الجزء السادس - خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وما فيها من الحوادث‏

خلافة أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه وما فيها من الحوادث‏

قد تقدَّم أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم توفِّي يوم الإثنين وذلك ضحى، فاشتغل النَّاس ببيعة أبي بكر الصِّديق في سقيفة بني ساعدة، ثمَّ في المسجد البيعة العامة في بقية يوم الإثنين وصبيحة الثُّلاثاء كما تقدَّم ذلك بطوله، ثمَّ أخذوا في غسل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وتكفينه والصَّلاة عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم تسليماً - بقية يوم الثُّلاثاء، ودفنوه ليلة الأربعاء كما تقدَّم ذلك مبرهناً في موضعه‏.‏

وقال محمَّد بن إسحاق بن يسار‏:‏ حدَّثني الزُّهريّ، حدَّثني أنس بن مالك قال‏:‏ لمَّا بويع أبو بكر في السَّقيفة وكان الغد جلس أبو بكر فقام عمر فتكلَّم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثمَّ قال‏:‏ أيُّها النَّاس إنِّي قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده إليَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولكنِّي قد كنت أرى أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سيدبِّر أمرنا، يقول‏:‏ يكون آخرنا، وإنَّ الله قد أبقى فيكم الذي به هدى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله، وإنَّ الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وثاني إثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه، فبايع النَّاس أبا بكر بعد بيعة السَّقيفة‏.‏

ثمَّ تكلَّم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ثمَّ قال‏:‏ أمَّا بعد أيُّها النَّاس فإنِّي قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصِّدق أمانة، والكذب خيانة، والضَّعيف فيكم قويّ عندي حتى أرجِّع عليه حقَّه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتَّى آخذ الحقَّ منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذُّل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله، وهذا إسناد صحيح وقد اتَّفق الصَّحابة - رضي الله عنهم - على بيعة الصِّديق في ذلك الوقت، حتَّى علي ابن أبي طالب والزُّبير بن العوَّام رضي الله عنهما‏.‏

والدَّليل على ذلك ما رواه البيهقيّ حيث قال‏:‏ أنبأنا أبو الحسين علي بن محمَّد بن علي الحافظ الإسفرايينيّ، ثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، ثنا أبو بكر ابن خزيمة وإبراهيم ابن أبي طالب قالا‏:‏ ثنا بندار بن يسار، ثنا أبو هشام المخزوميّ، ثنا وهيب، ثنا داود ابن أبي هند، ثنا أبو نصرة عن أبي سعيد الخدريّ قال‏:‏ قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واجتمع النَّاس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر‏.‏

قال فقام خطيب الأنصار فقال‏:‏ أتعلمون أنَّا أنصار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فنحن أنصار خليفته كما كنَّا أنصاره‏.‏

قال‏:‏ فقام عمر بن الخطَّاب فقال‏:‏ صدق قائلكم، ولو قلتم غير هذا لم نبايعكم، فأخذ بيد أبي بكر وقال‏:‏ هذا صاحبكم فبايعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصار‏.‏

وقال‏:‏ فصعد أبو بكر المنبر فنظر في وجوه القوم فلم ير الزُّبير قال‏:‏ فدعا الزُّبير فجاء‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ ابن عمَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أردت أن تشقَّ عصا المسلمين ‏؟‏

قال‏:‏ لا تثريب يا خليفة رسول الله، فقام فبايعه، ثمَّ نظر في وجوه القوم فلم ير علياً فدعا بعلي ابن أبي طالب‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ ابن عمِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وختنه على ابنته أردت أن تشقَّ عصا المسلمين ‏؟‏

قال‏:‏ لا تثريب يا خليفة رسول الله فبايعه هذا أو معناه‏.‏

قال الحافظ أبو علي النّيسابوريّ‏:‏ سمعت ابن خزيمة يقول‏:‏ جاءني مسلم بن الحجَّاج فسألني عن هذا الحديث فكتبته له في رقعة وقرأت عليه‏.‏

فقال‏:‏ هذا حديث يساوي بدنة‏.‏

فقلت‏:‏ يسوي بدنة بل هذا يسوي بدرة‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد عن الثِّقة، عن وهيب مختصراً‏.‏

وأخرجه الحاكم في مستدركه من طريق عفَّان بن مسلم عن وهيب مطولاً كنحو ما تقدَّم‏.‏

وروينا من طريق المحامليّ عن القاسم بن سعيد بن المسيّب، عن علي بن عاصم، عن الحريري، عن أبي نصرة، عن أبي سعيد فذكره مثله في مبايعة علي والزُّبير رضي الله عنهما يومئذ‏.‏

وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم حدَّثني أبي أنَّ أباه عبد الرَّحمن بن عوف كان مع عمر، وأنَّ محمَّد بن مسلمة كسر سيف الزُّبير‏.‏

ثمَّ خطب أبو بكر واعتذر إلى النَّاس وقال‏:‏ والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتها الله في سرٍّ ولا علانية، فقبل المهاجرون مقالته‏.‏

وقال علي والزُّبير‏:‏ ما تأخرنا إلا لأنَّنا أُخرنا عن المشورة، وإنا نرى أبا بكر أحقَّ النَّاس بها إنَّه لصاحب الغار، وإنَّا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالصَّلاة بالنَّاس وهو حيّ وهذا اللائق بعلي رضي الله عنه والذي يدل عليه الآثار من شهوده معه الصَّلوات وخروجه معه إلى ذي القصَّة بعد موت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كما سنورده وبذله له النَّصيحة والمشورة بين يديه‏.‏

وأمَّا ما يأتي من مبايعته إيَّاه بعد موت فاطمة، وقد ماتت بعد أبيها عليه السلام بستة أشهر فذلك محمول على أنها بيعة ثانية أزالت ما كان قد وقع من وحشة بسبب الكلام في الميراث ومنعه إيَّاهم ذلك بالنَّص عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورِّث ما تركنا فهو صدقة‏)‏‏)‏ كما تقدم إيراد أسانيده وألفاظه ولله الحمد‏.‏

وقد كتبنا هذه الطرق مستقصاة في الكتاب الذي أفردناه في سيرة الصِّديق رضي الله عنه وما أسنده من الأحاديث عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وما روى عنه من الأحكام مبوَّبة على أبواب العلم ولله الحمد والمنة‏.‏

وقال سيف بن عمر التَّميميّ‏:‏ عن أبي ضمرة عن أبيه، عن عاصم بن عدي قال‏:‏ نادى منادي أبي بكر من الغد من متوفَّى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ليتمَّم بعث أسامة ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جيش أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف‏.‏

وقام أبو بكر في النَّاس فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ أيُّها النَّاس إنَّما أنا مثلكم، وإنِّي لعلَّكم تكلِّفونني ما كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يطيق، إنَّ الله اصطفى محمَّداً على العالمين وعصمه من الآفات، وإنَّما أنا متَّبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فبايعوني، وإن زغت فقوِّموني، وإنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبض وليس أحد من هذه الأمَّة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها، وإنَّ لي شيطاناً يعتريني، فإذا أتاني فاجتذوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم وإنَّكم تغدون وتروحون في أجل قد غُيِّب عنكم علمه، وإن استطعتم أن لا يمضي إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، وسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلِّمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإنَّ قوماً نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم بعدهم فإيَّاكم أن تكونوا أمثالهم، الجدَّ الجدَّ، النَّجاة النَّجاة، الوحا الوحا فإنَّ وراءكم طالباً حثيثاً، وأجلاً أمره سريع، احذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والأخوان، ولا تطيعوا الأحياء إلا بما تطيعوا به الأموات‏.‏

قال‏:‏ وقام أيضاً فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال‏:‏ إنَّ الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، فإنَّما أخلصتم لحين فقركم وحاجتكم، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكَّروا فيمن كان قبلكم أين كانوا أمس، وأين هم اليوم، أين الجبَّارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب، قد تضعضع بهم الدَّهر وصاروا رميماً، قد تولَّت عليهم العالات الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمَّروها‏؟‏ قد بعدوا ونسي ذكرهم وصاروا كلا شيء، إلا أنَّ الله عزَّ وجل قد أبقى عليهم التَّبعات وقطع عنهم الشَّهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم والدُّنيا دنيا غيرهم، وبعثنا خلفا بعدهم فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن انحدرنا كنَّا مثلهم، أين الوضاءة الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم صاروا تراباً، وصار ما فرَّطوا فيه حسرة عليهم، أين الذين بنوا المدائن وحصَّنوها بالحوائط وجعلوا فيها الأعاجيب‏؟‏ قد تركوها لمن خلفهم فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظلمات القبور، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا‏؟‏ أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم‏؟‏ قد انتهت بهم آجالهم، فوردوا على ما قدَّموا فحلُّوا عليه وأقاموا للشَّقوة أو السَّعادة بعد الموت، ألا إن الله لا شريك له ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيراً ولا يصرف به عنه سوءاً إلا بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنَّكم عبيد مدينون، وأنَّ ما عنده لا يدرك إلا بطاعته، أما آن لأحدكم أن تحسر عنه النَّار ولا تبعد عنه الجنَّة‏.‏

فصل في تنفيذ جيش أسامة بن زيد

الذين كانوا قد أمرهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالمسير إلى تخوم البلقاء من الشَّام حيث قتل زيد بن حارثة، وجعفر وابن رواحة، فيغتزوا على تلك الأراضي، فخرجوا إلى الجُّرف فخيَّموا به، وكان بينهم عمر بن الخطَّاب، ويقال‏:‏ وأبو بكر الصِّديق فاستثناه رسول الله منهم للصَّلاة، فلمَّا ثقل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أقاموا هنالك فلمَّا مات عظم الخطب واشتدَّ الحال، ونجم النِّفاق بالمدينة، وارتدَّ من ارتدَّ من أحياء العرب حول المدينة، وامتنع آخرون من أداء الزَّكاة إلى الصِّديق، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة، وكانت جواثا من البحرين أوَّل قرية أقامت الجمعة بعد رجوع النَّاس إلى الحقِّ كما في صحيح البخاري عن ابن عبَّاس كما سيأتي، وقد كانت ثقيف بالطَّائف ثبتوا على الإسلام لم يفرُّوا ولا ارتدُّوا‏.‏

والمقصود أنَّه لمَّا وقعت هذه الأمور أشار كثير من النَّاس على الصِّديق أن لا ينفذ جيش أسامة لاحتياجه إليه، فيما هو أهمّ لأنَّ ما جهِّز بسببه في حال السَّلامة، وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطَّاب، فامتنع الصِّديق من ذلك، وأبى أشدَّ الإباء إلا أن ينفذ جيش أسامة‏.‏

وقال‏:‏ والله لا أحلّ عقدة عقدها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولو أنَّ الطَّير تخطَّفنا والسَّباع من حول المدينة، ولو أنَّ الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزنَّ جيش أسامة، وآمر الحرس يكونون حول المدينة، فكان خروجه في ذلك الوقت من أكبر المصالح والحالة تلك، فساروا لا يمرُّون بحيٍّ من أحياء العرب إلا أرعبوا منهم، وقالوا‏:‏ ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة، فقاموا أربعين يوماً، ويقال‏:‏ سبعين يوماً، ثمَّ أتوا سالمين غانمين، ثمَّ رجعوا فجهَّزهم حينئذ مع الأحياء الذين أخرجهم لقتال المرتدَّة وما نعي الزَّكاة على ما سيأتي تفصيله‏.‏


قال سيف بن عمر‏:‏ عن هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ لمَّا بويع أبو بكر وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه، قال‏:‏ ليتم بعث أسامة وقد ارتدَّت العرب إمَّا عامَّة وإمَّا خاصَّة في كل قبيلة، ونجم النِّفاق واشرأبَّت اليهودية والنَّصرانية، والمسلمون كالغنم المطيرة في اللَّيلة الشَّاتية لفقد نبيِّهم صلَّى الله عليه وسلَّم وقلَّتهم وكثرة عدوِّهم‏.‏

فقال له النَّاس‏:‏ إنَّ هؤلاء جلَّ المسلمين والعرب على ما ترى قد انتقصت بك، وليس ينبغي لك أن تفرِّق عنك جماعة المسلمين‏.‏

فقال‏:‏ والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أنَّ السِّباع تخطَّفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته‏.‏

وقد روي هذا عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة‏.‏

ومن حديث القاسم وعمرة عن عائشة قالت‏:‏ لمَّا قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ارتدَّت العرب قاطبة وأشرأبَّت النِّفاق، والله لقد نزل بي ما لو نزل بالجِّبال الرَّاسيات لهاضها، وصار أصحاب محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم كأنَّهم معزى مطيَّرة في وحش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بخطلها وعنانها وفصلها، ثمَّ ذكرت عمر فقالت‏:‏ من رأى عمر علم أنَّه خلق غنى للإسلام، كان والله أحوذيا نسيج وحده قد أعدَّ للأمور أقرانها‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو عبد الله الحافظ، أنَّا أبو العبَّاس محمَّد بن يعقوب، ثنا محمَّد بن علي الميمونيّ، ثنا الفريابيّ، ثنا عبَّاد بن كثير عن أبي الأعرج، عن أبي هريرة قال‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو لولا أنَّ أبا بكر استخلف ما عبد الله، ثمَّ قال الثَّانية، ثمَّ قال الثَّالثة‏.‏

فقيل له‏:‏ مه يا أبا هريرة‏.‏

فقال‏:‏ إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجَّه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشَّام فلمَّا نزل بذي خشب قُبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وارتدَّت العرب حول المدينة فاجتمع إليه أصحاب رسول الله فقالوا‏:‏ يا أبا بكر ردَّ هؤلاء توجَّه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدَّت العرب حول المدينة‏.‏

فقال‏:‏ والذي لا إله غيره لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما رددت جيشاً وجَّهه رسول الله، ولا حللت لواء عقده رسول الله، فوجَّه أسامة فجعل لا يمرُّ بقبيل يريدون الإرتداد إلا قالوا‏:‏ لولا أنَّ لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الرُّوم، فلقوا الرُّوم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام - عبَّاد بن كثير هذا أظنه البرمكي - لرواية الفريابي عنه، وهو متقارب الحديث، فأمَّا البصريّ الثَّقفيّ فمتروك الحديث والله أعلم‏.‏

وروى سيف بن عمر عن أبي ضمرة وأبي عمرو وغيرهما، عن الحسن البصريّ أنَّ أبا بكر لمَّا صمَّم على تجهيز جيش أسامة، قال بعض الأنصار لعمر‏:‏ قل له فليؤمِّر علينا غير أسامة، فذكر له عمر ذلك، فيقال‏:‏ أنَّه أخذ بلحيته وقال‏:‏ ثكلتك أمَّك يا ابن الخطَّاب أؤمِّر غير أمير رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثمَّ نهض بنفسه إلى الجُّرف فاستعرض جيش أسامة وأمرهم بالمسير وسار معهم ماشياً وأسامة راكباً وعبد الرحمن بن عوف يقود براحلة الصِّديق‏.‏

فقال أسامة‏:‏ يا خليفة رسول الله إمّا أن تركب، وإمَّا أن أنزل‏.‏

فقال‏:‏ والله لست بنازل ولست براكب، ثمَّ استطلق الصِّديق من أسامة عمر بن الخطَّاب وكان مكتتبا في جيشه فأطلقه له، فلهذا كان عمر لا يلقاه بعد ذلك إلا قال‏:‏ السَّلام عليك أيُّها الأمير‏.‏

مقتل الأسود العنسي المتنبِّي الكذَّاب‏:‏

قال أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدَّثني عمرو بن شيبة النميريّ، ثنا علي بن محمَّد - يعني‏:‏ المدائني - عن أبي معشر ويزيد بن عياض، عن جعد به، وغسَّان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء عن مشيختهم قالوا‏:‏ أمضى أبو بكر جيش أسامة بن زيد في آخر ربيع الأول، وأتى مقتل الأسود في آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة، فكان ذلك أوَّل فتح فتح أبو بكر وهو بالمدينة‏.‏

صفة خروجه وتمليكه ومقتله‏:‏

قد أسلفنا فيما تقدَّم أنَّ اليمن كانت لحمير وكانت ملوكهم يسمُّون التبابعة، وتكلَّمنا في أيَّام الجاهلية على طرف صالح من هذا، ثمَّ إنَّ ملك الحبشة بعث أميرين من قواده وهما‏:‏ أبرهة الأشرم، وأرياط، فتملَّكا له اليمن من حمير وصار ملكها للحبشة، ثمَّ اختلف هذان الأميران فقتل أرياط واستقلَّ أبرهة بالنِّيابة وبنى كنيسة سماها العانس لارتفاعها، وأراد أن يصرف حجَّ العرب إليها دون الكعبة، فجاء بعض قريش فأحدث في هذه الكنيسة، فلمَّا بلغه ذلك حلف ليخربنَّ بيت مكة، فسار إليه ومعه الجُّنود والفيل محمود، فكان من أمرهم ما قصَّ الله في كتابه، وقد تقدَّم بسط ذلك في موضعه، فرجع أبرهة ببعض من بقي من جيشه في أسوأ حال، وشرِّ خيبة وما زال تسقط أعضاؤه أنملة أنملة فلمَّا وصل إلى صنعاء انصدع صدره فمات، فقام بالملك بعده ولده بلسيوم بن أبرهة، ثمَّ أخوه مسروق بن أبرهة، فيقال‏:‏ إنَّه استمر ملك اليمن بأيدي الحبشة سبعين سنة، ثمَّ ثار سيف بن ذي يزن الحميريّ فذهب إلى قيصر ملك الرُّوم يستنصره عليهم فأبى ذلك عليه لما بينه وبينهم من الاجتماع في دين النَّصرانية، فسار إلى كسرى ملك الفرس فاستغاث به وله معه مواقف ومقامات في الكلام تقدَّم بسط بعضها، ثمَّ اتَّفق الحال على أن بعث معه ممن بالسُّجون طائفة تقدَّمهم رجل منهم يقال له‏:‏ وهرز، فاستنقذ ملك اليمن من الحبشة، وكسر مسروق بن أبرهة وقتله، ودخلوا إلى صنعاء وقرروا سيف بن ذي يزن في الملك على عادة آبائه، وجاءت العرب تهنِّئه من كل جانب، غير أنَّ لكسرى نوايا على البلاد‏.‏

فاستمر الحال على ذلك حتى بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأقام بمكة ما أقام ثمَّ هاجر إلى المدينة فلمَّا كتب كتبه إلى الآفاق يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له فكتب في جملة ذلك إلى كسرى ملك الفرس‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمَّد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتَّبع الهدى، أمَّا بعد فأسلم تسلم إلى آخره‏.‏

فلمَّا جاءه الكتاب قال‏:‏ ما هذا ‏؟‏

قالوا‏:‏ هذا كتاب جاء من عند رجل بجزيرة العرب يزعم أنَّه نبيّ‏.‏

فلمَّا فتح الكتاب فوجده قد بدأ باسمه قبل اسم كسرى غضب كسرى غضباً شديداً وأخذ الكتاب فمزَّقه قبل أن يقرأه، وكتب إلى عامله على اليمن وكان اسمه باذام‏:‏ أمَّا بعد فإذا جاءك كتابي هذا فابعث من قبلك أميري إلى هذا الرَّجل الذي بجزيرة العرب الذي يزعم أنَّه نبيّ فابعثه إلي في جامعة، فلمَّا جاء الكتاب إلى باذام بعث من عنده أميرين عاقلين، وقال‏:‏ إذهبا إلى هذا الرَّجل فانظرا ما هو‏؟‏ فإن كان كاذباً فخذاه في جامعة حتَّى تذهبا به إلى كسرى، وإن كان غير ذلك فارجعا إليَّ فأخبراني ما هو حتى أنظر في أمره‏.‏

فقدما على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المدينة فوجداه على أسدِّ الأحوال وأرشدها، ورأيا منه أموراً عجيبة يطول ذكرها، ومكثا عنده

شهراً حتَّى بلغا ما جاءا له، ثمَّ تقاضاه الجواب بعد ذلك‏.‏

فقال لهما‏:‏ ‏(‏‏(‏إرجعا إلى صاحبكما فأخبراه أنَّ ربي قد قتل اللَّيلة ربه‏)‏‏)‏ فأرَّخا ذلك عندهما، ثمَّ رجعا سريعاً إلى اليمن فأخبرا باذام بما قال لهما‏.‏

فقال‏:‏ أحصوا تلك اللَّيلة، فإن ظهر الأمر كما قال فهو نبيّ، فجاءت الكتب من عند ملكهم أنَّه قد قتل كسرى في ليلة كذا وكذا لتلك اللَّيلة، وكان قد قتله بنوه، ولهذا قال بعض الشُّعراء‏:‏

وكسرَى إذْ تَقَاسمَهُ بَنوهُ * بأَسيافٍ كما اقتسَمَ اللَّحامُ

تمَخَّضتْ المَنونُ لهُ بيومٍ * أنى ولكلِّ حاملةٍ تمامُ

وقام بالملك بعده ولده يزدجرد، وكتب إلى باذام أن خذ لي البيعة من قبلك، واعمد إلى ذلك الرَّجل فلا تهنه، وأكرمه، فدخل الإسلام في قلب باذام وذريَّته من أبناء فارس ممَّن باليمن، وبعث إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بإسلامه، فبعث إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بنيابة اليمن بكمالها، فلم يعزله عنها حتى مات، فلمَّا مات استناب ابنه شهر بن باذام على صنعاء وبعض مخاليف، وبعث طائفة من أصحابه نواباً على مخاليف أخر، فبعث أولاً في سنة عشر علياً وخالداً، ثمَّ أرسل معاذاً وأبا موسى الأشعري وفرَّق عمالة اليمن بين جماعة من الصَّحابة فمنهم‏:‏ شهر بن باذام، وعامر بن شهر الهمذانيّ على همذان، وأبو موسى على مأرب، وخالد بن سعيد بن العاص على عامر نجران، ورفع وزبيد ويعلى ابن أمية على الجند، والطَّاهر ابن أبي هالة على عك والأشعريين، وعمرو بن حرام على نجران، وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد، وعلى السكاسك عكاشة بن مور بن أخضر، وعلى السكون معاوية بن كندة، وبعث معاذ بن جبل معلماً لأهل البلدين اليمن وحضرموت يتنقَّل من بلد إلى بلد، ذكره سيف بن عمر، وذلك كلَّه في سنة عشر، وآخر حياة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فبينما هم على ذلك إذ نجم هذا اللَّعين الأسود العنسيّ‏.‏

