الجزء الخامس - ما أصاب المسلمين من المصيبة بوفاته صلى الله عليه وسلم

 ما أصاب المسلمين من المصيبة بوفاته صلَّى الله عليه وسلَّم

قال البخاري‏:‏ ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، ثنا ثابت عن أنس قال‏:‏ لما ثقل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم جعل يتغشاه الكرب‏.‏

فقالت فاطمة‏:‏ واكرب أبتاه‏.‏

فقال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏ليس على أبيك كرب بعد اليوم‏)‏‏)‏‏.‏

فلما مات قالت‏:‏ واأبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه‏.‏

فلما دفن قالت فاطمة‏:‏ يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم التراب‏؟‏

تفرد به البخاري رحمه الله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، ثنا حماد بن زيد، ثنا ثابت البناني، قال أنس‏:‏ فلما دفن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالت فاطمة‏:‏ يا أنس أطابت أنفسكم أن دفنتم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في التراب ورجعتم‏.‏

وهكذا رواه ابن ماجه مختصراً من حديث حماد بن زيد به وعنده‏.‏

قال حماد‏:‏ فكان ثابت إذا حدَّث بهذا الحديث بكى حتَّى تختلف أضلاعه‏.‏

وهذا لا يعد نياحة بل هو من باب ذكر فضائله الحق عليه أفضل الصلاة والسلام‏.‏

وإنما قلنا هذا‏:‏ لأن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نهى عن النياحة‏.‏

وقد روى الإمام أحمد والنسائي من حديث شعبة سمعت قتادة، سمعت مطرفاً يحدِّث عن حكيم بن قيس بن عاصم، عن أبيه فيما أوصى به إلى بنيه أنه قال‏:‏ ولا تنوحوا علي فإن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم ينح عليه‏.‏

وقد رواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في ‏(‏النوادر‏)‏ عن عمرو بن ميمون، عن شعبة به‏.‏

ثم رواه عن علي بن المديني عن المغيرة بن سلمة، عن الصعق بن حزن، عن القاسم بن مطيب، عن الحسن البصري، عن قيس بن عاصم به قال‏:‏ لا تنوحوا علي، فإن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم ينح عليه، وقد سمعته ينهى عن النِّياحة‏.‏

ثم رواه عن علي، عن محمد بن الفضل، عن الصعق، عن القاسم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن عاصم به‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ ثنا عقبة بن سنان، ثنا عثمان بن عثمان، ثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يُنح عليه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عفان، ثنا جعفر بن سليمان، ثنا ثابت عن أنس قال‏:‏ لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء‏.‏

قال‏:‏ وما نفضنا عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الأيدي حتَّى أنكرنا قلوبنا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/295‏)‏

وهكذا رواه التِّرمذي، وابن ماجه جميعاً عن بشر بن هلال الصواف، عن جعفر بن سليمان الضبعي به‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ هذا حديث صحيح غريب‏.‏

قلت‏:‏ وإسناده على شرط الصحيحين، ومحفوظ من حديث جعفر بن سليمان، وقد أخرج له الجماعة رواه النَّاس عنه كذلك، وقد أغرب الكديمي - وهو محمد بن يونس - رحمه الله - في روايته له حيث قال‏:‏ ثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، ثنا جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ لما قُبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أظلمت المدينة حتَّى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها - أو لا يبصرها - وما فرغنا من دفنه حتَّى أنكرنا قلوبنا، رواه البيهقي من طريقه كذلك‏.‏

وقد رواه من طريق غيره من الحفاظ عن أبي الوليد الطيالسي، كما قدمنا وهو المحفوظ، والله أعلم‏.‏

وقد روى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر من طريق أبي حفص بن شاهين ثنا حسين بن أحمد بن بسطام بالأبلة، ثنا محمد بن يزيد الرواسي، ثنا سلمة بن علقمة عن داود ابن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ لما دخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء‏.‏

وقال ابن ماجه‏:‏ ثنا إسحاق بن منصور، ثنا عبد الوهاب بن عطاء العجلي عن ابن عون، عن الحسن، عن أُبي بن كعب قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وإنما وجهنا واحد، فلما قبض نظرنا هكذا وهكذا‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا خالي محمد بن إبراهيم بن المطلب بن السائب ابن أبي وداعة السهمي، حدثني موسى بن عبد الله ابن أبي أمية المخزومي، حدثني مصعب بن عبد الله عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنها قالت‏:‏ كان النَّاس في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا قام المصلى يصلي، لم يعْدُ بصر أحدهم موضع قدميه، فتوفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكان أبو بكر، فكان النَّاس إذا قام أحدهم يصلي لم يعْدُ بصر أحدهم موضع جبينه، فتوفي أبو بكر، وكان عمر فكان النَّاس إذا قام أحدهم يصلي لم يعْدُ بصر أحدهم موضع القبلة، فتوفي عمر، وكان عثمان وكانت الفتنة فتلفت النَّاس يميناً وشمالاً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، ثنا حماد عن ثابت، عن أنس أن أم أيمن بكت لما قُبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقيل لها‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏

فقالت‏:‏ إني قد علمت أن رسول الله سيموت، ولكني إنما أبكي على الوحي الذي رفع عنا، هكذا رواه مختصراً‏.‏

وقد قال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن نعيم ومحمد بن النضر الجارودي قالا‏:‏ ثنا الحسن بن علي الخولاني، ثنا عمرو بن عاصم الكلابي، ثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ ذهب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أم أيمن زائراً وذهبت معه، فقربت إليه شراباً فإما كان صائماً وإما كان لا يريده، فردَّه، فأقبلت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تضاحكه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/296‏)‏

فقال أبو بكر بعد وفاة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لعمر انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها؛ فلما انتهينا إليها بكت فقالا لها‏:‏ ما يبكيك، ما عند الله خير لرسوله‏.‏

قالت‏:‏ والله ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أن الوحي انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان‏.‏

ورواه مسلم منفرداً به عن زهير بن حرب، عن عمرو بن عاصم به‏.‏

وقال موسى بن عقبة في قصة وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وخطبة أبي بكر فيها قال‏:‏ ورجع النَّاس حين فرغ أبو بكر من الخطبة، وأم أيمن قاعدة تبكي فقيل لها‏:‏ ما يبكيك، قد أكرم الله نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم فأدخله جنته وأراحه من نصب الدنيا‏.‏

فقالت‏:‏ إنما أبكي على خبر السماء كان يأتينا غضاً جديداً كل يوم وليلة فقد انقطع ورفع فعليه أبكي، فعجب النَّاس من قولها‏.‏

وقد قال مسلم بن الحجاج في صحيحه‏:‏ وحُدِّثت عن أبي أسامة وممن روى ذلك عنه إبراهيم بن سعيد الجوهري، ثنا أبو أسامة، حدثني يزيد بن عبد الله عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطاً وسلفاً يشهد لها، وإذا أراد هلكة أمة عذَّبها ونبيها حيٌ فأهلكها وهو ينظر إليها، فأقرّ عينه بهلكها حين كذَّبوه وعصوا أمره‏)‏‏)‏

تفرد به مسلم إسناداً ومتناً‏.‏

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا يوسف ابن موسى، ثنا عبد الحميد بن عبد العزيز ابن أبي رواد عن سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله هو ابن مسعود، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن لله ملائكة سيَّاحين يبلغوني عن أمتي السَّلام‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ‏(‏‏(‏حياتي خير لكم تحدِّثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض عليَّ أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال البزار‏:‏ لم نعرف آخره يروى عن عبد الله إلا من هذا الوجه‏.‏

قلت‏:‏ وأما أوله وهو قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏إن لله ملائكة سيَّاحين يبلغوني عن أمتي السلام‏)‏‏)‏‏.‏

فقد رواه النسائي من طرق متعددة عن سفيان الثوري وعن الأعمش، كلاهما عن عبد الله بن السائب، عن أبيه به‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين بن علي الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأسود الصنعاني، عن أوس بن أوس قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت - يعني‏:‏ قد بليت -‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله قد حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه أبو داود عن هارون بن عبد الله وعن الحسن بن علي والنسائي، عن إسحاق بن منصور، ثلاثتهم عن حسين بن علي به‏.‏

ورواه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن حسين بن علي، عن جابر، عن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس فذكره‏.‏

قال شيخنا أبو الحجاج المزي‏:‏ وذلك وهم من ابن ماجه، والصحيح أوس بن أوس - وهو الثقفي رضي الله عنه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/297‏)‏

قلت‏:‏ وهو عندي في نسخة جيدة مشهورة على الصواب‏.‏

كما رواه أحمد، وأبو داود النسائي عن أوس بن أوس‏.‏

ثم قال ابن ماجه‏:‏ حدثنا عمرو بن سواد المصري، ثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث، عن سعيد ابن أبي هلال، عن زيد بن أيمن، عن عبادة بن نسي، عن أبي الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة، فإنه مشهود تشهده الملائكة، وإن أحداً لن يصلِّ عليَّ إلا عرضت عليَّ صلاته حتَّى يفرغ منها‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ وبعد الموت‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السَّلام، نبي الله حي ويرزق‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا من أفراد ابن ماجه رحمه الله‏.‏

وقد عقد الحافظ ابن عساكر هاهنا باباً في إيراد الأحاديث المروية في زيارة قبره الشريف صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين، وموضع استقصاء ذلك في كتاب ‏(‏الأحكام الكبير‏)‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

ما ورد من التعزية به عليه الصلاة والسلام

قال ابن ماجه‏:‏ حدثنا الوليد بن عمرو بن السكين، ثنا أبو همام - وهو محمد بن الزبرقان الأهوازي -، ثنا موسى بن عبيدة، ثنا مصعب بن محمد عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن عائشة قالت‏:‏ فتح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم باباً بينه وبين النَّاس - أو كشف ستراً - فإذا النَّاس يصلون وراء أبي بكر، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم رجاء أن يخلفه فيهم بالذي رآهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيهما النَّاس أيما أحد من النَّاس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة أشد عليه من مصيبتي‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به ابن ماجه‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفقيه، ثنا شافع بن محمد، ثنا أبو جعفر ابن سلامة الطحاوي، ثنا المزني، ثنا الشافعي عن القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن رجالاً من قريش دخلوا على أبيه علي بن الحسين فقال‏:‏ ألا أحدِّثكم عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى‏!‏فحدثنا عن أبي القاسم‏.‏

قال‏:‏ لما أن مرض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أتاه جبريل فقال‏:‏ يا محمد إن الله أرسلني إليك تكريماً لك، وتشريفاً لك، وخاصةً لك، أسألك عما هو أعلم به منك يقول‏:‏ كيف نجدك‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجدني يا جبريل مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً‏)‏‏)‏‏.‏

ثم جاءه اليوم الثاني فقال له ذلك، فردَّ عليه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كما ردَّ أول يوم، ثمَّ جاءه اليوم الثالث فقال له كما قال أول يوم، وردَّ عليه كما ردَّ، وجاء معه ملك يقال له‏:‏ ‏(‏إسماعيل‏)‏ على مائة ألف ملك كل ملك على مائة ألف ملك، فاستأذن عليه فسأل عنه، ثم قال جبريل‏:‏ هذا ملك الموت يستأذن عليك ما استأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك‏.‏

فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏إيذن به‏)‏‏)‏ فأذن له، فدخل فسلم عليه ثم قال‏:‏ يا محمد إن الله أرسلني إليك فإن أمرتني أن أقبض روحك قبضت، وإن أمرتني أن أتركه تركته‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏أو تفعل يا ملك الموت‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ نعم، وبذلك أمرت وأمرت أن أطيعك‏.‏

قال‏:‏ فنظر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى جبريل فقال له جبريل‏:‏ يا محمد إن الله قد اشتاق إلى لقائك‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لملك الموت‏:‏ ‏(‏‏(‏إمض لما أمرت به‏)‏‏)‏ فقبض روحه‏.‏

فلما توفي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وجاءت التعزية، سمعوا صوتاً من ناحية البيت‏:‏ السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المصاب من حرم الثواب‏.‏
فقال علي رضي الله عنه‏:‏ أتدرون من هذا‏؟‏ هذا الخضر عليه السلام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/298‏)‏

وهذا الحديث مرسلاً وفي إسناده ضعف بحال القاسم العمري هذا، فإنه قد ضعَّفه غير واحد من الأئمة، وتركة بالكلية آخرون‏.‏

وقد رواه الربيع عن الشافعي، عن القاسم، عن جعفر، عن أبيه، عن جده فذكر منه قصة التعزية - فقط موصولاً - وفي الإسناد العمري المذكور، قد نبهنا على أمره لئلا يغتر به‏.‏

على أنه قد رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم، عن أبي جعفر البغدادي، حدثنا عبد الله بن الحارث أو عبد الرحمن بن المرتعد الصغاني، ثنا أبو الوليد المخزومي، ثنا أنس بن عياض عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ لما توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عزتهم الملائكة يسمعون الحس ولا يرون الشخص‏.‏

فقال‏:‏ السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كل فائت، ودركاً من كل هالك، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المحروم من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ثم قال البيهقي‏:‏ هذان الإسنادان وإن كانا ضعيفان فأحدهما يتأكد بالآخر، ويدل على أن له أصلاً من حديث جعفر، والله أعلم‏.‏

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ‏:‏ أنبأنا أبو بكر أحمد بن بالويه، ثنا محمد بن بشر بن مطر، ثنا كامل بن طلحة، ثنا عباد بن عبد الصمد عن أنس بن مالك قال‏:‏ لما قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحدق به أصحابه فبكوا حوله واجتمعوا فدخل رجل أشهب اللحية، جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى، ثم التفت إلى أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ إن في الله عزاء من كل مصيبة، وعوضاً من كل فائت، وخلفاً من كل هالك، فإلى الله فأنيبوا، وإليه فارغبوا، ونظره إليكم في البلايا فانظروا، فإن المصاب من لم يجبر، فانصرف‏.‏

فقال بعضهم لبعض‏:‏ تعرفون الرجل‏؟‏

فقال أبو بكر وعلي‏:‏ نعم‏!‏هذا أخو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الخضر‏.‏

ثم قال البيهقي‏:‏ عباد بن عبد الصمد ضعيف، وهذا منكر بمرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/299‏)‏

وقد روى الحارث ابن أبي أسامة عن محمد بن سعد، أنبأنا هشام بن القاسم، ثنا صالح المري عن أبي حازم المدني أن رسول الله حين قبضه الله عز وجل دخل المهاجرون فوجاً فوجاً يصلون عليه ويخرجون، ثم دخلت الأنصار على مثل ذلك، ثم دخل أهل المدينة حتَّى إذا فرغت الرجال دخلت النساء، فكان منهن صوت وجزع كبعض ما يكون منهن، فسمعن هزة في البيت فعرفن فسكتن فإذا قائل يقول‏:‏ إن في الله عزاء من كل هالك، وعوض من كل مصيبة، وخلف من كل فائت، والمجبور من جبره الثواب، والمصاب من لم يجبره الثواب‏.‏

فصل فيما روي من معرفة أهل الكتاب بيوم وفاته صلَّى الله عليه وسلَّم

قال أبو بكر ابن أبي شيبة‏:‏ حدثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل بن خالد، عن قيس ابن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي قال‏:‏ كنت باليمن فلقينا رجلين من أهل اليمن ذا كلاع وذا عمرو، فجعلت أحدِّثهما عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ فقالا لي‏:‏ إن كان ما تقول حقاً فقد مضى صاحبك على أجله منذ ثلاث‏.‏

