الجزء السادس - باب آثار النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يختص بها في حياته من ثياب وسلاح ومراكب

باب آثار النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم التي كان يختص بها في حياته من ثياب وسلاح ومراكب

ذكر الخاتم الذي كان يلبسه عليه السلام‏:‏

وقد أفرد له أبو داود في كتابه ‏(‏السنن‏)‏ كتاباً على حدة‏.‏

ولنذكر عيون ما ذكره في ذلك مع ما نضيفه إليه، والمعول في أصل ما نذكره عليه‏.‏

قال أبو داود‏:‏ حدَّثنا عبد الرَّحيم بن مطرف الرؤاسيّ، حدَّثنا عيسى عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ أراد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يكتب إلى بعض الأعاجم فقيل له‏:‏ إنهم لا يقرؤن كتاباً إلا بخاتم، فاتخذ خاتماً من فضة، ونقش فيه‏:‏ محمد رسول الله‏.‏

وهكذا رواه البخاري عن عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به‏.‏

ثم قال أبو داود‏:‏ حدثنا وهب بن بقية عن خالد، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بمعنى حديث عيسى بن يونس، زاد‏:‏ فكان في يده حتى قُبض، وفي يد أبي بكر حتى قُبض، وفي يد عمر حتى قُبض، وفي يد عثمان فبينما هو عند بئر إذ سقط في البئر فأمر بها فنزحت، فلم يقدر عليه‏.‏

تفرد به أبو داود من هذا الوجه‏.‏

ثم قال أبو داود رحمه الله‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد وأحمد بن صالح قالا‏:‏ أنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال‏:‏ حدثني أنس قال‏:‏ كان خاتم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من ورق فصَّه حبشي‏.‏

وقد روى هذا الحديث البخاري من حديث الليث‏.‏

ومسلم من حديث ابن وهب، وطلحة عن يحيى الأنصاري، وسليمان بن بلال‏.‏

زاد النسائي وابن ماجه‏:‏ وعثمان عن عمر خمستهم عن يونس بن يزيد الأيلي به‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ حسن صحيح غريب من هذا الوجه‏.‏

ثم قال أبو داود‏:‏ حدثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال‏:‏ كان خاتم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من فضة كله فصَّه منه‏.‏

وقد رواه التّرمذيّ والنسائي من حديث زهير بن معاوية الجعفي أبي خيثمة الكوفي به‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ حسن صحيح غريب من هذا الوجه‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا أبو معمر، ثنا عبد الوارث، ثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال‏:‏ اصطنع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خاتماً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنا اتخذنا خاتماً ونقشنا فيه نقشاً فلا ينقش عليه أحد‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فإني أرى بريقه في خنصره‏.‏

ثم قال أبو داود‏:‏ حدثنا نصير بن الفرج، ثنا أبو أسامة عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر اتخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خاتماً من ذهب وجعل فصَّه مما يلي بطن كفه، ونقش فيه‏:‏ محمد رسول الله، فاتخذ الناس خواتم الذهب، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا ألبسه أبداً‏)‏‏)‏ ثم اتخذ خاتماً من فضة نُقش فيه‏:‏ محمد رسول الله، ثم لبس الخاتم بعده أبو بكر، ثم لبسه بعد أبي بكر عمر، ثم لبسه بعده عثمان حتى وقع في بئر أريس‏.‏

وقد رواه البخاري عن يوسف بن موسى، عن أبي أسامة حماد بن أسامة به‏.‏

ثم قال أبو داود‏:‏ حدثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر في هذا الخبر عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فنقش فيه‏:‏ محمد رسول الله وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا ينقش أحد على خاتمي هذا‏)‏‏)‏ وساق الحديث‏.‏

وقد رواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث سفيان بن عيينة به نحوه‏.‏

ثم قال أبو داود‏:‏ حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا أبو عاصم عن المغيرة بن زياد، عن نافع، عن ابن عمر في هذا الخبر عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ فالتمسوه فلم يجدوه، فاتخذ عثمان خاتماً ونقش فيه‏:‏ محمد رسول الله قال‏:‏ فكان يختم به، أو يتختم به‏.‏

ورواه النسائي عن محمد بن معمر عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد النَّبيّل به‏.‏

ثم قال أبو داود‏:‏

باب في ترك الخاتم

حدثنا محمد بن سليمان لُوين عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك أنه رأى في يد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم خاتماً من ورق يوماً واحداً، فصنع الناس فلبسوا، وطرح النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فطرح الناس‏.‏

ثم قال‏:‏ رواه عن الزهري زياد بن سعد وشعيب وابن مسافر، كلهم قال‏:‏ من ورق‏.‏

قلت‏:‏ وقد رواه البخاري‏:‏ حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن يونس، عن ابن شهاب قال‏:‏ حدثني أنس بن مالك أنه رأى في يد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم خاتماً من ورق يوماً واحداً، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خاتمه، فطرح الناس خواتيمهم، ثم علَّقه البخاري عن إبراهيم بن سعد الزهري المدني، وشعيب ابن أبي حمزة، وزياد بن سعد الخراساني‏.‏

وأخرجه مسلم من حديثه‏.‏

وانفرد أبو داود بعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، كلهم عن الزهري كما قال أبو داود‏:‏ خاتماً من ورق‏.‏

والصحيح‏:‏ أن الذي لبسه يوماً واحداً ثم رمى به، إنما هو خاتم الذهب لا خاتم الورق، لما ثبت في الصحيحين عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال‏:‏ كان رسول الله يلبس خاتماً من ذهب فنبذه‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا ألبسه أبداً‏)‏‏)‏‏.‏

فنبذ الناس خواتيمهم، وقد كان خاتم الفضة يلبسه كثيراً ولم يزل في يده حتى توفي - صلوات الله وسلامه عليه - وكان فصَّه منه - يعني‏:‏ ليس فيه فص ينفصل عنه - ومن روى أنه كان فيه صورة شخص فقد أبعد وأخطأ، بل كان فضه كله وفصّه منه، ونقشه محمد رسول الله ثلاثة أسطر‏:‏ محمد سطر، رسول سطر، الله سطر، وكأنه والله أعلم كان منقوشاً وكتابته مقلوبة ليطبع على الاستقامة كما جرت العادة بهذا‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن كتابته كانت مستقيمة، وتطبع كذلك، وفي صحة هذا نظر ولست أعرف لذلك إسناداً لا صحيحاً ولا ضعيفاً، وهذه الأحاديث التي أوردناها أنه عليه السلام كان له خاتم من فضة تردُّ الأحاديث التي قدمناها في سنن أبي داود والنسائي من طريق أبي عتاب سهل بن حماد الدلال عن أبي مكين نوح بن ربيعة، عن إياس بن الحارث بن معيقيب ابن أبي فاطمة، عن جده قال‏:‏ كان خاتم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من حديد ملوي عليه فضة‏.‏

ومما يزيده ضعفاً الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود، والتّرمذيّ والنسائي من حديث أبي طيبة عبد الله بن مسلم السلميّ المروزي عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعليه خاتم من شبه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مالي أجد منك ريح الأصنام‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مالي أرى عليك حلية أهل النار‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فطرحه ثم قال‏:‏ يا رسول الله من أي شيء اتخذه‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اتخذه من ورق، ولا تنمه مثقالاً‏)‏‏)‏‏.‏

وقد كان عليه السلام يلبسه في يده اليمنى، كما رواه أبو داود والتّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏‏.‏

والنسائي من حديث شريك، وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن القاضي عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حسن، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه عن رسول الله قال شريك‏:‏ وأخبرني أبو سلمة ابن عبد الرحمن أن رسول الله كان يتختم في يمينه، وروي في اليسرى‏.‏

رواه أبو داود من حديث عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يتختم في يساره، وكان فصّه في باطن كفه‏.‏

قال أبو داود‏:‏ رواه أبو إسحاق وأسامة بن زيد عن نافع في يمينه‏.‏

وحدثنا هناد عن عبدة، عن عبيد الله، عن نافع أن ابن عمر كان يلبس خاتمه في يده اليسرى‏.‏

ثم قال أبو داود‏:‏ حدثنا عبد الله بن سعيد، ثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال‏:‏ رأيت على الصَّلت بن عبد الله بن نوفل بن عبد المطلب خاتماً في خنصره اليمنى فقلت‏:‏ ما هذا‏؟‏

فقال‏:‏ رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا، وجعل فصّه على ظهرها‏.‏

قال‏:‏ ولا يخال ابن عباس إلا قد كان يذكر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يلبس خاتمه كذلك‏.‏

وهكذا رواه التّرمذيّ من حديث محمد بن إسحاق به‏.‏

ثم قال محمد بن إسماعيل - يعني‏:‏ البخاري -‏:‏ حديث ابن إسحاق عن الصَّلت حديث حسن‏.‏

وقد روى التّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏ عن أنس، وعن جابر، وعن عبد الله بن جعفر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يتختم في اليمين‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا أبي عن ثمامة، عن أنس بن مالك أن أبا بكر لما استخلف كتب له، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر‏:‏ محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر‏.‏

قال أبو عبد الله، وزاد أبو أحمد‏:‏ ثنا الأنصاري، حدثني أبي، ثنا ثمامة عن أنس قال‏:‏ كان خاتم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في يده، وفي يد أبي بكر، وفي يد عمر بعد أبي بكر، قال‏:‏ فلما كان عثمان جلس على بئر أريس فأخذ الخاتم فجعل يعبث به فسقط قال‏:‏ فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان، فنزح البئر فلم يجده‏.‏

فأما الحديث الذي رواه التّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة عن أبي يسر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اتخذ خاتماً من فضة، فكان يختم به ولا يلبسه‏.‏

فإنه حديث غريب جداً‏.‏

وفي السنن من حديث ابن جريج عن الزهري، عن أنس قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه‏.‏

ذكر سيفه عليه السلام

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا شريح، ثنا ابن أبي الزناد عن أبيه، عن الأعمى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس قال‏:‏ تنفَّل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى الرؤيا يوم أُحد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيت في سيفي ذا الفقار فلا فأوَّلته فلا يكون فيكم، ورأيت أني مردف كبشاً، فأوَّلته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة، فأوَّلتها المدينة، ورأيت بقراً تذبح، فبقر والله خير فبقر والله خير‏)‏‏)‏‏.‏

فكان الذي قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد رواه التّرمذيّ وابن ماجه من حديث عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن أبيه به‏.‏

وقد ذكر أهل السنن أنه سمع قائل يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي‏)‏‏)‏‏.‏

وروى التّرمذيّ من حديث هود بن عبد الله بن سعيد عن جده مزيدة بن جابر العبديّ العصري رضي الله عنه قال‏:‏ دخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مكة وعلى سيفه ذهب وفضة الحديث‏.‏

ثم قال‏:‏ هذا حديث غريب‏.‏

وقال التّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، ثنا معاذ بن هشام، ثنا أبي عن قتادة، عن سعيد ابن أبي الحسن قال‏:‏ كانت قبيعة سيف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من فضة‏.‏

وروي أيضاً من حديث عثمان بن سعد عن ابن سيرين قال‏:‏ صنعت سيفي على سيف سمرة، وزعم سمرة أنه صنع سيفه على سيف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكان حنفياً، وقد صار إلى آل علي سيف من سيوف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكربلاء عند الطف كان معه، فأخذه علي بن الحسين بن زين العابدين فقدم معه دمشق حين دخل على يزيد بن معاوية، ثم رجع معه إلى المدينة‏.‏

فثبت في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أنه تلقاه إلى الطريق فقال له‏:‏ هل لك إلي من حاجة تأمرني بها‏؟‏

قال‏:‏ فقال‏:‏ لا‏.‏

فقال‏:‏ هل أنت معطي سيف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فإني أخشى أن يغلبك عليه القوم، وأيم الله إن أعطيتنيه لا يخلص إليه أحد حتى يبلغ نفسي‏.‏

وقد ذُكر للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم غير ذلك من السلاح من ذلك الدروع‏.‏

كما روى غير واحد منهم السائب بن يزيد، وعبد الله بن الزبير أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ظاهر يوم أحد بين درعين‏.‏

وفي الصحيحين من حديث مالك عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دخل يوم الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه قيل له‏:‏ هذا ابن خطل متعلق بأستار الكعبة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اقتلوه‏)‏‏)‏‏.‏

وعند مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء‏.‏

وقال وكيع عن مساور الوراق، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه قال‏:‏ خطب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الناس وعليه عمامة دسماء‏.‏

ذكرهما التّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏ وله من حديث الدراوردي عن عبد الله، عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا اعتمَّ سدلها بين كتفيه‏.‏

وقد قال الحافظ أبو بكر البزَّار في مسنده‏:‏ حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن محمد، ثنا مخول بن إبراهيم، ثنا إسرائيل عن عاصم، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك أنه كانت عنده عصية لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فمات فدفنت معه بين جنبه وبين قميصه‏.‏

ثم قال البزَّار‏:‏ لا نعلم رواه إلا مخول بن راشد، وهو صدوق فيه شيعية‏.‏

واحتمل على ذلك‏.‏

وقال الحافظ البيهقيّ بعد روايته هذا الحديث من طريق مخول هذا قال‏:‏ وهو من الشيعة يأتي بإفراد عن إسرائيل لا يأتي بها غيره، والضعف على رواياته بيِّن ظاهر‏.‏

ذكر نعله التي كان يمشي فيها

ثبت في الصحيح عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يلبس النعال السبتية، وهي التي لا شعر عليها‏.‏

وقد قال البخاري في صحيحه‏:‏ حدثنا محمد - هو ابن مقاتل -، حدثنا عبد الله - يعني‏:‏ ابن المبارك - أنا عيسى بن طهمان قال‏:‏ خرج إلينا أنس بن مالك بنعلين لهما قبالان‏.‏

فقال ثابت البناني‏:‏ هذه نعل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد رواه في كتاب ‏(‏الخمس‏)‏ عن عبد الله بن محمد، عن أبي أحمد الزبيري، عن عيسى بن طهمان، عن أنس قال‏:‏ أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين لهما قبالان‏.‏

فحدثني ثابت البناني بعد عن أنس أنهما نعلا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد رواه التّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏ عن أحمد بن منيع، عن أبي أحمد الزبيري به‏.‏

وقال التّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏‏:‏ حدثنا أبو كريب، ثنا وكيع عن سفيان، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال‏:‏ كان لنعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبالان مثني شراكهما‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ ثنا إسحاق بن منصور، أنا عبد الرزاق عن معمر، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ كان لنعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبالان‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ ثنا محمد بن مرزوق أبو عبد الله، ثنا عبد الرحمن بن قيس أبو معاوية، ثنا هشام عن محمد عن أبي هريرة قال‏:‏ كان لنعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبالان وأبي بكر، وعمر، وأول من عقد عقداً واحداً عثمان‏.‏

قال الجوهري‏:‏ قبال النعل‏:‏ بالكسر الزمام الذي يكون بين الإصبع الوسطى، والتي تليها‏.‏

قلت‏:‏ واشتهر في حدود سنة ستمائة وما بعدها عند رجل من التجار يقال له‏:‏ ابن أبي الحدرد، نعل مفردة ذكر أنها نعل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فسامها الملك الأشرف موسى بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب منه بمال جزيل فأبى أن يبيعها، فاتفق موته بعد حين، فصارت إلى الملك الأشرف المذكور، فأخذها إليه وعظمها، ثم لما بنى دار الحديث الأشرفية إلى جانب القلعة، جعلها في خزانة منها، وجعل لها خادماً، وقُرر له من المعلوم كل شهر أربعون درهماً، وهي موجودة إلى الآن في الدار المذكورة‏.‏

وقال التّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏‏:‏ ثنا محمد بن رافع وغير واحد قالوا‏:‏ ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا شيبان عن عبد الله بن المختار، عن موسى بن أنس، عن أبيه قال‏:‏ كانت لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم سلة - يتطيَّب منها‏.‏

صفة قدح النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن آدم، ثنا شريك عن عاصم قال‏:‏ رأيت عند أنس قدح النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيه ضَبَّة من فضة‏.‏

وقال الحافظ البيهقيّ‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله، أخبرني أحمد بن محمد النَّسويّ، ثنا حماد بن شاكر، ثنا محمد بن إسماعيل - هو البخاري - ثنا الحسن بن مدرك، حدثني يحيى بن حماد، أنا أبو عوانة عن عاصم الأحول قال‏:‏ رأيت قدح النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع فسلسله بفضة‏.‏

قال‏:‏ وهو قدح جيد عريض من نضار‏.‏

قال أنس‏:‏ لقد سقيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا‏.‏

قال‏:‏ وقال ابن سيرين‏:‏ إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة‏.‏

فقال له أبو طلحة‏:‏ لا تغيرنَّ شيئاً صنعه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فتركه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا روح بن عبادة، ثنا حجاج بن حسان قال‏:‏ كنا عند أنس فدعا بإناء فيه ثلاث ضبات حديد وحلقة من حديد، فأخرج من غلاف أسود، وهو دون الربع وفوق نصف الربع، وأمر أنس بن مالك فجعل لنا فيه ماء، فأتينا به فشربنا، وصببنا على رؤسنا ووجوهنا، وصلينا على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

انفرد به أحمد‏.‏

المكحلة التي كان عليه السلام يكتحل منها‏.

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يزيد، أنا عبد الله بن منصور عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ كانت لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مكحلة يكتحل منها عند النوم ثلاثاً في كل عين‏.‏

وقد رواه التّرمذيّ وابن ماجه من حديث يزيد بن هارون‏.‏

قال علي بن المدينيّ‏:‏ سمعت يحيى بن سعيد يقول‏:‏ قلت لعباد بن منصور‏:‏ سمعت هذا الحديث من عكرمة‏.‏

فقال‏:‏ أخبرنيه ابن أبي يحيى عن داود بن الحصين عنه‏.‏

قلت‏:‏ وقد بلغني أن بالديار المصرية مزاراً فيه أشياء كثيرة من آثار النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم اعتنى بجمعها بعض الوزراء المتأخرين فمن ذلك‏:‏

مكحلة‏.‏

وقيل‏:‏ ومشط، وغير ذلك، فالله أعلم‏.‏



البردة

قال الحافظ البيهقيّ‏:‏ وأما البرد الذي عند الخلفاء، فقد روينا عن محمد بن إسحاق بن يسار في قصة تبوك أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أعطى أهل إيلة بردة مع كتابه الذي كتب لهم أماناً لهم، فاشتراه أبو العباس عبد الله بن محمد بثلاثمائة دينار - يعني‏:‏ بذلك أول خلفاء بني العباس وهو السفاح رحمه الله - وقد توارث بنو العباس هذه البردة خلفاً عن سلف، كان الخليفة يلبسها يوم العيد على كتفيه، ويأخذ القضيب المنسوب إليه - صلوات الله وسلامه عليه - في إحدى يديه، فيخرج وعليه من السكينة والوقار ما يصدع به القلوب، ويبهر به الأبصار، ويلبسون السواد في أيام الجمع والأعياد، وذلك اقتداء منهم بسيد أهل البدو والحضر، ممن يسكن الوبر والمدر‏.‏

لما أخرجه البخاري ومسلم إماما أهل الأثر من حديث عن مالك الزهري، عن أنس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دخل مكة وعلى رأسه المغفر‏.‏

وفي رواية‏:‏ وعليه عمامة سوداء‏.‏

وفي رواية‏:‏ قد أرخى طرفها بين كتفيه - صلوات الله وسلامه عليه -‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ ثنا مسدد، ثنا إسماعيل، ثنا أيوب عن محمد، عن أبي بردة قال‏:‏ أخرجت إلينا عائشة كساء وإزاراً غليظاً فقالت‏:‏ قُبض روح النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم في هذين -‏.‏

وللبخاري من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة وابن عباس قالا‏:‏ لما نزل برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه‏.‏

فقال وهو كذلك‏:‏ ‏(‏‏(‏لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏)‏ يحذِّر ما صنعوا‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الأبواب الثلاثة لا يدري ما كان من أمرها بعد هذا، وقد تقدم أنه عليه السلام طرحت في تحته قبره الكريم قطيفة حمراء كان يصلي عليها، ولو تقصينا ما كان يلبسه في أيام حياته لطال الفصل، وموضعه ‏(‏كتاب اللباس من كتاب الأحكام الكبير‏)‏ إن شاء الله، وبه الثِّقة وعليه التُّكلان‏.‏

أفراسه ومراكيبه عليه الصلاة والسلام‏.‏

قال ابن إسحاق عن يزيد بن حبيب، عن مرثد بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن رزين، عن علي قال‏:‏ كان للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم فرس يقال له‏:‏ المرتجز، وحمار يقال له‏:‏ عفير، وبغلة يقال لها‏:‏ دلدل، وسيفه‏:‏ ذو الفقار، ودرعه‏:‏ ذو الفضول‏.‏

ورواه البيهقي من حديث الحكم عن يحيى بن الجزار، عن علي نحوه‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ وروينا في ‏(‏كتاب السنن‏)‏ أسماء أفراسه التي كانت عند الساعد بين لزاز واللحيف، وقيل‏:‏ اللخيف، والظرب، والذي ركبه لأبي طلحة يقال له‏:‏ المندوب، وناقته‏:‏ القصواء، والعضباء، والجدعاء، وبغلته‏:‏ الشهباء والبيضاء‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ وليس في شيء من الروايات أنه مات عنهن، إلا ما روينا في بغلته البيضاء وسلاحه، وأرض جعلها صدقة، ومن ثيابه، وبلغته، وخاتمه، ما روينا في هذا الباب‏.‏

وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ ثنا زمعة بن صالح عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وله جبة صوف في الحياكة‏.‏

وهذا إسناد جيد‏.‏

وقد روى الحافظ أبو يعلى في مسنده‏:‏ حدثنا مجاهد عن موسى، ثنا علي بن ثابت، ثنا غالب الجزري عن أنس قال‏:‏ لقد قُبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وإنه لينسج له كساء من صوف‏.‏

وهذا شاهد لما تقدم‏.‏

وقال أبو سعيد بن الأعرابي‏:‏ حدثنا سعدان بن نصير، ثنا سفيان بن عيينة عن الوليد بن كثير، عن حسين، عن فاطمة بنت الحسين أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قُبض وله بردان في الجف يعملان، وهذا مرسل‏.‏

وقال أبو القاسم الطَّبرانيّ‏:‏ ثنا الحسن بن إسحاق التَّستريّ، ثنا أبو أمية عمرو بن هشام الحرَّنيّ، ثنا عثمان بن عبد الرحمن بن علي بن عروة عن عبد الملك ابن أبي سليمان، عن عطاء وعمرو بن دينار، عن ابن عباس قال‏:‏ كان لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سيف قائمته من فضة وقبيعته، وكان يسميه‏:‏ ذا الفقار، وكان له قوس تسمى‏:‏ السداد، وكانت له كنانة تسمى‏:‏ الجمع، وكانت له درع موشحة بالنحاس تسمى‏:‏ ذات الفضول، وكانت له حربة تسمى‏:‏ السغاء، وكان له مجن يسمى‏:‏ الذقن، وكان له ترس أبيض يسمى‏:‏ الموجز، وكان له فرس أدهم يسمى‏:‏ السكب، وكان له سرج يسمى‏:‏ الداج، وكان له بغلة شهباء يقال لها‏:‏ دلدل، وكانت له ناقة تسمى‏:‏ القصواء، وكان له حمار يقال له‏:‏ يعفور، وكان له بساط يسمى‏:‏ الكره، وكان له نمرة تسمى‏:‏ النمر، وكانت له ركوة تسمى‏:‏ الصادر، وكانت له مرآة تسمى‏:‏ المرآة، وكان له مقراض يسمى‏:‏ الجاح، وكان له قضيب شوحط يسمى‏:‏ الممشوق‏.‏

قلت‏:‏ قد تقدم عن غير واحد من الصحابة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يترك ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة، سوى بغلة وأرض جعلها صدقة‏.‏