خروج الأسود العنسيّ‏:‏

واسمه عبهلة بن كعب بن غوث من بلد يقال لها‏:‏ كهف حنان في سبعمائة مقاتل وكتب إلى عمَّال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أيُّها المتمرِّدون علينا أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفِّروا ما جمعتم فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه، ثمَّ ركب فتوجَّه إلى نجران فأخذها بعد عشر ليال من مخرجه، ثم قصد إلى صنعاء فخرج إليه شهر بن باذام فتقاتلا فغلبه الأسود وقتله، وكسر جيشه من الأبناء، واحتلَّ بلدة صنعاء لخمس وعشرين ليلة من مخرجه، ففرَّ معاذ بن جبل من هنالك، واجتاز بأبي موسى الأشعريّ فذهبا إلى حضرموت، وانحاز عمَّال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الطَّاهر، ورجع عمر بن حرام وخالد بن سعيد بن العاص إلى المدينة، واستوثقت اليمن بكمالها للأسود العنسيّ، وجعل أمره يستطير استطارة الشَّرارة، وكان جيشه يوم لقي شهراً سبعمائة فارس، وأمراؤه قيس بن عبد يغوث، ومعاوية ابن قيس، ويزيد بن محرم بن حصن الحارثيّ، ويزيد بن الأفكل الأزديّ، واشتدَّ ملكه واستغلظ أمره، وارتدَّ خلق من أهل اليمن، وعامله المسلمون الذين هناك بالتِّقية، وكان خليفته على مذحج عمرو بن معدي كرب، وأسند أمر الجند إلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز الدَّيلمي وداذويه، وتزوَّج بامرأة شهر بن باذام وهي ابنة عم فيروز الدَّيلمي واسمها زاذ، وكانت امرأة حسناء جميلة وهي مع ذلك مؤمنة بالله ورسوله محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ومن الصَّالحات، قال سيف بن عمر التَّميميّ‏:‏ وبعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كتابه حين بلغه خبر الأسود العنسيّ مع رجل يقال له‏:‏ وبر بن يحنس الدَّيلمي يأمر المسلمين الذين هناك بمقاتلة الأسود العنسي ومصاولته، وقام معاذ بن جبل بهذا الكتاب أتمَّ القيام، وكان قد تزوَّج امرأة من السكون يقال لها‏:‏ رملة، فحزبت عليه السكون لصبره فيهم، وقاموا معه في ذلك، وبلَّغوا هذا الكتاب إلى عمَّال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ومن قدروا عليه من النَّاس، واتَّفق اجتماعهم بقيس بن عبد يغوث أمير الجند، وكان قد غضب على الأسود واستخفَّ به وهمَّ بقتله، وكذلك كان أمر فيروز الدَّيلميّ قد ضعف عنده أيضاً وكذا داوذيه، فلمَّا أعلم وبر بن نحيس قيس بن عبد يغوث وهو قيس بن مكشوح كان كأنَّما نزلوا عليه من السَّماء، ووافقهم على الفتك بالأسود، وتوافق المسلمون على ذلك وتعاقدوا عليه‏.‏

فلمَّا أيقن ذلك في الباطن اطلع شيطان الأسود للأسود على شيء من ذلك، فدعا قيس بن مشكوح فقال له‏:‏ يا قيس ما يقول هذا ‏؟‏

قال‏:‏ وما يقول ‏؟‏

قال‏:‏ يقول‏:‏ عمدت إلى قيس فأكرمته حتى إذا دخل منك كلَّ مدخل وصار في العزِّ مثلك، مال ميل عدوِّك وحاول ملكك، وأضمر على الغدر، إنَّه يقول‏:‏ يا أسود يا أسود، يا سوآه يا سوآه، فطف به وخذ من قيس أعلاه وإلا سلبك وقطف رقبتك‏.‏

فقال له قيس وحلف له فكذَّب‏:‏ وذي الخمار لأنت أعظم في نفسي، وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي‏.‏

فقال له الأسود‏:‏ ما أخالك تكذِّب الملك فقد صدق الملك، وعرف الآن أنَّك تائب عمَّا اطَّلع عليه منك‏.‏

ثمَّ خرج قيس من بين يديه فجاء إلى أصحابه فيروز وداوذيه وأخبرهم بما قال له وردَّ عليه‏.‏

فقالوا‏:‏ إنَّا كلَّنا على حذر فما الرَّأي‏؟‏ فبينما هم يشتورون إذ جاءهم رسوله فأحضرهم بين يديه‏.‏

فقال‏:‏ ألم أشرِّفكم على قومكم ‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فماذا يبلغني عنكم ‏؟‏

فقالوا‏:‏ أقلنا مرتنا هذه‏.‏

فقال‏:‏ لا يبلغني عنكم فأقيلكم‏.‏

قال‏:‏ فخرجنا من عنده ولم نكد وهو في ارتياب من أمرنا، ونحن على خطر فبينما نحن في ذلك إذ جاءتنا كتب من عامر بن شهر أمير همدان، وذي ظليم، وذي كلاع وغيرهم من أمراء اليمن يبذلون لنا الطَّاعة والنَّصر على مخالفة الأسود، وذلك حين جاءهم كتاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يحثَّهم على مصاولة الأسود العنسيّ، فكتبنا إليهم أ لا يحدثوا شيئاً حتَّى نبرم الأمر‏.‏

قال قيس‏:‏ فدخلت على امرأته

ازاذ فقلت‏:‏ يا ابنة عمِّي قد عرفت بلاء هذا الرَّجل عند قومك قتل زوجك، وطأطأ في قومك القتل، وفضح النِّساء فهل عندك ممالأة عليه ‏؟‏

قالت‏:‏ على أي أمر ‏؟‏

قلت‏:‏ إخراجه‏.‏

قالت‏:‏ أو قتله ‏؟‏

قلت‏:‏ أو قتلة‏.‏

قالت‏:‏ نعم والله ما خلق الله شخصاً هو أبغض إليَّ منه فما يقوم لله عليّ حقّ ولا ينتهي له عن حرمة فإذا عزمتم أخبروني أعلمكم بما في هذا الأمر‏.‏

قال‏:‏ فأخرج، فإذا فيروز وداوذيه ينتظراني يريدون أن يناهضوه فما استقرَّ اجتماعه بهما حتى بعث إليه الأسود فدخل في عشرة من قومه‏.‏

فقال‏:‏ ألم أخبرك بالحقِّ، وتخبرني بالكذَّابة إنَّه يقال‏:‏ يا سوأة يا سوأة، إن لم تقطع من قيس يده يقطع رقبتك العليا حتَّى ظنَّ قيس أنَّه قاتله‏.‏

فقال‏:‏ إنَّه ليس من الحقِّ أن أهلك وأنت رسول الله، فقتلي أحبُّ إليَّ من موتات أموتها كل يوم، فرقَّ له وأمره بالإنصراف، فخرج إلى أصحابه فقال‏:‏ اعملوا عملكم، فبينما هم وقوف بالباب يشتورون، إذ خرج الأسود عليهم وقد جمع له مائة ما بين بقرة وبعير، فقام وخطَّ وأقيمت من ورائه، وقام دونها فنحرها غير محبسة ولا معلقة ما يقتحم الخط منها شيء، فجالت إلى أن زهقت أرواحها‏.‏

قال قيس‏:‏ فما رأيت أمراً كان أفظع منه ولا يوماً أوحش منه‏.‏

ثمَّ قال الأسود‏:‏ أحقٌ ما بلغني عنك يا فيروز‏؟‏ لقد هممت أن أنحرك فألحقك بهذه البهيمة، وأبدى له الحربة‏.‏


فقال له فيروز‏:‏ اخترتنا لصهرك، وفضَّلتنا على الأبناء، فلو لم تكن نبياً ما بعنا نصيبنا منك بشيء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر الآخرة والدُّنيا فلا تقبل علينا أمثال ما يبلغك فإنَّا بحيث تحبُّ‏.‏

فرضي عنه وأمره بقسم لحوم تلك الأنعام، ففرَّقها فيروز في أهل صنعاء ثمَّ أسرع اللِّحاق به‏.‏

فإذا رجل يحرِّضه على فيروز ويسعى إليه فيه، واستمع له فيروز، فإذا الأسود يقول‏:‏ أنا قاتله غداً وأصحابه، فاغد عليَّ به، ثمَّ التفت فإذا فيروز فقال‏:‏ مه، فأخبره فيروز بما صنع من قسم ذلك اللَّحم فدخل الأسود داره، ورجع فيروز إلى أصحابه فأعلمهم بما سمع، وبما قال، وقيل له، فاجتمع رأيهم على أن عاودوا المرأة في أمره، فدخل أحدهم - وهو فيروز - إليها، فقالت‏:‏ إنَّه ليس من الدَّار بيت إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت، فإنَّ ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطَّريق، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه من دون الحرس، وليس من دون قتله شيء، وإني سأضع في البيت سراجاً وسلاحاً، فلمَّا خرج من عندها تلقَّاه الأسود فقال له‏:‏ ما أدخلك على أهلي‏؟‏ ووجأ رأسه، وكان الأسود شديداً فصاحت المرأة فأدهشته عنه، ولولا ذلك لقتله، وقالت‏:‏ ابن عمِّي جاءني زائراً‏.‏

فقال‏:‏ اسكتي لا أبالك قد وهبته لك‏.‏

فخرج على أصحابه فقال‏:‏ النَّجاء النَّجاء وأخبرهم الخبر، فحاروا ماذا يصنعون، فبعثت المرأة إليهم تقول لهم‏:‏ لا تنثنوا عمَّا كنتم عازمين عليه، فدخل عليها فيروز الدَّيلميّ فاستثبت منها الخبر، ودخلوا إلى ذلك البيت فنقبوا داخله بطائن ليهون عليهم النَّقب من خارج، ثمَّ جلس عندها

جهرة كالزَّائر فدخل الأسود فقال‏:‏ وما هذا ‏؟‏

فقالت‏:‏ إنَّه أخي من الرَّضاعة، وهو ابن عمِّي، فنهره وأخرجه فرجع إلى أصحابه، فلمَّا كان اللَّيل نقبوا ذلك البيت فدخلوا، فوجدوا فيه سراجاً تحت جفنة، فتقدَّم إليه فيروز الدَّيلميّ والأسود نائم على فراش من حرير قد غرق رأسه في جسده، وهو سكران يغطّ، والمرأة جالسة عنده، فلمَّا قام فيروز على الباب أجلسه شيطانه وتكلَّم على لسانه - وهو مع ذلك يغطّ - فقال‏:‏ مالي ومالك يا فيروز ‏؟‏

فخشي إن رجع يهلك وتهلك المرأة فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل فأخذ رأسه فدق عنقه، ووضع ركبتيه في ظهره حتى قتله، ثمَّ قام ليخرج إلى أصحابه ليخبرهم فأخذت المرأة بذيله وقالت‏:‏ أين تذهب عن حرمتك فظنَّت أنَّها لم تقتله، فقال‏:‏ أخرج لأعلمهم بقتله، فدخلوا عليه ليحتزوا رأسه، فحرَّكه شيطانه فاضطرب، فلم يضبطوا أمره حتى جلس اثنان على ظهره، وأخذت المرأة بشعره، وجعل يبربر بلسانه فاحتزَّ الآخر رقبته، فخار كأشدِّ خوار ثور سمع قطّ، فابتدر الحرس إلى المقصورة فقالوا‏:‏ ما هذا‏؟‏ ما هذا ‏؟‏

فقالت المرأة‏:‏ النَّبيّ يوحي إليه، فرجعوا، وجلس قيس داذويه وفيروز يأتمرون كيف يعلمون أشياعهم، فاتَّفقوا على أنَّه إذا كان الصَّباح ينادون بشعارهم الذي بينهم وبين المسلمين، فلمَّا كان الصَّباح قام أحدهم وهو قيس على سور الحصن فنادى بشعارهم فاجتمع المسلمون والكافرون حول الحصن، فنادى قيس، ويقال‏:‏ وبر بن يحنش الأذان أشهد أنَّ محمَّداً رسول الله، وأنَّ عبهلة كذَّاب وألقى إليهم رأسه، فانهزم أصحابه وتبعهم النَّاس يأخذونهم، ويرصدونهم في كل طريق يأسرونهم، وظهر الإسلام وأهله، وتراجع نوَّاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أعمالهم، وتنازع أولئك الثَّلاثة في الإمارة، ثمَّ اتَّفقوا على معاذ ابن جبل يصلِّي بالنَّاس، وكتبوا بالخبر إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد أطلعه الله على الخبر من ليلته‏.‏

كما قال سيف بن عمر التَّميميّ‏:‏ عن أبي القاسم الشَّنويّ، عن العلاء بن زيد، عن ابن عمر أتى الخبر إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من السَّماء اللَّيلة التي قتل فيها العنسيّ ليبشِّرنا فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قتل العنسيّ البارحة قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين‏)‏‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ ومن ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فيروز، فيروز‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنَّ مدَّة ملكه منذ ظهر إلى أن قتل ثلاثة أشهر، ويقال‏:‏ أربعة أشهر فالله أعلم‏.‏

وقال سيف بن عمر‏:‏ عن المستنير، عن عروة، عن الضحاك، عن فيروز قال‏:‏ قتلنا الأسود وعاد أمرنا في صنعاء كما كان إلا أنَّا أرسلنا إلى معاذ بن جبل فتراضينا عليه فكان يصلِّي بنا في صنعاء، فوالله ما صلَّى بنا إلا ثلاثة أيَّام حتى أتانا الخبر بوفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فانتقضت الأمور وأنكرنا كثيراً ممَّا كنَّا نعرف واضطربت الأرض‏.‏

وقد قدَّمنا أنَّ خبر العنسي جاء إلى الصِّديق في أواخر ربيع الأول بعد ما جهَّز جيش أسامة، وقيل بل جاءت البشارة إلى المدينة صبيحة توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والأوَّل أشهر والله أعلم‏.‏

والمقصود أنَّه لم يجئهم فيما يتعلق بمصالحهم واجتماع كلمتهم وتأليف ما بينهم

والتَّمسك بدين الإسلام إلا الصِّديق رضي الله عنه‏.‏

وسيأتي إرساله إليهم من يمهِّد الأمور التي اضطربت في بلادهم، ويقوي أيدي المسلمين، ويثبِّت أركان دعائم الإسلام فيهم - رضي الله عنهم -‏.‏

فصل في تصدِّي الصِّديق لقتال أهل الرِّدَّة ومانعي الزَّكاة‏:‏

قد تقدَّم أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا توفِّي ارتدَّت أحياء كثيرة من الأعراب، ونجم النِّفاق بالمدينة، وانحاز إلى مسيلمة الكذَّاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على طليحة الأسدي بنو أسد، وطيء، وبشر كثير أيضاً‏.‏

وادَّعى النُّبُّوة أيضاً كما ادَّعاها مسيلمة الكذَّاب وعظم الخطب، واشتدَّت الحال، ونفذ الصِّديق جيش أسامة فقلَّ الجند عند الصِّديق فطمعت كثير من الأعراب في المدينة، وراموا أن يهجموا عليها فجعل الصِّديق على أنقاب المدينة حراساً يبيتون بالجيوش حولها، فمن أمراء الحرس عليٌّ ابن أبي طالب، والزُّبير بن العوَّام، وطلحة بن عبد الله، وسعد ابن أبي وقَّاص، وعبد الرَّحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود‏.‏

وجعلت وفود العرب تقدم المدينة يقرُّون بالصَّلاة، ويمتنعون من أداء الزَّكاة، ومنهم من امتنع من دفعها إلى الصِّديق، وذكر أنَّ منهم من احتج بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏خذ من أموالهم صدقة تطهِّرهم وتزكِّيهم بها وصلِّ عليهم إنَّ صلاتك سكن لهم‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا، وأنشد بعضهم‏:‏

أَطَعْنَا رَسُولَ اللهِ إذْ كانَ بينَنَا * فَواعجَباً ما بالُ مُلْكِ أَبي بَكْرِ

وقد تكلَّم الصَّحابة مع الصِّديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزَّكاة ويتألَّفهم حتَّى يتمكَّن الإيمان في قلوبهم، ثمَّ هم بعد ذلك يزكُّون فامتنع الصِّديق من ذلك وأباه‏.‏

وقد روى الجماعة في كتبهم سوى ابن ماجه عن أبي هريرة أنَّ عمر بن الخطَّاب قال لأبي بكر‏:‏ علام تقاتل النَّاس وقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أُمرت أن أقاتل النَّاس حتَّى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله فإذا قالوها عصموا منِّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ والله لو منعوني عناقاً، وفي رواية‏:‏ عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأقاتلنَّهم على منعها، إنَّ الزَّكاة حقَّ المال، والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصَّلاة والزَّكاة‏.‏

قال عمر‏:‏ فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنَّه الحقّ‏.‏

قلت‏:‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّوبة‏:‏ ‏]‏‏.‏


وثبت في الصَّحيحين‏:‏ ‏(‏‏(‏بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وحجُّ البيت، وصوم رمضان‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريقين عن شبابة ابن سوار، ثنا عيسى بن يزيد المدينيّ، حدَّثني صالح بن كيسان قال‏:‏ لمَّا كانت الرِّدَّة قام أبو بكر في النَّاس فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال‏:‏ الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأغنى، إنَّ الله بعث محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رثَّ حبله، وخلق عهده، وضلَّ أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيراً لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شراً لشرِّ عندهم، قد غيَّروا كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون أنَّهم في منعة من الله لا يعبدونه ولا يدعونه، فأجهدهم عيشاً، وأضلَّهم ديناً في ظلف من الأرض مع ما فيه من السَّحاب، فختمهم الله بمحمَّد وجعلهم الأمَّة الوسطى، نصرهم بمن اتَّبعهم، ونصرهم على غيرهم حتَّى قبض الله نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم فركب منهم الشَّيطان مركبه الذي أنزله عليه، وأخذ بأيديهم وبغى هلكتهم ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ ‏]‏‏.‏

إنَّ من حولكم من العرب منعوا شاتهم وبعيرهم ولم يكونوا في دينهم، وإن رجعوا إليه أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدَّم من بركة نبيِّكم صلَّى الله عليه وسلَّم وقد وكَّلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالاً فهداه، وعائلاً فأغناه، ‏{‏وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ ‏]‏‏.‏

والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل منَّا شهيداً من أهل الجنَّة، ويبقى من بقي منها خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ ‏]‏‏.‏ ثمَّ نزل‏.‏

وقال الحسن وقتادة وغيرهما في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيُّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبَّهم ويحبُّونه‏)‏‏)‏ الآية

قالوا‏:‏ المراد بذلك أبو بكر وأصحابه في قتالهم المرتدِّين ومانعي الزَّكاة‏.‏

وقال محمَّد بن إسحاق‏:‏ ارتدَّت العرب عند وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما خلا أهل المسجدين مكة والمدينة‏.‏

وارتدَّت أسد، وغطفان، وعليهم طليحة بن خويلد الأسدي الكاهن‏.‏

وارتدَّت كندة ومن يليها وعليهم الأشعث بن قيس الكندي‏.‏

وارتدَّت مذحج ومن يليها وعليهم الأسود بن كعب العنسي الكاهن‏.‏

وارتدَّت ربيعة مع المعرور ابن النُّعمان بن المنذر‏.‏

وكانت حنيفة مقيمة على أمرها مع مسيلمة بن حبيب الكذَّاب‏.‏

وارتدَّت سليم مع الفجأة واسمه أنس بن عبد ياليل‏.‏

وارتدَّت بنو تميم مع سجاح الكاهنة‏.‏

وقال القاسم بن محمَّد‏:‏ اجتمعت أسد وغطفان وطيء على طليحة الأسدي، وبعثوا وفوداً إلى المدينة، فنزلوا على وجوه النَّاس فأنزلوهم إلا العبَّاس، فحملوا بهم إلى أبي بكر على أن يقيموا الصَّلاة ولا يؤتوا الزَّكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحقِّ وقال‏:‏ لو منعوني عقالاً لجاهدتهم، فردَّهم، فرجعوا إلى عشائرهم فأخبروهم بقلَّة أهل المدينة وطمَّعوهم فيها، فجعل أبو بكر الحرس على أنقاب المدينة، وألزم أهل المدينة بحضور المسجد، وقال‏:‏ إنَّ الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلَّة، وإنَّكم لا تدرون ليلاً يأتون أم نهاراً، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يؤملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، فاستعدُّوا وأعدُّوا فما لبثوا إلا ثلاثاً حتى طرقوا المدينة غارةً، وخلَّفوا نصفهم بذي حسى ليكونوا ردءاً لهم، وأرسل الحرس إلى أبي بكر يخبرونه بالغارة، فبعث إليهم أن الزموا مكانكم، وخرج أبو بكر في أهل المسجد على النواضح إليهم فانفشَّ العدوّ واتَّبعهم المسلمون على إبلهم حتى بلغوا ذا حسي، فخرج عليهم الردء، فالتقوا مع الجمع فكان الفتح، وقد قال‏:‏

أطَعْنَا رَسولَ اللهِ ما كانَ وَسْطَنَا * فَيالعِبادِ اللهِ مَا لأبي بكرِ

أَيُورِثُنَا بَكْراً إذا مَاتَ بعْدَهُ * وَتِلْكَ لَعمرُ اللهِ قَاصِمَةُ الظَّهرِ

فَهَلا رَدَدْتمْ وَفْدَنا بِزَمانِه * وَهَلا خَشِيتُمْ حسَّ راعيةَ البِكْرِ

وإنَّ التي سألوكُمو فَمَنَعتمُو * لكالتَّمرِ أو أحلى إليَّ منَ التَّمْرِ

وفي جمادى الآخرة ركب الصِّديق في أهل المدينة وأمراء الأنقاب إلى من حول المدينة من الأعراب الذين أغاروا عليها، فلمَّا تواجه هو وأعداؤه من بني عبس، وبني مرَّة، وذبيان، ومن ناصب معهم من بني كنانة، وأمدَّهم طليحة بابنه حبال، فلمَّا تواجه القوم كانوا قد صنعوا مكيدة وهي أنَّهم عمدوا إلى أنحاء فنفخوها، ثمَّ أرسلوها من رءوس الجبال فلمَّا رأتها إبل أصحاب الصِّديق نفرت وذهبت كل مذهب، فلم يملكوا من أمرها شيئاً إلى اللَّيل وحتى رجعت إلى المدينة، فقال في ذلك الخطيل بن أوس‏:‏

فدىً لِبني ذُبْيَانَ رَحلي وَنَاقَتي * عَشِيةَ يحدَى بالرِّماحِ أَبُو بَكرِ

وَلَكنْ يُدَهْدَى بالرِّجالِ فَهَبْنَهُ * إلى قَدَرِ ما تقيمُ وَلا تَسرِي

وللهِ أجنادٌ تذاقُ مَذاقَهُ * لِتُحْسَبَ فيما عُدَّ من عَجَبِ الدَّهرِ

أَطَعْنَا رَسُولَ اللهِ ما كانَ بينَنَا * فَيالعِبادِ اللهِ ما لأبي بَكْرِ

فلمَّا وقع ما وقع ظنَّ القوم بالمسلمين الوهن وبعثوا إلى عشائرهم من نواحي أخر فاجتمعوا، وبات أبو بكر رضي الله عنه قائماً ليله يعبِّي النَّاس، ثمَّ خرج على تعبئة من آخر اللَّيل وعلى ميمنته النُّعمان ابن مقرن، وعلى الميسرة أخوه عبد الله بن مقرن، وعلى السَّاقة أخوهما سويد بن مقرن، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين حساً ولا همساً حتى وضعوا فيهم السُّيوف، فما طلعت الشَّمس حتَّى ولُّوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقتل حبال، واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصَّة وكان أوَّل الفتح، وذلَّ بها المشركون، وعزَّ بها المسلمون، ووثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، وفعل من وراءهم كفعلهم، فحلف أبو بكر ليقتلنَّ من كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، ففي ذلك يقول زياد بن حنظلة التَّميميّ‏:‏

غَداةَ سَعى أَبو بكرٍ إليهمُ * كمَا يَسعَى لموتَتِهِ حلالُ

أَراحَ على نَواهِقِهَا عَلِيَّاً * ومَجَّ لهنَّ مُهْجَتَهُ حَبَالُ

وقال أيضا‏:‏

أَقَمْنَا لهمْ عَرضَ الشَّمالِ فَكَبْكِبُوا * كَكَبْكَبَةِ الغُزَى أَنَاخُوا عَلى الوَفُرِ