قال‏:‏ فأقبلت وأقبلا، حتَّى إذا كنا في بعض الطريق رفع لنا ركب من قبل المدينة فسألناهم فقالوا‏:‏ قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واستخلف أبو بكر والنَّاس صالحون‏.‏

قال‏:‏ فقالا لي‏:‏ أخبر صاحبك أنا قد جئنا ولعلنا سنعود إن شاء الله عز وجل‏.‏

قال‏:‏ ورجعنا إلى اليمن فلما أتينا أخبرت أبا بكر بحديثهم‏.‏

قال‏:‏ أفلا جئت بهم، فلما كان بعد قال لي ذو عمرو‏:‏ يا جرير إن لك علي كرامة وإني مخبرك خبراً، إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمرتم في آخر، وإذا كانت بالسيف كنتم ملوكاً تغضبون غضب الملوك، وترضون رضى الملوك‏.‏

هكذا رواه الإمام أحمد والبخاري عن أبي بكر ابن أبي شيبة‏.‏

وهكذا رواه البيهقي عن الحاكم، عن عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن سفيان عنه‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا الحاكم، أنبأنا علي بن المتوكل، ثنا محمد بن يونس، ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، ثنا زائدة عن زياد بن علاقة، عن جرير قال‏:‏ لقيني حبر باليمن وقال لي‏:‏ إن كان صاحبكم نبياً، فقد مات يوم الإثنين، هكذا رواه البيهقي‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو سعيد، ثنا زائدة، ثنا زياد بن علاقة عن جرير قال‏:‏ قال لي حبر باليمن‏:‏ إن كان صاحبكم نبياً فقد مات اليوم‏.‏

قال جرير‏:‏ فمات يوم الإثنين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/300‏)‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو الحسين بن بشران المعدل ببغداد، أنبأنا أبو جعفر محمد بن عمرو، ثنا محمد بن الهيثم، ثنا سعيد ابن أبي كبير بن عفير بن كعب، حدثني عبد الحميد بن كعب بن علقمة بن كعب بن عدي التنوخي عن عمر بن الحارث بن علقمة بن كعب بن عدي التنوخي، عن عمرو بن الحارث، عن ناعم بن أجيل، عن كعب بن عدي قال‏:‏ أقبلت في وفد من أهل الحيرة إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، ثم انصرفنا إلى الحيرة فلم نلبث أن جاءتنا وفاة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فارتاب أصحابي وقالوا‏:‏ لو كان نبياً لم يمت‏.‏

فقلت‏:‏ قد مات الأنبياء قبله، وثبت على إسلامي، ثم خرجت أريد المدينة فمررت براهب كنا لا نقطع أمراً دونه، فقلت له‏:‏ أخبرني عن أمر أردته نفخ في صدري منه شيء‏.‏

فقال‏:‏ إئت باسم من الأسماء، فأتيته بكعب فقال‏:‏ ألقه في هذا السفر، لسفر أخرجه فألقيت الكعب فيه، فصفح فيه فإذا بصفة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كما رأيته، وإذا هو يموت في الحين الذي مات فيه‏.‏

قال‏:‏ فاشتدت بصيرتي في إيماني، وقدمت على أبي بكر رضي الله عنه فأعلمته وأقمت عنده، فوجَّهني إلى المقوقس فرجعت، ووجهني أيضاً عمر بن الخطاب فقدمت عليه بكتابه، فأتيته وكانت وقعة اليرموك ولم أعلم بها، فقال لي‏:‏ أعلمت أن الرُّوم قتلت العرب وهزمتهم‏؟‏

فقلت‏:‏ كلا‏.‏

قال‏:‏ ولِمَ‏؟‏

قلت‏:‏ إن الله وعد نبيه أن يظهره على الدين كله وليس بمخلف الميعاد‏.‏

قال‏:‏ فإن نبيكم قد صدقكم قتلت الرُّوم والله قتل عاد‏.‏

قال‏:‏ ثم سألني عن وجوه أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأخبرته، وأهدى إلى عمر وإليهم وكان ممن أهدى إليه علي، وعبد الرحمن، والزبير - وأحسبه ذكر العبَّاس -‏.‏

قال كعب‏:‏ وكنت شريكاً لعمر في البز في الجاهلية، فلما أن فرض الديوان فرض لي في بني عدي بن كعب، وهذا أثر غريب وفيه نبأ عجيب، وهو صحيح‏.‏

فصل ارتداد العرب بوفاته صلَّى الله عليه وسلَّم

قال محمد بن إسحاق‏:‏ ولما توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ارتدت العرب، واشرأبَّت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم حتَّى جمعهم الله على أبي بكر رضي الله عنه‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم أن أكثر أهل مكة لما توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم همُّوا بالرجوع عن الإسلام وأرادوا ذلك، حتَّى خافهم عتاب بن أسيد رضي الله عنه فتوارى، فقام سهيل بن عمرو رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقال‏:‏ إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه، فتراجع النَّاس وكفوا عما هموا به، فظهر عتاب بن أسيد‏.‏

فهذا المقام الذي أراد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله لعمر بن الخطاب - يعني‏:‏ حين أشار بقلع ثنيته حين وقع في الأسارى يوم بدر - إنه عسى أن يقوم مقاماً لا تذمنه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/301‏)‏

قلت‏:‏ وسيأتي عما قريب إن شاء الله ذكر ما وقع بعد وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من الردة في أحياء كثيرة من العرب، وما كان من أمر مسيلمة بن حبيب المتنبئ باليمامة، والأسود العنسي باليمن، وما كان من أمر النَّاس حتَّى فاءوا ورجعوا إلى الله تائبين نازعين عما كانوا عليه في حال ردَّتهم من السفاهة والجهل العظيم، الذي استفزهم الشيطان به، حتَّى نصرهم الله وثبَّتهم وردهم إلى دينه الحق على يدي الخليفة الصديق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه كما سيأتي مبسوطاً مبيناً مشروحاً، إن شاء الله‏.‏

فصل قصائد حسان بن ثابت رضي الله عنه في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم

وقد ذكر ابن إسحاق وغيره قصائد لحسان بن ثابت رضي الله عنه في وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومن أجلِّ ذلك وأفصحه وأعظمه ما رواه عبد الملك بن هشام رحمه الله عن أبي زيد الأنصاري أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال يبكي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏

بطيبةَ رسمٌ للرسولِ ومعهدُ * منيرٌ وَقد تعفُو الرسومُ وَتمهدُ

وَلا تمتَحى الآياتُ مِن دارِ حُرمةٍ * بها مِنبرُ الهادِي الذي كانَ يَصعدُ

وواضحُ آياتٍ وبَاقي معالمٍ * وَربعٌ لهُ فيهِ مَصلَّى وَمسْجِدُ

بها حُجراتٌ كانَ ينزلُ وَسْطَها * مِن الله نورٌ يُستضاءُ وَيوقدُ

معارفٌ لم تطمسْ عَلى العَهْدِ آيُّها * أَتاها البَلا فالآي مِنها تجدُّدُ

عَرَفتُ بها رَسْمَ الرَّسولِ وَعهدهُ * وَقبراً بها واراهُ في التُّربِ مُلحدُ

ظَللتُ بها أبكي الرَّسولَ فأَسعدتْ * عيونٌ وَمثلاها مِنَ الجنِّ تسعدُ

يُذَكِّرنَ آلاء الرَّسولِ ولا أرَى * لها محصياً نفسِي فنفسي تبلَّدُ

مُفجَّعةَّ قد شفَّها فقد أحمدٍ * فظلت لآلاءِ الرَّسولِ تُعدِّدُ

وما بلغتْ منْ كلِّ أمرٍ عشيرهُ * ولكن لنفْسي بعدُ ما قَدْ توجَّدُ

أَطالتْ وقوفاً تذرفُ العينُ جَهدَها * عَلى طَلَلِ القَبرِ الذي فيهِ أَحمَدُ

فَبوركتَ يا قبرَ الرَّسولِ وَبورِكَتْ * بلادٌ ثَوى فيها الرَّشيدُ المُسَدَّدُ

تهيلُ عليهِ التُّربَ أيدٍ وأعينٌ * عليهِ التُرْبَ وقد غارتْ بذلكَ أسعَدُ

لقدْ غَيَّبوا حِلماً وَعِلماً وَرحمةً * عشيةَ عَلُّوهُ الثَّرى لا يوسَّدُ

ورَاحوا بحزنٍ ليسَ فيهمْ نبيُّهمْ * وَقد وَهنتْ منهمْ ظهورٌ وأَعضدُ

ويبكونَ منْ تبكِي السَّمواتُ يومَهُ * وَمن قدْ بكتهُ الأرضُ فالنَّاسُ أكمَدُ ‏(‏ج/ص‏:‏5 /302‏)‏

وهلْ عَدَّلتْ يوماً رزيةُ هالكٍ * رزيةَ يومٍ ماتَ فيهِ محمَّدُ

تقطَّعَ فيهِ مَنزلُ الوحي عَنهُمُ * وَقد كان ذا نورٍ يغورُ وَينجدُ

يدلُّ على الرحمنِ من يقتدِي بهِ * وَيُنقذُ مِنْ هولِ الخزايَا ويرشدُ

إمامٌ لهم يهديهُمُ الحقَّ جاهداً * معلمُ صدقٍ إنْ يطيعوهُ يُسعدُوا

عفوٌ عنِ الزَّلاتِ يقبل عذرهمْ * وإنْ يحسنُوا فاللهُ بالخيرِ أجودُ

وإن نابَ أمرٌ لم يقوموا بحملهِ * فمن عنده تيسيرُ ما يتشدَّدُ

فبيناهُمْ في نعمةِ اللهِ وسطهُمْ * دليلٌ بهِ نهجُ الطَّريقةِ يُقصدُ

عزيزٌ عليهِ أن يجوروا عن الهُدَى * حريصٌ على أنْ يستقيمُوا وَيهتدُوا

عَطوفٌ عَليهم لا يثنى جَناحُهُ * إلى كنفٍ يحنُو عليهمْ ويمهِدُ

فبيناهُمْ في ذلكَ النُّورِ إذْ غَدا * إلى نورِهِمْ منهمْ منَ الموتِ مقصدُ

فأصبحَ محموداً إلى اللهِ راجعاً * يبكيه جفنُ المرسلاتِ ويحمدُ

وأمستْ بلادُ الحرمِ وَحشاً بقاعُها * لغيبةِ ما كانَتْ منَ الوحيِ تعهَدُ

قِفاراً سوى معمورةِ اللّحد ضافَها * فقيدٌ يبكيهِ بلاطٌ وغرقدُ

ومسجدُهُ فالموحِشاتِ لفقدهِ * خلاءٌ له فيها مَقامٌ وَمقعدُ

وبالجمرةِ الكُبرى لهُ ثمَّ أوحشتْ * ديارٌ وعرصاتٌ وربع ومولدُ

فبكي رسولَ اللهِ يا عينُ عبرةً * ولا أعْرفنَّكِ الدَّهرَ دمعك يجمَدُ

ومالكِ لا تبكينَ ذا النعمةِ التي * على النَّاسِ منها سابغُ يتَغمَّدِ

فَجودِي عليهِ بالدُموعِ وأعولي * لفقد الذي لا مثلهُ الدَّهرُ يوجدُ

وما فقدَ الماضونَ مثلَ محمَّدً * ولا مِثلهُ حتَّى القِيامةِ يُفقدُ

أعفَّ وأوفى ذِمَّةً بعدَ ذِمَّةٍ * وأقربَ منه نائلاً لا ينكَّدُ

وأبذلَ منه للطريفِ وتالدٍ * إذا ضنَّ معطاءً بما كان يتلَدُ

وأكرمَ صيتاً في البيوتِ إذا انتمَى * وأكرمُ جداً أبطحياً يسوَّدُ

وأمنعَ ذرواتٍ وأثبتَ في العُلا * دعائمَ عزٍ شاهقاتٍ تُشيَّدُ

وأثبتُ فرعاً في الفروع وَمنبتاً * وعوداً غذاهُ المزنُ فالعودِ أغيدِ

رباهُ وليداً فاستتمْ بتمامِهِ * على أكرم الخيراتِ رَبُّ ممجَّدُ

تناهَتْ وصاةُ المسلمينَ بكفِّه * فلا العِلمُ محبوسٌ ولا الرأيُ يفندِ ‏(‏ج/ص‏:‏5/303‏)‏

أقولُ ولا يلفي لما قُلتُ عائبٌ * من النَّاسِ إلاّ عازبُ القولِ مبعدُ

وليسَ هوائي نازعاً عن ثنائِهِ * لعلِّي به في جنةِ الخُلدِ مبعدُ

معَ المصطفَى أرجو بذاكَ جِوارَهُ * وفي نيلِ ذاكَ اليومِ أسْعى وَأجهَدُ

وقال الحافظ أبو القاسم السهيلي في آخر كتابه ‏(‏الروض‏)‏، وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يبكي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏

أَرقتُ فباتَ لَيلِي لا يزولُ * وليلَ أَخي المصيبةِ فيهِ طولُ

وأَسعدني البكاءُ وذاكَ فيمَا * أصيبَ المسلِمونَ بهِ قليلُ

لقدْ عظُمَتْ مصيبتُنَا وَجَلَّتْ * عشيةَ قيلَ قدْ قُبضَ الرَّسولُ

وَأَضْحَتْ أَرضُنا مما عَراهَا * تكادُ بِنَا جَوانبهَا تميلُ

فَقدْنا الوحيَ والتنزيلَ فينَا * يروحُ بهِ ويغدُو جبرئيلُ

وذاكَ أحقُّ ما سالتْ عَليهِ * نفوسُ النَّاسِ أو كربَتْ تسيلُ

نبيٌ كانَ يجلو الشَّكَ عنَّا * بما يوحى إليهِ وما يقولُ

وَيَهدينَا فَلا نخشَى ضلالاً * علينا والرَّسول لنا دليلُ

أفاطمُ إنْ جزعتِ فذاكَ عذرٌ * وإنْ لم تجزعِي ذاكَ السَّبيلُ

فقبرُ أبيكِ سيدُ كلَّ قبرٍ * وفيهِ سيدُ النَّاسِ الرَّسولُ

باب ميراث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم

بيان أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يترك ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً، ولا أمةً، ولا شاةً، ولا بعيراً، ولا شيئاً يورث عنه، بل أرضاً جعلها كلها صدقة لله عز وجل‏.‏

فإن الدنيا بحذافيرها كانت أحقر عنده كما هي عند الله من أن يسعى لها أو يتركها بعده ميراثاً صلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه من النَّبيّين والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدِّين‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة، ثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق، عن عمرو بن الحارث قال‏:‏ ما ترك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً، ولا أمةً، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة‏.‏

انفرد به البخاري دون مسلم، فرواه في أماكن من صحيحه من طرق متعددة عن أبي الأحوص، وسفيان الثوري، وزهير بن معاوية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/304‏)‏