وهذا يقتضي أنه عليه السلام نجز العتق في جميع ما ذكرناه من العبيد والإماء والصدقة في جميع ما ذكر من السلاح، والحيوانات، والأثاث، والمتاع مما أوردناه ومالم نورده‏.‏

وأما بغلته فهي‏:‏ الشهباء، وهي‏:‏ البيضاء أيضاً‏:‏ والله أعلم، وهي التي أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية، واسمه‏:‏ جريج بن ميناء فيما أهدي من التحف، وهي التي كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم راكبها يوم حنين وهو في نحور العدو ينوه باسمه الكريم شجاعة وتوكلاً على الله - عز وجل -، فقد قيل‏:‏ إنها عمَّرت بعده حتى كانت عند علي ابن أبي طالب في أيام خلافته، وتأخرَّت أيامها حتى كانت بعد علي عند عبد الله بن جعفر فكان يجش لها الشعير حتى تأكله من ضعفها بعد ذلك‏.‏

وأما حماره‏:‏ يعفور، ويصغَّر فيقال له‏:‏ عفير، فقد كان عليه السلام يركبه في بعض الأحايين‏.‏

وقد روى أحمد من حديث محمد بن إسحاق عن يزيد ابن أبي حبيب، عن يزيد بن عبد الله العوفيّ، عن عبد الله بن رزين، عن علي قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يركب حماراً يقال له‏:‏ عفير‏.‏

ورواه أبو يعلى من حديث عون بن عبد الله عن ابن مسعود، وقد ورد في أحاديث عدة أنه عليه السلام ركب الحمار‏.‏

وفي الصحيحين‏:‏ أنه عليه السلام مرَّ وهو راكب حماراً بمجلس فيه عبد الله ابن أبي بن سلول، وأخلاط من المسلمين، والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، فنزل ودعاهم إلى الله عز وجل - وذلك قبل وقعة بدر - وكان قد عزم على عيادة سعد بن عبادة‏.‏

فقال له عبد الله‏:‏ لا أحسن مما تقول أيها المرء، فإن كان حقاً فلا تغشنا به في مجالسنا، وذلك قبل أن يظهر الإسلام، ويقال‏:‏ إنه خمَّر أنفه لما غشيتهم عجاجة الدابة‏.‏

وقال‏:‏ لا تؤذنا بنتن حمارك‏.‏

فقال له عبد الله بن رواحة‏:‏ والله لريح حمار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أطيب من ريحك‏.‏

وقال عبد الله‏:‏ بل يا رسول الله أغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك‏.‏

فتثاور الحيان وهموا أن يقتتلوا، فسكنهم رسول الله، ثم ذهب إلى سعد بن عبادة، فشكى إليه عبد الله ابن أُبي‏.‏

فقال‏:‏ ارفق به يا رسول الله فوالذي أكرمك بالحق لقد بعثك الله بالحق، وإنا لننظم له الخدر لنملكه علينا، فلما جاء الله بالحق شرق بريقه‏.‏

وقد قدمنا أنه ركب الحمار في بعض أيام خيبر، وجاء أنه أردف معاذاً على حمار، ولو أوردناها بألفاظها وأسانيدها لطال الفصل، والله أعلم‏.‏

فأما ما ذكره القاضي عياض بن موسى السبتي في كتابه ‏(‏الشفا‏)‏ وذكره قبل إمام الحرمين في كتابه ‏(‏الكبير في أصول الدين‏)‏ وغيرهما أنه كان لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حمار يسمى‏:‏ زياد بن شهاب، وأن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يبعثه ليطلب له بعض أصحابه، فيجيء إلى باب أحدهم فيقعقعه، فيعلم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يطلبه، وأنه ذكر للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه سلالة سبعين حماراً كل منها ركبه نبي، وأنه لما توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذهب فتردى في بئر فمات، فهو حديث لا يعرف له إسناد بالكلية، وقد أنكره غير واحد من الحفاظ منهم‏:‏ عبد الرحمن ابن أبي حاتم، وأبوه - رحمهما الله -‏.‏

وقد سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي رحمه الله ينكره غير مرة إنكاراً شديداً‏.‏

وقال الحافظ أبو نعيم في كتاب ‏(‏دلائل النبوة‏)‏‏:‏ ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى العنبري، ثنا أحمد بن محمد بن يوسف، ثنا إبراهيم بن سويد الجذوعي، حدثني عبد الله بن أذين الطائي عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل قال‏:‏ أتى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو بخيبر حمار أسود فوقف بين يديه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أنت‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ أنا عمرو بن فلان كنا، سبعة إخوة كلنا ركبنا الأنبياء، وأنا أصغرهم وكنت لك، فملكني رجل من اليهود فكنت إذا ذكرتك كبوت به فيوجعني ضرباً‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏فأنت يعفور‏)‏‏)‏‏.‏

هذا حديث غريب جداً‏.‏

فصل إيراد ما بقي من متعلقات السيرة الشريفة‏.‏

وهذا أوان إيراد ما بقي علينا من متعلقات السيرة الشريفة، وذلك أربعة كتب‏:‏

الأول‏:‏ في ‏(‏الشَّمائل‏)‏‏.‏

الثاني‏:‏ في ‏(‏الدَّلائل‏)‏‏.‏

الثالث‏:‏ في ‏(‏الفضائل‏)‏‏.‏

الرابع‏:‏ في ‏(‏الخصائص‏)‏‏.‏

وبالله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم‏.‏

كتاب الشمائل ‏(‏شمائل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبيان خلقه الطاهر‏)‏

قد صنف الناس في هذا قديماً وحديثاً كتباً كثيرة مفردة وغير مفردة، ومن أحسن من جمع في ذلك فأجاد وأفاد‏:‏ الإمام ‏(‏أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَورة التّرمذيّ‏)‏ رحمه الله، أفرد في هذا المعنى كتابه المشهور ‏(‏بالشَّمائل‏)‏ ولنا به سماع متصل إليه، ونحن نورد عيون ما أورده فيه، ونزيد عليه أشياء مهمة لا يستغنى عنها المحدِّث والفقيه‏.‏

ولنذكر أولاً‏:‏ بيان حسنه الباهر الجميل، ثم نشرع بعد ذلك في إيراد الجمل والتفاصيل، فنقول - والله حسبنا ونعم الوكيل -‏:‏

باب ما ورد في حسنه الباهر

قال البخاري‏:‏ ثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله، ثنا إسحاق بن منصور، ثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه، عن أبي إسحاق قال‏:‏ سمعت البراء بن عازب يقول‏:‏ كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خُلقاً، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير‏.‏

وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب، عن إسحاق بن منصور‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا جعفر بن عمر، ثنا شعبة عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال‏:‏ كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مربوعاً بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئاً قط أحسن منه‏.‏

قال يوسف ابن أبي إسحاق عن أبيه‏:‏ إلى منكبيه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء قال‏:‏ ما رأيت من ذي لمة أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم له شعر يضرب منكبيه، بعيد ما بين المنكبين، ليس بالطويل ولا بالقصير‏.‏

وقد رواه مسلم وأبو دواد والتّرمذيّ والنسائي من حديث وكيع به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أسود بن عامر، ثنا إسرائيل، أنا أبو إسحاق‏.‏

ح وحدثنا يحيى ابن أبي بكير، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال‏:‏ سمعت البراء يقول‏:‏ ما رأيت أحداً من خلق الله أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وإن جمته لتضرب إلى منكبيه‏.‏

قال ابن أبي بكير‏:‏ لتضرب قريباً من منكبيه‏.‏

قال - يعني‏:‏ ابن إسحاق -‏:‏ وقد سمعته يحدِّث به مراراً ما حدَّث به قط إلا ضحك‏.‏

وقد رواه البخاري في ‏(‏اللباس‏)‏‏.‏

والتّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏‏.‏

والنسائي في ‏(‏الزينة‏)‏ من حديث إسرائيل به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا أبو نعيم، ثنا زهير عن أبي إسحاق قال‏:‏ سئل البراء بن عازب، أكان وجه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مثل السيف‏؟‏

قال‏:‏ لا، بل مثل القمر‏.‏

ورواه التّرمذيّ من حديث زهير بن معاوية الجعفي الكوفي عن أبي إسحاق السبيعي، واسمه‏:‏ عمرو بن عبد الله الكوفي عن البراء بن عازب به‏.‏

وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ في ‏(‏الدلائل‏)‏‏:‏ أخبرنا أبو الحسن ابن الفضل القطان ببغداد، أنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، ثنا أبو يوسف يعقوب بن سفيان، ثنا أبو نعيم وعبد الله عن إسرائيل، عن سماك أنه سمع جابر بن سمرة قال له رجل‏:‏ أكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجهه مثل السيف‏؟‏

قال‏:‏ لا بل مثل الشمس والقمر مستديراً‏.‏

وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن عبيد الله بن موسى به‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد مطولاً فقال‏:‏ ثنا عبد الرزاق، أنا إسرائيل عن سماك أنه سمع جابر بن سمرة يقول‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد شمط مقدم رأسه ولحيته؛ فإذا ادَّهن ومشطهن لم ينبين؛ وإذا شعث رأسه تبين؛ وكان كثير الشعر واللحية‏.‏

فقال رجل‏:‏ وجهه مثل السيف‏؟‏

قال‏:‏ لا بل مثل الشمس والقمر مستديراً‏.‏

قال‏:‏ ورأيت خاتمه عند كتفه مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده‏.‏

وقال الحافظ البيهقيّ‏:‏ أنا أبو طاهر الفقيه، أنا أبو حامد بن بلال، ثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا المحاربي عن أشعث، عن أبي إسحاق، عن جابر بن سمرة قال‏:‏ رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ليلة أضحيان وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر‏.‏

هكذا رواه التّرمذيّ والنسائي جميعاً عن هناد بن اليسري، عن عيثر بن القاسم، عن أشعث بن سوار‏.‏

قال النسائي‏:‏ وهو ضعيف؛ وقد أخطأ والصواب أبو إسحاق عن البراء‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث أشعث بن سوار، وسألت محمد بن إسماعيل - يعني‏:‏ البخاري - قلت‏:‏ حديث أبي إسحاق عن البراء أصح، أم حديثه عن جابر، فرأى كلا الحديثين صحيحاً‏.‏

وثبت في صحيح البخاري عن كعب بن مالك في حديث التوبة قال‏:‏ وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وقد تقدم الحديث بتمامه‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا سعيد، ثنا يونس ابن أبي يعفور العبديّ عن ابن إسحاق الهمدانيّ، عن امرأة من همدان سماها قالت‏:‏ حججت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة بيده محجن عليه بردان أحمران يكاد يمس منكبه، إذا مر بالحجر استلمه بالمحجن، ثم يرفعه إليه فيقبِّله‏.‏

قال أبو إسحاق‏:‏ فقلت لها‏:‏ شبهته‏؟‏

قالت‏:‏ كالقمر ليلة البدر لم أر قبله ولا بعده مثله‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا عبد الله بن موسى التيمي، ثنا أسامة بن زيد عن أبي عبيدة ابن محمد بن عمار بن ياسر قال‏:‏ قلت للربيع بنت معوذ‏:‏ صفي لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قالت‏:‏ يا بني لو رأيته رأيت الشمس طالعة‏.‏

ورواه البيهقيّ من حديث يعقوب بن محمد الزهري عن عبد الله بن موسى التيمي بسنده فقالت‏:‏ لو رأيته لقلت الشمس طالعة‏.‏

وثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ دخل علي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مسروراً تبرق أسارير وجهه‏.‏ الحديث‏.‏
صفة لون رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم

قال البخاريّ‏:‏ ثنا يحيى بن بكير، ثنا اللَّيث عن خالد - هو ابن يزيد - عن سعيد - يعني‏:‏ ابن هلال -، عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن قال‏:‏ سمعت أنس بن مالك يصف النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ كان ربعة من القوم، ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون ليس بأبيض أمهق ولا بآدم، ليس بجعد قطط ولا سبط رجل، أنزل عليه وهو ابن أربعين فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه، وبالمدينة عشر سنين، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء‏.‏

قال ربيعة‏:‏ فرأيت شعراً من شعره فإذا هو أحمر، فسألت فقيل‏:‏ أحمر من الطيب‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ ثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك بن أنس عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمعه يقول‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم، وليس بالجعد القطط ولا بالسبط، بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين، فتوفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء‏.‏

وكذا رواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك‏.‏

ورواه أيضاً عن قتيبة، ويحيى بن أيوب وعلي بن حجر، ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر، وعن القاسم بن زكريا عن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، ثلاثتهم عن ربيعة به‏.‏

ورواه التّرمذيّ والنسائي جميعاً عن قتيبة عن مالك به‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ حسن صحيح‏.‏

قال الحافظ البيهقيّ‏:‏ ورواه ثابت عن أنس فقال‏:‏ كان أزهر اللون‏.‏

قال‏:‏ ورواه حميد كما أخبرنا، ثم ساق بإسناده عن يعقوب بن سفيان، حدثني عمرو بن عون وسعيد بن منصور قالا‏:‏ حدثنا خالد بن عبد الله عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أسمر اللون‏.‏

وهكذا روى هذا الحديث الحافظ أبو بكر البزَّار عن علي، عن خالد بن عبد الله، عن حميد، عن أنس، وحدثناه محمد بن المثنى قال‏:‏ حدثنا عبد الوهاب قال‏:‏ حدثنا حميد عن أنس قال‏:‏ لم يكن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالطويل ولا بالقصير، وكان إذا مشى تكفأ، وكان أسمر اللون‏.‏

ثم قال البزَّار‏:‏ لا نعلم رواه عن حميد إلا خالد وعبد الوهاب‏.‏

ثم قال البيهقيّ رحمه الله‏:‏ أخبرنا أبو الحسين ابن بشران، أنا أبو جعفر البزَّار، ثنا يحيى بن جعفر، ثنا علي بن عاصم، ثنا حميد سمعت أنس بن مالك يقول، فذكر الحديث في صفة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ كان أبيض بياضه إلى السمرة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا السياق أحسن من الذي قبله؛ وهو يقتضي أن السمرة التي كانت تعلو وجهه عليه السلام من كثرة أسفاره، وبروزه للشمس، والله أعلم‏.‏

فقد قال يعقوب بن سفيان الفسوي أيضاً‏:‏ حدثني عمرو بن عون وسعيد بن منصور قالا‏:‏ ثنا خالد بن عبد الله بن الجريري عن أبي الطّفيل قال‏:‏ رأيت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يبقَ أحد رآه غيري‏.‏

فقلنا له‏:‏ صف لنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقال‏:‏ كان أبيض مليح الوجه‏.‏

ورواه مسلم عن سعيد بن منصور به‏.‏

ورواه أيضاً أبو داود من حديث سعيد بن أياس الجريري عن أبي الطّفيل عامر بن واثلة الليثي قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أبيض مليحاً إذا مشى كأنما ينحط في صبوب‏.‏

لفظ أبي داود‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا زيد بن هارون، حدثنا الجريري قال‏:‏ كنت أطوف مع أبي الطّفيل فقال‏:‏ ما بقي أحد رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غيري‏.‏

قلت‏:‏ ورأيته‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ كيف كانت صفته‏؟‏

قال‏:‏ كان أبيض مليحاً مقصداً‏.‏

وقد رواه التّرمذيّ عن سفيان بن وكيع ومحمد بن بشار، كلاهما عن يزيد بن هارون به‏.‏

وقال البيهقيّ‏:‏ أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا عبد الله بن جعفر أو أبو الفضل محمد بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا واصل بن عبد الأعلى الأسدي، ثنا محمد بن فضيل عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي جحيفة قال‏:‏ رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أبيض قد شاب، وكان الحسن بن علي يشبهه‏.‏

ثم قال رواه مسلم عن واصل بن عبد الأعلى، ورواه البخاري عن عمرو بن علي، عن محمد بن فضيل، وأصل الحديث كما ذكر في الصحيحين، ولكن بلفظ آخر كما سيأتي‏.‏

وقال محمد بن إسحاق عن الزهري، عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم، عن أبيه أن سراقة بن مالك قال‏:‏ أتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلما دنوت منه وهو على ناقته جعلت أنظر إلى ساقه كأنها جُمَّارة‏.‏

وفي رواية يونس عن ابن إسحاق‏:‏ والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جُمَّارة‏.‏

قلت‏:‏ - يعني‏:‏ من شدة بياضها كأنها جمارة طلع النخل -‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية، عن مولى لهم - مزاحم ابن أبي مزاحم -، عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، عن رجل من خزاعة يقال له‏:‏ محرش أو مخرش - لم يكن سفيان يقف على اسمه، وربما قال‏:‏ محرش ولم أسمعه أنا -‏:‏ أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم خرج من الجعرانة ليلاً فاعتمر ثم رجع فأصبح بها كبائت، فنظرت إلى ظهره كأنها سبيكة فضة‏.‏

تفرَّد به أحمد‏.‏

وهكذا رواه يعقوب بن سفيان عن الحميدي، عن سفيان بن عيينة وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء، حدثني عمرو بن الحارث، حدثني عبد الله بن سالم عن الزُّبيري، أخبرني محمد بن مسلم عن سعيد بن المسيّب أنه سمع أبا هريرة يصف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ كان شديد البياض‏.‏

وهذا إسناد حسن ولم يخرِّجوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا حسن، ثنا عبد الله بن لهيعة، ثنا أبو يونس سليم بن جبير - مولى أبي هريرة - أنه سمع أبا هريرة يقول‏:‏ ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان كأن الشمس تجري في جبهته، وما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كأنما الأرض تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث‏.‏

ورواه التّرمذيّ عن قتيبة، عن ابن لهيعة به‏.‏

وقال‏:‏ كأن الشمس تجري في وجهه‏.‏

وقال‏:‏ غريب‏.‏

ورواه البيهقيّ من حديث عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد المصري، عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة وقال‏:‏ كأنما الشمس تجري في وجهه‏.‏

وكذلك رواه ابن عساكر من حديث حرملة عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة فذكره وقال‏:‏ كأنما الشمس تجري في وجهه‏.‏

وقال البيهقيّ‏:‏ أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا إبراهيم بن عبد الله، ثنا حجاج، ثنا حماد عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي - يعني‏:‏ ابن الحنفية - عن أبيه قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أزهر اللون‏.‏

وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ حدثنا المسعوديّ عن عثمان بن عبد الله بن هرمز، عن نافع بن جبير، عن علي ابن أبي طالب قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مشرَّباً وجهه حمرة‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا ابن الأصبهانيّ، ثنا شريك عن عبد الملك بن عمير، عن نافع بن جبير قال‏:‏ وصف لنا علي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ كان أبيض مشرَّب الحمرة‏.‏

وقد رواه التّرمذيّ بنحوه من حديث المسعوديّ عن عثمان بن مسلم، عن هرمز وقال‏:‏ هذا حديث صحيح‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ وقد روي هكذا عن علي من وجه آخر‏.‏

قلت‏:‏ رواه ابن جريج عن صالح بن سعيد، عن نافع بن جبير، عن علي قال البيهقيّ‏:‏ ويقال‏:‏ إن المشرَّب فيه حمرة ماضحاً للشمس والرياح، وما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر‏.‏

صفة وجه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وذكر محاسنه

فرقه وجبينه وحاجبيه وعينيه وأنفه

وقد تقدم قول أبي الطّفيل‏:‏ كان أبيض مليح الوجه‏.‏

وقول أنس‏:‏ كان أزهر اللون‏.‏

وقول البراء وقد قيل له‏:‏ أكان وجه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مثل السيف - يعني‏:‏ في صقاله -‏؟‏

فقال‏:‏ لا، بل مثل القمر‏.‏

وقول جابر بن سمرة وقد قيل له‏:‏ مثل ذلك‏.‏

فقال‏:‏ لا بل مثل الشمس والقمر مستديراً‏.‏

وقول الربيع بنت معوذ‏:‏ لو رأيته لقلت الشمس طالعة‏.‏

وفي رواية‏:‏ لرأيت الشمس طالعة‏.‏

وقال أبو إسحاق السبيعي عن امرأة من همدان حجت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسألها عنه‏.‏

فقالت‏:‏ كان كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله ولا بعده مثله‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ كأن الشمس تجري في وجهه‏.‏

وفي رواية‏:‏ في جبهته‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان وحسن بن موسى قالا‏:‏ ثنا حماد - وهو ابن سلمة - عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن أبيه قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ضخم الرأس، عظيم العينين، أهدب الأشفار، مشرَّب العينين بحمرة، كثّ اللحية، أزهر اللون، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى كأنما يمشي في صعد، وإذا التفت التفت جميعاً‏.‏

تفرَّد به أحمد‏.‏

وقال أبو يعلى‏:‏ حدثنا زكريا ويحيى الواسطيّ، ثنا عباد بن العوام، ثنا الحجاج عن سالم المكي، عن ابن الحنفية، عن علي أنه سئل عن صفة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ كان لا قصيراً ولا طويلاً، حسن الشعر رَجله مشرَّباً وجهه حمرة، ضخم الكراديس، شثن الكعبين والقدمين، عظيم الرأس، طويل المسرُبة، لم أر قبله ولا بعده مثله، إذا مشى تكفأ كأنما ينزل من صبب‏.‏

وقال محمد بن سعد عن الواقديّ‏:‏ حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب عن أبيه، عن جده، عن علي قال‏:‏ بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى اليمن فإني لأخطب يوماً على الناس، وحبر من أحبار يهود واقف في يده سفر ينظر فيه، فلما رآني قال‏:‏ صف لنا أبا القاسم‏.‏

فقال علي‏:‏ رسول الله ليس بالقصير ولا بالطويل البائن، وليس بالجعد القطط ولا بالسبط، هو رجل الشعر أسوده، ضخم الرأس، مشرَّباً لونه حمرة، عظيم الكراديس، شثن الكفين والقدمين، طويل المسربة، وهو الشعر الذي يكون من النحر إلى السرة، أهدب الأشفار، مقرون الحاجبين، صلت الجبين، بعيد ما بين المنكبين إذا مشى تكفأ كأنما ينزل من صبب، لم أر قبله مثله ولا بعده مثله‏.‏

قال علي‏:‏ ثم سكتُّ‏.‏

فقال لي الحبر‏:‏ وماذا‏؟‏

قال علي‏:‏ هذا ما يحضرني‏.‏

قال الحبر‏:‏ في عينيه حمرة، حسن اللحية، حسن الفم، تام الأذنين، يقبل جميعاً ويدبر جميعاً‏.‏

فقال علي‏:‏ والله هذه صفته‏.‏

قال الحبر‏:‏ وشيء آخر‏.‏

قال علي‏:‏ وما هو‏؟‏

قال الحبر‏:‏ وفيه جناء‏.‏

قال علي‏:‏ هو الذي قلت لك كأنما ينزل من صبب‏.‏

قال الحبر‏:‏ فإني أجد هذه الصفة في سفر إياي ونجده يُبعث في حرم الله وأمنه وموضع بيته، ثم يهاجر إلى حرم يحرّمه هو ويكون له حرمة كحرمة الحرم الذي حرم الله، ونجد أنصاره الذين هاجر إليهم قوماً من ولد عمر بن عامر أهل نخل، وأهل الأرض قبلهم يهود‏.‏

قال علي‏:‏ هو هو، وهو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال الحبر‏:‏ فإني أشهد أنه نبي، وأنه رسول الله إلى الناس كافة، فعلى ذلك أحيا وعليه أموت، وعليه أُبعث إن شاء الله‏.‏

قال‏:‏ فكان يأتي علياً فيعلمه القرآن، ويخبره بشرائع الإسلام، ثم خرج علي والحبر من هنالك حتى مات في خلافة أبي بكر، وهو مؤمن برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مصدِّق به‏.‏

وهذه الصفة قد وردت عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب من طرق متعددة سيأتي ذكرها‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا خالد بن عبد الله عن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ سئل أو قيل لعلي‏:‏ انعت لنا رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ كان أبيض مشرَّباً بياضه حمرة، وكان أسود الحدقة أهدب الأشفار‏.‏