فَمَا صَبرُوا لِلْحَرْبِ عِنْدَ قِيامِهَا * صَبيحَةَ يَسمُو بالرِّجالِ أبو بَكرِ

طَرَقْنَا بني عبسٍ بأدنى نِبَاجِها * وَذُبيانَ نَهْنَهْنَا بِقَاصِمَةِ الظَّهرِ


فكانت هذه الوقعة من أكبر العون على نصر الإسلام وأهله، وذلك أنَّه عزَّ المسلمون في كل قبيلة، وذلَّ الكفَّار في كل قبيلة، ورجع أبو بكر إلى المدينة مؤيداً منصوراً، سالماً غانماً، وطرقت المدينة في اللَّيل صدقات عدي بن حاتم، وصفوان، والزَّبرقان‏:‏ إحداها في أوَّل اللَّيل، والثَّانية في أوسطه، والثَّالثة في آخره، وقدم بكل واحدة منهنَّ بشير من أمراء الأنقاب، فكان الذي بشَّر بصفوان سعد ابن أبي وقَّاص، والذي بشَّر بالزَّبرقان عبد الرَّحمن بن عوف، والذي بشَّر بعدي بن حاتم عبد الله ابن مسعود، ويقال‏:‏ أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه وذلك على رأس ستِّين ليلة من متوفَّى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

ثمَّ قدم أسامة بن زيد بعد ذلك بليال فاستخلفه أبو بكر على المدينة، وأمرهم أن يريحوا ظهرهم، ثمَّ ركب أبو بكر في الذين كانوا معه في الوقعة المتقدِّمة إلى ذي القصَّة فقال له المسلمون‏:‏ لو رجعت إلى المدينة وأرسلت رجلاً‏.‏

فقال‏:‏ والله لا أفعل، ولأواسينَّكم بنفسي، فخرج في تعبئته إلى ذي حسىً، وذي القصَّة والنُّعمان وعبد الله وسويد بنو مقرن على ما كانوا عليه، حتى نزل على أهل الرِّبذة بالأبرق وهناك جماعة من بني عبس وذبيان وطائفة من بني كنانة فاقتتلوا فهزم الله الحارث وعوفاً، وأخذ الحطيئة أسيراً فطارت بنو عبس، وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أيَّاماً، وقد غلب بني ذبيان على البلاد، وقال‏:‏ حرام على بني ذبيان أن يتملَّكوا هذه البلاد إذ غنَّمناها الله وحمى الأبرق بخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الربذة، ولما فرَّت عبس وذبيان صاروا إلى مؤازرة طلحة وهو نازل على بزاخة، وقد قال في يوم الأبرق زياد بن حنظلة‏:‏ ويومٌ بالأبارقِ قدْ شهدنَا * عَلى ذُبيانَ يَلتهبُ التِهابَا

أتيناهُمْ بِداهيةٍ نَسُوفٍ * مَعَ الصِّديقِ إذْ تَرَكَ العِتابَا /‏)‏

خروجه إلى ذي القصَّة حين عقد ألوية الأمراء الأحد عشر‏:‏

وذلك بعد ما جمَّ جيش أسامة واستراحوا، وركب الصِّديق أيضاً في الجيوش الإسلامية شاهراً سيفه مسلولاً من المدينة إلى ذي القصَّة وهي من المدينة على مرحلة، وعليٌّ ابن أبي طالب يقود براحلة الصِّديق رضي الله عنهما كما سيأتي فسأله الصَّحابة منهم علي وغيره وألحُّوا عليه أن يرجع إلى المدينة، وأن يبعث لقتال الأعراب غيره ممَّن يؤمِّره من الشُّجعان الأبطال، فأجابهم إلى ذلك، وعقد لهم الألوية لأحد عشر أميراً على ما سنفصِّله قريباً إن شاء الله‏.‏

وقد روى الدَّارقطني من حديث عبد الوهاب بن موسى الزُّهريّ عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن ابن عمر قال‏:‏ لمَّا برز أبو بكر إلى القصَّة واستوى على راحلته أخذ عليٌّ ابن أبي طالب بزمامها وقال‏:‏ إلى أين يا خليفة رسول الله‏؟‏ أقول لك ما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم أحد ‏(‏‏(‏لمَّ سيفك ولا تفجعنا بنفسك‏)‏‏)‏ وارجع إلى المدينة فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبداً‏.‏

فرجع، هذا حديث غريب من طريق مالك‏.‏

وقد رواه زكريا السَّاجيّ من حديث عبد الوهاب بن موسى بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرَّحمن بن عوف‏.‏

و الزُّهريّ أيضاً عن أبي الزِّناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ خرج أبي شاهراً سيفه راكباً على راحلته إلى وادي القصَّة، فجاء علي ابن أبي طالب فأخذ بزمام راحلته فقال‏:‏ إلى أين يا خليفة رسول الله‏؟‏ أقول لك ما قال رسول الله يوم أحد ‏(‏‏(‏لمَّ سيفك ولا تفجعنا بنفسك‏)‏‏)‏ فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبداً، فرجع وأمضى الجيش‏.‏

وقال سيف بن عمر‏:‏ عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمَّد لمَّا استراح أسامة وجنده، وقد جاءت صدقات كثيرة تفضل عنهم، قطع أبو بكر البعوث، وعقد الألوية فعقد أحد عشر لواء‏:‏ عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة ابن خويلد فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له‏.‏

ولعكرمة ابن أبي جهل وأمره بمسيلمة‏.‏

وبعث شرحبيل بن حسنة في أثره إلى مسيلمة الكذَّاب، ثمَّ إلى بني قضاعة‏.‏

وللمهاجر ابن أبي أمية وأمره بجنود العنسيّ ومعونة الأبناء على قيس بن مكشوح‏.‏

قلت‏:‏ وذلك لأنَّه كان قد نزع يده من الطَّاعة على ما سيأتي‏.‏

قال‏:‏ ولخالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشَّام‏.‏

ولعمرو بن العاص إلى جماع قضاعة، ووديعة، والحارث‏.‏

ولحذيفة بن محصن الغطفانيّ وأمره بأهل دبا، وبعرفجة، وهرثمة وغير ذلك‏.‏

ولطرفة بن حاجب وأمره ببنى سليم ومن معهم من هوازن‏.‏

ولسويد بن مقرن وأمره بتهامة اليمن‏.‏

وللعلاء بن الحضرميّ وأمره بالبحرين - رضي الله عنهم -‏.‏

وقد كتب لكلِّ أمير كتاب عهده على حدته ففصل كل أمير بجنده من ذي القصَّة ورجع الصِّديق إلى المدينة، وقد كتب معهم الصِّديق كتاباً إلى الربذة، وهذه نسخته‏:‏

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى من بلغه كتابي هذا من عامَّة وخاصَّة أقام على إسلامه أو رجع عنه، سلام على من اتَّبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضَّلالة والهوى، فإنِّي أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمَّدا عبده ورسوله، نقرُّ بما جاء به، ونكفِّر من أبى ذلك ونجاهده، أمَّا بعد فإنَّ الله أرسل بالحقِّ من عنده إلى خلقه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً لينذر من كان حياً ويحقَّ القول على الكافرين، فهدى الله بالحقِّ من

أجاب إليه، وضرب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من أدبر عنه حتى صار إلى الإسلام طوعاً وكرهاً، ثمَّ توفى الله رسوله وقد نفَّذ لأمر الله، ونصح لأمَّته، وقضى الذي عليه، وكان الله قد بيَّن له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال للمؤمنين‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ ‏]‏‏.‏

فمن كان إنَّما يعبد محمَّداً فإنَّ محمَّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره منتقم من عدوِّه، وإنِّي أوصيكم بتقوى الله، وحظكم ونصيبكم، وما جاءكم به نبيِّكم صلَّى الله عليه وسلَّم وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإنَّ كلَّ من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعنه الله مخذول، ومن هداه غير الله كان ضالاً، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ ‏]‏‏.‏

ولن يقبل له في الدُّنيا عمل عبد حتى يقرَّ به، ولم يقبل له في الآخرة صرف ولا عدل وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقرَّ بالإسلام، وعمل به اغتراراً بالله، وجهلاً بأمره، وإجابة للشَّيطان، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ ‏]‏‏.‏

وإني بعثت إليكم في جيش من المهاجرين والأنصار والتَّابعين بإحسان، وأمرته أن لا يقبل من أحد إلا الإيمان بالله، ولا يقتله حتى يدعوه إلى الله عزَّ وجلَّ فإن أجاب وأقرَّ وعمل صالحاً قبلَ منه وأعانه عليه، وإن أبى حاربه عليه حتى يفيء إلى أمر الله، ثمَّ لا يبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرِّقهم بالنَّار، وأن يقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النِّساء والذَّراري، ولا يقبل من أحد غير الإسلام، فمن اتَّبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابه في كل مجمع لكم والدَّاعية الأذان، فإذا أذَّن المسلمون فكفُّوا عنهم، وإن لم يؤذِّنوا فسلوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقرُّوا حمل منهم على ما ينبغي لهم، رواه سيف بن عمر عن عبد الله بن سعيد، عن عبد الرَّحمن بن كعب بن مالك‏.‏

فصل في مسيرة الأمراء من ذي القصَّة على ما عوهدوا عليه‏:‏

وكان سيِّد الأمراء ورأس الشُّجعان الصَّناديد أبو سليمان خالد بن الوليد‏.‏

روى الإمام أحمد من طريق وحشي بن حرب أنَّ أبا بكر الصِّديق لمَّا عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الرِّدَّة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سلَّه الله على الكفَّار والمنافقين‏)‏‏)‏‏.‏

ولمَّا توجَّه خالد من ذي القصَّة وفارقه الصِّديق واعده أنَّه سيلقاه من ناحية خيبر بمن معه من الأمراء - وأظهروا ذلك ليرعبوا الأعراب - وأمره أن يذهب أولاً إلى طليحة الأسدي، ثمَّ يذهب بعده إلى بني تميم، وكان طليحة بن خويلد في قومه بني أسد وفي غطفان، وانضمَّ إليهم بنو عبس وذيبان، وبعث إلى بني جديلة، والغوث، وطيء يستدعيهم إليه، فبعثوا أقواماً منهم بين أيديهم ليلحقوا على أثرهم سريعاً، وكان الصِّديق قد بعث عديّ بن حاتم قبل خالد بن الوليد، وقال له‏:‏ أدرك قومك لا يلحقوا بطليحة فيكون دمارهم‏.‏

فذهب عديّ إلى قومه بني طيء فأمرهم أن يبايعوا الصِّديق وأن يراجعوا أمر الله، فقالوا‏:‏ لا نبايع أبا الفضل أبداً - يعنون أبا بكر رضي الله عنه -‏.‏

فقال‏:‏ والله ليأتينَّكم جيش فلا يزالون يقاتلونكم حتى تعلموا أنَّه أبو الفحل الأكبر، ولم يزل عدي يفتل لهم في الذَّروة والغارب حتَّى لانوا، وجاء خالد في الجنود وعلى مقدمة الأنصار الذين معه ثابت بن قيس بن شماس، وبعث بين يديه ثابت بن أقرم، وعكاشة بن محصن، طليعة فتلقَّاهما طليحة وأخوه سلمة فيمن معهما، فلمَّا وجدا ثابتاً وعكاشة تبارزوا فقتل عكاشة جبال بن طليحة، وقيل‏:‏ بل كان قتل جبالاً قبل ذلك، وأخذ ما معه، وحمل عليه طليحة فقتله، وقتل هو وأخوه سلمة ثابت بن أقرم، وجاء خالد بمن معه فوجدوهما صريعين فشقَّ ذلك على المسلمين، وقد قال طليحة في ذلك‏:‏

عَشيَّةَ غَادرتُ ابنَ أقرمَ ثاوياً * وعَكاشَةَ العمِّي تحتَ مجالِ

أقمتَ لهُ صَدرَ الحَمالَةِ إنَّها * معَوَّدَةَ قبلَ الكَمَاةِ نِزالُ

فيومَ تَراهَا في الجَلالِ مَصُونَةً * ويَومَ تَراهَا في ظلالِ عَوالي

وإنْ يكُ أولادٌ أصبنَ وَنسوةٌ * فلمْ يَذهبُّوا فرغاً بقتلِ حِبَالِ

ومال خالد إلى بني طيء، فخرج إليه عديّ بن حاتم فقال‏:‏ أنظرني ثلاثة أيَّام فإنَّهم قد استنظروني حتى يبعثوا إلى من تعجَّل منهم إلى طليحة حتى يرجعوا إليهم، فإنَّهم يخشون إن تابعوك أن يقتل طليحة من سار إليه منهم، وهذا أحبَّ إليك من أن يعجِّلهم إلى النَّار، فلمَّا كان بعد ثلاث، جاءه عدي في خمسمائة مقاتل ممَّن راجع الحقَّ فانضافو إلى جيش خالد، وقصد خالد بني جديلة فقال له‏:‏ يا خالد أجِّلني أيَّاماً حتى آتيهم فلعلَّ الله أن ينقذهم كما أنقذ طيئاً، فأتاهم عديّ فلم يزل بهم حتى تابعوه، فجاء خالداً بإسلامهم ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب، فكان عدي خير مولود وأعظمه بركة على قومه - رضي الله عنهم -‏.‏

قالوا‏:‏ ثمَّ سار خالد حتى نزل بأجأ وسلمى، وعبى جيشه هنالك والتقى مع طليحة الأسدي بمكان يقال له‏:‏ بزاخة، ووقفت أحياء كثيرة من الأعراب ينظرون على من تكون الدَّائرة، وجاء طليحة فيمن معه من قومه ومن التف معهم وانضاف إليهم وقد حضر معه عيينة بن حصن في سبعمائة من قومه بني فزارة، واصطفَّ النَّاس وجلس طليحة ملتفاً في كساء له يتنبأ لهم، ينظر ما يوحى إليه فيما يزعم، وجعل عيينة يقاتل ما يقاتل حتى إذا ضجر من القتال يجيء إلى طليحة وهو ملتف في كسائه فيقول‏:‏ أجاءك جبريل ‏؟‏

فيقول‏:‏ لا، فيرجع فيقاتل، ثمَّ يرجع فيقول له مثل ذلك، ويردَّ عليه مثل ذلك، فلمَّا كان في الثَّالثة قال له‏:‏ هل جاءك جبريل ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فما قال لك ‏؟‏

قال‏:‏ قال لي‏:‏ إنَّ لك رحاء كرحاه، وحديثاً لا تنساه‏.‏

قال‏:‏ يقول عيينة‏:‏ أظنُّ أنَّ قد علم الله سيكون لك حديث لا تنساه‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ يا بني فزارة انصرفوا، وانهزم وانهزم النَّاس عن طليحة، فلمَّا جاءه المسلمون ركب على فرس كان قد أعدَّها له، وأركب امرأته النوَّار على بعير له، ثمَّ انهزم بها إلى الشَّام، وتفرَّق جمعه، وقد قتل الله طائفة ممَّن كان معه، فلمَّا أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع، قالت بنو عامر وسليم وهوازن‏:‏ ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله ورسوله ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا‏.‏

قلت‏:‏ وقد كان طليحة الأسدي ارتدَّ في حياة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فلمَّا مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قام بمؤازرته عيينة بن حصن من بدر وارتدَّ عن الإسلام، وقال لقومه‏:‏ والله لنبيّ من بني أسد، أحبُّ إليَّ من نبيٍّ من بني هاشم، وقد مات محمَّد وهذا طليحة فاتَّبعوه، فوافق قومه بنو فزارة على ذلك، فلمَّا كسرهما خالد هرب طليحة بامرأته إلى الشَّام فنزل على بني كلب، وأسر خالد عيينة بن حصن وبعث به إلى المدينة مجموعة يداه إلى عنقه فدخل المدينة وهو كذلك، فجعل الولدان والغلمان يطعنونه بأيديهم ويقولون‏:‏ أي عدوَّ الله ارتددت عن الإسلام ‏؟‏

فيقول‏:‏ والله ما كنت آمنت قطّ، فلمَّا وقف بين يدي الصِّديق استتابه وحقن دمه، ثمَّ حسن إسلامه بعد ذلك، وكذلك من علي قرة بن هبيرة وكان أحد الأمراء مع طليحة فأسره مع عيينة، وأمَّا طليحة فإنَّه راجع الإسلام بعد ذلك أيضاً، وذهب إلى مكة معتمراً أيَّام الصِّديق، واستحيى أن يواجهه مدَّة حياته، وقد رجع فشهد القتال مع خالد، وكتب الصِّديق إلى خالد أن استشره في الحرب ولا تؤمِّره - يعني‏:‏ معاملته له بنقيض ما كان قصده من الرِّياسة في الباطن - وهذا من فقه الصِّديق - رضي الله عنه وأرضاه -‏.‏

وقد قال خالد بن الوليد لبعض أصحاب طليحة ممَّن أسلم وحسن إسلامه‏:‏ أخبرنا عمَّا كان يقول لكم طليحة من الوحي ‏؟‏

فقال‏:‏ إنَّه كان يقول‏:‏ الحمام واليمام، والصرد والصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغنَّ ملكنا العراق والشَّام إلى غير ذلك من الخرافات والهذيانات السمجة‏.‏

وقد كتب أبو بكر الصِّديق إلى خالد بن الوليد حين جاءه أنَّه كسر طليحة ومن كان في صفِّه وقام بنصره، فكتب إليه ليزدك ما أنعم الله به خيراً، واتَّق الله في أمرك، فإنَّ الله مع الذين اتَّقوا والذين هم محسنون، جدَّ في أمرك ولا تلن، ولا تظفر بأحد من المشركين قتل من المسلمين إلا نكَّلت به، ومن أخذت ممَّن حادَّ الله أو ضادَّه ممَّن بري أنَّ في ذلك صلاحاً فاقتله، فأقام خالد ببزاخة شهراً يصعد فيها ويصوب ويرجع إليها في طلب الذين وصَّاه بسبيهم الصِّديق فجعل يتردَّد في طلب هؤلاء شهراً يأخذ بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين ارتدُّوا، فمنهم من حرَّقه بالنَّار، ومنهم من رضخه بالحجارة، ومنهم من رمى به من شواهق الجبال، كلُّ هذا ليعتبر بهم من يسمع بخبرهم من مرتدَّة العرب رضي الله عنه‏.‏

وقال الثَّوريّ عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال‏:‏ لمَّا قدم وفد بزاخة أسد وغطفان على أبي بكر يسألونه الصُّلح، خيَّرهم أبو بكر بين حرب مجلية أو حطة مخزية‏.‏

فقالوا‏:‏ يا خليفة رسول الله أمَّا الحرب المجلية فقد عرفناها، فما الحطة المخزية ‏؟‏


قال‏:‏ تؤخذ منكم الحلقة والكراع، وتتركون أقواماً يتَّبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة نبيَّه والمؤمنين أمراً يعذرونكم به، وتؤدُّون ما أصبتم منَّا، ولا نؤدِّي ما أصبنا منكم، وتشهدون أنَّ قتلانا في الجنَّة وقتلاكم في النَّار، وتدون قتلانا ولا ندي قتلاكم‏.‏

فقال عمر‏:‏ أمَّا قولك تدون قتلانا فإن قتلانا قتلوا على أمر الله لا ديات لهم، فامتنع عمر وقال عمر في الثَّاني‏:‏ نِعم ما رأيت‏.‏

ورواه البخاري من حديث الثَّوريّ بسنده مختصراً‏.‏

وقعة أخرى‏:‏

كان قد اجتمع طائفة كثيرة من الفلال يوم بزاخة من أصحاب طليحة من بني غطفان، فاجتمعوا إلى امرأة يقال لها‏:‏ أمُّ زمل سلمة بنت ملك بن حذيفة - وكانت من سيدات العرب - كأمِّها أم قرفة، وكان يضرب بأمِّها المثل في الشَّرف لكثرة أولادها وعزَّة قبيلتها وبيتها، فلمَّا اجتمعوا إليها ذمَّرتهم لقتال خالد، فهاجوا لذلك، وناشب إليهم آخرون من بني سليم وطيء وهوازن وأسد، فصاروا جيشاً كثيفاً، وتفحَّل أمر هذه المرأة، فلمَّا سمع بهم خالد بن الوليد سار إليهم، واقتتلوا قتالاً شديداً وهي راكبة على جمل أمِّها الذي كان يقال له‏:‏ من يمس جملها فله مائة من الإبل وذلك لعزِّها، فهزمهم خالد وعقرجملها وقتلها، وبعث بالفتح إلى الصِّديق رضي الله عنه‏.‏

قصَّة الفجاءة‏:‏

واسمه إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عميرة بن خفاف من بني سليم قاله ابن إسحاق، وقد كان الصِّديق حرَّق الفجاءة بالبقيع في المدينة، وكان سببه أنَّه قدم عليه فزعم أنَّه أسلم وسأل منه أن يجهِّز معه جيشاً يقاتل به أهل الرِّدَّة، فجهَّز معه جيشاً فلمَّا سار جعل لا يمر بمسلم ولا مرتد إلا قتله وأخذ ماله، فلمَّا سمع الصِّديق بعث وراءه جيشاً فردَّه، فلمَّا أمكنه بعث به إلى البقيع فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النَّار فحرقه وهو مقموط‏.‏

قصَّة سجاح وبني تميم‏:‏

كانت بنو تميم قد اختلفت آراؤهم أيَّام الرِّدَّة فمنهم من ارتدَّ ومنع الزَّكاة، ومنهم من بعث بأموال الصَّدقات إلى الصِّديق، ومنهم من توقَّف لينظر في أمره، فبينما هم كذلك إذ أقبلت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان التَّغلبية من الجزيرة وهي من نصارى العرب وقد ادَّعت النُّبُّوة ومعها جنود من قومها ومن التف بهم، وقد عزموا على غزو أبي بكر الصِّديق، فلمَّا مرَّت ببلاد بني تميم دعتهم إلى أمرها فاستجاب لها عامَّتهم، وكان ممَّن استجاب لها‏:‏ مالك بن نويرة التَّميميّ، وعطارد بن حاجب، وجماعة من سادات أمراء بني تميم، وتخلَّف آخرون منهم عنها، ثمَّ اصطلحوا على أن لا حرب بينهم إلا أنَّ مالك بن نويرة لمَّا وادعها ثناها عن عودها وحرضها على بني يربوع، ثمَّ اتَّفق الجميع على قتال النَّاس وقالوا‏:‏ بمن نبدأ ‏؟‏

فقالت لهم فيما تسجعه‏:‏ أعدُّوا الرِّكاب، واستعدُّوا للنِّهاب، ثمَّ أغيروا على الرَّباب فليس دونهم حجاب، ثمَّ إنَّهم تعاهدوا على نصرها‏.‏

فقال قائل منهم‏:‏

أَتَتْنَا أُختُ تَغلبٍ في رجالٍ * جَلائبَ من سُراةِ بني أَبينَا

وأَرسَتْ دعوةً فينَا سَفاهاً * وَكانتْ مِنْ عَمَائرَ آخَرينَا

فَمَا كنَّا لِنَرزِيهمْ زبالاً * وَمَا كانتْ لتسلمَ إذْ أَتينَا

أَلا سَفَهَتْ حُلومُكمْ وضلَّتْ * عشيَّةَ تحشدُونَ لها ثُبينَا

وقال عطارد بن حاجب في ذلك‏:‏
أَمسَتْ نبيَّتُنا أُنثى نطيفُ بهَا * وأَصبحَتْ أنْبياءُ النَّاسِ ذُكرانَا

ثمَّ إنَّ سجاح قصدت بجنودها اليمامة لتأخذها من مسيلمة بن حبيب الكذَّاب فهابه قومها وقالوا‏:‏ إنَّه قد استفحل أمره وعظم‏.‏

فقالت لهم فيما تقوله‏:‏ عليكم باليمامة، دفُّوا دفيف الحمامة، فإنَّها غزوة صرامة، لا تلحقكم بعدها ملامة‏.‏

