة، لأنها آخر صلاة صلاها، لما ثبت أنه توفي ضحى يوم الإثنين، وهذا الذي قاله البيهقي، أخذه مسلماً من مغازي موسى بن عقبة فإنه كذلك ذكر‏.‏

وكذا روى أبو الأسود عن عروة، وذلك ضعيف، بل هذه آخر صلاة صلاها مع القوم، كما تقدم تقييده في الرواية الأخرى، والحديث واحد فيحمل مطلقه على مقيده، ثم لا يجوز أن تكون هذه صلاة الصبح من يوم الإثنين يوم الوفاة، لأن تلك لم يصلها مع الجماعة، بل في بيته، لما به من الضعف صلوات الله وسلامه عليه والدليل على ذلك ما قال البخاري في صحيحه‏:‏ حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب عن الزُّهري، أخبرني أنس بن مالك وكان تبع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وخدمه وصحبه، أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذي توفي فيه، حتَّى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف تبسَّم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا صلَّى الله عليه وسلَّم أن أتموا صلاتكم، وأرخى على الستر، وتوفي من يومه صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة، وصبيح بن كيسان، ومعمر عن الزُّهري، عن أنس‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ ثنا أبو معمر، ثنا عبد الوارث، ثنا عبد العزيز عن أنس بن مالك قال‏:‏ لم يخرج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاثاً، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدم فقال نبي الله بالحجاب، فرفعه فلما وضح وجه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حين وضح لنا، فأومأ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بيده إلى أبي بكر أن يتقدَّم، وأرخى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الحجاب فلم يقدر عليه حتَّى مات صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/256‏)‏

ورواه مسلم من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه به‏.‏

فهذا أوضح دليل على أنه عليه السلام لم يصل يوم الإثنين صلاة الصبح مع النَّاس، وأنه كان قد انقطع عنهم، لم يخرج إليهم ثلاثاً‏.‏

قلنا‏:‏ فعلى هذا يكون آخر صلاة صلاها معهم الظهر كما جاء مصرحاً به في حديث عائشة المتقدم، ويكون ذلك يوم الخميس لا يوم السبت، ولا يوم الأحد كما حكاه البيهقي عن مغازي موسى بن عقبة، وهو ضعيف، ولما قدمنا من خطبته بعدها، ولأنه انقطع عنهم يوم الجمعة، والسبت، والأحد، وهذه ثلاثة أيام كوامل‏.‏

وقال الزُّهري عن أبي بكر ابن أبي سبرة، أن أبا بكر صلى بهم سبع عشرة صلاة‏.‏

وقال غيره‏:‏ عشرين صلاة، فالله أعلم‏.‏

ثم بدا لهم وجهه الكريم صبيحة يوم الإثنين، فودعهم بنظرة كادوا يفتتنون بها، ثم كان ذلك آخر عهد جمهورهم به، ولسان حالهم يقول‏:‏ كما قال بعضهم‏:‏

وَكنتُ أرَى كالموتِ منْ بينِ ساعةٍ * فكيفَ ببينٍ كانَ موعدهُ الحشرُ

والعجب أن الحافظ البيهقي أورد هذا الحديث من هاتين الطريقين، ثم قال ما حاصله‏:‏ فلعله عليه السلام احتجب عنهم في أول ركعة، ثم خرج في الركعة الثانية، فصلى خلف أبي بكر كما قال عروة وموسى بن عقبة، وخفي ذلك على أنس بن مالك، أو أنه ذكر بعض الخبر وسكت عن آخره‏.‏
وهذا الذي ذكره أيضاً بعيد جداً، لأن أنساً قال‏:‏ فلم يقدر عليه حتَّى مات، وفي رواية‏:‏ قال‏:‏ فكان ذلك آخر العهد به، وقول الصحابي مقدم على قول التابعي، والله أعلم‏.‏

والمقصود‏:‏ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قدم أبا بكر الصديق إماماً للصحابة كلهم في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام العملية‏.‏

قال الشيخ أبو الحسن الأشعريّ‏:‏ وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام قال‏:‏ وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم، لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنَّاً، فإن كانوا في السِّن سواء فأقدمهم مسلماً‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ من كلام الأشعريّ رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب، ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه وصلاة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم خلفه في بعض الصلوات، كما قدمنا بذلك الروايات الصحيحة، لا ينافي ما روى في الصحيح أن أبا بكر إئتم به عليه السلام لأن ذلك في صلاة أخرى كما نص على ذلك الشافعي وغيره من الأئمة رحمهم الله عز وجل‏.‏

فائدة‏:‏ استدل مالك والشافعي، وجماعة من العلماء ومنهم البخاري، بصلاته عليه السلام قاعداً وأبو بكر مقتدياً به قائماً والنَّاس بأبي بكر، على نسخ قوله عليه السلام في الحديث المتفق عليه‏:‏ حين صلى ببعض أصحابه قاعداً‏.‏

وقد وقع عن فرس فجحش شقه، فصلوا وراءه قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كذلك والذي نفسي بيده تفعلون كفعل فارس والرُّوم، يقومون على عظمائهم وهم جلوس‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ ثم إنه عليه السلام أمَّهم قاعداً وهم قيام في مرض الموت، فدلَّ على نسخ ما تقدم، والله أعلم‏.‏

وقد تنوَّعت مسالك النَّاس في الجواب عن هذا الاستدلال على وجوه كثيرة، موضع ذكرها ‏(‏كتاب الأحكام الكبير‏)‏ إن شاء الله، وبه الثقة، وعليه التكلان‏.‏

وملخص ذلك‏:‏ أن من النَّاس من زعم أن الصحابة جلسوا لأمره المتقدم، وإنما استمر أبو بكر قائماً لأجل التبليغ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم ومن النَّاس من قال‏:‏ بل كان أبو بكر هو الإمام في نفس الأمر، كما صرَّح به بعض الرواة كما تقدم، وكان أبو بكر لشدة أدبه مع الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم لا يبادره بل يقتدي به، فكأنه عليه السلام صار إمام الإمام، فلهذا لم يجلسوا لاقتدائهم بأبي بكر وهو قائم؛ ولم يجلس الصديق لأجل أنه إمام، ولأنه يبلغهم عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الحركات، والسكنات، والانتقالات، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج /ص‏:‏5/257‏)‏

ومن النَّاس من قال‏:‏ فرق بين أن يبتدأ الصلاة خلف الإمام في حال القيام فيستمر فيها قائماً، وإن طرأ جلوس الإمام في أثنائها كما في هذه الحال وبين أن يبتدي الصلاة خلف إمام جالس فيجب الجلوس، للحديث المتقدم، والله أعلم‏.‏

ومن النَّاس من قال‏:‏ هذا الصنيع والحديث المتقدم دليل على جواز القيام، والجلوس، وأن كلاً منهما سائغ جائز، الجلوس لما تقدم، والقيام للفعل المتأخر، والله أعلم‏.‏

احتضاره ووفاته عليه السلام

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عبد الله هو‏:‏ ابن مسعود قال‏:‏ دخلت على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يوعك، فمسسته فقلت‏:‏ يا رسول الله إنك لتوعك وعكاً شديداً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجل‏!‏إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ إن لك أجرين‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏!‏والذي نفسي بيده ما على الأرض مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حطَّ الله عنه خطاياه كما تحطُّ الشجرة ورقها‏)‏‏)‏‏.‏

وقد أخرجه البخاري ومسلم من طرق متعددة عن سليمان بن مهران الأعمش به‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده‏:‏ حدثنا إسحاق ابن أبي إسرائيل، ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن زيد بن أسلم، عن رجل، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ وضع يده على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك‏.‏

فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر، إن كان النَّبيّ من الأنبياء ليبتلى بالقمل حتَّى يقتله، وإن كان الرجل ليبتلى بالعري حتَّى يأخذ العباءة فيجوبها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء‏)‏‏)‏ فيه رجل مبهم لا يعرف بالكلية، فالله أعلم‏.‏

وقد روى البخاري ومسلم من حديث سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، زاد مسلم - وجرير - ثلاثتهم عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن مسروق، عن عائشة قالت‏:‏ ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وفي صحيح البخاري من حديث يزيد بن الهاد عن عبد الرحيم بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد بعد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/258‏)‏

وفي الحديث الآخر الذي رواه البخاري في صحيحه قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏أشدُّ النَّاس بلاء الأنبياء ثمَّ الصالحون، ثمَّ الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شدِّد عليه في البلاء‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعقوب، ثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني سعيد بن عبيد بن السباق عن محمد بن أسامة بن زيد قال‏:‏ لما ثقل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هبطت وهبط النَّاس معي إلى المدينة، فدخلت على رسول الله وقد أصمت فلا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء، ثمَّ يصيبها على وجهه، أعرف أنَّه يدعو لي‏.‏

ورواه التِّرمذي عن أبي كريب، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق وقال‏:‏ حسن غريب‏.‏

وقال الإمام مالك في موطئه عن إسماعيل ابن أبي حكيم، أنَّه سمع عمر بن عبد العزيز يقول‏:‏ كان من آخر ما تكلَّم به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قاتل الله اليهود والنَّصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض العرب‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا رواه مرسلاً عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله‏.‏

وقد روى البخاري ومسلم من حديث الزُّهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة وابن عبَّاس قالا‏:‏ لما نزل برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمَّ كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك‏:‏ ‏(‏‏(‏لعنة الله على اليهود والنَّصارى اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو بكر ابن أبي رجاء الأديب، أنبأنا أبو العبَّاس الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا أبو بكر ابن عياش عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول قبل موته بثلاث‏:‏ ‏(‏‏(‏أحسنوا الظن بالله‏)‏‏)‏

وفي بعض الأحاديث كما رواه مسلم من حديث الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بالله تعالى‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث الآخر يقول الله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا عند ظنِّ عبدي بي، فليظنَّ بي خيراً‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا الحاكم، حدثنا الأصم، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، ثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، ثنا جرير عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ كانت عامة وصية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين حضره الوفاة‏:‏ الصلاة، وما ملكت أيمانكم، حتَّى جعل يغرغر بها في صدره، وما يفصح بها لسانه‏.‏

وقد رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، عن جرير بن عبد الحميد به‏.‏

وابن ماجه عن أبي الأشعث، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/259‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسباط بن محمد، ثنا التيمي عن قتادة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كانت عامة وصية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين حضر الموت‏:‏ الصلاة، وما ملكت أيمانكم، حتَّى جعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه‏.‏

وقد رواه النسائي وابن ماجه من حديث سليمان بن طرخان - وهو التيمي - عن قتادة، عن أنس به‏.‏

وفي رواية النسائي عن قتادة، عن صاحب له، عن أنس به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا بكر بن عيسى الراسبي، ثنا عمر بن الفضيل عن نعيم بن يزيد، عن علي ابن أبي طالب قال‏:‏ أمرني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن آتيه بطبق يكتب فيه ما لا تضلُّ أمته من بعده‏.‏

قال‏:‏ فخشيت أن تفوتني نفسه‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ إني أحفظ وأعي قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أوصي بالصَّلاة، والزَّكاة، وما ملكت أيمانكم‏)‏‏)‏ تفرَّد به أحمد من هذا الوجه‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا أبو النعمان محمد بن الفضل، ثنا أبو عوانة عن قتادة، عن سفينة، عن أم سلمة قالت‏:‏ كان عامة وصية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عند موته‏:‏ الصلاة، وما ملكت إيمانكم، حتَّى جعل يلجلجها في صدره وما يفيض بها لسانه‏.‏

وهكذا رواه النسائي عن حميد بن مسعدة، عن يزيد بن زريع، عن سعد ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سفينة، عن أم سلمة به‏.‏

قال البيهقي‏:‏ والصَّحيح ما رواه عفَّان عن همام، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن سفينة، عن أم سلمة به‏.‏

وهكذا رواه النسائي أيضاً وابن ماجه من حديث يزيد بن هارون عن همام، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن سفينة، عن أم سلمة به‏.‏

وقد رواه النسائي أيضاً عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن قتادة، عن سفينة، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فذكره‏.‏

ثم رواه عن محمد بن عبد الله بن المبارك عن يونس بن محمد قال‏:‏ حدثنا عن سفينة، فذكر نحوه‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا يونس، ثنا اللَّيث عن يزيد بن الهاد، عن موسى بن سرجس، عن القاسم، عن عائشة قالت‏:‏ رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يموت، وعنده قدح فيه ماء، فيدخل يده في القدح ثمَّ يمسح وجهه بالماء ثمَّ يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أعني على سكرات الموت‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه التِّرمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث اللَّيث به‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ غريب‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع عن إسماعيل، عن مصعب بن إسحاق بن طلحة، عن عائشة عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ليهون علي أني رأيت بياض كفّ عائشة في الجنَّة‏)‏‏)‏ تفرد به أحمد، وإسناده لا بأس به‏.‏

وهذا دليل على شدَّة محبته عليه السلام لعائشة رضي الله عنها وقد ذكر النَّاس معاني كثيرة في كثرة المحبة، ولم يبلغ أحدهم هذا المبلغ، وما ذاك إلا لأنهم يبالغون كلاماً لا حقيقة له، وهذا كلام حق لا محالة ولا شك فيه‏.‏

وقال حماد بن زيد عن أيوب، عن ابن أبي مليكة قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بيتي ويومي، وتوفي بين سحري ونحري، وكان جبريل يعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه، فرفع بصره إلى السماء وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى‏)‏‏)‏ ودخل عبد الرحمن ابن أبي بكر وبيده جريدة رطبة فنظر إليه، فظننت أن له بها حاجة قالت‏:‏ فأخذتها فنفضتها، فدفعتها إليه فاستن بها أحسن ما كان مستناً، ثم ذهب يناولنيها فسقطت من يده قالت‏:‏ فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة‏.‏

ورواه البخاري عن سليمان بن جرير، عن حماد بن زيد به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/260‏)‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبانا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارى، ثنا صالح بن محمد الحافظ البغدادي، ثنا داود بن عمرو بن زهير الضبي، ثنا عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد ابن أبي حسين، أنبأنا ابن أبي مليكة أن أبا عمرو ذكوان مولى عائشة أخبره أنَّ عائشة كانت تقول‏:‏ إنَّ من نعمة الله عليَّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم توفي في يومي، وفي بيتي، وبين سحري ونحري، وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت‏.‏

قالت‏:‏ دخل عليَّ أخي بسواك معه، وأنا مسندة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى صدري، فرأيته ينظر إليه وقد عرفت أنه يحبُّ السواك ويألفه، فقلت‏:‏ آخذه لك، فأراد برأسه أي نعم‏!‏فلينته له، فأمرَّه على فِيه قالت‏:‏ وبين يديه ركوة، أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ثمَّ يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله، إنَّ للموت لسكرات‏)‏‏)‏ ثم نصب إصبعه اليسرى وجعل يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى‏)‏‏)‏ حتَّى قبض ومالت يده على الماء‏.‏