قال يعقوب‏:‏ وحدثنا عبد الله بن سلمة وسعيد بن منصور قالا‏:‏ ثنا عيسى بن يونس، ثنا عمر بن عبد الله - مولى عفرة - عن إبراهيم بن محمد عن ولد علي قال‏:‏ كان علي إذا نُعِت رسول الله‏.‏

قال‏:‏ كان في الوجه تدوير، أبيض، أدعج العينين، أهدب الأشفار‏.‏

قال الجوهري‏:‏ الدعج شدة سواد العينين مع سعتها‏.‏

وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ ثنا شعبة، أخبرني سماك سمعت جابر بن سمرة يقول‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أشهل العينين، منهوس العقب، ضليع الفم‏.‏

هكذا وقع في رواية أبي داود عن شعبة‏:‏ أشهل العينين‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ والشهلة حمرة في سواد العين، والشكلة حمرة في بياض العين‏.‏

قلت‏:‏ وقد روى هذا الحديث مسلم في صحيحه عن أبي موسى وبندار، كلاهما عن أحمد بن منيع، عن أبي قطن، عن شعبة به‏.‏

وقال‏:‏ أشكل العينين‏.‏

وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

ووقع في صحيح مسلم ‏(‏تفسير الشكلة‏)‏ بطول أشفار العينين، وهو من بعض الرواة، وقول أبي عبيد حمرة في بياض العين أشهر وأصح، وذلك يدل على القوة والشجاعة، والله تعالى أعلم‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثني عمرو بن الحرث، حدثني عبد الله بن سالم عن الزُّبيدي، حدثني الزهري عن سعيد بن المسيّب أنه سمع أبا هريرة يصف رسول الله فقال‏:‏ كان مفاض الجبين أهدب الأشفار‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا أبو غسان، ثنا جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي، حدثني رجل بمكة عن ابن لأبي هالة التَّميميّ، عن الحسن بن علي، عن خاله قال‏:‏ كان رسول الله واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ في غير قَرَن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان‏.‏

وقال يعقوب‏:‏ ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا عبد العزيز ابن أبي ثابت الزهري، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله أفلج الثنيتين، وكان إذا تكلَّم رئي كالنور بين ثناياه‏.‏

ورواه التّرمذيّ عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن إبراهيم بن المنذر به‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا عباد بن حجاج عن سماك، عن جابر بن سمرة قال‏:‏ كنت إذا نظرت المنذر به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قلت‏:‏ أكحل العينين وليس بأكحل، وكان في ساقي رسول الله حموشة، وكان لا يضحك إلا تبسُّماً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا وكيع، حدثني مجمع بن يحيى عن عبد الله بن عمران الأنصاري، عن علي والمسعوديّ، عن عثمان بن عبد الله، عن هرمز، عن نافع بن جبير، عن علي قال‏:‏ كان رسول الله ليس بالقصير ولا بالطويل، ضخم الرأس واللحية، شثن الكفين والقدمين، والكراديس مشرَّباً وجهه حمرة، طويل المسربة، إذا مشى تكفأ كأنما يقلع من صخر لم أر قبله ولا بعده مثله‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وقد رواه عبد الله بن داود الخريبي عن مجمع، فأدخل بين ابن عمران وبين علي رجلاً غير مسمى، ثم أسند من طريق عمرو بن علي الفلاس عن عبد الله بن داود، ثنا مجمع بن يحيى الأنصاري عن عبد الله بن عمران، عن رجل من الأنصار قال‏:‏ سألت علي ابن أبي طالب، وهو محْتبٍ بحمالة سيفه في مسجد الكوفة عن نعت رسول الله‏؟‏

فقال‏:‏ كان أبيض اللون مشرَّباً حمرة، أدعج العينين، سبط الشعر، دقيق المسربة، سهل الخدّ، كثّ اللحية، ذا وفرة كأن عنقه إبريق فضة، له شعر من لبته إلى سرته كالقضيب ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شثن الكفين والقدم، إذا مشى كأنما ينحدر من صبب، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر، وإذا التفت التفت جميعاً، ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالعاجز ولا اللأم، كأن عرقه في وجهه اللؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من المسك الأذفر لم أرَ قبله ولا بعده مثله‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا سعيد بن منصور، ثنا نوح بن قيس الحرَّنيّ، ثنا خالد بن خالد التَّميميّ عن يوسف بن مازن المازني أن رجلاً قال لعلي‏:‏ يا أمير المؤمنين إنعت لنا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ كان أبيض مشرَّباً حمرة، ضخم الهامة، أغر، أبلج، أهدب الأشفار‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أسود بن عامر، ثنا شريك عن ابن عمير قال شريك‏:‏ قلت له‏:‏ عمن يا أبا عميرٍ، عمن حدَّثه ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ عن نافع بن جبير، عن أبيه، عن علي قال‏:‏ كان رسول الله ضخم الهامة، مشرَّباً حمرة، شثن الكفين والقدمين، ضخم اللحية، طويل، لم أرَ قبله مثله ولا بعده‏.‏

وقد روي لهذا شواهد كثيرة عن علي، وروي عن عمر نحوه‏.‏

وقال الواقديّ‏:‏ ثنا بكير بن مسمار عن زياد بن سعد قال‏:‏ سألت سعد ابن أبي وقاص هل خضَّب رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ لا، ولا هّم به، كان شيبه في عنفقته وناصيته لو أشاء أن أعدها لعددتها‏.‏

قلت‏:‏ فما صفته‏؟‏

قال‏:‏ كان رجلا ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق ولا بالآدم، ولا بالسبط ولا بالقطط، وكانت لحيته حسنة وجبينه صلتاً مشرَّباً بحمرة، شثن الأصابع، شديد سواد الرأس واللحية‏.‏

وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهانيّ‏:‏ ثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، ثنا يحيى بن حاتم العسكري، ثنا بسر بن مهران، ثنا شريك عن عثمان بن المغيرة، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ إن أول شيء علمته من رسول الله قدمت مكة في عمومة لي فأرشدونا إلى العباس بن عبد المطلب فانتهينا إليه، وهو جالس إلى زمزم، فجلسنا إليه فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة له وفرة جعدة إلى أنصاف أذنيه، أقنى الأنف، براق الثنايا، أدعج العينين، كثّ اللحية، دقيق المسربة، شثن الكفين والقدمين، عليه ثوبان أبيضان كأنه القمر ليلة البدر‏.‏

وذكر تمام الحديث وطوافه عليه السلام بالبيت وصلاته عنده هو وخديجة وعلي ابن أبي طالب، وأنهم سألوا العباس عنه‏.‏

فقال‏:‏ هذا هو ابن أخي‏:‏ محمد بن عبد الله، وهو يزعم أن الله أرسله إلى الناس‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا جعفر، ثنا عوف ابن أبي جميلة عن يزيد الفارسي قال‏:‏ رأيت رسول الله في النوم في زمن ابن عباس قال‏:‏ وكان يزيد يكتب المصاحف‏.‏

قال‏:‏ فقلت لابن عباس‏:‏ إني رأيت رسول الله في النوم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ فإن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الشيطان لا يستطيع أمية يتشبه بي، فمن رآني فقد رآني‏)‏‏)‏ هل تستطيع أن تنعت لنا هذا الرجل الذي رأيت‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم رأيت رجلاً بين الرجلين جسمه، ولحمه أسمر إلى البياض، حسن الضحك، أكحل العينين، جميل دوائر الوجه، قد ملأت لحمتيه من هذه إلى هذه، حتى كادت تملأ نحره‏.‏

قال عوف‏:‏ لا أدري ما كان مع هذا من النعت‏.‏

قال‏:‏ فقال ابن عباس‏:‏ لو رأيته في اليقظة، ما استطعت أن تنعته فوق هذا‏.‏

وقال محمد بن يحيى الذُّهليّ‏:‏ ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن الزهري قال‏:‏ سئل أبو هريرة عن صفة رسول الله فقال‏:‏ أحسن الصفة وأجملها، كان ربعة إلى الطول، ما هو بعيد ما بين المنكبين، أسيل الخدين، شديد سواد الشعر، أكحل العين، أهدب الأشفار، إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها، ليس لها أخمص، إذا وضع رداءه على منكبيه فكأنه سبيكة فضة، وإذا ضحك كاد يتلألأ في الجدر، لم أرَ قبله ولا بعده مثله‏.‏

وقد رواه محمد بن يحيى من وجه آخر متصل فقال‏:‏ ثنا إسحاق بن إبراهيم - يعني‏:‏ الزُّبيدي - حدثني عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم، عن الزُّبيدي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة فذكر نحو ما تقدَّم‏.‏

ورواه الذُّهليّ عن إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شميل، عن صالح، عن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ كان رسول الله كأنما صيغ من فضة، رجل الشعر، مفاض البطن، عظيم مشاش المنكبين، يطأ بقدمه جميعاً، إذا أقبل أقبل جميعاً، وإذا أدبر أدبر جميعاً‏.‏

ورواه الواقديّ‏:‏ حدثني عبد الملك عن سعيد بن عبيد بن السباق، عن أبي هريرة قال‏:‏ كان رسول الله ششن القدمين والكفين، ضخم الساقين، عظيم الساعدين، ضخم العضدين والمنكبين بعيد ما بينهما، رحب الصدر، رجل الرأس، أهدب العينين، حسن الفم، حسن اللحية، تام الأذنين، ربعة من القوم، لا طويل ولا قصير، أحسن الناس لوناً، يُقبل معاً ويدبر معاً، لم أرَ مثله ولم أسمع بمثله‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ‏:‏ أنا أبو عبد الرحمن السلميّ، ثنا أبو الحسن المحموديّ المروزي، ثنا أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ، ثنا محمد بن المثنى، ثنا عثمان بن عمر، ثنا حرب بن سريج - صاحب الحلواني -، حدثني رجل بلعدر به، حدثني جدي قال‏:‏ انطلقت إلى المدينة أذكر الحديث في رؤية رسول الله قال‏:‏ فإذا رجل حسن الجسم، عظيم الجمة، دقيق الأنف، دقيق الحاجبين، وإذا من لدن نحره إلى سرته كالخيط الممدود، شعره ورأسه من طمرين، فدنا مني وقال‏:‏ السلام عليك‏.‏

ذكر شَعره عليه السلام‏

قد ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، فسدل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم فرق بعده‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا حماد بن خالد، ثنا مالك، ثنا زياد بن سعد عن الزهري، عن أنس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سدل ناصيته ما شاء أن يسدل، ثم فرق بعد‏.‏

تفرَّد به من هذا الوجه‏.‏

وقال محمد بن إسحاق بن جعفر بن الزبير عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ أنا فرقت لرسول الله رأسه، صدعت فرقه عن يافوخه وأرسلت ناصيته بين عينيه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد قال محمد بن جعفر بن الزبير - وكان فقيهاً مسلماً -‏:‏ ما هي إلا سيما من سيما النصارى تمسكت بها النصارى من الناس‏.‏

وثبت في الصحيحين عن البراء أن رسول الله كان يضرب شعره إلى منكبيه‏.‏

وجاء في الصحيح عنه وعن غيره‏:‏ إلى أنصاف أذنيه‏.‏

ولا منافاة بين الحالين، فإن الشعر تارة يطول، وتارة يقصر منه، فكلٌ حكى بحسب ما رأى‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا ابن نفيل، ثنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ كان شعر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فوق الوفرة ودون الجمة‏.‏

وقد ثبت أنه عليه السلام حلق جميع رأسه في حجة الوداع، وقد مات بعد ذلك بأحد وثمانين يوماً - صلوات الله وسلامه عليه - دائماً إلى يوم الدين‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا عبد الله بن مسلم ويحيى بن عبد الحميد قالا‏:‏ ثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال‏:‏ قالت أم هانئ‏:‏ قدم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مكة قدمة وله أربع غدائر - تعني‏:‏ ضفائر -‏.‏

وروى التّرمذيّ من حديث سفيان بن عيينة، وثبت في الصحيحين من حديث ربيعة عن أنس قال بعد ذكره شعر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه ليس بالسبط ولا بالقطط قال‏:‏ وتوفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء‏.‏

وفي صحيح البخاري من حديث أيوب عن ابن سيرين أنه قال‏:‏ قلت لأنس‏:‏ أخضب رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ إنه لم يرَ من الشيب إلا قليلاً‏.‏

وكذا روى هو ومسلم من طريق حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس‏.‏

وقال حماد بن سلمة عن ثابت‏:‏ قيل لأنس‏:‏ هل كان شاب رسول الله‏؟‏

فقال‏:‏ ما شانه الله بالشيب ما كان في رأسه إلا سبع عشرة أو ثماني عشرة شعرة‏.‏

وعند مسلم من طريق المثنى بن سعيد عن قتادة، عن أنس أن رسول الله لم يختضب إنما كان شمط عند العنفقة يسيراً، وفي الصدغين يسيراً، وفي الرأس يسيراً‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا أبو نعيم، ثنا همام عن قتادة قال‏:‏ سألت أنساً هل خضب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏

قال‏:‏ لا، إنما كان شيء في صدغيه‏.‏

وروى البخاري عن عصام بن خالد، عن جرير بن عثمان قال‏:‏ قلت لعبد الله بن بسر السلميّ رأيت رسول الله أكان شيخاً‏؟‏

قال‏:‏ كان في عنفقته شعرات بيض‏.‏

وتقدم عن جابر بن سمرة مثله‏.‏

وفي الصحيحين من حديث أبي إسحاق عن أبي جحيفة قال‏:‏ رأيت رسول الله هذه منه بيضاء - يعني‏:‏ عنفقته -‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا عبد الله بن عثمان عن أبي حمزة السكري، عن عثمان بن عبد الله بن موهب القرشي قال‏:‏ دخلنا على أم سلمة، فأخرجت إلينا من شعر رسول الله فإذا هو أحمر مصبوغ بالحناء والكتم‏.‏

رواه البخاري عن إسماعيل بن موسى، عن سلام ابن أبي مطيع، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن أم سلمة به‏.‏

وقال البيهقيّ‏:‏ أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصَّغانيّ، ثنا يحيى بن بكير، ثنا إسرائيل عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال‏:‏ كان عند أم سلمة جلجل من فضة ضخم فيه من شعر رسول الله، فكان إذا أصاب إنساناً الحمى بعث إليها فحضحضته فيه، ثم ينضحه الرجل على وجهه‏.‏

قال‏:‏ فبعثني أهلي إليها، فأخرجته فإذا هو هكذا - وأشار إسرائيل بثلاث أصابع - وكان فيه خمس شعرات حمر‏.‏

رواه البخاري عن مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا أبو نعيم، ثنا عبيد الله بن إياد، حدثني إياد عن أبي رمثة قال‏:‏ انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلما رأيته قال‏:‏ هل تدري من هذا‏؟‏

قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ إن هذا رسول الله، فاقشعررت حين قال ذلك، وكنت أظن أن رسول صلَّى الله عليه وسلَّم شيء لا يشبه الناس، فإذا هو بشر ذو وفرة بها ردع من حناء، وعليه بردان أخضران‏.‏

ورواه أبو داود والتّرمذيّ والنسائي من حديث عبيد الله بن إياد بن لقيط عن أبيه، عن أبي رمثة - واسمه‏:‏ حبيب بن حيان - ويقال‏:‏ رفاعة بن يثربي‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من حديث إياد كذا قال‏.‏

وقد رواه النسائي أيضاً من حديث سفيان الثوري وعبد الملك بن عمير، كلاهما عن إياد بن لقيط به ببعضه‏.‏

ورواه يعقوب بن سفيان أيضاً عن محمد بن عبد الله المخرميّ، عن أبي سفيان الحميريّ، عن الضحاك بن حمزة بن غيلان بن جامع، عن إياد بن لقيط بن أبي رمثة قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يخضب بالحناء والكتم، وكان شعره يبلغ كتفيه أو منكبيه‏.‏


وقال أبو داود‏:‏ ثنا عبد الرحيم بن مطرف بن سفيان، ثنا عمرو بن محمد، أنا ابن أبي داود عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يلبس النعال السبتية، ويصفّر لحيته بالورس والزعفران، وكان ابن عمر يفعل ذلك‏.‏

ورواه النسائي عن عبدة بن عبد الرحيم المروزي، عن عمرو بن محمد المنقريّ به‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ‏:‏ أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، ثنا الحسن بن محمد بن زياد، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا يحيى بن آدم‏.‏

ح وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل، أنا عبد الله بن جعفر، أنا يعقوب بن سفيان، حدثني أبو جعفر محمد بن عمر بن الوليد الكندي الكوفي، ثنا يحيى بن آدم، ثنا شريك عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ كان شيب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نحواً من عشرين شعرة‏.‏

وفي رواية إسحاق‏:‏ رأيت شيب رسول الله نحواً من عشرين شعرة بيضاء في مقدمه‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ وحدثنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أحمد بن سلمان الفقيه، ثنا هلال بن العلاء الرقي، ثنا حسين بن عياش الرقي، ثنا جعفر بن برقان، ثنا عبد الله بن محمد بن عقيل قال‏:‏ قدم أنس بن مالك المدينة، وعمر بن عبد العزيز وال عليها فبعث إليه عمر وقال للرسول‏:‏ سله هل خضب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فإني رأيت شعراً من شعره قد لوِّن‏.‏

فقال أنس‏:‏ إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد منع بالسواد، ولو عددت ما أقبل على من شيبه في رأسه ولحيته ما كنت أزيد على إحدى عشرة شيبة، وإنما هو الذي لون من الطيب الذي كان يطيب به شعر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو الذي غيَّر لونه‏.‏

قلت‏:‏ ونفي أنس للخضاب معارض بما تقدم عن غيره من إثباته، والقاعدة المقررة أن الإثبات مقدم على النفي، لأن المثبت معه زيادة علم ليست عند النافي، وهكذا إثبات غيره لزيادة ما ذكر من السبب مقدم، لا سيما عن ابن عمر الذي المظنون أنه تلقى ذلك عن أخته أم المؤمنين حفصة، فإن اطلاعها أتم من إطلاع أنس، لأنها ربما أنها فلَّت رأسه الكريم عليه الصلاة والسلام‏.‏

ما ورد في منكبيه وساعديه وإبطيه وقدميه وكعبيه صلَّى الله عليه وسلَّم

قد تقدَّم ما أخرج البخاري ومسلم من حديث شعبة عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مربوعاً بعيداً ما بين المنكبين‏.‏

وروى البخاري عن أبي النعمان، عن جرير، عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ضخم الرأس والقدمين سبط الكفين‏.‏

وتقدم من غير وجه أنه عليه السلام كان شثن الكفين والقدمين‏.‏

وفي رواية‏:‏ ضخم الكفين والقدمين‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا آدم وعاصم بن علي قالا‏:‏ ثنا ابن أبي ذئب، ثنا صالح - مولى التوأمة - قال‏:‏ كان أبو هريرة ينعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ كان شَبْحَ الذراعين بعيد ما بين المنكبين، أهدب أشفار العينين‏.‏

وفي حديث نافع بن جبير عن علي قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم شثن الكفين والقدمين، ضخم الكراديس، طويل المسربة‏.‏

وتقدم في حديث حجاج عن سماك، عن جابر بن سمرة قال‏:‏ كان في ساقي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حموشة‏.‏

أي‏:‏ لم يكونا ضخمين‏.‏

وقال سراقة بن مالك بن جعشم‏:‏ فنظرت إلى ساقيه‏.‏

وفي رواية‏:‏ قدميه في الغرز - يعني‏:‏ الركاب - كأنهما جُمَّارة - أي‏:‏ جمارة النخل من بياضهما -‏.‏

وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة‏:‏ كان ضليع الفم - وفسَّره‏:‏ بأنه عظيم الفم -، أشكل العينين - وفسَّره‏:‏ بأنه طويل شق العينين -، منهوس العقب - وفسَّره‏:‏ بأنه قليل لحم العقب - وهذا أنسب وأحسن في حق الرجال‏.‏

وقال الحارث ابن أبي أسامة‏:‏ ثنا عبد الله بن بكر، ثنا حميد عن أنس قال‏:‏ أخذت أم سليم بيدي مقدم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة فقالت‏:‏ يا رسول الله هذا أنس غلام كاتب يخدمك‏.‏

قال‏:‏ فخدمته تسع سنين، فما قال لشيء صنعت‏:‏ ‏(‏‏(‏أسأت، ولا بئس ما صنعت‏)‏‏)‏ ولا مسست شيئاً قط خزاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله، ولا شممت رائحة قط مسكاً ولا عنبراً أطيب من رائحة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وهكذا رواه معتمر بن سليمان، وعلي بن عاصم، ومروان بن معاوية الفزاريّ، وإبراهيم بن طهمان، كلهم عن حميد، عن أنس في لين كفه عليه السلام وطيب رائحته - صلاة الله وسلامه عليه -‏.‏

وفي حديث الزُّبيدي عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة أن رسول الله كان يطأ بقدمه كلها ليس لها أخمص، وقد جاء خلاف هذا كما سيأتي‏.‏

وقال يزيد بن هارون‏:‏ حدثني عبد الله بن يزيد بن مقسم قال‏:‏ حدثتني عمتي سارة بنت مقسم عن ميمونة بنت كردم قالت‏:‏ رأيت رسول الله بمكة وهو على ناقة، وأنا مع أبي، وبيد رسول الله درة كدرة الكتاب، فدنا منه أبي فأخذ يقدمه، فأقر له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قالت‏:‏ فما نسيت طول إصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه‏.‏

ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون مطولاً‏.‏

ورواه أبو داود من حديث يزيد بن هارون ببعضه، وعن أحمد بن صالح عن عبد الرزاق، عن ابن جريح، عن إبراهيم بن ميسرة، عن خالته عنها‏.‏

ورواه ابن ماجه من وجه آخر عنها، والله أعلم‏.‏

وقال البيهقيّ‏:‏ أنا علي بن أحمد بن عبد الله بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا محمد بن إسحاق أبو بكر، ثنا سلمة بن حفص السعدي، ثنا يحيى بن اليمان، ثنا إسرائيل عن سماك، عن جابر بن سمرة قال‏:‏ كانت إصبع لرسول الله خنصره من رجله متظاهرة‏.‏

وهذا حديث غريب‏.‏

قوامه عليه السلام وطيب رائحته

في صحيح البخاريّ من حديث ربيعة عن أنس قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ربعة من القوم ليس بالطَّويل ولا بالقصير‏.‏

وقال أبو إسحاق‏:‏ عن البراء كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً ليس بالطَّويل ولا بالقصير‏.‏

أخرجاه في الصَّحيحين‏.‏

وقال نافع بن جبير عن علي‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليس بالطَّويل ولا بالقصير، لم أر قبله ولا بعده مثله‏.‏

وقال سعيد بن منصور عن خالد بن عبد الله، عن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليس بالطَّويل ولا بالقصير، وهو إلى الطُّول أقرب، وكان عرقه كاللؤلؤ، الحديث‏.‏

وقال سعيد عن روح بن قيس، عن خالد بن خالد التَّميميّ، عن يوسف بن مازن الرَّاسبيّ، عن علي قال‏:‏ كان رسول الله ليس بالذَّاهب طولاً وفوق الربعة، إذا جاء مع القوم غمرهم، وكان عرقه في وجهه كاللؤلؤ، الحديث‏.‏

وقال الزُّبيدي عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة قال‏:‏ كان رسول الله ربعة وهو إلى الطُّول أقرب، وكان يقبل جميعاً ويدبر جميعاً، لم أرَ قبله ولا بعده مثله‏.‏

وثبت في البخاريّ من حديث حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ ما مسست بيدي ديباجاً، ولا حريراً، ولا شيئاً ألين من كفِّ رسول الله، ولا شممت رائحةً أطيب من ريح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

ورواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة‏:‏ عن ثابت، عن أنس به‏.‏

ورواه مسلم أيضاً من حديث حماد بن سلمة، وسليمان بن المغيرة عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ كان رسول الله أزهر اللَّون كأنَّ عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ، وما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كفِّ رسول الله، ولا شممت مسكاً ولا عنبراً، أطيب من رائحة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا ابن أبي عدي، ثنا حميد عن أنس قال‏:‏ ما مسست شيئاً قط خزاً ولا حريراً ألين من كفِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا شممت رائحةً أطيب من ريح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