قال‏:‏ فعمدوا لحرب مسيلمة، فلمَّا سمع بمسيرها إليه خافها على بلاده، وذلك أنَّه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال، وقد ساعده عكرمة ابن أبي جهل بجنود المسلمين، وهم نازلون ببعض بلاده ينتظرون قدوم خالد كما سيأتي‏.‏

فبعث إليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الأرض الذي كان لقريش لو عدلت، فقد ردَّه الله عليك فحباك به، وراسلها ليجتمع بها في طائفة من قومه فركب إليها في أربعين من قومه، وجاء إليها فاجتمعا في خيمة فلمَّا خلا بها وعرض عليها ما عرض من نصف الأرض وقبلت ذلك‏.‏

قال مسيلمة‏:‏ سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذا طمع، ولا يزال أمره في كل ما يسَّر مجتمع، رآكم ربُّكم فحيَّاكم، ومن وحشته أخلاكم، ويوم دينه أنجاكم فأحياكم، علينا من صلوات معشر أبرار لا أشقياء ولا فجَّار، يقومون اللَّيل ويصومون النَّهار، لربِّكم الكبَّار، ربِّ الغيوم والأمطار‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ لمَّا رأيت وجوههم حسنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت‏.‏

قلت لهم‏:‏ لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنَّكم معشر أبرار تصومون، فسبحان الله إذا جاءت الحياة كيف تحيون، وإلى ملك السَّماء كيف ترقون، فلو أنها حبة خردلة لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور‏.‏

وقد كان مسيلمة - لعنه الله - شرع لمن اتَّبعه أن الأعزب يتزوج فإذا ولد له ذكر فيحرم عليه النِّساء حينئذ إلا أن يموت ذلك الولد الذَّكر فتحلُّ له النِّساء حتى يولد له ذكر، هذا مما اقترحه - لعنه الله - من تلقاء نفسه‏.‏

ويقال‏:‏ إنَّه لمَّا خلا بسجاح سألها ماذا يوحى إليها ‏؟‏

فقالت‏:‏ وهل يكون النِّساء يبتدئن بل أنت ماذا أوحي إليك ‏؟‏

فقال‏:‏ ألم تر إلى ربِّك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشا‏.‏

فقالت‏:‏ أشهد أنَّك نبيّ‏.‏

فقال لها‏:‏ هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب‏.‏

قالت‏:‏ نعم‏.‏

وأقامت عنده ثلاثة أيَّام، ثمَّ رجعت إلى قومها‏.‏

فقالوا‏:‏ ما أصدقك ‏؟‏

فقالت‏:‏ لم يصدقني شيئاً‏.‏

فقالوا‏:‏ إنَّه قبيح على مثلك أن تتزوج بغير صداق‏.‏

فبعثت إليه تسأله صداقاً‏.‏

فقال‏:‏ أرسلي إليَّ مؤذنك، فبعثته إليه وهو شبت بن ربعي‏.‏

فقال‏:‏ ناد في قومك إنَّ مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين ممَّا أتاكم به محمَّد - يعني‏:‏ صلاة الفجر، وصلاة العشاء الآخرة - فكان هذا صداقها عليه - لعنهما الله -‏.‏

ثمَّ انثنت سجاح راجعة إلى بلادها وذلك حين بلغها دنو خالد من أرض اليمامة، فكرَّت راجعة إلى الجزيرة بعد ما قبضت من مسيلمة نصف خراج أرضه، فأقامت في قومها بني تغلب إلى زمان معاوية، فأجلاهم منها عام الجماعة كما سيأتي بيانه في موضعه‏.‏

فصل في خبر مالك بن نويرة اليربوعي التَّميمي‏:‏

كان قد صانع سجاح حين قدمت من أرض الجزيرة فلمَّا اتَّصلت بمسيلمة - لعنهما الله - ثمَّ ترحَّلت إلى بلادها، فلمَّا كان ذلك ندم مالك بن نويرة على ما كان من أمره، وتلوَّم في شأنه وهو نازل بمكان يقال له‏:‏ البطاح، فقصدها خالد بجنوده وتأخَّرت عنه الأنصار وقالوا‏:‏ إنَّا قد قضينا ما أمرنا به الصِّديق‏.‏

فقال لهم خالد‏:‏ إنَّ هذا أمر لابدَّ من فعله وفرصة لا بدَّ من انتهازها وإنَّه لم يأتني فيها كتاب وأنا الأمير، وإليَّ تردُّ الأخبار، ولست بالذي أجبركم على المسير، وأنا قاصد البطاح فسار يومين، ثمَّ لحقه رسول الأنصار يطلبون منه الانتظار فلحقوا به، فلمَّا وصل البطاح وعليها مالك بن نويرة فبث خالد السَّرايا في البطاح يدعون النَّاس فاستقبله أمراء بني تميم بالسَّمع والطَّاعة وبذلوا الزَّكوات إلا ما كان من مالك بن نويرة فإنَّه متحير في أمره، متنح عن النَّاس فجاءته السَّرايا فأسروه وأسروا معه أصحابه، واختلفت السَّرية فيهم فشهد أبو قتادة الحرث بن ربعي الأنصاري أنَّهم أقاموا الصَّلاة، وقال آخرون‏:‏ إنَّهم لم يؤذِّنوا ولا صلُّوا‏.‏

فيقال‏:‏ إن الأسارى باتوا في كبولهم في ليلة شديدة البرد، فنادى منادي خالد‏:‏ أن أدفئوا أسراكم، فظنَّ القوم أنَّه أراد القتل فقتلوهم وقتل ضرار بن الأزور مالك بن نويرة، فلمَّا سمع الدَّاعية خرج وقد فرغوا منهم، فقال‏:‏ إذا أراد الله أمراً أصابه واصطفى خالد امرأة مالك بن نويرة وهي أم تميم ابنة المنهال وكانت جملية، فلمَّا حلت بني بها، ويقال‏:‏ بل استدعى خالد مالك بن نويرة فأنَّبه على ما صدر منه من متابعة سجاح، وعلى منعه الزَّكاة وقال‏:‏ ألم تعلم أنها قرينة الصَّلاة ‏؟‏

فقال مالك‏:‏ إنَّ صاحبكم كان يزعم ذلك‏.‏

فقال‏:‏ أهو صاحبنا وليس بصاحبك يا ضرار إضرب عنقه، فضربت عنقه، وأمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثَّلاثة قدرا فأكل منها خالد تلك اللَّيلة ليرهب بذلك الأعراب من المرتدَّة وغيرهم‏.‏

ويقال‏:‏ إنَّ شعر مالك جعلت النَّار تعمل فيه إلى أن نضج لحم القدر، ولم تفرغ الشَّعر لكثرته‏.‏

وقد تكلَّم أبو قتادة مع خالد فيما صنع وتقاولا في ذلك حتى ذهب أبو قتادة فشكاه إلى الصِّديق، وتكلَّم عمر مع أبي قتادة في خالد وقال للصِّديق‏:‏ إعزله فإنَّ في سيفه رهقاً‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ لا أشيم سيفاً سلَّه الله على الكفَّار‏.‏

وجاء متمم بن نويرة فجعل يشكو إلى الصِّديق خالداً وعمر يساعده، وينشد الصِّديق ما قال في أخيه من المراثي، فوداه الصِّديق من عنده‏.‏

ومن قول متمم في ذلك‏:‏

وكنَّا كَنَدْمَانى جُذيمَةَ بُرهةً * مِنَ الدَّهر حتى قيلَ لنْ يَتَصَدَّعا

فلمَّا تفرَّقنا كأنِّي وَمالكاً * لطولِ اجْتِمَاع لم نبتْ ليلةٍ معاً


وقال أيضا‏:‏

لقَد لامَني عِنْدَ العُبورِ عَلى البُكَى * رَفْيقِي لتذرَافِ الدُّموعِ السَّوافِكِ

وقال أتَبْكِي كلَّ قبرٍ رأيتَهُ * لقَبرٌ ثَوى بين اللِّوى فَالدكَادِكِ

فقلتُ لهُ إنَّ الأسَى يبعثُ الأسَى * فدَعْني فهذا كلَّه قبرُ مَالِكِ

والمقصود أنَّه لم يزل عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يحرِّض الصِّديق ويذمِّره على عزل خالد عن الإمرة ويقول‏:‏ إنَّ في سيفه لرهقاً، حتَّى بعث الصِّديق إلى خالد بن الوليد فقدم عليه المدينة وقد لبس درعه التي من حديد وقد صدئ من كثرة الدِّماء، وغرز في عمامته الَّنشاب المضمَّخ بالدِّماء

فلمَّا دخل المسجد قام إليه عمر بن الخطَّاب فانتزع الأسهم من عمامة خالد فحطَّمها وقال‏:‏ أرياء قتلت امرأً مسلماً، ثمَّ نزوت على امرأته، والله لارجمنَّك بالجنادل وخالد لا يكلِّمه ولا يظنَّ إلا أنَّ رأي الصِّديق فيه كرأي عمر، حتى دخل على أبي بكر فاعتذر إليه فعذره وتجاوز عنه ما كان منه في ذلك، وودى مالك بن نويرة، فخرج من عنده وعمر جالس في المسجد فقال خالد‏:‏ هلمَّ إليَّ يا ابن أم شملة، فلم يردَّ عليه وعرف أنَّ الصِّديق قد رضي عنه‏.‏

واستمرَّ أبو بكر بخالد على الإمرة وإن كان قد اجتهد في قتل مالك بن نويرة وأخطأ في قتله كما أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا بعثه إلى أبي جذيمة فقتل أولئك الأسارى الذين قالوا‏:‏ صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا‏:‏ أسلمنا، فوداهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى ردَّ إليهم ميلغة الكلب، ورفع يديه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم إنِّي أبرأ إليك مما صنع خالد‏)‏‏)‏ ومع هذا لم يعزل خالدا عن الإمرة‏.‏

مقتل مسيلمة الكذَّاب - لعنه الله -‏:‏

لمَّا رضي الصِّديق عن خالد بن الوليد وعذره بما اعتذر به بعثه إلى قتال بني حنيفة باليمامة وأوعب معه المسلمون وعلى الأنصار ثابت بن قيس بن شمَّاس، فسار لا يمرُّ بأحدٍ من المرتدِّين إلا نكَّل بهم، وقد اجتاز بخيول لأصحاب سجاح فشرَّدهم وأمر بإخراجهم من جزيرة العرب، وأردف الصِّديق خالداً بسرية لتكون ردءاً له من وراءه، وقد كان بعث قبله إلى مسيلمة عكرمة ابن أبي جهل، وشرحبيل بن حسنة فلم يقاوما بني حنيفة لأنَّهم في نحو أربعين ألفاً من المقاتلة، فعجَّل عكرمة ابن أبي جهل مجيء صاحبه شرحبيل فناجزهم فنكب فانتظر خالداً، فلمَّا سمع مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له‏:‏ عقربا في طرف اليمامة والريف وراء ظهورهم، وندب النَّاس وحثَّهم فحشد له أهل اليمامة، وجعل على مجنبتي جيشة المحكم بن الطّفيل، والرَّجْال بن عنفوة بن نهشل، وكان الرَّجْال هذا صديقه الذي شهد له أنَّه سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ إنَّه قد أشرك معه مسيلمة بن حبيب في الأمر وكان هذا الملعون من أكبر ما أضلَّ أهل اليمامة حتى اتَّبعوا مسيلمة - لعنهما الله -‏.‏

وقد كان الرَّجْال هذا قد وفد إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقرأ البقرة وجاء زمن الرِّدَّة إلى أبي بكر فبعثه إلى أهل اليمامة يدعوهم إلى الله ويثبِّتهم على الإسلام، فارتدَّ مع مسيلمة وشهد له بالنُّبُّوة‏.‏

قال سيف بن عمر‏:‏ عن طلحة، عن عكرمة، عن أبي هريرة كنت يوماً عند النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في رهط معنا الرَّجْال بن عنفوة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ فيكم لرجلاً ضرسه في النَّار أعظم من أحد‏)‏‏)‏‏.‏

فهلك القوم وبقيت أنا والرَّجْال وكنت متخوفاً لها، حتى خرج الرَّجْال مع مسيلمة وشهد له بالنُّبُّوة فكانت فتنة الرَّجْال أعظم من فتنة مسيلمة، رواه ابن إسحاق عن شيخ، عن أبي هريرة، وقرب خالد وقد جعل على المقدِّمة شرحبيل بن حسنة، وعلى المجنبتين زيداً وأبا حذيفة، وقد مرَّت المقدِّمة في اللَّيل بنحو من أربعين، وقيل‏:‏ ستِّين فارساً عليهم مجاعة بن مرارة، وكان قد ذهب لأخذ ثأر له في بني تميم وبني عامر وهو راجع إلى قومه فأخذوهم، فلمَّا جيء بهم إلى خالد عن آخرهم فاعتذروا إليه فلم يصدِّقهم وأمر بضرب أعناقهم كلَّهم سوى مجاعة، فإنَّه استبقاه مقيداً عنده لعلمه بالحرب والمكيدة، وكان سيداً في بني حنيفة شريفاً مطاعاً، ويقال‏:‏ إنَّ خالداً لمَّا عرضوا عليه قال لهم‏:‏ ماذا تقولون يا بني حنيفة ‏؟‏

قالوا‏:‏ نقول منَّا نبيّ ومنكم نبيّ فقتلهم إلا واحدا اسمه سارية، فقال له‏:‏ أيُّها الرَّجل إن كنت تريد عداً بعدول هذا خيراً أو شراً فاستبق هذا الرَّجل - يعني‏:‏ مجاعة بن مرارة - فاستبقاه خالد مقيداً وجعله في الخيمة مع امرأته، وقال‏:‏ استوصي به خيراً‏.‏

فلمَّا تواجه الجيشان قال مسيلمة لقومه‏:‏ اليوم يوم الغيرة اليوم إن هزمتم تستنكح النِّساء سبيَّات وينكحن غير حظيات فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم، وتقدَّم المسلمون حتى نزل بهم خالد على كثيب يشرف على اليمامة فضرب به عسكره، وراية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس، والعرب على راياتها، ومجاعة بن مرارة مقيَّد في الخيمة مع أم تميم امرأة خالد، فاصطدم المسلمون والكفَّار فكانت جولة وانهزمت الأعراب حتَّى دخلت بنو حنيفة خيمة‏.‏‏.‏ خالد بن الوليد وهمُّوا بقتل أم تميم، حتى أجارها مجاعة وقال‏:‏ نعمت الحرَّة هذه، وقد قُتل الرَّجْال بن عنفوة - لعنه الله - في هذه الجولة قتله زيد بن الخطَّاب، ثمَّ تذامر الصَّحابة بينهم، وقال ثابت بن قيس بن شماس‏:‏ بئس ما عوَّدتم أقرانكم ونادوا من كل جانب أخلصنا يا خالد، فخلصت ثلَّة من المهاجرين والأنصار وحمى البراء بن معرور وكان إذا رأى الحرب أخذته العرواء فيجلس على ظهر الرِّحال حتى يبول في سراويله، ثمَّ يثور كما يثور الأسد، وقاتلت بنو حنيفة قتالاً لم يعهد مثله، وجعلت الصَّحابة يتواصون بينهم ويقولون‏:‏ يا أصحاب سورة البقرة بطل السِّحر اليوم، وحفر ثابت ابن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقية وهو حامل لواء الأنصار بعد ما تحنَّط وتكفَّن فلم يزل ثابتاً حتى قتل هناك‏.‏

وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة‏:‏ أتخشى أن نؤتى من قبلك

فقال‏:‏ بئس حامل القرآن أنا إذاً‏.‏

وقال زيد بن الخطَّاب‏:‏ أيُّها النَّاس عضُّوا على أضراسكم، واضربوا في عدوِّكم وامضوا قدماً‏.‏

وقال‏:‏ والله لا أتكلَّم حتى يهزمهم الله، أو ألقى الله فأكلِّمه بحجَّتي، فقتل شهيداً رضي الله عنه‏.‏

وقال أبو حذيفة‏:‏ يا أهل القرآن زيِّنوا القرآن بالفعال، وحمل فيهم حتى أبعدهم وأصيب رضي الله عنه‏.‏

وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم وسار لجبال مسيلمة وجعل يترقَّب أن يصل إليه فيقتله، ثمَّ رجع، ثمَّ وقف بين الصَّفين ودعا البراز وقال‏:‏ أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد، ثمَّ نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ‏:‏ يا محمَّداه، وجعل لا يبرز لهم أحد إلا قتله، ولا يدنو منه شيء إلا أكله، ودارت رحى المسلمين، ثمَّ اقترب من مسيلمة فعرض عليه النِّصف والرُّجوع إلى الحقِّ فجعل شيطان مسيلمة يلوي عنقه لا يقبل منه شيئاً، وكلَّما أراد مسيلمة يقارب من الأمر صرفه عنه شيطانه، فانصرف عنه خالد وقد ميَّز خالد المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وكل بني أب على رايتهم يقاتلون تحتها حتى يعرف النَّاس من أين يؤتون، وصبرت الصَّحابة في هذا الموطن صبراً لم يعهد مثله ولم يزالوا يتقدَّمون إلى نحور عدوِّهم حتى فتح الله عليهم، وولَّى الكفَّار الأدبار، واتَّبعوهم يقتلون في أقفائهم ويضعون السيوف في رقابهم حيث شاءوا، حتَّى ألجأوهم إلى حديقة الموت، وقد أشار عليهم محكم اليمامة وهم محكم بن الطّفيل - لعنه الله - بدخولها فدخلوها، وفيها عدوَّ الله مسيلمة - لعنه الله -‏.‏

وأدرك عبد الرَّحمن ابن أبي بكر محكم بن الطّفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله، وأغلقت بنو حنيفة الحديقة عليهم وأحاط بهم الصَّحابة، وقال البراء بن مالك‏:‏ يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة، فاحتملوه فوق الجحف ورفعوها بالرِّماح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه ودخل المسلمون الحديقة من حيطانها وأبوابها يقتلون من فيها من المرتدَّة من أهل اليمامة حتى خلصوا إلى مسيلمة - لعنه الله - وإذا هو واقف في ثلمة جدار كأنَّه جمل أورق، وهو يريد يتساند لا يعقل من الغيظ، وكان إذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزَّبد من شدقيه فتقدَّم إليه وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم قاتل حمزة فرماه بحربته فأصابه وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه أبو دجانة سماك بن خرشة فضربه بالسَّيف فسقط، فنادت امرأة من القصر‏:‏ واأمير الوضاءة قتله العبد الأسود‏.‏


فكان جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركة قريباً من عشرة آلاف مقاتل، وقيل‏:‏ أحد وعشرون ألفاً، وقتل من المسلمين ستُّمائة، وقيل‏:‏ خمسمائة، فالله أعلم، وفيهم من سادات الصَّحابة وأعيان النَّاس من يذكر بعد‏.‏

وخرج خالد وتبعه مجاعة بن مرارة يرسف في قيوده فجعل يريه القتلى ليعرِّفه بمسيلمة، فلمَّا مرُّوا بالرَّجْال بن عنفوة قال له خالد‏:‏ أهذا هو ‏؟‏

قال‏:‏ لا والله هذا خير منه، هذا الرَّجْال بن عنفوة‏.‏

قال سيف بن عمر‏:‏ ثمَّ مرُّوا برجل أصفر أخنس فقال‏:‏ هذا صاحبكم‏.‏

فقال خالد‏:‏ قبَّحكم الله على اتِّباعكم هذا، ثمَّ بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي، ثمَّ عزم على غزو الحصون ولم يكن بقي فيها إلا النِّساء والصِّبيان والشُّيوخ الكبار فخدعه مجاعة فقال‏:‏ أنَّها ملأى رجالاً ومقاتلة، فهلمَّ فصالحني عنها‏.‏

فصالحه خالد لما رأى بالمسلمين من الجهد وقد كلُّوا من كثرة الحروب والقتال‏.‏

فقال‏:‏ دعني حتى أذهب إليهم ليوافقوني على الصُّلح‏.‏

فقال‏:‏ إذهب، فسار إليهم مجاعة فأمر النِّساء أن يلبسن الحديد ويبرزن على رؤوس الحصون، فنظر خالد فإذا الشُّرفات ممتلئة من رؤوس النَّاس فظنَّهم كما قال مجاعة، فانتظر الصُّلح ودعاهم خالد إلى الإسلام فأسلموا عن آخرهم، ورجعوا إلى الحقِّ، وردَّ عليهم خالد بعض ما كان أخذ من السَّبي وساق الباقين إلى الصِّديق، وقد تسرَّى علي ابن أبي طالب بجارية منهم وهي أمُّ ابنه محمَّد الذي يقال له‏:‏ محمَّد ابن الحنفية رضي الله عنه‏.‏

وقد قال ضرار بن الأزور في غزوة اليمامة هذه‏:‏

فَلَو سُئِلَتْ عنَّا جنوبٌ لأخْبرَتْ * عَشِيَةَ سالت عَقربَاءُ ومُلْهَمُ

وسَالَ بِفَرعِ الوَادِ حتى تَرَقْرَتْ * حِجَارَتَهُ فيه من القَومِ بالدَّمِ

عشيَّةَ لا تُغني الرِّماحُ مَكَانها * ولا النَّبْلُ إلا المشرفي المُصَمَمِ

فإنْ تَبْتَغِي الكَفَار غيرَ مسيلمةٍ * جنوبَ فإنِّي تابعٌ الدِّينِ مُسْلِمُ

أجاهدُ إذ كان الجهادُ غَنيمةً * وللهِ بالمرءِ المجاهدِ أعلَم

وقد قال خليفة بن حناط ومحمَّد بن جرير وخلق من السَّلف‏:‏ كانت وقعة اليمامة في سنة إحدى عشرة‏.‏

وقال ابن قانع‏:‏ في آخرها‏.‏

وقال الواقديّ وآخرون‏:‏ كانت في سنة اثنتي عشرة، والجمع بينها أنَّ ابتداءها في سنة إحدى عشرة والفراغ منها في سنة اثنتي عشرة، والله أعلم‏.‏

ولمَّا قدمت وفود بني حنيفة على الصِّديق قال لهم‏:‏ أسمعونا شيئاً من قرآن مسيلمة‏.‏

فقالوا‏:‏ أوتعفينا يا خليفة رسول الله ‏؟‏

فقال‏:‏ لا بدَّ من ذلك‏.‏


فقالوا‏:‏ كان يقول‏:‏ يا ضفدع بنت الضِّفدعين، نقِّي لكم نقِّين، لا الماء تكدِّرين ولا الشَّارب تمنعين، رأسك في الماء وذنبك في الطِّين‏.‏

وكان يقول‏:‏ والمبذِّرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذَّاريات قمحاً، والطَّاحنات طحناً، والخابزات خبزاً، والثَّاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، إهالة وسمناً، لقد فضِّلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، رفيقكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والنَّاعي فواسوه، وذكروا أشياء من هذه الخرافات التي يأنف من قولها الصِّبيان وهم يلعبون‏.‏

فيقال إنَّ الصِّديق قال لهم‏:‏ ويحكم أين كان يذهب بعقولكم، إنَّ هذا الكلام لم يخرج من أل‏.‏

وكان يقول‏:‏ والفيل وما أدراك ما الفيل، له زلُّوم طويل‏.‏

وكان يقول‏:‏ واللَّيل الدَّامس، والذِّئب الهامس، ما قطعت أسد من رطب ولا يابس‏.‏

وتقدَّم قوله‏:‏ لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى، وأشياء من هذا الكلام السَّخيف الرَّكيك، البارد السَّميج‏.‏