ورواه البخاري عن محمد، عن عيسى بن يونس‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ ثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم سمعت عروة يحدِّث عن عائشة قالت‏:‏ كنَّا نحدث أن النَّبيّ لا يموت حتَّى يخيَّر بين الدنيا والآخرة، قالت‏:‏ فلما كان مرض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي مات فيه عرضت له بحة فسمعته يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏مع الذين أنعم الله عليهم من النَّبيّين، والصِّدِّيقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً‏)‏‏)‏‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فظننا أنه كان يخيَّر‏.‏

وأخرجاه من حديث شعبة به‏.‏

وقال الزُّهري‏:‏ أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجال من أهل العلم أن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول وهو صحيح‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّه لم يقبض نبي حتَّى يرى مقعده من الجنة ثمَّ يخيَّر‏)‏‏)‏‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فلما نزل برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورأسه على فخذي - غشي عليه ساعة ثمَّ أفاق، فأشخص بصره إلى سقف البيت وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم الرفيق الأعلى‏)‏‏)‏ فعرفت أنه الحديث الذي كان حدَّثناه، وهو صحيح أنه لم يقبض نبي قط حتَّى يرى مقعده من الجنَّة ثمَّ يخيَّر‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فقلت‏:‏ إذاً لا تختارنا وقالت عائشة‏:‏ كانت تلك الكلمة آخر كلمة تكلَّم بها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ‏(‏‏(‏الرفيق الأعلى‏)‏‏)‏‏.‏

أخرجاه من غير وجه عن الزُّهري به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/261‏)‏

وقال سفيان هو الثوري - عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي بردة، عن عائشة قالت‏:‏ أغمي على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في حجري، فجعلت أمسح وجهه، وأدعو له بالشفاء فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا بل أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل، وميكائيل وإسرافيل‏)‏‏)‏‏.‏
رواه النسائي من حديث سفيان الثَّوري به‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وغيره قالوا‏:‏ ثنا أبو العبَّاس الأصم، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ثنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، أنَّ عائشة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق‏)‏‏)‏‏.‏

أخرجاه من حديث هشام بن عروة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعقوب، ثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد سمعت عائشة تقول‏:‏ مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بين سحري ونحري وفي دولتي، ولم أظلم فيه أحداً فمن سفهي وحداثة سني، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت ألدم مع النساء وأضرب وجهي‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، ثنا كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ما من نبي إلا تقبض نفسه ثم يرى الثواب، ثم ترد إليه فيخيَّر بين أن ترد إليه وبين أن يلحق‏)‏‏)‏ فكنت قد حفظت ذلك منه، فإني لمسندته إلى صدري، فنظرت إليه حين مالت عنقه، فقلت‏:‏ قد قضى فعرفت الذي قال، فنظرت إليه حين ارتفع فنظر قالت‏:‏ قلت‏:‏ إذاً والله لا يختارنا فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مع الرفيق الأعلى في الجنة، مع الذين أنعم الله عليهم من النَّبيّين والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد، ولم يخرِّجوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، أنبأنا همام، أنبأنا هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورأسه بين سحري ونحري قالت‏:‏ فلما خرجت نفسه لم أجد ريحاً قط أطيب منها‏.‏

وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، ولم يخرِّجه أحد من أصحاب الكتب الستة‏.‏
ورواه البيهقي من حديث حنبل بن إسحاق عن عفان‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو العبَّاس الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، عن أبي عروة، عن أم سلمة قالت‏:‏ وضعت يدي على صدر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم مات، فمرت لي جمع آكل وأتوضأ، وما يذهب ريح المسك من يدي‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عفان، وبهز قالا‏:‏ ثنا سليمان بن المغيرة، ثنا حميد بن هلال عن أبي بردة قال‏:‏ دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزاراً غليظاً مما يصنع باليمن، وكساء من التي يدعون الملبدة فقالت‏:‏ إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبض في هذين الثوبين‏.‏

وقد رواه الجماعة إلا النسائي من طرق عن حميد بن هلال به‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/262‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا بهز، ثنا حماد بن سلمة، أنبأنا أبو عمران الجوني عن يزيد بن بابنوس قال‏:‏ ذهبت أنا وصاحب لي إلى عائشة فاستأذنا عليها، فألقت لنا وسادة، وجذبت إليها الحجاب‏.‏

فقال صاحبي‏:‏ يا أم المؤمنين، ما تقولين في العراك‏؟‏

قالت‏:‏ وما العراك‏؟‏

فضربت منكب صاحبي‏.‏

قالت‏:‏ مه، آذيت أخاك ثم قالت‏:‏ ما العراك‏:‏ المحيض‏!‏قولوا‏:‏ ما قال الله عز وجل في المحيض ثم قالت‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يتوشحني وينال من رأسي، وبيني وبينه ثوب وأنا حائض ثم قالت‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا مرَّ ببابي مما يلقي الكلمة ينفعني الله بها، فمرَّ ذات يوم فلم يقل شيئاً، ثم مرَّ فلم يقل شيئاً، مرتين أو ثلاثاً فقلت‏:‏ يا جارية ضعي لي وسادة على الباب، وعصبت رأسي فمرَّ بي فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عائشة ما شأنك‏؟‏‏)‏‏)‏

فقلت‏:‏ أشتكي رأسي‏.‏

فقال‏:‏ أنا وارأساه، فذهب فلم يلبث إلا يسيراً حتَّى جيء به محمولاً في كساء، فدخل عليَّ وبعث إلى النساء فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني قد اشتكيت، وإني لا أستطيع أن أدور بينكن، فإذنَّ لي فلأكن عند عائشة، فكنت أمرضه ولم أمرِّض أحداً قبله، فبينما رأسه ذات يوم على منكبي إذ مال رأسه نحو رأسي، فظننت أنه يريد من رأسي حاجة، فخرجت من فِيه نقطة باردة، فوقعت على نقرة نحري فاقشعر لها جلدي، فظننت أنه غشي عليه، فسجيته ثوباً، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا، فأذنت لهما، وجذبت إليَّ الحجاب، فنظر عمر إليه فقال‏:‏ واغشياه، ما أشدَّ غشي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم قاما فلما دنوا من الباب قال المغيرة‏:‏ يا عمر مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقلت‏:‏ كذبت بل أنت رجل تحوسك فتنة، إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يموت حتَّى يفني الله المنافقين‏.‏

قالت‏:‏ ثم جاء أبو بكر، فرفعت الحجاب، فنظر إليه فقال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم أتاه من قبل رأسه فحدرناه، فقبَّل جبهته ثم قال‏:‏ وانبياه، ثم رفع رأسه فحدرناه، وقبَّل جبهته، ثم قال‏:‏ واصفياه، ثم رفع رأسه وحدرناه، وقبَّل جبهته وقال‏:‏ واخليلاه، مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وخرج إلى المسجد، وعمر يخطب النَّاس، ويتكلم ويقول‏:‏ إنَّ رسول الله لا يموت حتَّى يفني الله المنافقين‏.‏

فتكلم أبو بكر فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ إنَّ الله يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 30‏]‏‏.‏ حتَّى فرغ من الآية ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ حتَّى فرغ من الآية، ثم قال‏:‏ فمن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمد فإن محمداً قد مات‏.‏

فقال عمر‏:‏ أو إنها في كتاب الله‏؟‏ ما شعرت أنها في كتاب الله‏.‏

ثم قال عمر‏:‏ يا أيها النَّاس هذا أبو بكر وهو ذو شيبة المسلمين، فبايعوه فبايعوه‏.‏

وقد روى أبو داود، والتِّرمذي في ‏(‏الشمائل‏)‏ من حديث مرحوم بن عبد العزيز العطار عن أبي عمران الجوني به ببعضه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/263‏)‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبانا أبو بكر ابن إسحاق، أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان، ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة عن عبد الرحمن أن عائشة أخبرته‏:‏ أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتَّى نزل فدخل المسجد، فلم يكلّم النَّاس حتَّى دخل على عائشة، فيمم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو مسجَّى ببرد حبرة فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبَّله، ثم بكى ثم قال‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبداً، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متَّها‏.‏

قال الزُّهري‏:‏ وحدثني أبو سلمة عن ابن عبَّاس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم النَّاس فقال‏:‏ اجلس يا عمر‏!‏

فأبى عمر أن يجلس‏.‏

فقال‏:‏ اجلس يا عمر‏.‏

فأبى عمر أن يجلس، فتشهد أبو بكر فأقبل النَّاس إليه فقال‏:‏ أما بعد فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ الآية‏.‏

قال‏:‏ فوالله لكأن النَّاس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتَّى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه النَّاس كلهم فما سمع بشر من النَّاس إلا يتلوها‏.‏

قال الزُّهري‏:‏ وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال‏:‏ والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت أنه الحق، فعقرت حتَّى ما تقلني رجلاي وحتَّى هويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد مات‏.‏

ورواه البخاري عن يحيى ابن بكير به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/264‏)‏

وروى الحافظ البيهقي‏:‏ من طريق ابن لهيعة، ثنا أبو الأسود عن عروة بن الزبير في ذكر وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ وقام عمر بن الخطاب يخطب النَّاس، ويتوعَّد من قال مات، بالقتل والقطع ويقول‏:‏ إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غشية، لو قد قام قتل وقطع، وعمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم بن أم مكتوم قائم في مؤخر المسجد يقرأ‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ‏}‏ الآية والنَّاس في المسجد يبكون ويموجون لا يسمعون، فخرج عبَّاس بن عبد المطلب على النَّاس فقال‏:‏ يا أيها النَّاس هل عند أحد منكم من عهد من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في وفاته فليحدِّثنا‏.‏

قالوا‏:‏ لا‏!‏

قال‏:‏ هل عندك يا عمر من علم‏؟‏

قال‏:‏ لا‏!‏

فقال العبَّاس‏:‏ اشهدوا أيها النَّاس أن أحداً لا يشهد على رسول الله بعهد عهده إليه في وفاته، والله الذي لا إله إلا هو لقد ذاق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الموت‏.‏

قال‏:‏ وأقبل أبو بكر رضي الله عنه من السنح على دابته، حتَّى نزل بباب المسجد وأقبل مكروباً حزيناً، فاستأذن في بيت ابنته عائشة، فأذنت له فدخل ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد توفي على الفراش والنسوة حوله، فخمرن وجوههن، واستترن من أبي بكر إلا ما كان من عائشة، فكشف عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فحثى عليه يقبِّله ويبكي ويقول‏:‏ ليس ما يقوله ابن الخطاب شيئاً، توفي رسول الله والذي نفسي بيده، رحمة الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حياً وميتاً، ثم غشاه بالثوب، ثم خرج سريعاً إلى المسجد يتخطى رقاب النَّاس، حتَّى أتى المنبر وجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلاً إليه، وقام أبو بكر إلى جانب المنبر ونادى النَّاس فجلسوا وأنصتوا، فتشهد أبو بكر بما علمه من التشهد وقال‏:‏ إن الله عز وجل نعى نبيه إلى نفسه وهو حي بين أظهركم، ونعاكم إلى أنفسكم وهو الموت حتَّى لا يبقى منكم أحد إلا الله عز وجل قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ‏}‏ الآية‏.‏

فقال عمر‏:‏ هذه الآية في القرآن‏؟‏ والله ما علمت أن هذه الآية أنزلت قبل اليوم‏.‏

وقد قال الله تعالى لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏‏.‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26-27‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ إن الله عمَّر محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم وأبقاه حتَّى أقام دين الله، وأظهر أمر الله، وبلَّغ رسالة الله، وجاهد في سبيل الله، ثمَّ توفاه الله على ذلك وقد ترككم على الطريقة، فلن يهلك هالك إلا من بعد البينة والشفاء، فمن كان الله ربه فإن الله حيّ لا يموت، ومن كان يعبد محمداً وينزله إلهاً فقد هلك إلهه، فاتقوا الله أيها النَّاس واعتصموا بدينكم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم، وإن كلمة الله تامة، وإن الله ناصر من نصره ومعز دينه، وإن كتاب الله بين أظهرنا وهو النور والشفاء، وبه هدى الله محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم وفيه حلال الله وحرامه، والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد، ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلا يبغينَّ أحد إلا على نفسه‏.‏

ثم انصرف معه المهاجرون إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فذكر الحديث في غسله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه‏.‏

قلت‏:‏ كما سنذكره مفصلاً بدلائله وشواهده، إن شاء الله تعالى‏.‏

وذكر الواقدي عن شيوخه قالوا‏:‏ ولما شكَّ في موت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال بعضهم‏:‏ مات‏!‏

وقال بعضهم‏:‏ لم يمت‏.‏

وضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت‏:‏ قد توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد رفع الخاتم من بين كتفيه، فكان هذا الذي قد عرف به موته‏.‏

هكذا أورده الحافظ البيهقي في كتابه ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ من طريق الواقدي، وهو ضعيف، وشيوخه لم يسمون، ثم هو منقطع بكل حال ومخالف لما صح، وفيه غرابة شديدة وهو رفع الخاتم، فالله أعلم بالصواب‏.‏

وقد ذكر الواقدي وغيره في الوفاة أخباراً كثيرة فيها نكارات وغرابة شديدة، أضربنا عن أكثرها صفحاً لضعف أسانيدها، ونكارة متونها، ولا سيما ما يورده كثير من القصاص المتأخرين وغيرهم، فكثير منه موضوع لا محالة، وفي الأحاديث الصحيحة والحسنة والمروية في الكتب المشهورة غِنْيَة عن الأكاذيب، وما لا يعرف سنده، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/265‏)‏



فصل في ذكر أمور مهمة وقعت بعد وفاته صلَّى الله عليه وسلَّم وقبل دفنه

ومن أعظمها وأجلها وأيمنها بركة على الإسلام وأهله بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لما مات كان الصديق رضي الله عنه قد صلى بالمسلمين صلاة الصبح، وكان إذ ذاك قد أفاق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إفاقة من غمرة ما كان فيه من الوجع، وكشف سترة الحجرة، ونظر إلى المسلمين وهم صفوف في الصلاة خلف أبي بكر فأعجبه ذلك، وتبسم صلوات الله وسلامه عليه حتَّى همَّ المسلمون أن يتركوا ما هم فيه من الصلاة لفرحهم به، وحتَّى أراد أبو بكر أن يتأخَّر ليصل الصف، فأشار إليهم أن يمكثوا كما هم وأرخى الستارة، وكان آخر العهد به عليه الصلاة والسلام فلما انصرف أبو بكر رضي الله عنه من الصلاة دخل عليه وقال لعائشة‏:‏ ما أرى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة - يعني‏:‏ إحدى زوجتيه - وكانت ساكنة بالسنح شرقي المدينة، فركب على فرس له وذهب إلى منزله، وتوفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم، وقيل‏:‏ عند زوال الشمس، والله أعلم‏.‏

فلما مات واختلف الصحابة فيما بينهم فمن قائل يقول‏:‏ مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