والإسناد ثلاثي على شرط الصحيحين، ولم يخرِّجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ أنَّا عمرو بن حماد بن طلحة الفناد‏.‏

وأخرجه البيهقيّ من حديث أحمد بن حازم ابن أبي عروة عنه قال‏:‏ ثنا أسباط بن نصر عن سماك، عن جابر بن سمرة قال‏:‏ صليت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدي أحدهم واحداً، واحداً قال‏:‏ وأما أنا فمسح خدي، فوجدت ليده برداً وريحاً كأنما أخرجها من جونة عطار‏.‏

ورواه مسلم عن عمرة بن حماد به نحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة وحجاج، أخبرني شعبة عن الحكم سمعت أبا جحيفة قال‏:‏ خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالهاجرة السلميّ البطحاء، فتوضأ وصلَّى الظهر ركعتين، وبين يديه عنزة‏.‏

زاد فيه عون عن أبيه‏:‏ يمر من ورائها الحمار والمرأة‏.‏

قال حجاج في الحديث‏:‏ ثم قام الناس فجعلوا يأخذون يده فيمسحون بها وجوههم‏.‏

قال‏:‏ فأخذت يده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب ريحاً من المسك‏.‏

وهكذا رواه البخاري عن الحسن بن منصور، عن حجاج بن محمد الأعورعن شعبة فذكر مثله سواء، وأصل الحديث في الصحيحين أيضاً‏.‏


وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، أنا هشام بن حسان وشعبة وشريك عن يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد، عن أبيه - يعني‏:‏ يزيد بن الأسود - قال‏:‏ صلَّى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بمنى فانحرف فرأى رجلين من وراء الناس، فدعا بهما فجيئا ترعد فرائصهما‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما منعكما أن تصليا مع الناس‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالا‏:‏ يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في الرحال‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فلا تفعلا، إذا صلَّى أحدكم في رحله، ثم أدرك الصلاة مع الإمام فليصلها معه فإنها له نافلة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقال أحدهما‏:‏ استغفر لي يا رسول الله فاستغفر له‏.‏

قال‏:‏ ونهض الناس إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ونهضت معهم وأنا يومئذ أشب الرجال وأجلده‏.‏

قال‏:‏ فما زلت أزحم الناس حتى وصلت إلى رسول الله فأخذت بيده فوضعتها إما على وجهي أو صدري‏.‏

قال‏:‏ فما وجدت شيئاً أطيب ولا أبرد من يد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال‏:‏ وهو يومئذ في مسجد الخيف‏.‏

ثم رواه أيضاً عن أسود بن عامر وأبي النضر عن شعبة، عن يعلى بن عطاء سمعت جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أنه صلَّى مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الصبح، فذكر الحديث‏.‏

قال‏:‏ ثم ثار الناس يأخذون بيده يمسحون بها وجوههم‏.‏

قال‏:‏ فأخذت بيده فمسحت بها وجهي، فوجدتها أبرد من الثلج، وأطيب ريحاً من المسك‏.‏

وقد رواه أبو داود من حديث شعبة والتّرمذيّ، والنسائي، من حديث هشيم عن يعلى به‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو نعيم، ثنا مسعر عن عبد الجبار بن وائل بن حجر قال‏:‏ حدثني أهلي عن أبي قال‏:‏ أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بدلو من ماء فشرب منه، ثم مجَّ في الدلو ثم صب في البئر، أو شرب من الدلو ثم مجَّ في البئر، ففاح منها ريح المسك‏.‏
وهذا رواه البيهقيّ من طريق يعقوب بن سفيان عن أبي النعيم - وهو الفضل بن دكين -‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا هاشم، ثنا سليمان عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا صلَّى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها فربما جاءوه في الغداة الباردة، فيمس يده فيها‏.‏

ورواه مسلم من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حجين بن المثنى، ثنا عبد العزيز - يعني‏:‏ ابن أبي سلمة الماجشون - عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه‏.‏

قال‏:‏ فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأتت فقيل لها‏:‏ هذا رسول الله نائم في بيتك على فراشك‏.‏


قال‏:‏ فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عبيرتها، فجعلت تنشف ذلك العرق فتصره في قواريرها، ففزع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما تصنعين يا أم سليم‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت‏:‏ يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أصبت‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم عن محمد بن رافع، عن حجين به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا هاشم بن القاسم، ثنا سليمان عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ دخل علينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال عندنا فعرق، وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ رسول الله فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ عرقك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطيب‏.‏

ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا إسحاق بن منصور - يعني‏:‏ السَّلوليّ - ثنا عمارة - يعني‏:‏ ابن زاذان - عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ كان رسول الله يقيل عند أم سليم، وكان من أكثر الناس عرقاً، فاتخذت له نطعاً وكان يقيل عليه، وحطت بين رجليه حطاً وكانت تنشف العرق فتأخذه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما هذا يا أم سليم‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ عرقك يا رسول الله أجعله في طيبي‏.‏

قال‏:‏ فدعا لها بدعاء حسن‏.‏

تفرَّد به أحمد من هذا الوجه‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا محمد بن عبد الله، ثنا حميد عن أنس قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا نام ذا عرق، فتأخذ عرقه بقطنة في قارورة فتجعله في مسكها‏.‏

وهذا إسناد ثلاثي على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه، ولا أحد منهما‏.‏

وقال البيهقيّ‏:‏ أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عمرو المغربي، أنا الحسن بن سفيان، ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة‏.‏

وقال مسلم‏:‏ ثنا أبو بكر ابن شيبة، ثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا أيوب عن أبي قلابة، عن أنس، عن أم سليم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يأتيها فيقيل عندها، فتبسط له نطعاً فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطيب والقوارير‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أم سليم ما هذا‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت‏:‏ عرقك أدُوف به طيبي‏.‏

لفظ مسلم‏.‏

وقال أبو يعلى الموصليّ في مسنده‏:‏ ثنا بسر، ثنا حليس بن غالب، ثنا سفيان الثوري عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله فقال‏:‏ يا رسول الله إني زوجت ابنتي وأنا أحب أن تعينني بشيء قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما عندي شيء ولكن إذا كان غد فأتني بقارورة واسعة الرأس، وعود شجرة وآية بيني وبينك أن تدق ناحية الباب‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأتاه بقارورة واسعة الرأس، وعود شجرة‏.‏

قال‏:‏ فجعل يسلت العرق من ذراعيه حتى امتلأت القارورة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فخذها ومُر ابنتك أن تغمس هذا العود في القارورة وتطيب به‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فكانت إذا تطيَّبت به شمَّ أهل المدينة رائحة الطيب، فسموا بيوت المطيبين‏.‏

هذا حديث غريب جداً‏.‏

وقد قال الحافظ أبو بكر البزَّار‏:‏ ثنا محمد بن هشام، ثنا موسى بن عبد الله، ثنا عمر بن سعيد عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا مرَّ في طريق من طرق المدينة وجدوا منه رائحة الطيب‏.‏

وقالوا‏:‏ مرَّ رسول الله في هذا الطريق‏.‏

ثم قال‏:‏ وهذا الحديث رواه أيضاً معاذ بن هشام عن أبيه، عن قتادة، عن أنس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يعرف بريح الطيب، كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم طيباً وريحه طيب، وكان مع ذلك يحب الطيب أيضاً‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو عبيدة عن سلام أبي المنذر، عن ثابت، عن أنس أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏حبِّب إلى النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة‏)‏‏)‏‏.‏

ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، ثنا سلام أبو المنذر القاري عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما حبب إلي من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه النسائي بهذا اللفظ عن الحسين بن عيسى القرشي، عن عفان بن مسلم، عن سلام بن سليمان أبي المنذر القاري البصري، عن ثابت، عن أنس فذكره‏.‏

وقد روى من وجه آخر بلفظ‏:‏ ‏(‏‏(‏حبب إلي من دنياكم ثلاث‏:‏ الطيب والنساء وجعل قرة عيني في الصلاة‏)‏‏)‏‏.‏

وليس بمحفوظ بهذا فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا، وإنما هي من أهم شؤون الآخرة، والله أعلم‏.‏

صفة خاتم النبوة الذي بين كتفيه صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال البخاري‏:‏ ثنا محمد بن عبيد الله، ثنا حاتم عن الجعد قال‏:‏ سمعت السائب بن يزيد يقول‏:‏ ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت‏:‏ يا رسول الله، إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، وتوضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتم بين كتفيه مثل زر الحجلة‏.‏

وهكذا رواه مسلم عن قتيبة ومحمد بن عباد، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ الحجلة من حجلة الفرس الذي بين عينيه‏.‏

وقال إبراهيم بن حمزة‏:‏ رز الحجلة‏.‏

قال أبو عبد الله‏:‏ الرز الراء قبل الزاي‏.‏

وقال مسلم‏:‏ ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا عبيد الله عن إسرائيل، عن سماك أنه سمع جابر بن سمرة يقول‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد شمط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا ادَّهن لم يتبين، وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر اللحية‏.‏

فقال رجل‏:‏ وجهه مثل السيف‏؟‏

قال‏:‏ لا‏!‏ بل كان المثل الشمس والقمر وكان مستديراً، ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده‏.‏

حدثنا محمد بن المثنى، ثنا محمد بن حزم، ثنا شعبة عن سماك سمعت جابر بن سمرة قال‏:‏ رأيت خاتماً في ظهر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كأنه بيضة حمام‏.‏

وحدثنا ابن نمير، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا حسن بن صالح عن سماك بهذا الإسناد مثله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن عاصم بن سليمان، عن عبد الله بن السرجس قال‏:‏ ترون هذا الشيخ - يعني‏:‏ نفسه - كلمت نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأكلت معه، ورأيت العلامة التي بين كتفيه، وهي في طرف نغض كتفه اليسرى، كأنه جمع - بمعنى‏:‏ الكف المجتمع وقال بيده‏:‏ فقبضها - عليه خيلان كهيئة الثواليل‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا هاشم بن القاسم وأسود بن عامر قالا‏:‏ ثنا شريك عن عاصم، عن عبد الله بن السرجس قال‏:‏ رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وسلَّمت عليه، وأكلت معه، وشربت من شرابه، ورأيت خاتم النبوة‏.‏

قال هاشم‏:‏ في نغض كتفه اليسرى كأنه جمع فيه خيلان سود كأنها الثآليل‏.‏

ورواه عن غندر، عن شعبة، عن عاصم، عن عبد الله بن السرجس، فذكر الحديث‏.‏

وشكَّ شعبة في أنه هل هو في نغض الكتف اليمنى أو اليسرى‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث حماد بن زيد وعلي بن مسهر وعبد الواحد بن زياد، ثلاثتهم عن عاصم، عن عبد الله بن الرجس قال‏:‏ أتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأكلت معه خبزاً ولحماً - أو قال‏:‏ ثريداً -‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله غفر الله لك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ولك‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ أستغفر لك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏!‏ ولكم‏)‏‏)‏ ثمَّ تلا هذه الآية ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏‏.‏ ‏[‏محمَّد‏:‏ ‏]‏‏.‏

قال‏:‏ ثم درت خلفه، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند نغض كتفه اليسرى جمعاً عليه خيلان كأمثال الثآليل‏.‏

وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ ثنا قرة بن خالد، ثنا معاوية بن قرة عن أبيه قال‏:‏ أتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقلت‏:‏ يا رسول الله أرني خاتم الخاتم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أدخل يدك‏)‏‏)‏‏.‏

فأدخلت يدي في جربانه، فجعلت ألمس أنظر إلى الخاتم الرجس، فإذا هو على نغض كتفه مثل البيضة، فما منعه ذاك أن جعل يدعو لي وإن يدي لفي جربانه‏.‏

ورواه النسائي عن أحمد بن سعيد، عن وهب بن جرير، عن قرة بن خالد به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا وكيع، ثنا سفيان عن إياد بن لقيط السَّدوسيّ، عن أبي رمثة التيمي قال‏:‏ خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فرأيت برأسه ردع حناء، ورأيت على كتفه مثل التفاحة‏.‏

فقال أبي‏:‏ إني طبيب أفلا أطبها لك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏طبيبها الذي خلقها‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وقال لأبي‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا ابنك‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا أبو نعيم، ثنا عبيد الله بن زياد، حدثني أبي عن أبي ربيعة أو رمثة قال‏:‏ انطلقت مع أبي نحو النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فنظر إلى مثل السلعة بين كتفيه فقال‏:‏ يا رسول الله إني كأطب الرجال أفأعالجها لك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا طبيبها الذي خلقها‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقيّ، وقال الثوري عن إياد بن لقيط‏:‏ في هذا الحديث فإذا خلف كتفيه مثل التفاحة‏.‏

وقال عاصم بن بهدلة عن أبي رمثة‏:‏ فإذا في نغض كتفه مثل بعرة البعير أو بيضة الحمامة‏.‏

ثم روى البيهقيّ من حديث سماك بن حرب عن سلامة العجلي، عن سلمان الفارسي قال‏:‏ أتيت رسول الله فألقى إليَّ رداءه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا سلمان انظر إلى ما أمرت به‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فرأيت الخاتم بين كتفيه مثل بيضة الحمامة‏.‏

وروى يعقوب بن سفيان عن الحميدي، عن يحيى بن سليم، عن أبي خيثم، عن سعيد ابن أبي راشد، عن التَّنوخيّ الذي بعثه هرقل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو بتبوك، فذكر الحديث كما قدمناه في غزوة تبوك إلى أن قال‏:‏ فحلَّ حبوته عن ظهره ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ههنا امض لما أمرت به‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فجلت في ظهره الرجس أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف، مثل الحجمة الضخمة‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا عبد الله بن ميسرة، ثنا عتاب سمعت أبا سعيد يقول‏:‏ الخاتم الذي بين كتفي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لحمة نابتة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا شريح، ثنا أبو ليلى عبد الله بن ميسرة الخراساني عن غياث البكري قال‏:‏ كنا نجالس أبا سعيد الخدريّ بالمدينة فسألته عن خاتم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي كان بين كتفيه‏.‏

فقال‏:‏ بإصبعه السبابة هكذا لحم ناشز بين كتفيه صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

تفرَّد به أحمد من هذا الوجه‏.‏

وقد ذكر الحافظ أبو الخطاب بن دحية المصري في كتابه ‏(‏التنوير في مولد البشير النذير‏)‏ عن أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسين بن بشر - المعروف‏:‏ بالحكيم التّرمذيّ - أنه قال‏:‏ كان الخاتم الذي بين كتفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كأنه بيضة حمامة مكتوب في باطنها‏:‏ الله وحده، وفي ظاهرها‏:‏ توجَّه حيث شئت فإنك منصور‏.‏

ثم قال‏:‏ وهذا غريب واستنكره‏.‏

قال‏:‏ وقيل‏:‏ كان من نور ذكره الإمام أبو زكريا يحيى بن مالك بن عائذ في كتابه ‏(‏تنقل الأنوار‏)‏ وحكى أقوالاً غريبة غير ذلك‏.‏

ومن أحسن ما ذكره ابن دحية رحمه الله وغيره من العلماء قبله في الحكمة في كون الخاتم كان بين كتفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ إشارة إلى أنه لا نبي بعدك يأتي من ورائك‏.‏

قال‏:‏ وقيل‏:‏ كان على نغض كتفه لأنه يقال‏:‏ هو الموضع الذي يدخل الشيطان منه إلى الإنسان، فكان هذا عصمة له عليه السلام من الشيطان‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكرنا الأحاديث الدالة على أنه لا نبي بعده عليه السلام ولا رسول عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ ‏]‏‏.‏

باب أحاديث متفرقة وردت في صفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم

قد تقدَّم في رواية نافع بن جبير عن علي ابن أبي طالب أنه قال‏:‏ لم أر قبله ولا بعده مثله‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدَّثنا عبد الله بن مسلم القعنبي وسعيد بن منصور، ثنا عمر بن يونس، ثنا عمر بن عبد الله مولى عفرة، حدَّثني إبراهيم بن محمد - من ولد علي - قال‏:‏ كان علي إذا نعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ لم يكن بالطَّويل الممغط، ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط، ولا بالسبط، كان جعداً رجلاً، ولم يكن بالمطهَّم، ولا بالمكلثم، وكان في الوجه تدوير أبيض مشرباً، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، أجرد ذو مسربة، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً بين كتفيه خاتم النبوة، أجود النَّاس كفاً، وأرحب النَّاس صدراً، وأصدق النَّاس لهجة، وأوفى النَّاس ذمةً، وألينهم عريكةً، وألزمهم عشرةً، من رآه بديهةً هابه، ومن خالطه معرفةً أحبه، يقول ناعته‏:‏ لم أرَ قبله ولا بعده مثله‏.‏

وقد روى هذا الحديث الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب ‏(‏الغريب‏)‏، ثم روى عن الكسائيّ، والأصمعي، وأبي عمرو تفسير غريبه‏.‏

وحاصل ما ذكره مما فيه غرابة‏:‏

أن المطهم‏:‏ هو الممتلئ الجسم‏.‏

والمكلثم‏:‏ شديد تدوير الوجه - يعني‏:‏ لم يكن بالسَّمين الناهض، ولم يكن ضعيفاً - بل كان بين ذلك - ولم يكن وجهه في غاية التدوير بل فيه سهولة وهي أحل عند العرب ومن يعرف‏.‏

وكان أبيض مشرّباً حمرة‏:‏ وهي أحسن اللَّون، ولهذا لم يكن أمهق اللَّون‏.‏

والأدعج هو شديد سواد الحدقة‏.‏

وجليل المشاش هو عظيم رءوس العظام مثل الركبتين، والمرفقين، والمنكبين، والكتد الكاهل وما يليه من الجسد‏.‏

وقوله‏:‏ شثن الكفين، أي غليظهما‏.‏

وتقلع في مشيته أي شديد المشية‏.‏

وتقدم الكلام على الشكلة، والشهلة، والفرق بينهما‏.‏

والأهدب طويل أشفار العين‏.‏

وجاء في حديث أنه كان شبح الذراعين يعني غليظهما، والله تعالى أعلم‏.‏

حديث أم معبد في ذلك

قد تقدَّم الحديث بتمامه في الهجرة من مكة إلى المدينة حين ورد عليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومعه أبو بكر، ومولاه عامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن أريقط الديليّ، فسألوها هل عندها لبن أو لحم يشترونه منها ‏؟‏

فلم يجدوا عندها شيئاً، وقالت‏:‏ لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى‏.‏

وكانوا ممحلين، فنظر إلى شاة في كسر خيمتها فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما هذه الشاة يا أم معبد‏؟‏‏)‏‏)‏

فقالت‏:‏ خلَّفها الجهد‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتأذنين أن أحلبها‏؟‏‏)‏‏)‏

فقالت‏:‏ إن كان بها حلب، فاحلبها، فدعا بالشَّاة فمسحها، وذكر اسم الله، فذكر الحديث في حلبه منها ما كفاهم أجمعين، ثم حلبها وترك عندها إناءها ملأى، وكان يربض الرَّهط، فلما جاء بعلها استنكر اللبن‏.‏

وقال‏:‏ من أين لك هذا يا أم معبد، ولا حلوبة في البيت، والشاء عازب ‏؟‏

فقالت‏:‏ لا والله إنَّه مرَّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت‏.‏

فقال‏:‏ صفيه لي، فوالله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب‏.‏

فقالت‏:‏ رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، مليح الوجه، لم تعبه ثجلة، ولم تزربه صعلة، قسيم وسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور، أكحل، أزج، أقرن، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلَّم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قداً، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند‏.‏

فقال بعلها‏:‏ هذا والله صاحب قريش الذي تطلب، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً‏.‏

قال‏:‏ وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقوله وهو يقول‏:‏

جزى الله ربُّ النَّاسِ خيرَ جزائِهِ * رفيقين حلا خيمتي أمَّ معْبدِ

هما نزلا بالبرِّ وارتحلا بهِ * فأفلحَ منْ أمسى رفيقَ محمدِ

فيالِ قصيٍ ما زوى اللهُ عنكم * بهِ من فعالٍ لا تجازى وسؤْدُدِ

سلُوا أختكم عن شاتها وإنائها * فإنَّكموا إنْ تسألوا الشَّاة تشهدِ

دعاها بشاةٍ حائلٍ فتحلَّبتْ * لهُ بصريحٍ ضرَّة الشَّاة مُزْبدِ

فغادره رهناً لديها لحالبٍ * يدرَّ لها في مصدرٍ ثمَّ موردِ

وقد قدَّمنا جواب حسان بن ثابت لهذا الشعر المبارك بمثله في الحسن‏.‏

والمقصود‏:‏ أن الحافظ البيهقيّ روى هذا الحديث من طريق عبد الملك بن وهب المذحجي قال‏:‏ ثنا الحسن بن الصباح عن أبي معبد الخزاعيّ - فذكر الحديث بطوله كما قدمناه بألفاظه -‏.‏

وقد رواه الحافظ يعقوب بن سفيان الفسوي، والحافظ أبو نعيم في كتابه ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ قال عبد الملك‏:‏ فبلغني أن أبا معبد أسلم بعد ذلك، وأن أم معبد هاجرت وأسلمت، ثم إن الحافظ البيهقيّ أتبع هذا الحديث بذكر غريبه، وقد ذكرناه في الحواشي فيما سبق ونحن نذكر ههنا نكتاً من ذلك‏.‏

فقولها‏:‏ ظاهر الوضاءة‏:‏ أي ظاهر الجمال‏.‏

أبلج الوجه‏:‏ أي مشرق الوجه مضيئه‏.‏

لم تعبه ثجلة‏:‏ قال أبو عبيد‏:‏ هو كبر البطن، وقال غيره‏:‏ كبر الرأس، وردَّ أبو عبيدة رواية من روى‏:‏ لم تعبه نحلة - يعني‏:‏ من النحول - وهو الضعف‏.‏

قلت‏:‏ وهذا هو الذي فسر به البيهقيّ الحديث‏.‏

والصحيح‏:‏ قول أبي عبيدة، ولو قيل‏:‏ إنه كبر الرأس لكان قوياً‏.‏

وذلك لقولها بعده‏:‏ لو تزر به صعلة، وهو صغر الرأس بلا خلاف، ومنه يقال لولد النعامة‏:‏ صعل لصغر رأسه، ويقال له‏:‏ الظليم‏.‏

وأما البيهقيّ فرواه‏:‏ لم تعبه نحلة - يعني‏:‏ من الضعف - كما فسره‏.‏

ولم تزر به صعلة‏:‏ وهو الحاصرة يريد أنه ضرب من الرجال، ليس بمشفح ولا ناحل‏.‏

قال‏:‏ ويروى‏:‏ لم تعبه ثجلة، وهو كبر البطن‏.‏

ولم تزر به صعلة‏:‏ وهو صغر الرأس‏.‏

وأما الوسيم‏:‏ فهو حسن الخلق، وكذلك القسيم أيضاً‏.‏

والدعج‏:‏ شدة سواد الحدقة‏.‏

والوطف‏:‏ طول أشفار العينين‏.‏

ورواه القتيبي في أشفاره عَطف، وتبعه البيهقيّ في ذلك‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ ولا أعرف ما هذا لأنه وقع في روايته غلط فحار في تفسيره، والصواب ما ذكرناه والله أعلم‏.‏

وفي صوته صحل‏:‏ وهو بحة يسيرة، وهي أحلى في الصوت من أن يكون حاداً‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وبالصحل يوصف الظباء، قال‏:‏ ومن روى‏:‏ في صوته صهل، فقد غلط فإن ذلك لا يكون إلا في الخيل، ولا يكون في الإنسان‏.‏

قلت‏:‏ وهو الذي أورده البيهقيّ‏.‏

قال‏:‏ ويروى‏:‏ صحل‏.‏

والصواب قول أبي عبيد، والله أعلم‏.‏

وأما قولها‏:‏ أحور فمستغرب في صفة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو قبل في العين يزينها لا يشينها كالحول‏.‏