وقد أورد أبو بكر ابن الباقلاني رحمه الله في كتابه ‏(‏إعجاز القرآن‏)‏ أشياء من كلام هؤلاء الجهلة المتنبِّئين كمسيلمة، وطليحة، والأسود، وسجاح، وغيرهم ممَّا يدلُّ على ضعف عقولهم وعقول من اتَّبعهم على ضلالهم ومحالِّهم‏.‏

وقد روينا عن عمرو بن العاص أنَّه وفد إلى مسيلمة في أيَّام جاهليته فقال له مسيلمة‏:‏ ماذا أنزل على صاحبكم في هذا الحين ‏؟‏

فقال له عمرو‏:‏ لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة‏.‏

فقال‏:‏ وما هي ‏؟‏

قال‏:‏ أنزل عليه ‏(‏‏(‏والعصر إنَّ الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات وتواصوا بالحقِّ وتواصوا بالصَّبر‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ففكَّر مسيلمة ساعة، ثمَّ رفع رأسه فقال‏:‏ ولقد أنزل على مثلها‏.‏

فقال له عمرو‏:‏ وما هي ‏؟‏

فقال مسيلمة‏:‏ ياوبر ياوبر، إنَّما أنت إيراد وصدر، وسائرك حفر نقر‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ كيف ترى يا عمرو ‏؟‏

فقال له عمرو‏:‏ والله إنَّك لتعلم أنِّي أعلم أنَّك تكذب‏.‏

وذكر علماء التَّاريخ أنَّه كان يتشبَّه بالنَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم-‏.‏

بلغه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بصق في بئر فغزر ماؤه، فبصق في بئر فغاض ماؤه بالكلِّية، وفي أخرى فصار ماؤه أجاجا‏.‏

وتوضأ وسقى بوضوئه نخلاً فيبست وهلكت، وأتى بولدان يبرِّك عليهم فجعل يمسح رؤوسهم فمنهم من قرع رأسه، ومنهم من لثغ لسانه‏.‏


ويقال‏:‏ إنَّه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه فمسحهما فعمي‏.‏

وقال سيف بن عمر‏:‏ عن خليد بن زفر النمريّ، عن عمير بن طلحة، عن أبيه أنَّه جاء إلى اليمامة فقال‏:‏ أين مسيلمة ‏؟‏

فقال‏:‏ مه، رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ لا حتى أراه‏.‏

فلما جاء قال‏:‏ أنت مسيلمة ‏؟‏

فقال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ من يأتيك ‏؟‏

قال‏:‏ رجس‏.‏

قال‏:‏ أفي نور أو في ظلمة ‏؟‏

فقال‏:‏ في ظلمة‏.‏

فقال‏:‏ أشهد أنَّك كذَّاب وإنَّ محمَّداً صادق، ولكن كذَّاب ربيعة أحبُّ إلينا من صادق مضر، واتَّبعه هذا الأعرابي الجلف - لعنه الله - حتى قتل معه يوم عقربا - لا رحمه الله -‏.‏

كان من خبرهم أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان قد بعث العلاء بن الحضرميّ إلى ملكها المنذر بن ساوى العبديّ وأسلم على يديه، وأقام فيهم الإسلام والعدل، فلمَّا توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم توفِّي المنذر بعده بقليل، وكان قد حضر عنده في مرضه عمرو بن العاص، فقال له‏:‏ يا عمرو هل كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يجعل للمريض شيئاً من ماله ‏؟‏

ذكر ردَّة أهل البحرين وعودهم إلى الإسلام‏:‏

قال‏:‏ نعم، الثلث‏.‏

قال‏:‏ ماذا أصنع به ‏؟‏

قال‏:‏ إن شئت تصدَّقت به على أقربائك، وإن شئت على المحاويج، وإن شئت جعلته صدقة من بعدك حبساً محرماً‏.‏

فقال‏:‏ إنِّي أكره إن أجعله كالبحيرة، والسَّائبة، والوصيلة، والحام، ولكنِّي أتصدَّق به ففعل ومات، فكان عمرو بن العاص يتعجَّب منه‏.‏

فلمَّا مات المنذر ارتدَّ أهل البحرين وملَّكوا عليهم الغرور - وهو المنذر ابن النُّعمان بن المنذر -‏.‏

وقال قائلهم‏:‏ لو كان محمَّد نبياً ما مات، ولم يبق بها بلدة على الثَّبات سوى قرية يقال لها‏:‏ جواثا، كانت أوَّل قرية أقامت الجمعة من أهل الرِّدَّة كما ثبت ذلك في البخاري عن ابن عبَّاس، وقد حاصرهم المرتدُّون، وضيَّقوا عليهم حتى منعوا من الأقوات وجاعوا جوعاً شديداً حتَّى فرَّج الله‏.‏

وقد قال رجل منهم يقال له‏:‏ عبد الله بن حذف أحد بني بكر بن كلاب وقد اشتدَّ عليه الجوع‏:‏


ألا أَبْلِغْ أبَا بَكْرٍ رَسُولا * وَفتيانِ المدينَةِ أجمعينَا

فَهَلْ لَكُمْ إلى قِومٍ كرامٍ * قعودٌ في جَواثا محصرينَا

كأنَّ دِماءهُمْ في كلِّ فجِّ * شعاعَ الشَّمسِ يغشَى النَّاظرينَا

توكَّلنَا على الرَّحمن إنَّا * قَدْ وَجَدْنَا الصَّبر للمتَوَكِّلينَا

وقد قام فيهم رجل من أشرافهم وهو الجارود بن المعلى وكان ممَّن هاجروا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خطيباً وقد جمعهم قال‏:‏ يا معشر عبد القيس إنِّي سائلكم عن أمر فأخبروني إن علمتوه ولا تجيبوني إن لم تعلموه‏.‏

فقالوا‏:‏ سل‏.‏

قال‏:‏ أتعلمون أنَّه كان لله أنبياء قبل محمَّد ‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ تعلمونه أم ترونه ‏؟‏

قالوا‏:‏ نعلمه‏.‏

قال‏:‏ فما فعلوا ‏؟‏

قالوا‏:‏ ماتوا‏.‏

قال‏:‏ فإنَّ محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم مات كما ماتوا، وإنِّي أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله‏.‏

فقالوا‏:‏ ونحن أيضاً نشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، وأنت أفضلنا وسيدنا، وثبتوا على إسلامهم، وتركوا بقية النَّاس فيما هم فيه‏.‏

وبعث الصِّديق رضي الله عنه كما قدَّمنا إليهم العلاء بن الحضرميّ فلمَّا دنا من البحرين جاء إليه ثمامة بن أثال في محفل كبير وجاء كلُّ أمراء تلك النَّواحي فانضافوا إلى جيش العلاء بن الحضرميّ، فأكرمهم العلاء وترحَّب بهم، وأحسن إليهم، وقد كان العلاء من سادات الصَّحابة العلماء العبَّاد مجابي الدَّعوة، اتَّفق له في هذه الغزوة أنَّه نزل منزلاً فلم يستقر النَّاس على الأرض حتى نفرت الإبل بما عليها من زاد الجيش، وخيامهم وشرابهم، وبقوا على الأرض ليس معهم شيء سوى ثيابهم وذلك ليلاً، ولم يقدروا منها على بعير واحد، فركب النَّاس من الهمِّ والغمِّ ما لا يحدُّ ولا يوصف، وجعل بعضهم يوصي إلى بعض فنادى منادي العلاء فاجتمع النَّاس إليه فقال‏:‏ أيُّها النَّاس ألستم المسلمين‏؟‏ ألستم في سبيل الله‏؟‏ ألستم أنصار الله ‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فأبشروا فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم، ونودي بصلاة الصُّبح حين طلع الفجر، فصلَّى بالنَّاس فلمَّا قضى الصَّلاة جثا على ركبتيه، وجثا النَّاس ونصب في الدُّعاء ورفع يديه، وفعل النَّاس مثله حتى طلعت الشَّمس، وجعل النَّاس ينظرون إلى سراب الشَّمس يلمع مرَّة بعد أخرى، وهو يجتهد في الدُّعاء فلمَّا بلغ الثَّالثة إذا قد خلق الله إلى جانبهم غديراً عظيماً من الماء القراح، فمشى ومشى النَّاس إليه فشربوا واغتسلوا، فما تعالى النَّهار حتى أقبلت الإبل من كل فج بما عليها لم يفقد النَّاس من أمتعتهم سلكاً، فسقوا الإبل عللاً بعد نهل، فكان هذا ممَّا عاين النَّاس من آيات الله بهذه السَّرية‏.‏

ثمَّ لمَّا اقترب من جيوش المرتدَّة وقد حشدوا وجمعوا خلقاً عظيماً نزل ونزلوا وباتوا متجاورين في المنازل، فبينما المسلمون في اللَّيل إذ سمع العلاء أصواتاً عالية في جيش المرتدِّين، فقال‏:‏ من رجل يكشف لنا خبر هؤلاء‏؟‏

فقام عبد الله ابن حذف فدخل فيهم فوجدهم سكارى لا يعقلون من الشَّراب، فرجع إليه فأخبره، فركب العلاء من فوره والجيش معه فكبسوا أولئك فقتلوهم قتلاً عظيماً وقلَّ من هرب منهم واستولى على جميع أموالهم، وحواصلهم، وأثقالهم، فكانت غنيمةً عظيمةً جسيمةً، وكان الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة من سادات القوم نائماً، فقام دهشاً حين اقتحم المسلمون عليهم فركب جواده فانقطع ركابه فجعل يقول‏:‏ من يصلح لي ركابي‏؟‏

فجاء رجل من المسلمين في اللَّيل فقال‏:‏ أنا أصلحها لك، إرفع رجلك فلمَّا رفعها ضربه بالسَّيف فقطعها مع قدمه، فقال له‏:‏ أجهز عليَّ‏.‏

فقال‏:‏ لا أفعل، فوقع صريعاً كلَّما مرَّ به أحد يسأله أن يقتله فيأبى، حتى مرَّ به قيس بن عاصم فقال له‏:‏ أنا الحطم فاقتلني

فقتله فلمَّا وجد رجله مقطوعة ندم على قتله وقال‏:‏ واسوأتاه لو أعلم ما به لم أحرِّكه‏.‏

ثمَّ ركب المسلمون في آثار المنهزمين يقتلونهم بكلِّ مرصدٍ وطريق، وذهب من فرَّ منهم أو أكثرهم في البحر إلى دارين ركبوا إليها السُّفن‏.‏

ثمَّ شرع العلاء بن الحضرميّ في قسم الغنيمة ونقل الأثقال وفرغ من ذلك، وقال للمسلمين‏:‏ إذهبوا بنا إلى دارين لنغزو من بها من الأعداء، فأجابوا إلى ذلك سريعاً فسار بهم حتى أتى ساحل البحر ليركبوا في السُّفن، فرأى أنَّ الشَّقة بعيدة لا يصلون إليهم في السُّفن حتى يذهب أعداء الله، فاقتحم البحر بفرسه وهو يقول‏:‏ يا أرحم الرَّاحمين، يا حكيم، يا كريم، يا أحد، يا صمد، يا حي، يامحيي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت يا ربنا، وأمر الجيش أن يقولوا ذلك ويقتحموا، ففعلوا ذلك فأجاز بهم الخليج بإذن الله يمشون على مثل رملة دمثة فوقها ماء لا يغمر أخفاف الإبل، ولا يصل إلى ركب الخيل، ومسيرته للسُّفن يوم وليلة، فقطعه إلى السَّاحل الآخر، فقاتل عدوَّه وقهرهم واحتاز غنائمهم، ثمَّ رجع فقطعه إلى الجانب الآخر، فعاد إلى موضعه الأوَّل وذلك كلَّه في يوم، ولم يترك من العدوِّ مخبراً، واستاق الذَّراري، والأنعام، والأموال، ولم يفقد المسلمون في البحر شيئاً سوى عليقة فرس لرجل من المسلمين، ومع هذا رجع العلاء فجاءه بها‏.‏

ثمَّ قسَّم غنائم المسلمين فيهم فأصاب الفارس ألفين، والرَّاجل ألفاً مع كثرة الجيش، وكتب إلى الصِّديق فأعلمه بذلك، فبعث الصِّديق يشكره على ما صنع‏.‏

وقد قال رجل من المسلمين في مرورهم في البحر وهو عفيف بن المنذر‏:‏

ألمْ تَرَ أنَّ اللهَ ذَلَّلَ بحرهُ * وأَنْزَلَ بالكفَّارِ إحدى الجَلائِلِ

دَعَونَا إلى شَقِّ البِحارِ فَجاءنَا * بأَعجبِ من فلقِ البِحارِ الأوائلِ

وقد ذكر سيف بن عمر التَّميميّ أنَّه كان مع المسلمين في هذه المواقف والمشاهد التي رأوها من أمر العلاء وما أجرى الله على يديه من الكرامات رجل من أهل هجر راهب فأسلم حينئذ‏.‏

فقيل له‏:‏ ما دعاك إلى الإسلام ‏؟‏

فقال‏:‏ خشيت إن لم أفعل أن يمسخني الله لما شاهدت من الآيات قال‏:‏ وقد سمعت في الهواء وقت السَّحر دعاء‏.‏

قالوا‏:‏ وما هو ‏؟‏

قال‏:‏ اللَّهم أنت الرَّحمن الرَّحيم لا إله غيرك، والبديع ليس قبلك شيء، والدَّائم غير الغافل، والذي لا يموت، وخالق ما يُرى وما لا يُرى، وكل يوم أنت في شأن، وعلمت اللَّهم كلَّ شيء علماً‏.‏


قال‏:‏ فعلمت أنَّ القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله، قال‏:‏ فحسن إسلامه وكان الصَّحابة يسمعون منه‏.‏

ذكر ردَّة أهل عمان ومهرة اليمن‏:‏

أمَّا أهل عمان فنبغ فيهم رجل يقال له‏:‏ ذو التَّاج لقيط بن مالك الأزديّ، وكان يسمَّى في الجاهلية الجلنديّ، فادَّعى النُّبُّوة أيضاً، وتابعه الجهلة من أهل عمان، فتغلَّب عليها وقهر جيفراً وعبَّاداً وألجأهما إلى أطرافها من نواحي الجبال والبحر، فبعث جيفر إلى الصِّديق فأخبره الخبر واستجاشه، فبعث إليه الصِّديق بأميرين وهما حذيفة بن محصن الحميريّ، وعرفجة البارقي من الأزد، حذيفة إلى عمان، وعرفجة إلى مهرة، وأمرهما أن يجتمعا ويتَّفقا ويبتدئا بعمان وحذيفة هو الأمير، فإذا ساروا إلى بلاد مهرة فعرفجة الأمير‏.‏

وقد قدَّمنا أنَّ عكرمة ابن أبي جهل لمَّا بعثه الصِّديق إلى مسيلمة وأتبعه بشرحبيل بن حسنة عجَّل عكرمة وناهض مسيلمة قبل مجيء شرحبيل ليفوز بالظفر وحده، فناله من مسيلمة قرح والذين معه فتقهقر حتى جاء خالد بن الوليد فقهر مسيلمة كما تقدَّم، وكتب إليه الصِّديق يلومه على تسرِّعه، قال‏:‏ لا أرينك ولا أسمعن بك إلا بعد بلاء، وأمره أن يلحق بحذيفة وعرفجة إلى عمان، وكلٍّ منكم أمير على جيشه وحذيفة ما دمتم بعمان فهو أمير النَّاس، فإذا فرغتم فاذهبوا إلى مهرة، فإذا فرغتم منها فاذهب إلى اليمن وحضرموت فكن مع المهاجر ابن أبي أمية، ومن لقيته من المرتدَّة بين عمان إلى حضرموت واليمن فنكِّل به، فسار عكرمة لما أمره به الصِّديق، فلحق حذيفة وعرفجة قبل أن يصلا إلى عمان، وقد كتب إليهما الصِّديق أن ينتهيا إلى رأي عكرمة بعد الفراغ من السَّير من عمان أو المقام بها، فساروا فلمَّا اقتربوا من عمان راسلوا جيفراً، وبلغ لقيط بن مالك مجيء الجيش فخرج في جموعه فعسكر بمكان يقال له‏:‏ دبا، وهي مصر تلك البلاد وسوقها العظمى، وجعل الذَّراري والأموال وراء ظهورهم ليكون أقوى لحربهم، واجتمع جيفر وعبَّاد بمكان يقال له‏:‏ صحار فعسكرا به، وبعثا إلى أمراء الصِّديق فقدموا على المسلمين فتقابل الجيشان هنالك، وتقاتلوا قتالاً شديداً، وابتلى المسلمون وكادوا أن يولُّوا، فمنَّ الله بكرمه ولطفه أن بعث إليهم مدداً في السَّاعة الرَّاهنة من بني ناجية وعبد القيس في جماعة من الأمراء، فلمَّا وصلوا إليهم كان الفتح والنَّصر فولَّى المشركون مدبرين، وركب المسلمون ظهورهم فقتلوا من عشرة آلاف مقاتل، وسبوا الذَّراري، وأخذوا الأموال والسُّوق بحذافيرها، وبعثوا بالخمس إلى الصِّديق رضي الله عنه مع أحد الأمراء وهو عرفجة، ثمَّ رجع إلى أصحابه‏.‏

وأمَّا مهرة فأنَّهم لمَّا فرغوا من عمان كما ذكرنا سار عكرمة بالنَّاس إلى بلاد مهرة بمن معه من الجيوش ومن أضيف إليها، حتى اقتحم على مهرة بلادها فوجدهم جندين على أحدهما وهم الأكثر أمير يقال له‏:‏ المصبح أحد بني محارب، وعلى الجند الآخر أمير يقال له‏:‏ شخريت، وهما مختلفان، وكان هذا الاختلاف رحمة على المؤمنين فراسل عكرمة شخريت فأجابه وانضاف إلى عكرمة فقوي بذلك المسلمون وضعف جأش المصبح، فبعث إليه عكرمة يدعوه إلى الله وإلى السَّمع والطَّاعة فاغترَّ بكثرة من معه ومخالفةً لشخريت فتمادى على طغيانه، فسار إليه عكرمة بمن معه من الجنود فاقتتلوا مع المصبح أشدَّ من قتال دبا المتقدِّم، ثمَّ فتح الله بالظَّفر والنَّصر ففرَّ المشركون، وقتل المصبح وقتل خلق كثير من قومه، وغنم المسلمون أموالهم، فكان في جملة ما غنموا ألفا نجيبة، فخمَّس عكرمة ذلك كله، وبعث بخمسه إلى الصِّديق مع شخريت وأخبره بما فتح الله عليه، والبشارة مع رجل يقال له‏:‏ السَّائب من بني عابد من مخزوم، وقد قال في ذلك رجل يقال له علجوم‏:‏

جزى اللهُ شَخْريتاً وأَفْناءَ هاشمَاً * وَفرضِم إذْ سارَتْ إلينَا الحَلائِبُ

جزاءَ مسيءٍ لمْ يُراقَبْ لذِمَّةٍ * ولمْ يُرجِهَا فيما يُرجَّى الأقَاربُ

أعِكرمُ لَولا جمْعُ قَومِي وَفعلهُمْ * لَضَاقَتْ عليكُمْ بالفضاءِ المذَاهبُ

وكنَّا كمن اقتادَ كفَّاً بأختهَا * وحلَّتْ عَلينا في الدُّهورِ النَّوائِبُ

وأمَّا أهل اليمن فقد قدَّمنا أنَّ الأسود العنسيّ - لعنه الله - لمَّا نبغ باليمن أضلَّ خلقاً كثيراً من ضعفاء العقول والأديان حتى ارتدَّ كثير منهم أو أكثرهم عن الإسلام، وأنَّه لمَّا قتله الأمراء الثَّلاثة‏:‏ قيس بن مكشوح، وفيروز الدَّيلميّ، وداذويه، وكان ما قدَّمنا ذكره، ولمَّا بلغهم موت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ازداد بعض أهل اليمن فيما كانوا فيه من الحيرة والشَّكِّ - أجارنا الله من ذلك - وطمع قيس بن مكشوح في الإمرة باليمن فعمل لذلك وارتدَّ عن الإسلام، وتابعه عوام أهل اليمن‏.‏
وكتب الصِّديق إلى الأمراء والرُّؤساء من أهل اليمن أن يكونوا عوناً إلى فيروز والأبناء على قيس بن مكشوح حتى تأتيهم جنوده سريعاً، وحرص قيس على قتل الأميرين الأخيرين فلم يقدر إلا على داذويه، واحترز منه فيروز الدَّيلميّ وذلك أنَّه عمل طعاماً وأرسل إلى داذويه أولاً فلمَّا جاءه عجَّل عليه فقتله، ثمَّ أرسل إلى فيروز ليحضر عنده فلمَّا كان ببعض الطَّريق سمع امرأة تقول لأخرى‏:‏ وهذا أيضاً والله مقتول كما قتل صاحبه، فرجع من الطَّريق وأخبر أصحابه بقتل داذويه، وخرج إلى أخواله خولان فتحصَّن عندهم، وساعدته عقيل، وعك وخلق‏.‏

وعمد قيس إلى ذراري فيروز وداذويه والأبناء فأجلاهم عن اليمن، وأرسل طائفة في البرِّ وطائفة في البحر، فاحتدَّ فيروز فخرج في خلق كثير فتصادف هو وقيس فاقتتلوا قتالاً شديداً فهزم قيساً وجنده من العوام وبقية جند الأسود العنسيّ فهزموا في كل وجه، وأسر قيس وعمرو بن معدي كرب - وكان عمرو قد ارتدَّ أيضاً وبايع الأسود العنسي - وبعث بهما المهاجر ابن أبي أمية إلى أبي بكر أسيرين فعنَّفهما وأنَّبهما، فاعتذرا إليه، فقبل منهما علانيَّتهما، ووكل سرائرهما إلى الله عزَّ وجلَّ وأطلق سراحهما، وردَّهما إلى قومهما، ورجعت عمَّال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذين كانوا باليمن إلى أماكنهم التي كانوا عليها في حياته عليه السلام بعد حروب طويلة لو استقصينا إيرادها لطال ذكرها‏.‏

وملخَّصها أنَّه ما من ناحية من جزيرة العرب إلا وحصل في أهلها ردَّة لبعض النَّاس فبعث الصِّديق إليهم جيوشاً وأمراء يكونون عوناً لمن في تلك النَّاحية من المؤمنين، فلا يتواجه المشركون والمؤمنون في موطن من تلك المواطن إلا غلب جيش الصِّديق لمن هناك من المرتدِّين، ولله الحمد والمنَّة‏.‏

وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وغنموا مغانم كثيرة، فيتقوُّون بذلك على من هنالك، ويبعثون بأخماس ما يغنمون إلى الصِّديق فينفقه في النَّاس فيحصل لهم قوَّة أيضاً ويستعدُّون به على قتال من يريدون قتالهم من الأعاجم والرُّوم على ما سيأتي تفصيله‏.‏

ولم يزل الأمر كذلك حتى لم يبق بجزيرة العرب إلا أهل طاعة لله ولرسوله وأهل ذمَّة من الصِّديق كأهل نجران وما جرى مجراهم، ولله الحمد‏.‏

وعامَّة ما وقع من هذه الحروب كان في أواخر سنة إحدى عشرة وأوائل سنة اثنتي عشرة، ولنذكر بعد إيراد هذه الحوادث من توفِّي في هذه السَّنة من الأعيان والمشاهير وبالله المستعان، وفيها رجع معاذ بن جبل من اليمن، وفيها استبقى أبو بكر الصِّديق عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما‏.‏

ذكر من توفِّي في هذه السَّنة‏:‏

أعني سنة إحدى عشرة من الأعيان والمشاهير، وذكرنا معهم من قتل باليمامة لأنَّها كانت في سنة إحدى عشرة على قول بعضهم، وإن كان المشهور أنَّها في ربيع سنة اثنتي عشرة‏.‏