ورواه التِّرمذي من حديث إسرائيل، والنسائي أيضاً من حديث يونس ابن أبي إسحاق، كلهم عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عمرو بن الحارث بن المصطلق ابن أبي ضرار أخي جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنهما به‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش وابن نمير عن الأعمش، عن شقيق، عن مسروق، عن عائشة قالت‏:‏ ما ترك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ديناراً، ولا درهماً، ولا شاةً، ولا بعيراً، ولا أوصى بشيء‏.‏

وهكذا رواه مسلم منفرداً به عن البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من طرق متعددة عن سليمان بن مهران الأعمش، عن شقيق بن سلمة أبي وائل، عن مسروق بن الأجدع، عن أم المؤمنين عائشة الصدِّيقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله المبرأة من فوق سبع سموات رضي الله عنها وأرضاها‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن عائشة قالت‏:‏ ما ترك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ديناراً، ولا درهماً، ولا أمةً، ولا عبداً، ولا شاةً، ولا بعيراً‏.‏

وحدثنا عبد الرحمن عن سفيان، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن عائشة‏:‏ ما ترك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ديناراً، ولا درهماً، ولا شاةً، ولا بعيراً‏.‏

قال سفيان‏:‏ وأكثر علمي وأشك في العبد والأمة‏.‏

وهكذا رواه التِّرمذي في ‏(‏الشمائل‏)‏ عن بندار، عن عبد الرحمن بن مهدي به‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ وحدثنا وكيع، ثنا مسعر عن عاصم ابن أبي النجود، عن زر، عن عائشة قالت‏:‏ ما ترك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً، ولا أمةً، ولا شاةً، ولا بعيراً‏.‏

هكذا رواه الإمام أحمد من غير شك‏.‏

وقد رواه البيهقي عن أبي زكريا ابن أبي إسحاق المزكي، عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الوهاب، أنبأنا جعفر بن عون، أنبأنا مسعر عن عاصم، عن زر قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ تسألوني عن ميراث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما ترك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً، ولا وليدةً‏.‏

قال مسعر‏:‏ أراه قال‏:‏ ولا شاةً ولا بعيراً‏.‏

قال‏:‏ وأنبأنا مسعر عن عدي بن ثابت، عن علي بن الحسين قال‏:‏ ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً، ولا وليدةً‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل، ورهنه درعاً من حديد‏.‏

وفي لفظ للبخاري رواه عن قبيصة، عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ توفي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين‏.‏

ورواه البيهقي من حديث يزيد بن هارون عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود عنها قالت‏:‏ توفي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ودرعه مرهونة بثلاثين صاعاً من شعير‏.‏

ثم قال‏:‏ رواه البخاري عن محمد بن كثير، عن سفيان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/305‏)‏

ثم قال البيهقي‏:‏ أنبأنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أبو بكر محمد بن حمويه العسكري، ثنا جعفر بن محمد القلانسي، ثنا آدم، ثنا شيبان عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ لقد دعي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على خبز شعير، وإهالة سنخة‏.‏

قال أنس‏:‏ ولقد سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفس محمد بيده ما أصبح عند آل محمد صاع بر، ولا صاع تمر‏)‏‏)‏‏.‏

وإن له يومئذ تسع نسوة، ولقد رهن درعاً له عند يهودي بالمدينة وأخذ منه طعاماً فما وجد ما يفتكها به حتَّى مات صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد روى ابن ماجه بعضه من حديث شيبان بن عبد الرحمن النحوي عن قتادة به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، ثنا ثابت، ثنا هلال عن عكرمة، عن ابن عبَّاس أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم نظر إلى أحد فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده ما يسرني أُحداً لآل محمد ذهبا أنفقه في سبيل الله، أموت يوم أموت وعندي منه ديناران إلا أن أرصدهما لدين‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فمات فما ترك ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً، ولا وليدةً، فترك درعه رهناً عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير‏.‏

وقد روى آخره ابن ماجه عن عبد الله بن معاوية الجمحي، عن ثابت بن يزيد، عن هلال بن خباب العبدي الكوفي به، ولأوله شاهد في الصحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، وأبو سعيد، وعفان قالوا‏:‏ حدثنا ثابت - هو ابن يزيد - ثنا هلال - هو ابن خباب - عن عكرمة، عن ابن عبَّاس أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال‏:‏ يا نبي الله لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مالي وللدنيا ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد وإسناده جيد، وله شاهد من حديث ابن عبَّاس عن عمر في المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقصة الإيلاء، وسيأتي الحديث مع غيره مما شاكله في بيان زهده عليه السلام، وتركه الدنيا وإعراضه عنها، وإطراحه لها، وهو مما يدل على ما قلناه من أنه عليه السلام لم تكن الدنيا عنده ببال‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان، ثنا عبد العزيز بن رفيع قال‏:‏ دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عبَّاس فقال ابن عبَّاس‏:‏ ما ترك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا ما بين هذين اللوحين‏.‏

قال‏:‏ ودخلنا على محمد بن علي فقال مثل ذلك‏.‏

وهكذا رواه البخاري عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا أبو نعيم، ثنا مالك بن مغول عن طلحة قال‏:‏ سألت عبد الله ابن أبي أوفى أأوصى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏

فقال‏:‏ لا‏!‏

فقلت‏:‏ كيف كتب على النَّاس الوصية أو أُمروا بها‏؟‏

قال‏:‏ أوصى بكتاب الله عز وجل‏.‏

وقد رواه البخاري أيضاً، ومسلم، وأهل السنن إلا أبا داود من طرق عن مالك بن مغول به‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مغول‏.‏

تنبيه‏:‏ قد ورد أحاديث كثيرة سنوردها قريبا بعد هذا الفصل في ذكر أشياء كان يختص بها صلوات الله وسلامه عليه في حياته من دور ومساكن نسائه، وإماء، وعبيد، وخيول، وإبل، وغنم، وسلاح، وبغلة، وحمار، وثياب، وأثاث، وخاتم، وغير ذلك مما سنوضحه بطرقه ودلائله، فلعله عليه السلام تصدَّق بكثير منها في حياته منجزا، وأعتق من أعتق من إمائه وعبيده، وأرصد ما أرصده من أمتعته مع ما خصَّه الله به من الأرضين من بني النضير وخيبر وفدك في مصالح المسلمين، على ما سنبينه إن شاء الله، إلا أنه لم يخلِّف من ذلك شيئاً يورث عنه قطعاً، لما سنذكره قريباً، وبالله المستعان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/306‏)‏

باب بيان أنه عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورث‏)‏‏)‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة يبلِّغ به وقال مرة‏:‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يقتسم ورثتي ديناراً، ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عامي فهو صدقة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاري ومسلم، وأبو داود، من طرق، عن مالك بن أنس عن أبي الزناد عبد الله ابن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يقتسم ورثتي ديناراً ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عاملي فهو صدقة‏)‏‏)‏‏.‏

لفظ البخاري، ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن أزواج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حين توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر ليسألنه ميراثهن فقالت عائشة‏:‏ أليس قد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نوِّرث ما تركنا صدقة‏؟‏‏)‏‏)‏

وهكذا رواه مسلم عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن القعنبي، والنسائي عن قتيبة، كلهم عن مالك به، فهذه إحدى النساء الوارثات إن لو قدر ميراث - قد اعترفت أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جعل ما تركه صدقة لا ميراثاً، والظاهر أن بقية أمهات المؤمنين وافقنها على ما روت، وتذكرن ما قالت لهن من ذلك، فإن عبارتها تؤذن بأن هذا أمر مقرر عندهن، والله أعلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا إسماعيل بن أبان، ثنا عبد الله بن المبارك عن يونس، عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورِّث ما تركنا صدقة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البخاري - باب قول رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورِّث ما تركنا صدقة‏)‏‏)‏‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا هشام، أنبأنا معمر عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة أن فاطمة والعبَّاس أتيا أبا بكر رضي الله عنه يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر‏.‏

فقال لهما أبو بكر‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورّث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصنعه فيه إلا صنعته‏.‏

قال‏:‏ فهجرته فاطمة فلم تكلِّمه حتَّى ماتت‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق، عن معمر‏.‏

ثم رواه أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة أن فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله ميراثها مما ترك مما أفاء الله عليه‏.‏

فقال لها أبو بكر‏:‏ إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورث ما تركنا صدقة‏)‏‏)‏ فغضبت فاطمة وهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتَّى توفيت‏.‏

قال‏:‏ وعاشت فاطمة بعد وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ستة أشهر، وذكر تمام الحديث هكذا قال الإمام أحمد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/307‏)‏

وقد روى البخاري هذا الحديث في كتاب ‏(‏المغازي‏)‏ من صحيحه عن ابن أبي بكير، عن الليث، عن عقيل، عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة كما تقدم، وزاد‏:‏ فلما توفيت دفنها علي ليلاً، ولم يؤذن أبا بكر وصلى عليها، وكان لعلي من النَّاس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر عليٌ وجوه النَّاس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر‏:‏ إيتنا ولا يأتنا معك أحد، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة عمر، فقال عمر‏:‏ والله لا تدخل عليهم وحدك‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ وما عسى أن يصنعوا بي‏؟‏ والله لآتينهم‏.‏

فانطلق أبو بكر رضي الله عنه وقال‏:‏ إنا قد عرفنا فضلك، وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك، ولكنكم استبددتم بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن لنا في هذا الأمر نصيباً‏.‏

فلم يزل علي يذكر حتَّى بكى أبو بكر رضي الله عنه‏.‏

وقال‏:‏ والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحب إلي أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بينكم في هذه الأموال فإني لم آل فيها عن الخير، ولم أترك أمراً صنعه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا صنعته، فلما صلى أبو بكر رضي الله عنه الظهر رقي على المنبر فتشهَّد، وذكر شأن علي وتخلُّفه عن البيعة، وعذره بالذي اعتذر به، وتشهد علي رضي الله عنه فعظم حق أبي بكر، وذكر فضيلته وسابقته، وحدَّث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ثم قام إلى أبي بكر رضي الله عنهما فبايعه، فأقبل النَّاس على علي فقالوا‏:‏ أحسنت وكان النَّاس إلى علي قريباً حين راجع الأمر بالمعروف‏.‏

وقد رواه البخاري أيضاً، ومسلم، وأبو داود، والنسائي من طرق متعددة عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة بنحوه‏.‏

فهذه البيعة التي وقعت من علي رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها بيعة مؤكدة للصلح الذي وقع بينهما، وهي ثانية للبيعة التي ذكرناها أولاً يوم السقيفة كما رواه ابن خزيمة، وصحَّحه مسلم بن الحجاج، ولم يكن علي مجانباً لأبي بكر هذه الستة الأشهر بل كان يصلي وراءه، ويحضر عنده للمشورة، وركب معه إلى ذي القصة، كما سيأتي‏.‏

وفي صحيح البخاري أن أبا بكر رضي الله عنه صلى العصر بعد وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بليال، ثم خرج من المسجد، فوجد الحسن بن علي يلعب مع الغلمان فاحتمله على كاهله وجعل يقول‏:‏ يا بأبي شبه النَّبيّ ليس شبيهاً بعلي، وعلي يضحك، ولكن لما وقعت هذه البيعة الثانية اعتقد بعض الرواة أن علياً لم يبايع قبلها فنفى ذلك، والمثبت مقدم على النافي، كما تقدم وكما تقرر، والله أعلم‏.‏

وأما تغضُّب فاطمة رضي الله عنها وأرضاها على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فما أدري ما وجهه، فإن كان لمنعه إياها ما سألته من الميراث فقد اعتذر إليها بعذر يجب قبوله، وهو ما رواه عن أبيها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورث ما تركنا صدقة‏)‏‏)‏ وهي ممن تنقاد لنص الشارع الذي خفي عليها قبل سؤالها الميراث كما خفي على أزواج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى أخبرتهن عائشة بذلك ووافقنها عليه، وليس يظن بفاطمة رضي الله عنها أنها اتهمت الصديق رضي الله عنه فيما أخبرها به، حاشاها وحاشاه من ذلك كيف وقد وافقه على رواية هذا الحديث عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي ابن أبي طالب، والعبَّاس بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد ابن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم أجمعين كما سنبينه قريباً، ولو تفرَّد بروايته الصديق رضي الله عنه لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته، والانقياد له في ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/308‏)‏

وإن كان غضبها لأجل ما سألت الصديق إذ كانت هذه الأراضي صدقة لا ميراثاً، أن يكون زوجها ينظر فيها، فقد اعتذر بما حاصله أنه لما كان خليفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فهو يرى أن فرضاً عليه أن يعمل بما كان يعمله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ويلي ما كان يليه رسول الله، ولهذا قال‏:‏ وإني والله لا أدع أمراً كان يصنعه فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا صنعته قال‏:‏ فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتَّى ماتت، وهذا الهجران والحالة هذه فتح على الفرقة الرافضة شراً عريضاً وجهلاً طويلاً، وأدخلوا أنفسهم بسببه فيما لا يعنيهم، ولو تفهَّموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله‏.‏

بيان رواية الجماعة لما رواه الصديق وموافقتهم على ذلك

قال البخاري‏:‏ حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب قال‏:‏ أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان، وكان محمد بن خبير بن مطعم ذكر لي ذكراً من حديثه ذلك فانطلقت حتَّى دخلت عليه فسألته فقال‏:‏ انطلقت حتَّى أدخل على عمر فأتاه حاجبه يرفا‏.‏

فقال‏:‏ هل لك في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏!‏فأذن لهم‏.‏

ثم قال‏:‏ هل لك في علي وعبَّاس‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏!‏

قال عبَّاس‏:‏ يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا‏.‏

قال‏:‏ أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعملون أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورِّث ما تركنا صدقة‏؟‏‏)‏‏)‏ يريد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نفسه‏؟‏

قال الرهط‏:‏ قد قال ذلك، فأقبل على علي، وعبَّاس فقال‏:‏ هل تعلمان أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد قال ذلك‏؟‏

قالا‏:‏ قد قال ذلك‏.‏

قال عمر بن الخطاب‏:‏ فإني أحدِّثكم عن هذا الأمر، إن الله كان قد خص لرسول الله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 6‏]‏ إلى قوله ‏{‏قَدِيرٌ‏}‏ فكانت خالصة لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والله ما احتازها دونكم، ولا استأثرها عليكم، لقد أعطاكموها وبثها فيكم حتَّى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل بذلك رسول الله حياته، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

ثم قال لعلي وعبَّاس‏:‏ أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك‏؟‏

قالا‏:‏ نعم‏!‏فتوفى الله نبيه فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ أنا ولي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقبضها، فعمل بما عمل به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم توفى الله أبا بكر فقلت‏:‏ أنا ولي ولي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو بكر، ثم جئتماني كلمتكما واحدة وأمركما جميع حتَّى جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا ليسألني نصيب امرأته من أبيها فقلت‏:‏ إن شئتما دفعتها إليكما بذلك فتلتمسان مني قضاء غير ذلك، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاءً غير ذلك حتَّى تقوم الساعة، فإن عجزتما فادفعاها إلي، فأنا أكفيكماها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/309‏)‏

وقد رواه البخاري في أماكن متفرقة من صحيحه، ومسلم، وأهل السنن من طرق عن الزُّهري به‏.‏