ومن قائل‏:‏ لم يمت‏.‏

فذهب سالم بن عبيد وراء الصديق إلى السنح فأعلمه بموت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فجاء الصديق من منزله حين بلغه الخبر، فدخل على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم منزله، وكشف الغطاء عن وجهه وقبَّله، وتحقق أنه قد مات، خرج إلى النَّاس فخطبهم إلى جانب المنبر وبيَّن لهم وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كما قدمنا، وأزاح الجدل، وأزال الإشكال، ورجع النَّاس كلهم إليه وبايعه في المسجد جماعة من الصحابة، ووقعت شبهة لبعض الأنصار، وقام في أذهان بعضهم جواز استخلاف خليفة من الأنصار، وتوسط بعضهم بين أن يكون أمير من المهاجرين وأمير من الأنصار، حتَّى بيَّن لهم الصديق أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، فرجعوا إليه وأجمعوا عليه، كما سنبينه، وننبه عليه‏.‏

قصة سقيفة بني ساعدة

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا إسحاق بن عيسى الطباع، ثنا مالك بن أنس، حدثني ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن ابن عبَّاس أخبره أن عبد الرحمن بن عوف رجع إلى رحله قال ابن عبَّاس‏:‏ وكنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف فوجدني وأنا أنتظره وذلك بمنى في آخر حجة حجها عمر بن الخطاب‏.‏

فقال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ إن رجلاً أتى عمر بن الخطاب‏.‏

فقال‏:‏ إن فلاناً يقول‏:‏ لو قد مات عمر بايعت فلاناً‏.‏

فقال عمر‏:‏ إني قائم العشية إن شاء الله في النَّاس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم‏.‏

قال عبد الرحمن‏:‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع النَّاس وغوغاءهم، وأنهم الذين يغلبون على مجلسك إذا قمت في النَّاس فأخشى أن تقول مقالة يطير بها أولئك فلا يعوها ولا يضعوها مواضعها، ولكن حتَّى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، وتخلص بعلماء النَّاس وأشرافهم فتقول ما قلت متمكناً، فيعون مقالتك ويضعوها مواضعها‏.‏

قال عمر‏:‏ لئن قدمت المدينة صالحاً لأكلمن بها النَّاس في أول مقام أقومه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/266‏)‏

فلما قدمنا المدينة في عقب ذي الحجة وكان يوم الجمعة عجلت الرواح صكة الأعمى قلت لمالك‏:‏ وما صكة الأعمى‏؟‏

قال‏:‏ إنه لا يبالي أي ساعة خرج لا يعرف الحر والبرد، أو نحو هذا، فوجدت سعيد بن زيد عند ركن المنبر الأيمن قد سبقني، فجلست حذاءه تحك ركبتي ركبته فلم أنشب أن طلع عمر، فلما رأيته قلت‏:‏ ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة ما قالها عليه أحد قبله‏.‏

قال‏:‏ فأنكر سعيد بن زيد ذلك وقال‏:‏ ما عسيت أن يقول ما لم يقل أحد‏.‏

فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن، قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال‏:‏ أما بعد أيها النَّاس فإني قائل مقالة وقد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن وعاها وعقلها فليحدِّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن لم يعها فلا أحلّ له أن يكذب عليّ، إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، وعقلناها، ورجم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالنَّاس زمان أن يقول قائل‏:‏ لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله عز وجل فالرجم في كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف، ألا وإنا قد كنا نقرأ‏:‏ لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم، ألا وإن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا‏:‏ عبد الله ورسوله‏)‏‏)‏ وقد بلغني أن قائلاً منكم يقول‏:‏ لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول‏:‏ إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت، ألا وأنها كانت كذلك، إلا إن الله وقى شرها، وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وأنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن علياً والزبير ومن كان معهما تخلَّفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وتخلَّف عنها الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له‏:‏ يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم حتَّى لقينا رجلان صالحان، فذكراً لنا الذي صنع القوم فقالا‏:‏ أين تريدون يا معشر المهاجرين‏؟‏

فقلت‏:‏ نريد إخواننا من الأنصار‏.‏

فقالا‏:‏ لا عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين‏.‏

فقلت‏:‏ والله لنأتينهم، فانطلقنا حتَّى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون، وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت‏:‏ من هذا‏؟‏

قالوا‏:‏ سعد بن عبادة‏.‏

فقلت‏:‏ ماله‏؟‏

قالوا‏:‏ وجع، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله وقال‏:‏ أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط نبينا، وقد دفت دافة منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا، وتحصنونا من الأمر‏.‏

فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد وهو كان أحكم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته وأفضل حتَّى سكت‏.‏

فقال‏:‏ أما بعد فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، وما تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/267‏)‏

وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة ابن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إليَّ أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، إلا أن تغير نفسي عند الموت‏.‏

فقال قائل من الأنصار‏:‏ أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش‏.‏

فقلت لمالك‏:‏ ما يعني‏:‏ أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب‏؟‏

قال‏:‏ كأنه يقول‏:‏ أنا داهيتها‏.‏

قال‏:‏ فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتَّى خشينا الاختلاف‏.‏

فقلت‏:‏ أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم‏:‏ قتلتم سعداً‏.‏

فقلت‏:‏ قتل الله سعداً‏.‏

قال عمر‏:‏ أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمراً هو أرفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع أميراً عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه تغرة أن يقتلا‏.‏

قال مالك‏:‏ فأخبرني ابن شهاب عن عروة أن الرجلين اللذين لقياهما‏:‏ عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ وأخبرني سعيد بن المسيب أن الذي قال‏:‏ أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب‏:‏ هو الحباب بن المنذر‏.‏

وقد أخرج هذا الحديث الجماعة في كتبهم من طرق عن مالك وغيره عن الزُّهري به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا معاوية عن عمرو، ثنا زائدة، ثنا عاصم، وحدثني حسين بن علي عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله - هو‏:‏ ابن مسعود - قال‏:‏ لما قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قالت الأنصار‏:‏ منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر فقال‏:‏ يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد أمر أبا بكر أن يؤمَّ النَّاس، فأيُّكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر، فقالت الأنصار‏:‏ نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر‏.‏

ورواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، وهناد بن السري عن حسين بن علي الجعفي، عن زائدة به‏.‏

ورواه علي بن المديني عن حسين بن علي، وقال‏:‏ صحيح لا أحفظه إلا من حديث زائدة عن عاصم‏.‏

وقد رواه النسائي أيضاً من حديث سلمة بن نبيط، عن نعيم ابن أبي هند، عن نبيط بن شريط، عن سالم بن عبيد، عن عمر مثله‏.‏

وقد روي عن عمر بن الخطاب نحوه من طريق آخر، وجاء من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله ابن أبي بكر، عن الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبَّاس، عن عمر أنه قال‏:‏ قلت‏:‏ يا معشر المسلمين إن أولى النَّاس بأمر النَّبيّ الله ثاني اثنين إذ هما في الغار، وأبو بكر السبَّاق المسن، ثم أخذت بيده وبدرني رجل من الأنصار فضرب على يده قبل أن أضرب على يده، ثم ضربت على يده وتبايع النَّاس‏.‏

وقد روى محمد بن سعد عن عارم بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد فذكر نحواً من هذه القصة، وسمَّى هذا الرجل الذي بايع الصديق قبل عمر بن الخطاب فقال‏:‏ هو بشير بن سعد والد النعمان بن بشير‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/268‏)‏

اعتراف سعد بن عبادة بصحة ما قاله الصديق يوم السقيفة

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن قال‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو بكر رضي الله عنه في صائفة من المدينة قال‏:‏ فجاء فكشف عن وجهه فقبَّله وقال‏:‏ فداك أبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً، مات محمد ورب الكعبة، فذكر الحديث‏.‏

قال‏:‏ فانطلق أبو بكر وعمر يتعادان حتَّى أتوهم، فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله من شأنهم إلا ذكره وقال‏:‏ لقد علمتم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو سلك النَّاس وادياً وسلكت الأنصار وادياً، سلكت وادي الأنصار‏)‏‏)‏ ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال وأنت قاعد‏:‏ ‏(‏‏(‏قريش ولاة هذا الأمر فبر النَّاس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له سعد‏:‏ صدقت نحن الوزراء، وأنتم الأمراء‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن عبَّاس، ثنا الوليد بن مسلم، أخبرني يزيد بن سعيد بن ذي عضوان العبسي عن عبد الملك بن عمير اللخمي، عن رافع الطائي رفيق أبي بكر الصديق في غزوة ذات السلاسل قال‏:‏ وسألته عما قيل في بيعتهم‏.‏

فقال‏:‏ وهو يحدِّثه عما تقاولت به الأنصار وما كلمهم به، وما كلم به عمر بن الخطاب الأنصار، وما ذكرهم به من إمامتي إياهم بأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مرضه، فبايعوني لذلك وقبلتها منهم وتخوفت أن تكون فتنة بعدها ردة‏.‏

وهذا إسناد جيد قوي، ومعنى هذا‏:‏ أنه رضي الله عنه إنما قبل الإمامة تخوفاً أن يقع فتنة أربى من تركه قبولها، رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

قلت‏:‏ كان هذا في بقية يوم الإثنين، فلما كان الغد صبيحة يوم الثلاثاء اجتمع النَّاس في المسجد، فتممت البيعة من المهاجرين والأنصار قاطبة، وكان ذلك قبل تجهيز رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تسليماً‏.‏

قال البخاري‏:‏ أنبأنا إبراهيم بن موسى، ثنا هشام عن معمر، عن الزُّهري، أخبرني أنس بن مالك، أنه سمع خطبة عمر الأخيرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأبو بكر صامت لا يتكلم‏.‏

قال‏:‏ كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى يدبرنا - يريد بذلك أن يكون آخرهم - فإن يك محمد قد مات، فإن الله قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به، هدي محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وثاني اثنين، وأنه أولى المسلمين بأموركم، فقدموا فبايعوه، وكانت طائفة قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر‏.‏

قال الزُّهري عن أنس بن مالك سمعت عمر يقول يومئذ لأبي بكر‏:‏ اصعد المنبر‏!‏فلم يزل به حتَّى صعد المنبر، فبايعه عامة النَّاس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/269‏)‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني الزُّهري، حدثني أنس بن مالك قال‏:‏ لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، وقام عمر فتكلَّم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال‏:‏ أيها النَّاس إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهدها إلي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكني كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا يقول‏:‏ يكون آخرنا وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله له، وأن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع النَّاس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة‏.‏

ثم تكلَّم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال‏:‏ أما بعد أيها النَّاس، فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتَّى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتَّى آخذ الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يشيع قوم قط الفاحشة إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله‏.‏

وهذا إسناد صحيح فقوله رضي الله عنه‏:‏ وليتكم ولست بخيركم‏:‏ من باب الهضم والتواضع، فإنهم مجمعون على أنه أفضلهم، وخيرهم رضي الله عنهم‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الحافظ الإسفراييني، حدثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، حدثنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة وابن إبراهيم ابن أبي طالب قالا‏:‏ حدثنا ميدار بن يسار، وحدثنا أبو هشام المخزومي، حدثنا وهيب، حدثنا داود ابن أبي هند، حدثنا أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واجتمع النَّاس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر قال‏:‏ فقام خطيب الأنصار فقال‏:‏ أتعلمون أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان من المهاجرين، وخليفته من المهاجرين، ونحن كنا أنصار رسول الله، ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره‏.‏

قال‏:‏ فقام عمر بن الخطاب فقال‏:‏ صدق قائلكم‏!‏أما لو قلتم على غير هذا لم نبايعكم، وأخذ بيد أبي بكر وقال‏:‏ هذا صاحبكم فبايعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصار‏.‏

قال‏:‏ فصعد أبو بكر المنبر فنظر في وجوه القوم فلم ير الزبير قال‏:‏ فدعا بالزبير فجاء‏.‏

فقال‏:‏ قلت‏:‏ ابن عمة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين‏.‏

فقال‏:‏ لا تثريب يا خليفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقام فبايعه‏.‏

ثم نظر في وجوه القوم فلم ير علياً فدعا بعلي بن أبي طالب، فجاء‏.‏

فقال‏:‏ قلت‏:‏ ابن عم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين‏.‏

قال‏:‏ لا تثريب يا خليفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فبايعه، هذا أو معناه‏.‏

وقال أبو علي الحافظ‏:‏ سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول‏:‏ جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث، فكتبته له في رقعة وقرأته عليه، وهذا حديث يسوي بدنة، بل يسوي بدرة ‏!‏‏.‏

وقد رواه البيهقي عن الحاكم، وأبي محمد بن حامد المقري، كلاهما عن أبي العبَّاس محمد بن يعقوب الأصم، عن جعفر بن محمد بن شاكر، عن عفان بن سلم، عن وهيب به، ولكن ذكر أن الصديق هو القائل لخطيب الأنصار بدل عمر، وفيه أن زيد بن ثابت أخذ بيد أبي بكر فقال‏:‏ هذا صاحبكم فبايعوه، ثم انطلقوا، فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير علياً، فسأل عنه، فقام ناس من الأنصار فأتوا به، فذكر نحو ما تقدم، ثم ذكر قصة الزبير بعد علي، فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/270‏)‏

وقد رواه علي بن عاصم عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري فذكر نحو ما تقدَّم، وهذا إسناد صحيح محفوظ، من حديث أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري، وفيه فائدة جليلة وهي‏:‏ مبايعة علي ابن أبي طالب، أما في أول يوم، أو في اليوم الثاني من الوفاة، وهذا حق فإن علي ابن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه، كما سنذكره، وخرج معه إلى ذي القصة لما خرج الصديق شاهراً سيفه يريد قتال أهل الردة كما سنبينه قريباً، ولكن لما حصل من فاطمة رضي الله عنها عتب على الصديق بسبب ما كانت متوهمة من أنها تستحق ميراث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولم تعلم بما أخبرها به الصديق رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورث ما تركنا فهو صدقة‏)‏‏)‏ فحجبها وغيرها من أزواجه وعمه عن الميراث بهذا النص الصريح، كما سنبين ذلك في موضعه، فسألته أن ينظر علي في صدقة الأرض التي بخيبر وفدك، فلم يجبها إلى ذلك، لأنه رأى أن حقاً عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو الصادق البار، الراشد التابع للحق رضي الله عنه فحصل لها وهي امرأة من البشر ليست بواجبة العصمة عتب وتغضب، ولم تكلِّم الصديق حتَّىماتت، واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها صلَّى الله عليه وسلَّم رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر رضي الله عنه، كما سنذكره من الصحيحين، وغيرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى مع ما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

ويزيد ذلك صحة قول موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم، حدثني أبي أن أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى النَّاس وقال‏:‏ ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتها في سر ولا علانية، فقبل المهاجرون مقالته، وقال علي والزبير‏:‏ ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق النَّاس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يصلي بالنَّاس وهو حي‏.‏

