الجزء السادس - باب البينة على ذكر معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم

باب البينة على ذكر معجزات لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم

مماثلة لمعجزات جماعة من الأنبياء قبله وأعلى منها خارجة عما اختص به من المعجزات العظيمة التي لم يكن لأحد قبله منهم - عليهم السَّلام -‏.‏

فمن ذلك القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فإنَّه معجزة مستمرة على الآباد ولا يخفى برهانها ولا يتفحص مثلها، وقد تحدَّى به الثِّقلين من الجنِّ والأنس على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور أو بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك كما تقدَّم تقرير ذلك في أوَّل كتاب المعجزات‏.‏

وقد سبق الحديث المتَّفق على إخراجه في الصَّحيحين من حديث اللَّيث بن سعد بن سعيد ابن أبي سعيد المقبريّ عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما من نبيّ إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنَّما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أنَّ كل نبيّ أوتي من خوارق المعجزات ما يقتضي إيمان من رأى ذلك من أولي البصائر والنُّهى لا من أهل العناد والشَّقاء، وإنَّما كان الذي أوتيته أي جلَّه وأعظمه وأبهره القرآن الذي أوحاه الله إليَّ فإنَّه لا يبيد ولا يذهب كما ذهبت معجزات الأنبياء وانقضت بانقضاء أيَّامهم، فلا تشاهد بل يخبر عنها بالتَّواتر والآحاد، بخلاف القرآن العظيم الذي أوحاه الله إليه فإنَّه معجزة متواترة عنه مستمرة دائمة البقاء بعده مسموعة لكلِّ من ألقى السَّمع وهو شهيد‏.‏

وقد تقدَّم في الخصائص ذكر ما اختص به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن بقية إخوانه من الأنبياء - عليهم السَّلام - كما ثبت في الصَّحيحين عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أعطيت خمساً لم يعطهنَّ أحد قبلي نصرت بالرُّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأينما رجل من أمَّتي أدركته الصَّلاة فليصلِّ، وأحلَّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشَّفاعة وكان النَّبيّ يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد تكلَّمنا على ذلك وما شاكله فيما سلف بما أغنى عن إعادته ولله الحمد‏.‏

وقد ذكر غير واحد من العلماء أنَّ كل معجزة لنبي من الأنبياء فهي معجزة لخاتمهم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وذلك أنَّ كلاً منهم بشَّر بمبعثه وأمر بمتابعته‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ -‏]‏‏.‏

وقد ذكر البخاريّ وغيره عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّه قال‏:‏ ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه العهد والميثاق لئن بعث محمَّد وهو حيّ ليؤمننَّ به، وليتبعنَّه ولينصرنَّه، وذكر غير واحد من العلماء أنَّ كرامات الأولياء معجزات للأنبياء لأنَّ الولي إنَّما نال ذلك ببركة متابعته لنبيه وثواب إيمانه والمقصود أنَّه كان الباعث لي على عقد هذا الباب أني وقفت على مولد اختصره من سيرة الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيرهما شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام كمال الدِّين أبو المعالي محمد بن علي الأنصاريّ السماكيّ، نسبة إلى أبي دجانة الأنصاري سماك بن حرب بن حرشة الأوسي رضي الله عنه شيخ الشَّافعية في زمانه بلا مدافعة، المعروف بابن الزَّملكانيّ - عليه رحمة الله - وقد ذكر في أواخره شيئاً من فضائل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعقد فصلاً في هذا الباب فأورد فيه أشياء حسنة، ونبَّه على فوائد جمَّة، وفوائد مهمَّة، وترك أشياء أخرى حسنة ذكرها غيره من الأئمة المتقدِّمين، ولم أره استوعب الكلام إلى آخره، فأمَّا أنَّه قد سقط من خطه أو أنَّه لم يكمل تصنيفه، فسألني بعض أهله من أصحابنا ممن تتأكد إجابته وتكرر ذلك منه في تكميله وتبويبه وترتيبه وتهذيبه والزِّيادة عليه، والإضافة إليه، فاستخرت الله حيناً من الدَّهر ثمَّ نشطت لذلك ابتغاء الثَّواب والأجر، وقد كنت سمعت من شيخنا الإمام العلامة الحافظ أبي الحجَّاج المزِّي - تغمده الله برحمته - أنَّ أوَّل من تكلم في هذا المقام الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشَّافعي رضي الله عنه‏.‏

وقد روى الحافظ أبو بكر البيهقيّ رحمه الله في كتابه ‏(‏دلائل النُّبوة‏)‏ عن شيخه الحاكم أبي عبد الله أخبرني أبو أحمد ابن أبي الحسن، أنَّا عبد الرَّحمن بن أبي حاتم الرَّازيّ عن أبيه، قال عمر بن سوار‏:‏ قال الشَّافعي‏:‏ مثل ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقلت‏:‏ أعطى عيسى إحياء الموتى‏.‏

فقال‏:‏ أعطى محمَّدا صلَّى الله عليه وسلَّم الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حين بني له المنبر حنَّ الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك، هذا لفظه رضي الله عنه والمراد من إيراد ما نذكره في هذا الباب البينة على ما أعطى الله أنبياءه - عليهم السَّلام - من الآيات البيِّنات، والخوارق القاطعات، والحجج الواضحات، وأنَّ الله جمع لعبده ورسوله سيِّد الأنبياء وخاتمهم من جميع أنواع المحاسن والآيات، مع ما اختصَّه الله به مما لم يؤت أحداً قبله كما ذكرنا في خصائصه وشمائله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

ووقفت على فصل مليح في هذا المعنى في كتاب ‏(‏دلائل النبّوة‏)‏ للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهانيّ وهو كتاب حافل في ثلاث مجلدات، عقد فيه فصلاً في هذا المعنى‏.‏

وكذا ذكر ذلك الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد في كتابه ‏(‏دلائل النُّبوة‏)‏ وهو كتاب كبير جليل حافل مشتمل على فرائد نفيسة‏.‏

وكذا الصرصريّ الشَّاعر يورد في بعض قصائده أشياء من ذلك كما سيأتي، وها أنا أذكر بعون الله مجامع ما ذكرنا من هذه الأماكن المتفرقة بأوجز عبارة، وأقصر إشارة وبالله المستعان وعليه التّكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم‏.‏

القول فيما أوتي نوح عليه السلام‏:‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ -‏]‏‏.‏

وقد ذكرت القصَّة مبسوطة في أوَّل هذا الكتاب وكيف دعا على قومه فنجَّاه الله ومن اتَّبعه من المؤمنين فلم يهلك منهم أحد، وأغرق من خالفه من الكافرين فلم يسلم منهم أحد، حتى ولا ولده‏.‏

قال شيخنا العلامة أبو المعالي محمد بن علي الأنصاريّ الزَّملكانيّ ومن خطِّه نقلت‏:‏ وبيان أنَّ كل معجزة لنبيّ فلنبِّينا أمثالها إذا تمَّ يستدعي كلاماً طويلاً وتفصيلاً لا يسعه مجلدات عديدة، ولكن ننبِّه بالبعض على البعض، فلنذكر جلائل معجزات الأنبياء - عليهم السَّلام -‏.‏

فمنها نجاة نوح في السَّفينة بالمؤمنين ولا شكَّ أنَّ حمل الماء للنَّاس من غير سفينة أعظم من السُّلوك عليه في السَّفينة، وقد مشى كثير من الأولياء على متن الماء، وفي قصَّة العلاء بن زياد صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما يدلُّ على ذلك‏.‏

روى منجاب قال‏:‏ غزونا مع العلاء بن الحضرميّ دارين فدعا بثلاث دعوات فاستجيبت له، فنزلنا منزلاً فطلب الماء فلم يجده، فقام وصلَّى ركعتين وقال‏:‏ اللَّهم إنَّا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوَّك اللَّهم اسقنا غيثاً نتوضأ به ونشرب، ولا يكون لأحد فيه نصيب غيرنا، فسرنا قليلاً فإذا نحن بماء حين أقلعت السَّماء عنه، فتوضأنا منه، وتزوَّدنا وملأت إداوتي وتركتها مكانها حتى أنظر هل استجيب له أم لا، فسرنا قليلاً ثمَّ قلت لأصحابي‏:‏ نسيت إداوتي فرجعت إلى ذلك المكان فكأنَّه لم يصبه ماء قط، ثمَّ سرنا حتى أتينا دارين والبحر بيننا وبينهم‏.‏

فقال‏:‏ يا علي يا حكيم إنَّا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوَّك اللَّهم فاجعل لنا إليهم سبيلا، فدخلنا البحر فلم يبلغ الماء لبودنا ومشينا على متن الماء ولم يبتل لنا شيء، وذكر بقية القصَّة‏.‏

فهذا أبلغ من ركوب السَّفينة فإنَّ حمل الماء للسَّفينة معتاد، وأبلغ من فلق البحر لموسى فإنَّ هناك انحسر الماء حتى مشوا على الأرض فالمعجز انحسار الماء، وها هنا صار الماء جسداً يمشون عليه كالأرض وإنَّما هذا منسوب إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وبركته، انتهى ما ذكره بحروفه فيما يتعلق بنوح عليه السلام‏.‏

وهذه القصَّة التي ساقها شيخنا ذكرها الحافظ أبو بكر البيهقيّ في كتابه ‏(‏الدَّلائل‏)‏ من طريق أبي بكر ابن أبي الدُّنيا عن أبي كريب، عن محمد بن فضيل، عن الصَّلت بن مطر العجليّ، عن عبد الملك ابن أخت سهم، عن سهم بن منجاب قال‏:‏ غزونا مع العلاء بن الحضرميّ فذكره‏.‏

وقد ذكرها البخاريّ في ‏(‏التَّاريخ الكبير‏)‏ من وجه آخر‏.‏

ورواها البيهقيّ من طريق أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه كان مع العلاء وشاهد ذلك‏.‏

وساقها البيهقيّ من طريق عيسى بن يونس عن عبد الله، عن عون، عن أنس بن مالك قال‏:‏ أدركت في هذه الأمَّة ثلاثاً لو كانت في بني إسرائيل لما تقاسمها الأمم‏.‏

قلنا‏:‏ ما هنَّ يا أبا حمزة ‏؟‏

قال‏:‏ كنَّا في الصَّفة عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ، فأضاف المرأة إلى النِّساء، وأضاف ابنها إلينا، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أيَّاما ثمَّ قُبض فغمَّضه النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمر بجهازه، فلمَّا أردنا أن نغسِّله قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أنس إئت أمَّه فأعلمها‏)‏‏)‏‏.‏

فأعلمتها، قال‏:‏ فجاءت حتَّى جلست عند قدميه، فأخذت بهما ثمَّ قالت‏:‏ اللَّهم إني أسلمت لك طوعاً وخلعت الأوثان، فلا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحمله‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما انقضى كلامها حتى حرَّك قدميه وألقى الثَّوب عن وجهه، وعاش حتى قبض الله رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وحتَّى هلكت أمَّه‏.‏

قال أنس‏:‏ ثمَّ جهَّز عمر بن الخطَّاب جيشاً واستعمل عليهم العلاء بن الحضرميَّ‏.‏

قال أنس‏:‏ وكنت في غزاته، فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد بدروا بنا فعفوا آثار الماء والحرّ شديد فجهدنا العطش ودوابنا وذلك يوم الجمعة‏.‏

فلمَّا مالت الشَّمس لغروبها صلَّى بنا ركعتين ثمَّ مدَّ يده إلى السَّماء وما نرى في السَّماء شيئاً قال‏:‏ فوالله ما حطَّ يده حتى بعث الله ريحاً، وأنشأ سحاباً، وأفرغت حتى ملأت الغدر والشِّعاب، فشربنا وسقينا ركابنا واستقينا‏.‏

قال‏:‏ ثمَّ أتينا عدوَّنا وقد جاوز خليجاً في البحر إلى جزيرة‏.‏

فوقف على الخليج وقال‏:‏ يا علي يا عظيم يا حليم يا كريم ثمَّ قال‏:‏ أجيزوا بسم الله‏.‏

قال‏:‏ فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا، فلم نلبث إلا يسيراً فأصبنا العدوّ عليه فقتلنا وأسرنا وسبينا ثمَّ أتينا الخليج، فقال مثل مقالته، فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا‏.‏

ثمَّ ذكر موت العلاء ودفنهم إيَّاه في أرض لا تقبل الموتى، ثمَّ إنهم حفروا عليه لينقلوه منها إلى غيرها فلم يجدوه، ثمَّ وإذا اللَّحد يتلألأ نوراً فأعادوا التُّراب عليه ثمَّ ارتحلوا‏.‏

فهذا السِّياق أتمّ وفيه قصَّة المرأة التي أحيى الله لها ولدها بدعائها، وسننبه على ذلك فيما يتعلق بمعجزات المسيح عيسى بن مريم مع ما يشابهها إن شاء الله تعالى‏.‏

كما سنشير إلى قصَّة العلاء هذه مع ما سنورده معها ههنا فيما يتعلق بمعجزات موسى عليه السلام في قصَّة فلق البحر لبني إسرائيل وقد أرشد إلى ذلك شيخنا في عيون كلامه‏.‏

قصَّة أخرى تشبه قصَّة العلاء بن الحضرميّ‏:‏

روى البيهقيّ في ‏(‏الدَّلائل‏)‏ وقد تقدَّم ذلك أيضاً من طريق سليمان بن مروان الأعمش عن بعض أصحابه قال‏:‏ انتهينا إلى دجلة وهي مادة والأعاجم خلفها‏.‏

فقال رجل من المسلمين‏:‏ بسم الله ثمَّ اقتحم بفرسه فارتفع على الماء‏.‏

فقال النَّاس‏:‏ بسم الله ثمَّ اقتحموا فارتفعوا على الماء، فنظر إليهم الأعاجم وقالوا‏:‏ ديوان، ديوان - أي مجانين - ثمَّ ذهبوا على وجوههم‏.‏

قال‏:‏ فما فقد النَّاس إلا قدحاً كان معلقاً بعذبة سرج، فلمَّا خرجوا أصابوا الغنائم واقتسموا، فجعل الرَّجل يقول‏:‏ من يبادل صفراء ببيضاء‏؟‏

وقد ذكرنا في السِّيرة العمريّة وأيَّامها وفي التَّفسير أيضاً أنَّ أوَّل من اقتحم دجلة يومئذ أبو عبيدة النفيعيّ أمير الجيوش في أيام عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وأنَّه نظر إلى دجلة فتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ ‏]‏‏.‏

ثمَّ سمَّى الله تعالى واقتحم بفرسه الماء، واقتحم الجيش وراءه، ولما نظر إليهم الأعاجم يفعلون ذلك جعلوا يقولون‏:‏ ديوان، ديوان - أي مجانين، مجانين - ثمَّ ولَّوا مدبرين فقتلهم المسلمون وغنموا منهم مغانم كثيرة‏.‏

قصَّة أخرى شبيهة بذلك‏:‏

وروى البيهقيّ من طريق أبي النضر عن سليمان بن المغيرة أنَّ أبا مسلم الخولانيّ جاء إلى دجلة وهي ترمي الخشب من مدِّها فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه وقال‏:‏ هل تفقدون من متاعكم شيئاً فندعو الله تعالى‏؟‏

ثمَّ قال‏:‏ هذا إسناد صحيح‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في ترجمة أبي عبد الله بن أيوب الخولانيّ هذه القصَّة بأبسط من هذه من طريق بقية ابن الوليد حدَّثني محمد بن زياد عن أبي مسلم الخولاني أنَّه كان إذا غزا أرض الرُّوم فمرُّوا بنهر، قال‏:‏ أجيزوا بسم الله‏.‏

قال‏:‏ ويمر بين أيديهم فيمرُّون على الماء فما يبلغ من الدَّواب إلا إلى الرُّكب، أو في بعض ذلك أو قريبا من ذلك‏.‏

قال‏:‏ وإذا جازوا قال للنَّاس‏:‏ هل ذهب لكم شيء‏؟‏ من ذهب له شيء فأنا ضامن‏.‏

قال‏:‏ فألقى مخلاة عمداً فلمَّا جاوزوا، قال الرَّجل‏:‏ مخلاتي وقعت في النَّهر‏.‏

قال له‏:‏ إتبعني، فإذا المخلاة قد تعلقت ببعض أعواد النَّهر‏.‏

قال‏:‏ خذها‏.‏

وقد رواه أبو داود من طريق الأعرابي عنه عن عمرو بن عثمان، عن بقية به، ثمَّ قال أبو داود‏:‏ حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدَّثنا سليمان بن المغيرة عن حميد أنَّ أبا مسلم الخولانيّ أتى على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدِّها فوقف عليها ثمَّ حمد الله وأثنى عليه، وذكر مسير بني إسرائيل في البحر، ثمَّ لهز دابَّته فخاضت الماء وتبعه النَّاس حتَّى قطعوا‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ هل فقدتم شيئاً من متاعكم فأدعو الله أن يرده عليّ ‏؟‏

وقد رواه ابن عساكر من طريق أخرى عن عبد الكريم بن رشيد، عن حميد بن هلال العدوي، حدَّثني ابن عمي أخي أبي قال‏:‏ خرجت مع أبي مسلم في جيش فأتينا على نهر عجاج منكر، فقلنا لأهل القرية‏:‏ أين المخاضة ‏؟‏

فقالوا‏:‏ ما كانت هاهنا مخاضة ولكن المخاضة أسفل منكم على ليلتين‏.‏

فقال أبو مسلم‏:‏ اللَّهم أجزت بني إسرائيل البحر، وإنَّا عبيدك وفي سبيلك فأجزنا هذا النَّهر اليوم، ثمَّ قال‏:‏ اعبروا بسم الله‏.‏

قال ابن عمي‏:‏ وأنا على فرس فقلت‏:‏ لأدفعنه أوَّل النَّاس خلف فرسه قال‏:‏ فوالله ما بلغ الماء بطون الخيل حتَّى عبر النَّاس كلَّهم‏.‏

ثمَّ وقف وقال‏:‏ يا معشر المسلمين هل ذهب لأحد منكم شيء فأدعو الله تعالى يرده ‏؟‏

فهذه الكرامات لهؤلاء الأولياء هي معجزات لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما تقدَّم تقريره لأنَّهم إنَّما نالوها ببركة متابعته ويمن سفارته، إذ فيها حجَّة في الدِّين أكيدة للمسلمين، وهي مشابهة نوح - عليه السَّلام - في مسيره فوق الماء بالسَّفينة التي أمره الله تعالى بعملها، ومعجزة موسى - عليه السَّلام - في فلق البحر، وهذه فيها ما هو أعجب من ذلك من جهة مسيرهم على متن الماء من غير حائل، ومن جهة أنَّه ماء جار والسَّير عليه أعجب من السَّير على الماء القار الذي يجاز، وإن كان ماء الطُّوفان أطمّ وأعظم فهذه خارق والخارق لا فرق بين قليله وكثيره، فإنَّ من سلك على وجه الماء الخضم الجاري العجَّاج فلم يبتل منه نعال خيولهم أو لم يصل إلى بطونها فلا فرق في الخارق بين أن يكون قامة أو ألف قامة، أو أن يكون نهراً أو بحراً، بل كونه نهراً عجاجاً كالبرق الخاطف، والسَّيل الجاري أعظم وأغرب وكذلك بالنّسبة إلى فلق البحر وهو جانب بحر القلزم حتى صار كل فرق كالطود العظيم أي الجبل الكبير، فانحاز الماء يميناً وشمالاً حتَّى بدت أرض البحر وأرسل الله عليها الرِّيح حتى أيبسها ومشت الخيول عليها بلا انزعاج حتَّى جاوزوا عن آخرهم، وأقبل فرعون بجنوده ‏{‏فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ -‏]‏‏.‏

وذلك أنَّهم لمَّا توسَّطوه وهمَّوا بالخروج منه أمر الله البحر فارتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم فلم يفلت منهم أحد كما لم يفقد من بني إسرائيل واحد، ففي ذلك آية عظيمة بل آيات معدودات كما بسطنا ذلك في التَّفسير ولله الحمد والمنة‏.‏

والمقصود أنَّ ما ذكرناه من قصَّة العلاء بن الحضرميّ، وأبي عبد الله الثَّقفيّ، وأبي مسلم الخولانيّ من مسيرهم على تيَّار الماء الجاري فلم يفقد منهم أحد، ولم يفقدوا شيئاً من أمتعتهم‏.‏

هذا وهُمْ أولياء منهم صحابي، وتابعيان، فما الظَّن لو كان الاحتياج إلى ذلك بحضرة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سيِّد الأنبياء وخاتمهم، وأعلاهم منزلة ليلة الإسراء، وإمامهم ليلتئذٍ ببيت المقدس الذي هو محل ولايتهم، ودار بدايتهم، وخطيبهم يوم القيامة، وأعلاهم منزلة في الجنَّة، وأوَّل شافع في الحشر وفي الخروج من النَّار، وفي دخوله الجنَّة وفي رفع الدَّرجات بها‏.‏