وفي رواية في الصحيحين فقال عمر‏:‏ فوليها أبو بكر فعمل فيها بما عمل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والله يعلم أنه صادق بار، راشد، تابع للحق، ثم وليتها فعملت فيها بما عمل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو بكر، والله يعلم إني صادق، بار، راشد، تابع للحق، ثم جئتماني فدفعتها إليكما لتعملا فيها بما عمل رسول الله، وأبو بكر، وعملت فيها أنا أنشدكم بالله أدفعتها إليهم بذلك‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم‏!‏

ثم قال لهما‏:‏ أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك‏؟‏

قالا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك‏!‏لا والذي بإذنه تقوم السماء والأرض‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان عن عمرو، عن الزُّهري، عن مالك بن أوس قال‏:‏ سمعت عمر يقول لعبد الرحمن، وطلحة، والزبير، وسعد‏:‏ نشدتكم بالله الذي تقوم السماء والأرض بأمره أعلمتم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورِّث ما تركنا صدقة‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

على شرط الصحيحين‏.‏

قلت‏:‏ وكان الذي سألاه - بعد تفويض النظر إليهم والله أعلم - هو أن يقسم بينهما النظر فيجعل لكل واحد منهما نظر ما كان يستحقه بالأرض لو قدر أنه كان وارثاً، وكأنهما قدما بين أيديهما جماعة من الصحابة، منهم‏:‏ عثمان، وابن عوف، وطلحة، والزبير، وسعد، وكان قد وقع بينهما خصومة شديدة بسبب إشاعة النظر بينهما‏.‏

فقالت الصحابة الذين قدموهم بين أيديهما‏:‏ يا أمير المؤمنين إقض بينهما، أو أرح أحدهما من الآخر، فكأن عمر رضي الله عنه تحرَّج من قسمة النظر بينهما بما يشبه قسمة الميراث ولو في الصورة الظاهرة محافظة على امتثال قوله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورِّث ما تركنا صدقة‏)‏‏)‏ فامتنع عليهم كلهم وأبى ذلك أشد الإباء رضي الله عنه وأرضاه ثم إن علياً، والعبَّاس استمرا على ما كانا عليه ينظران فيها جميعاً إلى زمان عثمان بن عفان، فغلبه عليها علي وتركها له العبَّاس بإشارة ابنه عبد الله رضي الله عنهما بين يدي عثمان‏.‏

كما رواه أحمد في مسنده، فاستمرت في أيدي العلويين، وقد تقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإني ولله الحمد جمعت لكل واحد منهما مجلداً ضخماً مما رواه عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ورآه من الفقه النافع الصحيح، ورتبته على أبواب الفقه المصطلح عليها اليوم، وقد روينا أن فاطمة رضي الله عنها احتجت أولاً بالقياس وبالعموم في الآية الكريمة، فأجابها الصديق بالنص على الخصوص بالمنع في حق النَّبيّ، وأنها سلمت له ما قال، وهذا هو المظنون بها رضي الله عنها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/310‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة أن فاطمة قالت لأبي بكر‏:‏ من يرثك إذا مت‏؟‏

قال‏:‏ ولدي وأهلي‏.‏

قالت‏:‏ فما لنا لا نرث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏

فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن النَّبيّ لا يورث‏)‏‏)‏ ولكني أعول من كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يعول، وأنفق على من كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ينفق‏.‏

وقد رواه التِّرمذي في جامعه عن محمد بن المثنى، عن أبو الوليد الطيالسي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة فذكره بوصل الحديث‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ حسن صحيح غريب‏.‏

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد ابن أبي شيبة، ثنا محمد بن فضيل عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل قال‏:‏ لما قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أرسلت فاطمة إلى أبي بكر أأنت ورثت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أم أهله‏؟‏

فقال‏:‏ لا بل أهله‏.‏

فقالت‏:‏ فأين سهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏

فقال أبو بكر‏:‏ إني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله إذا أطعم نبياً طعمة، ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده‏)‏‏)‏ فرأيت أن أرده على المسلمين‏.‏

قالت‏:‏ فأنت وما سمعت من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وهكذا رواه أبو داود عن عثمان ابن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل به، ففي لفظ هذا الحديث غرابة ونكارة، ولعله روي بمعنى ما فهمه بعض الرواة، وفيهم من فيه تشيع فليعلم ذلك، وأحسن ما فيه قولها‏:‏ أنت وما سمعت من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا هو الصواب والمظنون بها واللائق بأمرها وسيادتها، وعلمها، ودينها رضي الله عنها‏.‏

وكأنها سألته بعد هذا أن يجعل زوجها ناظراً على هذه الصدقة، فلم يجبها إلى ذلك لما قدمناه، فتعتبت عليه بسبب ذلك وهي امرأة من بنات آدم تأسف كما يأسفون، وليست بواجبة العصمة مع وجود نص رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومخالفة أبي بكر الصديق رضي الله عنها‏.‏

وقد روينا عن أبي بكر رضي الله عنه أنه تـَرَضَّا فاطمة وتلاينها قبل موتها، فرضيت رضي الله عنها‏.‏

قال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، ثنا عبدان بن عثمان العتكي بنيسابور، أنبأنا أبو حمزة عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي قال‏:‏ لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها فقال علي‏:‏ يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك‏؟‏

فقالت‏:‏ أتحب أن آذن له‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏!‏

فأذنت له فدخل عليها يترضّاها فقال‏:‏ والله ما تركت الدار والمال، والأهل، والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضّاها حتَّى رضيت‏.‏

وهذا إسناد جيد قوي، والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي، وقد اعترف علماء أهل البيت بصحة ما حكم به أبو بكر في ذلك‏.‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا محمد ابن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله الصفار، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا نصر بن علي، ثنا ابن داود عن فضيل بن مرزوق قال‏:‏ قال زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب‏:‏ أما أنا فلو كنت مكان أبي بكر لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/ 311‏)‏

فصل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يورث‏.‏

وقد تكلَّمت الرافضة في هذا المقام بجهل، وتكلفوا ما لا علم لهم به، ولما يأتهم تأويله، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم، وحاول بعضهم أن يرد خبر أبي بكر رضي الله عنه فيما ذكرناه بأنه مخالف للقرآن حيث يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ‏}‏ الآية ‏[‏النمل‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وحيث قال تعالى‏:‏ إخباراً عن زكريا أنَّه قال‏:‏ ‏{‏فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 5-6‏]‏‏.‏

واستدلالهم بهذا باطل من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{‏وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ‏}‏ إنما يعني بذلك في الملك والنبوة أي‏:‏ جعلناه قائماً بعده فيما كان يليه من الملك وتدبير الرعايا، والحكم بين بني إسرائيل، وجعلناه نبياً كريماً كأبيه، وكما جمع لأبيه الملك والنبوة، كذلك جعل ولده بعده، وليس المراد بهذا وراثة المال، لأن داود كما ذكره كثير من المفسرين كان له أولاد كثيرون يقال‏:‏ مائة، فلم اقتصر على ذكر سليمان من بينهم لو كان المراد وراثة المال، إنما المراد وراثة القيام بعده في النبوة والملك، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ‏}‏‏.‏

وقال ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 16‏]‏ وما بعدها من الآيات‏.‏

وقد أشبعنا الكلام على هذا في كتابنا ‏(‏التفسير‏)‏ بما فيه الكفاية، ولله الحمد والمنة كثيراً‏.‏

وأما قصة زكريا فإنه عليه السلام من الأنبياء الكرام، والدنيا كانت عنده أحقر من أن يسأل الله ولداً ليرثه في ماله كيف‏؟‏ وإنما كان نجاراً يأكل من كسب يده كما رواه البخاري، ولم يكن ليدخر منها فوق قوته حتَّى يسأل الله ولداً يرث عنه ماله أن لو كان له مال وإنما سأل ولداً صالحاً يرثه في النبوة والقيام بمصالح بني إسرائيل، وحملهم على السداد‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً‏}‏ القصة بتمامها‏.‏ ‏[‏مريم‏:‏ 1-5‏]‏‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ‏}‏ يعني‏:‏ النبوة، كما قررنا ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد تقدم في رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، عن أبي بكر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏النَّبيّ لا يورث‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا اسم جنس يعم كل الأنبياء‏.‏

وقد حسنه التِّرمذي‏.‏

وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏‏(‏نحن معشر الأنبياء لا نورث‏)‏‏)‏‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد خُصَّ من بين الأنبياء بأحكام لا يشاركونه فيها، كما سنعقد له باباً مفرداً في آخر السيرة إن شاء الله، فلو قدر أن غيره من الأنبياء يورثون وليس الأمر كذلك لكان ما رواه من ذكرنا من الصحابة الذين منهم الأئمة الأربعة؛ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي مبيناً لتخصيصه بهذا الحكم دون ما سواه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/312‏)‏

والثالث‏:‏ أنه يجب العمل بهذا الحديث، والحكم بمقتضاه كما حكم به الخلفاء، واعترف بصحته العلماء سواء كان من خصائصه أم لا‏.‏

فإنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورِّث ما تركناه صدقة‏)‏‏)‏ إذ يحتمل من حيث اللفظ أن يكون قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏ما تركنا صدقة‏)‏‏)‏ أن يكون خبراً عن حكمه أو حكم سائر الأنبياء معه، على ما تقدم وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون إنشاء وصيته كأنه يقول‏:‏ لا نورث لأن جميع ما تركناه صدقة، ويكون تخصيصه من حيث جواز جعله ماله كله صدقة، والاحتمال الأول أظهر وهو الذي سلكه الجمهور‏.‏

وقد يقوِّي المعنى الثاني بما تقدم من حديث مالك وغيره عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تقتسم ورثتي ديناراً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا اللفظ مخرج في الصحيحين، وهو يرد تحريف من قال من طائفة الشيعة في رواية هذا الحديث‏:‏ ما تركنا صدقة بالنصب، جعل - ما - نافية، فكيف يصنع بأول الحديث وهو قوله‏:‏ لا نورث‏؟‏ ‏!‏‏.‏

وبهذه الرواية‏:‏ ‏(‏‏(‏ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة‏)‏‏)‏ وما شأن هذا إلا كما حكي عن بعض المعتزلة أنه قرأ على شيخ من أهل السنة ‏(‏‏(‏وكلَّم الله موسى تكليماً‏)‏‏)‏ بنصب الجلالة فقال له الشيخ‏:‏ ويحك كيف تصنع بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏فلما جاء موسى لميقاتنا فكلَّمه ربه‏)‏‏)‏‏.‏

والمقصود‏:‏ أنه يجب العمل بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورِّث ما تركنا صدقة‏)‏‏)‏ على كل تقدير احتمله اللفظ، والمعنى فإنه مخصص لعموم آية الميراث، ومخرج له عليه السلام منها، إما وحده أو مع غيره من إخوانه الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام‏.‏

باب زوجاته صلوات الله وسلامه عليه وأولاده صلَّى الله عليه وسلَّم

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً‏}‏‏.‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 32-34‏]‏‏.‏

لا خلاف أنه عليه السلام توفي عن تسع وهن‏:‏ عائشة بنت أبي بكر الصديق التيمية، وحفصة بنت عمر بن الخطاب العدوية، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموية، وزينب بنت جحش الأسديّة، وأم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وسودة بنت زمعة العامرية، وجويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار المصطلقية، وصفية بنت حيي بن أخطب النضرية الإسرائيلية الهارونية رضي الله عنهن أرضاهن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/313‏)‏

وكانت له سريتان وهما‏:‏ مارية بنت شمعون القبطية المصرية من كورة أنصنا، - وهي أم ولده إبراهيم عليه السلام وريحانة بنت شمعون القرظية أسلمت ثم أعتقها فلحقت بأهلها‏.‏

ومن النَّاس من يزعم أنها احتجبت عندهم، والله أعلم‏.‏

وأما الكلام على ذلك مفصلاً ومرتباً من حيث ما وقع أولاً فأولاً مجموعاً من كلام الأئمة رحمهم الله فنقول، وبالله المستعان‏.‏

روى الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي من طريق سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة قال‏:‏ تزوَّج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بخمس عشرة امرأة، دخل منهن بثلاث عشرة، واجتمع عنده إحدى عشرة، ومات عن تسع، ثم ذكر هؤلاء التسع اللاتي ذكرناهن رضي الله عنهن‏.‏

ورواه سيف بن عمر عن سعيد، عن قتادة عن أنس، والأول أصح‏.‏

ورواه سيف بن عمر التميمي عن سعيد، عن قتادة، عن أنس وابن عبَّاس مثله‏.‏

وروي عن سعيد بن عبد الله، عن عبد الله ابن أبي مليكة، عن عائشة مثله‏.‏

قالت‏:‏ فالمرأتان اللتان لم يدخل بهما فهما‏:‏ عمرة بنت يزيد الغفارية، والشنباء‏.‏

فأما عمرة‏:‏ فإنه خلا بها وجرَّدها فرأى بها وضحاً فردها، وأوجب لها الصداق، وحرِّمت على غيره‏.‏

وأما الشنباء‏:‏ فلما أدخلت عليه لم تكن يسيرة، فتركها ينتظر بها اليسر، فلما مات ابنه إبراهيم على بغتة ذلك قالت‏:‏ لو كان نبياً لم يمت ابنه فطلَّقها وأوجب لها الصداق، وحرِّمت على غيره‏.‏

قالت‏:‏ فاللاتي اجتمعن عنده‏:‏ عائشة، وسودة، وحفصة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وزينب بنت جحش، وزينب بنت خزيمة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم شريك‏.‏

قلت‏:‏ وفي صحيح البخاري عن أنس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يطوف على نسائه، وهن إحدى عشرة امرأة‏.‏

والمشهور‏:‏ أن أم شريك لم يدخل بها كما سيأتي بيانه، ولكن المراد بالإحدى عشرة اللاتي كان يطوف عليهن التسع المذكورات، والجاريتان‏:‏ مارية وريحانة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/314‏)‏

وروى يعقوب بن سفيان الفسوي عن الحجاج ابن أبي منيع، عن جده عبيد الله ابن أبي زياد الرصافي، عن الزُّهري - وقد علَّقه البخاري في صحيحه عن الحجاج هذا - وأورد له الحافظ ابن عساكر طرفاً عنه أن أول امرأة تزوَّجها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خديجة بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، زوَّجه إياها أبوها قبل البعثة‏.‏

وفي رواية قال الزُّهري‏:‏ وكان عمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم تزوَّج خديجة إحدى وعشرين سنة، وقيل‏:‏ خمساً وعشرين سنة زمان بنيت الكعبة‏.‏

وقال الواقدي وزاد‏:‏ ولها خمس وأربعون سنة‏.‏

وقال آخرون من أهل العلم‏:‏ كان عمره عليه السلام يومئذ ثلاثين سنة‏.‏

وعن حكيم بن حزام قال‏:‏ كان عمر رسول الله يوم تزوَّج خديجة خمساً وعشرين سنة، وعمرها أربعون سنة‏.‏

وعن ابن عبَّاس كان عمرها ثمانياً وعشرين سنة، رواهما ابن عساكر‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ كان عليه السلام ابن سبع وثلاثين سنة، فولدت له القاسم وبه كان يكنى، والطيب، والطاهر، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة‏.‏

قلت‏:‏ وهي أم أولاده كلهم سوى إبراهيم فمن مارية، كما سيأتي بيانه‏.‏

ثم تكلَّم على كل بنت من بنات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومن تزوَّجها‏.‏