وقولها‏:‏ أكحل قد تقدم له شاهد‏.‏

وقولها‏:‏ أزج قال أبو عبيد‏:‏ هو المتقوِّس الحاجبين‏.‏

قال‏:‏ وأما قولها‏:‏ أقرن‏:‏ فهو التقاء الحاجبين بين العينين‏.‏

قال‏:‏ ولا يعرف هذا في صفة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلا في هذا الحديث قال‏:‏ والمعروف في صفته عليه السلام أنه أبلج الحاجبين‏.‏

في عنقه سطع‏:‏ قال أبو عبيد‏:‏ أي طول، وقال غيره‏:‏ نور‏.‏

قلت‏:‏ والجمع ممكن، بل متعين‏.‏

وقولها‏:‏ إذا صمت فعليه الوقار‏:‏ أي الهيبة عليه في حال صمته وسكوته‏.‏

وإذا تكلَّم سما‏:‏ أي علا على الناس‏.‏

وعلاه البهاء‏:‏ أي في حال كلامه‏.‏

حلو المنطق فصل‏:‏ أي فصيح بليغ، يفصل الكلام ويبينه‏.‏

لا نزر ولا هذر‏:‏ أي لا قليل ولا كثير‏.‏

كأن منطقه خرزات نظم‏:‏ يعني‏:‏ الذي من حسنه، وبلاغته، وفصاحته، وبيانه، وحلاوة لسانه‏.‏

أبهى الناس وأجمله من بعيد وأحلاه وأحسنه من قريب‏:‏ أي هو مليح من بعيد ومن قريب‏.‏

وذكرت أنه لا طويل ولا قصير، بل هو أحسن من هذا ومن هذا‏.‏

وذكرت أن أصحابه يعظمونه ويخدمونه، ويبادرون إلى طاعته، وما ذلك إلا لجلالته عندهم، وعظمته في نفوسهم، ومحبتهم له‏.‏

وأنه ليس بعابس‏:‏ أي ليس يعبس‏.‏

ولا يفند أحداً‏:‏ أي يهجنه ويستقل عقله، بل جميل المعاشرة، حسن الصحبة، صاحبه كريم عليه، وهو حبيب إليه - صلَّى الله عليه -‏.‏

حديث هند ابن أبي هالة في ذلك

وهند هذا هو ربيب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أمه خديجة بنت خويلد، وأبوه أبو هالة، كما قدمنا بيانه‏.‏

قال يعقوب بن سفيان الفسوي الحافظ رحمه الله‏:‏ حدثنا سعيد بن حماد الأنصاري المصري، وأبو غسان مالك بن إسماعيل الهندي قالا‏:‏ ثنا جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي قال‏:‏ حدثني رجل بمكة عن ابن لأبي هالة التَّميميّ، عن الحسن بن علي قال‏:‏ سألت خالي هند ابن أبي هالة - وكان وصَّافاً - عن حلية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئاً أتعلَّق به -‏.‏


فقال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فخماً مفخَّماً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، إذا تفرَّقت عقيصته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه، ذا وفرة، أزهر اللَّون، واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب أقنى العرنين، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، أدعج سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب مفلج الأسنان، دقيق المسربة كأنه عنقه جيد دمية في صفاء - يعني‏:‏ الفضة -، معتدل الخلق، بادن متماسك، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، سبط الغضب، شثن الكفين والقدمين، سابل الأطراف، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء إذا زال زال قلعاً يخطو تكفياً ويمشي هوناً، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره السماء، جلَّ نظره الملاحظة يسوق أصحابه يبدأ من لقيه بالسلام‏.‏

قلت‏:‏ صف لي منطقه‏.‏

قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم، فصل لا فضول ولا تقصير، دمث ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت لا يذم منها شيئاً ولا يمدحه، ولا يقوم لغضبه إذا تعرَّض للحق شيء حتى ينتصر له‏.‏

وفي رواية‏:‏ لا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعرَّض للحق لم يعرفه أحد، ولم يقيم لغضبه شيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجَّب قلَّبها، وإذا تحدَّث يصل بها، يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضَّ طرفه، جلَّ ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حبِّ الغمام‏.‏

قال الحسن‏:‏ فكتمتها الحسين بن علي زماناً ثم حدثته، فوجدته قد سبقني إليه فسأله عما سألته عنه، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله، ومخرجه، ومجلسه، وشكله فلم يدع منه شيئاً‏.‏

قال الحسن‏:‏ سألت أبي عن دخول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ كان دخوله لنفسه مأذون له في ذلك، وكان إذا أوى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء‏:‏ جزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزَّأ جزأه بين الناس فردَّ ذلك على العامة والخاصة لا يدَّخر عنهم شيئاً، وكان من سيرته في جزء الأمة‏:‏ إيثار أهل الفضل بأدبه وقسَّمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم، والأمة من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ليبلِّغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته، فإنه من بلَّغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه، ثبَّت الله قدميه يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون عليه زواراً، ولا يفترقون إلا عن ذواق‏.‏

وفي رواية‏:‏ ولا يتفرقون إلا عن ذوق، ويخرجون أدلة - يعني‏:‏ فقهاء -‏.‏

قال‏:‏ وسألته عن مخرجه، كيف كان يصنع فيه‏؟‏

فقال‏:‏ كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يخزن لسانه إلا بما يعينهم ويؤلِّفهم ولا ينفِّرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خاتمه، يتفقَّد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسِّن الحسن ويقوِّيه، ويقبِّح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، لكلِّ حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة‏.‏

قال‏:‏ فسألته عن مجلسه، كيف كان‏؟‏


فقال‏:‏ كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطِّن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، يعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم منه عليه منه، من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، ومن سأله حاجة لم يردّه إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه بسطه وخلقه، فصار لهم أباً وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حكم، وحياء، وصبر، وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تنشى فلتاته متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى، متواضعين يوقِّرون فيه الكبير ويرحمون الصغير، يؤثرون ذا الحاجة ويحفظون الغريب‏.‏

قال‏:‏ فسألته عن سيرته في جلسائه‏.‏

فقال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظٍ ولا غليظٍ، ولا سخّاب ولا فحَّاش، ولا عيَّاب ولا مزَّاح، يتغافل عمَّا لا يشتهى، ولا يؤيس منه راجيه، ولا يخيب فيه قد ترك نفسه من ثلاث‏:‏ المِراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث‏:‏ كان لا يذم أحداً ولا يعيِّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلَّم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلَّم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطَّير، فإذا سكت تكلَّموا، ولا يتنازعون عنده، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجَّب مما يتعجَّبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إذا كان أصحابه ليستجلبونهم في المنطق ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا رأيتم طالب حاجة فارفدوه‏)‏‏)‏ ولا، يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام‏.‏

قال‏:‏ فسألته كيف كان سكوته‏.‏

قال‏:‏ كان سكوته على أربع‏:‏ الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر، فأما تقديره‏:‏ ففي تسويته النظر والاستماع بين الناس، وأما تذكره - أو قال‏:‏ تفكره -‏:‏ ففيما يبقى ويفنى، وجُمع له لله الحلم، والصبر فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه، وجمع له الحذر في أربع‏:‏ أخذه بالحسنى، والقيام لهم فيما جمع لهم الدنيا والآخرة صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو عيسى التّرمذيّ رحمه الله في كتاب ‏(‏شمائل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏)‏ عن سفيان بن وكيع بن الجراح، عن جميع بن عمر بن عبد الرَّحمن العجلي، حدثني رجل من ولد أبي هالة زوج خديجة يكنى أبا عبد الله سماه غيره يزيد بن عمر، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي قال‏:‏ سألت خالي فذكره، وفيه حديثه عن أخيه الحسين، عن أبيه علي ابن أبي طالب‏.‏

وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقيّ في ‏(‏الدلائل‏)‏ عن أبي عبد الله الحاكم النّيسابوريّ لفظاً وقراءةً عليه، أنا أبو محمد الحسن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب القعنبيّ، صاحب كتاب ‏(‏النسب‏)‏ ببغداد‏:‏ حدَّثنا إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب أبو محمد بالمدينة سنة ست وستين ومائتين، حدَّثني علي بن جعفر بن محمد، عن أخيه موسى بن جعفر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن علي بن الحسين قال‏:‏ قال الحسن‏:‏ سألت خالي هند ابن أبي هالة فذكره‏.‏

قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي -رحمه الله - في كتابه ‏(‏الأطراف‏)‏ بعد ذكره ما تقدم من هاتين الطريقين‏:‏ وروى إسماعيل بن مسلم بن قعنب القعنبي عن إسحاق بن صالح المخزومي، عن يعقوب التيميّ، عن عبد الله بن عباس أنه قال لهند ابن أبي هالة - وكان وصَّافاً لرسول الله -‏:‏ صف لنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فذكر بعض هذا الحديث‏.‏

وقد روى الحافظ البيهقيّ من طريق صبيح بن عبد الله الفرغاني - وهو ضعيف - عن عبد العزيز بن عبد الصَّمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة حديثاً مطوَّلاً في صفة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قريباً من حديث هند بن أبي هالة‏.‏

وسرده البيهقيّ بتمامه، وفي أثنائه تفسير ما فيه من الغريب، وفيما ذكرناه غنية عنه، والله تعالى أعلم‏.‏

وروى البخاريّ عن أبي عاصم الضَّحاك، عن عمر بن سعيد بن أحمد بن حسين، عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث قال‏:‏ صلَّى أبو بكر العصر بعد موت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بليالٍ، فخرج هو وعلي يمشيان فإذا الحسن بن علي يلعب مع الغلمان قال‏:‏ فاحتمله أبو بكر على كاهله وجعل يقول‏:‏ بأبي شبيهٌ بالنَّبيّ ليس شبيهاً بعليّ، وعلي يضحك منهما رضي الله عنهما‏.‏

وقال البخاريّ‏:‏ ثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا إسماعيل عن أبي جحيفة قال‏:‏ رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكان الحسن بن علي يشبهه‏.‏

وروى البيهقيّ عن أبي علي الروذباري، عن عبد الله بن جعفر بن شوذب الواسطيّ، عن شعيب بن أيوب الصريفيني، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانىء، عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ الحسن أشبه برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما كان أسفل من ذلك‏.‏

باب ذكر أخلاقه وشمائله الطَّاهرة صلَّى الله عليه وسلَّم

قد قدَّمنا طيب أصله ومحتده، وطهارة نسبه ومولده، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏‏.‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدَّثنا قتيبة، ثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بُعثت من خير قرون بني آدم قرناً بعد قرن، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه‏)‏‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الله اصطفى قريشاً من بني إسماعيل، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإنَّ لك لأجراً غير ممنون * وإنَّك لعلى خلق عظيم‏)‏‏)‏‏.‏ ‏[‏القلم‏:‏ -‏]‏‏.‏

قال العوفيّ عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ وإنَّك لعلى دين عظيم، وهو الإسلام‏.‏

وهكذا قال مجاهد، وابن مالك، والسدي، والضحَّاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏

وقال عطية‏:‏ لعلى أدب عظيم‏.‏

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث قتادة عن زرارة ابن أبي أوفى، عن سعد بن هشام قال‏:‏ سألت عائشة أم المؤمنين فقلت‏:‏ أخبريني عن خلق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقالت‏:‏ أما تقرأ القرآن ‏؟‏

قلت‏:‏ بلى ‏!‏

فقالت‏:‏ كان خلقه القرآن‏.‏

وقد روى الإمام أحمد عن إسماعيل بن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن البصري قال‏:‏ وسئلت عائشة عن خلق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقالت‏:‏ كان خلقه القرآن‏.‏

وروى الإمام أحمد عن عبد الرَّحمن ابن مهدي، والنسائي من حديثه، وابن جرير من حديث ابن وهب، كلاهما عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير قال‏:‏ حججت فدخلت على عائشة فسألتها عن خلق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏


فقالت‏:‏ كان خلقه القرآن‏.‏

ومعنى هذا‏:‏ أنه عليه السلام مهما أمره به القرآن العظيم امتثله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا ما جبله الله عليه من الأخلاق الجبلية الأصلية العظيمة التي لم يكن أحد من البشر ولا يكون على أجمل منها، وشرع له الدِّين العظيم الذي لم يشرعه لأحد قبله، وهو مع ذلك خاتم النَّبيّين فلا رسول بعده ولا نبي صلَّى الله عليه وسلَّم فكان فيه من الحياء، والكرم، والشَّجاعة، والحلم، والصفح، والرحمة، وسائر الأخلاق الكاملة ما لا يحدُّ، ولا يمكن وصفه‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا سليمان، ثنا عبد الرَّحمن، ثنا الحسن بن يحيى، ثنا زيد بن واقد عن بشر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدَّرداء قال‏:‏ سألت عائشة عن خلق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقالت‏:‏ كان خلقه القرآن يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه‏.‏

وقال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو عبد الله الحافظ، أنَّا أحمد بن سهل الفقيه ببخارى، أنَّا قيس بن أنيف، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جعفر بن سليمان عن أبي عمران، عن زيد بن بابنوس قال‏:‏ قلنا لعائشة‏:‏ يا أم المؤمنين، كيف كان خلق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -‏؟‏
قالت‏:‏ كان خلق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - القرآن‏.‏

ثم قالت‏:‏ أتقرأ سورة المؤمنون‏؟‏ إقرأ قد ‏(‏‏(‏أفلح المؤمنون‏)‏‏)‏ إلى العشر‏.‏

قالت‏:‏ هكذا كان خُلُق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -‏.‏

وهكذا رواه النَّسائي عن قتيبة‏.‏

وروى البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ‏}‏‏.‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ ‏]‏‏.‏

قال‏:‏ أمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا سعيد بن منصور، ثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق‏)‏‏)‏ تفرد به أحمد‏.‏

ورواه الحافظ أبو بكر الخرائطي في كتابه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وإنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق‏)‏‏)‏‏.‏

وتقدَّم ما رواه البخاريّ من حديث أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحسن النَّاس وجهاً، وأحسن النَّاس خُلقاً‏.‏

وقال مالك عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت‏:‏ ما خُيِّر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بين أمرين، إلا أخذ أيسرهما مالم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها‏.‏

ورواه البخاريّ ومسلم من حديث مالك‏.‏

وروى مسلم عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ ما ضرب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بيده شيئاً قط لا عبداً، ولا امرأةً، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله - عز وجل -‏.‏


وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عبد الرَّزاق، أنَّا معمر عن الزُّهريّ، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ ما ضرب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بيده خادماً له قط، ولا امرأةً، ولا ضرب بيده شيئاً إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خُيِّر بين شيئين قط إلا كان أحبَّهما إليه أيسرهما، حتى يكون إثماً، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يُؤتى إليه، حتى تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله - عز وجل -‏.‏

وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ ثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول‏:‏ سمعت عائشة وسألتها عن خُلق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقالت‏:‏ لم يكن فاحشاً، ولا متفحِّشاً، ولا سخَّاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسَّيئة السَّيئة، ولكن يعفو ويصفح - أو قال‏:‏ يعفو ويغفر - شكَّ أبو داود‏.‏

ورواه التّرمذيّ من حديث شعبة وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا آدم وعاصم بن علي قالا‏:‏ ثنا ابن أبي ذئب، ثنا صالح مولى التوأمة قال‏:‏ كان أبو هريرة ينعت رسول الله قال‏:‏ كان يقبل جميعاً، ويدبر جميعاً، بأبي وأمي لم يكن فاحشاً، ولا متفحِّشاً، ولا سخَّاباً في الأسواق‏.‏

زاد آدم‏:‏ ولم أرَ مثله قبله، ولم أرَ مثله بعده‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا عبدان عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ لم يكن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فاحشاً، ولا متفحِّشاً وكان يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ من خياركم أحسنكم أخلاقاً‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث الأعمش به‏.‏

وقد روى البخاريّ من حديث فليح بن سليمان عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمر أنه قال‏:‏ إنَّ رسول الله موصوف في التوراة بما هو موصوف في القرآن‏:‏ يا أيُّها النَّبيّ إنَّا أرسلناك شاهداً، ومبشِّراً، ونذيراً، وحرزاً للأميِّين، أنت عبدي ورسولي، سمَّيتك المتوكل، ليس بفظٍّ، ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسَّيئة السَّيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه حتى يُقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح أعينا عمياً، وآذاناً صمَّاً، وقلوباً غُلفاً‏.‏

وقد روي عن عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا مسدد، ثنا يحيى عن شعبة، عن قتادة، عن عبد الله ابن أبي عتبة، عن أبي سعيد قال‏:‏ كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أشدّ حياء من العذراء في خدرها‏.‏

حدَّثنا ابن بشار قال‏:‏ ثنا يحيى، وعبد الرحمن قالا‏:‏ ثنا شعبة مثله‏:‏ وإذا كره شيئاً عرف ذلك في وجهه‏.‏

هليّ عن محمد بن عبيد عن‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو عامر، ثنا فليح عن هلال بن علي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ لم يكن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم- سبَّاباً، ولا لعَّاناً ولا فاحشاً، كان يقول لأحدنا عند المعاتبة‏:‏ ‏(‏‏(‏ماله تربت جبينه‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه البخاري عن محمد بن سنان، عن فليح‏.‏

وفي الصَّحيحين واللفظ لمسلم من حديث حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحسن النَّاس، وكان أجود النَّاس، وكان أشجع النَّاس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصَّوت فتلقَّاهم رسول الله راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السَّيف وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لم تراعوا، لم تراعوا‏)‏‏)‏‏.‏


قال‏:‏ وجدناه بحراً، أو إنَّه لبحر‏.‏

قال‏:‏ وكان فرساً يبطأ‏.‏

ثم قال مسلم‏:‏ ثنا بكر ابن أبي شيبة، ثنا وكيع عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ كان فزع بالمدينة، فاستعار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فرساً لأبي طلحة يقال له‏:‏ مندوب، فركبه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما رأينا من فزع، وإن وجدناه لبحراً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ كنَّا إذا اشتدَّ البأس اتَّقينا برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال أبو إسحاق السبيعي عن حارثة بن مضرب، عن علي ابن أبي طالب قال‏:‏ لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان أشدّ الناس بأساً‏.‏

رواه أحمد والبيهقيّ، وتقدم في غزوة هوازن أنه عليه السلام لما فرَّ جمهور أصحابه يومئذ ثبت وهو راكب بغلته، وهو ينوه باسمه الشريف يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا النَّبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب‏)‏‏)‏ وهو مع ذلك يركِّضها إلى نحور الأعداء، وهذا في غاية ما يكون من الشَّجاعة العظيمة، والتوكل التام - صلوات الله عليه -‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث إسماعيل بن علية عن عبد العزيز، عن أنس قال‏:‏ لما قدم رسول الله المدينة أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بنا إلى رسول الله فقال‏:‏ يا رسول الله إن أنساً غلام كيِّس فليخدمك‏.‏

قال‏:‏ فخدمته في السَّفر والحضر، والله ما قال لي لشيء صنعته‏:‏ ‏(‏‏(‏لِمَ صنعت هذا هكذا‏)‏‏)‏ ولا لشيء لم أصنعه‏:‏ ‏(‏‏(‏لِمَ لم تصنع هذا هكذا‏)‏‏)‏‏.‏

وله من حديث سعيد ابن أبي بردة عن أنس قال‏:‏ خدمت رسول الله تسع سنين فما أعلمه قال لي قط‏:‏ ‏(‏‏(‏لِمَ فعلت كذا وكذا‏)‏‏)‏ ولا عاب علي شيئاً قط‏.‏

وله من حديث عكرمة بن عمار عن إسحاق قال أنس‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من أحسن الناس خلقاً فأرسلني يوماً لحاجة فقلت‏:‏ والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فخرجت حتى أمرُّ على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد قبض بقفاي من ورائي قال‏:‏ فنظرت إليه وهو يضحك فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أنيس ذهبت حيث أمرتك‏؟‏‏)‏‏)‏

فقلت‏:‏ نعم‏!‏ أنا أذهب يا رسول الله‏.‏

قال أنس‏:‏ والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته‏:‏ ‏(‏‏(‏لِمَ صنعت كذا وكذا‏)‏‏)‏، أو لشيء تركته ‏(‏‏(‏هلا فعلت كذا وكذا‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا كثير، ثنا هشام، ثنا جعفر، ثنا عمران القصير عن أنس بن مالك قال‏:‏ خدمت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عشر سنين، فما أمرني بأمر فتوانيت عنه، أو ضيعته فلامني، وإن لامني أحد من أهله إلا قال‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوه فلو قدر - أو قال‏:‏ قضي - أن يكون كان‏)‏‏)‏‏.‏

ثم رواه أحمد عن علي بن ثابت، عن جعفر هو ابن برقان، عن عمران البصريّ - وهو القصير - عن أنس فذكره، تفرَّد به الإمام أحمد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عبد الصَّمد، ثنا أبي، ثنا أبو التياح، ثنا أنس قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحسن الناس خُلقاً، وكان لي أخ يقال له‏:‏ أبو عمير قال‏:‏ أحسبه قال‏:‏ فطيماً، قال‏:‏ فكان إذا جاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فرآه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبا عمير ما فعل النغير‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ نغرٌ كان يلعب به‏.‏


قال‏:‏ فربما تحضر الصَّلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس ثم ينضح، ثم يقوم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ونقوم خلفه يصلي بنا‏.‏

قال‏:‏ وكان بساطهم من جريد النخل‏.‏

وقد رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق عن أبي التياح يزيد بن حميد، عن أنس بنحوه‏.‏

وثبت في الصَّحيحين من حديث الزُّهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجود النَّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجود بالخير من الريح المرسلة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا أبو كامل، ثنا حماد بن زيد، ثنا سلم العلوي سمعت أنس بن مالك أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم رأى على رجل صفرة فكرهها قال‏:‏ فلما قام قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو أمرتم هذا أن يغسل عنه هذه الصفرة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وكان لا يكاد يواجه أحداً بشيء يكرهه‏.‏

وقد رواه أبو داود والتّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏، والنَّسائي في ‏(‏اليوم والليلة‏)‏ من حديث حماد بن زيد عن سلم بن قيس العلويّ البصريّ‏.‏

قال أبو داود‏:‏ وليس من ولد علي ابن أبي طالب، وكان يبصر في النجوم، وقد شهد عند عديّ بن أرطأة على رؤية الهلال فلم يجز شهادته‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا يحيى بن عبد الحميد الحمانيّ، ثنا الأعمش عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة قالت‏:‏ كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا بلغه عن رجل شيء لم يقل‏:‏ ما بال فلان يقول، ولكن يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ما بال أقوامٍ يقولون‏:‏ كذا وكذا‏)‏‏)‏‏.‏

وثبت في الصَّحيح أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يبلِّغني أحد عن أحد شيئاً، إني أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصَّدر‏)‏‏)‏‏.‏

وقال مالك عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كنت أمشي مع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذاً شديداً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإذا قد أثَّرت بها حاشية البرد من شدة جبذته‏.‏

ثم قال‏:‏ يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك‏.‏

قال‏:‏ فالتفت إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فضحك ثم أمر له بعطاء‏.‏

أخرجاه من حديث مالك‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا زيد بن الحباب، أخبرني محمد بن هلال القرشيّ عن أبيه أنه سمع أبا هريرة يقول‏:‏ كنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في المسجد فلمَّا قام قمنا معه، فجاء أعرابي فقال‏:‏ أعطني يا محمد‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏!‏ وأستغفر الله‏)‏‏)‏‏.‏