كما بسطنا أقسام الشَّفاعة وأنواعها في آخر الكتاب في أهوال يوم القيامة، وبالله المستعان‏.‏

وسنذكر في المعجزات الموسوية ما ورد من المعجزات المحمَّدية مما هو أظهر وأبهر منها ونحن الآن فيما يتعلق بمعجزات نوح عليه السلام ولم يذكر شيخنا سوى ما تقدَّم‏.‏

وأمَّا الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهانيّ فإنَّه قال في آخر كتابه ‏(‏دلائل النُّبوة‏)‏ وهو في مجلدات ثلاث‏:‏ الفصل الثَّالث والثَّلاثون في ذكر موازنة الأنبياء في فضائلهم بفضائل نبينا ومقابلة ما أوتوا من الآيات بما أوتي، إذ أوتي ما أوتوا وشبهه ونظيره فكان أوَّل الرُّسل نوح عليه السلام وآيته التي أوتي شفاء غيظه، وإجابة دعوته في تعجيل نقمة الله لمكذِّبيه حتى هلك من على بسيط الأرض من صامت وناطق إلا من آمن به ودخل معه في سفينته، ولعمري إنَّها آية جليلة وافقت سابق قدر الله وما قد علمه في هلاكهم‏.‏

وكذلك نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا كذَّبه قومه وبالغوا في أذيته والاستهانة بمنزلته منَّ الله عزَّ وجل حتى ألقى السَّفيه عقبة ابن أبي معيط سلا الجزور على ظهره وهو ساجد فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم عليك بالملأ من قريش‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ ساق الحديث عن ابن مسعود كما تقدَّم، كما ذكرنا له في صحيح البخاريّ وغيره في وضع الملأ من قريش على ظهر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ساجد عند الكعبة سلا تلك الجزور واستضحاكهم من ذلك حتى أنَّ بعضهم يميل على بعض من شدَّة الضَّحك ولم يزل على ظهره حتى جاءت ابنته فاطمة - عليها السَّلام - فطرحته عن ظهره، ثمَّ أقبلت عليهم تسبَّهم، فلمَّا سلَّم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من صلاته، رفع يديه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم عليك بالملأ من قريش‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ سمَّى فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم عليك بأبي جهل، وعتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة ابن أبي معيط، وعمارة بن الوليد‏)‏‏)‏‏.‏

قال عبد الله بن مسعود‏:‏ فوالذي بعثه بالحقِّ لقد رأيتهم صرعى يوم بدر ثمَّ سحبوا إلى القليب قليب بدر‏.‏

وكذلك لمَّا أقبلت قريش يوم بدر في عددها وعديدها فحين عاينهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال رافعاً يديه‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم هذه قريش جاءتك بفخرها وخيلائها تجادل وتكذِّب رسولك اللَّهم أصبهم الغداة‏)‏‏)‏‏.‏

فقتل من سراتهم سبعون، وأسر من أشرافهم سبعون، ولو شاء لاستأصلهم عن آخرهم، ولكن من حلم وشرف نبيِّه أبقى منهم من سبق في قدره أن سيؤمن به وبرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد دعا على عتبة ابن أبي لهب أن يسلِّط عليه كلبه بالشَّام فقتله الأسد عند وادي الزَّرقاء قبل مدينة بصرى، وكم له من مثلها ونظيرها كسبع يوسف فقحطوا حتى أكلوا العكبر وهو الدَّم بالوتر، وأكلوا العظام وكل شيء، ثمَّ توصَّلوا إلى تراحمه وشفقته ورأفته، فدعا لهم ففرَّج الله عنهم وسقوا الغيث ببركة دعائه‏.‏

وقال الإمام الفقيه أبو محمد بن عبد الله بن حامد في كتاب ‏(‏دلائل النُّبُّوة‏)‏ - وهو كتاب حافل -‏:‏ ذكر ما أوتي نوح عليه السلام من الفضائل، وبيان ما أوتي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم مما يضاهي فضائله ويزيد عليها، إنَّ قوم نوح لما بلغوا من أذيته والاستخفاف به وترك الإيمان بما جاءهم به من عند الله‏.‏

دعا عليهم فقال‏:‏ ‏{‏رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ ‏]‏‏.‏

فاستجاب الله دعوته وغرَّق قومه حتى لم يسلم شيء من الحيوانات والدَّواب إلا من ركب السَّفينة وكان ذلك فضيلة أوتيها إذ أجيبت دعوته وشفي صدره بإهلاك قومه‏.‏

قلنا‏:‏ وقد أوتي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم مثله حين ناله من قريش ما ناله من التَّكذيب والاستخفاف، فأنزل الله إليه ملك الجبال وأمره بطاعته فيما أمره به من إهلاك قومه فاختار الصَّبر على أذيتهم والابتهال في الدُّعاء لهم بالهداية‏.‏

قلت‏:‏ وهذا أحسن‏.‏

وقد تقدَّم الحديث بذلك عن عائشة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في قصَّة ذهابه إلى الطَّائف فدعاهم فآذوه فرجع وهو مهموم، فلمَّا كان عند قرن الثَّعالب، ناداه ملك الجبال فقال‏:‏ يا محمَّد إنَّ ربَّك قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد أرسلني إليك لأفعل ما تأمرني به فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين - يعني‏:‏ جبلي مكة اللَّذين يكتنفانها جنوباً وشمالاً، أبو قبيس، وزر -‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل استأني بهم لعلَّ الله أن يُخرج من أصلابهم من لا يشرك بالله شيئاً‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في مقابلة قوله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏فدعا ربَّه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السَّماء بماء منهمر * وفجَّرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر‏)‏‏)‏‏.‏

أحاديث الاستسقاء عن أنس وغيره، كما تقدَّم ذكرنا لذلك في ‏(‏دلائل النبُّوة‏)‏ قريباً أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم سأله ذلك الأعرابي أن يدعو الله لهم لما بهم من الجدب والجُّوع فرفع يديه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم اسقنا، اللَّهم اسقنا‏)‏‏)‏

فما نزل عن المنبر حتى رؤي المطر يتحادر على لحيته الكريمة صلَّى الله عليه وسلَّم فاستحضر من استحضر من الصَّحابة - رضي الله عنهم - قول عمِّه أبي طالب فيه‏:‏

وأبيضَ يُستسقَى الغَمَامَ بوجهِهِ * ثمالَ اليتامى عِصمةً للأراملِ

يلوذُ بهِ الهلاكُ من آلِ هاشمٍ * فهمْ عندهُ في نعمةٍ وَفواضِلِ

وكذلك استسقى في غير ما موضع للجدب والعطش فيجاب كما يريد على قدر الحاجة المائية، ولا أزيد ولا أنقص وهكذا وقع أبلغ في المعجزة وأيضاً فإنَّ هذا ماء رحمة ونعمة، وماء الطُّوفان ماء غضب ونقمة‏.‏

وأيضاً فإنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه كان يستسقي بالعبَّاس عمّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيسقون‏.‏

وكذلك ما زال المسلمون في غالب الأزمان والبلدان يستسقون فيجابون فيسقَون، وغيرهم لا يجابون غالباً ولا يسقون ولله الحمد‏.‏

قال أبو نعيم‏:‏ ولبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً فبلغ جميع من آمن رجالاً ونساءً الذين ركبوا معه سفينته دون مائة نفس، وآمن بنبينا في مدة عشرين سنة النَّاس شرقاً وغرباً ودانت له جبابرة الأرض وملوكها، وخافت زوال ملكهم ككسرى وقيصر وأسلم النَّجاشيّ والأقيال رغبة في دين الله، والتزم من لم يؤمن به من عظماء الأرض الجِّزية والأيادة عن صغار أهل نجران، وهجر، وأيلة، وأنذر دومة، فذلُّوا له منقادين لما أيَّده الله به من الرُّعب الذي يسير بين يديه شهراً، وفتح الفتوح ودخل النَّاس في دين الله أفواجاً‏.‏

كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً‏}‏ ‏[‏النَّصر‏:‏ -‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد فتح الله له المدينة، وخيبر، ومكة، وأكثر اليمن، وحضرموت وتوفِّي عن مائة ألف صحابي أو يزيدون، وقد كتب في آخر حياته الكريمة إلى سائر ملوك الأرض يدعوهم إلى الله تعالى فمنهم من أجاب، ومنهم من صانع ودارى عن نفسه، ومنهم من تكبَّر فخاب وخسر، كما فعل كسرى بن هرمز حين عتى وبغى وتكبَّر فمزِّق ملكه، وتفرَّق جنده شذر مذر، ثمَّ فتح خلفاؤه من بعده أبو بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، ثمَّ علي التَّالي على الأثر مشارق الأرض ومغاربها من البحر الغربي إلى البحر الشَّرقي‏.‏

كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمَّتي ما زوى لي منها‏)‏‏)‏‏.‏

وقال صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا وقع سواء بسواء فقد استولت الممالك الإسلامية على ملك قيصر وحواصله إلا القسطنطينية، وجميع ممالك كسرى، وبلاد المشرق، وإلى أقصى بلاد المغرب إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه في سنة ستة وثلاثين، فكما عمَّت جميع أهل الأرض النَّقمة بدعوة نوح عليه السلام لما رآهم عليه من التَّمادي في الضَّلال والكفر والفجور، فدعا عليهم غضباً لله ولدينه ورسالته، فاستجاب الله له وغضب لغضبه وانتقم منهم بسببه‏.‏

كذلك عمَّت جميع أهل الأرض ببركة رسالة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ودعوته، فآمن من آمن من النَّاس وقامت الحجَّة على من كفر منهم‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ ‏]‏‏.‏

وكما قال صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّما أنا رحمة مهداة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال هشام بن عمَّار في كتاب ‏(‏البعث‏)‏‏:‏ حدَّثني عيسى بن عبد الله النعمانيّ، حدَّثنا المسعوديّ عن سعيد ابن أبي سعيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ من آمن بالله ورسله تمَّت له الرَّحمة في الدُّنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسله عدَّ فيمن يستحق تعجيل ما كان يصيب الأمم قبل ذلك من العذاب والفتن والقذف والخسف‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ ‏]‏‏.‏

قال ابن عبَّاس‏:‏ النِّعمة محمَّد، والذين بدَّلوا نعمة الله كفراً كفَّار قريش - يعني‏:‏ وكذلك كلَّ من كذَّب به من سائر النَّاس‏.‏

كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ ‏]‏‏.‏

قال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل فقد سمَّى الله نوحاً عليه السلام باسم من أسمائه الحسنى، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ ‏]‏‏.‏

قلنا‏:‏ وقد سمَّى الله محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم باسمين من أسمائه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بالمؤمنين رءوف رحيم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وقد خاطب الله الأنبياء بأسمائهم يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا داود، يا يحيى، يا عيسى، يا مريم‏.‏

وقال مخاطباً لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيُّها الرَّسول‏)‏‏)‏ ‏(‏‏(‏يا أيُّها النَّبيّ‏)‏‏)‏ ‏(‏‏(‏يا أيُّها المزَّمل‏)‏‏)‏ ‏(‏‏(‏يا أيُّها المدَّثر‏)‏‏)‏‏.‏

وذلك قائم مقام الكنية بصفة الشَّرف، ولمَّا نسب المشركون أنبياءهم إلى السفه والجنون كلٌّ أجاب عن نفسه، قال نوح‏:‏ ‏{‏يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ ‏]‏‏.‏

وكذا قال هود عليه السلام‏.‏

ولمَّا قال فرعون‏:‏ ‏{‏إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ ]‏‏.‏

قال موسى‏:‏ ‏{‏قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ ‏]‏‏.‏

وأمَّا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم فإنَّ الله تعالى هو الذي يتولى جوابهم عنه بنفسه الكريمة‏.‏

كما قال‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ - ‏]‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ -‏]‏‏.‏

‏{‏وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً‏}‏ ‏[‏الطُّور‏:‏ -]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الحاقَّة‏:‏ -‏]‏‏.‏

‏{‏وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ ]‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ -‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏النَّحل‏:‏ ‏]‏‏.‏

القول فيما أوتي هود عليه السلام

قال أبو نعيم ما معناه‏:‏ إنَّ الله تعالى أهلك قومه بالرِّيح العقيم وقد كانت ريح غضب ونصر الله تعالى محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم بالصبا يوم الأحزاب‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ ‏]‏‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ حدَّثنا إبراهيم بن إسحاق، حدَّثنا محمد بن إسحق بن خزيمة‏.‏

ح، وحدَّثنا عثمان بن محمد العثمانيّ، أنَّا زكريا بن يحي السَّاجيّ قالا‏:‏ حدَّثنا أبو سعيد الأشجّ، حدَّثنا حفص بن عتاب عن داود ابن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ لمَّا كان يوم الأحزاب انطلقت الجنوب إلى الشَّمال فقالت‏:‏ انطلقي بنا ننصر محمَّداً رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقالت الشَّمال للجنوب‏:‏ إنَّ الحرَّة لا ترى باللَّيل، فأرسل الله عليهم الصَّبا‏.‏

فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ ‏]‏‏.‏

ويشهد له الحديث المتقدِّم عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدَّبور‏)‏‏)‏‏.‏

القول فيما أوتي صالح - عليه السَّلام‏:‏

قال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل فقد أخرج الله لصالح ناقة من الصَّخرة جعلها الله له آية وحجة على قومه، وجعل لها شرب يوم ولهم شرب يوم معلوم‏.‏

قلنا‏:‏ وقد أعطى الله محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم مثل ذلك بل أبلغ، لأنَّ ناقة صالح لم تكلِّمه، ولم تشهد له بالنُّبُّوة والرِّسالة، ومحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم شهد له البعير بالرِّسالة، وشكى إليه ما يلقى من أهله من أنهم يجيعونه ويريدون ذبحه، ثمَّ ساق الحديث بذلك كما قدَّمنا في ‏(‏دلائل النبُّوة‏)‏ بطرقه وألفاظه وغرره بما أغنى عن إعادته هاهنا وهو في الصِّحاح والحسان، والمسانيد، وقد ذكرنا مع ذلك حديث الغزالة، وحديث الضَّـب وشهادتهما له صلَّى الله عليه وسلَّم بالرِّسالة كما تقدَّم التَّنبيه على ذلك والكلام فيه‏.‏

وثبت الحديث في الصَّحيح بتسليم الحجر عليه قبل أن يبعث، وكذلك سلام الأشجار، والأحجار، والمدر عليه قبل أن يبعث صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

القول فيما أوتي إبراهيم الخليل عليه السلام‏:‏

قال شيخنا العلامة أبو المعالي ابن الزَّملكانيّ رحمه الله‏:‏ وأمَّا خمود النَّار لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فقد خمدت لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم نار فارس لمولده صلَّى الله عليه وسلَّم وبينه وبين بعثته أربعون سنة، وخمدت نار إبراهيم لمباشرته لها، وخمدت نار فارس لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم وبينه وبينها مسافة أشهر كذا‏.‏

وهذا الذي أشار إليه من خمود نار فارس ليلة مولده الكريم، قد ذكرناه بأسانيده وطرقه في أوَّل السِّيرة عند ذكر المولد المطهَّر الكريم بما فيه كفاية ومقنع‏.‏

ثمَّ قال شيخنا‏:‏ مع أنَّه قد أُلقي بعض هذه الأمَّة في النَّار فلم تؤثر فيه ببركة نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم منهم أبو مسلم الخولاني‏.‏

قال‏:‏ بينما الأسود بن قيس العنسيّ باليمن فأرسل إلى أبي مسلم الخولاني، فقال‏:‏ أتشهد أنَّ محمَّداً رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ أتشهد أنِّي رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ما أسمع‏.‏

فأعاد إليه، قال‏:‏ ما أسمع‏.‏

فأمر بنار عظيمة فأجِّجت فطُرح فيها أبو مسلم فلم تضرَّه‏.‏

فقيل له‏:‏ لئن تركت هذا في بلادك أفسدها عليك، فأمره بالرَّحيل فقدم المدينة وقد قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واستخلف أبو بكر فقام إلى سارية من سواري المسجد يصليّ، فبصر به عمر فقال‏:‏ من أين الرَّجل ‏؟‏

قال‏:‏ من اليمن‏.‏

قال‏:‏ ما فعل الله بصاحبنا الذي حرق بالنَّار فلم تضرَّه ‏؟‏

قال‏:‏ ذاك عبد الله بن أيوب‏.‏

قال‏:‏ نشدتك بالله أنت هو ‏؟‏

قال‏:‏ اللَّهم نعم‏.‏

قال‏:‏ فقبَّل ما بين عينيه ثمَّ جاء به حتَّى أجلسه بينه وبين أبي بكر الصِّديق وقال‏:‏ الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرَّحمن عليه السلام‏.‏

وهذا السِّياق الذي أورده شيخنا بهذه الصِّفة‏.‏

وقد رواه الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر رحمه الله في ترجمة أبي مسلم عبد الله بن أيُّوب في تاريخه من غير وجه عن عبد الوهاب بن محمد، عن اسماعيل بن عيَّاش الحطيميّ، حدَّثني شراحيل ابن مسلم الخولانيّ، أنَّ الأسود بن قيس بن ذي الحمار العنسيّ تنبَّأ باليمن، فأرسل إلى أبي مسلم الخولانيّ فأتي به‏.‏

فلمَّا جاء به قال‏:‏ أتشهد أني رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ما أسمع‏.‏

قال‏:‏ أتشهد أنَّ محمَّداً رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ أتشهد أني رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ما أسمع‏.‏

قال‏:‏ أتشهد أنَّ محمَّداً رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فردَّد عليه ذلك مراراً، ثمَّ أمر بنار عظيمة فأجِّجت فألقي فيها فلم تضرَّه‏.‏

فقيل للأسود‏:‏ إنفه عنك وإلا أفسد عليك من اتَّبعك، فأمره فارتحل فأتى المدينة وقد قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واستخلف أبو بكر، فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد، ثمَّ دخل المسجد وقام يصلِّي إلى سارية فبصر به عمر بن الخطَّاب فأتاه فقال‏:‏ ممن الرَّجل ‏؟‏

فقال‏:‏ من أهل اليمن‏.‏

قال‏:‏ ما فعل الرَّجل الذي حرقة الكذَّاب بالنَّار ‏؟‏

قال‏:‏ ذاك عبد الله بن أيُّوب‏.‏

قال‏:‏ فأنشدك بالله أنت هو ‏؟‏

قال‏:‏ اللَّهم نعم‏.‏

قال‏:‏ فاعتنقه ثمَّ ذهب به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر الصِّديق فقال‏:‏ الحمد لله الذي لم يمتني حتَّى أراني من أمَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرَّحمن‏.‏

قال إسماعيل بن عيَّاش‏:‏ فأنا أدركت رجالاً من الأمداد الذين يمدُّون إلينا من اليمن من خولان، ربَّما تمازحوا فيقول الخولانيون للعنسيين‏:‏ صاحبكم الكذَّاب حرق صاحبنا بالنَّار ولم تضره‏.‏

وروى الحافظ ابن عساكر أيضاً من غير وجه عن إبراهيم بن دحيم، حدَّثنا هشام بن عمَّار، حدَّثنا الوليد، أخبرني سعيد بن بشير عن أبي بشر جعفر ابن أبي وحشية أنَّ رجلاً أسلم فأراده قومه على الكفر فألقوه في نار فلم يحترق منه إلا أنملة لم يكن فيما مضى يصيبها الوضوء‏.‏

فقدم على أبي بكر فقال‏:‏ استغفر لي ‏؟‏

قال‏:‏ أنت أحق‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ أنت ألقيت في النَّار فلم تحترق، فاستغفر له، ثمَّ خرج إلى الشَّام وكانوا يسمُّونه بإبراهيم عليه السلام وهذا الرَّجل هو أبو مسلم الخولانيّ، وهذه الرِّواية بهذه الزِّيادة تحقق أنَّه إنَّما نال ذلك ببركة متابعته الشَّريعة المحمَّدية المطهَّرة المقدَّسة‏.‏

كما جاء في حديث الشَّفاعة ‏(‏‏(‏وحرَّم الله على النَّار أن تأكل مواضع السُّجود‏)‏‏)‏‏.‏

وقد نزل أبو مسلم بداريا من غربي دمشق وكان لا يسبقه أحد إلى المسجد الجامع بدمشق وقت الصّبح، وكان يغازي ببلاد الرُّوم، وله أحوال وكرامات كثيرة جداً وقبره مشهور بداريا والظَّاهر أنَّه مقامه الذي كان يكون فيه، فإنَّ الحافظ ابن عساكر رجَّح أنَّه مات ببلاد الرُّوم في خلافة معاوية وقيل‏:‏ في أيَّام ابنه يزيد بعد الستِّين والله أعلم‏.‏