إسناد جيد، ولله الحمد والمنة‏.‏

فصل خلافة أبي بكر
ومن تأمل ما ذكرناه ظهر له إجماع المهاجرين منهم والأنصار على تقديم أبي بكر، وظهر برهان قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر‏)‏‏)‏ وظهر له أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم ينص على الخلافة عيناً لأحد من النَّاس لا لأبي بكر كما قد زعمه طائفة من أهل السنة، ولا لعلي كما يقوله طائفة من الرافضة، ولكن أشار إشارة قوية‏!‏يفهمها كل ذي لب وعقل إلى الصديق، كما قدمنا وسنذكره ولله الحمد‏.‏

كما ثبت في الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له‏:‏ ألا تستخلف يا أمير المؤمنين‏؟‏

فقال‏:‏ إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني‏:‏ أبا بكر -، وإن أترك، فقد ترك من هو خير مني يعني‏:‏ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ فعرفت حين ذكر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه غير مستخلف‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/271‏)‏

وقال سفيان الثوري عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن سفيان قال‏:‏ لما ظهر علي على النَّاس قال‏:‏ يا أيها النَّاس إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئاً حتَّى رأينا من الرأي أن يستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتَّى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر، فأقام واستقام حتَّى مضى لسبيله - أو قال‏:‏ حتَّى ضرب ألين بجرانه - إلى آخره‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو نعيم، ثنا شريك عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان قال‏:‏ خطب رجل يوم البصرة حين ظهر علي فقال علي‏:‏ هذا الخطيب السجسج، سبق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصلى أبو بكر، وثلث عمر، ثم خبطتنا فتنة بعدهم يصنع الله فيها ما يشاء‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد الزكي بمرو، ثنا عبد الله بن روح المدائني، ثنا شبابة بن سوار، ثنا شعيب بن ميمون عن حصين بن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن أبي وائل قال‏:‏ قيل لعلي ابن أبي طالب‏:‏ ألا تستخلف علينا‏؟‏

فقال‏:‏ ما استخلف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالنَّاس خيراً فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم‏.‏

إسناد جيد، ولم يخرِّجوه‏.‏

وقد قدمنا ما ذكره البخاري من حديث الزُّهري عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن ابن عبَّاس أن عبَّاساً وعلياً لما خرجا من عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال رجل‏:‏ كيف أصبح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏

فقال علي‏:‏ أصبح بحمد الله بارئاً‏.‏

فقال العبَّاس‏:‏ إنك والله عبد العصا بعد ثلاث، إني لأعرف في وجوه بني هاشم الموت، وإني لأرى في وجه رسول الله الموت، فاذهب بنا إليه فنسأله فيمن هذا الأمر فإن كان فينا عرفناه، وإن كان في غيرنا أمرناه فوصاه بنا‏.‏

فقال علي‏:‏ إني لا أسأله ذلك، والله إن منعناها لا يعطيناها النَّاس بعده أبداً‏.‏

وقد رواه محمد بن إسحاق عن الزُّهري به، فذكره وقال فيه‏:‏ فدخلا عليه في يوم قبض صلَّى الله عليه وسلَّم، فذكره وقال في آخره‏:‏ فتوفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم‏.‏

قلت‏:‏ فهذا يكون في يوم الإثنين يوم الوفاة، فدل على أنه عليه السلام توفي عن غير وصية في الإمارة‏.‏

وفي الصحيحين عن ابن عبَّاس أن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبين أن يكتب ذلك الكتاب، وقد قدمنا أنه عليه السلام كان طلب أن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عنده قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا عني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قدمنا أنه قال بعد ذلك‏:‏ ‏(‏‏(‏يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عون عن إبراهيم التيمي، عن الأسود قال‏:‏ قيل لعائشة‏:‏ إنهم يقولون أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أوصى إلى علي‏.‏

فقالت‏:‏ بما أوصى إلى علي‏؟‏ لقد دعا بطست ليبول فيها، وأنا مسندته إلى صدري فانحنف فمات، وما شعرت فيم يقول هؤلاء أنه أوصى إلى علي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/272‏)‏

وفي الصَّحيحين من حديث مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف قال‏:‏ سألت عبد الله ابن أبي أوفى هل أوصى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏

قال‏:‏ لا‏!‏

قلت‏:‏ فلم أمرنا بالوصية‏؟‏

قال‏:‏ أوصى بكتاب الله عز وجل‏.‏

قال طلحة بن مصرف وقال هذيل بن شرحبيل‏:‏ أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ود أبو بكر أنه وجد عهداً من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فخرم أنفه بخرامة‏.‏

وفي الصحيحين أيضاً من حديث الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال‏:‏ خطبنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقال‏:‏ من زعم أن عندنا شيئا نقرأه ليس في كتاب الله، وهذه الصحيفة لصحيفة معلقة في سيفه فيها أسنان الإبل، وأشياء من الجراحات فقد كذب‏.‏

وفيها قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والنَّاس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً، ومن ادَّعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والنَّاس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً، وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والنَّاس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث الثابت في الصَّحيحين وغيرهما عن علي رضي الله عنه يرد على فرقة الرَّافضة في زعمهم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أوصى إليه بالخلافة، ولو كان الأمر كما زعموا لما ردَّ ذلك أحد من الصَّحابة، فإنَّهم كانوا أطوع لله ولرسوله في حياته صلَّى الله عليه وسلَّم وبعد وفاته من أن يقتاتوا عليه فيقدموا غير من قدمه، ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا ولما، ومن ظن بالصَّحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطئ على معاندة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ومضادتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من النَّاس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام، ثم لو كان مع علي ابن أبي طالب رضي الله عنه نص، فلِمَ لا كان يحتج به على الصحابة على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم‏؟‏ فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز، والعاجز لا يصلح للإمارة، وإن كان يقدر ولم يفعله فهو خائن، والخائن الفاسق مسلوب معزول عن الإمارة، وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل، ثم وقد عرفه وعلمه من بعده هذا محال، وافتراء، وجهل، وضلال، وإنما يحسن هذا في أذهان الجهلة الطغام، والمغترين من الأنام، يزينه لهم الشيطان بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد التحكم والهذيان، والإفك والبهتان، عياذاً بالله مما هم فيه من التخليط والخذلان، والتخبيط والكفران، وملاذاً بالله بالتمسك بالسنة والقرآن، والوفاة على الإسلام والإيمان، والموافاة على الثبات والإيقان، وتثقيل الميزان، والنجاة من النيران، والفوز بالجنان، إنه كريم منان، رحيم رحمن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/273‏)‏

وفي هذا الحديث الثابت في الصَّحيحين، عن علي الذي قدمناه رد على متقولة كثير من الطرقية، والقُصَّاص الجهلة في دعواهم أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أوصى إلى علي بأشياء كثيرة يسوقونها مطولة، يا علي إفعل كذا، يا علي لا تفعل كذا، يا علي من فعل كذا كان كذا وكذا بألفاظ ركيكة، ومعاني أكثرها سخيفة، وكثير منها صحفية لا تساوي تسويد الصحيفة، والله أعلم‏.‏

وقد أورد الحافظ البيهقي من طريق حماد بن عمرو النصيبي وهو‏:‏ أحد الكذابين الصواغين - عن السري بن خلاد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي ابن أبي طالب، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا علي أوصيك بوصية إحفظها، فإنك لا تزال بخير ما حفظتها، يا علي إن للمؤمن ثلاث علامات‏:‏ الصلاة، والصيام، والزكاة‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ فذكر حديثاً مطويلاً في الرغائب والآداب، وهو حديث موضوع، وقد شرطت في أول الكتاب أن لا أخرج فيه حديثاً أعلمه موضوعاً، ثم روى من طريق حماد بن عمر، وهذا عن زيد بن رفيع، عن مكحول الشامي قال‏:‏ هذا ما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لعلي ابن أبي طالب حين رجع من غزوة حنين، وأنزلت عليه سورة النَّصر‏.‏

قال البيهقي‏:‏ فذكر حديثاً طويلاً في الفتنة، وهو أيضاً حديث منكر ليس له أصل، وفي الأحاديث الصحيحية كفاية، وبالله التوفيق‏.‏

ولنذكر هاهنا ترجمة حماد بن عمرو أبي إسماعيل النصيبي، روى عن الأعمش وغيره، وعنه إبراهيم بن موسى، ومحمد بن مهران، وموسى بن أيوب، وغيرهم‏.‏

قال يحيى بن معين‏:‏ هو ممن يكذب ويضع الحديث‏.‏

وقال عمرو بن علي الفلاس، وأبو حاتم‏:‏ منكر الحديث ضعيف جداً‏.‏

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني‏:‏ كان يكذب‏.‏

وقال البخاري‏:‏ منكر الحديث‏.‏

وقال أبو زرعة‏:‏ واهي الحديث‏.‏

وقال النسائي‏:‏ متروك‏.‏

وقال ابن حبان‏:‏ يضع الحديث وضعاً‏.‏

وقال ابن عدي‏:‏ عامة حديثه مما لا يتابعه أحد من الثقات عليه‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ ضعيف‏.‏

وقال الحاكم أبو عبد الله‏:‏ يروي عن الثقات أحاديث موضوعة، وهو ساقط بمرة‏.‏

فأما الحديث الذي قال الحافظ البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا حمزة بن العبَّاس العقبي ببغداد، ثنا عبد الله بن روح المدائني، ثنا سلام بن سليمان المدائني، ثنا سلام بن سليم الطويل عن عبد الملك بن عبد الرحمن، عن الحسن المقبري، عن الأشعث بن طليق، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ لما ثقل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اجتمعنا في بيت عائشة، فنظر إلينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فدمعت عيناه ثم قال لنا‏:‏ ‏(‏‏(‏قد دنا الفراق‏)‏‏)‏ ونعى إلينا نفسه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مرحباً بكم، حياكم الله، هداكم الله، نصركم الله، نفعكم الله، وفَّقكم الله، سدَّدكم الله، وقاكم الله، أعانكم الله، قبِلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم واستخلفه عليكم إني لكم منه نذير مبين، أن لا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فإن الله قال لي ولكم‏:‏ ‏(‏‏(‏تلك الدَّار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أليس في جهنم مثوى للمتكبرين‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/274‏)‏

قلنا‏:‏ فمتى أجلك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد دنا الأجل، والمنقلب إلى الله، والسدرة المنتهى، والكأس الأوفى، والفرش الأعلى‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ فمن يغسِّلك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ ففيمَ نكفنك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏في ثيابي هذه إن شئتم، أو في يمنية، أو في بياض مصر‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ فمن يصلي عليك يا رسول الله‏؟‏

فبكى وبكينا وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مهلاً‏!‏غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيكم خيراً، إذا غسلتموني، وحنطتموني، وكفنتموني، فضعوني على شفير قبري، ثم أخرجوا عني ساعة، فإن أول من يصلي علي خليلاي وجليساي جبريل وميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنود من الملائكة عليهم السلام، وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي، ثم نساؤهم، ثم ادخلوا علي أفواجاً أفواجاً، وفرادى فرادى، ولا تؤذوني بباكية ولا برنة ولا بضجة، ومن كان غائباً من أصحابي فأبلغوه عني السلام، وأشهدكم بأني قد سلَّمت على من دخل في الإسلام، ومن تابعني في ديني، هذا منذ اليوم إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ فمن يدخلك قبرك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال البيهقي‏:‏ تابعه أحمد بن يونس عن سلام الطويل، وتفرَّد به سلام الطويل‏.‏

قلت‏:‏ وهو سلام بن مسلم ويقال‏:‏ ابن سليم، ويقال‏:‏ ابن سليمان، والأول أصح، التميمي السعدي الطويل يروي عن جعفر الصادق، وحميد الطويل، وزيد العمي، وجماعة، وعنه جماعة أيضاً منهم‏:‏ أحمد بن عبد الله بن يونس، وأسد بن موسى، وخلف بن هشام البزار، وعلي بن الجعد، وقبيصة بن عقبة، وقد ضعَّفه علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والبخاري، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والجوزجاني، والنسائي، وغير واحد، وكذَّبه بعض الأئمة، وتركه آخرون‏.‏

لكن روى هذا الحديث بهذا السياق بطوله الحافظ أبو بكر البزار من غير طريق سلام هذا فقال‏:‏ حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن ابن الأصبهاني، أنه أخبره عن مرة، عن عبد الله فذكر الحديث بطوله‏.‏

ثم قال البزار‏:‏ وقد روى هذا عن مرة من غير وجه بأسانيد متقاربة، وعبد الرحمن ابن الأصبهانيّ لم يسمع هذا من مرة وإنما هو عمن أخبره عن مرة، ولا أعلم أحداً رواه عن عبد الله، عن مرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/275‏)‏

فصل في ذكر الوقت الذي توفي فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم

ومبلغ سنه حال وفاته، وفي كيفية غسله عليه السلام والصلاة عليه، ودفنه، وموضع قبره صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

لا خلاف أنه عليه السلام توفي يوم الإثنين‏.‏

قال ابن عبَّاس‏:‏ ولد نبيكم صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الإثنين، ونبِّئ يوم الإثنين، وخرج من مكة مهاجراً يوم الإثنين، ودخل المدينة يوم الإثنين، ومات يوم الإثنين‏.‏

رواه الإمام أحمد والبيهقي‏.‏

وقال سفيان الثوري عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ قال لي أبو بكر‏:‏ أي يوم توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏‏.‏

قلت‏:‏ يوم الإثنين‏.‏

فقال‏:‏ إني لأرجو أن أموت فيه، فمات فيه‏.‏

رواه البيهقي من حديث الثوري به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسود بن عامر، ثنا هريم، حدثني ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الإثنين، ودفن ليلة الأربعاء‏.‏

تفرَّد به أحمد‏.‏

وقال عروة بن الزبير في مغازيه، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب‏:‏ لما اشتد برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجعه، أرسلت عائشة إلى أبي بكر، وأرسلت حفصة إلى عمر، وأرسلت فاطمة إلى علي، فلم يجتمعوا حتَّى توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في صدر عائشة، وفي يومها يوم الإثنين حين زاغت الشمس لهلال ربيع الأول‏.‏

وقد قال أبو يعلى‏:‏ ثنا أبو خيثمة، ثنا ابن عيينة عن الزُّهري، عن أنس قال‏:‏ آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله يوم الإثنين كشف الستارة والنَّاس خلف أبي بكر، فنظرت إلى وجهه كأنه ورقة مصحف، فأراد النَّاس أن ينحرفوا فأشار إليهم أن امكثوا وألقى السجف، وتوفي من آخر ذلك اليوم‏.‏