فجذبه بحجزته فخدشه‏.‏

قال‏:‏ فهموا به‏.‏


فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم أعطاه قال‏:‏ فكانت يمينه‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏!‏ وأستغفر الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى أصل هذا الحديث أبو داود، والنَّسائي، وابن ماجه من طرق عن محمد بن هلال ابن أبي هلال مولى بني كعب، عن أبيه، عن أبي هريرة بنحوه‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا عبد الله بن موسى، عن شيبان، عن الأعمش، عن ثمامة بن عتبة، عن زيد بن أرقم قال‏:‏ كان رجل من الأنصار يدخل على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ويأتمنه، وأنه عقد له عقداً وألقاه في بئر، فصرع ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأتاه ملكان يعودانه، فأخبراه أن فلاناً عقد له عقداً وهي في بئر فلان ولقد اصفرَّ الماء من شدة عقده، فأرسل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فاستخرج العقد فوجد الماء قد اصفرَّ فحلَّ العقد، ونام النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فلقد رأيت الرَّجل بعد ذلك يدخل على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فما رأيته في وجه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتى مات‏.‏

قلت‏:‏ والمشهور في الصَّحيح‏:‏ أن لبيد بن الأعصم اليهودي هو الذي سحر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في مشط، ومثاقة في جفّ طلعة ذكر تحت بئر ذروان، وأن الحال استمر نحو ستة أشهر حتى أنزل الله سورتي المعوذتين، ويقال‏:‏ إنَّ آياتهما إحدى عشرة آية، وأنَّ عقد ذلك الذي سحر فيه كان إحدى عشرة عقدة، وقد بسطنا ذلك في كتابنا ‏(‏التفسير‏)‏ بما فيه كفاية، والله أعلم‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا أبو نعيم، ثنا عمران بن زيد أبو يحيى الملائي، ثنا زيد العمي عن أنس ابن مالك قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا صافح أو صافحه الرَّجل لا ينزع يده من يده حتى يكون الرَّجل ينزع يده، وإن استقبله بوجه لا يصرفه عنه حتى يكون الرجل ينصرف عنه، ولا يرى مقدِّماً ركبتيه بين يدي جليس له‏.‏

ورواه التّرمذيّ وابن ماجه من حديث عمران بن زيد الثعلبي أبي يحيى الطَّويل الكوفيّ عن زيد بن الحواريّ العميّ، عن أنس به‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا أحمد بن منيع، ثنا أبو قطن، ثنا مبارك بن فضالة عن ثابت البنانيّ، عن أنس بن مالك قال‏:‏ ما رأيت رجلاً قط التقم أذن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، وما رأيت رسول الله آخذاً بيده رجل فترك يده حتى يكون الرَّجل هو الذي يدع يده‏.‏

تفرَّد به أبو داود‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ وحدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا‏:‏ ثنا شعبة قال ابن جعفر في حديثه‏:‏ قال‏:‏ سمعت علي بن يزيد قال‏:‏ قال أنس بن مالك‏:‏ إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت‏.‏

ورواه ابن ماجه من حديث شعبة‏.‏

وقد رواه البخاري في كتاب ‏(‏الأدب‏)‏ من صحيحه معلقاً فقال‏:‏ وقال محمد بن عيسى - هو ابن الطباع -‏:‏ ثنا هشيم فذكره‏.‏

وقال الطَّبرانيّ‏:‏ ثنا أبو شعيب الحرَّانيّ، ثنا يحيى بن عبد الله البابلتي، ثنا أيوب بن نهيك سمعت عطاء ابن أبي رباح، سمعت ابن عمر، سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأى صاحب بزّ فاشترى منه قميصاً بأربعة دراهم، فخرج وهو عليه، فإذا رجل من الأنصار فقال‏:‏ يا رسول الله إكسني قميصاً، كساك الله من ثياب الجنة، فنزع القميصص فكساه إيَّاه، ثم رجع إلى صاحب الحانوت فاشترى منه قميصاً بأربعة دراهم، وبقي معه درهمان، فإذا هو بجارية في الطَّريق تبكي‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما يبكيك‏؟‏‏)‏‏)‏

فقالت‏:‏ يا رسول الله دفع إليَّ أهلي درهمين اشتري بهما دقيقاً فهلكا، فدفع إليها رسول الله الدِّرهمين الباقيين، ثم انقلب وهي تبكي فدعاها‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما يبكيك وقد أخذت الدرهمين‏؟‏‏)‏‏)‏

فقالت‏:‏ أخاف أن يضربوني، فمشى معها إلى أهلها فسلَّم فعرفوا صوته، ثم عاد فسلَّم، ثم عاد فسلَّم ثم عاد فثلث فردُّوا فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أسمعتم أول السَّلام‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ نعم‏!‏ ولكن أحببنا أن تزيدنا من السَّلام، فما أشخصك بأبينا وأمنا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أشفقت هذه الجارية أن تضربوها‏)‏‏)‏‏.‏

فقال صاحبها‏:‏ هي حرَّة لوجه الله لممشاك معها، فبشَّرهم رسول الله بالخير والجنَّة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد بارك في العشرة، كسا الله نبيه قميصاً، ورجلاً من الأنصار قميصاً، وأعتق الله منها رقبة، وأحمد الله هو الذي رزقنا هذا بقدرته‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا رواه الطَّبرانيّ، وفي إسناده‏:‏ أيوب بن نهيك الحلبي، وقد ضعَّفه أبو حاتم‏.‏

وقال أبو زرعة‏:‏ منكر الحديث‏.‏

وقال الأزدي‏:‏ متروك‏.‏

وثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال‏:‏ ما عاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه‏.‏

وقال الثوري عن الأسود بن قيس، عن شيخ العوفيّ، عن جابر قال‏:‏ أتانا رسول الله في منزلنا فذبحنا له شاة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كأنهم علموا أنَّا نحب اللَّحم، الحديث‏)‏‏)‏‏.‏

وقال محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة، عن عمر بن عبد العزيز، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا جلس يتحدَّث كثيراً ما يرفع طرفه إلى السَّماء‏.‏

وهكذا رواه أبو داود‏:‏ في كتاب ‏(‏الأدب‏)‏ من سننه من حديث محمد بن إسحاق به‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ حدَّثنا سلمة بن شعيب، ثنا عبد الله بن إبراهيم، ثنا إسحاق بن محمد الأنصاريّ عن ربيح بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عن جده أبي سعيد الخدريّ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا جلس احتبى بيده‏.‏

ورواه البزَّار في مسنده ولفظه‏:‏ كان إذا جلس نصب ركبتيه، واحتبى بيديه‏.‏

ثم قال أبو داود‏:‏ ثنا حفص بن عمر، وموسى بن إسماعيل قالا‏:‏ ثنا عبد الرَّحمن بن حسَّان العنبريّ، حدَّثني جدتاي صفية ودحيبة ابنتا عليبة قال‏:‏ موسى ابنة حرملة، وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة، وكانت جدة أبيهما أنها أخبرتهما أنها رأت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو قاعد القرفصاء، قالت‏:‏ فلما رأيت رسول الله المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق‏.‏

ورواه التّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏ وفي ‏(‏الجامع‏)‏ عن عبد بن حميد، عن عفَّان بن مسلم بن عبد الله بن حسَّان به، وهو قطعة من حديث طويل قد ساقه الطَّبرانيّ بتمامه في ‏(‏معجمه الكبير‏)‏‏.‏


وقال البخاريّ‏:‏ ثنا الحسن بن الصَّباح البزَّار، ثنا سفيان عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يحدِّث حديثاً لو عدَّه العاد لأحصاه‏.‏

قال البخاري‏:‏ وقال الليث‏:‏ حدَّثني يونس عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة أنها قالت‏:‏ ألا أعجبك أبو فلان، جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدِّث عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يسمعني ذلك، وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكن يسرد الحديث كسردكم‏.‏

وقد رواه أحمد عن علي بن إسحاق، ومسلم عن حرملة، وأبو داود عن سليمان بن داود، كلهم عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد به، وفي روايتهم‏:‏ ألا أعجبك من أبي هريرة فذكرت نحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا وكيع عن سفيان، عن أسامة، عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ كان كلام النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فصلاً يفهمه كل أحد لم يكن يسرد سرداً‏.‏

وقد رواه أبو داود عن ابن أبي شيبة، عن وكيع‏.‏

وقال أبو يعلى‏:‏ ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، ثنا عبد الله بن مسعر، حدثني شيخ أنه سمع جابر بن عبد الله - أو ابن عمر - يقول‏:‏ كان في كلام النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ترتيل، أو ترسيل‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عبد الصَّمد، حدَّثنا عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا تكلم بكلمة رددها ثلاثاً، وإذا أتى قوماً يسلم عليهم سلَّم ثلاثاً‏.‏

ورواه البخاري من حديث عبد الصَّمد‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا أبو سعيد ابن أبي مريم، ثنا عبد الله بن المثنى سمعت ثمامة بن أنس يذكر أن أنساً كان إذا تكلم تكلم ثلاثاً، ويذكر أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا تكلَّم تكلَّم ثلاثاً، وكان يستأذن ثلاثاً‏.‏

وجاء في الحديث الذي رواه التّرمذيّ‏:‏ عن عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا تكلَّم يعيد الكلمة ثلاثاً لتعقل عنه‏.‏

ثم قال التّرمذيّ‏:‏ حسن صحيح غريب‏.‏

وفي الصَّحيح أنَّه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أوتيت جوامع الكلم، وأختصر الحكم اختصارا‏)‏‏)‏‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا حجاج، حدَّثنا ليث، حدَّثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب أنَّ أبا هريرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏بُعثت بجوامع الكلم، ونُصرت بالرُّعب، وبينا أنا نائم أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه البخاريّ من حديث اللَّيث‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا إسحاق بن عيسى، ثنا ابن لهيعة عن عبد الرَّحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏نُصرت بالرُّعب، وأُوتيت جوامع الكلم، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي‏)‏‏)‏‏.‏

تفرَّد به أحمد من هذا الوجه‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا يزيد، ثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏نُصرت بالرُّعب، وأُوتيت جوامع الكلم، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وبينا أنا نائم أُتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلَّت في يدي‏)‏‏)‏‏.‏

تفرَّد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط مسلم‏.‏

وثبت في الصَّحيحين من حديث ابن وهب عن عمرو بن الحرث، حدَّثني أبو النضر عن سليمان بن يسار، عن عائشة قالت‏:‏ ما رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ ثنا قتيبة، ثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن الحرث بن جزء قال‏:‏ ما رأيت أحداً أكثر تبسُّماً من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -

ثم رواه من حديث اللَّيث عن يزيد ابن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحرث بن جزء قال‏:‏ ما كان ضحك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا تبسُّماً، ثم قال‏:‏ صحيح‏.‏

وقال مسلم‏:‏ ثنا يحيى بن يحيى، ثنا أبو خيثمة عن سماك بن حرب قلت لجابر بن سمرة‏:‏ أكنت تجالس رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ‏؟‏

قال‏:‏ نعم كثيراً كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشَّمس فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدَّثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون، ويتبسَّم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ ثنا شريك وقيس بن سعد عن سماك بن حرب قال‏:‏ قلت لجابر بن سمرة‏:‏ أكنت تجالس النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ‏؟‏

قال‏:‏ نعم، كان قليل الصَّمت، قليل الضَّحك، فكان أصحابه ربما يتناشدون الشعر عنده، وربما قال الشيء من أمورهم فيضحكون، وربما يتبسَّم‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد ابن أبي عمرو قالا‏:‏ ثنا أبو العبَّاس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق، أنَّا أبو عبد الرَّحمن المقريّ، ثنا اللَّيث بن سعد عن الوليد ابن أبي الوليد أن سليمان بن خارجة أخبره عن خارجة بن زيد - يعني‏:‏ ابن ثابت - أنَّ نفراً دخلوا على أبيه فقالوا‏:‏ حدِّثنا عن بعض أخلاق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقال‏:‏ كنت جاره، فكان إذا نزل الوحي بعث إليّ فآتيه فأكتب الوحي، وكنَّا إذا ذكرنا الدُّنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطَّعام ذكره معنا، فكل هذا نحدِّثكم عنه‏.‏

ورواه التّرمذيّ في ‏(‏الشَّمائل‏)‏ عن عباس الدوريّ، عن أبي عبد الرَّحمن، عن عبد الله بن يزيد المقريّ به نحوه‏.‏

كرمه عليه السلام

تقدَّم ما أخرجاه في الصَّحيحين من طريق الزُّهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجود النَّاس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل بالوحي فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجود بالخير من الرِّيح المرسلة‏.‏

وهذا التشبيه في غاية ما يكون من البلاغة في تشبيهه الكرم بالريح المرسلة، في عمومها وتواترها وعدم انقطاعها‏.‏

وفي الصَّحيحين من حديث سفيان بن سعيد الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ ما سئل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم شيئاً قط فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا ابن أبي عدي عن حميد، عن موسى بن أنيس، عن أنس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه قال‏:‏ فأتاه رجل فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصَّدقة‏.‏

قال‏:‏ فرجع إلى قومه فقال‏:‏ يا قوم أسلموا فان محمداً يعطي عطاء ما يخشى الفاقة‏.‏

ورواه مسلم عن عاصم بن النضر، عن خالد بن الحارث، عن حميد‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا عفَّان، ثنا حماد، ثنا ثابت عن أنس أن رجلاً سأل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأعطاه غنماً بين جبلين، فأتى قومه فقال‏:‏ يا قوم أسلموا فإنَّ محمد يعطي عطاء ما يخلف الفاقة‏.‏

فإنَّ كان الرَّجل ليجيء إلى رسول الله ما يريد إلا الدُّنيا فما يمسي حتى يكون دينه أحبّ إليه وأعزّ عليه من الدّنيا وما فيها‏.‏

ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به‏.‏

وهذا العطاء ليؤلِّف به قلوب ضعيفي القلوب في الإسلام، ويتألَّف آخرين ليدخلوا في الإسلام كما فعل يوم حنين حين قسم تلك الأموال الجزيلة من الإبل، والشاء، والذَّهب، والفضة في المؤلفة، ومع هذا لم يعط الأنصار وجمهور المهاجرين شيئاً، بل أنفق فيمن كان يحب أن يتألَّفه على الإسلام، وترك أولئك لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، وقال مسلياً لمن سأل عن وجه الحكمة في هذه القسمة، لمن عتب من جماعة الأنصار‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ترضون أن يذهب النَّاس بالشاء، والبعير، وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى رحالكم‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ رضينا يا رسول الله‏.‏

وهكذا أعطى عمَّه العبَّاس بعد ما أسلم حين جاءه ذلك المال من البحرين فوضع بين يديه في المسجد وجاء العباس فقال‏:‏ يا رسول الله أعطني فقد فاديت نفسي يوم بدر، وفاديت عقيلاً‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذ‏)‏‏)‏ فنزع ثوبه عنه، وجعل يضع فيه من ذلك المال ثم قام ليقله فلم يقدر‏.‏

فقال لرسول الله‏:‏ ارفعه علي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أفعل‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ مُرْ بعضهم ليرفعه علي‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

فوضع منه شيئاً، ثم عاد فلم يقدر، فسأله أن يرفعه، أو أن يأمر بعضهم برفعه، فلم يفعل، فوضع منه، ثم احتمل الباقي وخرج به من المسجد ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يتبعه بصره عجباً من حرصه‏.‏

قلت‏:‏ وقد كان العبَّاس رضي الله عنه رجلاً شديداً، طويلاً، نبيلاً، فأقل ما احتمل شيء يقارب أربعين ألفاً، والله أعلم‏.‏

وقد ذكره البخاري في صحيحه في مواضع معلقاً بصيغة الجزم، وهذا يورد في مناقب العبَّاس لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقد تقدَّم عن أنس بن مالك خادمه عليه السَّلام أنه قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجود النَّاس وأشجع النَّاس، الحديث‏.‏

وكيف لا يكون كذلك وهو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المجبول على أكمل الصِّفات، الواثق بما في يديّ الله - عز وجل - الذي أنزل عليه في محكم كتابه العزيز‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ ‏]‏ الآية وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ‏}‏‏.‏ ‏[‏سبأ‏:‏ ‏]‏‏.‏


وهو عليه السلام القائل لمؤذنه بلال وهو الصَّادق المصدوق في الوعد والمقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً‏)‏‏)‏‏.‏

وهو القائل عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏ما من يوم تصبح العباد فيه إلا وملكان يقول أحدهما‏:‏ اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر‏:‏ اللهم أعط ممسكاً تلفاً‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث الآخر أنه قال لعائشة‏:‏ ‏(‏‏(‏لا توعي فيوعى الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الصَّحيح أنَّه عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ ابن آدم أَنفق أُنفق عليك‏)‏‏)‏‏.‏

فكيف لا يكون أكرم النَّاس وأشجع النَّاس وهو المتوكل الذي لا أعظم منه في توكله، الواثق برزق الله ونصره المستعين بربه في جميع أمره، ثم قد كان قبل بعثته وبعدها، وقبل هجرته ملجأ الفقراء، والأرامل، والأيتام، والضُّعفاء، والمساكين، كما قال عمه أبو طالب فيما قدمناه من القصيدة المشهورة‏:‏

ومَا تركُ قَومٍ لا أبالكَ سَيداً * يحوط الذِمارُ غَيرَ ذربِ موكلِ

وأَبيضَ يستسقي الغَمامَ بوجهِهِ * ثمالَ اليتامَى عصمةً للأرامِلِ

يلوذُ بهِ الهلاكُ من آل هاشمٍ * فهمْ عندَهُ في نعمةٍ وَفَواضِلِ

ومن تواضعه ما روى الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة عن ثابت، زاد النَّسائي وحميد عن أنس أن رجلاً قال لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ يا سيدنا وابن سيدنا‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيها النَّاس قولوا بقولكم، ولا يستهوينَّكم الشَّيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق ما رفعني الله‏)‏‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطَّاب قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تطروني كما أطرت النَّصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا‏:‏ عبد الله ورسوله‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا يحيى بن شعبة، حدَّثني الحكم عن إبراهيم، عن الأسود قال‏:‏ قلت لعائشة‏:‏ ما كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصنع في أهله ‏؟‏

قالت‏:‏ كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصَّلاة خرج إلى الصَّلاة‏.‏

وحدَّثنا وكيع ومحمد بن جعفر قالا‏:‏ حدَّثنا شعبة عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود قال‏:‏ قلت لعائشة‏:‏ ما كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يصنع إذا دخل بيته ‏؟‏

قالت‏:‏ كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصَّلاة خرج فصلَّى‏.‏

ورواه البخاريّ عن آدم، عن شعبة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عبدة، ثنا هشام بن عروة، عن رجل قال‏:‏ سئلت عائشة‏:‏ ما كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصنع في بيته ‏؟‏

قالت‏:‏ كان يرقع الثَّوب، ويخصف النعل، ونحو هذا، وهذا منقطع من هذا الوجه‏.‏

وقد قال عبد الرَّزاق‏:‏ أنَّا معمر عن الزُّهريّ، عن عروة، وهشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ سأل رجل عائشة‏:‏ هل كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يعمل في بيته ‏؟‏


قالت‏:‏ نعم، كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه كما يعمل أحدكم في بيته، رواه البيهقيّ فاتصل الإسناد‏.‏

وقال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو الحسين ابن بشران، أنَّا أبو جعفر محمد بن عمرو بن البحتري إملاءً، حدَّثنا محمد بن إسماعيل السلميّ، حدَّثنا ابن صالح، حدَّثني معاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد، عن عمرة قالت‏:‏ قلت لعائشة‏:‏ ما كان يعمل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بيته ‏؟‏

قالت‏:‏ كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بشراً من البشر يفلّي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه‏.‏

ورواه التّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏ عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة قالت‏:‏ قيل لعائشة‏:‏ ما كان يعمل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بيته، الحديث‏.‏

وروى ابن عساكر من طريق أبي أسامة عن حارثة بن محمد الأنصاريّ، عن عمرة قالت‏:‏ قلت لعائشة‏:‏ كيف كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أهله ‏؟‏

قالت‏:‏ كان ألين النَّاس، وأكرم النَّاس، وكان ضحَّاكاً بسَّاماً‏.‏

وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ ثنا شعبة، حدَّثني مسلم أبو عبد الله الأعور، سمع أنساً يقول‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يكثر الذِّكر، ويقلّ اللَّغو، ويركب الحمار، ويلبس الصُّوف، ويجيب دعوة المملوك، ولو رأيته يوم خيبر على حمار خطامه من ليف‏.‏

وفي التّرمذيّ، وابن ماجه من حديث مسلم بن كيسان الملائي، عن أنس بعض ذلك‏.‏

وقال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو عبد الله الحافظ إملاءً، ثنا أبو بكر محمد بن جعفر الآدميّ القاريّ ببغداد، ثنا عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الدروري، ثنا أحمد بن نصر بن مالك الخزاعيّ، ثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه قال‏:‏ سمعت يحيى بن عقيل يقول‏:‏ سمعت عبد الله ابن أبي أوفى يقول‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يكثر الذِّكر، ويقلّ اللَّغو، ويطيل الصَّلاة، ويقصر الخطبة، ولا يستنكف أن يمشي مع العبد، ولا مع الأرملة حتى يفرغ لهم من حاجاتهم‏.‏

رواه النسائي عن محمد بن عبد العزيز، عن أبي زرعة، عن الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن يحيى بن عقيل الخزاعيّ البصريّ، عن ابن أبي أوفى بنحوه‏.‏

وقال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الفقيه بالريّ، ثنا أبو بكر محمد بن الفرج الأزرق، ثنا هاشم بن القاسم، ثنا شيبان أبو معاوية عن أشعث ابن أبي الشعثاء، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يركب الحمار، ويلبس الصُّوف، ويعتقل الشَّاة، ويأتي مراعاة الضَّيف، وهذا غريب من هذا الوجه، ولم يخرِّجوه، وإسناده جيد‏.‏

وروى محمد بن سعد عن إسماعيل ابن أبي فديك، عن موسى بن يعقوب الربعيّ، عن سهل مولى عتبة أنَّه كان نصرانياً من أهل مريس، وأنَّه كان في حجر عمه وأنه قال‏:‏ قرأت يوماً في مصحف لعمي فإذا فيه ورقة بغير الخط، وإذا فيها نعت محمد صلَّى الله عليه وسلَّم لا قصير ولا طويل، أبيض ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحتلب الشَّاة، ويلبس قميصاً مرقوعاً، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر، وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد‏.‏

قال‏:‏ فلمَّا جاء عمي ورآني قد قرأتها ضربني وقال‏:‏ مالك وفَتْح هذه‏؟‏

فقلت‏:‏ إنَّ فيها نعت أحمد‏.‏

فقال‏:‏ إنَّه لم يأت بعد‏.‏


وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا إسماعيل، ثنا أيُّوب عن عمرو، عن سعيد، عن أنس قال‏:‏ ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وذكر الحديث‏.‏

ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن علية به‏.‏

وقال التّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏‏:‏ ثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو داود عن شعبة، عن الأشعث بن سليم قال‏:‏ سمعت عمتي تحدِّث عن عمها قال‏:‏ بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إرفع إزارك، فإنَّه أنقى وأبقى‏)‏‏)‏ فنظرت فإذا هو رسول الله‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله، إنما هي بردة ملحاء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أمالك فيَّ أسوة‏؟‏‏)‏‏)‏ فإذا إزاره إلى نصف ساقيه‏.‏

ثم قال‏:‏ ثنا سويد بن نصر، ثنا عبد الله بن المبارك عن موسى بن عبيدة، عن إياس بن سلمة، عن أبيه قال‏:‏ كان عثمان بن عفَّان متزراً إلى أنصاف ساقيه‏.‏

قال‏:‏ هكذا كانت أزره صاحبي صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ ثنا يوسف بن عيسى، ثنا وكيع، ثنا الرَّبيع بن صبيح، ثنا يزيد بن أبان عن أنس بن مالك قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يكثر القناع، كأن ثوبه ثوب زيَّات، وهذا فيه غرابة ونكارة، والله أعلم‏.‏

وروى البخاريّ عن علي بن الجعد، عن شعبة، عن سيار بن الحكم، عن ثابت، عن أنس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مرَّ على صبيان يلعبون، فسلَّم عليهم‏.‏