وقد وقع لأحمد ابن أبي الحواريّ من غير وجه أنَّه جاء إلى أستاذه أبي سليمان يعلمه بأنَّ التَّنور قد سجروه وأهله يتنظرون ما يأمرهم به فوجده يكلِّم النَّاس وهم حوله فأخبره بذلك، فاشتغل عنه بالنَّاس، ثمَّ أعلمه فلم يلتفت إليه، ثمَّ أعلمه مع أولئك الذين حوله، فقال‏:‏ إذهب فاجلس فيه‏.‏

فذهب أحمد ابن أبي الحواريّ إلى التَّنور فجلس فيه وهو يتضرَّم ناراً فكان عليه برداً وسلاماً وما زال فيه حتى استيقظ أبو سليمان من كلامه فقال لمن حوله‏:‏ قوموا بنا إلى أحمد ابن أبي الحواريّ فإنِّي أظنَّه قد ذهب إلى التَّنور فجلس فيه امتثالا لما أمرته‏.‏

فذهبوا فوجدوه جالساً فيه فأخذ بيده الشَّيخ أبو سليمان وأخرجه منه - رحمة الله عليهما - ورضي الله عنهما -‏.‏

وقال شيخنا أبو المعالي‏:‏ وأمَّا إلقاؤه - يعني‏:‏ إبراهيم عليه السَّلام - من المنجنيق‏.‏

فقد وقع في حديث البراء بن مالك في وقعة مسيلمة الكذَّاب وأنَّ أصحاب مسيلمة انتهوا إلى حائط حفير فتحصَّنوا به وأغلقوا الباب، فقال البراء بن مالك‏:‏ ضعوني على برش واحملوني على رؤوس الرِّماح ثمَّ ألقوني من أعلاها داخل الباب ففعلوا ذلك وألقوه عليهم فوقع وقام وقاتل المشركين، وقتل مسيلمة‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكر ذلك مستقصى في أيَّام الصِّديق حين بعث خالد بن الوليد لقتال مسيلمة وبني حنيفة، وكانوا في قريب من مائة ألف أو يزيدون، وكان المسلمون بضعة عشر ألفاً فلمَّا التقوا جعل كثير من الأعراب يفرون، فقال المهاجرون والأنصار‏:‏ خلِّصنا يا خالد فميَّزهم عنهم وكان المهاجرون والأنصار قريباً من ألفين وخمسمائة، فصمَّموا الحملة وجعلوا يتدابرون، ويقولون‏:‏ يا أصحاب سورة البقرة بطل السِّحر اليوم فهزموهم بإذن الله وألجأوهم إلى حديقة هناك وتسمى حديقة الموت، فتحصَّنوا بها فحصروهم فيها ففعل البراء بن مالك أخو أنس بن مالك - وكان الأكبر - ما ذكر من رفعه على الأسنَّة فوق الرِّماح حتَّى تمكن من أعلى سورها، ثمَّ ألقى نفسه عليهم ونهض سريعاً إليهم، ولم يزل يقاتلهم وحده ويقاتلونه حتَّى تمكَّن من فتح الحديقة ودخل المسلمون يكبِّرون، وانتهوا إلى قصر مسيلمة وهو واقف خارجه عند جدار كأنَّه جمل أزرق أي من سمرته فابتدره وحشي بن حرب الأسود - قاتل حمزة - بحربته، وأبو دجانة سماك بن حرشة الأنصاريّ - وهو الذي ينسب إليه شيخنا هذا أبو المعالي ابن الزَّملكانيّ - فسبقه وحشي فأرسل الحربة عليه من بعد فأنفذها منه وجاء إليه أبو دجانة فعلاه بسيفه فقتله، لكن صرخت جارية من فوق القصر‏:‏ واأميراه قتله العبد الأسود‏.‏

ويقال‏:‏ إن عمر ميسلمة يوم قتل مائة وأربعين سنة - لعنه الله - فمن طال عمره وساء عمله - قبَّحه الله -‏.‏

وهذا ما ذكره شيخنا فيما يتعلق بإبراهيم الخليل عليه السلام‏.‏

وأمَّا الحافظ أبو نعيم فإنَّه قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ فإنَّ إبراهيم اختص بالخلَّة مع النُّبُّوة‏.‏

قيل‏:‏ فقد اتخذ الله محمَّداً خليلاً وحبيباً، والحبيب ألطف من الخليل‏.‏

ثمَّ ساق من حديث شعبة عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكنَّ صاحبكم خليل الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه مسلم من طريق شعبة والثوريّ عن أبي إسحاق، ومن طريق عبد الله بن مرة وعبد الله ابن أبي الهديل، كلهم عن أبي الأحوص عوف بن مالك الجشيميّ قال‏:‏ سمعت عبد الله بن مسعود يحدِّث عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كنت متخذاً خليلاً لاتَّخذت أبا بكر خليلاً ولكنَّه أخي وصاحبي، وقد اتَّخذ الله صاحبكم خليلا‏)‏‏)‏‏.‏

هذا لفظ مسلم ورواه أيضاً منفرداً به عن جندب بن عبد الله البجليّ كما سأذكره‏.‏

وأصل الحديث في الصَّحيحين عن أبي سعيد، وفي أفراد البخاريّ عن ابن عبَّاس وابن الزُّبير‏.‏

كما سقت ذلك في فضائل الصِّديق رضي الله عنه وقد أوردناه هنالك من رواية أنس، والبراء، وجابر، وكعب بن مالك، وأبي الحسين ابن العلى، وأبي هريرة، وأبي واقد اللَّيثي، وعائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهم أجمعين -‏.‏

ثمَّ إنَّما رواه أبو نعيم من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن كعب بن مالك أنَّه قال‏:‏ عهدي نبيِّكم صلَّى الله عليه وسلَّم فسمعته يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لم يكن نبيّ إلا له خليل من أمَّته وإنَّ خليلي أبو بكر، وإنَّ الله اتَّخذ صاحبكم خليلاً‏)‏‏)‏ وهذا الإسناد ضعيف‏.‏

ومن حديث محمَّد بن عجلان عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لكلِّ نبيٍّ خليل وخليلي أبو بكر ابن أبي قحافة، وخليل صاحبكم الرَّحمن‏)‏‏)‏ وهو غريب من هذا الوجه‏.‏

ومن حديث عبد الوهاب بن الضحاك عن إسماعيل بن عيَّاش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرَّحمن بن جبير بن نفير، عن كثير بن مرة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ومنزلي ومنزل إبراهيم في الجنَّة تجاهين والعبَّاس بيننا، مؤمن بين خليلين‏)‏‏)‏ غريب وفي إسناده نظر انتهى ما أورده أبو نعيم رحمه الله‏.‏

وقال مسلم بن الحجَّاج في صحيحه‏:‏ حدَّثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم قالا‏:‏ حدَّثنا زكريا بن عدي، حدَّثنا عبيد الله بن عمرو، حدَّثنا زيد ابن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، حدَّثني جندب بن عبد الله قال‏:‏ سمعت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قبل أن يموت بخمس وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنِّي أبرأ إلى الله عزَّ وجل أن يكون لي بينكم خليلاً، فإنَّ الله قد اتَّخذني خليلاً كما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمَّتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإنَّ من كان قبلكم يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتَّخذوا القبور مساجد إنِّي أنهاكم عن ذلك‏)‏‏)‏‏.‏

وأمَّا اتِّخاذه حسيناً خليلاً فلم يتعرض لإسناده أبو نعيم‏.‏

وقد قال هشام بن عمَّار في كتابه ‏(‏المبعث‏)‏‏:‏ حدَّثنا يحيى بن حمزة الحضرميّ وعثمان بن علان القرشيّ قالا‏:‏ حدَّثنا عروة بن رويم اللَّخميّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الله أدرك بي الأجل المرقوم وأخذني لقربه واحتضرني احتضاراً، فنحن الآخرون، ونحن السَّابقون يوم القيامة، وأنا قائل قولاً غير فخر إبراهيم خليل الله، وموسى صفيّ الله، وأنا حبيب الله، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وإنَّ بيدي لواء الحمد، وأجارني الله عليكم من ثلاث أن لا يهلككم بسنة، وأن يستبيحكم عدوكم، وأن لا تجمعوا على ضلالة‏)‏‏)‏‏.‏

وأمَّا الفقيه أبو محمَّد بن عبد الله بن حامد فتكلَّم على مقام الخلَّة بكلام طويل إلى أن قال‏:‏ ويقال‏:‏ الخليل الذي يعبد ربه على الرَّغبة والرَّهبة من قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التَّوبة‏:‏ ‏]‏‏.‏

من كثرة ما يقول‏:‏ أواه والحبيب الذي يعبد ربه على الرؤية والمحبة‏.‏

ويقال‏:‏ الخليل الذي يكون معه انتظار العطاء‏.‏

والحبيب الذي يكون معه انتظار اللِّقاء‏.‏

ويقال‏:‏ الخليل الذي يصل بالواسطة من قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏‏.‏

والحبيب الذي يصل إليه من غير واسطة من قوله‏:‏ ‏{‏فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى‏}‏ ‏[‏النَّجم‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ الخليل ‏{‏وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الشُّعراء‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال الله للحبيب محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال الخليل‏:‏ ‏{‏وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏الشُّعراء‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال الله للنبيّ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ‏}‏ ‏[‏التَّحريم‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال الخليل حين ألقي في النَّار‏:‏ ‏(‏‏(‏حسبي الله ونعم الوكيل‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الله لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال الخليل‏:‏ ‏{‏إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الصَّافات‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال الله لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الضُّحى‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال الخليل‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ‏}‏ ‏[‏الشُّعراء‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال الله لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏‏.‏ ‏[‏الإنشراح‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال الخليل‏:‏ ‏{‏وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال الله للحبيب‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال الخليل‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ‏}‏ ‏[‏الشُّعراء‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال الله لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ ]‏‏.‏

وذكر أشياء أخر، وسيأتي الحديث في صحيح مسلم عن أبي بن كعب أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنِّي سأقوم مقاماً يوم القيامة يرغب إلى الخلق كلَّهم حتَّى أبوهم إبراهيم الخليل‏)‏‏)‏‏.‏

فدلَّ على أنَّه أفضل إذ هو يحتاج إليه في ذلك المقام، ودلَّ على أنَّ إبراهيم أفضل الخلق بعده، ولو كان أحد أفضل من إبراهيم بعده لذكره‏.‏

ثمَّ قال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل‏:‏ إنَّ إبراهيم عليه السلام حجب عن نمرود بحجب ثلاثة‏.‏

قيل‏:‏ فقد كان كذلك، وحجب محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّن أرادوه بخمسة حجب، قال الله تعالى في أمره‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ ‏]‏‏.‏

فهذه ثلاث ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ ‏]‏‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ ‏]‏‏.‏

فهذه خمس حجب وقد ذكر مثله سواء الفقيه أبو محمد ابن حامد، وما أدري أيُّهما أخذ من الآخر والله أعلم‏.‏

وهذا الذي قاله غريب، والحجب التي ذكرها لإبراهيم عليه السلام لا أدري ما هي كيف وقد ألقاه في النَّار التي نجَّاه الله منها، وأمَّا ما ذكره من الحجب التي استدل عليها بهذه الآيات، فقد قيل‏:‏ إنَّها جميعها معنوية لا حسية، بمعنى أنَّهم مصرفون عن الحقِّ، لا يصل إليهم ولا يخلص إلى قلوبهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ‏}‏ ‏[‏فصِّلت‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقد حررنا ذلك في التَّفسير، وقد ذكرنا في السِّيرة وفي التَّفسير‏:‏ أنَّ أم جميل امرأة أبي لهب لمَّا نزلت السُّورة في ذمِّها وذمِّ زوجها ودخولهما النَّار وخسارهما، جاءت بفهر وهو الحجر الكبير لترجم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فانتهت إلى أبي بكر وهو جالس عند النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فلم تر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقالت لأبي بكر‏:‏ أين صاحبك ‏؟‏

فقال‏:‏ وماله ‏؟‏

فقالت‏:‏ إنَّه هجاني‏.‏

فقال‏:‏ ما هجاك ‏؟‏

فقالت‏:‏ والله لئن رأيته لأضربنَّه بهذا الفهر‏.‏

وكذلك حجب ومنع أبا جهل حين همَّ أن يطأ برجله رأس النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ساجد فرأى جدثاً من نار وهولاً عظيماً وأجنحة الملائكة دونه، فرجع القهقرى وهو يتَّقي بيديه، فقالت له قريش‏:‏ مالك ويحك ‏؟‏

فأخبرهم بما رأى‏.‏

وقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو أقدم لاختطفته الملائكة عضواً عضواً‏)‏‏)‏‏.‏

وكذلك لمَّا خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة الهجرة وقد أرصدوا على مدرجته وطريقه وأرسلوا إلى بيته رجالاً يحرسونه لئلا يخرج، ومتى عاينوه قتلوه، فأمر عليا فنام على فراشه، ثمَّ خرج عليهم وهم جلوس فجعل يذر على رأس كل إنسان منهم تراباً ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏شاهت الوجوه‏)‏‏)‏ فلم يروه حتى صار هو وأبو بكر الصِّديق إلى غار ثور كما بسطنا ذلك في السِّيرة‏.‏

وكذلك ذكرنا أن العنكبوت سدَّ على باب الغار ليعمي الله عليهم مكانه‏.‏

وفي الصَّحيح أنَّ أبا بكر قال‏:‏ يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا بكر ما ظنَّك باثنين الله ثالثهما‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قال بعض الشُّعراء في ذلك‏:‏

نسجُ داودَ ما حمى صاحبَ الغا * رِ وكانَ الفَخارُ لِلعَنكَبُوتِ

وكذلك حجب ومنع من سراقة بن مالك بن جشعم حين اتَّبعهم بسقوط قوائم فرسه في الأرض حتى أخذ منه أماناً كما تقدَّم بسطه في الهجرة‏.‏

وذكر ابن حامد في كتابه في مقابلة إضجاع إبراهيم عليه السلام ولده للذَّبح مستسلماً لأمر الله تعالى ببذل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نفسه للقتل يوم أحد وغيره حتى نال منه العدو ما نالوا من هشم رأسه، وكسر ثنيته اليمنى السُّفلى كما تقدَّم بسط ذلك في السِّيرة‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ قالوا‏:‏ كان إبراهيم عليه السلام ألقاه قومه في النَّار فجعلها الله برداً وسلاماً‏.‏

قلنا‏:‏ وقد أوتي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مثله، وذلك أنَّه لمَّا نزل بخيبر سمَّته الخيبرية فصيَّر ذلك السُّم في جوفه برداً وسلاماً إلى منتهى أجله، والسُّم عرق إذ لا يستقر في الجوف كما تحرق النَّار‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدَّم الحديث بذلك في فتح خيبر ويؤيد ما قاله أنَّ بشر بن البراء بن معرور مات سريعاً من تلك الشَّاة المسمومة، وأخبر ذراعها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بما أودع فيه من السُّم وكان قد نهش منه نهشةً، وكان السُّم فيه أكثر لأنَّهم كانوا يفهمون أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم يحبّ الذِّراع فلم يضرَّه السُّم الذي حصل في باطنه بإذن الله عزَّ وجل حتَّى انقضى أجله صلَّى الله عليه وسلَّم فذكر أنَّه وجد حينئذٍ من ألم ذلك السُّم الذي كان في تلك الأكلة صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد ذكرنا في ترجمة خالد بن الوليد المخزوميّ فاتح بلاد الشَّام أنَّه أتى بسُّم فحثاه بحضرة الأعداء ليرهبهم بذلك فلم ير بأساً رضي الله عنه‏.‏

ثمَّ قال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل فإنَّ إبراهيم خصم نمرود ببرهان نبوَّته فبهته، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ ‏]‏‏.‏

قيل‏:‏ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم أتاه الكذَّاب بالبعث أبيّ بن خلف بعظم بال ففركه وقال‏:‏ ‏{‏مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ ‏]‏‏.‏

فأنزل الله تعالى البرهان السَّاطع‏:‏ ‏{‏قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ ‏]‏‏.‏

فانصرف مبهوتاً ببرهان نبوَّته‏.‏

قلت‏:‏ وهذا أقطع للحجَّة وهو استدلاله للمعاد بالبداءة، فالذي خلق الخلق بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً قادر على إعادتهم‏.‏

كما قال‏:‏ ‏{‏أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ ]‏‏.‏

أي يعيدهم كما بدأهم، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ ‏]‏‏.‏

هذا وأمر المعاد نظري لا فطري ضروري في قول الأكثرين، فأمَّا الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه فإنَّه معاند مكابر، فإنَّ وجود الصَّانع مذكور في الفطر، وكل واحد مفطور على ذلك إلا من تغيَّرت فطرته فيصير نظرياً عنده، وبعض المتكلِّمين يجعل وجود الصَّانع من باب النَّظر لا الضَّروريات، وعلى كلِّ تقدير فدعواه أنَّه هو الذي يحيى الموتى لا يقبله عقل ولا سمع وكل واحد يكذِّبه بعقله في ذلك، ولهذا ألزمه إبراهيم بالإتيان بالشَّمس من المغرب إن كان كما ادَّعى ‏{‏فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ ‏]‏‏.‏

وكان ينبغي أن يذكر مع هذا أنَّ الله تعالى سلَّط محمداً على هذا المعاند لمَّا بارز النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يوم أحد فقتله بيده الكريمة طعنه بحربة، فأصاب ترقوته فتردَّى عن فرسه مراراً، فقالوا له‏:‏ ويحك مالك ‏؟‏

فقال‏:‏ والله إنَّ بي لمَّا لو كان بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين، ألم يقل‏:‏ ‏(‏‏(‏بل أنا أقتله‏)‏‏)‏ والله لو بصق عليَّ لقتلني، وكان هذا - لعنه الله - قد أعدَّ فرساً وحربةً ليقتل بها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل أنا أقتله إن شاء الله‏)‏‏)‏ فكان كذلك يوم أحد‏.‏

ثمَّ قال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل‏:‏ فإنَّ إبراهيم عليه السلام كسَّر أصنام قومه غضباً لله‏.‏

قيل‏:‏ فإنَّ محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم كسَّر ثلاثمائة وستِّين صنماً قد ألزمها الشَّيطان بالرَّصاص والنحاس، فكان كلَّما دنا منها بمخصرته تهوي من غير أن يمسَّها ويقول‏:‏ ‏{‏جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ ]‏‏.‏

فتساقط لوجوهها ثمَّ أمر بهنَّ فأخرجن إلى الميل، وهذا أظهر وأجلى من الذي قبله‏.‏

وقد ذكرنا هذا في أوَّل دخول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مكة عام الفتح بأسانيده وطرقه من الصِّحاح وغيرها بما فيه كفاية‏.‏

وقد ذكر غير واحد من علماء السِّير أنَّ الأصنام تساقطت أيضاً لمولده الكريم وهذا أبلغ وأقوى في المعجز من مباشرة كسرها، وقد تقدَّم أنَّ نار فارس التي كانوا يعبدونها خمدت أيضاً ليلتئذ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وأنَّه سقط من شرفات قصر كسرى أربع عشر شرفة مؤذنة بزوال دولتهم بعد هلاك أربعة عشر من ملوكهم في أقصر مدة، وكان لهم في الملك قريب من ثلاثة آلاف سنة‏.‏

وأمَّا إحياء الطُّيور الأربعة لإبراهيم عليه السلام فلم يذكره أبو نعيم ولا ابن حامد، وسيأتي في إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام ما وقع من المعجزات المحمَّدية من هذا النَّمط ما هو مثل ذلك، كما سيأتي التَّنبيه عليه إذا انتهينا إليه من إحياء أموات بدعوات أمَّته، وحنين الجذع، وتسليم الحجر والشَّجر والمدر عليه، وتكليم الذِّراع له وغير ذلك‏.‏

وأمَّا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏‏.‏

والآيات بعدها فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ ]‏‏.‏

وقد ذكر ذلك ابن حامد فيما وقفت عليه بعد، وقد ذكرنا في أحاديث الإسراء من كتابنا هذا، ومن التَّفسير ما شاهده رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة أسري به من الآيات فيما بين مكة إلى بيت المقدس، وفيما بين ذلك إلى سماء الدُّنيا، ثمَّ عاين من الآيات في السَّموات السَّبع وما فوق ذلك، وسدرة المنتهى، وجنَّة المأوى، والنَّار التي هي بئس المصير والمثوى‏.‏

وقال - عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام - في حديث المنام - وقد رواه أحمد والتّرمذيّ وصحَّحه وغيرهما -‏:‏ ‏(‏‏(‏فتجلَّى لي كل شيء وعرفت‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر ابن حامد في مقابلة ابتلاء الله يعقوب عليه السلام بفقده ولده يوسف عليه السلام وصبره واستعانته ربَّه عزَّ وجل، موت إبراهيم ابن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصبره عليه وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربَّنا وإنَّا بك يا إبراهيم لمحزونون‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد مات بناته الثَّلاثة‏:‏ رقية، وأم كلثوم، وزينب وقتل عمَّه الحمزة أسد الله وأسد رسوله يوم أحد فصبر واحتسب‏.‏