توفِّي فيها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم محمَّد بن عبد الله، سيد ولد آدم في الدُّنيا والآخرة، وذلك في ربيعها الأوَّل يوم الإثنين ثاني عشره على المشهور كما قدَّمنا بيانه‏.‏

وبعده بستَّة أشهر على الأَشْهَر توفِّيت ابنته فاطمة رضي الله عنها وتكنَّى بأم أبيها، وقد كان - صلوات الله وسلامه عليه - عهد إليها أنَّها أوَّل أهله لحوقاً به‏.‏

وقال لها مع ذلك‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنَّة‏)‏‏)‏‏.‏

وكانت أصغر بنات النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم على المشهور ولم يبق بعده سواها، فلهذا عظم أجرها لأنَّها أصيبت به عليه السلام ويقال‏:‏ إنَّها كانت توأماً لعبد الله ابن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وليس له عليه السلام نسل إلا من جهتها‏.‏

قال الزُّبير ابن بكَّار‏:‏ وقد روي أنَّه عليه السلام ليلة زفاف علي على فاطمة توضَّأ وصبَّ عليه وعلى فاطمة ودعا لهما أن يبارك في نسلهما، وقد تزوجها ابن عمِّها علي ابن أبي طالب بعد الهجرة، وذلك بعد بدر، وقيل‏:‏ بعد أحد، وقيل‏:‏ بعد تزويج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عائشة بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد ذلك بسبعة أشهر ونصف، فأصدقها درعه الحطمية وقيمتها أربعمائة درهم، وكان عمرها إذ ذاك خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، وكان علي أسنَّ منها بستِّ سنين، وقد وردت أحاديث موضوعة في تزويج علي بفاطمة لم نذكرها رغبة عنها، فولدت له حسناً، وحسيناً، ومحسناً، وأمَّ كلثوم، التي تزوَّج بها عمر بن الخطَّاب بعد ذلك‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عفَّان، أنَّا عطاء بن السَّائب عن أبيه، عن عليّ أنَّ رسول الله لمَّا زوَّجه فاطمة بعث معها بخميلة، ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحى، وسقاء، وجرَّتين‏.‏

فقال علي لفاطمة ذات يوم‏:‏ والله لقد سنوت حتى لقد اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه‏.‏

فقالت‏:‏ وأنا والله لقد طحنت حتى محلت يداي، فأتت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما جاء بك أي بنية‏؟‏‏)‏‏)‏

قالت‏:‏ جئت لأسلِّم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت‏.‏

فقال‏:‏ ما فعلت ‏؟‏

قالت‏:‏ استحييت أن أسأله، فأتياه جميعاً فقال علي‏:‏ يا رسول الله والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري‏.‏

وقالت فاطمة‏:‏ لقد طحنت حتى محلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏والله لا أعطيكما وأدع أهل الصِّفَّة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

فرجعا، فأتاهما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطَّت رؤوسهما تكشَّفت أقدامهما، وإذا غطَّت أقدامهما تكشَّفت رؤوسهما فثارا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مكانكما‏)‏‏)‏ ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا أخبركم بخير ممَّا سألتماني‏؟‏‏)‏‏)‏

قالا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كلمات علمنيهنَّ جبريل تسبحان الله في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدان عشراً، وتكبِّران عشراً، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبِّرا أربعاً وثلاثين‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما تركتهنَّ منذ علمنيهنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال‏:‏ فقال له ابن الكوا‏:‏ ولا ليلة صفِّين ‏؟‏

فقال‏:‏ قاتلكم الله يا أهل العراق، نعم ولا ليلة صفِّين‏.‏

وآخر هذا الحديث ثابت في الصَّحيحين من غير هذا الوجه، فقد كانت فاطمة صابرة مع علي على جهد العيش وضيقه، ولم يتزوج عليها حتى ماتت، ولكنَّه أراد أن يتزوج في وقت بدرة بنت أبي جهل فأنف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من ذلك وخطب النَّاس فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أحرِّم حلالاً ولا أحلُّ حراماً، وإنَّ فاطمة بضعة منِّي يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، وإنِّي أخشى أن تفتن عن دمها، ولكن إن أحبَّ ابن أبي طالب أن يطلِّقها ويتزوج بنت أبي جهل فإنَّه والله لا تجتمع بنت نبيّ الله وبنت عدوِّ الله تحت رجل واحد أبداً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فترك علي الخطبة‏.‏


ولمَّا مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسألت من أبي بكر الميراث فأخبرها أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورِّث ما تركنا فهو صدقة‏)‏‏)‏ فسألت أن يكون زوجها ناظراً على هذه الصَّدقة فأبى ذلك وقال‏:‏ إنِّي أعول من كان رسول الله يعول، وإنِّي أخشى إن تركت شيئاً ممَّا كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يفعله أن أضلَّ، ووالله لقرابة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحبُّ إليَّ أن أصل من قرابتي، فكأنَّها وجدت في نفسها من ذلك فلم تزل تبغضه مدَّة حياتها، فلمَّا مرضت جاءها الصِّديق فدخل عليها فجعل يترضَّاها وقال‏:‏ والله ما تركت الدَّار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، فرضيت رضي الله عنهما‏.‏

رواه البيهقيّ من طريق إسماعيل ابن أبي خالد عن الشعبي، ثمَّ قال‏:‏ وهذا مرسل حسن بإسناد صحيح‏.‏

ولمَّا حضرتها الوفاة أوصت إلى أسماء بنت عميس - امرأة الصِّديق - أن تغسِّلها فغسَّلتها هي وعلي ابن أبي طالب وسلَّمى أمُّ رافع، قيل‏:‏ والعبَّاس بن عبد المطَّلب، وما روي من أنَّها اغتسلت قبل وفاتها وأوصت أن لا تغسَّل بعد ذلك فضعيف لا يعوَّل عليه، والله أعلم‏.‏

وكان الذي صلَّى عليها زوجها علي، وقيل‏:‏ عمَّها العبَّاس وقيل‏:‏ أبو بكر الصِّديق فالله أعلم‏.‏

ودفنت ليلاً وذلك ليلة الثُّلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة‏.‏

وقيل‏:‏ إنها توفيت بعده - عليه السَّلام بشهرين‏.‏

وقيل‏:‏ بسبعين يوماً‏.‏

وقيل‏:‏ بخمسة وسبعين يوماً‏.‏

وقيل‏:‏ بثلاثة أشهر‏.‏

وقيل‏:‏ بثمانية أشهر، والصَّحيح ما ثبت في الصَّحيح من طريق الزُّهريّ عن عروة، عن عائشة أنَّ فاطمة عاشت بعد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ستة أشهر، ودفنت ليلاً‏.‏

ويقال‏:‏ إنَّها لم تضحك في مدَّة بقائها بعده عليه السلام وأنَّها كانت تذوب من حزنها عليه، وشوقها إليه، واختلف في مقدار سنِّها يومئذٍ، فقيل‏:‏ سبع وقيل‏:‏ ثمان وقيل‏:‏ تسع وعشرون، وقيل‏:‏ ثلاثون، وقيل‏:‏ خمس وثلاثون وهذا بعيد وما قبله أقرب منه، والله أعلم‏.‏

ودفنت بالبقيع وهي أوَّل من ستر سريرها، وقد ثبت في الصَّحيح أنَّ عليا كان له فرجة من النَّاس حياة فاطمة، فلمَّا ماتت التمس مبايعة الصِّديق فبايعه كما هو مروي في البخاريّ، وهذه البيعة لإزالة ما كان وقع من وحشة حصلت بسبب الميراث، ولا ينفي ما ثبت من البيعة المتقدِّمة عليها كما قررنا، والله أعلم‏.‏

وممن توفي هذه السَّنة أمُّ أيمن‏:‏

بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النُّعمان مولاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورثها من أبيه، وقيل‏:‏ من أمِّه، وحضنته وهو صغير وكذلك بعد ذلك، وقد أعتقها وزوَّجها عبيداً فولدت منه ابنها أيمن فعرفت به، ثمَّ تزوجها زيد بن حارثة مولى رسول الله فولدت أسامة بن زيد، وقد هاجرت الهجرتين إلى الحبشة والمدينة، وكانت من الصَّالحات، وكان عليه السلام يزورها في بيتها ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏هي أمِّي بعد أمِّي‏)‏‏)‏‏.‏

وكذلك كان أبو بكر وعمر يزورانها في بيتها كما تقدَّم ذلك في ذكر الموالي، وقد توفِّيت بعده عليه السلام بخمسة أشهر، وقيل‏:‏ بستَّة أشهر‏.‏

ومنهم ثابت بن أقرم بن ثعلبة‏:‏

ابن عديّ بن العجلان البلوي حليف الأنصار، شهد بدراً وما بعدها، وكان ممَّن حضر مؤتة، فلمَّا قتل عبد الله بن رواحة دفعت الرَّاية إليه فسلَّمها لخالد بن الوليد وقال‏:‏ أنت أعلم بالقتال مني‏.‏

وقد تقدَّم أن طليحة الأسدي قتله، وقتل معه عكاشة بن محصن وذلك حين يقول طليحة‏:‏

عَشِيَّةَ غَادرْتُ ابنَ أقرمَ سَاوِياً * وَعُكاشَةَ الغنميّ تحتَ مجالِ

وذلك في سنة إحدى عشرة، وقيل‏:‏ سنة اثنتي عشرة‏.‏

وعن عروة أنَّه قتل في حياة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهذا غريب، والصَّحيح الأوَّل، والله أعلم‏.‏

ومنهم ثابت بن قيس بن شماس‏:‏

الأنصاريّ الخزرجيّ أبو محمَّد خطيب الأنصار، ويقال له أيضاً‏:‏ خطيب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقد ثبت عنه عليه السلام أنَّه بشَّره بالشَّهادة وقد تقدَّم الحديث في دلائل النُّبُّوة، فقتل يوم اليمامة شهيداً وكانت راية الأنصار يومئذ بيده، وروى التّرمذيّ بإسناد على شرط مسلم عن أبي هريرة أنَّ رسول الله قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نِعم الرَّجل ثابت بن قيس بن شماس‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو القاسم الطَّبرانيّ‏:‏ ثنا أحمد بن المعلى الدِّمشقي، ثنا سليمان بن عبد الرَّحمن، ثنا الوليد بن مسلم، حدَّثني عبد الرَّحمن بن يزيد بن جابر عن عطاء الخراساني قال‏:‏ قدمت المدينة فسألت عمَّن يحدِّثني بحديث ثابت بن قيس بن شماس فأرشدوني إلى ابنته فسألتها، فقالت‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ لمَّا أنزل على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الله لا يحبُّ كل مختالٍ فخورٍ‏)‏‏)‏ اشتدَّت على ثابت، وغلق عليه بابه وطفق يبكي، فأخبر رسول الله فسأله فأخبره بما كبر عليه منها‏.‏

وقال أنا رجل أحبُّ الجمال وأنا أسود قومي‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّك لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير، ويدخلك الله الجنَّة‏)‏‏)‏‏.‏

فلمَّا أنزل على رسول الله‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ ‏]‏‏.‏

فعل مثل ذلك فأخبر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأرسل إليه فأخبره بما كبر عليه منها، وأنَّه جهير الصَّوت وأنَّه يتخوَّف أن يكون ممَّن حبط عمله، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّك لست منهم بل تعيش حميداً وتقتل شهيداً ويدخلك الله الجنَّة‏)‏‏)‏‏.‏

فلمَّا استنفر أبو بكر المسلمين إلى أهل الردَّة واليمامة ومسيلمة الكذَّاب سار ثابت فيمن سار فلمَّا لقوا مسيلمة وبني حنيفة هزموا المسلمين ثلاث مرات، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة‏:‏ ما هكذا كنَّا نقاتل مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فجعلا لأنفسهما حفرة فدخلا فيها فقاتلا حتى قتلا، قالت‏:‏ ورأى رجل من المسلمين ثابت بن قيس في منامه، فقال‏:‏ إنِّي لمَّا قتلت بالأمس مرَّ بي رجل من المسلمين فانتزع مني درعاً نفيسه ومنزله في أقصى العسكر وعند منزله فرس بتن في طوله، وقد أكفأ على الدِّرع برمَّة وجعل فوق البرمة رحلاً وائت خالد بن الوليد فليبعث إليَّ درعي فليأخذها، فإذا قدمت على خليفة رسول الله فأعلمه أنَّ عليَّ من الدَّين كذا ولي من المال كذا، وفلان من رقيقي عتيق، وإيَّاك أن تقول هذا حلم فتضيِّعه‏.‏

قال‏:‏ فأتى خالد فوجه إلى الدِّرع فوجدها كما ذكر‏.‏

وقدم على أبي بكر فأخبره فأنفذ أبو بكر وصيته بعد موته، فلا نعلم أحداً جازت وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس بن شماس، ولهذا الحديث وهذه القصَّة شواهد أخر، والحديث المتعلِّق بقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النَّبيّ‏)‏‏)‏ في صحيح مسلم عن أنس‏.‏

وقال حماد بن سلمة‏:‏ عن ثابت، عن أنس أنَّ ثابت بن قيس بن شماس جاء يوم اليمامة وقد تحنَّط ونشر أكفانه وقال‏:‏ اللَّهم إنِّي أبرأ إليك ممَّا جاء به هؤلاء، وأعتذر إليك ممَّا صنع هؤلاء، فقتل، وكانت له درع فسُرقت فرآه رجل فيما يرى النَّائم‏:‏ فقال إنَّ درعي في قدر تحت الكانون في مكان كذا وكذا، وأوصاه بوصايا فطلبوا الدِّرع فوجدوها وأنفذوا الوصايا‏.‏

رواه الطَّبرانيّ أيضاً‏.‏

ومنهم حزن ابن أبي وهب‏:‏

ابن عمرو بن عامر بن عمران المخزوميّ له هجرة، ويقال‏:‏ أسلم عام الفتح، وهو جدُّ سعيد بن المسيّب، أراد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يسميه سهلاً فامتنع، وقال‏:‏ لا أغير اسما سمَّانيه أبواي، فلم تزل الحزونة فينا، استشهد يوم اليمامة، وقتل معه أيضاً ابناه عبد الرَّحمن، ووهب، وابن ابنه حكيم بن وهب بن حزن، وممَّن استشهد في هذه السَّنة داذويه الفارسي أحد أمراء اليمن الذين قتلوا الأسود العنسي، قتله غيلة قيس بن مكشوح حين ارتدَّ قبل أن يرجع قيس إلى الإسلام، فلمَّا عنَّفه الصِّديق على قتله أنكر ذلك، فقبل علانيته وإسلامه‏.‏

ومنهم زيد بن الخطَّاب‏:‏

ابن نفيل القرشيّ العدويّ أبو محمد وهو - أخو عمر بن الخطَّاب لأبيه - وكان زيد أكبر من عمر أسلم قديماً وشهد بدراً وما بعدها، وقد آخى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بينه وبين معن بن عدي الأنصاريّ، وقد قتلا جميعاً باليمامة، وقد كانت راية المهاجرين يومئذٍ بيده فلم يزل يتقدَّم بها حتى قتل فسقطت، فأخذها سالم مولى أبي حذيفة، وقد قتل زيد يومئذ الرَّجْال بن عنفوة واسمه نهار، وكان الرَّجْال هذا قد أسلم وقرأ البقرة ثمَّ ارتدَّ ورجع فصدَّق مسيلمة وشهد له بالرِّسالة فحصل به فتنةً عظيمةً، فكانت وفاته على يد زيد - رضي الله عن زيد -‏.‏

ثمَّ قتل زيداً رجل يقال له‏:‏ أبو مريم الحنفي وقد أسلم بعد ذلك‏.‏

وقال لعمر‏:‏ يا أمير المؤمنين إنَّ الله أكرم زيداً بيدي ولم يهنِّي على يده‏.‏

وقيل‏:‏ إنَّما قتله سلمة بن صبيح ابن عمِّ أبي مريم هذا، ورجَّحه أبو عمر وقال‏:‏ لأنَّ عمر استقضى أبا مريم وهذا لا يدل على نفي ما تقدَّم والله أعلم‏.‏

وقد قال عمر لمَّا بلغه مقتل زيد بن الخطَّاب‏:‏ سبقني إلى الحسنيين أسلم قبلي، واستشهد قبلي‏.‏

وقال لمتمم بن نويرة حين جعل يرثي أخاه مالكاً بتلك الأبيات المتقدِّم ذكرها‏:‏ لو كنت أحسن الشِّعر لقلت كما قلت‏.‏

فقال له متمم‏:‏ لو أنَّ أخي ذهب على ما ذهب عليه أخوك ما حزنت عليه‏.‏

فقال له عمر‏:‏ ما عزَّاني أحد بمثل ما عزَّيتني به‏.‏

ومع هذا كان عمر يقول‏:‏ ما هبَّت الصَّبا إلا ذكرتني زيد بن الخطَّاب رضي الله عنه‏.‏

ومنهم سالم بن عبيد‏:‏

ويقال‏:‏ ابن يعمل مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وإنَّما كان معتقاً لزوجته ثبيتة بنت يعاد، وقد تبنَّاه أبو حنيفة وزوَّجه بابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة، فلمَّا أنزل الله ‏(‏‏(‏ادعوهم لآبائهم‏)‏‏)‏ جاءت امرأة أبي حذيفة سهلة بنت سهل بن عمرو فقالت‏:‏ يا رسول الله إنَّ سالماً يدخل علي وأنا غفل فأمرها أن ترضعه فأرضعته فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة، وكان من سادات المسلمين أسلم قديماً، وهاجر إلى المدينة قبل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فكان يصلِّي بمن بها من المهاجرين، وفيهم عمر بن الخطَّاب لكثرة حفظه القرآن، وشهد بدراً وما بعدها، وهو أحد الأربعة الذين قال فيهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏استقرئوا القرآن من أربعة‏)‏‏)‏ فذكر منهم سالماً مولى أبي حذيفة‏.‏

وروي عن عمر أنَّه قال لمَّا احتضر‏:‏ لو كان سالم حياً لما جعلتها شورى‏.‏

قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ معناه‏:‏ أنَّه كان يصدر عن رأيه فيمن يوليه الخلافة، ولمَّا أخذ الرَّاية يوم اليمامة بعد مقتل زيد بن الخطَّاب قال له المهاجرون‏:‏ أتخشى أن نؤتى من قبلك ‏؟‏

فقال‏:‏ بئس حامل القرآن أنا إذاً‏.‏ انقطعت يده اليمنى فأخذها بيساره، فقطعت فاحتضنها وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرُّسل‏)‏‏)‏ ‏(‏‏(‏وكأين من نبيّ قاتل معه ربيُّون كثير‏)‏‏)‏‏.‏

فلمَّا صرع قال لأصحابه‏:‏ ما فعل أبو حذيفة ‏؟‏

قالوا‏:‏ قتل‏.‏

قال‏:‏ فما فعل فلان ‏؟‏

قالوا‏:‏ قتل‏.‏

قال‏:‏ فأضجعوني بينهما، وقد بعث عمر بميراثه إلى مولاته التي أعتقته بثينة فردَّته وقالت‏:‏ إنَّما أعتقته سائبة، فجعله عمر في بيت المال‏.‏

ومنهم أبو دجانة سماك بن خرشة‏:‏

ويقال‏:‏ سماك بن أوس بن خرشة بن لوذان بن عبدود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاريّ الخزرجيّ شهد بدراً وأبلى يوم أحد، وقاتل شديداً وأعطاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يومئذٍ سيفاً فأعطاه حقَّه وكان يتبختر عند الحرب‏.‏

فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ هذه لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن‏)‏‏)‏‏.‏

وكان يعصب رأسه بعصابة حمراء شعاراً له بالشَّجاعة، وشهد اليمامة، ويقال‏:‏ إنَّه ممَّن اقتحم على بني حنيفة يومئذ الحديقة فانكسرت رجله فلم يزل يقاتل حتى قتل يومئذ، وقد قتل مسيلمة مع وحشي بن حرب، رماه وحشي بالحربة وعلاه أبو دجانة بالسَّيف‏.‏

قال وحشي‏:‏ فربُّك أعلم أيُّنا قتله‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنَّه عاش حتَّى شهد صفِّين مع علي، والأوَّل أصحّ، وأمَّا ما يروى عنه من ذكر الحرز المنسوب إلى أبي دجانة فإسناده ضعيف ولا يلتفت إليه، والله أعلم‏.‏

ومنهم شجاع بن وهب‏:‏

ابن ربيعة الأسدي حليف بني عبد شمس أسلم قديماً، وهاجر وشهد بدراً وما بعدها، وكان رسول رسول الله إلى الحارث ابن أبي شمر الغسَّاني فلم يسلم، وأسلم حاجبه سوى، واستشهد شجاع بن وهب يوم اليمامة عن بضع وأربعين سنة، وكان رجلاً طوالاً نحيفاً أحنى‏.‏

ومنهم الطّفيل بن عمرو بن طريف‏:‏

ابن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهر بن غنم بن دوس الدُّوسيّ أسلم قديماً قبل الهجرة، وذهب إلى قومه فدعاهم إلى الله فهداهم الله على يديه، فلمَّا هاجر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المدينة جاءه بتسعين أهل بيت من دوس مسلمين، وقد خرج عام اليمامة مع المسلمين ومعه ابنه عمرو فرأى الطّفيل في المنام كأنَّ رأسه قد حلق، وكأن امرأة أدخلته في فرجها، وكان ابنه يجتهد أن يلحقه فلم يصل، فأوَّلها بأنَّه سيقتل ويدفن، وأنَّ ابنه يحرص على الشَّهادة فلا ينالها عامه ذلك، وقد وقع الأمر كما أوَّلها، ثمَّ قتل ابنه شهيداً يوم اليرموك كما سيأتي‏.‏

ومنهم عباد بن بشر بن وقش الأنصاري‏:‏

أسلم على يدي مصعب بن عمير قبل الهجرة قبل إسلام معاذ وأسيد بن الحضير، وشهد بدراً وما بعدها، وكان ممَّن قتل كعب بن الأشرف، وكانت عصاه تضيء له إذا خرج من عند رسول الله في ظلمة‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ عن الزُّهري قتل يوم اليمامة شهيداً عن خمس وأربعين سنة، وكان له بلاء وعناء‏.‏

وقال محمَّد بن إسحاق‏:‏ عن محمَّد بن جعفر بن الزُّبير، عن عباد بن عبد الله بن الزُّبير، عن عائشة قالت‏:‏ تهجَّد رسول الله فسمع صوت عباد فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم اغفر له‏)‏‏)‏‏.‏

ومنهم السائب بن عثمان بن مظعون‏:‏

بدري من الرُّماة أصابه يوم اليمامة سهم فقتله وهو شاب رحمه الله‏.‏

ومنهم السَّائب بن العوَّام‏:‏

أخو الزُّبير بن العوَّام استشهد يومئذ رحمه الله‏.‏

ومنهم عبد الله بن سهيل بن عمرو‏:‏

ابن عبد شمس بن عبدود القرشيّ العامريّ أسلم قديماً وهاجر، ثمَّ استضعف بمكة فلمَّا كان يوم بدر خرج معهم، فلمَّا تواجهوا فرَّ إلى المسلمين فشهدها معهم، وقتل يوم اليمامة، فلمَّا حجَّ أبو بكر عزَّى أباه فيه، فقال سهيل‏:‏ بلغني أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الشَّهيد ليشفع لسبعين من أهله‏)‏‏)‏ فأرجو أن يبدأ بي‏.‏