ورواه مسلم من وجه آخر عن شعبة‏.‏

مزاحه عليه السلام

وقال ابن لهيعة‏:‏ حدَّثني عمارة بن غزية عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من أفكه النَّاس مع صبي، وقد تقدَّم حديثه في ملاعبته أخاه أبا عمير وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏أبا عمير ما فعل النغير‏)‏‏)‏ يذكره بموت نغر كان يلعب به ليخرجه بذلك كما جرت به عادة النَّاس من المداعبة مع الأطفال الصِّغار‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا خلف بن الوليد، ثنا خالد بن عبد الله عن حميد الطَّويل، عن أنس بن مالك أن رجلاً أتى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فاستحمله‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّا حاملوك على ولد ناقة‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله ما أصنع بولد ناقة ‏؟‏

فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -‏:‏ ‏(‏‏(‏وهل تلد الإبل إلا النُّوق‏؟‏‏)‏‏)‏

ورواه أبو داود عن وهب بن بقية، والتّرمذيّ عن قتيبه، كلاهما عن خالد بن عبد الله الواسطيّ الطحان به‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ صحيح غريب‏.‏

وقال أبو داود في هذا الباب‏:‏ ثنا يحيى بن معين، ثنا حجاج بن محمد، ثنا يونس ابن أبي إسحاق عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حرب، عن النُّعمان بن بشير قال‏:‏ استأذن أبو بكر على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فسمع صوت عائشة عالياً على رسول الله، فلما دخل تناولها ليلطمها‏.‏

وقال‏:‏ ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله ‏!‏‏.‏

فجعل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يحجزه، وخرج أبو بكر مغضباً‏.‏

فقال رسول الله حين خرج أبو بكر‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف رأيتني أنقذتك من الرَّجل‏)‏‏)‏

فمكث أبو بكر أياماً، ثم استأذن على رسول الله فوجدهما قد اصطلحا‏.‏

فقال لهما‏:‏ أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏قد فعلنا، قد فعلنا‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا مؤمل بن الفضل، ثنا الوليد بن مسلم عن عبد الله بن العلاء، عن بشر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولانيّ، عن عوف بن مالك الأشجعيّ قال‏:‏ أتيت رسول الله في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فسلَّمت فردَّ، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أدخل‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ أكلي يا رسول الله ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كلك‏)‏‏)‏ فدخلت‏.‏

وحدَّثنا صفوان بن صالح، ثنا الوليد بن عثمان ابن أبي العاتكة إنما قال‏:‏ أدخل كلي من صغر القبة‏.‏

ثم قال أبو داود‏:‏ ثنا إبراهيم بن مهدي، ثنا شريك عن عاصم، عن أنس قال‏:‏ قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ياذا الأذنين‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد، ثنا عبد الرَّزاق، ثنا معمر عن ثابت، عن أنس أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً، يهدي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الهدية من البادية، فيجهِّزه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا أراد أن يخرج‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ زاهراً باديتنا، ونحن حاضروه‏)‏‏)‏‏.‏

وكان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم - يحبه، وكان رجلاً دميماً، فأتاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه ولا يبصره‏.‏

فقال‏:‏ أرسلني من هذا ‏؟‏‏.‏

فالتفت فعرف النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حين عرفه، وجعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من يشتري العبد‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله، إذن والله تجدني كاسداً‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لكن عند الله لست بكاسد‏)‏‏)‏‏.‏

أو قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لكن عند الله أنت غال‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات على شرط الصَّحيحين، ولم يروه إلا التّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏ عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرزاق‏.‏

ومن هذا ما قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا حجاج، حدثني شعبة عن ثابت البنانيّ، عن أنس بن مالك أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان في مسير، وكان حاد يحدو بنسائه أو سائق قال‏:‏ فكان نساؤه يتقدمن بين يديه‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أنجشة ويحك إرفق بالقوارير‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث في الصَّحيحين عن أنس قال‏:‏ وكان للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم حاد يحدو بنسائه يقال له‏:‏ أنجشة، فحدا فأعنقت الإبل‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ويحك يا أنجشة، إرفق بالقوارير‏)‏‏)‏‏.‏

ومعنى القوارير‏:‏ النِّساء، وهي كلمة دعابة - صلوات الله وسلامه عليه - دائماً إلى يوم الدِّين‏.‏

ومن مكارم أخلاقه ودعابته، وحسن خلقه، استماعه عليه السلام حديث أم زرع من عائشة بطوله، ووقع في بعض الرِّوايات أنه عليه السلام هو الذي قصَّه على عائشة‏.‏

ومن هذا ما رواه الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو النضر، ثنا أبو عقيل - يعني‏:‏ عبد الله بن عقيل الثَّقفيّ - به‏.‏

حدَّثنا مجالد بن سعيد عن عامر، عن مسروق، عن عائشة قالت‏:‏ حدث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نساءه ذات ليلة حديثاً‏.‏

فقالت امرأة منهن‏:‏ ‏(‏‏(‏يا رسول الله كان الحديث حديث خرافة‏)‏‏)‏‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أتدرين ما خرافة‏؟‏ إنَّ خرافة كان رجلاً من عذرة أسرته الجنّ في الجاهلية، فمكث فيهم دهراً طويلاً، ثم ردّوه إلى الأنس، فكان يحدِّث النَّاس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال النَّاس‏:‏ حديث خرافة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه التّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏ عن الحسن بن الصَّباح البزَّار، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به‏.‏

قلت‏:‏ وهو من غرائب الأحاديث وفيه نكارة، ومجالد بن سعيد يتكلَّمون فيه، فالله أعلم‏.‏

وقال التّرمذيّ في باب خراج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من كتابه ‏(‏الشمائل‏)‏ ثنا عبد بن حميد، ثنا مصعب بن المقدام، ثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال‏:‏ أتت عجوز النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت‏:‏ يا رسول الله أدع لي أن يدخلني الله الجنَّة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أم فلان، إنَّ الجنَّة لا تدخلها عجوز‏)‏‏)‏‏.‏

فولَّت العجوز تبكي‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز فإنَّ الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ -‏]‏‏.‏

وهذا مرسل من هذا الوجه‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ ثنا عباس بن محمد الدوري، ثنا علي بن الحسن بن شقيق، ثنا عبد الله بن المبارك عن أسامة بن زيد، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة قال‏:‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله إنك تداعبنا ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لا أقول إلا حقاً‏)‏‏)‏‏.‏

تداعبنا - يعني تمازحنا -‏.‏

وهكذا رواه التّرمذيّ في ‏(‏جامعه‏)‏ في ‏(‏باب البر‏)‏ بهذا الإسناد، ثم قال‏:‏ وهذا حديث مرسل حسن‏.‏


باب زهده عليه السلام وإعراضه عن هذه الدَّار

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ ]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ‏}‏‏.‏ ‏[‏النَّجم‏:‏ -‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏لحجر‏:‏ -‏]‏‏.‏

والآيات في هذا كثيرة‏.‏

وأما الأحاديث‏:‏ فقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدَّثني أبو العباس حيوة بن شريح، أنَّا بقية عن الزُّبيدي، عن الزُّهريّ، عن محمد بن عبد الله بن عبَّاس قال‏:‏ كان ابن عبَّاس يحدِّث‏:‏ أنَّ الله أرسل إلى نبيه ملكاً من الملائكة معه جبريل‏.‏

فقال الملك لرسوله‏:‏ إنَّ الله يخيِّرك بين أن تكون عبداً نبياً، وبين أن تكون ملكاً نبياً، فالتفت رسول الله إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله أن تواضع‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏بل أكون عبداً نبياً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فما أكل بعد تلك الكلمة طعاماً متكئاً حتى لقي الله - عز وجل‏.‏

وهكذا رواه البخاري في‏(‏التاريخ‏)‏‏:‏ عن حيوة بن شريح‏.‏

وأخرجه النَّسائي عن عمرو بن عثمان، كلاهما عن بقية بن الوليد به‏.‏

وأصل هذا الحديث في الصَّحيح بنحو من هذا اللفظ‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا محمد بن فضيل عن عمارة، عن أبي زرعة - ولا أعلمه إلا عن أبي هريرة - قال‏:‏ جلس جبريل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فنظر إلى السَّماء فإذا ملك ينزل‏.‏

فقال جبريل‏:‏ إنَّ هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل السَّاعة‏.‏

فلما نزل قال‏:‏ يا محمد أرسلني إليك ربك أفملكاً نبياً يجعلك، أو عبداً رسولاً ‏؟‏‏.‏

هكذا وجدته بالنسخة التي عندي بالمسند مقتصراً، وهو من أفراده من هذا الوجه‏.‏

وثبت في الصَّحيحين من حديث ابن عبَّاس عن عمر بن الخطاب في حديث إيلاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من أزواجه، أن لا يدخل عليهنَّ شهراً، واعتزل عنهنَّ في علية، فلما دخل عليه عمر في تلك العلية فإذا ليس فيها سوى صبرة من قرظ، وأهبة معلقة، وصبرة من شعير، وإذا هو مضطجع على رمال حصير، قد أثَّر في جنبه، فهملت عينا عمر فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مالك‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله أنت صفوة الله من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هما فيه‏.‏

فجلس محمراً وجهه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أوفي شكٍ أنت يا ابن الخطاب‏؟‏‏)‏‏)‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدُّنيا‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية لمسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ترضى أن تكون لهم الدُّنيا ولنا الآخرة‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فأحمد الله عز وجل‏)‏‏)‏‏.‏

ثم لما انقضى الشَّهر أمره الله - عز وجل - أن يخيِّر أزواجه، وأنزل عليه قوله‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً‏}‏‏.‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ -‏]‏‏.‏

وقد ذكرنا هذا مبسوطاً في كتابنا ‏(‏التفسير‏)‏ وأنَّه بدأ بعائشة فقال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك‏)‏‏)‏ وتلا عليها هذه الآية‏.‏

قالت‏:‏ فقلت‏:‏ أفي هذا أستأمر أبواي‏؟‏ فإني أختار الله ورسوله، والدَّار الآخرة، وكذلك قال سائر أزواجه - عليه السلام -، ورضي عنهن‏.‏

وقال مبارك بن فضالة عن الحسن، عن أنس قال‏:‏ دخلت على رسول الله وهو على سرير مزمول بالشَّريط، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، ودخل عليه عمر وناس من الصَّحابة فانحرف رسول الله إنحرافة فرأى عمر أثر الشريط في جنبه فبكى‏.‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏ما يبكيك يا عمر‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ ومالي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدُّنيا، وأنت على الحال الذي أرى‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدُّنيا ولنا الآخرة‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هو كذلك‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا رواه البيهقيّ‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا أبو النضر، ثنا مبارك عن الحسن، عن أنس بن مالك قال‏:‏ دخلت على رسول الله وهو على سرير مضطجع مزمل بشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم، حشوها ليف، فدخل عليه نفر من أصحابه، ودخل عمر فانحرف رسول الله إنحرافة، فلم ير عمر بين جنبه وبين الشَّريط ثوباً وقد أثَّر الشريط بجنب رسول الله، فبكى عمر‏.‏

فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما يبكيك يا عمر‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ والله ما أبكي ألا أكون أعلم أنك أكرم على الله من كسرى وقيصر، وهما يعيشان في الدُّنيا فيما يعيشان فيه‏؟‏ وأنت يا رسول الله في المكان الذي أرى‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ترضى أن تكون لهم الدُّنيا، ولنا الآخرة‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فإنَّه كذلك‏.‏

وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ ثنا المسعوديّ عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم، عن علقمة بن مسعود قال‏:‏ اضطجع رسول الله على حصير، فأثَّر الحصير بجلده، فجعلت أمسحه وأقول‏:‏ بأبي أنت وأمي، ألا آذنتنا فنبسط لك شيئاً يقيك منه تنام عليه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مالي وللدُّنيا، ما أنا والدُّنيا، إنما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه ابن ماجه عن يحيى بن حكيم، عن أبي داود الطَّيالسيّ به‏.‏

وأخرجه التّرمذيّ عن موسى بن عبد الرَّحمن الكندي، عن زيد بن الحباب، كلاهما عن المسعوديّ به‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس فقال‏:‏ حدَّثنا عبد الصَّمد، وأبو سعيد وعفَّان قالوا‏:‏ ثنا ثابت، ثنا هلال عن عكرمة، عن ابن عبَّاس أن رسول الله دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثَّر في جنبه‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مالي وللدُّنيا، ما مثلي ومثل الدُّنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعةً من نهار، ثم راح وتركها‏)‏‏)‏‏.‏

تفرَّد به أحمد‏.‏

وفي صحيح البخاريّ من حديث الزُّهريّ عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة أن رسول الله قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو أنَّ لي مثل أحد ذهباً ما سرَّني أن تأتي علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الصَّحيحين من حديث عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً‏)‏‏)‏‏.‏

فأمَّا الحديث الذي رواه ابن ماجه من حديث يزيد بن سنان عن ابن المبارك، عن عطاء، عن أبي سعيد أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين‏)‏‏)‏‏.‏

فإنَّه حديث ضعيف، لا يثبت من جهة إسناده، لأن فيه يزيد بن سنان أبا فروة الرَّهاويّ وهو ضعيف جداً، والله أعلم‏.‏

وقد رواه التّرمذيّ من وجه آخر فقال‏:‏ حدَّثنا عبد الأعلى بن واصل الكوفيّ، ثنا ثابت بن محمد العابد الكوفيّ، حدَّثنا الحارث بن النُّعمان اللَّيثي عن أنس أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت عائشة‏:‏ لِمَ يا رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنهم يدخلون الجنَّة قبل أغنيائهم بأربعين خريفاً، يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشق تمرة، يا عائشة حبِّي المساكين وقرِّبيهم، فإنَّ الله يقرِّبك يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ هذا حديث غريب‏.‏

قلت‏:‏ وفي إسناده ضعف، وفي متنه نكارة، والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عبد الصَّمد قال‏:‏ حدَّثنا أبو عبد الرَّحمن - يعني‏:‏ عبد الله بن دينار - عن أبي حازم، عن سعيد بن سعد أنه قيل له‏:‏ هل رأى النَّبيّ بعينه - يعني‏:‏ الحوارى- ‏؟‏

فقال له‏:‏ ما رأى رسول الله النقى بعينه حتى لقي الله - عز وجل -‏.‏

فقيل له‏:‏ هل لكم مناخل على عهد رسول الله ‏؟‏

فقال‏:‏ ما كانت لنا مناخل‏.‏

فقيل له‏:‏ فكيف كنتم تصنعون بالشَّعير ‏؟‏

قال‏:‏ ننفخه فيطير منه ما طار‏.‏

وهكذا رواه التّرمذيّ من حديث عبد الرَّحمن بن عبد الله بن دينار به، وزاد‏:‏ ثم نذريه ونعجنه، ثم قال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقد رواه مالك عن أبي حازم‏.‏

قلت‏:‏ وقد رواه البخاريّ عن سعيد ابن أبي مريم، عن محمد بن مطرف بن غسَّان المدني، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد به‏.‏

ورواه البخاريّ أيضاً والنسائي عن شيبة، عن يعقوب بن عبد الرَّحمن القاريّ، عن أبي حازم، عن سهل به‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ حدَّثنا عبَّاس بن محمد الدوريّ، ثنا يحيى ابن أبي بكير، ثنا جرير بن عثمان، عن سليم بن عامر سمعت أبا أمامة يقول‏:‏ ما كان يفضل عن أهل بيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خبز الشَّعير‏.‏

ثم قال‏:‏ حسن صحيح غريب‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يحيى بن سعيد عن يزيد بن كيسان، حدَّثني أبو حازم قال‏:‏ رأيت أبا هريرة يشير بإصبعه مراراً، والذي نفس أبي هريرة بيده ما شبع نبي الله وأهله ثلاثة أيام تباعاً من خبز حنطة حتى فارق الدُّنيا‏.‏

ورواه مسلم والتّرمذيّ، وابن ماجه من حديث يزيد بن كيسان‏.‏

وفي الصَّحيحين من حديث جرير بن عبد الحميد عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت‏:‏ ما شبع آل محمد صلَّى الله عليه وسلَّم منذ قدموا المدينة ثلاثة أيام تباعاً من خبز بر، حتى مضى لسبيله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا هاشم، ثنا محمَّد بن طلحة عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت‏:‏ ما شبع آل محمَّد ثلاثاً من خبز برّ، حتى قبض وما رفع من مائدته كسرة قط حتى قبض‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا محمد بن عبيد، ثنا مطيع الغزال عن كردوس، عن عائشة قالت‏:‏ قد مضى رسول الله لسبيله وما شبع أهله ثلاثة أيام من طعام برّ‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا حسن، ثنا زويد عن أبي سهل، عن سليمان بن رومان مولى عروة عن عروة، عن عائشة أنها قالت‏:‏ والذي بعث محمداً بالحق ما رأى منخلاً، ولا أكل خبزاً منخولاً منذ بعثه الله - عز وجل - إلى أن قُبض‏.‏

قلت‏:‏ كيف كنتم تأكلون الشَّعير ‏؟‏

قالت‏:‏ كنَّا نقول‏:‏ أف‏.‏

تفرَّد به أحمد من هذا الوجه‏.‏


وروى البخاري عن محمد بن كثير، عن الثوري، عن عبد الرَّحمن بن عابس بن ربيعة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ إن كنَّا لنخرج الكراع بعد خمسة عشر يوماً فنأكله‏.‏

قلت‏:‏ ولِمَ تفعلون ذلك ‏؟‏

فضحكت وقالت‏:‏ ما شبع آل محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - من خبز مأدوم حتى لحق بالله - عز وجل -‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا يحيى، ثنا هشام، أخبرني أبي عن عائشة قالت‏:‏ كان يأتي على آل محمَّد الشَّهر ما يوقدون فيه ناراً، ليس إلا التَّمر والماء، إلا أن يؤتى باللحم‏.‏

وفي الصَّحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أنها قالت‏:‏ إن كنَّا آل محمَّد ليمر بنا الهلال ما نوقد ناراً، إنما هو الأسودان التَّمر والماء، إلا أنه كان حولنا أهل دور من الأنصار يبعثون إلى رسول الله بلبن منائحهم فيشرب، ويسقينا من ذلك اللَّبن‏.‏

ورواه أحمد عن بريدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عنها بنحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عبد الله، حدَّثني أبي، ثنا حسين، ثنا محمد بن مطرف عن أبي حازم، عن عروة بن الزُّبير أنَّه سمع عائشة تقول‏:‏ كان يمرُّ بنا هلال وهلال، ما يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ناراً‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ يا خالة على أي شيء كنتم تعيشون ‏؟‏

قالت‏:‏ على الأسودين التَّمر والماء‏.‏

تفرَّد به أحمد‏.‏

وقال أبو داود الطَّيالسيّ عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرَّحمن بن يزيد، عن الأسود، عن عائشة قالت‏:‏ ما شبع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث شعبة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عبد الله، حدَّثني أبي، ثنا بهز، ثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ أرسل إلينا آل أبي بكر بقائمة شاة ليلاً فأمسكت، وقطع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أو قالت‏:‏ أمسك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقطعت - قالت‏:‏ تقول للذي تحدثه‏:‏ - هذا على غير مصباح‏.‏

وفي رواية‏:‏ لو كان عندنا مصباح لأتدمنا به‏.‏

قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ إنه ليأتي على آل محمَّد الشَّهر ما يختبزون خبزاً ولا يطبخون قدراً‏.‏

وقد رواه أيضاً عن بهز بن أسد، عن سليمان بن المغيرة‏.‏

وفي رواية‏:‏ شهرين، تفرَّد به أحمد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا خلف، ثنا أبو معشر عن سعيد - هو ابن أبي سعيد -، عن أبي هريرة قال‏:‏ كان يمرُّ بآل رسول الله هلال ثم هلال لا يُوقدون في بيوتهم النَّار لا بخبز، ولا بطبخ‏.‏

قالوا‏:‏ بأيِّ شيء كانوا يعيشون يا أبا هريرة ‏؟‏


قال‏:‏ الأسودان التَّمر والماء، وكان لهم جيران من الأنصار جزاهم الله خيراً لهم منائح يرسلون إليهم شيئاً من لبن‏.‏

تفرَّد به أحمد‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث منصور بن عبد الرَّحمن الحجبي عن أمه، عن عائشة قالت‏:‏ توفي رسول الله وقد شبع النَّاس من الأسودين التَّمر والماء‏.‏

وقال ابن ماجه‏:‏ حَّدثنا سويد بن سعيد، ثنا علي بن مسهر عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوماً بطعام سخن فأكل، فلما فرغ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الحمد لله ما دخل بطني طعام سخن منذ كذا وكذا‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عبد الصَّمد، ثنا عمار أبو هاشم صاحب الزَّعفرانيّ عن أنس بن مالك أنَّ فاطمة ناولت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كسرة من خبز الشَّعير فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاثة أيام‏)‏‏)‏‏.‏

وروى الإمام أحمد عن عفَّان، والتّرمذيّ، وابن ماجه، جميعاً عن عبد الله بن معاوية، كلاهما عن ثابت بن يزيد، عن هلال بن خبَّاب العبديّ الكوفي، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يبيت اللَّيالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم خبز الشَّعير، وهذا لفظ أحمد‏.‏

وقال التّرمذيّ في ‏(‏الشمائل‏)‏‏:‏ ثنا عبد الله بن عبد الرَّحمن الدَّارميّ، ثنا عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن محمد ابن أبي يحيى الأسلميّ، عن يزيد ابن أبي أمية الأعور، عن أبي يوسف ابن عبد الله بن سلام قال‏:‏ رأيت رسول الله أخذ كسرة من خبز الشَّعير فوضع عليها تمرة وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا إدام هذه، وأكل‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الصَّحيحين من حديث الزُّهريّ عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ كان أحب الشَّراب إلى رسول الله الحلو البارد‏.‏

وروى البخاري من حديث قتادة عن أنس قال‏:‏ ما أعلم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق بالله، ولا شاة سميطاً بعينه قط‏.‏

وفي رواية له عنه أيضاً‏:‏ ما أكل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على خوان، ولا في سكرجة، ولا خبز له مرقق‏.‏

فقلت لأنس‏:‏ فعلى ما كانوا يأكلون ‏؟‏

قال‏:‏ على هذه السفر‏.‏

وله من حديث قتادة أيضاً عن أنس أنَّه مشى إلى رسول صلَّى الله عليه وسلَّم بخبز شعير، وإهالة سنخة، ولقد رهن درعه من يهودي، فأخذ لأهله شعيراً، ولقد سمعته ذات يوم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أمسى عند آل محمَّد صاع تمر، ولا صاع حب‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عفَّان، ثنا أبان بن يزيد، ثنا قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يجتمع له غداء، ولا عشاء من خبز ولحم، إلا على ضفف‏.‏

ورواه التّرمذيّ في ‏(‏الشَّمائل‏)‏ عن عبد الله بن عبد الرَّحمن الدَّارميّ، عن عفَّان، وهذا الإسناد على شرط الشَّيخين‏.‏

وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ حدَّثنا شعبة عن سماك بن حرب، سمعت النُّعمان بن بشير يقول‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب يخطب، فذكر ما فتح الله على الناس، فقال‏:‏ لقد رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يلتوي من الجوع، ما يجد من الدَّقل ما يملأ بطنه‏.‏

وأخرجه مسلم من حديث شعبة‏.‏

وفي الصَّحيح أنَّ أبا طلحة قال‏:‏ يا أم سليم لقد سمعت صوت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أعرف فيه الجوع، وسيأتي الحديث في دلائل النبوة‏.‏

وفي قصة أبي الهيثم ابن التيهان أن أبا بكر وعمر خرجا من الجوع، فبينما هما كذلك إذ خرج رسول الله فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أخرجكما‏؟‏‏)‏‏)‏

فقالا‏:‏ الجوع‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده لقد أخرجني الذي أخرجكما‏)‏‏)‏ فذهبوا إلى حديقة الهيثم بن التيهان فأطعمهم رطباً، وذبح لهم شاةً، فأكلوا وشربوا الماء البارد‏.‏

وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا من النَّعيم الذي تسألون عنه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ ثنا عبد الله ابن أبي زياد، ثنا سيار، ثنا يزيد بن أسلم عن يزيد ابن أبي منصور، عن أنس، عن أبي طلحة قال‏:‏ شكونا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن بطنه عن حجرين‏.‏

ثم قال‏:‏ غريب‏.‏

وثبت في الصَّحيحين من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها سئلت عن فراش رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقالت‏:‏ كان من أدم، حشوه ليف‏.‏

وقال الحسن بن عرفة‏:‏ ثنا عبَّاد بن عبَّاد المهلَّبيّ، عن مجالد بن سعيد، عن الشّعبيّ، عن مسروق، عن عائشة قالت‏:‏ دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله عباءة مثنية، فانطلقت فبعثت إلي بفراش حشوه الصُّوف، فدخل علي رسول الله فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما هذا يا عائشة‏؟‏‏)‏‏)‏

قالت‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت عليَّ فرأت فراشك فذهبت، فبعثت إلي بهذا‏.‏

فقال‏:‏ ردِّيه‏.‏

قالت‏:‏ فلم أردّه وأعجبني أن يكون في بيتي حتى قال ذلك ثلاث مرات‏.‏

قالت‏:‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ردِّيه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذَّهب والفضة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال التّرمذيّ في ‏(‏الشَّمائل‏)‏‏:‏ حدَّثنا أبو الخطَّاب زياد بن يحيى البصريّ، ثنا عبد الله بن مهدي، ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه قال‏:‏ سئلت عائشة ما كان فراش رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بيتك ‏؟‏

قالت‏:‏ من أدم حشوه ليف‏.‏

وسئلت حفصة‏:‏ ما كان فراش رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قالت‏:‏ مسحاً نثنيه ثنيتين فينام عليه، فلما كان ذات ليلة قلت‏:‏ لو ثنيته بأربع ثنيات كان أوطأ له فثنيناه له بأربع ثنيات، فلما أصبح قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما فرشتم لي اللَّيلة‏؟‏‏)‏‏)‏

قالت‏:‏ قلنا‏:‏ هو فراشك إلا أنا ثنيناه بأربع ثنيات قلنا هو أوطأ لك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ردُّوه لحالته الأولى، فإنه منعتني وطأته صلاتي الليلة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الطَّبرانيّ‏:‏ حدَّثنا محمد بن أبان الأصبهانيّ، حدَّثنا محمد بن عبادة الواسطيّ، حدَّثنا يعقوب بن محمد الزُّهريّ، حدَّثنا محمد بن إبراهيم، حدَّثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة، عن حكيم بن حزام قال‏:‏ خرجت إلى اليمن، فابتعت حلة ذي يزن فأهديتها إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فردَّها، فبعتها فاشتراها فلبسها، ثم خرج على أصحابه وهي عليه، فما رأيت شيئاً أحسن منه فيها، فما ملكت نفسي أن قلت‏:‏

مَا ينظرُ الحُكَّامُ بالفَضْلِ بعدَما * بدا واضحٌ من غرَّةٍ وحجولِ

إذا قايسوهُ الجدَّ أربى عليهمُ * بمستفرعٍ ماض الذُّباب سجيلُ

فسمعها النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فالتفت إليَّ يتبسَّم، ثم دخل فكساها أسامة بن زيد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثني حسين بن علي عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير قال‏:‏ حدَّثني ربعي بن خراش عن أم سلمة قالت‏:‏ دخل عليَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ساهم الوجه قالت‏:‏ فحسبت ذلك من وجع‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله أراك ساهم الوجه أفمن وجع ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا، ولكن الدَّنانير السَّبعة التي أتينا بها أمس أمسينا ولم ننفقها، نسيتها في خضم الفراش‏)‏‏)‏ تفرَّد به أحمد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو سلمة قال‏:‏ أنَّا بكر بن مضر، ثنا موسى بن جبير عن أبي أمامة ابن سهل قال‏:‏ دخلت أنا وعروة ابن الزبير يوماً على عائشة فقالت‏:‏ لو رأيتما نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذات يوم في مرَضٍ مرِضه‏؟‏

قالت‏:‏ وكان له عندي ستة دنانير - قال موسى‏:‏ أو سبعة - قالت‏:‏ فأمرني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن أفرقها‏.‏

قالت‏:‏ فشغلني وجع نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى عافاه الله عز وجل‏.‏

قالت‏:‏ ثم سألني عنها فقال‏:‏ ما فعلت الستة - قال‏:‏ أو السبعة - ‏؟‏

قلت‏:‏ لا والله لقد شغلني عنها وجعك‏.‏

قالت‏:‏ فدعا بها ثم صفها في كفه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده‏)‏‏)‏ تفرَّد به أحمد‏.‏

وقال قتيبة‏:‏ ثنا جعفر بن سليمان عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يدَّخر شيئاً لغدٍ‏.‏

وهذا الحديث في الصَّحيحين، والمراد أنه كان لا يدخر شيئاً لغد مما يسرع إليه الفساد كالأطعمة ونحوها، لما ثبت في الصَّحيحين عن عمر أنه قال‏:‏ كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، فكان يعزل نفقة أهله سنة، ثم يجعل ما بقي في الكراع والسِّلاح عدة في سبيل الله - عز وجل -‏.‏

ومما يؤيد ما ذكرناه‏:‏ ما رواه الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا مروان بن معاوية قال‏:‏ أخبرني هلال بن سويد أبو معلى قال‏:‏ سمعت أنس بن مالك وهو يقول‏:‏ أهديت لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاثة طوائر، فأطعم خادمه طائراً، فلما كان من الغد أتته به‏.‏

فقال لها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألم أنهك أن ترفعي شيئاً لغد فإنَّ الله عز وجل يأتي برزق كل غد‏)‏‏)‏‏.‏

حديث بلال في ذلك

قال البيهقيّ‏:‏ ثنا أبو الحسين ابن بشران، أنَّا أبو محمد بن جعفر بن نصير، ثنا إبراهيم بن عبد الله البصريّ، ثنا بكار بن محمد، أنَّا عبد الله بن عون عن ابن سيرين، عن أبي هريرة أن رسول الله دخل على بلال فوجد عنده صبراً من تمر قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما هذا يا بلال‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ تمر أدَّخره‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ويحك يا بلال، أو ما تخاف أن تكون له بحار في النَّار‏!‏ أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقيّ بسنده عن أبي داود السَّجستانيّ، وأبي حاتم الرَّازيّ، كلاهما عن أبي ثوبة الرَّبيع بن نافع، حدَّثني معاوية بن سلام عن زيد بن سلام، حدثني عبد الله الهورينيّ قال‏:‏ لقيت بلالاً مؤذن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بحلب‏.‏

فقلت‏:‏ يا بلال حدِّثني كيف كانت نفقة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم - ‏؟‏

فقال‏:‏ ما كان له شيء إلا أنا الذي كنت ألي ذلك منه منذ بعثه الله إلى أن توفي، فكان إذا أتاه الإنسان المسلم فرآه عائلاً يأمرني، فأنطلق فأستقرض فأشتري البردة والشيء فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين فقال‏:‏ يا بلال إنَّ عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني ففعلت، فلما كان ذات يوم توضَّأت ثم قمت لأؤذن بالصَّلاة فإذا المشرك في عصابة من التّجار، فلمَّا رآني قال‏:‏ يا حبشي‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ يا لبيه، فتجهمني وقال قولاً عظيماً أو غليظاً‏.‏

وقال‏:‏ أتدري كم بينك وبين الشَّهر ‏؟‏

قلت‏:‏ قريب‏.‏

قال‏:‏ إنما بينك وبينه أربع ليال فآخذك بالذي لي عليك، فإني لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك، ولا من كرامة صاحبك، وإنما أعطيتك لتصير لي عبداً، فأذرك ترعى في الغنم كما كنت قبل ذلك‏.‏

قال‏:‏ فأخذني في نفسي ما يأخذ في أنفس النَّاس، فانطلقت فناديت بالصَّلاة حتى إذا صليت العتمة، ورجع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أهله فاستأذنت عليه، فأذن لي‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله بأبي أنت وأمي إن المشرك الذي ذكرت لك أني كنت أتدين منه قد قال‏:‏ كذا وكذا، وليس عندك ما يقضي عني ولا عندي، وهو فاضحي، فأذن لي أن آتي إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ما يقضي عني، فخرجت حتى أتيت منزلي فجعلت سيفي وحرابي، ورمحي، ونعلي عند رأسي، فاستقبلت بوجهي الأفق فكلما نمت انتبهت، فإذا رأيت عليَّ ليلاً نمت، حتى انشق عمود الصُّبح الأول فأردت أن أنطلق فإذا إنسان يدعو يا بلال أجب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فانطلقت حتى آتيه فإذا أربع ركائب عليهم أحمالهن، فأتيت رسول الله فاستأذنت‏.‏

فقال لي رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشر فقد جاءك الله بقضاء دينك‏)‏‏)‏‏.‏

فحمدت الله‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألم تمر على الركائب المناخات الأربع‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإن لك رقابهنَّ وما عليهنَّ - فإذا عليهن كسوة، وطعام، أهداهن له عظيم فدك - فاقبضهنَّ إليك، ثم إقض دينك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ففعلت، فحططت عنهنَّ أحمالهنَّ، ثم علفتهنَّ ثم عمدت إلى تأذين صلاة الصّبح، حتى إذا صلَّى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خرجت إلى البقيع، فجعلت إصبعي في أذني فقلت‏:‏ من كان يطلب من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ديناً فليحضر، فما زلت أبيع وأقضي وأعرض حتى لم يبق على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دين في الأرض، حتى فضل عندي أوقيتان، أو أوقية ونصف، ثم انطلقت إلى المسجد وقد ذهب عامة النَّهار فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قاعد في المسجد وحده فسلَّمت عليه‏.‏

فقال لي‏:‏ ‏(‏‏(‏ما فعل ما قبلك‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ قد قضى الله كل شيء كان على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم يبق شيء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فَضُل شيء‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ نعم ديناران‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنظر أن تريحني منهما، فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منهما‏)‏‏)‏

فلم يأتينا أحد، فبات في المسجد حتى أصبح، وظل في المسجد اليوم الثَّاني، حتى إذا كان في آخر النَّهار، جاء راكبان فانطلقت بهما فكسوتهما وأطعمتهما، حتى إذا صلَّى العتمة دعاني‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما فعل الذي قبلك‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ قد أراحك الله منه، فكبَّر وحمد الله شفقاً من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم اتبعته حتى جاء أزواجه فسلَّم على امرأة امرأة، حتى أتى مبيته، فهذا الذي سألتني عنه‏.‏

وقال التّرمذيّ في ‏(‏الشَّمائل‏)‏‏:‏ حدَّثنا هارون بن موسى ابن أبي علقمة المدينيّ، حدَّثني أبي عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطَّاب أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسأله أن يعطيه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما عندي ما أعطيك‏)‏‏)‏‏.‏ ولكن ابتع عليَّ شيئاً فإذا جاءني شيء قضيته‏.‏

فقال عمر‏:‏ يا رسول الله قد أعطيته فما كلَّفك الله ما لا تقدر عليه‏.‏

فكره النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قول عمر‏.‏

فقال رجل من الأنصار‏:‏ يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً‏.‏

فتبسم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعرف التَّبسم في وجهه لقول الأنصاري‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بهذا أمرت‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا إنهم ليسألوني ويأبى الله على البخل‏)‏‏)‏‏.‏

وقال يوم حنين حين سألوه قسم الغنائم‏:‏ ‏(‏‏(‏والله لو أن عندي عدد هذه العضاه نعماً لقسَّمتها فيكم، ثم لا تجدوني بخيلاً، ولا ضاناً، ولا كذاباً‏)‏‏)‏ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ ثنا علي بن حجر، ثنا شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الرَّبيع بنت معوذ بن عمر قالت‏:‏ أتيت رسول الله بقناع من رطب، وأجرز عنب، فأعطاني ملء كفيه حلياً أو ذهباً‏.‏


وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا سفيان عن مطرف، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر‏)‏‏)‏‏.‏

قال المسلمون‏:‏ يا رسول الله فما نقول ‏؟‏

قال‏:‏ قولوا‏:‏ ‏{‏حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ ‏]‏، ‏{‏عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏ ‏]‏‏.‏

ورواه التّرمذيّ عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن مطرف ومن حديث خالد بن طهمان، كلاهما عن عطية، وأبي سعيد العوفيّ البجليّ، وأبو الحسن الكوفي عن أبي سعيد الخدريّ‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ حسن‏.‏

قلت‏:‏ وقد روي من وجه آخر عنه، ومن حديث ابن عباس كما سيأتي في موضعه‏.‏

ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام‏:‏

قال أبو عبد الله بن ماجه‏:‏ حدَّثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطَّان، ثنا عمرو بن محمد، ثنا أسباط بن نصر عن السدي، عن أبي سعد الأزدي - وكان قارئ الأزد - عن أبي الكنود، عن خبَّاب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏‏.‏

قال‏:‏ جاء الأقرع بن حابس التَّميميّ، وعيينة بن حصن الفزاريّ، فوجدوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مع صهيب، وبلال، وعمار، وخبَّاب، قاعداً في ناس من الضُّعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول رسول الله حقَّروهم فأتوا، فخلوا به‏.‏

فقالوا‏:‏ نريد أن يجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا، فإنَّ وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ فاكتب لنا عليك كتاباً‏.‏

قال‏:‏ فدعا بصحيفة ودعا علياً ليكتب، ونحن قعود في ناحية، فنزل جبريل عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏‏.‏

ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فقال‏:‏ ‏{‏وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا‏:‏ أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشَّاكرين‏.‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏‏.‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ‏}‏ ولا تجالس الأشراف، ولا تطع من أغفلنا قبله عن ذكرنا - يعني‏:‏ عيينة والأقرع - ‏{‏وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً‏}‏ قال‏:‏ هلاكاً ‏[‏الكهف‏:‏ ‏]‏‏.‏

قال‏:‏ أمر عيينة والأقرع، ثم ضرب لهم مثل الرَّجلين، ومثل الحياة الدُّنيا‏.‏

قال خبَّاب‏:‏ فكنا نقعد مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فإذا بلغنا السَّاعة التي يقوم قمنا، وتركناه حتى يقوم‏.‏


ثم قال ابن ماجه‏:‏ حدَّثنا يحيى بن حكيم، ثنا أبو داود، ثنا قيس بن الربيع عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن سعد قال‏:‏ نزلت هذه الآية فينا ستة‏:‏ فيَّ، وفي ابن مسعود، وصهيب، وعمار، والمقداد، وبلال‏.‏

قال‏:‏ قالت قريش‏:‏ يا رسول الله إنَّا لا نرضى أن نكون أتباعاً لهم، فاطردهم عنك‏.‏

قال‏:‏ فدخل قلب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من ذلك ما شاء الله أن يدخل، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ الآية‏.‏ / ‏)‏‏.‏

وقال الحافظ البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصفهاني، أنَّا أبو سعيد ابن الأعرابي، ثنا أبو الحسن خلف بن محمد الواسطيّ الدُّوسيّ، ثنا يزيد بن هارون، ثنا جعفر بن سليمان الضَّبعيّ، ثنا المعلى بن زياد - يعني‏:‏ عن العلاء بن بشير المازني -، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدريّ قال‏:‏ كنت في عصابة من المهاجرين جالساً معهم، وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري، وقارئ لنا يقرأ علينا، فكنا نستمع إلى كتاب الله‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏الحمد لله الذي جعل من أمتي من أُمرت أن أصبر معهم نفسي‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثمَّ جلس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وسطنا ليعدل نفسه فينا، ثمَّ قال بيده هكذا فاستدارت الحلقة وبرزت وجوههم، قال‏:‏ فما عرف رسول الله أحداً منهم غيري‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشروا معاشر صعاليك المهاجرين بالنُّور التَّام يوم القيامة، تدخلون الجنَّة قبل الأغنياء بنصف يوم، وذلك خمسمائة عام‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والتّرمذيّ من حديث حماد بن سلمة‏:‏ عن حميد، عن أنس قال‏:‏ لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال‏:‏ وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك‏.‏

فصل عبادته عليه السلام واجتهاده في ذلك

قالت عائشة‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصوم حتى نقول‏:‏ لا يفطر، ويفطر حتى نقول‏:‏ لا يصوم، وكان لا تشاء تراه من الليل قائماً إلا رأيته، ولا تشاء أن تراه نائماً إلا رأيته‏.‏

قالت‏:‏ وما زاد على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في رمضان، وفي غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنَّ وطولهنَّ، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنَّ وطولهنَّ، ثم يوتر بثلاث‏.‏

قالت‏:‏ وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها‏.‏

قالت‏:‏ ولقد كان يقوم حتى أرثي له من شدة قيامه‏.‏

وذكر ابن مسعود أنَّه صلَّى معه ليلة فقرأ في الركعة الأولى بالبقرة، والنساء، وآل عمران، ثم ركع قريباً من ذلك، ورفع نحوه، وسجد نحوه‏.‏

وعن أبي ذر أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قام ليلة حتى أصبح، يقرأ هذه الآية‏:‏ ‏(‏‏(‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنَّك أنت العزيز الحكيم‏)‏‏)‏ رواه أحمد‏.‏

وكل هذا في الصَّحيحين، وغيرهما من الصِّحاح، وموضع بسط هذه الأشياء في كتاب ‏(‏الأحكام الكبير‏)‏‏.‏

وقد ثبت في الصَّحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قام حتى تفطَّرت قدماه‏.‏

فقيل له‏:‏ أليس قد غفر الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أفلا أكون عبداً شكوراً‏)‏‏)‏‏.‏

وتقدَّم في حديث سلام بن سليمان عن ثابت، عن أنس بن مالك أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏حبِّب إليَّ الطِّيب والنِّساء، وجعلت قرَّة عيني في الصَّلاة‏)‏‏)‏‏.‏

رواه أحمد والنَّسائي‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عفَّان، ثنا حماد بن سلمة، أخبرني علي بن زيد عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس أن جبريل قال لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ قد حُبِّب إليك الصَّلاة فخذ منها ما شئت‏.‏

وثبت في الصَّحيحين عن أبي الدَّرداء قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في شهر رمضان في حر شديد، وما فينا صائم إلا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعبد الله بن رواحة‏.‏

وفي الصَّحيحين من حديث منصور عن إبراهيم، عن علقمة قال‏:‏ سألت عائشة هل كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يخص شيئاً من الأيَّام ‏؟‏

قالت‏:‏ لا، كان عمله ديمة وأيُّكم يستطيع ما كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يستطيع‏.‏

وثبت في الصَّحيحين من حديث أنس، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وعائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يواصل، ونهى أصحابه عن الوصال وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني‏)‏‏)‏‏.‏

والصَّحيح أنَّ هذا الإطعام والسُّقيا معنويان، كما ورد في الحديث الذي رواه ابن عاصم عنه أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم - قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تُكرهوا مرضاكم على الطَّعام والشَّراب فإنَّ الله يطعمهم ويسقيهم‏)‏‏)‏‏.‏

وما أحسن ما قال بعضهم‏:‏

لها أحاديثُ مِنْ ذكراكَ يَشغِلُها * عَنْ الشرَابِ وَيلهيهَا عنِ الزَّادِ

وقال النضر بن شميل عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة‏)‏‏)‏‏.‏

وروى البخاريّ عن الفريابيّ، عن الثوريّ، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إقرأ علي‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ أقرأ عليك، وعليك أُنْزل ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني أحبُّ أن أسمعه من غيري‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقرأت سورة النِّساء حتى إذا بلغت‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً‏}‏‏.‏ ‏[‏النِّساء‏:‏ ]‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏حسبك‏)‏‏)‏‏.‏

فالتفت فإذا عيناه تذرفان‏.‏


وثبت في الصَّحيح أنَّه عليه السلام كان يجد التَّمرة على فراشه فيقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لولا أني أخشى أن تكون من الصَّدقة لأكلتها‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا وكيع، ثنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجد تحت جنبه تمرة من اللَّيل فأكلها، فلم ينم تلك اللَّيلة‏.‏

فقال بعض نسائه‏:‏ يا رسول الله أرقت الليلة ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني وجدت تحت جنبي تمرة فأكلتها، وكان عندنا تمر من تمر الصَّدقة فخشيت أن تكون منه‏)‏‏)‏

تفرَّد به أحمد، وأسامة بن زيد - هو اللَّيثي من رجال مسلم - والذي نعتقد أن هذه التَّمرة لم تكن من تمر الصَّدقة لعصمته عليه السلام، ولكن من كمال ورعه عليه السلام أرق تلك الليلة‏.‏

وقد ثبت عنه في الصَّحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏والله إني لأتقاكم لله، وأعلمكم بما أتقي‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث الآخر أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏دع ما يريبك إلى ما لا يريبك‏)‏‏)‏‏.‏

وقال حماد بن سلمة عن ثابت، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه قال‏:‏ أتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل‏.‏

وفي رواية‏:‏ وفي صدره أزيز كأزيز الرحا من البكاء‏.‏

وروى البيهقيّ من طريق أبي كريب محمد بن العلاء الهمدانيّ‏:‏ ثنا معاوية بن هشام عن شيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله أراك شبت ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشَّمس كوِّرت‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية له عن أبي كريب، عن معاوية، عن هشام، عن شيبان، عن فراس، عن عطية، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال عمر بن الخطَّاب‏:‏ يا رسول الله أسرع إليك الشَّيب‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏شيبتني هود، وأخواتها‏:‏ الواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشَّمس كوِّرت‏)‏‏)‏‏.‏

فصل في شجاعته صلَّى الله عليه وسلَّم

ذكرت في التفسير عن بعض من السَّلف أنَّه استنبط من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏النِّساء‏:‏ ‏]‏‏:‏ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان مأموراً أن لا يفرَّ من المشركين إذا واجهوه، ولو كان وحده من قوله‏:‏ ‏{‏لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ‏}‏‏.‏

وقد كان صلَّى الله عليه وسلَّم من أشجع النَّاس، وأصبر النَّاس، وأجلدهم، ما فرَّ قط من مصاف، ولو تولَّى عنه أصحابه‏.‏

قال بعض أصحابه‏:‏ كنا إذا اشتدَّ الحرب، وحمى النَّاس نتَّقي برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ففي يوم بدر رمى ألف مشرك بقبضة من حصا فنالتهم أجمعين حين قال‏:‏ ‏(‏‏(‏شاهت الوجوه‏)‏‏)‏‏.‏

وكذلك يوم حنين كما تقدم، وفرَّ أكثر أصحابه في ثاني الحال يوم أُحد وهو ثابت في مقامه لم يبرح منه، ولم يبق معه إلا اثنا عشر قتل منهم سبعة وبقي الخمسة، وفي هذا الوقت قتل أُبي بن خلف - لعنه الله -، فعجله الله إلى النَّار‏.‏


ويوم حنين ولى النَّاس كلهم، وكانوا يومئذ اثنا عشر ألفاً، وثبت هو في نحو من مائة من الصَّحابة وهو راكب يومئذ بغلته، وهو يركض بها إلى نحو العدو، وهو ينوه باسمه ويعلن بذلك قائلاً‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا النَّبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب‏)‏‏)‏ حتى جعل العبَّاس، وعلي، وأبو سفيان يتعلقون في تلك البغلة ليبطئوا سيرها خوفاً عليه من أن يصل أحد من الأعداء إليه، وما زال كذلك حتى نصره الله وأيده في مقامه ذلك، وما تراجع النَّاس إلا والأشلاء مجندلة بين يديه صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال أبو زرعة‏:‏ حدَّثنا العبَّاس بن الوليد بن صبح الدِّمشقيّ، حدَّثنا مروان - يعني‏:‏ ابن محمد -، حدَّثنا سعيد بن بشير عن قتادة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏فُضّلت على النَّاس بشدة البطش‏)‏‏)‏‏.‏