وذكر في مقابلة حُسنِ يوسف عليه السلام ما ذكر من جمال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومهابته وحلاوته شكلاً ونفعاً، وهدياً ودلاً، ويمناً كما تقدَّم في شمائله من الأحاديث الدَّالة على ذلك كما قالت الرَّبيع بنت مسعود‏:‏ لو رأيته لرأيت الشَّمس طالعة‏.‏

وذكر في مقابلة ما ابتلي به يوسف عليه السلام من الفرقة والغربة، هجرة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من مكة إلى المدينة ومفارقته وطنه وأهله وأصحابه الذين كانوا بها‏.‏

القول فيما أوتي موسى - عليه السَّلام من الآيات‏:‏

وأعظمهنَّ تسع آيات كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ ]‏‏.‏

وقد شرحناها في التَّفسير وحكينا قول السَّلف فيها واختلافهم فيها، وأنَّ الجمهور على أنها هي العصا في انقلابها حيَّة تسعى، واليد إذا أدخل يده في جيب درعه أخرجها تضيء كقطعة قمر يتلألأ إضاءة، ودعاؤه على قوم فرعون حين كذَّبوه فأرسل عليهم الطُّوفان، والجراد، والقمَّل، والضَّفادع، والدَّم آيات مفصلات كما بسطنا ذلك في التَّفسير، وكذلك أخذهم الله بالسِّنين وهي نقص الحبوب، وبالجدب وهو نقص الثِّمار، وبالموت الذَّريع وهو نقص الأنفس، وهو الطُّوفان في قول، ومنها فلق أبحر لإنجاء بني إسرائيل وإغراق آل فرعون، ومنها تضليل بني إسرائيل في التِّيه، وإنزال المنّ والسَّلوى عليهم، واستسقاؤه لهم فجعل الله ماءهم يخرج من حجر يحمل معهم على دابة له أربعة وجوه، إذا ضربه موسى بعصاه يخرج من كل وجه ثلاثة أعين لكلِّ سبط عين، ثمَّ يضربه فينقلع، إلى غير ذلك من الآيات الباهرات كما بسطنا ذلك في التَّفسير وفي قصَّة موسى عليه السلام من كتابنا هذا في قصص الأنبياء منه، ولله الحمد والمنَّة‏.‏

وقيل‏:‏ كل من عبد العجل أماتهم ثمَّ أحياهم الله تعالى، وقصَّة البقرة‏.‏

أمَّا العصا فقال شيخنا العلامة ابن الزَّملكاني‏:‏ وأمَّا حياة عصا موسى فقد سبَّح الحصا في كفِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو جماد، والحديث في ذلك صحيح‏.‏

وهذا الحديث مشهور عن الزُّهريّ، عن رجل، عن أبي ذر، وقد قدَّمنا ذلك مبسوطاً في دلائل النُّبُّوة بما أغنى عن إعادته، وقيل‏:‏ إنهنَّ سبَّحن في كفِّ أبي بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، كما سبَّحن في كفِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه خلافة النُّبُّوة‏)‏‏)‏‏.‏
وقد روى الحافظ بسنده إلى بكر ابن حبيش عن رجل سمَّاه قال‏:‏ كان بيد أبي مسلم الخولانيّ سبحة يسبح بها قال‏:‏ فنام والسُّبحة في يده، قال‏:‏ فاستدارت السُّبحة فالتفت على ذراعه وهي تقول‏:‏ سبحانك يا منبت النَّبات، ويا دائم الثَّبات‏.‏

فقال‏:‏ هلمَّ يا أمَّ مسلم وانظري إلى أعجب الأعاجيب، قال‏:‏ فجاءت أم مسلم والسُّبحة تدور وتسبِّح فلمَّا جلست سكتت‏.‏

وأصحَّ من هذا كلَّه وأصرح حديث البخاريّ عن ابن مسعود قال‏:‏ كنَّا نسمع تسبيح الطَّعام وهو يؤكل‏.‏

قال شيخنا‏:‏ وكذلك قد سلَّمت عليه الأحجار‏.‏

قلت‏:‏ وهذا قد رواه مسلم عن جابر بن سمرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنِّي لأعرف حجراً كان يسلِّم عليَّ بمكة قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن‏)‏‏)‏‏.‏

قال بعضهم‏:‏ هو الحجر الأسود‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ حدَّثنا عبَّاد بن يعقوب الكوفيّ، حدَّثنا الوليد ابن أبي ثور عن السدي، عن عباد بن يزيد، عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ كنت مع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمكة في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا قال‏:‏ السَّلام عليك يا رسول الله‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ غريب‏.‏

ورواه أبو نعيم في ‏(‏الدَّلائل‏)‏ من حديث السديّ عن أبي عمارة الحيواني، عن علي قال‏:‏ خرجت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فجعل لا يمرّ بحجر ولا شجر ولا مدر ولا شيء إلا قال‏:‏ السَّلام عليك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ وأقبلت الشَّجرة عليه بدعائه‏.‏

وذكر اجتماع تينك الشَّجرتين لقضاء حاجته من ورائهما، ثمَّ رجوعهما إلى منابتهما، وكلا الحديثين في الصَّحيح، ولكن لا يلزم من ذلك حلول حياة فيهما إذ يكونان ساقهما سائق، ولكن في قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏انقادا عليَّ بإذن الله‏)‏‏)‏ ما يدل على حصول شعور منهما لمخاطبته ولا سيما مع امتثالهما ما أمرهما به‏.‏

قال‏:‏ وأمر عذقاً من نخلة أن ينزل فنزل يبقر في الأرض حتى وقف بين يديه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتشهد أني رسول الله‏؟‏‏)‏‏)‏ فشهد بذلك ثلاثاً ثمَّ عاد إلى مكانه، وهذا أليق وأظهر في المطابقة من الذي قبله، ولكن هذا السِّياق فيه غرابة‏.‏

والذي رواه الإمام أحمد وصحَّحه التّرمذيّ، ورواه البيهقيّ، والبخاري في ‏(‏التَّاريخ‏)‏ من رواية أبي ظبيان وحصين بن المنذر عن ابن عباس قال‏:‏ جاء أعرابي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ بم أعرف أنَّك رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النَّخلة أتشهد أني رسول الله‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فدعا العذق فجعل العذق ينزل من النَّخلة حتى سقط في الأرض فجعل ينقز حتى أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثمَّ قال له‏:‏ ‏(‏‏(‏إرجع‏)‏‏)‏ فرجع إلى مكانه‏.‏

فقال‏:‏ أشهد أنَّك رسول الله، وآمن به‏.‏

هذا لفظ البيهقيّ وهو ظاهر في أنَّ الذي شهد بالرِّسالة هو الأعرابي، وكان رجلاً من بني عامر، ولكن في رواية البيهقيّ من طريق الأعمش عن سالم ابن أبي الجعد، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ما هذا الذي يقول أصحابك ‏؟‏
قال‏:‏ وحول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم أعذاق وشجر -‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل لك أن أريك آية‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

فدعا غصناً منها فأقبل يخدُّ الأرض حتى وقف بين يديه وجعل يسجد ويرفع رأسه، ثمَّ أمره فرجع‏.‏

قال‏:‏ فرجع العامري وهو يقول‏:‏ يا آل عامر بن صعصعة‏:‏ والله لا أكذِّبه بشيء يقوله أبداً‏.‏

وتقدَّم فيما رواه الحاكم في مستدركه متفرِّداً به عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دعا رجلاً إلى الإسلام، فقال‏:‏ هل من شاهد على ما تقول ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه الشَّجرة‏)‏‏)‏ فدعاها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهي على شاطئ الوادي، فأقبلت تخدُّ الأرض خداً، فقامت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً فشهدت أنَّه كما قال، ثمَّ إنها رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه وقال‏:‏ إن يتبعوني أتيتك بهم وإلا رجعت إليك وكنت معك‏.‏

قال‏:‏ وأمَّا حنين الجذع الذي كان يخطب إليه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فعمل له المنبر، فلمَّا رقي عليه وخطب حنَّ الجذع إليه حنين العشار والنَّاس يسمعون بمشهد الخلق يوم الجمعة، ولم يزل يئن ويحن حتى نزل إليه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فاعتنقه وسكَّنه وخيَّره بين أن يرجع غصناً طرياً، أو يغرس في الجنَّة يأكل منه أولياء الله، فاختار الغرس في الجنَّة وسكن عند ذلك، فهو حديث مشهور معروف قد رواه من الصَّحابة عدد كثير متواتر وكان بحضور الخلائق‏.‏

وهذا الذي ذكره من تواتر حنين الجذع كما قال فإنَّه قد روى هذا الحديث جماعة من الصَّحابة، وعنهم أعداد من التَّابعين، ثمَّ من بعدهم آخرون عنهم لا يمكن تواطؤهم على الكذب فهو مقطوع به في الجملة، وأمَّا تخيير الجذع كما ذكره شيخنا فليس بمتواتر بل ولا يصحّ إسناده، وقد أوردته في ‏(‏الدَّلائل‏)‏ عن أبيّ بن كعب‏.‏

وذكر في مسند أحمد، وسنن ابن ماجه، وعن أنس من خمس طرق إليه صحَّح التّرمذيّ إحداها، وروى ابن ماجه أخرى، وأحمد ثالثة، والبزَّار رابعة، وأبو نعيم خامسة‏.‏

وعن جابر بن عبد الله في صحيح البخاري من طريقين عنه، والبزَّار من ثالثة، ورابعة، وأحمد من خامسة، وسادسة، وهذه على شرط مسلم‏.‏

وعن سهل بن سعد في مصنف ابن أبي شيبة على شرط الصَّحيحين، وعن ابن عبَّاس في مسند أحمد، وسنن ابن ماجه بإسناد على شرط مسلم، وعن ابن عمر في صحيح البخاري‏.‏

ورواه أحمد من وجه آخر عن ابن عمر، وعن أبي سعيد في مسند عبد بن حميد بإسناد على شرط مسلم‏.‏

وقد رواه يعلى الموصليّ من وجه آخر عنه‏.‏

وعن عائشة رواه الحافظ أبو نعيم من طريق علي بن أحمد الخوارزميّ، عن قبيصة بن حبان بن علي، عن صالح بن حبان، عن عبد الله ابن بريدة، عن عائشة فذكر الحديث بطوله وفيه أنَّه خيَّره بين الدُّنيا والآخرة فاختار الجذع الآخرة، وغار حتى ذهب فلم يعرف، وهذا غريب إسناداً ومتناً‏.‏

وعن أم سلمة رواه أبو نعيم بإسناد جيد، وقدِّمت الأحاديث ببسط أسانيدها، وتحرير ألفاظها، وغررها بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا، ومن تدبَّرها حصل له القطع بذلك ولله الحمد والمنة‏.‏

قال القاضي عياض بن موسى السبتيّ المالكيّ في كتابه ‏(‏الشِّفا‏)‏ وهو حديث مشهور متواتر خرجه أهل الصَّحيح، ورواه من الصَّحابة بضعة عشر منهم أبي وأنس وبريدة، وسهل بن سعد، وابن عبَّاس، وابن عمر، والمطَّلب ابن أبي وداعة، وأبو سعيد، وأم سلمة - رضي الله عنهم أجمعين -‏.‏

قال شيخنا‏:‏ فهذه جمادات ونباتات وقد حنَّت وتكلَّمت وفي ذلك ما يقابل انقلاب العصا حيَّة‏.‏

قلت‏:‏ وسنشير إلى هذا عند ذكر معجزات عيسى عليه السلام في إحيائه الموتى بإذن الله تعالى، في ذلك كما رواه البيهقيّ عن الحاكم، عن أبي أحمد ابن أبي الحسن، عن عبد الرحمن ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عمرو بن سوار قال‏:‏ قال لي الشَّافعيّ‏:‏ ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقلت‏:‏ أعطى عيسى إحياء الموتى‏.‏

فقال‏:‏ أعطى محمَّد الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيء له المنبر، فلمَّا هيء له حنَّ الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك‏.‏

وهذا إسناد صحيح إلى الشافعي رحمه الله وهو ممَّا كنت أسمع شيخنا الحافظ أبا الحجَّاج المزِّي رحمه الله يذكره عن الشَّافعيّ رحمه الله وأكرم مثواه وإنَّما قال‏:‏ فهذا أكبر من ذلك، لأنَّ الجذع ليس محلاً للحياة ومع هذا حصل له شعور ووجد لمَّا تحوَّل عنه إلى المنبر، فأنَّ وحنَّ حنين العشار حتى نزل إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاحتضنه وسكَّنه حتى سكن‏.‏

قال الحسن البصريّ‏:‏ فهذا الجذع حنَّ إليه فإنَّهم أحق أن يحنوا إليه‏.‏

وأمَّا عود الحياة إلى جسد كانت فيه بإذن الله فعظيم، وهذا أعجب وأعظم من إيجاد حياة وشعور في محل ليس مألوفاً لذلك لم تكن فيه قبل بالكلِّية، فسبحان الله رب العالمين‏.‏

تنبيه‏:‏ وقد كان لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لواء يحمل معه في الحرب يخفق في قلوب أعدائه مسيرة شهر بين يديه، وكانت له عنزة تحمل بين يديه، فإذا أراد الصَّلاة إلى غير جدار ولا حائل ركزت بين يديه، وكان له قضيب يتوكأ عليه إذا مشى وهو الذي عبر عنه سطيح في قوله لابن أخيه عبد المسيح بن نفيلة‏:‏ يا عبد المسيح إذا أكثرت التِّلاوة وظهر صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوه، فليست الشَّام لسطيح شاماً، ولهذا كان ذكر هذه الأشياء عند إحياء عصا موسى وجعلها حيَّة أليق إذ هي مساوية لذلك، وهذه متعددة في محال متفرقة بخلاف عصا موسى فإنها وإن تعدد جعلها حية فهي ذات واحدة، والله أعلم‏.‏

ثمَّ ننبِّه على ذلك عند ذكر إحياء الموتى على يد عيسى لأنَّ هذه أعجب وأكبر، وأظهر وأعلم‏.‏

قال شيخنا‏:‏ وأمَّا أنَّ الله كلَّم موسى تكليما فقد تقدَّم حصول الكلام للنبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة الإسراء مع الرؤية وهو أبلغ، هذا أورده فيما يتعلق بمعجزات موسى عليه السلام ليلة الإسراء فيشهد له فنوديت‏:‏ يا محمَّد قد كلِّفت فريضتين، وخفَّفت عن عبادي، وسياق بقية القصَّة يرشد إلى ذلك‏.‏

وقد حكى بعض العلماء الإجماع على ذلك، لكن رأيت في كلام القاضي عياض نقل خلاف فيه والله أعلم‏.‏

وأمَّا الرُّؤية ففيها خلاف مشهور بين الخلف، والسَّلف، ونصرها من الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة المشهور بإمام الأئمة، واختار ذلك القاضي عياض، والشيخ محيي الدِّين النوويّ‏.‏

وجاء عن ابن عبَّاس تصديق الرُّؤية، وجاء عنه تفنيدها، وكلاهما في صحيح مسلم‏.‏

وفي الصَّحيحين عن عائشة إنكار ذلك، وقد ذكرنا في الإسراء‏:‏ عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي ذر، وعائشة - رضي الله عنهم - أنَّ المرئي في المرتين المذكورتين في أول سورة النَّجم إنَّما هو جبريل عليه السلام‏.‏

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله هل رأيت ربَّك ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏نوراً لي أراه‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيت نوراً‏)‏‏)‏‏.‏

وقد تقدَّم بسط ذلك في الإسراء في السِّيرة، وفي التَّفسير في أول سورة بني إسرائيل، وهذا الذي ذكره شيخنا فيما يتعلق بالمعجزات الموسوية - عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام -‏.‏

وأيضاً فإنَّ الله تعالى كلَّم موسى وهو بطور سينا وسأل الرُّؤية فمنعها، وكلَّم محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة الإسراء وهو بالملأ الأعلى حين رفع لمستوى سمع فيه صريف الأقلام، وحصلت له الرُّؤية في قول طائفة كبيرة من علماء السَّلف والخلف والله أعلم‏.‏

ثمَّ رأيت ابن حامد قد طرق هذا في كتابه وأجاد وأفاد، وقال ابن حامد‏:‏ قال الله تعالى لموسى‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال لمحمَّد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ ]‏‏.‏

وأمَّا اليد التي جعلها الله برهاناً وحجةً لموسى على فرعون وقومه كما قال تعالى بعد ذكر صيرورة العصا حيَّة‏:‏ ‏{‏اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال في سورة طه‏:‏ ‏{‏آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ ‏]‏‏.‏

فقد أعطى الله محمَّداً انشقاق القمر بإشارته إليه فرقتين فرقة من وراء جبل حراء، وأخرى أمامه كما تقدَّم بيان ذلك بالأحاديث المتواترة، مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ -‏]‏‏.‏

ولا شكَّ أنَّ هذا أجلَّ وأعظم وأبهر في المعجزات وأعمَّ وأظهر وأبلغ من ذلك‏.‏

وقد قال كعب بن مالك في حديثه الطَّويل في قصَّة توبته‏:‏ وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سرَّ استنار وجهه كأنَّه فلقة قمر، وذلك في صحيح البخاري‏.‏

وقال ابن حامد‏:‏ قالوا‏:‏ فإنَّ موسى أعطي اليد البيضاء‏.‏

قلنا لهم‏:‏ فقد أعطي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ما هو أفضل من ذلك نوراً كان يضيء عن يمينه حيث ما جلس، وعن يساره حيث ما جلس، وقام يراه النَّاس كلَّهم وقد بقي ذلك النُّور إلى قيام السَّاعة، ألا ترى أنَّه يرى النُّور الساطع من قبره صلَّى الله عليه وسلَّم من مسيرة يوم وليلة‏.‏

هذا لفظه وهذا الذي ذكره من هذا النُّور غريب جداً، وقد ذكرنا في السِّيرة عند إسلام الطّفيل بن عمرو الدُّوسيّ أنَّه طلب من النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم آية تكون له عوناً على إسلام قومه من بيته هناك فسطع نور بين عينيه كالمصباح‏.‏

فقال‏:‏ اللَّهم في غير هذا الموضع فإنَّهم يظنُّونه مثله، فتحوَّل النُّور إلى طرف سوطه، فجعلوا ينظرون إليه كالمصباح فهداهم الله على يديه ببركة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبدعائه لهم في قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم إهد دوساً وآت بهم‏)‏‏)‏‏.‏

وكان يقال للطفيل‏:‏ ذو النُّور لذلك‏.‏

وذكر أيضاً حديث أسيد بن حضير، وعباد بن بشر في خروجهما من عند النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في ليلة مظلمة فأضاء لهما طرف عصا أحدهما، فلمَّا افترقا أضاء لكل واحد منهما طرف عصاه وذلك في صحيح البخاريّ وغيره‏.‏

وقال أبو زرعة الرَّازيّ في كتاب ‏(‏دلائل النُّبُّوة‏)‏‏:‏ حدَّثنا سليمان بن حرب، حدَّثنا حماد بن سلمة عن ثابت بن أنس بن مالك أنَّ عباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في ليلة ظلماء حندس، فأضاءت عصا أحدهما مثل السِّراج وجعلا يمشيان بضوئها، فلمَّا تفرَّقا إلى منزلهما أضاءت عصا ذا، وعصا ذا‏.‏

ثمَّ روي عن إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزُّبير بن العوُّام، وعن يعقوب بن حميد المدني كلاهما، عن سفيان بن حمزة بن يزيد الأسلميّ، عن كثير بن زيد، عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه قال‏:‏ سرنا في سفر مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ليلة ظلماء دحمسة فأضاءت أصابعي حتَّى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم، وإنَّ أصابعي لتستنير‏.‏

وروى هشام بن عمَّار في البعث حدَّثنا عبد الأعلى بن محمد البكريّ، حدَّثنا جعفر بن سليمان البصريّ، حدَّثنا أبو التياح الضَّبعيّ قال‏:‏ كان مطرف بن عبد الله يبدر فيدخل كل جمعة فربَّما نوِّر له في سوطه، فأدلج ذات ليلة وهو على فرسه حتَّى إذا كان عند المقابر هدم به، قال‏:‏ فرأيت صاحب كل قبر جالساً على قبره فقال‏:‏ هذا مطرف يأتي الجمعة‏.‏

فقلت لهم‏:‏ وتعلمون عندكم يوم الجمعة ‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم، ونعلم ما يقول فيه الطَّير‏.‏