وهذا الحديث في الصحيح، وهو يدل على أن الوفاة وقعت بعد الزوال، والله أعلم‏.‏

وروى يعقوب بن سفيان عن عبد الحميد بن بكار، عن محمد بن شعيب، وعن صفوان عن عمر بن عبد الواحد جميعاً، عن الأوزاعيّ أنه قال‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الإثنين قبل أن ينتصف النهار‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أحمد بن حنبل، ثنا الحسن بن علي البزار، ثنا محمد بن عبد الأعلى، ثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه وهو سليمان بن طرخان التيمي في كتاب المغازي قال‏:‏ إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مرض لاثنتين وعشرين ليلة من صفر، وبدأه وجعه عند وليدة له يقال لها‏:‏ ريحانة، كانت من سبي اليهود، وكان أول يوم مرض فيه يوم السبت، وكانت وفاته عليه السلام اليوم العاشر يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، لتمام عشر سنين من مقدمه عليه السلام المدينة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/276‏)‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثنا أبو معشر عن محمد بن قيس قال‏:‏ اشتكى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر سنة إحدى عشرة في بيت زينب بنت جحش شكوى شديدة، فاجتمع عنده نساؤه كلهن، فاشتكى ثلاثة عشر يوماً، وتوفي يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة إحدى عشرة‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ وقالوا‏:‏ بدئ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر، وتوفي يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول‏.‏

وهذا جزم به محمد بن سعد كاتبه، وزاد‏:‏ ودفن يوم الثلاثاء‏.‏

قال الواقدي وحدثني سعيد بن عبد الله ابن أبي الأبيض عن المقبري، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة‏:‏ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بدئ في بيت ميمونة‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا أحمد بن يونس، ثنا أبو معشر عن محمد بن قيس قال‏:‏ اشتكى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاثة عشر يوماً فكان إذا وجد خفة صلى، وإذا ثقل صلى أبو بكر رضي الله عنه‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول في اليوم الذي قدم فيه المدينة مهاجراً، واستكمل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في هجرته عشر سنين كوامل‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وهو المثبت عندنا، وجزم به محمد بن سعد كاتبه‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان عن يحيى بن بكير، عن الليث أنه قال‏:‏ توفي رسول الله يوم الإثنين لليلة خلت من ربيع الأول، وفيه قدم المدينة على رأس عشر سنين من مقدمه‏.‏

وقال سعد بن إبراهيم الزُّهري‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول لتمام عشر سنين من مقدمه المدينة‏.‏

رواه ابن عساكر، ورواه الواقدي عن أبي معشر، عن محمد بن قيس مثله سواء، وقاله خليفة بن خياط أيضاً‏.‏

وقال أبو نعيم الفضل بن دكين‏:‏ توفي رسول الله يوم الإثنين مستهل ربيع الأول سنة إحدى عشرة من مقدمه المدينة‏.‏

ورواه ابن عساكر أيضاً، وقد تقدَّم قريباً عن عروة، وموسى بن عقبة، والزُّهري مثله، فيما نقلناه عن مغازيهما، فالله أعلم‏.‏

والمشهور قول ابن إسحاق، والواقدي، ورواه الواقدي عن ابن عبَّاس، عن عائشة رضي الله عنها فقال‏:‏ حدثني إبراهيم بن يزيد عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عبَّاس، وحدثني محمد بن عبد الله عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة قالا‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول‏.‏

ورواه ابن إسحاق عن عبد الله ابن أبي بكر بن حزم، عن أبيه مثله، وزاد‏:‏ ودفن ليلة الأربعاء‏.‏

وروى سيف بن عمر عن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ لما قضى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حجة الوداع ارتحل فأتى المدينة، فأقام بها بقية ذي الحجة والمحرم وصفراً، ومات يوم الإثنين لعشر خلون من ربيع الأول‏.‏

وروى أيضاً عن محمد بن إسحاق، عن الزُّهري، عن عروة‏.‏

وفي حديث فاطمة عن عمرة، عن عائشة مثله‏.‏

إلا أن ابن عبَّاس قال في أوله‏:‏ لأيام مضين منه، وقالت عائشة‏:‏ بعد ما مضى أيام منه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/277‏)‏

فائدة‏:‏ قال أبو القاسم السهيلي في ‏(‏الروض‏)‏ ما مضمونه‏:‏ لا يتصوَّر وقوع وفاته عليه السلام يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول من سنة إحدى عشرة، وذلك لأنه عليه السلام وقف في حجة الوداع سنة عشر يوم الجمعة، فكان أول ذي الحجة يوم الخميس، فعلى تقدير أن تحسب الشهور تامة أو ناقصة، أو بعضها تام وبعضها ناقص، لا يتصور أن يكون يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول، وقد اشتهر هذا الإيراد على هذا القول‏.‏

وقد حاول جماعة الجواب عنه، ولا يمكن الجواب عنه إلا بمسلك واحد، وهو اختلاف المطالع بأن يكون أهل مكة رأوا هلال ذي الحجة ليلة الخميس، وأما أهل المدينة فلم يروه إلا ليلة الجمعة، ويؤيد هذا قول عائشة وغيرها‏:‏ خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لخمس بقين من ذي القعدة يعني‏:‏ من المدينة إلى حجة الوداع، ويتعين بما ذكرناه أنه خرج يوم السبت، وليس كما زعم ابن حزم أنه خرج يوم الخميس، لأنه قد بقي أكثر من خمس بلا شك، ولا جائز أن يكون خرج يوم الجمعة، لأن أنساً قال‏:‏ صلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فتعيَّن أنه خرج يوم السبت لخمس بقين، فعلى هذا إنما رأى أهل المدينة هلال ذي الحجة ليلة الجمعة، وإذا كان أول ذي الحجة عند أهل المدينة الجمعة وحسبت الشهور بعده كوامل يكون أول ربيع الأول يوم الخميس، فيكون ثاني عشرة يوم الإثنين، والله أعلم‏.‏

وثبت في الصحيحين من حديث مالك عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وليس بالأبيض الأمهق ولا بالأدم، ولا بالجعد القطط ولا بالسَّبط، بعثه الله عز وجل على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفَّاه الله على رأس ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء‏.‏

وهكذا رواه ابن وهب عن عروة، عن الزُّهري، عن أنس، وعن قرة بن ربيعة، عن أنس مثل ذلك‏.‏

قال الحافظ ابن عساكر‏:‏ حديث قرة عن الزُّهري غريب‏.‏

وأما من رواية ربيعة عن أنس، فرواها عنه جماعة كذلك، ثم أسند من طريق سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، وربيعة عن أنس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم توفي وهو ابن ثلاث وستين‏.‏

وكذلك رواه ابن البربري، ونافع ابن أبي نعيم عن ربيعة، عن أنس به قال‏:‏ والمحفوظ عن ربيعة عن أنس ستون‏.‏

ثم أورده ابن عساكر من طريق مالك، والأوزاعيّ، ومسعر، وإبراهيم بن طهمان، وعبد الله بن عمر، وسليمان بن بلال، وأنس بن بلال، وأنس بن عياض، والدراوردي، ومحمد بن قيس المدني، كلهم عن ربيعة، عن أنس قال‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ابن ستين سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/278‏)‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو الحسين بن بشران، ثنا أبو عمرو ابن السماك، ثنا حنبل بن إسحاق، ثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو، حدثنا عبد الوارث، ثنا أبو غالب الباهلي قال‏:‏ قلت لأنس بن مالك‏:‏ ابن أيّ الرجال كان رسول الله إذ بعث‏؟‏

قال‏:‏ كان ابن أربعين سنة‏.‏

قال‏:‏ ثم كان ماذا‏؟‏

قال‏:‏ كان بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، فتمت له ستون سنة يوم قبضه الله عز وجل وهوكأشد الرجال وأحسنهم، وأجملهم، وألحمهم‏.‏

ورواه الإمام أحمد عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه به‏.‏

وقد روى مسلم عن أبي غسان محمد بن عمرو الرازي الملقب‏:‏ برشح عن حكام بن مسلم، عن عثمان بن زائدة، عن الزبير بن عدي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قبض النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وقبض عمر وهو ابن ثلاث وستين‏.‏

انفرد به مسلم‏.‏

وهذا لا ينافي ما تقدَّم عن أنس لأن العرب كثيراً ما تحذف الكسر، وثبت في الصحيحين من حديث الليث بن سعد عن عقيل، عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ توفي رسول الله وهو ابن ثلاث وستين سنة‏.‏

قال الزُّهري‏:‏ وأخبرني سعيد بن المسيب مثله، وروى موسى بن عقبة وعقيل ويونس بن يزيد، وابن جريج عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ابن ثلاث وستين‏.‏

قال الزُّهري‏:‏ وأخبرني سعيد بن المسيب مثل ذلك‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا أبو نعيم، ثنا شيبان عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة وابن عبَّاس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مكث بمكة عشر سنين يتنزل عليه القرآن، وبالمدينة عشراً‏.‏

لم يخرّجه مسلم‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي في مسنده‏:‏ ثنا شعبة عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن جرير بن عبد الله، عن معاوية ابن أبي سفيان قال‏:‏ قبض النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وعمر وهو ابن ثلاث وستين‏.‏

وهكذا رواه مسلم من حديث غندر عن شعبة، وهو من إفراده دون البخاري‏.‏

ومنهم من يقول عن عامر بن سعد، عن معاوية، والصواب ما ذكرناه عن عامر بن سعد، عن جرير، عن معاوية فذكره، وروينا من طريق عامر بن شراحيل عن الشعبي، عن جرير بن عبد الله البجلي، عن معاوية فذكره‏.‏

وروى الحافظ ابن عساكر من طريق القاضي أبي يوسف عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أنس قال‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي عمر وهو ابن ثلاث وستين‏.‏

وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ تذاكر رسول الله وأبو بكر ميلادهما عندي، فكان رسول الله أكبر من أبي بكر، فتوفي رسول الله وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي أبو بكر بعده وهو ابن ثلاث وستين‏.‏

وقال الثوري عن الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن قال‏:‏ توفي رسول الله، وأبو بكر، وعمر وهم بنو ثلاث وستين‏.‏

وقال حنبل‏:‏ حدثنا الإمام أحمد، ثنا يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ أنزل على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ابن ثلاث وأربعين، فأقام بمكة عشراً، وبالمدينة عشراً، وهذا غريب عنه، وصحيح إليه‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا هشيم، ثنا داود ابن أبي هند عن الشعبي قال‏:‏ نبئ رسول الله وهو ابن أربعين سنة، فمكث ثلاث سنين، ثم بعث إليه جبريل بالرسالة، ثم مكث بعد ذلك عشر سنين، ثم هاجر إلى المدينة، فقبض وهو ابن ثلاث وستين سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/179‏)‏

قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل‏:‏ الثابت عندنا ثلاث وستون‏.‏

قلت‏:‏ وهكذا روي عن مجاهد، عن الشعبي‏.‏

وروي من حديث إسماعيل ابن أبي خالد عنه، وفي الصحيحين من حديث روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبَّاس، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مكث بمكة ثلاث عشرة، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة‏.‏

وفي صحيح البخاري من حديث روح بن عبادة أيضاً عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأربعين سنة فمكث بمكة ثلاث عشرة، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ثم مات وهو ابن ثلاث وستين‏.‏

وكذلك رواه الإمام أحمد عن روح بن عبادة، ويحيى بن سعيد، ويزيد بن هارون، كلهم عن هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس به‏.‏

وقد رواه أبو يعلى الموصلي عن الحسن بن عمر بن شقيق، عن جعفر بن سليمان، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن ابن عبَّاس فذكر مثله‏.‏

ثم أورده من طرق عن ابن عبَّاس مثل ذلك‏.‏

ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن أبي حمزة، عن ابن عبَّاس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أقام بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه، وبالمدينة عشراً، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة‏.‏

وقد أسند الحافظ ابن عساكر من طريق مسلم بن جنادة عن عبد الله بن عمر، عن كريب، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ابن ثلاث وستين‏.‏

ومن حديث أبي نضرة عن سعيد بن المسيب، عن ابن عبَّاس مثله‏.‏

وهذا القول هو الأشهر وعليه الأكثر‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا إسماعيل عن خالد الحذاء، حدثني عمار مولى بني هاشم سمعت ابن عبَّاس يقول‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ابن خمس وستين سنة‏.‏

ورواه مسلم من حديث خالد الحذاء به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا حسن بن موسى، ثنا حماد بن سلمة عن عمارة ابن أبي عمار، عن ابن عبَّاس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أقام بمكة خمس عشرة سنة، ثماني سنين - أو سبع - يرى الضوء ويسمع الصوت، وثمانية أو سبعاً يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشراً‏.‏

ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به‏.‏

وقال أحمد أيضاً‏:‏ حدثنا عفان، ثنا يزيد بن زريع، ثنا يونس عن عمار مولى بني هاشم قال‏:‏ سألت ابن عبَّاس كم أتى لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم مات‏؟‏

قال‏:‏ ما كنت أرى مثلك في قومه يخفى عليك ذلك‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ إني قد سألت فاختلف علي فأحببت أن أعلم قولك فيه‏.‏

قال‏:‏ أتحسب‏؟‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ أمسك أربعين بعث لها، وخمس عشرة أقام بمكة يأمن ويخاف، وعشراً مهاجراً بالمدينة‏.‏

وهكذا رواه مسلم من حديث يزيد بن زريع، وشعبة بن الحجاج، كلاهما، عن يونس بن عبيد، عن عمار، عن ابن عبَّاس بنحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا ابن نمير، ثنا العلاء بن صالح، ثنا المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير، أن رجلاً أتى ابن عبَّاس فقال‏:‏ أنزل على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عشراً بمكة، وعشراً بالمدينة‏.‏

فقال‏:‏ من يقول ذلك‏؟‏ لقد أنزل عليه بمكة خمس عشرة، وبالمدينة عشراً، خمساً وستين وأكثر، وهذا من أفراد أحمد إسناداً، ومتناً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا هشيم، ثنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ قبض النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ابن خمس وستين سنة، تفرد به أحمد‏.‏

وقد روى التِّرمذي في كتاب ‏(‏الشمائل‏)‏ وأبو يعلى الموصلي، والبيهقي من حديث قتادة عن الحسن البصري، عن دغفل بن حنظلة الشيباني النسابة، أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قبض وهو ابن خمس وستين‏.‏

ثم قال التِّرمذي‏:‏ دغفل لا يعرف له سماعاً عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقد كان في زمانه رجلاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/280‏)‏

وقال البيهقي‏:‏ وهذا يوافق رواية عمار ومن تابعه عن ابن عبَّاس، ورواية الجماعة عن ابن عبَّاس في ثلاث وستين أصح، فهم أوثق وأكثر ورواياتهم توافق الرواية الصحيحة عن عروة، عن عائشة، وإحدى الروايتين عن أنس، والرواية الصحيحة عن معاوية، وهي قول سعيد بن المسيب، وعامر الشعبي، وأبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنهم‏.‏

قلت‏:‏ وعبد الله بن عقبة، والقاسم بن عبد الرحمن، والحسن البصري، وعلي بن الحسين، وغير واحد‏.‏

ومن الأقوال الغريبة‏:‏ ما رواه خليفة بن خياط عن معاذ بن هشام، حدثني أبي عن قتادة قال‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ابن اثنتين وستين سنة‏.‏

ورواه يعقوب بن سفيان عن محمد بن المثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة مثله‏.‏