وحاصله‏:‏

أن زينب تزوَّجها العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، وهو ابن أخت خديجة، أمه هالة بنت خويلد، فولدت له ابناً اسمه‏:‏ علي، وبنتاً اسمها‏:‏ إمامة بنت زينب، وقد تزوَّجها علي ابن أبي طالب بعد وفاة فاطمة، ومات وهي عنده، ثم تزوَّجت بعده المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب‏.‏

وأما رقية‏:‏ فتزوَّجها عثمان بن عفان، فولدت له ابنه عبد الله وبه كان يكنَّى أولاً، ثم اكتنى بابنه عمرو، وماتت رقية ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ببدر، ولما قدم زيد بن حارثة بالبشارة وجدهم قد ساووا التراب عليها، وكان عثمان قد أقام عندها يمرِّضها، فضرب له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بسهمه وأجره، ثم زوَّجه بأختها أم كلثوم ولهذا كان يقال له‏:‏ ذو النورين، فتوفيت عنده أيضاً في حياة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وأما فاطمة‏:‏ فتزوَّجها ابن عمه علي ابن أبي طالب بن عبد المطلب، فدخل بها بعد وقعة بدر، كما قدمنا فولدت له حسناً وبه كان يكنَّى، وحسيناً وهو المقتول شهيداً بأرض العراق‏.‏

قلت‏:‏ ويقال‏:‏ ومحسناً قال‏:‏ وزينب وأم كلثوم، وقد تزوَّج زينب هذه ابن عمها عبد الله بن جعفر، فولدت له علياً وعوناً وماتت عنده، وأما أم كلثوم‏:‏ فتزوَّجها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فولدت له زيداً ومات عنها، فتزوَّجت بعده ببني عمها جعفر واحداً بعد واحد، تزوجت بعون بن جعفر فمات، فخلف عليها أخوه محمد فمات عنها، فخلف عليها أخوهما عبد الله بن جعفر، فماتت عنده‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/315‏)‏

قال الزُّهري‏:‏ وقد كانت خديجة بنت خويلد تزوَّجت قبل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم برجلين، الأول منهما‏:‏ عتيق بن عابد بن مخزوم، فولدت منه جارية وهي‏:‏ أم محمد بن صيفي، والثاني‏:‏ أبو هالة التميمي، فولدت له هند بن هند‏.‏

وقد سماه ابن إسحاق فقال‏:‏ ثم خلف عليها بعد هلاك عابد، أبو هالة النباش بن زرارة أحد بني عمرو بن تميم حليف بني عبد الدار، فولدت له رجلاً وامرأة ثم هلك عنها، فخلف عليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فولدت له بناته الأربع، ثم بعدهن القاسم والطيب والطاهر، فذهب الغلمة جميعاً وهم يرضعون‏.‏

قلت‏:‏ ولم يتزوَّج عليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مدة حياتها امرأة، كذلك رواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت ذلك، وقد قدَّمنا تزويجها في موضعه، وذكرنا شيئاً من فضائلها بدلائلها‏.‏

قال الزُّهري‏:‏ ثم تزوَّج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعد خديجة بعائشة بنت أبي بكر عبد الله ابن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، ولم يتزوَّج بكراً غيرها‏.‏

قلت‏:‏ ولم يولد له منها ولد وقيل‏:‏ بل أسقطت منه ولداً سمَّاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ عبد الله، ولهذا كانت تكنَّى‏:‏ بأم عبد الله، وقيل‏:‏ إنما كانت تكنَّى بعبد الله ابن أختها أسماء من الزبير بن العوام رضي الله عنهم‏.‏

قلت‏:‏ وقد قيل‏:‏ إنه تزوَّج سودة قبل عائشة، قاله ابن إسحاق وغيره كما قدَّمنا ذكر الخلاف في ذلك، فالله أعلم‏.‏

وقد قدَّمنا صفة تزويجه عليه السلام بهما قبل الهجرة، وتأخَّر دخوله بعائشة إلى ما بعد الهجرة‏.‏

قال‏:‏ وتزوَّج حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن حذافة بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، مات عنها مؤمناً‏.‏

قال‏:‏ وتزوَّج أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت قبله تحت ابن عمها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم‏.‏

قال‏:‏ وتزوَّج سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وكانت قبله تحت السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو بن عبد شمس، مات عنها مسلماً بعد رجوعه وإياها من أرض الحبشة إلى مكة رضي الله عنهما‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/316‏)‏

قال‏:‏ وتزوَّج أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش بن رئاب من بني أسد بن خزيمة، مات بأرض الحبشة نصرانياً، بعث إليها رسول الله عمرو بن أمية الضمري إلى أرض الحبشة فخطبها عليه، فزوَّجها منه عثمان بن عفان كذا قال، والصواب‏:‏ عثمان ابن أبي العاص، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وقد قدمنا ذلك كله مطولاً ولله الحمد‏.‏

قال‏:‏ وتزوَّج زينب بنت جحش بن رئاب بن أسد بن خزيمة، وأمها‏:‏ أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكانت قبله تحت زيد بن حارثة مولاه عليه الصلاة والسلام وهي أول نسائه لحوقاً به، وأول من عمل عليها النعش صنعته أسماء بنت عميس عليها، كما رأت ذلك بأرض الحبشة‏.‏

قال‏:‏ وتزوَّج زينب بنت خزيمة، وهي من بني عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة، ويقال لها‏:‏ أم المساكين، وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش بن رئاب قتل يوم أحد، فلم تلبث عنده عليه السلام إلا يسيراً حتَّى توفيت رضي الله عنها‏.‏

وقال يونس عن محمد بن إسحاق‏:‏ كانت قبله عند الحصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، أو عند أخيه الطفيل بن الحارث‏.‏

قال الزُّهري‏:‏ وتزوَّج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رؤيبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة قال‏:‏ وهي التي وهبت نفسها‏.‏

قلت الصحيح‏:‏ أنه خطبها وكان السفير بينهما أبو رافع مولاه، كما بسطنا ذلك في عمرة القضاء‏.‏

قال الزُّهري‏:‏ وقد تزوَّجت قبله رجلين، أولهما‏:‏ ابن عبد ياليل، وقال‏:‏ سيف بن عمر في روايته كانت تحت عمير بن عمرو أحد بني عقدة بن ثقيف بن عمرو الثقفي مات عنها، ثم خلف عليها أبو رهم ابن عبد العزى ابن أبي قيس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي‏.‏

قال‏:‏ وسبى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار بن الحارث بن عامر بن مالك بن المصطلق من خزاعة يوم المريسيع، فأعتقها وتزوَّجها ويقال‏:‏ بل قدم أبوها الحارث وكان ملك خزاعة فأسلم ثم تزوَّجها منه، وكانت قبله عند ابن عمها صفوان ابن أبي السفر‏.‏

قال قتادة عن سعيد بن المسيب، والشعبي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم قالوا‏:‏ وكان هذا البطن من خزاعة حلفاء لأبي سفيان على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولهذا يقول حسان‏:‏

وحِلْفُ الحارث ابن أبي ضِرارٍ * وحِلْفُ قُريظةٍ فيكم سواءُ‏.‏

وقال سيف بن عمر في روايته عن سعيد بن عبد الله، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت‏:‏ وكانت جويرية تحت ابن عمها مالك بن صفوان بن تولب ذي الشفر ابن أبي السرح بن مالك بن المصطلق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/317‏)‏

قال‏:‏ وسبى صفية بنت حيي بن أخطب من بني النضير يوم خيبر وهي عروس بكنانة ابن أبي الحقيق، وقد زعم سيف بن عمر في روايته أنها كانت قبل كنانة عند سلام بن مشكم، فالله أعلم‏.‏

قال‏:‏ فهذه إحدى عشرة امرأة دخل بهن‏.‏

قال‏:‏ وقد قسم عمر بن الخطاب في خلافته لكل امرأة من أزواج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم اثنا عشر ألفاً، وأعطى جويرية وصفية ستة آلاف ستة آلاف بسبب أنهما سبيتا‏.‏

قال الزُّهري‏:‏ وقد حجَّبهما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقسم لهما‏.‏

قلت‏:‏ وقد بسطنا الكلام فيما تقدَّم في تزويجه عليه السلام كل واحدة من هذه النسوة رضي الله عنهن في موضعه‏.‏

قال الزُّهري‏:‏ وقد تزوَّج العالية بنت ظبيان بن عمرو من بني بكر بن كلاب ودخل بها وطلقها‏.‏

قال البيهقي‏:‏ كذا في كتابي وفي رواية غيره ولم يدخل بها، فطلقها‏.‏

وقد قال محمد بن سعد عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي‏:‏ حدثني رجل من بني أبي بكر ابن كلاب أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تزوَّج العالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف بن كعب بن عبد ابن أبي بكر بن كلاب، فمكثت عنده دهراً ثم طلقها‏.‏

وقد روى يعقوب بن سفيان عن حجاج ابن أبي منيع، عن جده، عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة أن الضحاك بن سفيان الكلابي هو الذي دلَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عليها وأنا أسمع من وراء الحجاب‏.‏

قال‏:‏ يا رسول الله هل لك في أخت أم شبيب، وأم شبيب امرأة الضحاك‏.‏

وبه قال الزُّهري‏:‏ تزوَّج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم امرأة من بني عمرو بن كلاب فأنبئ أن بها بياضاً فطلَّقها، ولم يدخل بها‏.‏

قلت‏:‏ الظاهر أن هذه هي التي قبلها، والله أعلم‏.‏

قال‏:‏ وتزوَّج أخت بني الجون الكندي وهم حلفاء بني فزارة، فاستعاذت منه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد عذت بعظيم، إلحقي بأهلك‏)‏‏)‏ فطلَّقها ولم يدخل بها‏.‏

قال‏:‏ وكانت لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سرية يقال لها‏:‏ مارية، فولدت له غلاماً أسامه‏:‏ إبراهيم، فتوفي وقد ملأ المهد، وكانت له وليدة يقال لها‏:‏ ريحانة بنت شمعون من أهل الكتاب من خنافة، وهم بطن من بني قريظة، أعتقها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ويزعمون أنها قد احتجبت‏.‏

وقد روى الحافظ ابن عساكر بسنده عن علي بن مجاهد أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تزوَّج خولة بنت الهذيل بن هبيرة التغلبي، وأمها‏:‏ حرنق بنت خليفة أخت دحية بن خليفة، فحملت إليه من الشام فماتت في الطريق، فتزوَّج خالتها‏:‏ شراف بنت فضالة بن خليفة فحملت إليه من الشام، فماتت في الطريق أيضاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/318‏)‏

وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق‏:‏ وقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تزوَّج أسماء بنت كعب الجونية فلم يدخل بها حتَّى طلقها، وتزوَّج عمرة بنت زيد إحدى نساء بني كلاب ثم بنى من الوحيد، وكانت قبله عند الفضل بن عبَّاس بن عبد المطلب فطلَّقها، ولم يدخل بها‏.‏

قال البيهقي‏:‏ فهاتان هما اللتان ذكرهما الزُّهري ولم يسمِّهما، إلا أن ابن إسحاق لم يذكر العالية‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير، عن زكريا ابن أبي زائدة، عن الشعبي قال‏:‏ وهبن لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نساء أنفسهن، فدخل ببعضهن أرجى بعضهن، فلم يقربهن حتَّى توفي ولم ينكحن بعده‏.‏

منهن‏:‏ أم شريك فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ‏}‏‏.‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وقد روينا عن هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ كانت خولة - يعني‏:‏ بنت حكيم - ممن وهبن أنفسهن لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ وروينا في حديث أبي أسيد السَّاعديّ في قصة الجونية التي استعاذت، فألحقها بأهلها أن اسمها‏:‏ أميمة بنت النعمان بن شراحيل كذا قال‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري، ثنا عبد الرحمن بن الغسيل عن حمزة ابن أبي أسيد، عن أبيه، وعبَّاس بن سهل عن أبيه قالا‏:‏ مرَّ بنا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحاب له فخرجنا معه حتَّى انطلقنا إلى حائط يقال له‏:‏ الشوط حتَّى انتهينا إلى حائطين فجلسنا بينهما‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏اجلسوا‏)‏‏)‏ ودخل هو وقد أتى بالجونية فعزلت في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها داية لها، فلما دخل عليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هبي لي نفسك‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ وهل تهب الملكة نفسها للسوقة‏؟‏ ‏!‏‏.‏

وقالت‏:‏ إني أعوذ بالله منك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد عذت بمعاذ‏)‏‏)‏‏.‏

ثم خرج علينا فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا أسيد اكسها دراعتين وألحقها بأهلها‏)‏‏)‏‏.‏

وقال غير أبي أحمد‏:‏ امرأة من بني الجون يقال لها‏:‏ أمينة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا أبو نعيم، ثنا عبد الرحمن بن الغسيل عن حمزة ابن أبي أسيد قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله حتَّى انطلقنا إلى حائط يقال له‏:‏ الشوط حتَّى انتهينا إلى حائطين جلسنا بينهما‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اجلسوا ها هنا‏)‏‏)‏ فدخل وقد أتي بالجونية فأنزلت في محل بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها داية حاضنة لها، فلما دخل عليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هبي لي نفسك‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ وهل تهب الملكة نفسها للسوقة‏؟‏ ‏!‏‏.‏

قال‏:‏ فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن‏.‏

فقالت‏:‏ إني أعوذ بالله منك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد عذت بمعاذ‏)‏‏)‏‏.‏

ثم خرج علينا فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا أسيد اكسها رازقتين وألحقها بأهلها‏)‏‏)‏‏.‏

قال البخاري‏:‏ وقال الحسين بن الوليد عن عبد الرحمن بن الغسيل، عن عبَّاس بن سهل بن سعد، عن أبيه وأبي أسيد قالا‏:‏ تزوَّج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أميمة بنت شراحيل، فلما أُدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك‏.‏

فأمر أبا أسيد أن يجهِّزها ويكسوها ثوبين رازقتين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/319‏)‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا إبراهيم بن الوزير، ثنا عبد الرحمن بن حمزة عن أبيه وعن عبَّاس بن سهل بن سعد، عن أبيه بهذا‏.‏

انفرد البخاري بهذه الروايات من بين أصحاب الكتب‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا الحميدي، ثنا الوليد، ثنا الأوزاعيّ سألت الزُّهري‏:‏ أي أزواج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم استعاذت منه‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ أخبرني عروة عن عائشة أن ابنة الجون لما أُدخلت على رسول الله قالت‏:‏ أعوذ بالله منك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد عذت بعظيم إلحقي بأهلك‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ورواه حجاج ابن أبي منيع عن جده، عن الزُّهري أن عروة أخبره أن عائشة قالت ‏(‏الحديث‏)‏ انفرد به دون مسلم‏.‏

قال البيهقي‏:‏ ورأيت في كتاب ‏(‏المعرفة‏)‏ لابن منده أن اسم التي استعاذت منه أميمة بنت النعمان بن شراحيل، ويقال‏:‏ فاطمة بنت الضحاك، والصحيح أنها‏:‏ أميمة، والله أعلم‏.‏