قلت‏:‏ وما يقول فيه الطَّير ‏؟‏

قالوا‏:‏ يقول‏:‏ ربِّ سلِّم سلِّم قوم صالح‏.‏

وأما دعاؤه عليه السلام بالطُّوفان وهو الموت الذَّريع في قول، وما بعده من الآيات، والقحط، والجدب، فإنَّما كان ذلك لعلَّهم يرجعون إلى متابعته، ويقلعون عن مخالفته فما زادهم إلا طغياناً كبيراً‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَاأَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ -‏]‏‏.‏

‏{‏وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ -‏]‏‏.‏

وقد دعا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على قريش حين تمادوا على مخالفته بسبع كسبع يوسف، فقحطوا حتَّى أكلوا كلَّ شيء، وكان أحدهم يرى بينه وبين السَّماء مثل الدُّخان من الجوع‏.‏

وقد فسَّر ابن مسعود قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الدُّخان‏:‏ ‏]‏‏.‏

بذلك كما رواه البخاريّ عنه في غير ما موضع من صحيحه، ثمَّ توسَّلوا إليه - صلوات الله وسلامه عليه - بقرابتهم منه، مع أنَّه بعث بالرَّحمة والرَّأفة، فدعا لهم فأقلع عنهم، ورُفع عنهم العذاب، وأحيوا بعد ما كانوا أشرفوا على الهلكة‏.‏

وأمَّا فلق البحر لموسى عليه السلام حين أمره الله تعالى حين تراءى الجمعان أن يضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطَّود العظيم فإنَّه معجزة عظيمة باهرة، وحجَّة قاطعة قاهرة، وقد بسطنا ذلك في التَّفسير وفي قصص الأنبياء من كتابنا هذا‏.‏


وفي إشارته صلَّى الله عليه وسلَّم بيده الكريمة إلى قمر السَّماء فانشقَّ القمر فلقتين وفق ما سأله قريش وهم معه جلوس في ليلة البدر أعظم آية وأيمن دلالة، وأوضح حجة وأبهر برهان على نبوَّته وجاهه عند الله تعالى، ولم ينقل معجزة عن نبيٍّ من الأنبياء من الآيات الحسِّيات أعظم من هذا كما قررنا ذلك بأدلته من الكتاب والسُّنة في التَّفسير في أوَّل البعثة وهذا أعظم من حبس الشَّمس قليلاً ليوشع بن نون حتَّى تمكَّن من الفتح ليلة السَّبت، كما سيأتي في تقرير ذلك مع ما يناسب ذكره عنده‏.‏

وقد تقدَّم من سيرة العلاء بن الحضرميّ، وأبي عبيد الثقفيّ، وأبي مسلم الخولانيّ وسير الجيوش التي كانت معهم على تيار الماء ومنها دجلة وهي جارية عجاج تقذف الخشب من شدة جريها‏.‏

وتقدَّم تقرير أنَّ هذا أعجب من فلق البحر لموسى من عدة وجوه والله أعلم‏.‏

وقال ابن حامد‏:‏ فإن قالوا‏:‏ فإنَّ موسى عليه السلام ضرب بعصاه البحر فانفلق فكان ذلك آية لموسى عليه السلام‏.‏

قلنا‏:‏ فقد أوتي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مثلها، قال علي رضي الله عنه‏:‏ لمَّا خرجنا إلى خيبر فإذا نحن بواد سحب وقدَّرناه فإذا هو أربع عشرة قامة‏.‏

فقالوا‏:‏ يا رسول الله العدوّ من ورائنا والوادي من أمامنا، كما قال أصحاب موسى‏:‏ إنَّا لمدركون، فنزل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فعبرت الخيل لا تبدي حوافرها، والإبل لا تبدي أخفافها، فكان ذلك فتحاً وهذا الذي ذكره بلا إسناد، ولا أعرفه في شيء من الكتب المعتمدة بإسناد صحيح ولا حسن بل ضعيف فالله أعلم‏.‏

وأمَّا تظليله بالغمام في التِّيه فقد تقدَّم ذكر حديث الغمامة التي رآها بحيرا تظلَّه من بين أصحابه وهو ابن اثنتي عشرة سنة، صحبة عمِّه أبي طالب وهو قادم إلى الشَّام في تجارة، وهذا أبهر من جهة أنَّه كان وهو قبل أن يوحى إليه وكانت الغمامة تظلّله وحده من بين أصحابه، فهذا أشدُّ في الاعتناء وأظهر من غمام بني إسرائيل وغيرهم‏.‏

وأيضاً فإنَّ المقصود من تظليل الغمام إنَّما كان لاحتياجهم إليه من شدَّة الحرِّ، وقد ذكرنا في ‏(‏الدَّلائل‏)‏ حين سئل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن يدعو لهم ليسقوا لما هم عليه من الجوع والجهد والقحط فرفع يديه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم اسقنا، اللَّهم اسقنا‏)‏‏)‏‏.‏

قال أنس‏:‏ ولا والله ما نرى في السَّماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار فأنشأن من ورائه سحابة مثل التُّرس فلمَّا توسَّطت السَّماء انتشرت، ثمَّ أمطرت‏.‏

قال أنس‏:‏ فلا والله ما رأينا الشَّمس سبتنا، ولمَّا سألوه أن يستصحي لهم رفع يده وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم حوالينا ولا علينا‏)‏‏)‏ فما جعل يشير بيديه إلى ناحية إلا انحاز السَّحاب إليها حتَّى صارت المدينة مثل الإكليل يمطر ما حولها ولا تمطر‏.‏

فهذا تظليل عام محتاج إليه آكد من الحاجة إلى ذلك، وهو أنفع منه والتَّصرف فيه، وهو يشير أبلغ في المعجز، وأظهر في الإعتناء والله أعلم‏.‏

وأمَّا إنزال المنِّ والسَّلوى عليهم فقد كثَّر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الطَّعام والشَّراب في غير ما موطن كما تقدَّم بيانه في دلائل النُّبُّوة من إطعام الجمِّ الغفير من الشَّيء اليسير كما أطعم يوم الخندق من شويهة جابر بن عبد الله وصاعه الشَّعير أزيد من ألف نفس جائعة - صلوات الله وسلامه عليه - دائماً إلى يوم الدِّين، وأطعم من حفنة قوماً من النَّاس وكانت تمدُّ من السَّماء إلى غير ذلك من هذا القبيل مما يطول ذكره‏.‏

وقد ذكر أبو نعيم وابن حامد أيضاً هاهنا أن المراد بالمنِّ والسَّلوى إنَّما هو رزق رزقوه من غير كدٍّ منهم ولا تعب، ثمَّ أورد في مقابلته حديث تحليل المغنم ولا يحلّ لأحد قبلنا، وحديث جابر في سيره إلى عبيدة وجوعهم حتى أكلوا الخبط، فحسر البحر لهم عن دابَّة تسمَّى العنبر فأكلوا منها ثلاثين من يوم وليلة حتَّى سمنوا وتكسَّرت عكن بطونهم، والحديث في الصَّحيح كما تقدَّم وسيأتي عند ذكر المائدة في معجزات المسيح بن مريم‏.‏


قصَّة أبي موسى الخولانيّ‏:‏

أنَّه خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الحج وأمرهم أن لا يحملوا زاداً ولا مزاداً فكانوا إذا نزلوا منزلا صلَّى ركعتين فيؤتون بطعام وشراب وعلف يكفيهم ويكفي دوابَّهم غداءً وعشاءً مدَّة ذهابهم وإيابهم‏.‏

وأمَّا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ ‏]‏‏.‏

فقد ذكرنا بسط ذلك في قصَّة موسى عليه السلام وفي التَّفسير‏.‏

وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في وضع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يده في ذلك الإناء الصَّغير الذي لم يسع بسطها فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه أمثال العيون، وكذلك كثر الماء في غير ما موطن كمزادتي تلك المرأة يوم الحديبية وغير ذلك، وقد استسقى الله لأصحابه في المدينة وغيرها فأجيب طبق السؤال وفق الحاجة، لا أزيد ولا أنقص، وهذا أبلغ في المعجز، ونبع الماء من بين أصابعه من نفس يده على قول طائفة من العلماء أعظم من نبع الماء من الحجر فإنَّه محل لذلك‏.‏

قال أبو نعيم الحافظ‏:‏ فإن قيل‏:‏ إنَّ موسى كان يضرب بعصاه الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً في التِّيه قد علم كل أناس مشربهم‏.‏

قيل‏:‏ كان لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم مثله أو أعجب فإنَّ نبع الماء من الحجر مشهور في العلوم والمعارف، وأعجب من ذلك نبع الماء من بين اللَّحم والدَّم والعظم فكان يفرِّج بين أصابعه في محصب فينبع من بين أصابعه الماء، فيشربون ويسقون ماء جارياً عذباً يروي العدد الكثير من النَّاس والخيل والإبل‏.‏

ثمَّ روى من طريق المطَّلب بن عبد الله بن أبي حنطب حدَّثني عبد الرَّحمن ابن أبي عمرة الأنصاري، حدَّثني أبي قال‏:‏ كنَّا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة غزاها فبات النَّاس في مخمصة فدعا بركوة فوضعت بين يديه، ثمَّ دعا بماء فصبَّه فيها، ثمَّ مجَّ فيها وتكلَّم ما شاء الله أن يتكلَّم ثمَّ أدخل إصبعه فيها، فأُقسم بالله لقد رأيت أصابع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تتفجَّر منها ينابيع الماء ثمَّ أمر النَّاس فسقوا وشربوا وملأوا قربهم وأداواتهم‏.‏

وأمَّا قصَّة إحياء الذين قتلوا بسبب عبادة العجل وقصَّة البقرة، فسيأتي ما يشابههما من إحياء حيوانات وأناس عند ذكر إحياء الموتى على يد عيسى ابن مريم والله أعلم‏.‏

وقد ذكر أبو نعيم هاهنا أشياء أخر تركناها اختصاراً واقتصاداً‏.‏

وقال هشام بن عمارة في كتابه ‏(‏المبعث‏)‏‏:‏

باب ما أعطي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وما أعطي الأنبياء قبله‏:‏

حدَّثنا محمَّد بن شعيب، حدَّثنا روح بن مدرك، أخبرني عمر بن حسَّان التَّميميّ أنَّ موسى عليه السلام أعطي آية من كنوز العرش، ربِّ لا تولج الشَّيطان في قلبي وأعذني منه ومن كل سوء، فإنَّ لك اليد والسُّلطان والملك والملكوت دهر الدَّاهرين وأبد الأبدين آمين آمين‏.‏

قال‏:‏ وأعطي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم آيتان من كنوز العرش آخر سورة البقرة ‏(‏‏(‏آمن الرَّسول بما أنزل إليه من ربِّه‏)‏‏)‏ إلى آخرها‏.‏

قصَّة حبس الشَّمس‏:‏

على يوشع بن نون بن أفرائم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرَّحمن - عليهم السَّلام - وقد كان نبيّ بنيّ إسرائيل بعد موسى عليه السلام وهو الذي خرج ببني إسرائيل من التِّيه ودخل بهم بيت المقدس بعد حصار ومقاتلة، وكان الفتح قد ينجز بعد العصر يوم الجمعة وكادت الشَّمس تغرب ويدخل عليهم السَّبت فلا يتمكَّنون معه من القتال، فنظر إلى الشَّمس فقال‏:‏ إنَّك مأمورة وأنا مأمور، ثمَّ قال‏:‏ اللَّهم احبسها عليَّ، فحبسها الله عليه حتى فتح البلد ثمَّ غربت‏.‏

وقد قدَّمنا في قصَّة من قصص الأنبياء الحديث الوارد في صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر ابن همام، عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏غزا نبيّ من الأنبياء فدنا من القرية حين صلَّى العصر أو قريباً من ذلك فقال للشَّمس‏:‏ أنت مأمورة وأنا مأمور، اللَّهم امسكها عليَّ شيئاً، فحبست عليه حتى فتح الله عليه، الحديث بطوله، وهذا النَّبيّ هو‏:‏ يوشع بن نون‏.‏

بدليل ما رواه الإمام أحمد حدَّثنا أسود بن عامر، حدَّثنا أبو بكر ابن هشام عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الشَّمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع عليه السلام ليالي سار إلى بيت المقدس‏)‏‏)‏‏.‏

تفرَّد به أحمد، وإسناده على شرط البخاري‏.‏

إذا علم هذا فانشقاق القمر فلقتين حتى صارت فلقة من وراء الجبل - أعني‏:‏ حراء - وأخرى من دونه أعظم في المعجزة من حبس الشَّمس قليلاً، وقد قدَّمنا في الدَّلائل حديث ردِّ الشَّمس بعد غروبها وذكرنا ما قيل فيه من المقالات، فالله أعلم‏.‏

قال شيخنا العلامة أبو المعالي بن الزَّملكانيّ‏:‏ وأمَّا حبس الشَّمس ليوشع في قتال الجبَّارين، فقد انشقَّ القمر لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم وانشقاق القمر فلقتين أبلغ من حبس الشَّمس عن مسيرها، وصحَّت الأحاديث وتواترت بانشقاق القمر، وأنَّه كان فرقة خلف الجبل، وفرقة أمامه، وأنَّ قريشاً قالوا‏:‏ هذا سحر أبصارنا، فوردت المسافرون وأخبروا أنَّهم رأوه مفترقاً‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ‏}‏‏.‏ ‏[‏القمر‏:‏ -‏]‏‏.‏

قال‏:‏ وقد حبست الشَّمس لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مرتين‏:‏ إحداهما ما رواه الطَّحاوي، وقال رواته ثقات وسمَّاهم وعدَّهم واحداً واحداً وهو أنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي رضي الله عنه فلم يرفع رأسه حتى غربت الشَّمس ولم يكن علي صلَّى العصر، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم إنَّه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشَّمس‏)‏‏)‏ فردَّ الله عليه الشَّمس حتى رؤيت، فقام علي فصلَّى العصر ثمَّ غربت‏.‏

والثَّانية صبيحة الإسراء، فإنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أخبر قريشاً عن مسراه من مكة إلى بيت المقدس فسألوه عن أشياء من بيت المقدس فجلاه الله له حتى نظر إليه ووصفه لهم، وسألوه عن عير كانت لهم في الطَّريق، فقال‏:‏ إنَّها تصل إليكم مع شروق الشَّمس فتأخرت، فحبس الله الشَّمس عن الطُّلوع حتى كانت العصر، روى ذلك ابن بكير في زياداته على السُّنن‏.‏

أمَّا حديث ردِّ الشَّمس بسبب علي رضي الله عنه فقد تقدَّم ذكرنا له من طريق أسماء بنت عميس وهو أشهرها، وابن سعيد، وأبي هريرة، وعلي نفسه وهو مستنكر من جميع الوجوه، وقد مال إلى تقويته أحمد بن صالح المصري الحافظ، وأبو حفص الطحاوي، والقاضي عياض، وكذا صحَّحه جماعة من العلماء الرَّافضة‏:‏ كابن المطهر وذويه، ورده وحكم بضعفه آخرون من كبار حفَّاظ الحديث ونقَّادهم‏:‏ كعلي بن المدينيّ، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وحكاه عن شيخه محمَّد، ويعلى بن عبيد الطَّنافسيين، وكأبي بكر محمد بن حاتم البخاري المعروف بابن زنجويه أحد الحفَّاظ، والحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر‏.‏

وذكره الشَّيخ جمال الدِّين أبو الفرج بن الجَّوزيّ في كتاب ‏(‏الموضوعات‏)‏‏.‏

وكذلك صرَّح بوضعه شيخاي الحافظان الكبيران‏:‏ أبو الحجَّاج المزِّيّ، وأبو عبد الله الذَّهبيّ‏.‏


وأمَّا ما ذكره يونس ابن بكير في زياداته على السِّيرة من تأخر طلوع الشَّمس عن أبان طلوعها، فلم يُرَ لغيره من العلماء على أنَّ هذا ليس من الأمور المشاهدة، وأكثر ما في الباب أن الراوي روى تأخير طلوعها ولم نشاهد حبسها عن وقته‏.‏

وأغرب من هذا ما ذكره ابن المطهر في كتابه ‏(‏المنهاج‏)‏ أنَّها ردَّت لعلي مرَّتين، فذكر الحديث المتقدِّم كما ذكر، ثمَّ قال‏:‏ وأمَّا الثَّانية فلمَّا أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بسبب دوابِّهم وصلَّى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر، وفاتت كثيراً منهم فتكلموا في ذلك، فسأل الله ردَّ الشَّمس فردَّت‏.‏

قال‏:‏ وذكر أبو نعيم بعد موسى إدريس عليه السلام وهو عند كثير من المفسِّرين من أنبياء بني إسرائيل، وعند محمد بن إسحاق بن يسار وآخرين من علماء النَّسب قبل نوح عليه السلام في عمود نسبه إلى آدم عليه السلام كما تقدَّم التَّنبيه على ذلك، فقال‏:‏

القول فيما أعطي إدريس - عليه السَّلام‏:‏

من الرِّفعة التي نوَّه الله بذكرها فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ورفعناه مكاناً عليَّا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ والقول فيه أنَّ نبيِّنا محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم أُعطي أفضل وأكمل من ذلك لأنَّ الله تعالى رفع ذكره في الدُّنيا والآخرة فقال‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشَّرح‏:‏ ‏]‏‏.‏

فليس خطيب ولا شفيع ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، فقرن الله اسمه باسمه في مشارق الأرض ومغاربها، وذلك مفتاحاً للصَّلاة المفروضة‏.‏

ثمَّ أورد حديث ابن لهيعة عن دراج، عن أبي الهشيم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏‏.‏

قال‏:‏ قال جبريل‏:‏ قال الله‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه ابن جرير وابن أبي عاصم من طريق دراج، ثمَّ قال‏:‏ حدَّثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفيّ، حدَّثنا موسى بن سهل الجونيّ، حدَّثنا أحمد بن القاسم بن بهرام الهيتي، حدَّثنا نصر بن حماد عن عثمان بن عطاء، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لمَّا فرغت ممَّا أمرني الله تعالى به من أمر السَّموات والأرض قلت‏:‏ يا ربِّ إنَّه لم يكن نبيّ قبلي إلا قد كرَّمته، جعلت إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، وسخَّرت لداود الجبال، ولسليمان الرِّيح والشَّياطين، وأحييت لعيسى الموتى، فما جعلت لي‏؟‏ قال‏:‏ أوليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله أن لا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت صدور أمَّتك أناجيل يقرؤون القرآن ظاهراً ولم أعطها أمَّة، وأنزلت عليك كلمة من كنوز عرشي لا حول ولا قوة إلا بالله‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا إسناد فيه غرابة ولكن أورد له شاهداً من طريق أبي القاسم ابن بنت منيع البغوي عن سليمان بن داود المهراني، عن حماد بن زيد، عن عطاء بن السَّائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس مرفوعاً بنحوه‏.‏

وقد رواه أبو زرعة الرَّازيّ في كتاب ‏(‏دلائل النُّبُّوة‏)‏ بسياق آخر وفيه انقطاع فقال‏:‏ حدَّثنا هشام بن عمَّار الدِّمشقيّ، حدَّثنا الوليد بن مسلم، حدَّثنا شعيب بن زريق أنَّه سمع عطاء الخراسانيّ يحدِّث عن أبي هريرة وأنس بن مالك، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من حديث ليلة أسري به قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لمَّا أراني الله من آياته فوجدت ريحاً طيبةً فقلت‏:‏ ما هذا يا جبريل‏؟‏ قال‏:‏ هذه الجنَّة، قلت‏:‏ يا ربِّي إئتني بأهلي، قال الله تعالى‏:‏ لك ما وعدتك كل مؤمن ومؤمنة لم يتَّخذ من دوني أنداداً ومن أقرضني قرَّبته، ومن توكَّل عليَّ كفيته ومن سألني أعطيته، ولا ينقص نفقته ولا ينقص ما يتمنى، لك ما وعدتك، فنعم دار المتَّقين أنت، قلت‏:‏ رضيت، فلمَّا انتهينا إلى سدرة المنتهى خررت ساجداً فرفعت رأسي فقلت‏:‏ يا رب اتَّخذت إبراهيم خليلاً، وكلَّمت موسى تكليماً، وآتيت داود زبوراً، وآتيت سليمان ملكاً عظيماً، قال‏:‏ فإنِّي قد رفعت لك ذكرك، ولا تجوز لأمَّتك خطبة حتى يشهدوا أنَّك رسولي، وجعلت قلوب أمَّتك أناجيل، وآتيتك خواتيم سورة البقرة من تحت عرشي‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ روى من طريق الرَّبيع بن أنس عن أبي العالية، عن أبي هريرة حديث الإسراء بطوله كما سقناه من طريق ابن جرير في التَّفسير، وقال أبو زرعة في سياقه‏:‏ ثمَّ لقي أرواح الأنبياء - عليهم السَّلام - فأثنوا على ربِّهم عزَّ وجل فقال إبراهيم‏:‏ الحمد لله الذي اتَّخذني خليلاً وأعطاني ملكاً عظيماً وجعلني أمَّة قانتاً لله محياي ومماتي، وأنقذني من النَّار، وجعلها عليَّ برداً وسلاماً‏.‏