ورواه زيد العمي عن يزيد، عن أنس‏.‏

ومن ذلك ما رواه محمد بن عابد عن القاسم بن حميد، عن النعمان بن المنذر الغساني، عن مكحول قال‏:‏ توفي رسول الله وهو ابن اثنتين وستين سنة وأشهر‏.‏

ورواه يعقوب بن سفيان عن عبد الحميد بن بكار، عن محمد بن شعيب، عن النعمان بن المنذر، عن مكحول قال‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ابن اثنتين وستين سنة ونصف‏.‏

وأغرب من ذلك كله‏:‏ ما رواه الإمام أحمد عن روح، عن سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن قال‏:‏ نزل القرآن على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثماني سنين بمكة، وعشراً بعد ما هاجر، فإن كان الحسن ممن يقول بقول الجمهور‏:‏ وهو أنه عليه السلام أنزل عليه القرآن وعمره أربعون سنة، فقد ذهب إلى أنه عليه السلام عاش ثمانياً وخمسين سنة، وهذا غريب جداً، لكن روينا من طريق مسدد عن هشام بن حسان، عن الحسن أنه قال‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ابن ستين سنة‏.‏

وقال خليفة بن خياط‏:‏ حدثنا أبو عاصم عن أشعث، عن الحسن قال‏:‏ بعث رسول الله وهو ابن خمس وأربعين، فأقام بمكة عشراً، وبالمدينة ثمانياً، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين، وهذا بهذا الصفة غريب جداً، والله أعلم‏.‏

صفة غسله عليه السلام

قد قدمنا أنهم رضي الله عنهم اشتغلوا ببيعة الصديق بقية يوم الإثنين وبعض يوم الثلاثاء، فلما تمهدت وتوطدت وتمت، شرعوا بعد ذلك في تجهيز رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مقتدين في كل ما أشكل عليهم بأبي بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما بويع أبو بكر أقبل النَّاس على جهاز رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الثلاثاء‏.‏

وقد تقدم من حديث ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله توفي يوم الإثنين، ودفن ليلة الأربعاء‏.‏

وقال أبو بكر ابن أبي شيبة‏:‏ حدثنا أبو معاوية، ثنا أبو بردة عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال‏:‏ لما أخذوا في غسل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ناداهم مناد من الداخل أن لا تجردوا عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قميصه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/281‏)‏

ورواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية عن أبي بردة - واسمه‏:‏ عمرو بن يزيد التميمي كوفي -‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه سمعت عائشة تقول‏:‏ لما أرادوا غسل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالوا‏:‏ ما ندري أنجرد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من ثيابه، كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتَّى ما منهم أحد إلا وذقنه في صدره، ثم كلَّمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن غسلوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فغسلوه وعليه قميص، يصبون الماء فوق القميص، فيدلكونه بالقميص دون أيديهم، فكانت عائشة تقول‏:‏ لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما غسل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا نساؤه‏.‏

رواه أبو داود من حديث ابن إسحاق‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعقوب، ثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ اجتمع القوم لغسل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وليس في البيت إلا أهله، عمه العبَّاس بن عبد المطلب، وعلي ابن أبي طالب، والفضل بن عبَّاس، وقثم بن العبَّاس، وأسامة بن زيد بن حارثة، وصالح مولاه، فلما اجتمعوا لغسله نادى من وراء النَّاس أوس بن خولي الأنصاري، أحد بني عوف بن الخزرج، - وكان بدرياً - علي ابن أبي طالب فقال‏:‏ يا علي ننشدك الله وحظنا من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال له علي‏:‏ أدخل، فدخل، فحضر غسل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يل من غسله شيئاً، فأسنده علي إلى صدره وعليه قميصه، وكان العبَّاس، وفضل، وقثم، يقلبونه مع علي، وكان أسامة بن زيد، وصالح مولاه هما يصبان الماء، وجعل علي يغسله، ولم ير من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم شيئاً مما يرى من الميت وهو يقول‏:‏ بأبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً، حتَّى إذا فرغوا من غسل رسول الله، وكان يغسل بالماء والسدر جففوه، ثم صنع به ما يصنع بالميت، ثم أدرج في ثلاثة أثواب ثوبين أبيضين وبرد حبرة‏.‏

قال‏:‏ ثم دعا العبَّاس رجلين فقال‏:‏ أحدكما ليذهب إلى أبى عبيدة بن الجراح - وكان أبوعبيدة يضرح لأهل مكة -وليذهب الآخر أبي طلحة ابن سهل الأنصاري - وكان أبو طلحة يلحد لأهل المدينة -‏.‏

قال‏:‏ ثم قال العبَّاس حين سرحهما‏:‏ اللهم خر لرسولك، قال‏:‏ فذهبا فلم يجد صاحب أبي عبيدة، أبا عبيدة، ووجد صاحب أبي طلحة، أبا طلحة، فلحد لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، انفرد به أحمد‏.‏

وقال يونس بن بكير عن المنذر بن ثعلبة، عن الصلت، عن العلباء بن أحمر قال‏:‏ كان علي والفضل يغسلان رسول الله، فنودي علي إرفع طرفك إلى السماء، وهذا منقطع‏.‏

قلت‏:‏ وقد روى بعض أهل السنن عن علي ابن أبي طالب أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال له‏:‏ ‏(‏‏(‏يا علي لا تبد فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا فيه إشعار بأمره له في حق نفسه، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/282‏)‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا محمد بن يعقوب، ثنا يحيى بن محمد بن يحيى، ثنا ضمرة، ثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا معمر عن الزُّهري، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ قال علي‏:‏ غسلت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فذهبت أنظر ما يكون من الميت، فلم أر شيئاً، وكان طيباً حياً وميتاً صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد رواه أبو داود في المراسيل، وابن ماجه من حديث معمر به‏.‏

زاد البيهقي في روايته‏:‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ وقد ولي دفنه عليه السلام أربعة‏:‏ علي، والعبَّاس، والفضل، وصالح مولى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لحدوا له لحداً، ونصبوا عليه اللبن نصباً‏.‏

وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين منهم‏:‏ عامر الشعبي، ومحمد بن قيس، وعبد الله بن الحارث، وغيرهم بألفاظ مختلفة يطول بسطها هاهنا‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ وروى أبو عمرو بن كيسان عن يزيد بن بلال سمعت علياً يقول‏:‏ أوصى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن لا يغسله أحد غيري، فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه‏.‏

قال علي‏:‏ فكان العبَّاس وأسامة يناولاني الماء من وراء الستر‏.‏
قال علي‏:‏ فما تناولت عضواً إلا كأنه يقلبه معي ثلاثون رجلاً، حتَّى فرغت من غسله‏.‏

وقد أسند هذا الحديث الحافظ أبو بكر البزار في مسنده فقال‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الرحيم، ثنا عبد الصمد بن النعمان، ثنا كيسان أبو عمرو عن يزيد بن بلال قال‏:‏ قال علي ابن أبي طالب‏:‏ أوصاني النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن لا يغسِّله أحد غيري، فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه‏.‏

قال علي‏:‏ فكان العبَّاس وأسامة يناولاني الماء من وراء الستر‏.‏

قلت‏:‏ هذا غريب جداً‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا محمد بن موسى بن الفضل، ثنا أبو العبَّاس الأصم، ثنا أسيد بن عاصم، ثنا الحسين بن حفص عن سفيان، عن عبد الملك بن جريج، سمعت محمد بن علي - أبا جعفر - قال‏:‏ غسل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالسدر ثلاثاً، وغسل وعليه قميص، وغسل من بئر كان يقال له‏:‏ الغرس بقباء كانت لسعد بن خيثمة، وكان رسول الله يشرب منها، وولي غسله علي، والفضل يحتضنه، والعبَّاس يصب الماء، فجعل الفضل يقول‏:‏ أرحني قطعت وتيني إني لأجد شيئاً يترطل علي‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ ثنا عاصم بن عبد الله الحكمي عن عمر بن عبد الحكم قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم البئر بئر غرس، هي من عيون الجنة، وماؤها أطيب المياه‏)‏‏)‏‏.‏

وكان رسول الله يستعذب له منها، وغسل من بئر غرس‏.‏

وقال سيف بن عمر عن محمد بن عون، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ لما فرغ من القبر، وصلى النَّاس الظهر، أخذ العبَّاس في غسل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فضرب عليه كلة من ثياب يمانية صفاق في جوف البيت، فدخل الكلة ودعا علياً، والفضل، فكان إذا ذهب إلى الماء ليعاطيهما دعا أبا سفيان ابن الحارث فأدخله ورجال من بني هاشم من وراء الكلة، ومن أدخل من الأنصار حيث ناشدوا أبي وسألوه‏:‏ منهم أوس بن خولي رضي الله عنهم أجمعين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/283‏)‏

ثم قال سيف عن الضحاك بن ^يربوع الحنفي، عن ماهان الحنفي، عن ابن عبَّاس فذكر ضرب الكلة، وأن العبَّاس أدخل فيها علياً، والفضل، وأبا سفيان، وأسامة، ورجال من بني هاشم من وراء الكلة في البيت، فذكر أنهم ألقي عليهم النعاس، فسمعوا قائلاً يقول‏:‏ لا تغسِّلوا رسول الله فإنه كان طاهراً‏.‏

فقال العبَّاس‏:‏ ألا بلى‏.‏

وقال أهل البيت‏:‏ صدق، فلا تغسِّلوه‏.‏

فقال العبَّاس‏:‏ لا ندع سنة لصوت لا ندري ما هو، وغشيهم النعاس ثانية، فناداهم‏:‏ أن غسلوه وعليه ثيابه‏.‏

فقال أهل البيت‏:‏ إلا لا‏.‏

وقال العبَّاس‏:‏ إلا نعم‏!‏فشرعوا في غسله وعليه قميص، ومجول مفتوح، فغسلوه بالماء القراح، وطيبوه بالكافور في مواضع سجوده ومفاصله، واعتصر قميصه ومجوله، ثم أدرج في أكفانه، وجمروه عوداً ونداً، ثم احتملوه حتَّى وضعوه على سريره وسجُّوه، وهذا السياق فيه غرابة جداً‏.‏

صفة كفنه عليه الصلاة والسلام

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعيّ، حدثني الزُّهري عن القاسم، عن عائشة قالت‏:‏ أدرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ثوب حبرة، ثم أخر عنه‏.‏

قال القاسم‏:‏ إن بقايا ذلك الثوب لعندنا بعد‏.‏

وهذا الإسناد على شرط الشيخين‏.‏

وإنما رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، والنسائي عن محمد بن مثنى، ومجاهد بن موسى، فروهما كلهم عن الوليد بن مسلم به‏.‏

وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي‏:‏ ثنا مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ كفن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة‏.‏

وكذا رواه البخاري عن إسماعيل ابن أبي أويس، عن مالك‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان عن هشام، عن أبيه، عن عائشة كفن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ثلاثة أثواب سحولية بيض‏.‏

وأخرجه مسلم من حديث سفيان بن عيينة‏.‏

وأخرجه البخاري عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري، كلاهما عن هشام بن عروة به‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا قتيبة، ثنا حفص بن غياث عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله كفن في ثلاثة أثواب بيض يمانية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة‏.‏

قال‏:‏ فذكر لعائشة قولهم‏:‏ في ثوبين وبرد حبرة‏.‏

فقالت‏:‏ قد أتي بالبرد، ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/284‏)‏

وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث به‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، ثنا أحمد بن مسلم، ثنا هناد بن السري، ثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ كفِّن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة، فأما الحلة فإنما شبه على النَّاس فيها، إنما اشتريت له حلة ليكفن فيها فتركت، وأخذها عبد الله ابن أبي بكر‏.‏

فقال‏:‏ لأحبسنها حتَّى أكفِّن فيها، ثم قال‏:‏ لو رضيها الله لنبيه صلَّى الله عليه وسلَّم لكفنَّه فيها، فباعها وتصدَّق بثمنها‏.‏

رواه مسلم في الصحيح عن يحيى بن يحيى، وغيره عن أبي معاوية‏.‏

ثم رواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ كفِّن رسول الله في برد حبرة كانت لعبد الله ابن أبي بكر، ولفَّ فيها ثم نزعت عنه، فكان عبد الله ابن أبي بكر قد أمسك تلك الحلة لنفسه حتَّى يكفَّن فيها إذا مات ثم قال بعد أن أمسكها‏:‏ ما كنت أمسك لنفسي شيئاً منع الله رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يكفَّن فيه، فتصدَّق بثمنها عبد الله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ كفِّن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ثلاثة أثواب سحولية بيض‏.‏

ورواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، عن عبد الرزاق‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مسكين بن بكير، عن سعيد - يعني‏:‏ ابن عبد العزيز - قال‏:‏ قال مكحول‏:‏ حدثني عروة عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كفن في ثلاثة أثواب رياط يمانية، انفرد به أحمد‏.‏

وقال أبو يعلى الموصلي‏:‏ ثنا سهل بن حبيب الأنصاري، ثنا عاصم بن هلال إمام مسجد أيوب، ثنا أيوب عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ كفِّن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ثلاثة أثواب بيض سحولية‏.‏

وقال سفيان عن عاصم بن عبيد الله، عن سالم، عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كفِّن في ثلاثة أثواب‏.‏

ووقع في بعض الروايات‏:‏ ثوبين صحاريين، وبرد حبرة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا ابن إدريس، ثنا يزيد عن مقسم، عن ابن عبَّاس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كفن في ثلاثة أثواب‏:‏ في قميصه الذي مات فيه، وحلة نجرانية، الحلة ثوبان‏.‏

ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، وعثمان ابن أبي شيبة، وابن ماجه عن علي بن محمد، ثلاثتهم عن عبد الله بن إدريس، عن يزيد ابن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عبَّاس بنحوه، وهذا غريب جداً‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضاً‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، ثنا سفيان عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ كفِّن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ثوبين أبيضين، وبرد حمراء، انفرد به أحمد من هذا الوجه‏.‏

وقال أبو بكر الشافعي‏:‏ ثنا علي بن الحسن، ثنا حميد بن الربيع، ثنا بكر - يعني‏:‏ ابن عبد الرحمن -، ثنا عيسى - يعني‏:‏ ابن المختار -، عن محمد بن عبد الرحمن - هو‏:‏ ابن أبي ليلى -، عن عطاء، عن ابن عبَّاس، عن الفضل بن عبَّاس قال‏:‏ كفِّن رسول الله في ثوبين أبيضين، وبرد حمراء‏.‏

وقال أبو يعلى‏:‏ ثنا سليمان الشاذكوني، ثنا يحيى ابن أبي الهيثم، ثنا عثمان بن عطاء عن أبيه، عن ابن عبَّاس، عن الفضل قال‏:‏ كفِّن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ثوبين أبيضين سحوليين، زاد فيه محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، وبرد أحمر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5 /285‏)‏