وزعموا أن الكلابية اسمها‏:‏ عمرة، وهي التي وصفها أبوها بأنها لم تمرض قط، فرغب عنها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد روى محمد بن سعد عن محمد بن عبد الله، عن الزُّهري قال‏:‏ هي فاطمة بنت الضحاك بن سفيان استعاذت منه، فطلقها، فكانت تلقط البعر وتقول‏:‏ أنا الشقية‏.‏

قال‏:‏ وتزوَّجها في ذي القعدة سنة ثمان، وماتت سنة ستين‏.‏

وذكر يونس عن ابن إسحاق فيمن تزوَّجها عليه السلام ولم يدخل بها‏:‏ أسماء بنت كعب الجونية، وعمرة بنت يزيد الكلابية‏.‏

وقال ابن عبَّاس وقتادة‏:‏ أسماء بنت النعمان ابن أبي الجون، فالله أعلم‏.‏

قال ابن عبَّاس‏:‏ لما استعاذت منه، خرج من عندها مغضباً‏.‏

فقال له الأشعث‏:‏ لا يسؤك ذلك يا رسول الله فعندي أجمل منها فزوَّجه أخته قتيلة‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان ذلك في ربيع سنة تسع‏.‏

وقال سعيد ابن أبي عروة عن قتادة‏:‏ تزوَّج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خمس عشرة امرأة، فذكر منهن أم شريك الأنصارية النجارية‏.‏

قال‏:‏ وقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لأحب أن أتزوج من الأنصار، ولكني أكره غيرتهن‏)‏‏)‏ ولم يدخل بها‏.‏

قال‏:‏ وتزوَّج أسماء بنت الصلت من بني حرام، ثم من بني سلم ولم يدخل بها، وخطب حمزة بنت الحارث المزنية‏.‏

وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى‏:‏ تزوَّج رسول الله ثماني عشرة امرأة، فذكر منهن‏:‏ قتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس، فزعم بعضهم أنه تزوَّجها قبل وفاته بشهرين، وزعم آخرون أنه تزوَّجها في مرضه‏.‏

قال‏:‏ ولم يكن قدمت عليه ولا رآها ولم يدخل بها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/320‏)‏

قال‏:‏ وزعم آخرون أنه عليه السلام أوصى أن تخير قتيلة، فإن شاءت يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين، وإن شاءت فلتنكح من شاءت فاختارت النكاح، فتزوَّجها عكرمة ابن أبي جهل بحضرموت، فبلغ ذلك أبا بكر فقال‏:‏ لقد هممت أن أحرق عليهما‏.‏

فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ما هي من أمهات المؤمنين ولا دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ وزعم بعضهم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يوصِ فيها بشيء، وأنها ارتدت بعده، فاحتج عمر على أبي بكر بارتدادها أنه ليست من أمهات المؤمنين‏.‏

وذكر ابن منده أن التي ارتدت هي‏:‏ البرحاء من بني عوف بن سعد بن ذبيان‏.‏

وقد روى الحافظ ابن عساكر من طرق عن داود ابن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس أن رسول الله تزوَّج قتيلة أخت الأشعث بن قيس، فمات قبل أن يخيِّرها فبرَّأها الله منه‏.‏

وروى حماد بن سلمة عن داود ابن أبي هند، عن الشعبي أن عكرمة ابن أبي جهل لما تزوَّج قتيلة أراد أبو بكر أن يضرب عنقه، فراجعه عمر بن الخطاب فقال‏:‏ إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يدخل بها، وأنها ارتدت مع أخيها فبرئت من الله ورسوله، فلم يزل به حتَّى كفَّ عنه‏.‏

قال الحاكم وزاد أبو عبيدة في العدد‏:‏ فاطمة بنت شريح، وسبأ بنت أسماء بن الصلت السلمية‏.‏

هكذا روى ذلك ابن عساكر من طريق ابن منده بسنده عن قتادة فذكره‏.‏

وقال محمد بن سعد عن ابن الكلبي مثل ذلك‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وهي سبأ‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ ويقال‏:‏ سبأ بنت الصلت بن حبيب بن حارثة بن هلال بن حرام بن سماك بن عوف السلمي‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، حدثني العرزمي عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ كان في نساء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سبأ بنت سفيان بن عوف بن كعب ابن أبي بكر بن كلاب‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ إن رسول الله بعث أبا أسيد يخطب عليه امرأة من بني عامر يقال لها‏:‏ عمرة بنت يزيد بن عبيد بن رواس بن كلاب، فتزوَّجها فبلغه أن بها بياضاً فطلَّقها‏.‏

وقال محمد بن سعد عن الواقدي‏:‏ حدثني أبو معشر قال‏:‏ تزوَّج رسول الله مليكة بنت كعب وكانت تذكر بجمال بارع فدخلت عليها عائشة فقالت‏:‏ ألا تستحين أن تنكحي قاتل أبيك‏؟‏ فاستعاذت منه، فطلقها‏.‏

فجاء قومها فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنها صغيرة، ولا أرى لها وإنها خدعت فارتجعها، فأبى فاستأذنوه أن يزوِّجوها بقريب لها من بني عذرة، فأذن لهم‏.‏

قال‏:‏ وكان أبوها قد قتله خالد بن الوليد يوم الفتح‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وحدثني عبد العزيز الجندعي عن أبيه، عن عطاء بن يزيد قال‏:‏ دخل بها رسول الله في رمضان سنة ثمان وماتت عنده‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وأصحابنا ينكرون ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/321‏)‏

وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر‏:‏ أنبأنا يوسف بن عبد الواحد الماهاني، أنبأنا شجاع علي بن شجاع، أنبأنا أبو عبد الله بن منده، أنبأنا الحسن بن محمد بن حكيم المروزي، ثنا أبو الموجه محمد بن عمرو بن الموجه الفزاري، أنبأنا عبد الله بن عثمان، أنبأنا عبد الله بن المبارك، أنبأنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب الزُّهري قال‏:‏ تزوَّج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خديجة بنت خويلد بن أسد بمكة وكانت قبله تحت عقيق بن عائذ المخزومي، ثم تزوَّج بمكة عائشة بنت أبي بكر، ثم تزوَّج بالمدينة حفصة بنت عمر وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمي، ثم تزوَّج سودة بنت زمعة وكانت قبله تحت السكران بن عمرو أخي بني عامر بن لؤي، ثم تزوَّج أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت قبله تحت عبيد الله بن جحش الأسديّ أحد بني خزيمة، ثم تزوَّج أم سلمة بنت أبي أمية وكان اسمها هند وكانت قبله تحت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد العزى، ثم تزوَّج زينب بنت خزيمة الهلالية، وتزوَّج العالية بنت ظبيان من بني بكر بن عمرو بن كلاب، وتزوَّج امرأة من بني الجون من كندة، وسبى جويرية - في الغزوة التي هدم فيها مناة غزوة المريسيع - ابنة الحارث ابن أبي ضرار من بني المصطلق من خزاعة، وسبى صفية بنت حيي بن أخطب من بني النضير، وكانتا مما أفاء الله عليه فقسمهما له، واستسر مارية القبطية فولدت له إبراهيم، واستسر ريحانة من بني قريظة ثم أعتقها فلحقت بأهلها واحتجبت وهي عند أهلها، وطلق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم العالية بنت ظبيان، وفارق أخت بني عمرو بن كلاب، وفارق أخت بني الجون الكندية من أجل بياض كان بها، وتوفيت زينب بنت خزيمة الهلالية ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حي، وبلغنا أن العالية بنت ظبيان التي طلقت تزوجت قبل أن يحرم الله النساء، فنكحت ابن عم لها من قومها وولدت فيهم‏.‏

سقناه بالسند لغرابة ما فيه من ذكره تزويج سودة بالمدينة، والصحيح أنه كان بمكة قبل الهجرة كما قدمناه، والله أعلم‏.‏

قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال‏:‏ فماتت خديجة بنت خويلد قبل أن يهاجر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بثلاث سنين لم يتزوَّج عليها امرأة حتَّى ماتت هي وأبو طالب في سنة، فتزوَّج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعد خديجة سودة بنت زمعة، ثم تزوَّج بعد سودة عائشة بنت أبي بكر لم يتزوج بكراً غيرها ولم يصب منها ولداً حتَّى مات، ثم تزوَّج بعد عائشة حفصة بنت عمر، ثم تزوَّج بعد حفصة زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين، ثم تزوَّج بعدها أم حبيبة بنت أبي سفيان، ثم تزوَّج بعدها أم سلمة هند بنت أبي أمية، ثم تزوَّج بعدها زينب بنت جحش، ثم تزوَّج بعدها جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار قال‏:‏ ثم تزوَّج بعد جوهرية صفية بنت حيي بن أخطب، ثم تزوَّج بعدها ميمونة بنت الحارث الهلالية‏.‏

فهذا الترتيب أحسن وأقرب مما رتَّبه الزُّهري، والله أعلم‏.‏

وقال يونس بن بكير عن أبي يحيى، عن حميل بن زيد الطائي، عن سهل بن زيد الأنصاري قال‏:‏ تزوَّج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم امرأة من بني غفار فدخل بها، فأمرها فنزعت ثوبها فرأى بها بياضاً من برص عند ثدييها، فانماز رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذي ثوبك‏)‏‏)‏‏.‏

وأصبح فقال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏إلحقي بأهلك‏)‏‏)‏ فأكمل لها صداقها‏.‏

وقد رواه أبو نعيم من حديث حميل بن زيد عن سهل بن زيد الأنصاري، وكان ممن رأى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ تزوَّج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم امرأة من غفار، فذكر مثله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/322‏)‏

قلت‏:‏ وممن تزوَّجها صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يدخل بها أم شريك الأزديّة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ والمثبت أنها دوسية وقيل‏:‏ الأنصارية، ويقال‏:‏ عامرية وأنها خولة بنت حكيم السلمي‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ اسمها‏:‏ غزية بنت جابر بن حكيم‏.‏

قال محمد بن إسحاق عن حكيم بن حكيم، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه قال‏:‏ كان جميع ما تزوَّج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خمس عشرة امرأة منهن‏:‏ أم شريك الأنصارية، وهبت نفسها للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة‏:‏ وتزوَّج أم شريك الأنصارية من بني النجار‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني أحب أن أتزوَّج من الأنصار ولكني أكره غيرتهن‏)‏‏)‏ ولم يدخل بها‏.‏

وقال ابن إسحاق عن حكيم، عن محمد بن علي، عن أبيه قال‏:‏ تزوَّج صلَّى الله عليه وسلَّم ليلى بنت الخطيم الأنصارية، وكانت غيوراً فخافت نفسها عليه فاستقالته فأقالها‏.‏

فصل فيمن خطبها عليه السلام ولم يعقد عليها

قال إسماعيل ابن أبي خالد عن الشعبي، عن أم هانئ فاختة بنت أبي طالب أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خطبها فذكرت أن لها صبية صغاراً فتركها‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏خير نساء ركبن الإبل، صالح نساء قريش، أحناه على ولد طفل في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده‏)‏‏)‏‏.‏

وقال عبد الرزاق عن معمر، عن الزُّهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خطب أم هانئ بنت أبي طالب فقالت‏:‏ يا رسول الله إني قد كبرت ولي عيال‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عبد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل عن السدي، عن أبي صالح، عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت‏:‏ خطبني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاعتذرت إليه فعذرني‏.‏

ثم أنزل الله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏‏.‏

قالت‏:‏ فلم أكن أحلُّ له لأني لم أهاجر كنت من الطلقاء‏.‏

ثم قال‏:‏ هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث السدي، فهذا يقتضي أن من تكن من المهاجرات لا تحل له صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد نقل هذا المذهب مطلقاً القاضي الماوردي في تفسيره عن بعض العلماء‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ‏}‏ أي‏:‏ من القرابات المذكورات‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ‏}‏ أي‏:‏ أسلمن معك‏.‏

فعلى هذا لا يحرم عليه إلا الكفار وتحل له جميع المسلمات، فلا ينافي تزويجه من نساء الأنصار إن ثبت ذلك، ولكن لم يدخل بواحدة منهن أصلاً‏.‏

وأما حكاية الماوردي عن الشعبي أن زينب بنت خزيمة أم المساكين أنصارية فليس بجيد‏.‏

فإنها هلالية بلا خلاف كما تقدم بيانه، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/323‏)‏

وروى محمد بن سعد عن هشام بن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى رسول الله وهو مولٍ ظهره إلى الشمس، فضربت على منكبه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من هذا‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت‏:‏ أنا بنت مطعم الطير، ومباري الريح، أنا ليلى بنت الخطيم، جئتك لأعرض عليك نفسي تزوجني‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد فعلت‏)‏‏)‏‏.‏

فرجعت إلى قومها فقالت‏:‏ قد تزوجت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقالوا‏:‏ بئس ما صنعت أنت امرأة غيرى، ورسول الله صاحب نساء تغارين عليه، فيدعو الله عليك فاستقيليه‏.‏

فرجعت فقالت‏:‏ أقلني يا رسول الله، فأقالها، فتزوَّجها مسعود بن أوس بن سواد بن ظفر فولدت له‏.‏

وبه عن ابن عبَّاس أن ضباعة بنت عامر بن قرط كانت تحت عبد الله بن جدعان فطلقها، فتزوجها بعده هشام بن المغيرة، فولدت له سلمة، وكانت امرأة ضخمة جميلة لها شعر غزير يجلل جسمها، فخطبها رسول الله من ابنها سلمة فقال‏:‏ حتَّى استأمرها‏؟‏

فاستأذنها‏.‏

فقالت‏:‏ يا بني أفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تستأذن‏.‏

فرجع ابنها فسكت ولم يرد جواباً، وكأنه رأى أنها قد طعنت في السن، وسكت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عنها‏.‏

وبه عن ابن عبَّاس قال‏:‏ خطب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صفية بنت بشامة بن نضلة العنبري، وكان أصابها سبي فخيَّرها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شئت أنا، وإن شئت زوجك‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت‏:‏ بل زوجي‏.‏

فأرسلها فلعنتها بنو تميم‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنبأنا الواقدي، ثنا موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه قال‏:‏ كانت أم شريك امرأة من بني عامر بن لؤي قد وهبت نفسها لرسول الله فلم يقبلها، فلم تتزوج حتَّى ماتت‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأنبأنا وكيع عن شريك، عن جابر، عن الحكم، عن علي بن الحسين أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تزوَّج أم شريك الدوسية‏.‏

قال الواقدي‏:‏ الثبت عندنا أنها من دوس من الأزد‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ واسمها‏:‏ غزية بنت جابر بن حكيم‏.‏

وقال الليث بن سعد عن هشام بن محمد، عن أبيه قال متحدث‏:‏ أن أم شريك كانت وهبت نفسها للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم وكانت امرأة صالحة‏.‏

وممن خطبها ولم يعقد عليها‏:‏ حمزة بنت الحارث بن عون ابن أبي حارثة المري‏.‏

فقال أبوها‏:‏ إن بها سوءاً - ولم يكن بها - فرجع إليها، وقد تبرصت وهي‏:‏ أم شبيب بن البرصاء الشاعر‏.‏

هكذا ذكره سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة قال‏:‏ وخطب حبيبة بنت العبَّاس بن عبد المطلب، فوجد أباها أخوه من الرضاعة أرضعتهما‏:‏ ثويبة مولاة أبي لهب‏.‏