ثمَّ إنَّ موسى أثنى على ربِّه فقال‏:‏ الحمد لله الذي كلَّمني تكليماً واصطفاني برسالته وبكلامه وقرَّبني نجياً، وأنزل عليَّ التَّوراة، وجعل هلاك فرعون على يدي‏.‏

ثمَّ إنَّ داود أثنى على ربِّه فقال‏:‏ الحمد لله الذي جعلني ملكاً وأنزل عليَّ الزَّبور، وألان لي الحديد وسخَّر لي الجبال يسبِّحن معه والطَّير، وآتاني الحكمة وفصل الخطاب‏.‏

ثمَّ إنَّ سليمان أثنى على ربِّه فقال‏:‏ الحمد لله الذي سخر لي الرِّياح والجنّ والإنس، وسخَّر لي الشَّياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وعلَّمني منطق الطَّير، وأسال لي عين القطر، وأعطاني ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي‏.‏

ثمَّ إنَّ عيسى أثنى على الله عزَّ وجلَّ فقال‏:‏ الحمد لله الذي علمني التَّوراة والإنجيل، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله، وطهَّرني ورفعني من الذين كفروا وأعاذني من الشَّيطان الرَّجيم فلم يكن للشَّيطان علينا سبيل‏.‏

ثمَّ إنَّ محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم أثنى على ربِّه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كلُّكم أثنى على ربِّه وأنا مثنٍ على ربِّي، الحمد لله الذي أرسلني رحمةً للعالمين، وكافةً للنَّاس بشيراً ونذيراً، وأنزل عليَّ الفرقان فيه تبيان كلَّ شيء، وجعل أمَّتي خير أمَّة أخرجت للنَّاس، وجعل أمَّتي وسطاً، وجعل أمَّتي هم الأوَّلون وهم الآخرون، وشرح لي صدري ووضع عنِّي وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحاً وخاتماً‏)‏‏)‏‏.‏

فقال إبراهيم‏:‏ بهذا فضلكم محمد صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

ثمَّ أورد إبراهيم الحديث المتقدِّم فيما رواه الحاكم والبيهقيّ من طريق عبد الرَّحمن بن يزيد بن أسلم عن أبيه، عن عمر بن الخطَّاب مرفوعاً في قول آدم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا ربِّ أسألك بحقِّ محمَّد إلا غفرت لي‏.‏

فقال الله‏:‏ وما أدراك ولم أخلقه بعد‏.‏

فقال‏:‏ لأنِّي رأيت مكتوباً مع اسمك على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعرفت أنَّك لم تضف إلى اسمك إلا أحبَّ الخلق إليك‏.‏

فقال الله‏:‏ صدقت يا آدم ولولا محمَّد ما خلقتك‏)‏‏)‏‏.‏

وقال بعض الأئمة‏:‏ رفع الله ذكره وقرنه باسمه في الأوَّلين والآخرين، وكذلك يرفع قدره ويقيمه مقاماً محموداً يوم القيامة يغبطه به الأوَّلون والآخرون، ويرغب إليه الخلق كلَّهم حتى إبراهيم الخليل‏.‏

كما ورد في صحيح مسلم فيما سلف وسيأتي أيضاً، فإنَّ التَّنويه بذكره في الأمم الخالية والقرون السَّابقة‏.‏

ففي صحيح البخاريّ عن ابن عبَّاس قال‏:‏ ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بُعث محمَّد وهو حيّ ليؤمننَّ به وليتَّبعنَّه ولينصرنَّه، وأمره أن يأخذ على أمَّته العهد والميثاق لئن بعث محمَّد وهم أحياء ليؤمننَّ به وليتَّبعنَّه، وقد بشَّرت بوجوده الأنبياء حتَّى كان آخر من بشَّر به عيسى بن مريم خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكذلك بشَّرت به الأحبار والرُّهبان والكهَّان كما قدَّمنا ذلك مبسوطاً‏.‏

ولمَّا كانت ليلة الإسراء رفع من سماء إلى سماء حتَّى سلَّم على إدريس عليه السلام وهو في السَّماء الرَّابعة، ثمَّ جاوزه إلى الخامسة، ثمَّ إلى السَّادسة فسلَّم على موسى بها، ثمَّ جاوزه إلى السَّابعة فسلَّم على إبراهيم الخليل عند البيت المعمور، ثمَّ جاوز ذلك المقام فرفع لمستوى سمع فيه صريف الأقلام وجاء سدرة المنتهى ورأى الجنَّة والنَّار وغير ذلك من الآيات الكبرى، وصلَّى بالأنبياء، وشيَّعه من كل مقربوها، وسلَّم عليه رضوان خازن الجنان، ومالك خازن النَّار فهذا هو الشَّرف، وهذه هي الرِّفعة، وهذا هو التَّكريم والتَّنويه والإشهار والتَّقديم والعلو، والعظمة - صلوات الله وسلامه عليه - وعلى سائر أنبياء الله أجمعين‏.‏
وأمَّا رفع ذكره في الآخرين فإنَّ دينه باقٍ ناسخٍ لكلِّ دين، ولا يُنسخ هو أبد الآبدين، ودهر الدَّاهرين إلى يوم الدِّين، ولا تزال طائفة من أمَّته ظاهرين على الحقِّ لا يضرَّهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساَّعة، والنِّداء في كل يوم خمس مرات على كل مكان مرتفع من الأرض‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمداً رسول الله، وهكذا كلَّ خطيب يخطب لا بدَّ أن يذكره في خطبته وما أحسن قول حسَّان‏:‏

أغرَّ عَليهِ لِلنبُّوةِ خَاتمٌ * مِنَ الله مَشهودُ يلوحُ وَيشهدُ

وضَمَّ الإلهُ اسمَ النَّبيّ إلى اسمهِ * إِذا قالَ في الخَمسِ المُؤَذِّنُ أَشهدُ

وشقَّ لهُ من اسمِهِ ليجِلَّهُ * فَذُو العَرشِ محمودُ وهَذا محمَّدُ

وقال الصَّرصريّ رحمه الله‏:‏

ألمْ ترَ أنَّا لا يصحُّ أَذانُنَا * ولا فَرضُنَا إنْ لم نكرِّره فيهِمَا

القول فيما أوتي داود عليه السلام‏:‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ -‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ -]‏‏.‏

وقد ذكرنا قصَّته عليه السلام في التَّفسير، وطيب صوته عليه السلام وأنَّ الله تعالى كان قد سخر له الطَّير تسبِّح معه، وكانت الجبال أيضاً تجيبه وتسبِّح معه، وكان سريع القراءة يأمر بدوابِّه فتسرح فيقرأ الزَّبور بمقدار ما يفرغ من شأنها ثمَّ يركب، وكان لا يأكل إلا من كسب يده - صلوات الله وسلامه عليه -‏.‏

وقد كان نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم حسن الصَّوت طيَّبه بتلاوة القرآن‏.‏

قال جبير بن مطعم‏:‏ قرأ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في المغرب بالتِّين والزَّيتون، فما سمعت صوتاً أطيب من صوته صلَّى الله عليه وسلَّم وكان يقرأ ترتيلاً كما أمره الله عزَّ وجلَّ بذلك‏.‏

وأمَّا تسبيح الطَّير مع داود فتسبيح الجبال الصُّم أعجب من ذلك وقد تقدَّم في الحديث أنَّ الحصا سبَّح في كفِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال ابن حامد‏:‏ وهذا حديث معروف مشهور، وكانت الأحجار والأشجار والمدر تسلِّم عليه صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وفي صحيح البخاريّ عن ابن مسعود قال‏:‏ لقد كنَّا نسمع تسبيح الطَّعام وهو يؤكل - يعني‏:‏ بين يدي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وكلَّمه ذراع الشَّاة المسمومة وأعلمه بما فيه من السُّم، وشهدت بنبوَّته الحيوانات الإنسية والوحشية، والجمادات أيضاً كما تقدَّم بسط ذلك كلَّه، ولا شكَّ أنَّ صدور التَّسبيح من الحصا الصِّغار الصُّم التي لا تجاويف فيها أعجب من صدور ذلك من الجبال لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنَّها وما شاكلها تردد صدى الأصوات العالية غالباً‏.‏

كما قال عبد الله بن الزُّبير‏:‏ كان إذا خطب وهو أمير المدينة بالحرم الشَّريف تجاوبه الجبال أبو قبيس وزرود، ولكن من غير تسبيح، فإنَّ ذلك من معجزات داود عليه السلام ومع هذا كان تسبيح الحصا في كفِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبي بكر، وعمر، وعثمان أعجب‏.‏


وأما أكل داود من كسب يده فقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يأكل من كسبه أيضاً كما كان يرعى غنماً لأهل مكة على قراريط‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وما من نبيّ إلا وقد رعى الغنم‏)‏‏)‏ وخرج إلى الشَّام في تجارة لخديجة مضاربة‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ -‏]‏‏.‏

إلى قوله ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ ‏]‏‏.‏

أي للتَّكسُّب والتِّجارة طلباً للرِّبح الحلال، ثمَّ لمَّا شرع الله الجهاد بالمدينة كان يأكل ممَّا أباح له من المغانم التي لم تبح قبله، وممَّا أفاء الله عليه من أموال الكفَّار التي أبيحت له دون غيره‏.‏

كما جاء في المسند والتّرمذيّ عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏بعثت بالسَّيف بين يدي السَّاعة حتَّى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذِّلة والصَّغار على من خالف أمري، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم‏)‏‏)‏‏.‏
وأمَّا إلانة الحديد بغير نار كما يلين العجين في يده، فكان يصنع هذه الدُّروع الدَّاوودية، وهي الزَّرديات السَّابغات وأمره الله تعالى بنفسه بعملها، ‏(‏‏(‏وقدَّر في السَّرد‏)‏‏)‏ أي ألا يدقَّ المسمار فيعلق ولا يعظله فيقصم، كما جاء في البخاري‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقد قال بعض الشُّعراء في معجزات النُّبُّوة‏:‏

نسيجُ داودَ مَا حمَى صاحِبَ الغَا * رِ وكانَ الفَخَارُ لِلْعنكبوتِ

والمقصود المعجز في إلانة الحديد، وقد تقدَّم في السِّيرة عند ذكر حفر الخندق عام الأحزاب في سنة أربع، وقيل‏:‏ خمس أنَّهم عرضت لهم كدية وهي الصَّخرة في الأرض فلم يقدروا على كسرها ولا شيء منها، فقام إليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد ربط حجراً على بطنه من شدَّة الجوع فضربها ثلاث ضربات‏:‏ لمعت الأولى حتى أضاءت له منها قصور الشَّام، وبالثَّانية قصور فارس، وثالثة ثمَّ انسالت الصَّخرة كأنَّها كثيب من الرَّمل، ولا شكَّ أنَّ انسيال الصَّخرة التي لا تنفعل ولا بالنَّار أعجب من لين الحديد الذي إن أحمى لانه، كما قال بعضهم‏:‏

فلو أنَّ ما عَالجتُ لينَ فُؤادِهَا * بنفسِي للانَ الجَندَلُ الصلدُ

والجندل‏:‏ الصَّخر، فلو أنَّ شيئاً أشدَّ قوةً من الصَّخر لذكره هذا الشَّاعر المبالغ‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ ‏]‏‏.‏

وأمَّا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ ‏]‏‏.‏

فذلك لمعنى آخر في التَّفسير وحاصله أنَّ الحديد أشدَّ امتناعاً في السَّاعة الرَّاهنة من الحجر ما لم يعالج، فإذا عولج انفعل الحديد ولا ينفعل الحجر والله أعلم‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل‏:‏ فقد ليَّن الله لداود عليه السلام الحديد حتَّى سرد منه الدُّروع السَّوابغ‏.‏

قيل‏:‏ لُيِّنت لمحمَّد الحجارة وصمَّ الصُّخور فعادت له غاراً استتر به من المشركين يوم أحد، مال إلى الجبل ليخفي شخصه عنهم فليِّن الجبل حتى أدخل رأسه فيه وهذا أعجب لأنَّ الحديد تليِّنه النَّار، ولم نر النَّار تلين الحجر‏.‏
قال‏:‏ وذلك بعد ظاهر باق يراه النَّاس‏.‏

قال‏:‏ وكذلك في بعض شعاب مكة حجر من جبل في صلايه إليه، فـَلانَ الحجرُ حتى إدَّرأ فيه بذراعيه وساعديه، وذلك مشهور يقصده الحجَّاج ويرونه، وعادت الصَّخرة ليلة أسري به كهيئة العجين فربط بها دابَّته - البراق - وموضعه يسمُّونه النَّاس إلى يومنا هذا، وهذا الذي أشار إليه من يوم أحد وبعض شعاب مكة غريب جداً، ولعلَّه قد أسنده هو فيما سلف وليس ذلك بمعروف في السِّيرة المشهورة‏.‏

وأمَّا ربط الدَّابة في الحجر فصحيح، والذي ربطها جبريل كما هو في صحيح مسلم رحمه الله‏.‏

وأمَّا قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏وأوتيت الحكمة وفصل الخطاب‏)‏‏)‏ فقد كانت الحكمة التي أوتيها محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم والشِّرعة التي شرعت له أكمل من كل حكمة وشرعة كانت لمن قبله من الأنبياء - صلوات الله عليه وعليهم أجمعين - فإنَّ الله جمع له محاسن من كان قبله وفضَّله وأكمله، وآتاه ما لم يؤت أحداً قبله‏.‏

وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصاراً‏)‏‏)‏‏.‏

ولا شكَّ أنَّ العرب أفصح الأمم، وكان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أفصحهم نطقاً وأجمع لكلِّ خلق جميل مطلقاً‏.‏

القول فيما أوتي سليمان بن داود عليه السلام‏:‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ -‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ -‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ -‏]‏‏.‏

وقد بسطنا ذلك في قصَّته وفي التَّفسير أيضاً‏.‏

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وصحَّحه التّرمذيّ وابن حبان والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أنَّ سليمان عليه السلام لمَّا فرغ من بناء بيت المقدس سأل الله خلالاً ثلاثاً‏:‏ سأل الله حكماً يوافق حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وأنَّه لا يأتي هذا المسجد أحد إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏)‏‏)‏‏.‏

أمَّا تسخير الرِّيح لسليمان فقد قال الله تعالى في شأن الأحزاب‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقد تقدَّم في الحديث الذي رواه مسلم من طريق شعبة عن الحاكم، عن مجاهد، عن ابن عبَّاس أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نصرت بالصَّبا وأُهلكت عاد بالدَّبور‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من طريق الأعمش عن مسعود بن مالك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مثله‏.‏

وثبت في الصَّحيحين‏:‏ ‏(‏‏(‏نصرت بالرُّعب مسيرة شهر‏)‏‏)‏‏.‏


ومعنى ذلك‏:‏ أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا قصد قتال قوم من الكفَّار ألقى الله الرُّعب في قلوبهم قبل وصوله إليهم بشهر، ولو كان مسيره شهراً، فهذا في مقابلة غدوِّها شهر ورواحها شهر، بل هذا أبلغ في التمكُّن والنَّصر والتَّأييد والظَّفر، وسخِّرت الرِّياح تسوق السَّحاب لإنزال المطر الذي امتنَّ الله به حين استسقى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غير ما موطن كما تقدَّم‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل‏:‏ فإنَّ سليمان سخِّرت له الرِّيح فسارت به في بلاد الله وكان غدوَّها شهراً ورواحها شهراً‏.‏

قيل‏:‏ ما أعطي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم أعظم وأكبر لأنَّه سار في ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، وعرج به في ملكوت السَّموات مسيرة خمسين ألف سنة في أقل من ثلث ليلة، فدخل السَّموات سماء سماء ورأى عجائبها، ووقف على الجنَّة والنَّار، وعرض عليه أعمال أمَّته، وصلَّى بالأنبياء وبملائكة السَّموات، واخترق الحجب وهذا كله في ليلة قائماً أكبر وأعجب‏.‏

وأمَّا تسخير الشَّياطين بين يديه تعمل ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، فقد أنزل الله الملائكة المقرَّبين لنصرة عبده ورسوله محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم في غير ما موطن يوم أحد، وبدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين كما تقدَّم ذكرناه ذلك مفصلاً في مواضعه، وذلك أعظم وأبهر وأجلّ وأعلا من تسخير الشَّياطين‏.‏

وقد ذكر ذلك ابن حامد في كتابه، وفي الصَّحيحين من حديث شعبة عن محمَّد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ عفريتاً من الجنِّ تفلَّت عليَّ البارحة - أو كلمة نحوها - ليقطع علي الصَّلاة، فأمكنني الله منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتَّى يصبحوا وينظروا إليه، فذكرت دعوة أخي سليمان رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي‏)‏‏)‏‏.‏

قال روح‏:‏ فردَّه الله خاسئاً، لفظ البخاري‏.‏

ولمسلم عن أبي الدَّرداء نحوه، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثمَّ أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح يلعب به ولدان أهل المدينة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى الإمام أحمد بسند جيد عن أبي سعيد أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قام يصلِّي صلاة الصُّبح وهو خلفه، فقرأ فالتبست عليه القراءة، فلمَّا فرغ من صلاته قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أختنقه حتَّى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين الإبهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان أهل المدينة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ثبت في الصِّحاح والحسان والمسانيد أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنَّة وغلِّقت أبواب النَّار، وصفِّدت الشَّياطين‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية ‏(‏‏(‏مردة الجنِّ‏)‏‏)‏ فهذا من بركة ما شرعه الله له من صيام شهر رمضان وقيامه، وسيأتي عند إبراء الأكمه والأبرص من معجزات المسيح عيسى بن مريم عليه السلام دعاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لغير ما واحد ممن أسلم من الجنِّ فشفي وفارقهم خوفاً منه ومهابة له، وامتثالاً لأمره - صلوات الله وسلامه عليهم -‏.‏

وقد بعث الله نفراً من الجنِّ يستمعون القرآن فآمنوا به وصدَّقوه ورجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى دين محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وحذَّروهم مخالفته لأنَّه كان مبعوثاً إلى الإنس والجنِّ فآمنت طوائف من الجنِّ كثيرة كما ذكرنا، ووفدت إليه منهم وفود كثيرة وقرأ عليهم سورة الرَّحمن، وخبَّرهم بما لمن آمن منهم من الجنان، وما لمن كفر من النِّيران، وشرع لهم ما يأكلون وما يطعمون دوابهم، فدلَّ على أنَّه بيَّن لهم ما هو أهم من ذلك وأكبر‏.‏

وقد ذكر أبو نعيم هاهنا حديث الغول التي كانت تسرق التَّمر من جماعة من أصحابه صلَّى الله عليه وسلَّم ويريدون إحضارها إليه فتمتنع كل الامتناع خوفاً من المثول بين يديه، ثمَّ افتدت منهم بتعليمهم قراءة آية الكرسي التي لا يقرب قارئها الشَّيطان‏.‏

وقد سقنا ذلك بطرقه وألفاظه عند تفسير آية الكرسي من كتابنا التَّفسير ولله الحمد‏.‏

والغول هي الجنّ المتبدِّي باللَّيل في صورة مرعبة‏.‏

وذكر أبو نعيم هاهنا حماية جبريل له عليه السلام غير ما مرَّة من أبي جهل كما ذكرنا في السِّيرة، وذكر مقاتلة جبريل وميكائيل عن يمينه وشماله يوم أحد‏.‏

وأمَّا ما جمع الله تعالى لسليمان من النُّبُّوة والملك كما كان أبوه من قبله فقد خيَّر الله عبده محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم بين أن يكون ملكاً نبياً، أو عبداً رسولاً، فاستشار جبريل في ذلك فأشار إليه وعليه أن يتواضع فاختار أن يكون عبداً رسولاً‏.‏

وقد روى ذلك من حديث عائشة وابن عبَّاس، ولا شكَّ أنَّ منصب الرِّسالة أعلى، وقد عرضت على نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم كنوز الأرض فأباها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ولو شئت لأجرى الله معي جبال الأرض ذهباً ولكن أجوع يوماً وأشبع يوماً‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ذكرنا ذلك كلَّه بأدلَّته وأسانيده في التَّفسير وفي السِّيرة أيضاً ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد أورد الحافظ أبو نعيم هاهنا طرفاً منها من حديث عبد الرَّزاق عن معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏بينا أنا نائم جيء بمفاتيح خزائن الأرض فجعلت في يدي‏)‏‏)‏‏.‏

ومن حديث الحسين بن واقد عن الزُّبير عن جابر مرفوعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏أوتيت مفاتيح خزائن الدُّنيا على فرس أبلق جاءني به جبريل عليه قطيفة من سندس‏)‏‏)‏‏.‏