وقد رواه غير واحد عن إسماعيل المؤدب، عن يعقوب بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عبَّاس، عن الفضل قال‏:‏ كفِّن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ثوبين أبيضين، وفي رواية‏:‏ سحولية، فالله أعلم‏.‏

وروى الحافظ ابن عساكر من طريق أبي طاهر المخلص‏:‏ ثنا أحمد بن إسحاق البهلول، ثنا عباد بن يعقوب، ثنا شريك، عن أبي إسحاق قال‏:‏ وقعت على مجلس بني عبد المطلب وهم متوافرون فقلت لهم‏:‏ في كم كفّن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏

قالوا‏:‏ في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، ولا قباء، ولا عمامة‏.‏

قلت‏:‏ كم أُسر منكم يوم بدر‏؟‏

قالوا‏:‏ العبَّاس، ونوفل، وعقيل‏.‏

وقد روى البيهقي من طريق الزُّهري عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال‏:‏ كفِّن رسول الله في ثلاثة أثواب‏:‏ أحدها برد حمراء حبرة‏.‏

وقد ساقه الحافظ ابن عساكر من طريق في صحتها نظر عن علي ابن أبي طالب قال‏:‏ كفنت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ثوبين سحوليين وبرد حبرة‏.‏

وقد قال أبو سعيد ابن الأعرابي‏:‏ حدثنا إبراهيم بن الوليد، ثنا محمد بن كثير، ثنا هشام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال‏:‏ كفِّن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ريطتين وبرد نجراني‏.‏

وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن هشام و عمران القطان، عن قتادة، عن سعيد، عن أبي هريرة به‏.‏

وقد رواه الربيع بن سليمان عن أسد بن موسى، ثنا نصر بن طريف عن قتادة، ثنا ابن المسيب عن أم سلمة أن رسول الله كفِّن في ثلاثة أثواب‏:‏ أحدها برد نجراني‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ وفيما روينا عن عائشة بيان سبب الاشتباه على النَّاس وأن الحبرة أخرِّت عنه، والله أعلم‏.‏

ثم روى الحافظ البيهقي من طريق محمد بن إسحاق بن خزيمة، ثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي عن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن حسن بن صالح، عن هارون بن سعيد قال‏:‏ كان عند علي مسك فأوصى أن يحنط به وقال‏:‏ هو من فضل حنوط رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

ورواه من طريق إبراهيم بن موسى عن حميد، عن حسن، عن هارون، عن أبي وائل، عن علي، فذكره‏.‏

كيفية الصلاة عليه صلَّى الله عليه وسلَّم

وقد تقدم الحديث الذي رواه البيهقي من حديث الأشعث بن طليق البزار من حديث الأصبهانيّ كلاهما عن مرة، عن ابن مسعود، في وصية النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن يغسله رجال أهل بيته وأنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كفِّنوني في ثيابي هذه، أو في يمانية، أو بياض مصر‏)‏‏)‏ وأنه إذا كفَّنوه يضعونه على شفير قبره، ثم يخرجون عنه حتَّى تصلي عليه الملائكة، ثم يدخل عليه رجال أهل بيته فيصلون عليه، ثم النَّاس بعدهم فرادى، الحديث بتمامه وفي صحته نظر كما قدمنا، والله أعلم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عبَّاس عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ لما مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أُدخل الرجال فصلوا عليه بغير إمام أرسالاً حتَّى فرغوا، ثم أدخل النساء فصلين عليه، ثم أدخل الصبيان فصلوا عليه، ثم أدخل العبيد فصلوا عليه أرسالاً لم يأمهم على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/286‏)‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني أُبي بن عياش بن سهل بن سعد عن أبيه، عن جده قال‏:‏ لما أُدرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أكفانه وضع على سريره، ثم وضع على شفير حفرته، ثم كان النَّاس يدخلون عليه رفقاء رفقاء لا يؤمهم عليه أحد‏.‏

قال الواقدي‏:‏ حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم قال‏:‏ وجدت كتاباً بخط أبي فيه أنه لما كفِّن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ووضع على سريره، دخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار بقدر ما يسع البيت فقالا‏:‏ السلام عليك أيها النَّبيّ ورحمة الله وبركاته، وسلَّم المهاجرون والأنصار كما سلَّم أبو بكر وعمر، ثم صفوا صفوفاً لا يؤمهم أحد، فقال أبو بكر وعمر وهما في الصف الأول حيال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ اللهم إنا نشهد أنه قد بلَّغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حتَّى أعزَّ الله دينه، وتمت كلمته، وأومن به وحده لا شريك له، فاجعلنا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتَّى تعرفه بنا وتعرفنا به، فإنه كان بالمؤمنين رؤفاً رحيماً، لا نبتغي بالإيمان به بديلاً، ولا نشتري به ثمناً أبداً‏.‏

فيقول النَّاس‏:‏ آمين آمين، ويخرجون ويدخل آخرون، حتَّى صلى الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان‏.‏

وقد قيل‏:‏ أنهم صلوا عليه من بعد الزوال يوم الإثنين إلى مثله من يوم الثلاثاء، وقيل‏:‏ إنهم مكثوا ثلاثة أيام يصلون عليه، كما سيأتي بيان ذلك قريباً، والله أعلم‏.‏

وهذا الصنيع، وهو صلاتهم عليه فرادى لم يؤمهم أحد عليه أمر مجمع عليه لا خلاف فيه، وقد اختلف في تعليله، فلو صح الحديث الذي أوردناه عن ابن مسعود لكان نصاً في ذلك، ويكون من باب التعبد الذي يعسر تعقل معناه، وليس لأحد أن يقول‏:‏ لأنه لم يكن لهم إمام، لأنا قد قدمنا أنهم إنما شرعوا في تجهيزه عليه السلام بعد تمام بيعة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

وقد قال بعض العلماء‏:‏ إنما لم يؤمهم أحد ليباشر كل واحد من النَّاس الصلاة عليه منه إليه، ولتكرر صلاة المسلمين عليه مرة بعد مرة، من كل فرد فرد من آحاد الصحابة رجالهم، ونساءهم، وصبيانهم، حتَّى العبيد والإماء‏.‏

وأما السهيلي فقال ما حاصله‏:‏ أن الله قد أخبر أنه وملائكته يصلون عليه، وأمر كل واحد من المؤمنين أن يباشر الصلاة عليه منه إليه، والصلاة عليه بعد موته من هذا القبيل‏.‏

قال‏:‏ وأيضاً فإن الملائكة لنا في ذلك أئمة، فالله أعلم‏.‏

وقد اختلف المتأخرون من أصحاب الشافعي في مشروعية الصلاة على قبره لغير الصحابة‏:‏

فقيل‏:‏ نعم لأن جسده عليه السلام طري في قبره، لأن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، كما ورد بذلك الحديث في السنن وغيرها، فهو كالميت اليوم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لا يفعل، لأن السلف ممن بعد الصحابة لم يفعلوه، ولو كان مشروعاً لبادروا إليه، ولثابروا عليه، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/287‏)‏

صفة دفنه عليه السلام وأين دفن

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، أخبرني أبي - وهو‏:‏ عبد العزيز بن جريج - أن أصحاب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يدروا أين يقبروا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى قال أبو بكر‏:‏ سمعت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لم يقبر نبي إلا حيث يموت‏)‏‏)‏‏.‏

فأخَّروا فراشه، وحفروا تحت فراشه صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا فيه انقطاع بين عبد العزيز بن جريج وبين الصديق، فإنه لم يدركه‏.‏

لكن رواه الحافظ أبو يعلى من حديث ابن عبَّاس وعائشة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم فقال‏:‏ حدثنا أبو موسى الهروي، ثنا أبو معاوية، ثنا عبد الرحمن ابن أبي بكر عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت‏:‏ اختلفوا في دفن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حين قبض، فقال أبو بكر‏:‏ سمعت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يقبض النَّبيّ إلا في أحب الأمكنة إليه‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ ادفنوه حيث قبض‏.‏

وهكذا رواه التِّرمذي عن أبي كريب، عن أبي معاوية، عن عبد الرحمن ابن أبي بكر المليكي، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت‏:‏ لما قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر‏:‏ سمعت من رسول الله شيئاً ما نسيته قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه‏)‏‏)‏ ادفنوه في موضع فراشه‏.‏

ثم إن التِّرمذي ضعَّف المليكي ثم قال‏:‏ وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه، رواه ابن عبَّاس عن أبي بكر الصديق، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال الأموي عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن رجل حدثه عن عروة، عن عائشة أن أبا بكر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه لم يدفن نبي قط إلا حيث قُبض‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو بكر ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثني محمد بن سهل التميمي، ثنا هشام بن عبد الملك الطيالسي عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ كان بالمدينة حفاران، فلما مات النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالوا‏:‏ أين ندفنه‏؟‏

فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ في المكان الذي مات فيه، وكان أحدهما يلحد، والآخر يشق، فجاء الذي يلحد فلحد للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد رواه مالك بن أنس عن هشام بن عروة، عن أبيه منقطعاً‏.‏

وقال أبو يعلى‏:‏ حدثنا جعفر بن مهران، ثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق، حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ لما أرادوا أن يحفروا للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم وكان أبو عبيدة الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذي كان يحفر لأهل المدينة، وكان يلحد، فدعا العبَّاس رجلين فقال لأحدهما‏:‏ إذهب إلى أبي عبيدة‏.‏

وقال للآخر‏:‏ إذهب إلى أبي طلحة، اللهم خره لرسولك‏.‏

قال‏:‏ فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به، فلحد لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلما فرغ من جهاز رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه فقال قائل‏:‏ ندفنه في مسجده‏.‏

وقال قائل‏:‏ ندفنه مع أصحابه‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ إني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض‏)‏‏)‏

فرفع فراش رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي توفي فيه، فحفروا له تحته، ثم أدخل النَّاس على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلون عليه أرسالاً دخل الرجال حتَّى إذا فرغ منهم أدخل النساء، حتَّى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان، ولم يؤمَّ النَّاس على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحد، فدفن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من أوسط الليل ليلة الأربعاء‏.‏

وهكذا رواه ابن ماجه عن نصر بن علي الجهضمي، عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، فذكر بإسناده مثله، وزاد في آخره‏:‏ ونزل في حفرته علي ابن أبي طالب، والفضل وقثم ابنا عبَّاس، وشقران مولى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5 /288‏)‏

قال أوس بن خولى - وهو أبو ليلى - لعلي ابن أبي طالب‏:‏ أنشدك الله‏!‏وحظنا من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال له علي‏:‏ إنزل، وكان شقران مولاه أخذ قطيفة كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يلبسها فدفنها في القبر وقال‏:‏ والله لا يلبسها أحد بعدك‏!‏

فدفنت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد عن حسين بن محمد، عن جرير بن حازم، عن ابن إسحاق مختصراً‏.‏

وكذلك رواه يونس بن بكير وغيره عن ابن إسحاق به‏.‏

وروى الواقدي عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس، عن أبي بكر الصديق، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما قبض الله نبياً إلا ودفن حيث قبض‏)‏‏)‏‏.‏

وروى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين أو محمد بن جعفر بن الزبير قال‏:‏ لما مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اختلفوا في دفنه فقالوا‏:‏ كيف ندفنه مع النَّاس، أو في بيوته‏؟‏

فقال أبو بكر‏:‏ إني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ما قبض الله نبياً إلا دفن حيث قبض‏)‏‏)‏ فدفن حيث كان فراشه، رفع الفراش وحفر تحته‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن عبد الرحمن بن سعيد - يعني‏:‏ ابن يربوع - قال‏:‏ لما توفي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم اختلفوا في موضع قبره فقال قائل‏:‏ في البقيع فقد كان يكثر الإستغفار لهم‏.‏

وقال قائل‏:‏ عند منبره‏.‏

وقال قائل‏:‏ في مصلاه‏.‏

فجاء أبو بكر فقال‏:‏ إن عندي من هذا خبرا وعلما، سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ما قبض نبي إلا دفن حيث توفي‏)‏‏)‏‏.‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ وهو في حديث يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وفي حديث ابن جريج عن أبيه، كلاهما عن أبي بكر الصديق، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مرسلاً‏.‏

وقال البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن سلمة بن نبيط بن شريط، عن أبيه، عن سالم بن عبيد - وكان من أصحاب الصفة - قال‏:‏ دخل أبو بكر على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين مات ثم خرج فقيل له‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏!‏فعلموا أنه كما قال‏.‏

وقيل له‏:‏ أنصلي عليه، وكيف نصلي عليه‏؟‏

قال‏:‏ تجيئون عصباً عصباً فتصلون، فعلموا أنه كما قال‏.‏

قالوا‏:‏ هل يدفن، وأين‏؟‏

قال‏:‏ حيث قبض الله روحه، فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيب، فعلموا أنه كما قال‏.‏

وروى البيهقي من حديث سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ عرضت عائشة على أبيها رؤيا وكان من أعبر النَّاس، قالت‏:‏ رأيت ثلاثة أقمار وقعن في حجري‏.‏

فقال لها‏:‏ إن صدقت رؤياك دفن في بيتك من خير أهل الأرض ثلاثة، فلما قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال يا عائشة‏:‏ هذا خير أقمارك‏.‏

ورواه مالك عن يحيى بن سعيد، عن عائشة منقطعاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/289‏)‏

وفي الصحيحين عنها أنها قالت‏:‏ توفي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وجمع الله بين ريقي وريقه في آخر ساعة من الدنيا وأول ساعة من الآخرة‏.‏

وفي صحيح البخاري من حديث أبي عوانة عن هلال الوراق، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مرضه الذي مات فيه يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏)‏‏.‏

قالت عائشة‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً‏.‏

وقال ابن ماجه‏:‏ حدثنا محمود بن غيلان، ثنا هاشم بن القاسم، ثنا مبارك بن فضالة، حدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال‏:‏ لما توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكان بالمدينة رجل يلحد، والآخر يضرح فقالوا‏:‏ نستخير الله ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

تفرد به ابن ماجه‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد عن أبي النضر هاشم بن القاسم به‏.‏

وقال ابن ماجه أيضاً‏:‏ حدثنا عمر بن شبة عن عبيدة بن يزيد، ثنا عبيد بن طفيل، ثنا عبد الرحمن ابن أبي مليكة، حدثني ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت‏:‏ لما مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اختلفوا في اللحد والشق حتَّى تكلموا في ذلك وارتفعت أصواتهم‏.‏

فقال عمر‏:‏ لا تصخبوا عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حياً، ولا ميتاً - أو كلمة نحوها - فأرسلوا إلى الشقَّاق واللاحد جميعاً، فجاء اللاحد فلحد لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم دفن‏.‏

تفرد به ابن ماجه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، ثنا العمري عن نافع، عن ابن عمر، وعن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ألحد له لحد‏.‏

تفرد به أحمد من هذين الوجهين‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن شعبة وابن جعفر، ثنا شعبة، حدثني أبو حمزة عن ابن عبَّاس قال‏:‏ جعل في قبر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قطيفة حمراء‏.‏