فهؤلاء نساؤه وهن ثلاثة أصناف‏:‏

صنف دخل بهن ومات عنهن وهن التسع المبدأ بذكرهن، وهن حرام على النَّاس بعد موته عليه السلام بالإجماع المحقق المعلوم من الدين ضرورة، وعدتهن بانقضاء أعمارهن‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/324‏)‏

وصنف دخل بهن وطلقهن في حياته فهل يحل لأحد أن يتزوجهن بعد انقضاء عدتهن منه عليه السلام‏؟‏

فيه قولان للعلماء‏:‏

أحدهما‏:‏ لا، لعموم الآية التي ذكرناها‏.‏

والثاني‏:‏ نعم، بدليل آية التخيير وهي قوله‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 28-29‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ فلولا أنها تحلُّ لغيره أن يتزوجها بعد فراقه إياها لم يكن في تخييرها بين الدنيا والآخرة فائدة، إذ لو كان فراقه لها لا يبحها لغيره لم يكن فيه فائدة لها، وهذا قوي، والله تعالى أعلم‏.‏

وأما الصنف الثالث‏:‏ وهي من تزوَّجها وطلقها قبل أن يدخل بها، فهذه تحل لغيره أن يتزوجها، ولا أعلم في هذا القسم نزاعاً، وأما من خطبها ولم يعقد عليها، فأولى لها أن تتزوج، وأولى‏.‏

وسيجيء فصل في كتاب ‏(‏الخصائص‏)‏ يتعلق بهذا المقام، والله أعلم‏.‏

فصل في ذكر سراريه عليه السلام

كانت له عليه السلام سريتان‏:‏

إحداهما‏:‏ مارية بنت شمعون القبطية، أهداها له صاحب إسكندرية واسمه‏:‏ جريج بن مينا، وأهدى معها أختها شيرين، وذكر أبو نعيم أنه أهداها في أربع جواري، والله أعلم‏.‏

وغلاماً خصياً اسمه‏:‏ مابور، وبغلة يقال لها‏:‏ الدلدل، فقبل هديته واختار لنفسه مارية، وكانت من قرية ببلاد مصر يقال لها‏:‏ حفن من كورة أنصنا، وقد وضع عن أهل هذه البلدة معاوية ابن أبي سفيان في أيام إمارته الخراج إكراماً لها من أجل أنها حملت من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بولد ذكر، وهو‏:‏ إبراهيم عليه السلام‏.‏

قالوا‏:‏ وكانت مارية جميلة بيضاء، أعجب بها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأحبها وحضيت عنده، ولا سيما بعد ما وضعت إبراهيم ولده‏.‏

وأما أختها شيرين فوهبها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لحسان بن ثابت فولدت له ابنه‏:‏ عبد الرحمن بن حسان‏.‏

وأما الغلام الخصي‏:‏ وهو‏:‏ مابور فقد كان يدخل على مارية وسيرين بلا إذن كما جرت به عادته بمصر، فتكلَّم بعض النَّاس فيها بسبب ذلك، ولم يشعروا أنه خصي حتَّى انكشف الحال على ما سنبينه قريباً إن شاء الله‏.‏

وأما البغلة‏:‏ فكان عليه السلام يركبها‏.‏

والظاهر‏:‏ والله أعلم أنها التي كان راكبها يوم حنين، وقد تأخرَّت هذه البغلة وطالت مدتها حتَّى كانت عند علي بن أبي طالب في أيام إمارته ومات فصارت إلى عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب، وكبرت حتَّى كان يجش لها الشعير لتأكله‏.‏

قال أبو بكر بن خزيمة‏:‏ حدثنا محمد بن زياد بن عبد الله، أنبأنا سفيان بن عيينة عن بشير بن المهاجر، عن عبد الله بن بريدة بن الخصيب، عن أبيه قال‏:‏ أهدى أمير القبط إلى رسول الله جاريتين أختين، وبغلة فكان يركب البغلة بالمدينة، واتخذ إحدى الجاريتين فولدت له إبراهيم ابنه، ووهب الأخرى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/325‏)‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثنا يعقوب بن محمد ابن أبي صعصعة عن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يعجب بمارية القبطية، وكانت بيضاء جعدة جميلة فأنزلها وأختها على أم سليم بنت ملحان، فدخل عليهما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فعرض عليهما الإسلام فأسلمتا هناك، فوطئ مارية بالملك، وحولها إلى مالٍ له بالعالية كان من أموال بني النضير، فكانت فيه في الصيف وفي خرافة النخل، فكان يأتيها هناك وكانت حسنة الدين، ووهب أختها شيرين لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن، وولدت مارية لرسول الله غلاماً سماه إبراهيم، وعقَّ عنه بشاة يوم سابعه، وحلق رأسه وتصدَّق بزنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدفن في الأرض وسماه إبراهيم، وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فخرجت إلى زوجها أبي رافع فأخبرته بأنها قد ولدت غلاماً، فجاء أبو رافع إلى رسول الله فبشَّره فوهب له عقداً، وغار نساء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واشتد عليهن حين رزق منها الولد‏.‏

وروى الحافظ أبو الحسن الدارقطني عن أبي عبيد القاسم بن إسماعيل، عن زياد بن أيوب، عن سعيد بن زكريا المدائني، عن ابن أبي سارة، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ لما ولدت مارية قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أعتقها ولدها‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال الدارقطني‏:‏ تفرَّد به زياد بن أيوب وهو ثقة‏.‏

وقد رواه ابن ماجه من حديث حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عبَّاس عن عكرمة، عن ابن عبَّاس بمثله‏.‏

ورويناه من وجه آخر، وقد أفردنا لهذه المسألة وهي بيع أمهات الأولاد مصنفاً مفرداً على حدته، وحكينا فيه أقوال العلماء بما حاصله يرجع إلى ثمانية أقوال، وذكرنا مستند كل قول ولله الحمد والمنة‏.‏

وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، عن إبراهيم بن محمد بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي ابن أبي طالب قال‏:‏ أكثروا على مارية أم إبراهيم في قبطي ابن عم لها يزورها ويختلف إليها‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏خذ هذا السيف فانطلق، فإن وجدته عندها فاقتله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة لا يثنيني شيء حتَّى أمضي لما أمرتني به، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب‏)‏‏)‏‏.‏

فأقبلت متوشحاً السيف، فوجدته عندها، فاخترطت السيف، فلما رآني عرف أني أريده، فأتى نخلة فرقي فيها، ثم رمى بنفسه على قفاه، ثم شال رجليه، فإذا به أجب أمسح ماله مما للرجال لا قليل ولا كثير، فأتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأخبرته فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الحمد لله الذي صرف عنا أهل البيت‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/326‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، ثنا سفيان، حدثني محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب عن علي قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله إذا بعثتني أكون كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الشاهد يرى ما لا يرى الغائب‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا رواه مختصراً وهو أصل الحديث الذي أوردناه، وإسناده رجال ثقات‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثني محمد بن عمرو بن خالد الحراني، حدثنا أبي، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد ابن أبي حبيب وعقيل عن الزُّهري، عن أنس قال‏:‏ لما ولدت مارية إبراهيم كاد أن يقع في النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم منه شيء حتَّى نزل جبريل عليه السلام فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏السلام عليك يا أبا إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو بكر ابن أبي عاصم، حدثنا محمد بن يحيى الباهلي، حدثنا يعقوب بن محمد عن رجل سماه، عن الليث بن سعد، عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ أهدى ملك من بطارقة الرُّوم يقال له‏:‏ المقوقس جارية قبطية من بنات الملوك يقال لها‏:‏ مارية، وأهدى معها ابن عم لها شاباً فدخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم منها ذات يوم خلوته فأصابها حملت بإبراهيم‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فلما استبان حملها جزعت من ذلك، فسكت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يكن لها لبن فاشترى لها ضأنة لبوناً تغذِّي منها الصبي، فصلح إليه جسمه وحسن لونه، وصفا لونه، فجاءته ذات يوم تحمله على عاتقها فقال‏:‏ يا عائشة كيف ترين الشبه‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ أنا وغيري ما أرى شبهاً‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ولا اللحم‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ لعمري من تغذى بألبان الضأن ليحسن لحمه‏.‏

قال الواقدي‏:‏ ماتت مارية في المحرم سنة خمس عشرة، فصلى عليها عمر ودفنها في البقيع‏.‏

وكذا قال المفضل بن غسان الغلابي، وقال خليفة وأبو عبيدة، ويعقوب بن سفيان‏:‏ ماتت سنة ست عشرة رحمها الله‏.‏

ومنهن‏:‏ ريحانة بنت زيد من بني النضير ويقال‏:‏ من بني قريظة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ كانت ريحانة بنت زيد من بني النضير، ويقال‏:‏ من بني قريظة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ كانت ريحانة بنت زيد من بني النضير، وكانت مزوَّجة فيهم، وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد أخذها لنفسه صفياً، وكانت جميلة فعرض عليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن تسلم فأبت إلا اليهودية، فعزلها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ووجد في نفسه، فأرسل إلى ابن شعبة فذكر له ذلك‏.‏

فقال ابن شعبة‏:‏ فداك أبي وأمي هي تسلم، فخرج حتَّى جاءها فجعل يقول لها‏:‏ لا تتبعي قومك فقد رأيت ما أدخل عليهم حُيي بن أخطب، فأسلمي يصطفيك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لنفسه، فبينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أصحابه إذ سمع وقع نعلين فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هاتين لنعلاً ابن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة‏)‏‏)‏‏.‏

فجاء يقول‏:‏ يا رسول الله قد أسلمت ريحانة‏.‏ فسُرَّ بذلك‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ لما فتح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قريظة اصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خنافة، فكانت عنده حتَّى توفي عنها وهي في ملكه، وكان عرض عليها الإسلام ويتزوجها فأبت إلا اليهودية، ثم ذكر من إسلامها ما تقدم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/327‏)‏

قال الواقدي‏:‏ فحدثني عبد الملك بن سليمان عن أيوب بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة، عن أيوب بن بشير المعاوي قال‏:‏ فأرسل بها رسول الله إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر، فكانت عندها حتَّى حاضت حيضة ثم طهرت من حيضها، فجاءت أم المنذر فأخبرت رسول الله، فجاءها في منزل أم المنذر فقال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أحببت أن أعتقك وأتزوجك فعلت، وإن أحببت أن تكوني في ملكي أطأك بالملك فعلت‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت‏:‏ يا رسول الله إن أخف عليك وعلي أن أكون في ملكك، فكانت في ملك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يطأها حتَّى ماتت‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وحدثني ابن أبي ذئب قال‏:‏ سألت الزُّهري عن ريحانة فقال‏:‏ كانت أمة رسول الله فأعتقها وتزوَّجها، فكانت تحتجب في أهلها وتقول‏:‏ لا يراني أحد بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وهذا أثبت الحديثين عندنا، وكان زوجها قبله عليه السلام الحكم‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ ثنا عاصم بن عبد الله بن الحكم عن عمر بن الحكم قال‏:‏ أعتق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خنافة، وكانت عند زوج لها وكان محباً لها مكرماً فقالت‏:‏ لا أستخلف بعده أحداً أبداً، وكانت ذات جمال، فلما سبيت بنو قريظة عرض السبي على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قالت‏:‏ فكنت فيمن عرض عليه فأمر بي فعزلت، وكان يكون له صفي في كل غنيمة، فلما عزلت خار الله لي فأرسل بي إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياماً حتَّى قتل الأسرى وفرق السبي، فدخل علي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فتجنبت منه حياء، فدعاني فأجلسني بين يديه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن اخترت الله ورسوله اختارك رسول الله لنفسه‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ إني أختار الله ورسوله، فلما أسلمت أعتقني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وتزوَّجني وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ونشّا، كما كان يصدق نساءه وأعرس بي في بيت أم المنذر، وكان يقسم لي كما يقسم لنسائه، وضرب عليَّ الحجاب‏.‏

قال‏:‏ وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم معجباً بها، وكانت لا تسأله شيئاً إلا أعطاها‏.‏

فقيل لها‏:‏ لو كنت سألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بني قريظة لأعتقهم، فكانت تقول‏:‏ لم يخل بي حتَّى فرق السبي، ولقد كان يخلو بها ويستكثر منها، فلم تزل عنده حتَّى ماتت مرجعه من حجة الوداع فدفنها بالبقيع، وكان تزويجه إياها في المحرم سنة ست من الهجرة‏.‏

وقال ابن وهب عن يونس بن يزيد، عن الزُّهري قال‏:‏ استسر رسول الله ريحانة من بني قريظة ثم أعتقها فلحقت بأهلها‏.‏

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى‏:‏ كانت ريحانة بنت زيد بن شمعون من بني النضير، وقال بعضهم‏:‏ من بني قريظة، وكانت تكون في نخل من نخل الصدقة، فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقيل عندها أحياناً، وكان سباها في شوال سنة أربع‏.‏

وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة‏:‏ ثنا أحمد بن المقدام، ثنا زهير عن سعيد، عن قتادة قال‏:‏ كانت لرسول الله وليدتان‏:‏ مارية القبطية، وريحه أو ريحانة بنت شمعون بن زيد بن خنافة من بني عمرو بن قريظة، كانت عند ابن عم لها يقال له‏:‏ عبد الحكم فيما بلغني، وماتت قبل وفاة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى‏:‏ كانت لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أربع ولائد‏:‏ مارية القبطية، وريحانة القرظية، وكانت له جارية أخرى جميلة فكادها نساؤه وخفن أن تغلبهن عليه، وكانت له جارية نفيسة وهبتها له زينب، وكان هجرها في شأن صفية بنت حيي ذا الحجة والمحرم وصفر، فلما كان شهر ربيع الأول الذي قبض فيه رضي عن زينب ودخل عليها فقالت‏:‏ ما أدري ما أجزيك فوهبتها له صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/328‏)‏

وقد روى سيف بن عمر عن سعيد بن عبد الله، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقسم لمارية وريحانة مرة، ويتركهما مرة‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ قال أبو محمد بن عمر الواقدي‏:‏ توفيت ريحانة سنة عشرة، وصلى عليها عمر بن الخطاب ودفنها بالبقيع، ولله الحمد‏.‏

فصل في ذكر أولاده عليه الصلاة والسلام

لا خلاف أن جميع أولاده من خديجة بنت خويلد، سوى إبراهيم فمن مارية بنت شمعون القبطية‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ أنبأنا هشام بن الكلبي، أخبرني أبي عن أبي صالح، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ كان أكبر ولد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم القاسم، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، فمات القاسم - وهو أول ميت من ولده بمكة - ثم مات عبد الله فقال العاص بن وائل السهمي‏:‏ قد انقطع نسله فهو أبتر فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏(‏‏(‏إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر* إن شانئك هو الأبتر‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم ولدت له مارية بالمدينة إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، فمات ابن ثمانية عشر شهراً‏.‏

وقال أبو الفرج المعافي بن زكريا الجريري‏:‏ ثنا عبد الباقي بن نافع، ثنا محمد بن زكريا، ثنا العبَّاس بن بكار، حدثني محمد بن زياد والفرات بن السائب عن ميمون بن مهران، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ ولدت خديجة من النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عبد الله بن محمد، ثم أبطأ عليه الولد من بعده، فبينا رسول الله يكلم رجلاً والعاص بن وائل ينظر إليه، إذ قال له رجل‏:‏ من هذا‏؟‏