ومن حديث القاسم عن أبي لبابة مرفوعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏عرض عليَّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلت‏:‏ لا يا ربِّ ولكن أشبع يوماً، وأجوع يوماً فإذا جعت تضرَّعت إليك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل سليمان عليه السلام كان يفهم كلام الطَّير والنَّملة‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ‏}‏ ‏[‏النَّمل‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا‏}‏ ‏[‏النَّمل‏:‏ ‏]‏‏.‏

قيل‏:‏ قد أعطي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم مثل ذلك وأكثر منه، فقد تقدَّم ذكرنا لكلام البهائم والسِّباع، وحنين الجذع ورغاء البعير، وكلام الشَّجر وتسبيح الحصا والحجر، ودعائه إيَّاه واستجابته لأمره، وإقرار الذِّئب بنبوَّته وتسبيح الطَّير لطاعته، وكلام الظَّبية وشكواها إليه، وكلام الضـَّب وإقراره بنبوَّته وما في معناه، كلُّ ذلك قد تقدَّم في الفصول بما يغني عن إعادته انتهى كلامه‏.‏

قلت‏:‏ وكذلك أخبره ذراع الشَّاة بما فيه من السُّم، وكان ذلك بإقرار من وضعه فيه من اليهود‏.‏

وقال‏:‏ إنَّ هذه السَّحابة لتبتهل بنصرك يا عمرو بن سالم - يعني‏:‏ الخزاعيّ - حين أنشده تلك القصيدة يستعديه فيها على بني بكر الذين نقضوا صلح الحديبية، وكان ذلك سبب فتح مكة كما تقدَّم‏.‏

وقال صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنِّي لأعرف حجراً كان يسلِّم عليَّ بمكة قبل أن أبعث إنِّي لأعرفه الآن‏)‏‏)‏ فهذا إن كان كلاماً مما يليق بحاله ففهم عنه الرَّسول ذلك، فهو من هذا القبيل وأبلغ لإقامة جماد بالنِّسبة إلى الطَّير والنَّمل لأنهما من الحيوانات ذوات الأرواح، وإن كان سلاماً نطقياً وهو الأظهر فهو أعجب من هذا الوجه أيضاً‏.‏

كما قال علي‏:‏ خرجت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بعض شعاب مكَّة فما مرَّ بحجر ولا شجر، ولا مدر، إلا قال‏:‏ السَّلام عليك يا رسول الله‏.‏


فهذا النُّطق سمعه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعلي رضي الله عنه‏.‏

ثمَّ قال أبو نعيم‏:‏ حدَّثنا أحمد بن محمد بن الحارث العنبريّ، حدَّثنا أحمد بن يوسف بن سفيان، حدَّثنا إبراهيم بن سويد النَّخعيّ، حدَّثنا عبد الله بن أذينة الطَّائيّ عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معلاة بن جبل قال‏:‏ أتى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو بخيبر حمار أسود فوقف بين يديه، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أنت‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ أنا عمرو بن فهران كنَّا سبعة إخوة، وكلَّنا ركبنا الأنبياء، وأنا أصغرهم وكنت لك، فملكني رجل من اليهود وكنت إذ أذكرك عثرت به فيوجعني ضرباً‏.‏

فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏فأنت يعفور‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث فيه نكارة شديدة ولا يحتاج إلى ذكره مع ما تقدَّم من الأحاديث الصَّحيحة التي فيها غنية عنه‏.‏

وقد روى على غير هذه الصِّفة وقد نص على نكارته ابن أبي حاتم عن أبيه والله أعلم‏.‏

القول فيما أوتي عيسى بن مريم عليه السلام‏:‏

ويسمَّى المسيح فقيل‏:‏ لمسحه الأرض‏.‏

وقيل‏:‏ لمسح قدمه‏.‏

وقيل‏:‏ لخروجه من بطن أمه ممسوحاً بالدِّهان‏.‏

وقيل‏:‏ لمسح جبريل بالبركة‏.‏

وقيل‏:‏ لمسح الله الذُّنوب عنه‏.‏

وقيل‏:‏ لأنَّه كان لا يمسح أحداً إلا برأ‏.‏

حكاها كلَّها الحافظ أبو نعيم رحمه الله‏.‏

ومن خصائصه أنَّه عليه السلام مخلوق بالكلمة من أنثى بلا ذكر، كما خلقت حواء من ذكر بلا أنثى، وكما خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وإنَّما خلقه الله تعالى من تراب، ثمَّ قال له‏:‏ ‏(‏‏(‏كن فيكون‏)‏‏)‏‏.‏ وكذلك يكون عيسى بالكلمة وبنفخ جبريل مريم فخلق منها عيسى، ومن خصائصه وأمَّه أنَّ إبليس - لعنه الله - حين ولد ذهب يطعن فطعن في الحجاب كما جاء في الصَّحيح‏.‏ ومن خصائصه أنَّه حيٌّ لم يمت وهو الآن بجسده في السَّماء الدُّنيا، وسينزل قبل يوم القيامة على المنارة البيضاء الشَّرقية بدمشق، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ويحكم بهذه الشَّريعة المحمَّدية، ثمَّ يموت ويدفن بالحجرة النَّبويَّة كما رواه التّرمذيّ، وقد بسطنا ذلك في قصَّته‏.‏ وقال شيخنا العلامة ابن الزَّملكانيّ رحمه الله‏:‏ وأمَّا معجزات عيسى عليه السلام فمنها إحياء الموتى، وللنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من ذلك كثير، وإحياء الجماد أبلغ من إحياء الميت‏.‏

وقد كلَّم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذِّراع المسمومة وهذا الإحياء أبلغ من إحياء الإنسان الميت من وجوه أحدها‏:‏ أنَّه إحياء جزء من الحيوان دون بقيته وهذا معجز لو كان متصلاً بالبدن‏.‏

الثَّاني‏:‏ أنَّه أحياه وحده منفصلاً عن بقية أجزاء ذلك الحيوان مع موت البقية‏.‏

الثَّالث‏:‏ أنَّه أعاد عليه الحياة مع الإدراك والعقل ولم يكن هذا الحيوان يعقل في حياته الذي هو جزؤه ممَّا يتكلم، وفي هذا ما هو أبلغ من حياة الطُّيور التي أحياها الله لإبراهيم صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قلت‏:‏ وفي حلول الحياة والإدراك والعقل في الحجر الذي كان يخاطب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالسَّلام عليه كما روي في صحيح مسلم من المعجز ما هو أبلغ من إحياء الحيوان في الجملة، لأنَّه كان محلاً للحياة في وقت بخلاف هذا حيث لا حياة له بالكليَّة قبل ذلك، وكذلك تسليم الأحجار والمدر عليه وكذلك الأشجار والأغصان وشهادتها بالرِّسالة، وحنين الجذع‏.‏

وقد جمع ابن أبي الدُّنيا كتاباً فيمن عاش بعد الموت وذكر منها كثيراً، وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه أنَّه قال‏:‏ دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض يعقل فلم نبرح حتَّى قبض، فبسطنا عليه ثوبه وسجَّيناه وله أمٌّ عجوز كبيرة عند رأسه، فالتفت إليها بعضنا وقال‏:‏ يا هذه احتسبي مصيبتك عند الله‏.‏

فقالت‏:‏ وما ذاك أمات ابني ‏؟‏

قلنا‏:‏ نعم‏.‏

قالت‏:‏ أحقٌّ ما تقولون ‏؟‏

قلنا‏:‏ نعم، فمدَّت يدها إلى الله تعالى فقالت‏:‏ اللَّهم إنَّك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعينني عند كلِّ شدَّة ورخاء، فلا تحمِّلني هذه المصيبة اليوم‏.‏

قال‏:‏ فكشف الرَّجل عن وجهه وقعد وما برحنا حتى أكلنا معه‏.‏

وهذه القصَّة قد تقدَّم التَّنبيه عليها في دلائل النُّبُّوة، وقد ذكر معجز الطُّوفان مع قصَّة العلاء بن الحضرميّ، وهذا السِّياق الذي أورده شيخنا ذكر بعضه بالمعنى، وقد رواه أبو بكر ابن أبي الدُّنيا، والحافظ أبو بكر البيهقيّ من غير وجه عن صالح بن بشير المري أحد زهَّاد البصرة وعبَّادها، وفي حديثه لين عن ثابت، عن أنس فذكره‏.‏

وفي رواية البيهقيّ أنَّ أمَّه كانت عجوزاً عمياء ثمَّ ساقه البيهقيّ من طريق عيسى بن يونس عن عبد الله بن عون، عن أنس كما تقدَّم وسياقه أتم، وفيه أنَّ ذلك كان بحضرة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهذا إسناد رجاله ثقات ولكن فيه انقطاع بين عبد الله بن عون وأنس والله أعلم‏.‏

قصَّة أخرى‏:‏

قال الحسن بن عرفة‏:‏ حدَّثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي سبرة النَّخعيّ قال‏:‏ أقبل رجل من اليمن، فلمَّا كان في بعض الطَّريق نفق حماره، فقام فتوضَّأ ثمَّ صلَّى ركعتين ثمَّ قال‏:‏ اللَّهم إنِّي جئت من المدينة مجاهداً في سبيلك، وابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنَّك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد عليَّ اليوم منَّة أطلب إليك اليوم أن تبعث حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ هذا إسناد صحيح، ومثل هذا يكون كرامة لصاحب الشَّريعة‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ وكذلك رواه محمد بن يحيى الذُّهليّ عن محمد بن عبيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشِّعبيّ وكأنَّه عند إسماعيل من الوجهين والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ كذلك رواه ابن أبي الدُّنيا من طريق إسماعيل عن الشِّعبيّ فذكره، قال الشِّعبيّ‏:‏ فأنا رأيت الحمار بيع أو يباع في الكناسة - يعني‏:‏ بالكوفة -‏.‏

وقد أوردها ابن أبي الدُّنيا من وجه آخر، وأنَّ ذلك كان في زمن عمر بن الخطَّاب، وقد قال بعض قومه في ذلك‏:‏

ومِنَّا الذي أحيَ الإلهُ حمارَهُ * وقَدْ مَاتَ مِنْهُ كُلَّ عِضوٍ وَمفصَلِ

وأمَّا قصَّة زيد بن خارجة وكلامه بعد الموت وشهادته للنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولأبي بكر، وعمر، وعثمان بالصِّدق فمشهورة مرويَّة من وجوه كثيرة صحيحة‏.‏

قال البخاريّ في ‏(‏التَّاريخ الكبير‏)‏‏:‏ زيد بن خارجة الخزرجيّ الأنصاريّ شهد بدراً وتوفِّي في زمن عثمان وهو الذي تكلَّم بعد الموت‏.‏

وروى الحاكم في مستدركه والبيهقيّ في دلائله وصحَّحه كما تقدَّم من طريق العتبيّ عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن سعيد بن المسيّب أنَّ زيد بن خارجة الأنصاريّ ثمَّ من الحارث بن الخزرج، توفِّي زمن عثمان بن عفَّان فسجِّي بثوبه ثمَّ إنَّهم سمعوا جلجلة في صدره، ثمَّ تكلَّم فقال‏:‏ أحمد في الكتاب الأوَّل صدق صدق، أبو بكر الضَّعيف في نفسه القويّ في أمر الله، في الكتاب الأوَّل صدق صدق، عمر بن الخطَّاب القويُّ في الكتاب الأوَّل صدق صدق، عثمان بن عفَّان على منهاجهم مضت أربع وبقيت اثنتان، أتت الفتن وأكل الشَّديد الضَّعيف وقامت السَّاعة، وسيأتيكم عن جيشكم خير‏.‏

قال يحيى بن سعيد‏:‏ قال سعيد بن المسيّب‏:‏ ثمَّ هلك رجل من بني حطمة، فسجِّي بثوبه فسمع جلجلة في صدره، ثمَّ تكلَّم فقال‏:‏ إنَّ أخا بني حارث بن الخزرج صدق صدق‏.‏

ورواه ابن أبي الدُّنيا والبيهقيّ أيضاً من وجه آخر بأبسط من هذا وأطول‏.‏

وصحَّحه البيهقيّ قال‏:‏ وقد روى في التَّكلُّم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ قد ذكرت في قصَّة سخلة جابر يوم الخندق وأكل الألف منها ومن قليل شعير ما تقدَّم‏.‏

وقد أورد الحافظ محمد بن المنذر المعروف بيشكر في كتابه ‏(‏الغرائب والعجائب‏)‏ بسنده كما سبق أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جمع عظامها ثمَّ دعا الله تعالى فعادت كما كانت فتركها في منزله والله أعلم‏.‏

قال شيخنا‏:‏ ومن معجزات عيسى الإبراء من الجنون، وقد أبرأ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعني من ذلك هذا آخر ما وجدته فيما حكيناه عنه‏.‏

فأمَّا إبراء عيسى من الجنون فما أعرف فيه نقلاً خاصاً وإنَّما كان يبرئ الأكمه والأبرص، والظَّاهر ومن جميع العاهات والأمراض المزمنة‏.‏

وأمَّا إبراء النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من الجنون فقد روى الإمام أحمد والحافظ البيهقيّ من غير وجه عن يعلى بن مرة أنَّ امرأة أتت بابن لها صغير به لمم ما رأيت لمما أشد منه فقالت‏:‏ يا رسول الله ابني هذا كما ترى أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء يوجد منه في اليوم ما يؤذي، ثمَّ قالت‏:‏ مرة‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ناولينيه‏)‏‏)‏ فجعلته بينه وبين واسطة الرَّحل، ثمَّ فغر فاه ونفث فيه ثلاثاً وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله أنا عبد الله إخسأ عدوَّ الله‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ ناولها إيَّاه فذكرت أنَّه برئ من ساعته، وما رابهم شيء بعد ذلك‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا يزيد، حدَّثنا حماد بن سلمة عن فرقد السبخيّ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس أنَّ امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت‏:‏ يا رسول الله إنَّ به لمماً وإنَّه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا‏.‏

قال‏:‏ فمسح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صدره ودعا له فسغ سغة فخرج منه مثل الجرو الأسود فشفي‏.‏

غريب من هذا الوجه وفرقد فيه كلام، وإن كان من زهاد البصرة، لكن ما تقدَّم له شاهد وإن كانت القصَّة واحدة والله أعلم‏.‏

وروى البزَّار من طريق فرقد أيضاً عن سعد بن عباس قال‏:‏ كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمكة فجاءته امرأة من الأنصار فقالت‏:‏ يا رسول الله إنَّ هذا الخبيث قد غلبني‏.‏


فقال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏تصبَّري على ما أنت عليه وتجيئي يوم القيامة ليس عليك ذنوب ولا حساب‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت‏:‏ والذي بعثك بالحقِّ لأصبرنَّ حتى ألقى الله ثمَّ قالت‏:‏ إنِّي أخاف الخبيث أن يجرِّدني، فدعا لها، وكانت إذا أحست أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها وتقول له‏:‏ إخسأ فيذهب عنها‏.‏

وهذا دليل على أنَّ فرقد قد حفظ فإنَّ هذا له شاهد في صحيح البخاري ومسلم من حديث عطاء ابن أبي رباح قال‏:‏ قال لي ابن عبَّاس‏:‏ ألا أريك امرأة من أهل الجنَّة ‏؟‏

قلت‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ هذه السَّوداء أتت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت‏:‏ إنِّي أصرع وأنكشف فادع الله لي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شئت صبرت ولك الجنَّة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ لا بل أصبر فادع الله أن لا أنكشف‏.‏

قال‏:‏ فدعا لها، فكانت لا تنكشف‏.‏

ثمَّ قال البخاري‏:‏ حدَّثنا محمَّد، حدَّثنا مخلد عن ابن جريج قال‏:‏ أخبرني عطاء أنَّه رأى أم زفر امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة‏.‏

وذكر الحافظ ابن الأثير في كتاب ‏(‏أُسُد الغابة في أسماء الصَّحابة‏)‏‏:‏ أنَّ أمَّ زفر هذه كانت ماشطة لخديجة بنت خويلد وأنَّها عمَّرت حتى رآها عطاء ابن أبي رباح - رحمهما الله تعالى -‏.‏

وأمَّا إبراء عيسى الأكمه وهو الذي يولد أعمى، وقيل‏:‏ هو الذي لا يبصر في النَّهار ويبصر في اللَّيل، وقيل غير ذلك كما بسطنا ذلك في التَّفسير‏.‏

والأبرص الذي به بهق، فقد ردَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم أحد عين قتادة بن النُّعمان إلى موضعها بعد ما سالت على خدِّه، فأخذها في كفِّه الكريم وأعادها إلى مقرِّها فاستمرت بحالها وبصرها وكانت أحسن عينيه رضي الله عنه‏.‏

كما ذكر محمَّد بن إسحاق بن يسار في السِّيرة وغيره، وكذلك بسطناه ثمَّ ولله الحمد والمنة وقد دخل بعض ولده وهو عاصم بن عمر بن قتادة على عمر بن عبد العزيز فسأل عنه، فأنشأ يقول‏:‏

أَنَا ابن الذي سَالَتْ على الخَدِّ عينُهُ * فردَّتْ بكفِّ المُصْطَفَى أَحسنَ الرَّدِ

فَعادَتْ كَما كانت لأوَّل أَمرِهَا * فيَا حُسْنَ ما عينٍ وَيَا حُسنَ ما خدٍ

فقال عمر بن عبد العزيز‏:‏

تِلكَ المكارمَ لاقعبانَ مِنْ لَبنٍ * شَيباً بماءٍ فعادَا بعدُ أَبوالا

ثمَّ أجازه فأحسن جائزته‏.‏

وقد روى الدَّارقطني أنَّ عينيه أصيبتا معاً حتَّى سالتا على خديه فردَّهما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى مكانهما والمشهور الأوَّل كما ذكر ابن إسحاق‏.‏




قصَّة الأعمى الذي ردَّ الله عليه بصره بدعاء الرَّسول‏:‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا روح وعثمان بن عمر قالا‏:‏ حدَّثنا شعبة عن أبي جعفر المدينيّ سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدِّث عن عثمان بن حنيف أنَّ رجلاً ضريراً أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ يا رسول الله أدع الله لي أن يعافيني‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شئت أخَّرت ذلك فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ بل أدع الله لي‏.‏

قال‏:‏ فأمره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يتوضأ ويصلِّي ركعتين، وأن يدعو بهذا الدُّعاء‏:‏ اللَّهم إنِّي أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّك محمَّد نبيَّ الرَّحمة إنِّي أتوَّجه به في حاجتي هذه فتقضى‏.‏

وقال في رواية عثمان بن عمر‏:‏ فشفِّعه فيَّ‏.‏

قال‏:‏ ففعل الرَّجل فبرأ‏.‏

ورواه التّرمذيّ وقال‏:‏ حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر الخطمي‏.‏

وقد رواه البيهقيّ عن الحاكم بسنده إلى أبي جعفر الخطميّ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمِّه عثمان بن حنيف فذكر نحوه‏.‏

قال عثمان‏:‏ فوالله ما تفرَّقنا ولا طال الحديث بنا حتى دخل الرَّجل كأن لم يكن به ضرٌّ قط‏.‏

قصَّة أخرى‏:‏

قال أبو بكر ابن أبي شيبة‏:‏ حدَّثنا محمَّد بن بشر، حدَّثنا عبد العزيز بن عمر، حدَّثني رجل من بني سلامان بن سعد عن أمِّه، عن خاله أو أنَّ خاله أو خالها حبيب بن قريط، حدَّثها أنَّ أباه خرج إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعيناه مبيضَّتان لا يبصر بهما شيئاً‏.‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أصابك‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ كنت حملاً لي فوقعت رجلي على بيض حيَّة فأصيب بصري‏.‏

فنفث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في عينيه فأبصر، فرأيته وإنَّه ليدخل الخيط في الإبرة وإنَّه لابن ثمانين سنة وإنَّ عينيه لمبيضَّتان‏.‏

قال البيهقيّ وغيره‏:‏ يقول حبيب بن مدرك وثبت في الصَّحيح‏:‏ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نفث في عيني علي يوم خيبر وهو أرمد فبرأ من ساعته، ثمَّ لم يرمد بعدها أبداً، ومسح رجل جابر بن عتيك وقد انكسرت رجله ليلة قتل أبا رافع تاجر أهل الحجاز الخيبريّ فبرأ من ساعته أيضاً‏.‏

وروى البيهقيّ أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم مسح يد محمَّد بن حاطب وكانت قد احترقت بالنَّار فبرأ من ساعته، ومسح رجل سلمة بن الأكوع وقد أصيبت يوم خيبر فبرأت من ساعتها، ودعا لسعد ابن أبي وقَّاص أن يشفى من مرضه ذلك فشفي‏.‏