ومنهم عبد الله بن عبد الله ابن أبي بن سلول‏:‏

الأنصاري الخزرجي كان من سادات الصَّحابة وفضلائهم، شهد بدراً وما بعدها، وكان أبوه رأس المنافقين، وكان أشدَّ النَّاس على أبيه، ولو أذن له رسول الله فيه لضرب عنقه، وكان اسمه الحباب فسماه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عبد الله، وقد استشهد يوم اليمامة رضي الله عنه‏.‏

ومنهم عبد الله ابن أبي بكر الصِّديق‏:‏

أسلم قديماً، ويقال‏:‏ إنَّه الذي كان يأتي بالطَّعام والشَّراب والأخبار إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وإلى أبي بكر وهما بغار ثور، ويبيت عندهما ويصبح بمكة كبائت فلا يسمع بأمر يكادان به إلا أخبرهما به، وقد شهد الطَّائف فرماه رجل يقال له‏:‏ أبا محجن الثَّقفيّ بسهم فذوى منها فاندملت، ولكن لم يزل منها حمتاً حتى مات في شوال سنة إحدى عشرة‏.‏

ومنهم عكاشة بن محصن‏:‏

ابن حرثان بن قيس بن مرَّة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي حليف بني عبد شمس، يكنَّى أبا محصن، وكان من سادات الصَّحابة وفضلائهم، هاجر وشهد بدراً وأبلى يومئذ بلاءً حسناً وانكسر سيفه، فأعطاه رسول الله يومئذ عرجوناً فعاد في يده سيفاً أمضى من الحديد شديد المتن، وكان ذلك السَّيف يسمى العون، وشهد أحداً والخندق وما بعدها‏.‏

ولمَّا ذكر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم السَّبعين ألفاً الذين يدخلون الجنَّة بغير حساب، فقال عكاشة‏:‏ يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم اجعله منهم‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ قام رجل آخر فقال‏:‏ يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏سبقك بها عكاشة‏)‏‏)‏‏.‏

والحديث مروي من طرق تفيد القطع، وقد خرج عكاشة مع خالد يوم إمرة الصّديق بذي القصَّة فبعثه وثابت بن أقرم بين يديه طليعة، فتلقَّاهما طليحة الأسدي وأخوه سلمة فقتلاهما، وقد قتل عكاشة قبل مقتله حبال بن طليحة، ثمَّ أسلم طليحة بعد ذلك كما ذكرنا، وكان عمر عكاشة يومئذ أربعاً وأربعين سنة، وكان من أجمل النَّاس رضي الله عنه‏.‏

ومنهم معن بن عديّ‏:‏

ابن الجعد بن عجلان بن ضبيعة البلوي حليف بني عمرو بن عوف وهو أخو عاصم بن عديّ شهد العقبة وبدراً وأحداً والخندق وسائر المشاهد، وكان قد آخى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بينه وبين زيد ابن الخطَّاب فقتلا جميعاً يوم اليمامة رضي الله عنهما‏.‏

وقال مالك‏:‏ عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال‏:‏ بكى النَّاس على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين مات وقالوا‏:‏ والله وددنا أنَّا متنا قبله، ونخشى أن نفتتن بعده‏.‏

فقال معن بن عدي‏:‏ لكنِّي والله ما أحب أن أموت قبله لأصدِّقه ميتاً كما صدَّقناه حيَّاً‏.‏

ومنهم الوليد وأبو عبيدة ابنا عمارة بن الوليد بن المغيرة‏:‏

قتلا مع عمِّهما خالد بن الوليد بالبطاح، وأبوهما عمارة بن الوليد وهو صاحب عمرو بن العاص إلى النجاشيّ، وقضيته مشهورة‏.‏

ومنهم أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة‏:‏

ابن عبد شمس القرشيّ العبشميّ أسلم قديماً قبل دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، وشهد بدراً وما بعدها، وآخى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بينه وبين عباد بن بشر، وقد قتلا شهيدين يوم اليمامة، وكان عمر أبي حذيفة يومئذ ثلاثاً أو أربعاً وخمسين سنة، وكان طويلاً حسن الوجه أثعل - وهو الذي له سنّ زائدة - وكان اسمه هشيم، وقيل‏:‏ هاشم‏.‏

ومنهم أبو دجانة واسمه سماك بن خرشة

تقدَّم قريباً‏.‏

وبالجملة فقد قتل من المسلمين يوم اليمامة أربعمائة وخمسون من حملة القرآن ومن الصَّحابة وغيرهم، وإنَّما أوردنا هؤلاء لشهرتهم، وبالله المستعان‏.‏

قلت‏:‏ وممَّن استشهد يومئذ من المهاجرين مالك بن عمرو حليف بني غنم مهاجري بدري، ويزيد بن رقيش بن رباب الأسديّ بدريّ، والحكم بن سعيد بن العاص بن أمية الأمويّ، وحسن بن مالك بن بحينة أخو عبد الله بن مالك الأزديّ حليف بني المطَّلب بن عبد مناف، وعامر بن البكر اللَّيثي حليف بني عدي بدري، ومالك بن ربيعة حليف بني عبد شمس، وأبو أميَّة صفوان بن أميَّة بن عمرو، ويزيد بن أوس حليف بني عبد الدار، وحيي ويقال‏:‏ معلى بن حارثة الثَّقفيّ، وحبيب بن أسيد بن حارثة الثَّقفيّ، والوليد بن عبد شمس المخزوميّ، وعبد الله بن عمرو بن بجرة العدويّ، وأبو قيس بن الحارث بن قيس السَّهميّ - وهو من مهاجرة الحبشة - وعبد الله بن الحارث بن قيس، وعبد الله بن مخرمة بن عبد العزَّى ابن أبي قيس بن عبدود بن نصر العامري، من المهاجرين الأوَّلين شهد بدراً وما بعدها وقتل يومئذ، وعمرو بن أويس بن سعد ابن أبي سرح العامري، وسليط بن عمرو العامري، وربيعة ابن أبي خرشة العامري، وعبد الله بن الحارث بن رحضة من بني عامر‏.‏

ومنهم الأنصار‏:‏

غير من ذكرنا تراجمهم‏:‏ عمارة بن حزم بن زيد بن لوذان النَّجاريّ - وهو أخو عمرو بن حزم - كانت معه راية قومه يوم الفتح، وقد شهد بدراً وقتل يومئذ، وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام السلميّ شهد العقبة الأولى وشهد بدراً وما بعدها، وثابت بن هزال من بني سالم بن عوف بدري في قول، وأبو عقيل ابن عبد الله بن ثعلبة من بني جحجبي شهد بدراً وما بعدها، فلمَّا كان يوم اليمامة أصابه سهم فنزعه، ثمَّ تحزَّم وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل، وقد أصابته جراحات كثيرة‏.‏

وعبد الله بن عتيك، ورافع بن سهل، وحاجب بن يزيد الأشهليّ، وسهل بن عدي، ومالك بن أوس، وعمر بن أوس، وطلحة بن عتبة من بني جحجبي، ورباح مولى الحارث، ومعن بن عدي، وجزء بن مالك بن عامر من بني جحجبي، وورقة بن إياس بن عمرو الخزرجي بدري، ومروان بن العبَّاس، وعامر بن ثابت، وبشر بن عبد الله الخزرجي، وكليب بن تميم، وعبد الله بن عتبان، وإياس بن وديعة، وأسيد بن يربوع، وسعد بن حارثة، وسهل بن حمان، ومحاسن بن حمير، وسلمة بن مسعود، وقيل‏:‏ مسعود بن سنان، وضمرة بن عياض، وعبد الله بن أنيس، وأبو حبة بن غزية المازني، وخبَّاب ابن زيد، وحبيب بن عمرو بن محصن، وثابت بن خالد، وفروة بن النُّعمان، وعائذ بن ماعص، ويزيد بن ثابت بن الضَّحاك أخو زيد بن ثابت‏.‏

قال خليفة بن خياط‏:‏ فجميع من استشهد من المهاجرين والأنصار يوم اليمامة ثمانية وخمسون رجلاً - يعني‏:‏ وبقية الأربعمائة والخمسين من غيرهم، والله أعلم‏.‏

وقد قتل من الكفَّار فيما سقنا من المواطن التي التقى فيها المسلمون المشركون في هذه وأوائل التي قبلها ما ينيف على خمسين ألفاً ولله الحمد والمنَّة، وبه التَّوفيق والعصمة‏.‏

فمن مشاهيرهم الأسود العنسي - لعنه الله - واسمه عبهلة بن كعب بن غوث خرج أول مخرجه من بلدة باليمن يقال لها‏:‏ كهف خبان ومعه سبعمائة مقاتل فما مضى شهر حتى تملَّك صنعاء، ثمَّ استوثقت به اليمن بحذافيرها في أقصر مدَّة، وكان معه شيطان يحذق له ولكن خانه أحوج ما كان إليه، ثمَّ لم تمض له ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر حتى قتله الله على يدي إخوان صدق، وأمراء حقٍّ كما قدَّمنا ذكره وهم دازويه الفارسي، وفيروز الدَّيلميّ، وقيس بن مكشوح المرادي، وذلك في ربيع الأوَّل من سنة إحدى عشرة قبل وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بليال، وقيل‏:‏ بليلة، فالله أعلم‏.‏

وقد أطلع الله رسوله ليلة قتله على ذلك كما أسلفناه‏.‏

ومنهم مسيلمة بن حبيب اليماميّ الكذَّاب‏:‏

قدم المدينة وافداً إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مع قومه بني حنيفة، وقد وقف عليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسمعه وهو يقول‏:‏ إن جعل لي محمَّد الأمر من بعده اتَّبعته‏.‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏لو سألتني هذا العود - لعرجون في يده - ما أعطيتكه، ولئن أدبرت ليعقرنَّك الله، وإني لأراك الذي رأيت فيه ما رأيت‏)‏‏)‏‏.‏

وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد رأى في المنام كأنَّ في يده سوارين من ذهب فأهمَّه شأنهما، فأوحى الله إليه في المنام انفخهما فنفخهما فطارا، فأوَّلهما بكذَّابين يخرجان، وهما صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة‏.‏

وهكذا وقع فإنَّهما ذهبا وذهب أمرهما، أمَّا الأسود فذبح في داره، وأمَّا مسيلمة فعقره الله على يدي وحشي بن حرب رماه بالحربة فأنفذه كما تعقر الإبل، وضربه أبو دجانة على رأسه ففلقه، وذلك بعقر داره في الحديقة التي يقال لها‏:‏ حديقة الموت، وقد وقف عليه خالد بن الوليد وهو طريح أراه إيَّاه من بين القتلى مجاعة بن مرارة‏.‏

ويقال‏:‏ كان أصفر أخينس، وقيل‏:‏ كان ضخماً أسمر اللَّون كأنَّه جمل أورق‏.‏

ويقال‏:‏ إنَّه مات وعمره مائة وأربعون سنة فالله أعلم‏.‏

وقد قتل قبله وزيراه ومستشاراه - لعنهما الله - وهما‏:‏ محكم بن الطّفيل الذي يقال له‏:‏ محكم اليمامة، قتله عبد الرَّحمن ابن أبي بكر رماه بسهم وهو يخطب قومه يأمرهم بمصالح حربهم فقتله، والآخر نهار بن عنفوة الذي يقال له‏:‏ الرَّجْال بن عنفوة، وكان ممَّن أسلم ثمَّ ارتدَّ وصدَّق مسيلمة - لعنهما الله - في هذه الشَّهادة‏.‏

وقد رزق الله زيد بن الخطَّاب قتله قبل أن يقتل زيد رضي الله عنه وممَّا يدلُّ على كذب الرَّجْال في هذه الشَّهادة الضَّرورة في دين الإسلام‏.‏

وما رواه البخاريّ وغيره أنَّ مسيلمة كتب إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم من مسيلمة رسول الله إلى محمَّد رسول الله سلام عليك، أمَّا بعد فإنِّي قد أشركت معك في الأمر فلك المدر ولي الوبر، ويروى فلكم نصف الأرض ولنا نصفها، ولكنَّ قريشاً قوم يعتدون‏.‏

فكتب إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏

‏(‏‏(‏بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، من محمَّد رسول الله إلى مسيلمة الكذَّاب، سلام على من اتَّبع الهدى، أمَّا بعد فإنَّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتَّقين‏)‏‏)‏ وقد قدَّمنا ما كان يتعاطاه مسيلمة ويتعاناه - لعنه الله - من الكلام الذي هو أسخف من الهذيان ممَّا كان يزعم أنَّه وحي من الرَّحمن، تعالى الله عمَّا يقوله وأمثاله علواً كبيراً‏.‏

ولمَّا مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم زعم أنَّه استقلَّ بالأمر من بعده واستخفَّ قومه فأطاعوه، وكان يقول‏:‏

خذِي الدَّفَ يا هذِهِ والعَبي * وَبُثِّي محاسِنَ هَذا النَّبيّ

تولَّى نبيُّ بني هَاشِمٍ * وَقَامَ نبيَّ بنيّ يَعْرُبِ

فلم يمهله الله بعد وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا قليلاً حتى سلط الله عليه سيفاً من سيوفه، وحتفاً من حتوفه، فبعج بطنه، وفلق رأسه، وعجَّل الله بروحه إلى النَّار، فبئس القرار‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏فمن أظلم ممَّن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليَّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظَّالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحقِّ وكنتم عن آياته تستكبرون‏)‏‏)‏‏.‏

فمسيلمة والأسود وأمثالهما - لعنهم الله - أحقَّ النَّاس دخولاً في هذه الآية الكريمة، وأولاهم بهذه العقوبة العظيمة‏.‏

سنة اثنتي عشرة من الهجرة النَّبوِّية‏:‏

استهلت هذه السَّنة وجيوش الصِّديق وأمراؤه الذين بعثهم لقتال أهل الردَّة جوَّالون في البلاد يميناً وشمالاً لتمهيد قواعد الإسلام، وقتال الطُّغاة من الأنام حتى رُدَّ شارد الدِّين بعد ذهابه، ورجع الحقُّ إلى نصابه، وتمهَّدت جزيرة العرب، وصار البعيد الأقصى كالقريب الأدنى‏.‏

وقد قال جماعة من علماء السِّير والتَّواريخ‏:‏ إنَّ وقعة اليمامة كانت في ربيع الأوَّل من هذه السَّنة، وقيل‏:‏ إنَّها كانت في أواخر التي قبلها، والجمع بين القولين أن ابتداءها كان في السَّنة الماضية، وانتهاءها وقع في هذه السَّنة الآتية، وعلى هذا القول ينبغي أن يذكروا في السَّنة الماضية كما ذكرناه، لاحتمال أنَّهم قتلوا في الماضية، ومبادرة إلى استيفاء تراجمهم قبل أن يذكروا مع من قتل بالشَّام والعراق في هذه السنة على ما سنذكر إن شاء الله، وبه الثِّقة وعليه التُّكلان‏.‏


وقد قيل‏:‏ إن وقعة جواثا وعمان ومهرة وما كان من الوقائع التي أشرنا إليها إنَّما كانت في سنة اثنتي عشرة، وفيها كان قتل الملوك الأربعة‏:‏ حمد، ومحرس، وأبضعة، ومشرحاً، وأختهم العمرَّدة الذين ورد الحديث في مسند أحمد بلعنهم، وكان الذي قتلهم زياد بن الأنصاريّ‏.‏

بعث خالد بن الوليد إلى العراق‏:‏

لمَّا فرغ خالد بن الوليد من اليمامة بعث إليه الصِّديق أن يسير إلى العراق وأن يبدأ بفرج الهند، وهي الأبلة، ويأتي العراق من أعاليها وأن يتألَّف النَّاس ويدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ فإن أجابوا وإلا أخذ منهم الجزية، فإن امتنعوا عن ذلك قاتلهم، وأمره أن لا يكره أحداً على المسير معه، ولا يستعين بمن ارتدَّ عن الإسلام وإن كان عاد إليه، وأمره أن يستصحب كل امرئ مرَّ به من المسلمين، وشرع أبو بكر في تجهيز السَّرايا والبعوث، والجيوش، إمداداً لخالد رضي الله عنه‏.‏

قال الواقديّ‏:‏ اختلف في خالد فقائل يقول‏:‏ مضى من وجهه ذلك من اليمامة إلى العراق، وقائل يقول‏:‏ رجع من اليمامة إلى المدينة، ثمَّ سار إلى العراق من المدينة فمرَّ على طريق الكوفة حتى انتهى إلى الحيرة‏.‏

قلت‏:‏ والمشهور الأوَّل، وقد ذكر المدائني بإسناده أنَّ خالداً توجَّه إلى العراق في المحرَّم سنة اثنتي عشرة فجعل طريقه البصرة وفيها قطبة بن قتادة، وعلى الكوفة المثنى بن حارثة الشَّيبانيّ‏.‏

وقال محمَّد بن إسحاق‏:‏ عن صالح بن كيسان إنَّ أبا بكر كتب إلى خالد أن يسير إلى العراق فمضى خالد يريد العراق حتى نزل بقريات من السَّواد يقال لها‏:‏ بانقيا، وباروسما، وصاحبها حابان فصالحه أهلها‏.‏

قلت‏:‏ وقد قتل منهم المسلمون قبل الصُّلح خلقاً كثيراً، وكان الصُّلح على ألف درهم، وقيل‏:‏ دينار في رجب، وكان الذي صالحه بصبهري بن صلوبا، ويقال‏:‏ صلوبا بن بصبهري، فقبل منهم خالد وكتب لهم كتاباً، ثمَّ أقبل حتى نزل الحيرة فخرج إليه أشرافها مع بيصة بن إياس بن حيَّة الطَّائيّ وكان أمَّره عليها كسرى بعد النُّعمان بن المنذر، فقال لهم خالد‏:‏ أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم‏.‏

فقال له قبيصة‏:‏ مالنا بحربك من حاجة بل نقيم على ديننا ونعطيكم الجزية‏.‏

فقال لهم خالد‏:‏ تباً لكم إنَّ الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها، فلقيه رجلان أحدهما عربي والآخر أعجمي فتركه واستدلَّ بالعجمي، ثمَّ صالحهم على تسعين ألفاً، وفي رواية مائتي ألف درهم، فكانت أوَّل جزية أخذت من العراق وحملت إلى المدينة هي والقريات قبلها التي صالح عليها ابن صلوبا‏.‏

قلت‏:‏ وقد كان مع نائب كسرى على الحيرة ممَّن وفد إلى خالد عمرو بن عبد المسيح بن حيان بن بقيلة وكان من نصارى العرب، فقال له خالد‏:‏ من أين أثرك ‏؟‏

قال‏:‏ من ظهر أبي‏.‏

قال‏:‏ ومن أين خرجت ‏؟‏

قال‏:‏ من بطن أمي‏.‏

قال‏:‏ ويحك على أي شيء أنت ‏؟‏

قال‏:‏ على الأرض‏.‏

قال‏:‏ ويحك وفي أي شيء أنت ‏؟‏


قال‏:‏ في ثيابي‏.‏

قال‏:‏ ويحك تعقل‏؟‏

قال‏:‏ نعم، وأقيد‏.‏

قال‏:‏ إنَّما أسألك ‏؟‏

قال‏:‏ وأنا أجيبك‏.‏

قال‏:‏ أسلم أنت أم حرب ‏؟‏

قال‏:‏ بل سلم‏.‏

قال‏:‏ فما هذه الحصون التي أرى ‏؟‏

قال‏:‏ بنيناها للسَّفيه نحبسه حتى يجيء الحليم فينهاه، ثمَّ دعاهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال فأجابوا إلى الجزية بتسعين، أو مائتي ألف كما تقدَّم‏.‏

ثمَّ بعث خالد ابن الوليد كتاباً إلى أمراء كسرى بالمدائن، ومرازبته، ووزرائه كما قال هشام بن الكلبي‏:‏ عن أبي مخنف، عن مجالد، عن الشعبي قال‏:‏ أقرأني بنو بقيلة كتاب خالد بن الوليد إلى أهل المدائن‏:‏ من خالد ابن الوليد إلى مرازبة أهل فارس، سلام على من اتَّبع الهدى، أمَّا بعد فالحمد لله الذي فضَّ خدمكم، وسلب ملككم، ووهن كيدكم، وإنَّ من صلَّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم الذي له مالنا وعليه ما علينا، أمَّا بعد فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إليَّ بالرَّهن واعتقدوا منِّي الذِّمة، وإلا فوالذي لا إله غيره لأبعثنَّ إليكم قوماً يحبُّون الموت كما تحبُّون أنتم الحياة، فلمَّا قرؤوا الكتاب أخذوا يتعجَّبون‏.‏

وقال سيف بن عمر‏:‏ عن طليحة الأعلم، عن المغيرة بن عيينة - وكان قاضي أهل الكوفة - قال‏:‏ فرَّق خالد مخرجه من اليمامة إلى العراق جنده ثلاث فرق ولم يحملهم على طريق واحدة‏:‏ فسرَّح المثنى قبله بيومين، ودليلة ظفر، وسرَّح عديّ بن حاتم وعاصم بن عمرو ودليلاهما مالك بن عبَّاد وسالم بن نصر، أحدهما قبل صاحبه بيوم، وخرج خالد - يعني‏:‏ في آخرهم - ودليله رافع، فواعدهم جميعاً الحفير ليجتمعوا به، ويصادموا عدوَّهم، وكان فرج الهند أعظم فروج فارس بأساً، وأشدَّها شوكة، وكان صاحبه يحارب في البرِّ والهند في البحر وهو هرمز، فكتب إليه خالد فبعث هرمز بكتاب خالد إلى شيرى بن كسرى، وأردشير بن شيرى، وجمع هرمز، وهو نائب كسرى جموعاً كثيرة وسار بهم إلى كاظمة، وعلى مجنبتيه قباذ وأنوشجان - وهما من بيت الملك - وقد تفرَّق الجيش في السَّلاسل لئلا يفرُّوا، وكان هرمز هذا من أخبث النَّاس طويَّة، وأشدَّهم كفراً، وكان شريفاً في الفرس، وكان الرَّجل كلَّما ازداد شرفاً زاد في حليته، فكانت قلنسوة هرمز بمائة ألف، وقدم خالد ومن معه من الجيش وهم ثمانية عشر ألفاً فنزل تجاههم على غير ماء فشكى أصحابه ذلك، فقال‏:‏ جالدوهم حتى تجلوهم عن الماء، فإنَّ الله جاعل الماء لأصبر الطَّائفتين، فلمَّا استقرَّ بالمسلمين المنزل وهم ركبان على خيولهم بعث الله سحابة فأمطرتهم حتى صار لهم غدران من ماء، فقوي المسلمون بذلك وفرحوا فرحاً شديداً، فلمَّا تواجه الصفَّان، وتقاتل الفريقان، ترجَّل هرمز ودعا إلى النزال، فترجل خالد وتقدَّم إلى هرمز فاختلفا ضربتين، واحتضنه خالد، وجاءت حامية هرمز فما شغله عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو على حامية هرمز فأناموهم، وانهزم أهل فارس، وركب المسلمون أكتافهم إلى اللَّيل، واستحوذ المسلمون وخالد على أمتعتهم وسلاحهم فبلغ وقر ألف بعير، وسميت هذه الغزوة ذات السَّلاسل لكثرة من سلسل بها من فرسان فارس، وأفلت قباذ وأنوشجان‏.‏

ولمَّا رجع الطَّلب نادى منادي خالد بالرَّحيل فسار بالنَّاس وتبعته الأثقال حتى نزل بموضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم، وبعث بالفتح والبشارة والخمس مع زرّ ابن كليب إلى الصِّديق، وبعث معه بفيل فلمَّا رآه نسوة أهل المدينة جعلن يقلن‏:‏ أمن خلق الله هذا أم شيء مصنوع ‏؟‏