وقد رواه مسلم، والتِّرمذي، والنسائي من طرق عن شعبة به‏.‏

وقد رواه وكيع عن شعبة وقال وكيع‏:‏ كان هذا خاصاً برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

رواه ابن عساكر‏.‏

وقال ابن سعد‏:‏ أنبانا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا أشعث بن عبد الملك الحمراني عن الحسن أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بسط تحته قطيفة حمراء كان يلبسها قال‏:‏ وكانت أرضاً ندية‏.‏

وقال هشيم بن منصور عن الحسن قال‏:‏ جعل في قبر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قطيفة حمراء كان أصابها يوم حنين‏.‏

قال الحسن‏:‏ جعلها لأن المدينة أرض سبخة‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ ثنا حماد بن خالد الخياط عن عقبة ابن أبي الصهباء سمعت الحسن يقول‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إفرشوا لي قطيفة في لحدي، فإن الأرض لم تسلط على أجساد الأنبياء‏)‏‏)‏‏.‏

وروى الحافظ البيهقي من حديث مسدد، ثنا عبد الواحد، ثنا معمر عن الزُّهري، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ قال علي‏:‏ غسلت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فذهبت أنظر إلى ما يكون من الميت فلم أر شيئاً، وكان طيباً حياً وميتاً‏.‏

قال‏:‏ وولي دفنه عليه الصلاة والسلام وإجنانه دون النَّاس أربعة‏:‏ علي، والعبَّاس، والفضل، وصالح مولى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولحد للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم لحداً، ونصب عليه اللبن نصباً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5 /290‏)‏

وذكر البيهقي عن بعضهم أنه نصب على لحده عليه السلام تسع لبِنَات‏.‏

وروى الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن عباس بن عبد الله بن معبد، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم موضوعاً على سريره من حين زاغت الشمس من يوم الإثنين إلى أن زاغت الشمس يوم الثلاثاء يصلي النَّاس عليه، وسريره على شفير قبره، فلما أرادوا أن يقبروه عليه السلام نحَّوا السرير قبل رجليه فأدخل من هناك، ودخل في حفرته العبَّاس، وعلي، وقثم، والفضل، وشقران‏.‏

وروى البيهقي من حديث إسماعيل السدي عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ دخل قبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم العبَّاس، وعلي، والفضل، وسوَّى لحده رجل من الأنصار، وهو الذي سوَّى لحود قبور الشهداء يوم بدر‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ صوابه يوم أُحد‏.‏

وقد تقدم رواية ابن إسحاق عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ كان الذين نزلوا في قبر رسول الله‏:‏ علي، والفضل، وقثم، وشقران، وذكر الخامس وهو أوس بن خولي، وذكر قصة القطيفة التي وضعها في القبر شقران‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو طاهر المحمد آبادي، ثنا أبو قلابة، ثنا أبو عاصم، ثنا سفيان بن سعيد - هو‏:‏ الثوري عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي قال‏:‏ حدثني أبو مرحب قال‏:‏ كأني أنظر إليهم في قبر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أربعة، أحدهم عبد الرحمن بن عوف‏.‏

وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن الصباح، عن سفيان، عن إسماعيل ابن أبي خالد به‏.‏

ثم رواه أحمد بن يونس عن زهير، عن إسماعيل، عن الشعبي، حدثني مرحب أو أبو مرحب أنهم أدخلوا معهم عبد الرحمن بن عوف فلما فرغ علي قال‏:‏ إنما يلي الرجل أهله، وهذا حديث غريب جداً، وإسناده جيد قوي، ولا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏

وقد قال أبو عمر بن عبد البر في ‏(‏استيعابه‏)‏‏:‏ أبو مرحب اسمه سويد بن قيس‏.‏

وذكر أبا مرحب آخر وقال‏:‏ لا أعرف خبره‏.‏

قال ابن الأثير في ‏(‏الغابة‏)‏‏:‏ فيحتمل أن يكون راوي هذا الحديث أحدهما، أو ثالثاً غيرهما، ولله الحمد‏.‏

آخر النَّاس به عهداً عليه الصلاة والسلام

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يعقوب، ثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني أبي إسحاق بن يسار، عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن مولاه عبد الله بن الحارث قال‏:‏ اعتمرت مع علي في زمان عمر أو زمان عثمان، فنزل على أخته أم هانئ بنت أبي طالب، فلما فرغ من عمرته رجع فسكبت له غسلاً فاغتسل، فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من أهل العراق فقالوا‏:‏ يا أبا حسن جئناك نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه‏.‏

قال‏:‏ أظن المغيرة بن شعبة يحدِّثكم أنه كان أحدث النَّاس عهداً برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قالوا‏:‏ أجل‏!‏عن ذلك جئنا نسألك‏.‏

قال‏:‏ أحدث النَّاس عهداً برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قثم بن عبَّاس‏.‏

تفرد به أحمد من هذا الوجه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5 /291‏)‏

وقد رواه يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق به مثله سواء، إلا أنه قال قبله‏:‏ عن ابن إسحاق قال‏:‏ وكان المغيرة بن شعبة يقول‏:‏ أخذت خاتمي فألقيته في قبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقلت حين خرج القوم‏:‏ إن خاتمي قد سقط في القبر، وإنما طرحته عمداً لأمس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأكون آخر النَّاس عهداً به‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني والدي إسحاق بن يسار عن مقسم، عن مولاه، عن عبد الله بن الحارث قال‏:‏ اعتمرت مع علي، فذكر ما تقدم‏.‏

وهذا الذي ذكر عن المغيرة بن شعبة لا يقتضي أنه حصل له ما أمله، فإنه قد يكون علي رضي الله عنه لم يمكنه النزول في القبر، بل أمر غيره فناوله إياه، وعلى ما تقدم يكون الذي أمره بمناولته له‏:‏ قثم بن عبَّاس‏.‏

وقد قال الواقدي‏:‏ حدثني عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال‏:‏ ألقى المغيرة بن شعبة خاتمه في قبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقال علي‏:‏ إنما ألقيته لتقول نزلت في قبر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فنزل فأعطاه، أو أمر رجلاً فأعطاه‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا بهز وأبو كامل قالا‏:‏ ثنا حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني، عن أبي عسيب أو أبي غنم قال بهز‏:‏ إنه شهد الصلاة على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قالوا‏:‏ كيف نصلي‏؟‏

قال‏:‏ إدخلوا أرسالاً، أرسالاً فكانوا يدخلون من هذا الباب، فيصلون عليه، ثم يخرجون من الباب الآخر‏.‏

قال‏:‏ فلما وضع في لحده قال المغيرة‏:‏ قد بقي من رجليه شيء لم تصلحوه، قالوا‏:‏ فادخل فأصلحه، فدخل وأدخل يده فمس قدميه عليه السلام‏.‏

فقال‏:‏ أهيلوا علي التراب، فأهالوا عليه حتَّى بلغ إلى أنصاف ساقيه، ثم خرج فكان يقول أنا أحدثكم عهداً برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

متى وقع دفنه عليه الصلاة والسلام

وقال يونس عن ابن إسحاق، حدثتني فاطمة بنت محمد - امرأة عبد الله ابن أبي بكر - وأدخلني عليها حتَّى سمعته منها عن عمرة، عن عائشة أنها قالت‏:‏ ما علمنا بدفن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى سمعنا صوة المساحي في جوف ليلة الأربعاء‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثنا ابن أبي سبرة عن الحليس بن هشام، عن عبد الله بن وهب، عن أم سلمة قالت‏:‏ بينا نحن مجتمعون نبكي لم ننم، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بيوتنا، ونحن نتسلى برؤيته على السرير، إذ سمعنا صوت الكرارين في السحر قالت أم سلمة‏:‏ فصحنا، وصاح أهل المسجد فارتجت المدينة صيحة واحدة، وأذَّن بلال بالفجر، فلما ذكر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بكى وانتحب، فزادنا حزناً، وعالج النَّاس الدخول إلى قبره فغلق دونهم، فيالها من مصيبة ما أصبنا بعدها بمصيبة إلا هانت إذا ذكرنا مصيبتنا به صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد روى الإمام أحمد من حديث محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم توفي يوم الإثنين، ودفن ليلة الأربعاء، وقد تقدم مثله في غير ما حديث وهو الذي نص عليه غير واحد من الأئمة سلفاً وخلفاً، منهم‏:‏ سليمان بن طرخان التيمي، وجعفر بن محمد الصادق، وابن إسحاق، وموسى بن عقبة، وغيرهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/292‏)‏

وقد روى يعقوب بن سفيان عن عبد الحميد، عن بكار، عن محمد بن شعيب، عن الأوزاعيّ أنه قال‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الإثنين قبل أن ينتصف النهار، ودفن يوم الثلاثاء‏.‏

وهكذا روى الإمام أحمد عن عبد الرزاق، عن ابن جريج قال‏:‏ أُخبرت أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مات في الضحى يوم الإثنين، ودفن من الغد في الضحى‏.‏

وقال يعقوب‏:‏ حدثنا سفيان، ثنا سعيد بن منصور، ثنا سفيان عن جعفر بن محمد، عن أبيه وعن ابن جريج، عن أبي جعفر أن رسول الله توفي يوم الإثنين، فلبث ذلك اليوم وتلك الليلة، ويوم الثلاثاء إلى آخر النهار‏.‏

فهو قول غريب، والمشهور عن الجمهور ما أسلفناه‏:‏ من أنه عليه السلام توفي يوم الإثنين، ودفن ليلة الأربعاء‏.‏

ومن الأقوال الغريبة في هذا أيضاً‏:‏ ما رواه يعقوب ابن سفيان عن عبد الحميد بن بكار، عن محمد بن شعيب، عن أبي النعمان، عن مكحول قال‏:‏ ولد رسول الله يوم الإثنين، وأوحي إليه يوم الإثنين، وهاجر يوم الإثنين، وتوفي يوم الإثنين لاثنتين وستين سنة ونصف، ومكث ثلاثة أيام لا يدفن، يدخل عليه النَّاس أرسالاً أرسالاً، يصلون لا يصفون ولا يؤمهم عليه أحد‏.‏

فقوله‏:‏ إنه مكث ثلاثة أيام لا يدفن غريباً، والصحيح‏:‏ أنه مكث بقية يوم الإثنين ويوم الثلاثاء بمكاله، ودفن ليلة الأربعاء كما قدمنا، والله أعلم‏.‏

وضده ما رواه سيف عن هشام، عن أبيه قال‏:‏ توفي رسول الله يوم الإثنين، وغسِّل يوم الإثنين، ودفن ليلة الثلاثاء‏.‏

قال سيف‏:‏ وحدثنا يحيى بن سعيد مرة بجميعه عن عائشة به، وهذا غريب جداً‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثنا عبد الله بن جعفر عن ابن أبي عون، عن أبي عتيق، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ رُشَّ على قبر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الماء رشاً، وكان الذي رشه بلال بن رباح بقربة، بدأ من قبل رأسه من شقه الأيمن حتَّى انتهى إلى رجليه، ثمَّ ضرب بالماء إلى الجدار لم يقدر على أن يدور من الجدار‏.‏

وقال سعيد بن منصور عن الدراوردي، عن يزيد بن عبد الله ابن أبي يمن، عن أم سلمة قالت‏:‏ توفي رسول الله يوم الإثنين، ودفن يوم الثلاثاء‏.‏

وقال ابن خزيمة‏:‏ حدثنا مسلم بن حماد عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، عن كريب، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ توفي رسول الله يوم الإثنين، ودفن يوم الثلاثاء‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني أُبي بن عياش بن سهل بن سعد، عن أبيه قال‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الإثنين، ودفن ليلة الثلاثاء‏.‏

وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا عن محمد بن سعد‏:‏ توفي رسول الله يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول، ودفن يوم الثلاثاء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/293‏)‏

وقال عبد الله بن محمد ابن أبي الدنيا‏:‏ ثنا الحسن بن إسرائيل أبو محمد النهرتيري، ثنا عيسى بن يونس عن إسماعيل ابن أبي خالد سمعت عبد الله ابن أبي أوفى يقول‏:‏ مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الإثنين فلم يدفن إلا يوم الثلاثاء‏.‏

وهكذا قال سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو جعفر الباقر‏.‏

صفة قبره عليه الصلاة والسلام

قد علم بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام دفن في حجرة عائشة التي كانت تختص بها شرقي مسجده في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة، ثم دفن بعده فيها أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنهما‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ ثنا محمد بن مقاتل، ثنا أبو بكر ابن عياش عن سفيان التمار أنه حدثه أنه رأى قبر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مسنماً، تفرد به البخاري‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن أبي فديك، أخبرني عمرو بن عثمان بن هاني عن القاسم قال‏:‏ دخلت على عائشة وقلت لها‏:‏ يا أمَّه اكشفي لي عن قبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء‏.‏

النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

و أبو بكر رضي الله عنه‏.‏

و عمر رضي الله عنه‏.‏

تفرد به أبو داود‏.‏

وقد رواه الحاكم البيهقي من حديث ابن أبي فديك عن عمرو بن عثمان، عن القاسم قال‏:‏ فرأيت النَّبيّ عليه السلام مقدماً، وأبو بكر رأسه بين كتفي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وعمر رأسه عند رجل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وهذه الرواية تدل على أن قبورهم مسطحة، لأن الحصباء لا تثبت إلا على المسطح، وهذا عجيب من البيهقي رحمه الله فإنه ليس في الرواية ذكر الحصباء بالكلية، وبتقدير ذلك فيمكن أن يكون مسنماً وعليه الحصباء مغروزة بالطين ونحوه‏.‏

وقد روى الواقدي عن الدراوردي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال‏:‏ جعل قبر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مسطحاً‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا فروة ابن أبي المغراء، ثنا علي بن مسهر عن هشام، عن عروة، عن أبيه قال‏:‏ لما سقط عليهم الحائط في زمان الوليد بن عبد الملك أخذوا في بنائه فبدت لهم قدم، ففزعوا فظنوا أنه قدم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فما وجد واحد يعلم ذلك، حتَّى قال لهم عروة‏:‏ لا والله ما هي قدم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ما هي إلا قدم عمر‏.‏

وعن هشام عن أبيه، عن عائشة أنها أوصت عبد الله بن الزبير‏:‏ لا تدفني معهم، وادفني مع صواحبي بالبقيع، لا أزكى به أبداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/294‏)‏

قلت‏:‏ كان الوليد بن عبد الملك حين ولي الإمارة في سنة ست وثمانين قد شرع في بناء جامع دمشق، وكتب إلى نائبه بالمدينة ابن عمه عمر بن عبد العزيز أن يوسِّع في مسجد المدينة فوسعه، حتَّى من ناحية الشرق، فدخلت الحجرة النبوية فيه‏.‏

وقد روى الحافظ ابن عساكر بسنده‏:‏ عن زاذان مولى الفرافصة - وهو الذي بنى المسجد النبوي أيام ولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة - فذكر عن سالم بن عبد الله نحو ما ذكره البخاري، وحكى صفة القبور كما رواه أبو داود‏.‏