قال له‏:‏ هذا الأبتر، وكانت قريش إذا ولد للرجل، ثم أبطأ عليه الولد من بعده قالوا‏:‏ هذا الأبتر‏.‏

فأنزل الله‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شانئك هو الأبتر‏)‏‏)‏ أي مبغضك هو الأبتر من كل خير‏.‏

قال‏:‏ ثم ولدت له زينب، ثم ولدت له رقية، ثم ولدت له القاسم، ثم ولدت الطاهر، ثم ولدت المطهَّر، ثم ولدت الطيب، ثم ولدت المطيَّب، ثم ولدت أم كلثوم، ثم ولدت فاطمة وكانت أصغرهم، وكانت خديجة إذا ولدت ولداً دفعته إلى من يرضعه، فلما ولدت فاطمة لم يرضعها غيرها‏.‏
وقال الهيثم بن عدي‏:‏ حدثنا هشام بن عروة عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال‏:‏ كان للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم ابنان طاهر، والطيب، وكان يسمى أحدهما‏:‏ عبد شمس، والآخر‏:‏ عبد العزى، وهذا فيه نكارة، والله أعلم‏.‏

وقال محمد بن عائذ‏:‏ أخبرني الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز، أن خديجة ولدت القاسم، والطيب، والطاهر، ومطهَّر، وزينب، ورقية، وفاطمة، وأم كلثوم‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ أخبرني عمي مصعب بن عبد الله قال‏:‏ ولدت خديجة القاسم، والطاهر، وكان يقال له‏:‏ الطيب، وولد الطاهر بعد النبوة، ومات صغيراً، واسمه عبد الله، وفاطمة، وزينب، ورقية، وأم كلثوم‏.‏ ‏(‏ج/ ص‏:‏5/329‏)‏

قال الزبير‏:‏ وحدثني إبراهيم بن المنذر عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود أن خديجة ولدت القاسم، والطاهر، والطيب، وعبد الله، وزينب، ورقية، وفاطمة، وأم كلثوم‏.‏

وحدثني محمد بن فضالة عن بعض من أدرك من المشيخة قال‏:‏ ولدت خديجة القاسم، وعبد الله، فأما القاسم فعاش حتَّى مشى، وأما عبد الله فمات وهو صغير‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ كانت خديجة تذكر في الجاهلية الطاهرة بنت خويلد، وقد ولدت لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم القاسم وهو أكبر ولده، وبه كان يكنَّى، ثم زينب، ثم عبد الله، وكان يقال له‏:‏ الطيب، ويقال له‏:‏ الطاهر ولد بعد النبوة، ومات صغيراً، ثم ابنته أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، هكذا الأول فالأول، ثم مات القاسم بمكة، وهو أول ميت من ولده، ثم مات عبد الله، ثم ولدت له مارية بنت شمعون إبراهيم وهي القبطية التي أهداها المقوقس صاحب إسكندرية، وأهدى معها أختها شيرين، وخصياً يقال له‏:‏ مابور، فوهب شيرين لحسان بن ثابت فولدت له ابنه عبد الرحمن، وقد انقرض نسل حسان بن ثابت‏.‏

وقال أبو بكر بن الرقي‏:‏ يقال‏:‏ إن الطاهر هو الطيب، وهو عبد الله، ويقال‏:‏ إن الطيب والمطيَّب ولدا في بطن، والطاهر والمطهَّر ولدا في بطن‏.‏

وقال المفضل ابن غسان عن أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج عن مجاهد قال‏:‏ مكث القاسم ابن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم سبع ليال، ثم مات‏.‏

قال المفضل‏:‏ وهذا خطأ، والصواب أنه عاش سبعة عشر شهراً‏.‏

وقال الحافظ أبو نعيم‏:‏ قال مجاهد‏:‏ مات القاسم وله سبعة أيام‏.‏

وقال الزُّهري‏:‏ وهو ابن سنتين‏.‏

وقال قتادة‏:‏ عاش حتَّى مشى‏.‏

وقال هشام بن عروة‏:‏ وضع أهل العراق ذكر الطيب والطاهر، فأما مشايخنا فقالوا‏:‏ عبد العزى وعبد مناف والقاسم، ومن النساء‏:‏ رقية، وأم كلثوم، وفاطمة، هكذا رواه ابن عساكر، وهو منكر، والذي أنكره هو المعروف، وسقط ذكر زينب ولا بد منها، والله أعلم‏.‏

فأما زينب فقال عبد الرزاق عن ابن جريج قال لي غير واحد‏:‏ كانت زينب أكبر بنات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكانت فاطمة أصغرهن وأحبهن إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتزوَّج زينب أبو العاص بن الربيع فولدت منه علياً وأمامة، وهي التي كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يحملها في الصلاة، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها، ولعل ذلك كان بعد موت أمها سنة ثمان من الهجرة على ما ذكره الواقدي، وقتادة، وعبد الله ابن أبي بكر بن حزم وغيرهم، وكأنها كانت طفلة صغيرة، فالله أعلم‏.‏

وقد تزوَّجها علي ابن أبي طالب رضي الله عنه بعد موت فاطمة على ما سيأتي إن شاء الله، وكانت وفاة زينب رضي الله عنها في سنة ثمان، قاله قتادة عن عبد الله ابن أبي بكر بن حزم، وخليفة بن خياط، وأبو بكر ابن أبي خيثمة، وغير واحد‏.‏

وقال قتادة عن ابن حزم‏:‏ في أول سنة ثمان‏.‏

وذكر حماد بن سلمة عن هشام بن عروة، عن أبيه أنها لما هاجرت دفعها رجل فوقعت على صخرة فأسقطت حملها، ثم لم تزل وجعة حتَّى ماتت، فكانوا يرونها ماتت شهيدة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/330‏)‏

وأما رقية فكان قد تزوَّجها أولاً ابن عمها عتبة ابن أبي لهب، كما تزوَّج أختها أم كلثوم أخوه عتيبة ابن أبي لهب، ثم طلقاهما قبل الدخول بهما بغضة في رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين أنزل الله‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ‏}‏‏.‏ ‏[‏سورة المسد‏]‏‏.‏

فتزوَّج عثمان بن عفان رضي الله عنه رقية، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، ويقال‏:‏ إنه أول من هاجر إليها، ثم رجعا إلى مكة كما قدمنا، وهاجرا إلى المدينة، وولدت له ابنه عبد الله فبلغ ست سنين فنقره ديك في عينيه فمات، وبه كان يكنى أولاً، ثم اقتفى بابنه عمرو وتوفيت، وقد انتصر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ببدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، ولما أن جاء البشير بالنصر إلى المدينة - وهو زيد بن حارثة - وجدهم قد ساووا على قبرها التراب، وكان عثمان قد أقام عليها يمرِّضها بأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وضرب له بسهمه وأجره، ولما رجع زوَّجه بأختها أم كلثوم أيضاً، ولهذا كان يقال له‏:‏ ذو النورين، ثم ماتت عنده في شعبان سنة تسع ولم تلد له شيئاً، وقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كانت عندي ثالثة لزوَّجتها عثمان‏)‏‏)‏ وفي رواية قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كن عشراً لزوَّجتهن عثمان‏)‏‏)‏‏.‏

وأما فاطمة فتزوَّجها ابن عمها علي ابن أبي طالب في صفر سنة اثنتين، فولدت له الحسن، والحسين ويقال‏:‏ ومحسن، وولدت له أم كلثوم، وزينب، وقد تزوَّج عمر بن الخطاب في أيام ولايته بأم كلثوم بنت علي ابن أبي طالب من فاطمة، وأكرمها إكراماً زائداً، أصدقها أربعين ألف درهم لأجل نسبها من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فولدت له زيد بن عمر بن الخطاب، ولما قتل عمر بن الخطاب تزوَّجها بعده ابن عمها عون بن جعفر فمات عنها، فخلف عليها أخوه محمد فمات عنها، فتزوَّجها أخوهما عبد الله بن جعفر فماتت عنده، وقد كان عبد الله بن جعفر تزوَّج بأختها زينب بنت علي وماتت عنده أيضاً‏.‏

وتوفيت فاطمة بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بستة أشهر على أشهر الأقوال، وهذا الثابت عن عائشة في الصحيح، وقاله الزُّهري أيضاً‏.‏

وأبو جعفر الباقر وعن الزُّهري بثلاثة أشهر‏.‏

وقال أبو الزبير‏:‏ بشهرين‏.‏

وقال أبو بريدة‏:‏ عاشت بعده سبعين من بين يوم وليلة‏.‏

وقال عمرو بن دينار‏:‏ مكثت بعده ثمانية أشهر، وكذا قال عبد الله بن الحارث وفي رواية عن عمرو بن دينار‏:‏ بأربعة أشهر‏.‏

وأما إبراهيم فمن مارية القبطية كما قدمنا، وكان ميلاده في ذي الحجة سنة ثمان، وقد روي عن ابن لهيعة وغيره، عن عبد الرحمن بن زياد قال‏:‏ لما حبل بإبراهيم أتى جبريل فقال‏:‏ السلام عليك يا أبا إبراهيم، إن الله قد وهب لك غلاماً من أم ولدك مارية، وأمرك أن تسميه إبراهيم، فبارك الله لك فيه، وجعله قرة عين لك في الدنيا والآخرة‏.‏

وروى الحافظ أبو بكر البزار عن محمد بن مسكين، عن عثمان بن صالح، عن ابن لهيعة، عن عقيل ويزيد ابن أبي حبيب، عن الزُّهري، عن أنس قال‏:‏ لما ولد للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم ابنه إبراهيم وقع في نفسه منه شيء، فأتاه جبريل فقال‏:‏ السلام عليك يا أبا إبراهيم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/331‏)‏

وقال أسباط عن السدي - وهو إسماعيل بن عبد الرحمن - قال‏:‏ سألت أنس بن مالك قلت‏:‏ كم بلغ إبراهيم ابن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من العمر‏؟‏

قال‏:‏ قد كان ملأ مهده، ولو بقي لكان نبياً، ولكن لم يكن ليبق لأن نبيكم صلَّى الله عليه وسلَّم آخر الأنبياء‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا سفيان عن السدي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ لو عاش إبراهيم ابن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لكان صدِّيقاً نبياً‏.‏

وقال أبو عبيد الله ابن منده‏:‏ ثنا محمد بن سعد ومحمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن عثمان العبسي، ثنا منجاب، ثنا أبو عامر الأسديّ عن سفيان، عن السدي، عن أنس قال‏:‏ توفي إبراهيم ابن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ابن ستة عشر شهراً فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏إدفنوه البقيع، فإن له مرضعاً يتم رضاعه في الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو يعلى‏:‏ ثنا أبو خيثمة، ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن أنس قال‏:‏ ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسول الله، كان إبراهيم مسترضعاً في عوالي المدينة وكان ينطلق ونحن معه، فيدخل إلى البيت وإنه ليدخن، وكان ظئره فينا، فيأخذه فيقبِّله ثم يرجع‏.‏

قال عمرو‏:‏ فلما توفي إبراهيم قال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى جرير وأبو عوانة عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح أبي الضحى، عن البراء قال‏:‏ توفي إبراهيم ابن رسول الله وهو ابن ستة عشر شهراً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إدفنوه في البقيع، فإن له مرضعاً في الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أحمد من حديث جابر عن عامر، عن البراء‏.‏

وهكذا رواه سفيان الثوري عن فراس، عن الشعبي، عن البراء بن عازب بمثله‏.‏

وكذا رواه الثوري أيضاً عن أبي إسحاق، عن البراء‏.‏

وأورد له ابن عساكر من طريق عتاب بن محمد بن شوذب عن عبد الله ابن أبي أوفى قال‏:‏ توفي إبراهيم فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏يرضع بقية رضاعه في الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو يعلى الموصلي‏:‏ ثنا زكريا بن يحيى الواسطي، ثنا هشيم عن إسماعيل قال‏:‏ سألت ابن أبي أوفى - أو سمعته يسأل - عن إبراهيم ابن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقال‏:‏ مات وهو صغير، ولو قضي أن يكون بعد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم نبي لعاش‏.‏

وروى ابن عساكر من حديث أحمد بن محمد بن سعيد الحافظ، ثنا عبيد بن إبراهيم الجعفي، ثنا الحسن ابن أبي عبد الله الفراء، ثنا مصعب بن سلام عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو عاش إبراهيم لكان نبياً‏)‏‏)‏‏.‏

وروى ابن عساكر من حديث محمد ابن إسماعيل بن سمرة عن محمد بن الحسن الأسديّ، عن أبي شيبة، عن أنس قال‏:‏ لما مات إبراهيم قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تدرجوه في أكفانه حتَّى أنظر إليه‏)‏‏)‏ فجاء فانكب عليه وبكى حتَّى اضطرب لحياه وجنباه صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قلت‏:‏ أبو شيبة هذا لا يتعامل بروايته‏.‏

ثم روى من حديث مسلم بن خالد الزنجي عن ابن خيثم، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت‏:‏ لما توفي إبراهيم بكى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال أبو بكر وعمر‏:‏ أنت أحق من علم لله حقه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، لولا أنه وعد صادق، وموعود جامع، وأن الآخر منا يتبع الأول لوجدنا عليك يا إبراهيم وجداً أشدَّ مما وجدنا، وإن بك يا إبراهيم لمحزونون‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/332‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أسود بن عامر، ثنا إسرائيل عن جابر، عن الشعبي، عن البراء قال‏:‏ صلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على ابنه إبراهيم، ومات وهو ابن ستة عشر شهراً وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ له في الجنة من يتمُّ رضاعه، وهو صديق‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى من حديث الحكم بن عيينة عن الشعبي، عن البراء‏.‏

وقال أبو يعلى‏:‏ ثنا القواريري، ثنا إسماعيل ابن أبي خالد عن ابن أبي أوفى قال‏:‏ صلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على ابنه وصليت خلفه، وكبَّر عليه أربعاً‏.‏

وقد روى يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال‏:‏ مات إبراهيم ابن رسول الله وهو ابن ثمانية عشر شهراً فلم يصلّ عليه‏.‏

وروى ابن عساكر من حديث إسحاق بن محمد الفروي عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن أبي جده، عن علي قال‏:‏ لما توفي إبراهيم ابن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعث علي ابن أبي طالب إلى أمه مارية القبطية، وهي في مشربة، فحمله علي في سفط وجعله بين يديه على الفرس، ثم جاء به إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فغسَّله وكفنه، وخرج به، وخرج النَّاس معه فدفنه في الزقاق الذي يلي دار محمد بن زيد، فدخل علي في قبره حتَّى سوَّى عليه ودفنه، ثمَّ خرج ورشَّ على قبره، وأدخل رسول الله يده في قبره فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما والله إنه لنبي ابن نبي‏)‏‏)‏ وبكى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبكى المسلمون حوله حتَّى ارتفع الصوت ثم قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يغضب الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ مات إبراهيم ابن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من ربيع الأول سنة عشر، وهو ابن ثمانية عشر شهراً في بني مازن بن النجار، في دار أم برزة بنت المنذر، ودفن بالبقيع‏.‏

قلت‏:‏ وقد قدمنا أن الشمس كسفت يوم موته فقال النَّاس‏:‏ كسفت لموت إبراهيم فخطب رسول الله فقال في خطبته‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته‏)‏‏)‏

قاله الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر‏.‏