وروى البيهقيّ أنَّ عمَّه أبا طالب مرض فسأل منه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يدعو له ربَّه فدعا له فشفي من مرضه ذلك، وكم له من مثلها وعلى مسلكها من إبراء آلام، وإزالة أسقام، مما يطول شرحه وبسطه‏.‏

وقد وقع في كرامات الأولياء إبراء الأعمى بعد الدُّعاء عليه بالعمى أيضاً‏.‏


كما رواه الحافظ ابن عساكر من طريق أبي سعيد بن الأعرابي عن أبي داود، حدَّثنا عمر بن عثمان، حدَّثنا بقية عن محمَّد بن زياد، عن أبي مسلم أنَّ امرأة خبَّثت عليه امرأته فدعا عليها فذهب بصرها، فأتته فقالت‏:‏ يا أبا مسلم إنِّي كنت فعلت وفعلت وإني لا أعود لمثلها، فقال‏:‏ اللَّهم إن كانت صادقة فاردد عليها بصرها، فأبصرت‏.‏

ورواه أيضاً من طريق أبي بكر ابن أبي الدُّنيا حدَّثنا عبد الرحمن بن واقد، حدَّثنا ضمرة، حدَّثنا عاصم، حدَّثنا عثمان بن عطاء قال‏:‏ كان أبو مسلم الخولانيّ إذا دخل منزله فإذا بلغ وسط الدَّار كبَّر وكبَّرت امرأته، فإذا دخل البيت كبَّر وكبَّرت امرأته، فيدخل فينزع رداءه وحذاءه وتأتيه بطعام يأكل، فجاء ذات ليلة فكبَّر فلم تجبه، ثمَّ جاء إلى باب البيت فكبَّر وسلَّم فلم تجبه، وإذا البيت ليس فيه سراج، وإذا هي جالسة بيدها عود تنكت في الأرض به، فقال لها‏:‏ مالك ‏؟‏

فقالت‏:‏ النَّاس بخير وأنت لو أتيت معاوية فيأمر لنا بخادم ويعطيك شيئاً تعيش به‏.‏

فقال‏:‏ اللَّهم من أفسد عليَّ أهلي فأعم بصره‏.‏

قال‏:‏ وكانت أتتها امرأة فقالت لامرأة أبي مسلم‏:‏ لو كلَّمت زوجك ليكلِّم معاوية فيخدمكم ويعطيكم‏.‏

قال‏:‏ فبينما هذه المرأة في منزلها والسِّراج مزهو إذ أنكرت بصرها فقالت‏:‏ سراجكم طفئ ‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قالت‏:‏ إنَّ الله أذهب بصري فأقبلت كما هي إلى أبي مسلم فلم تزل تناشده وتتلطف إليه، فدعا الله فردَّ بصرها، ورجعت امرأته على حالها التي كانت عليها‏.‏

وأمَّا قصَّة المائدة التي قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ -‏]‏‏.‏

وقد ذكرنا في التَّفسير بسط ذلك واختلاف المفسِّرين فيها هل نزلت أم لا على قولين، والمشهور عن الجمهور أنَّها نزلت واختلف فيما كان عليها من الطَّعام على أقوال، وذكر أهل التَّاريخ أنَّ موسى بن نصير الذي فتح البلاد المغربية أيَّام بني أمية وجد المائدة، ولكن قيل‏:‏ إنَّها مائدة سليمان بن داود مرصَّعة بالجواهر وهي من ذهب، فأرسل بها إلى الوليد بن عبد الملك فكانت عنده حتَّى مات، فتسلَّمها أخوه سليمان، وقيل‏:‏ إنَّها مائدة عيسى لكن يبعد هذا أنَّ النَّصارى لا يعرفون المائدة كما قاله غير واحد من العلماء والله أعلم‏.‏
والمقصود أنَّ المائدة سواء كانت قد نزلت أم لم تنزل، وقد كانت موائد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تمدُّ من السَّماء، وكانوا يسمعون تسبيح الطَّعام وهو يؤكل بين يديه، وكم قد أشبع من طعام يسير ألوفاً ومئات وعشرات صلَّى الله عليه وسلَّم ما تعاقبت الأوقات، وما دامت الأرض والسَّموات‏.‏

وهذا أبو مسلم الخولانيّ وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمته من تاريخه أمراً عجيباً، وشأناً غريباً حيث روي من طريق إسحاق بن يحيى الملطي عن الأوزاعيّ قال‏:‏ أتى أبا مسلم الخولانيّ نفر من قومه فقالوا‏:‏ يا أبا مسلم أما تشتاق إلى الحجِّ ‏؟‏

قال‏:‏ بلى لو أصبت لي أصحاباً‏.‏

فقالوا‏:‏ نحن أصحابك‏.‏

قال‏:‏ لستم لي بأصحاب، إنَّما أصحابي قوم لا يريدون الزَّاد ولا المزاد‏.‏

فقالوا‏:‏ سبحان الله وكيف يسافر أقوام بلا زاد ولا مزاد ‏؟‏

قال لهم‏:‏ ألا ترون إلى الطَّير تغدو وتروح بلا زاد ولا مزاد والله يرزقها، وهي لا تبيع ولا تشتري، ولا تحرث ولا تزرع والله يرزقها‏.‏

قال‏:‏ فقالوا‏:‏ فإنَّا نسافر معك‏.‏

قال‏:‏ فهبُّوا على بركة الله تعالى‏.‏

قال‏:‏ فغدوا من غوطة دمشق ليس معهم زاد ولا مزاد، فلمَّا انتهوا إلى المنزل قالوا‏:‏ يا أبا مسلم طعام لنا وعلف لدوابنا‏.‏

قال‏:‏ فقال لهم‏:‏ نعم، فسجا غير بعيد فيمم مسجد أحجار فصلَّى فيه ركعتين ثمَّ جثى على ركبتيه فقال‏:‏ إلهي قد تعلم ما أخرجني من منزلي وإنَّما خرجت آمراً لك، وقد رأيت البخيل من ولد آدم تنزل به العصابة من النَّاس فيوسعهم قرى وإنَّا أضيافك وزوَّارك فأطعمنا واسقنا واعلف دوابَّنا‏.‏

قال‏:‏ فأتى بسفرة مدَّت بين أيديهم، وجيء بجفنة من ثريد، وجيء بقلَّتين من ماء، وجيء بالعلف لا يدرون من يأتي به، فلم تزل تلك حالهم منذ خرجوا من عند أهاليهم حتَّى رجعوا لا يتكَّلفون زاداً ولا مزاداً‏.‏

فهذه حال وليٍّ من هذه الأمَّة نزل عليه وعلى أصحابه مائدة كل يوم مرتين مع ما يضاف إليها من الماء والعلوفة لدوابِّ أصحابه، وهذا اعتناء عظيم، وإنَّما نال ذلك ببركة متابعته لهذا النَّبيّ الكريم - عليه أفضل الصَّلاة والتَّسليم -‏.‏

وأمَّا قوله عن عيسى بن مريم عليه السلام‏:‏ أنَّه قال لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ ‏]‏‏.‏

فهذا شيء يسير على الأنبياء بل وعلى كثير من الأولياء، وقد قال يوسف الصِّديق لذينك الفتيين المحبوسين معه‏:‏ ‏{‏وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقد أخبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالأخبار الماضية طبق ما وقع، وعن الأخبار الحاضرة سواء بسواء، كما أخبر عن أكل الأرضة لتلك الصَّحيفة الظَّالمة التي كانت بطون قريش قديماً كتبتها على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطَّلب حتى يسلِّموا إليهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكتبوا بذلك صحيفة وعلَّقوها في سقف الكعبة فأرسل الله الأرضة فأكلتها إلا مواضع اسم الله تعالى، وفي رواية فأكلت اسم الله منها تنزيها لها أن تكون مع الذي فيها من الظُّلم والعدوان، فأخبر بذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّه أبا طالب وهم بالشِّعب، فخرج إليهم أبو طالب وقال لهم عمَّا أخبرهم به‏.‏

فقالوا‏:‏ إن كان كما قال، وإلا فسلِّموه إلينا‏.‏

فقالوا‏:‏ نعم، فأنزلوا الصَّحيفة فوجدوها كما أخبر عنها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سواء بسواء، فأقلعت بطون قريش عمَّا كانوا عليه لبني هاشم وبني المطلب، وهدى الله بذلك خلقاً كثيراً، وكم له مثلها كما تقدَّم بسطه وبيانه في مواضع من السِّيرة وغيرها ولله الحمد والمنَّة‏.‏

وفي يوم بدر لما طلب من العبَّاس عمّه فداء ادعى أنَّه لا مال له‏.‏

فقال له‏:‏ فأين المال الذي دفنته أنت وأمَّ الفضل تحت أسكفة الباب وقلت لها‏:‏ إن قتلت فهو للصِّبية‏.‏

فقال‏:‏ والله يا رسول الله إنَّ هذا شيء لم يطَّلع عليه غيري وغير أمَّ الفضل إلا الله عزَّ وجل‏.‏


وأخبر بموت النَّجاشي يوم مات وهو بالحبشة وصلَّى عليه‏.‏

وأخبر عن قتل الأمراء يوم مؤتة واحداً بعد واحد وهو على المنبر وعيناه تذرفان‏.‏

وأخبر عن الكتاب الذي أرسل به حاطب بن بلتعة مع شاكر مولى بني عبد المطَّلب، وأرسل في طلبها علياً، والزُّبير، والمقداد، فوجدوها قد جعلته في عقاصها، وفي رواية في حجزتها، وقد تقدَّم ذلك في غزوة الفتح‏.‏

وقال لأميري كسرى اللَّذين بعث بهما نائب اليمن لكسرى ليستعلما أمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ ربِّي قد قتل اللَّيلة ربكما‏)‏‏)‏ فأرَّخا تلك اللَّيلة، فإذا كسرى قد سلَّط الله عليه ولده فقتله، فأسلما وأسلم نائب اليمن، وكان سبب ملك اليمن لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وأمَّا إخباره صلَّى الله عليه وسلَّم عن الغيوب المستقبلة فكثيرة جداً كما تقدَّم بسط ذلك، وسيأتي في أنباء التَّواريخ ليقع ذلك طبق ما كان سواء‏.‏

وذكر ابن حامد في مقابلة جهاد عيسى عليه الصلاة والسلام جهاد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وفي مقابلة زهد عيسى عليه الصلاة والسلام زهادة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن كنوز الأرض حين عرضت عليه فأباها وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجوع يوماً وأشبع يوماً‏)‏‏)‏‏.‏

وأنَّه كان له ثلاث عشرة زوجة يمضي عليهنَّ الشَّهر والشَّهران لا توقد عندهنَّ نار ولا مصباح، إنَّما هو الأسودان التَّمر والماء، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع، وما شبعوا من خبز برٍّ ثلاث ليال تباعاً وكان فراشه من أدم حشوه ليف، وربَّما اعتقل الشَّاة فيحلبها، ورقع ثوبه، وخصف نعله بيده الكريمة - صلوات الله وسلامه عليه - ومات صلَّى الله عليه وسلَّم ودرعه مرهونة عند يهودي على طعام اشتراه لأهله، هذا وكم آثر بآلاف مؤلفة والإبل والشَّاء والغنائم والهدايا على نفسه وأهله للفقراء، والمحاويج والأرامل والأيتام والأسرى، والمساكين‏.‏

وذكر أبو نعيم في مقابلة تبشير الملائكة لمريم الصِّديقة بوضع عيسى، ما بشِّرت به آمنة أمُّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين حملت به في منامها، وما قيل لها‏:‏ إنَّك قد حملت بسيِّد هذه الأمَّة فسمِّيه محمداً، وقد بسطنا ذلك في المولد كما تقدَّم‏.‏

وقد أورد الحافظ أبو نعيم هاهنا حديثاً غريباً مطولاً بالمولد أحببنا أن نسوقه ليكون الختام نظير الافتتاح وبالله المستعان وعليه التُّكلان، ولله الحمد‏.‏

فقال‏:‏ حدَّثنا سليمان بن أحمد، حدَّثنا حفص بن عمرو بن الصَّباح، حدَّثنا يحيى بن عبد الله البابليّ، أنَّا أبو بكر ابن أبي مريم عن سعيد بن عمر الأنصاريّ، عن أبيه قال‏:‏ قال ابن عبَّاس‏:‏ فكان من دلالات حمل محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم أن كلَّ دابَّة كانت لقريش نطقت تلك اللَّيلة‏:‏ قد حمل برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورب الكعبة، وهو أمان الدُّنيا، وسراج أهلها، ولم يبق كاهن في قريش ولا قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبتها، وانتزع علم الكهنة منها، ولم يبق سرير ملك من ملوك الدُّنيا إلا أصبح منكوساً، والملك مخرساً لا ينطق يومه لذلك، وفرَّت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار بشَّر بعضهم بعضاً، وفي كل شهر من شهوره نداء في الأرض ونداء في السَّموات‏:‏ أبشروا فقد آن لأبي القاسم أن يخرج إلى الأرض ميموناً مباركاً‏.‏

قال‏:‏ وبقي في بطن أمِّه تسعة أشهر، وهلك أبوه عبد الله وهو في بطن أمِّه، فقالت الملائكة‏:‏ إلهنا وسيدنا بقي نبيَّك هذا يتيماً‏.‏

فقال الله تعالى للملائكة‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا له ولي وحافظ ونصير‏)‏‏)‏ فتبرَّكوا بمولده ميموناً مباركاً، وفتح الله لمولده أبواب السَّماء وجنَّاته، وكانت آمنة تحدِّث عن نفسها وتقول‏:‏ أتى لي آتٍ حين مرَّ لي من حمله ستة أشهر فوكزني برجله في المنام وقال‏:‏ يا آمنة إنَّك حملت بخير العالمين طراً، فإذا ولدتيه فسمِّيه محمَّداً أو النَّبيّ، شأنك‏.‏


قال‏:‏ وكانت تحدِّث عن نفسها وتقول‏:‏ لقد أخذني ما يأخذ النِّساء ولم يعلم بي أحد من القوم ذكر ولا أنثى، وإنِّي لوحيدة في المنزل وعبد المطَّلب في طوافه، قالت‏:‏ فسمعت وجبةً شديدةً وأمراً عظيماً فهالني ذلك وذلك يوم الإثنين، ورأيت كأنَّ جناح طير أبيض قد مسح على فؤادي فذهب كل رعب وكل فزع ووجل كنت أجد، ثمَّ التفت فإذا أنا بشربة بيضاء ظننتها لبناً وكنت عطشانة فتناولتها فشربتها فأصابني نور عال ثمَّ رأيت نسوة كالنَّخل الطِّوال كأنَّهن من بنات عبد المطَّلب يحدِّقن بي، فبينا أنا أعجب وأقول‏:‏ واغوثاه من أين علمن بي واشتد بي الأمر، وأنا أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول، وإذا أنا بديباج أبيض قد مدَّ بين السَّماء والأرض، وإذا قائل يقول‏:‏ خذوه عن أعين النَّاس‏.‏

قالت‏:‏ رأيت رجالاً وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق فضة، وأنا يرشح مني عرق كالجُمان أطيب ريحاً من المسك الأزفر، وأنا أقول‏:‏ ياليت عبد المطَّلب قد دخل علي‏.‏

قالت‏:‏ ورأيت قطعة من الطَّير قد أقبلت من حيث لا أشعر حتَّى غطَّت حجرتي مناقيرها من الزُّمرُّد، وأجنحتها من اليواقيت، فكشف الله لي عن بصيرتي فأبصرت من ساعتي مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت ثلاث علامات مضروبات‏:‏ علم بالمشرق، وعلم بالمغرب، وعلم على ظهر الكعبة، فأخذني المخاض واشتدَّ بي الطَّلق جداً، فكنت كأنِّي مسندة إلى أركان النِّساء، وكثرن عليَّ حتى كأنِّي مع البيت وأنا لا أرى شيئاً، فولدت محمَّداً، فلمَّا خرج من بطني درت فنظرت إليه فإذا هو ساجد وقد رفع إصبعيه كالمتضرِّع المبتهل، ثمَّ رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السَّماء تنزل حتَّى غشيته فغيِّب عن عيني، فسمعت منادياً ينادي يقول‏:‏ طوفوا بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم شرق الأرض وغربها وأدخلوه البحار كلَّها ليعرفوه باسمه ونعته وصورته ويعلموا أنَّه سمي الماحيّ لا يبقي شيء من الشِّرك إلا محي به‏.‏

قالت‏:‏ ثمَّ تخلَّوا عنه في أسرع وقت، فإذا أنا به مدرج في ثوب صوف أبيض أشدُّ بياضاً من اللَّبن، وتحته حريرة خضراء، وقد قبض محمَّد ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرَّطب الأبيض وإذا قائل يقول‏:‏ قبض محمَّد مفاتيح النَّصر، ومفاتيح الرِّيح، ومفاتيح النُّبُّوة، هكذا أورده وسكت عليه وهو غريب جداً‏.‏

وقال الشَّيخ جمال الدِّين أبو زكريا يحيى بن يوسف بن منصور بن عمر الأنصاريّ الصَّرصريّ الماهر الحافظ للأحاديث واللُّغة ذو المحبَّة الصَّادقة لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ فلذلك يشبَّه في عصره بحسَّان بن ثابت رضي الله عنه وفي ديوانه المكتوب عنه في مديح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد كان ضرير البصر بصير البصيرة، وكانت وفاته ببغداد في سنة ست وخمسين وستَّمائة قتله التَّتار في كل بنة بغداد كما سيأتي ذلك في موضعه في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى وبه الثِّقة وعليه التُّكلان‏.‏

قال في قصيدته من حرف الحاء المهملة من ديوانه

محمَّدٌ المبعوثُ لِلنَّاس رَحمةً * يُشيدُ مَا أوهى الضَّلالُ ويُصْلِحُ

لئنْ سبَّحَتْ صمُّ الجبالِ مجيبةٍ * لداودَ أَو لانَ الحَديدُ المُصَفَّحِ

فإنَّ الصُّخورَ الصُّمَّ لانت بكفِّهِ * وإنَّ الحصا في كفِّهِ ليسبِّحُ

وإنْ كانَ مُوسى أَنبعَ الماء منَ العَصَا * فَمِن كفِّهِ قدْ أصبحَ الماءَ يَطفَحُ

وإنْ كانَتْ الرِّيحُ الرُّخاءَ مطيعةً * سُليمانَ لا تألُو تَروحُ وتَسرحُ

فإنَّ الصَبا كانت لِنصر نبيِّنَا * بِرُعْبٍ على شهرٍ بهِ الخَصْمُ يُكْلَحُ

وإنْ أوتي المُلكَ العظيمَ وسُخِّرتْ * لهُ الجنُّ تُشفِي مارضيهُ وَتلدَحُ

فإنَّ مفاتيحَ الكُنوزِ بأَسرهَا * أَتَتْهُ فَرَدَّ الزَّاهدُ المترجِّحُ

وإنْ كانَ إبراهيمُ أُعطي خِلَّة * وَموسَى بتَكليمٍ على الطُّورِ يمنحُ

فهذا حَبيبٌ بلْ خليلٌ مُكَلَّمٌ * وخُصِّص بالرُّؤيا وبالحقِّ أَشرحُ

وخُصِّص بالحوضِ العَظيمِ وباللِّوا * وَيشفَعُ للعاصينَ والنَّارُ تَلفَحُ

وبالمقعدِ الأعْلى المقرَّبِ عِنْدَهُ * عطاءٌ بِبُشْراهُ أقرُّ وأَفرحُ

وبالرِّتبةِ العُليَا الأَسيلةِ دُونهَا * مَراتبُ أربابِ المواهِبِ تَلْمَحُ

وفي جنَّة الفِردوسِ أوَّل داخلٍ * لهُ سائرُ الأبوابِ بالخَارِ تُفْتَحُ

وهذا آخر ما يسَّر الله جمعه من الأخبار بالمغيبات التي وقعت إلى زماننا ممَّا يدخل في دلائل النُّبُّوة والله الهادي، وإذا فرغنا إن شاء الله من إيراد الحادثات من بعد موته عليه السلام إلى زماننا نتبع ذلك بذكر الفتن والملاحم الواقعة في آخر الزَّمان، ثمَّ نسوق بعد ذلك أشراط السَّاعة، ثمَّ نذكر البعث والنُّشور، ثمَّ ما يقع يوم القيامة من الأهوال، وما فيه من العظمة، ونذكر الحوض والميزان والصِّراط، ثمَّ نذكر صفة النَّار، ثمَّ صفة الجنَّة‏.‏

كتاب تاريخ الإسلام الأوَّل من الحوادث الواقعة في الزَّمان ووفيَّات المشاهير والأعيان سنة إحدى عشرة من الهجرة‏:‏

تقدَّم ما كان في ربيع الأول منها من وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في يوم الإثنين وذلك لثاني عشر منه على المشهور، وقد بسطنا الكلام في ذلك بما فيه كفاية وبالله التَّوفيق‏.‏