فردَّه الصِّديق مع زر، وبعث أبو بكر لمَّا بلغه الخبر إلى خالد فنفله سلب هرمز، وكانت قلنسوته بمائة ألف، وكانت مرصعة بالجوهر، وبعث خالد الأمراء يميناً وشمالاً يحاصرون حصوناً هنالك ففتحوها عنوة وصلحاً، وأخذوا منها أموالاً جمَّة، ولم يكن خالد يتعرَّض للفلاحين - من لم يقاتل منهم - ولا أولادهم، بل للمقاتلة من أهل فارس‏.‏

وقعة المذار أو الثني‏:‏

ثمَّ كانت وقعة المذار في صفر من هذه السَّنة، ويقال لها‏:‏ وقعة الثني - وهو النَّهر -‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ ويومئذ قال النَّاس‏:‏ صفر الأصفار، فيه يقتل كل جبَّار، على مجمع الأنهار‏.‏

وكان سببها أنَّ هرمزاً كان قد كتب إلى أردشير وشيرى بقدوم خالد نحوه من اليمامة، فبعث إليه كسرى بمدد مع أمير يقال له‏:‏ قارن بن قريانس فلم يصل إلى هرمز حتى كان من أمره مع خالد ما تقدَّم، وفرَّ من فرَّ من الفرس فتلقَّاهم قارن فالتفوا عليه فتذامروا واتَّفقوا على العود إلى خالد، فساروا إلى موضع يقال له‏:‏ المذار وعلى مجنبتي قارن قباذ وأنوشجان فلمَّا انتهى الخبر إلى خالد قسم ما كان معه من أربعة أخماس غنيمة يوم ذات السلاسل، وأرسل إلى الصِّديق بخبره مع الوليد بن عقبة، وسار خالد بمن معه من الجيوش حتى نزل على المذار وهو على تعبئته فاقتتلوا قتال حنق وحفيظة، وخرج قارن يدعو إلى البراز فبرز إليه خالد وابتدره الشُّجعان من الأمراء فقتل معقل بن الأعشى بن النباش قارنا، وقتل عدي بن حاتم قباذ، وقتل عاصم أنوشجان، وفرَّت الفرس وركبهم المسلمون في ظهورهم فقتلوا منهم يومئذ ثلاثين ألفاً وغرق كثير منهم في الأنهار والمياه، وأقام خالد بالمذار وسلَّم الأسلاب إلى من قتل، وكان قارن قد انتهى شرفه في أبناء فارس، وجمع بقية الغينمة وخمَّسها وبعث بالخمس والفتح والبشارة إلى الصِّديق مع سعيد بن النُّعمان أخي بني عديّ بن كعب، وأقام خالد هناك حتى قسَّم أربعة الأخماس وسبى ذراري من حصره من المقاتلة دون الفلاحين، فإنَّه أقرَّهم بالجزية‏.‏

وكان في هذا السَّبي حبيب أبو الحسن البصري وكان نصرانياً، ومافنه مولى عثمان، وأبو زياد مولى المغيرة بن شعبة، ثمَّ أمَّر على الجند سعيد بن النُّعمان، وعلى الجزية سويد ابن مقرن، وأمره أن ينزل الحفير ليجبي إليه الأموال، وأقام خالد يتجسَّس الأخبار عن الأعداء‏.‏

وقعة الولجة‏:‏

ثمَّ كان أمر الولجة في صفر أيضاً من هذه السَّنة فيما ذكره ابن جرير، وذلك لأنَّه لمَّا انتهى الخبر بما كان بالمذار من قبل قارن وأصحابه إلى أردشير وهو ملك الفرس يومئذ، بعث أميراً شجاعاً يقال له‏:‏ الأندر زغر وكان من أبناء السَّواد ولد بالمدائن، ونشأ بها، وأمدَّه بجيش آخر مع أمير يقال له‏:‏ بهمن جاذويه، فساروا حتى بلغوا مكاناً يقال له‏:‏ الولجة، فسمع بهم خالد فسار بمن معه من الجنود ووصَّى من استخلفه هناك بالحذر وقلَّة الغفلة، فنازل أنذر زغر ومن ناشب معه، واجتمع عنده بالولجة، فاقتتلوا قتالاً شديداً هو أشدّ ممَّا قبله حتى ظنَّ الفريقان أنَّ الصَّبر قد فرغ، واستبطأ كمينه الذي كان قد أرصدهم وراءه في موضعين فما كان إلا يسيراً حتى خرج الكمينان من هاهنا ومن هاهنا، فقرَّت صفوف الأعاجم فأخذهم خالد من أمامهم، والكمينان من ورائهم، فلم يعرف رجل منهم مقتل صاحبه، وهرب الأندر زغر من الوقعة فمات عطشاً‏.‏

وقام خالد في النَّاس خطيباً فرغَّبهم في بلاد الأعاجم، وزهَّدهم في بلاد العرب وقال‏:‏ ألا ترون ما هاهنا من الأطعمات، وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في سبيل الله والدُّعاء إلى الإسلام، ولم يكن إلا المعاش لكان الرَّأي أن نقاتل على هذا الرِّيف حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممَّن إثَّاقل عمَّا أنتم عليه، ثمَّ خمَّس الغنيمة وقسَّم أربعة أخماسها بين الغانمين، وبعث الخمس إلى الصِّديق وأسر من أسر من ذراري المقاتلة، وأقرَّ الفلاحين بالجزية‏.‏

وقال سيف بن عمر‏:‏ عن عمرو، عن الشِّعبيّ قال‏:‏ بارز خالد يوم الولجة رجلاً من الأعاجم يعدل بألف رجل فقتله، ثمَّ إتَّكأ عليه وأتى بغدائه فأكله وهو متكئ عليه بين الصَّفَّين‏.‏





وقعة أليس‏:‏

ثمَّ كانت وقعة أليس في صفر أيضاً، وذلك أنَّ خالداً كان قد قتل يوم الولجة طائفة من بكر بن وائل من نصارى العرب ممَّن كان مع الفرس، فاجتمع عشائرهم وأشدَّهم حنقاً عبد الأسود العجلي، وكان قد قتل له ابن بالأمس، فكاتبوا الأعاجم فأرسل إليهم أردشير جيشاً فاجتمعوا بمكان يقال له‏:‏ ألّيس، فبينما هم قد نصبوا لهم سماطاً فيه طعام يريدون أكله إذ غافلهم خالد بجيشه، فلمَّا رأوه أشار من أشار منهم بأكل الطَّعام وعدم الاعتناء بخالد، وقال أمير كسرى‏:‏ بل ننهض إليه فلم يسمعوا منه‏.‏

فلمَّا نزل خالد تقدَّم بين يدي جيشه ونادى بأعلى صوته لشجعان من هنالك من الأعراب‏:‏ أين فلان، أين فلان، فكلُّهم تلكأوا عنه إلا رجلاً يقال له‏:‏ مالك بن قيس من بني جذرة فإنَّه برز إليه‏.‏

فقال له خالد‏:‏ يا ابن الخبيثة ما جرَّأك على من بينهم، وليس فيك وفاء، فضربه فقتله، ونفرت الأعاجم عن الطَّعام، وقاموا إلى السِّلاح، فاقتتلوا قتالاً شديداً جداً والمشركون يرقبون قدوم بهمن مدداً من جهة الملك إليهم، فهم في قوة وشدة، وكلب في القتال، وصبر المسلمون صبراً بليغاً‏.‏

وقال خالد‏:‏ اللَّهم لك علي إن منحتنا أكتافهم أن لا أستبقي منهم أحداً أقدر عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم، ثمَّ إنَّ الله عزَّ وجلَّ منح المسلمين أكتافهم، فنادى منادي خالد الأسر الأسر لا تقتلوا إلا من امتنع من الأسر، فأقبلت الخيول بهم أفواجاً يساقون سوقاً، وقد وكَّل بهم رجالاً يضربون أعناقهم في النَّهر، ففعل ذلك بهم يوماً وليلة ويطلبهم في الغد ومن بعد الغد، وكلَّما حضر منهم أحد ضربت عنقه في النَّهر وقد صرف ماء النَّهر إلى موضع آخر، فقال له بعض الأمراء‏:‏ إنَّ النَّهر لا يجري بدمائهم حتى ترسل الماء على الدَّم فيجري معه فتبرَّ بيمينك، فأرسله فسال النَّهر دماً عبيطاً فلذلك سمِّي نهر الدَّم إلى اليوم، فدارت الطَّواحين بذلك الماء المختلط بالدَّم العبيط ما كفى العسكر بكماله ثلاثة أيَّام، وبلغ عدد القتلى سبعين ألفاً، ولمَّا هزم خالد الجيش ورجع من رجع من النَّاس عدل خالد إلى الطَّعام الذي كانوا قد وضعوه ليأكلوه‏.‏

فقال للمسلمين‏:‏ هذا نفل، فانزلوا فكلوا فنزل الناس فأكلوا عشاء، وقد جعل الأعاجم على طعامهم مرققاً كثيراً فجعل من يراه من أهل البادية من الأعراب يقولون‏:‏ ما هذه الرُّقع‏؟‏ يحسبونها ثيابا‏.‏

فيقول لهم من يعرف ذلك من أهل الأرياف والمدن‏:‏ أما سمعتم رقيق العيش ‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قالوا‏:‏ فهذا رقيق العيش، فسمُّوه يومئذ رقاقاً، وإنما كانت العرب تسمِّيه العود‏.‏

وقد قال سيف بن عمر‏:‏ عن عمرو بن محمَّد، عن الشعبي، عمَّن حدَّث، عن خالد أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نفل النَّاس يوم خيبر الخبز والبطيخ والشِّواء وما أكلوا غير ذلك غير متأثليه‏.‏


وكان كلُّ من قتل بهذه الوقعة يوم أليس من بلدة يقال لها‏:‏ أمغيشيا، فعدل إليها خالد وأمر بخرابها، واستولى على ما بها، فوجدوا بها مغنماً عظيماً، فقسَّم بين الغانمين فأصاب الفارس بعد النَّفل ألفاً وخمسمائة غير ما تهيأ له ممَّا قبله، وبعث خالد إلى الصِّديق بالبشارة والفتح والخمس من الأموال، والسَّبي مع رجل يقال له‏:‏ جندل من

بني عجل، وكان دليلاً صارماً فلمَّا بلغ الصِّديق الرِّسالة، وأدَّى الأمانة أثنى عليه وأجازه جارية من السَّبي‏.‏

وقال الصِّديق‏:‏ يا معشر قريش إنَّ أسدكم قد عدا على الأسد فغلبه على خراذيله، عجزت النِّساء أن يلدن مثل خالد بن الوليد، ثمَّ جرت أمور طويلة لخالد في أماكن متعددة يملُّ سماعها، وهو مع ذلك لا يكلّ ولا يملّ ولا يهن، ولا يحزن، بل كلَّما له في قوةٍ وصرامةٍ وشدَّةٍ وشهامةٍ، ومثل هذا إنَّما خلقه الله عزَّاً للإسلام وأهله، وذلاً للكفر وشتات شمله‏.‏


فصل نزول خالد بن الوليد النجف، ومحاصرته الحصون‏.‏

ثمَّ سار خالد فنزل الخورنق والسدِّير وبالنَّجف، وبثَّ سراياه هاهنا وهاهنا يحاصرون الحصون من الحيرة، ويستنزلون أهلها قسراً وقهراً، وصلحاً ويسراً وكان في جملة ما نزل بالصُّلح قوم من نصارى العرب فيهم ابن بقيلة المتقدِّم ذكره‏.‏

وكتب لأهل الحيرة كتاب أمان، فكان الذي راوده عليه عمرو بن عبد المسيح ابن نقيلة، ووجد خالد معه كيساً فقال‏:‏ ما في هذا‏؟‏ وفتحه خالد فوجد فيه شيئاً‏.‏

فقال ابن بقيلة‏:‏ هو سمُّ السَّاعة‏.‏

فقال‏:‏ ولم استصحبته معك ‏؟‏

فقال‏:‏ حتى إذا رأيت مكروهاً في قومي أكلته، فالموت أحبُّ إليَّ من ذلك، فأخذه خالد في يده وقال‏:‏ إنَّه لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، ثمَّ قال‏:‏ بسم الله خير الأسماء، رب الأرض والسَّماء الذي ليس يضر مع اسمه داء، الرَّحمن الرَّحيم‏.‏

قال‏:‏ وأهوى إليه الأمراء ليمنعوه منه فبادرهم فابتلعه، فلمَّا رأى ذلك ابن بقيلة قال‏:‏ والله يا معشر العرب لتملكنَّ ما أردتم ما دام منكم أحد، ثمَّ التفت إلى أهل الحيرة فقال‏:‏ لم أر كاليوم أوضح إقبالاً من هذا‏.‏

ثمَّ دعاهم وسألوا خالداً الصُّلح فصالحهم وكتب لهم كتاباً بالصُّلح، وأخذ منهم أربعمائة ألف درهم عاجلة، ولم يكن صالحهم حتى سلَّموا كرامة بنت عبد المسيح إلى رجل من الصَّحابة يقال له‏:‏ شويل وذلك أنَّه لما ذكر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قصور الحيرة كأنَّ شرفها أنياب الكلاب‏.‏

فقال له‏:‏ يا رسول الله هب لي ابنة بقيلة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هي لك‏)‏‏)‏‏.‏

فلمَّا فتحت ادَّعاها شويل، وشهد له اثنان من الصَّحابة فامتنعوا من تسليمها إليه وقالوا‏:‏ ما تريد إلى امرأة ابنة ثمانين سنة ‏؟‏

فقالت لقومها‏:‏ إدفعوني إليه، فإنِّي سأفتدي منه وإنَّه قد رآني وأنا شابَّة، فسلمت إليه فلما خلا بها، قالت‏:‏ ما تريد إلى امرأة بنت ثمانين سنة وأنا أفتدى منك فاحكم بما أردت‏.‏

فقال‏:‏ والله لا أفديك بأقلَّ من عشر مائة فاستكثرتها خديعة منها، ثمَّ أتت قومها فأحضروا له ألف درهم‏.‏

ولامه النَّاس وقالوا‏:‏ لو طلبت أكثر من مائة ألف لدفعوها إليك‏.‏

فقال‏:‏ وهل عدد أكثر من عشر مائة ‏؟‏

وذهب إلى خالد وقال‏:‏ إنَّما أردت أكثر العدد‏.‏

فقال خالد‏:‏ أردت أمراً وأراد الله غيره، وإنَّا نحكم بظاهر قولك ونيَّتك عند الله كاذباً أنت أم صادقاً‏.‏

وقال سيف بن عمر‏:‏ عن عمرو بن محمَّد، عن الشِّعبيّ لمَّا افتتح خالد الحيرة صلَّى ثماني ركعات بتسليمة واحدة، وقد قال عمرو بن القعقاع في هذه الأيَّام ومن قتل من المسلمين بها، وأيَّام الرِّدَّة‏:‏

سَقَى اللهُ قَتْلَى بالفُراتِ مُقيمَةٌ * وَأخْرى بأثباجِ النَجافِ الكوانفِ

ونحنُ وطئنَا بالكَواظِمِ هِرْمِزاً * وبالثَنى قَرني قارنٍ بالجوارفِ

ويَومَ أحَطْنَا بالقُصورِ تتَابَعَتْ * عَلى الحيرةِ الرَّوحاءَ إحدى المَصَارِفِ

حَطَطْنَاهُمْ مِنهَا وقدْ كَانَ عَرْشُهُمْ * يميلُ بهمْ فِعْلَ الجبَانِ المُخَالِفِ

رَمَيْنَا عَليهِمْ بالقُبولَ وقَدْ رَأَوا * غُبوقَ المنايَا حَولَ تِلْكَ المحَارِفِ

صَبيحَةَ قَالُوا نحنُ قومٌ تنزَّلُوا * إلى الرِّيفِ من أرضِ العَرِيبِ المَقَانِفِ

وقد قدم جرير بن عبد الله البجليّ على خالد بن الوليد وهو بالحيرة بعد الوقعات المتعدِّدة، والغنائم المتقدِّم ذكرها ولم يحضر شيئاً منها وذلك لأنَّه كان قد بعثه الصِّديق مع خالد بن سعيد بن العاص إلى الشَّام فاستأذن خالد بن سعيد في الرُّجوع إلى الصِّديق ليجمع له قومه من بجيلة فيكونوا معه‏.‏

فلمَّا قدم على الصِّديق فسأله ذلك، غضب الصِّديق وقال‏:‏ أتيتني لتشغلني عمَّا هو أرضى لله من الذي تدعوني إليه، ثمَّ سيَّره الصِّديق إلى خالد بن الوليد بالعراق‏.‏

قال سيف بأسانيده‏:‏ ثمَّ جاء ابن صلوبا فصالح خالداً على بانقيا، وبسما، وما حول ذلك على عشرة آلاف دينار، وجاءه دهاقين تلك البلاد فصالحوه على بلدانهم وأهاليهم كما صالح أهل الحيرة، واتَّفق في تلك الأيَّام التي كان قد تمكَّن بأطراف العراق واستحوذ على الحيرة وتلك البلدان، وأوقع بأهل أليس والثنى وما بعدها بفارس ومن ناشب معهم ما أوقع من القتل الفظيع في فرسانهم، أن عدت فارس على ملكهم الأكبر أردشير وابنه شيرين فقتلوهما، وقتلوا كل من ينسب إليهما، وبقيت الفرس حائرين فيمن يولُّوه أمرهم، واختلفوا فيما بينهم غير أنَّهم قد جهَّزوا جيوشاً تكون حائلة بين خالد وبين المدائن التي فيها إيوان كسرى، وسرير مملكته‏.‏

فحينئذ كتب خالد إلى من هنالك من المرازبة والأمراء والدَّولة يدعوهم إلى الله، وإلى الدُّخول إلى دين الإسلام ليثبت ملكهم عليهم، وإلا فليدفعوا الجزية، وإلا فليعلموا وليستعدوا لقدومه عليهم بقوم يحبُّون الموت كما يحبُّون هم الحياة، فجعلوا يعجبون من جرأة خالد وشجاعته، ويسخرون من ذلك لحماقتهم، ورعونتهم في أنفسهم‏.‏

وقد أقام خالد هنالك بعد صلح الحيرة سنة يتردَّد في بلاد فارس هاهنا وهاهنا، ويوقع بأهلها من البأس الشَّديد، والسَّطوة الباهرة، ما يبهر الأبصار لمن شاهد ذلك، ويشنِّف أسماع من بلغه ذلك، ويحير العقول لمن تدبَّره‏.‏

فتح خالد للأنبار، وتسمَّى هذه الغزوات ذات العيون‏:‏

ركب خالد في جيوشه فسار حتى انتهى إلى الأنبار وعليها رجل من أعقل الفرس وأسودهم في أنفسهم، يقال له‏:‏ شيرزاذ، فأحاط بها خالد وعليها خندق وحوله أعراب من قومهم على دينهم، واجتمع

معهم أهل أرضهم فمانعوا خالداً أن يصل إلى الخندق فضرب معهم رأساً، ولمَّا تواجه الفريقان أمر خالد أصحابه فرشقوهم بالنِّبال حتى فقأوا منهم ألف عين، فتصايح النَّاس ذهبت عيون أهل الأنبار، وسميت هذه الغزوة ذات العيون، فراسل شيرزاذ خالداً في الصُّلح، فاشترط خالد أموراً امتنع شيرزاذ من قبولها، فتقدَّم خالد إلى الخندق فاستدعي برذايا الأموال من الإبل، فذبحها حتى ردم الخندق بها، وجاز هو وأصحابه فوقها، فلمَّا رأى شيرزاذ ذلك أجاب إلى الصُّلح على الشروط التي اشترطها خالد، وسأله أن يردَّه إلى مأمنه فوفى له خالد بذلك، وخرج شيرزاذ من الأنبار، وتسلَّمها خالد فنزلها واطمأنَّ بها، وتعلَّم الصَّحابة ممَّن بها من العرب الكتابة العربية، وكان أولئك العرب قد تعلَّموها من عرب قبلهم، وهم بنو إياد كانوا بها في زمان بختنصَّر حين أباح العراق للعرب، وأنشدوا خالداً قول بعض إياد يمتدح قومه‏:‏

قَومِي إِيادٌ لَو أنَّهمْ أُمَمٌ * أَوْ لَو أَقَامُوا فَتُهزَلَ النِعَمُ

قومٌ لهمْ باحَةُ العِراقِ إذَا * سَارُوا جميعاً واللُّوحُ والقَلَمُ

ثمَّ صالح خالد أهل البوازيج، وكلواذي‏.‏
قال‏:‏ ثمَّ نقض أهل الأنبار ومن حولهم عهدهم لمَّا اضَّربت بعض الأحوال، ولم يبق على عهده سوى البوازيج، وبانقيا‏.‏

قال سيف‏:‏ عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب ابن أبي ثابت قال‏:‏ ليس لأحد من أهل السَّواد عهد قبل الوقعة إلا بنو صلوبا، وهم أهل الحيرة، وكلواذي ذي، وقرى من قرى الفرات، غدروا حتى دعوا إلى الذِّمة بعد ما غدروا‏.‏

وقال سيف‏:‏ عن محمَّد بن قيس، قلت للشِّعبيّ‏:‏ أخذ السَّواد عنوة وكل أرض إلا بعض القلاع والحصون ‏؟‏

قال‏:‏ بعض صالح، وبعض غالب‏.‏

قلت‏:‏ فهل لأهل السَّواد ذمَّة اعتقدوها قبل الحرب ‏؟‏

قال‏:‏ لا، ولكنَّهم لمَّا دُعوا ورضوا بالخراج وأخذ منهم صاروا ذمَّة‏.‏

وقعة عين التَّمر‏:‏

لمَّا استقلَّ خالد بالأنبار استناب عليها الزَّبرقان بن بدر، وقصد عين التَّمر وبها يومئذٍ مهران بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العرب، وحولهم من الأعراب طوائف من النمر، وتغلب، وإياد، ومن لاقاهم وعليهم عقَّة ابن أبي عقَّة، فلمَّا دنا خالد، قال عقَّة لمهران‏:‏ إنَّ العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالداً‏.‏

فقال له‏:‏ دونكم وإيَّاهم وإن احتجتم إلينا أعنَّاكم، فلامت العجم أميرهم على هذا، فقال‏:‏ دعوهم فإن غلبوا خالداً فهو لكم، وإن غُلبوا قاتلنا خالداً وقد ضعفوا ونحن أقوياء، فاعترفوا له بفضل الرَّأي عليهم‏.‏

وسار خالد وتلقَّاه عقَّة، فلمَّا تواجهوا قال خالد لمجنبتيه‏:‏ إحفظوا مكانكم فإنِّي حامل، وأمر حماته أن يكونوا من ورائه، وحمل على عقَّة وهو يسوي الصُّفوف فاحتضنه وأسره، وانهزم جيش عقَّة من غير قتال، فأكثروا فيهم الأسر، وقصد خالد حصن عين التَّمر‏.‏

فلمَّا بلغ مهران هزيمة عقَّة وجيشه نزل من الحصن وهرب وتركه، ورجعت فلال نصارى الأعراب إلى الحصن فوجدوه مفتوحاً فدخلوه واحتموا به، فجاء خالد وأحاط بهم وحاصرهم أشد الحصار، فلمَّا رأوا ذلك سألوه الصُّلح فأبى إلا أن ينزلوا على حكم خالد، فجعلوا في السَّلاسل، وتسلَّم الحصن، ثمَّ أمر فضربت عنق عقَّة ومن كان أسر معه، والذين نزلوا على حكمه أيضاً أجمعين، وغنم جميع ما في ذلك الحصن، ووجد في الكنيسة التي به أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل وعليهم باب مغلق، فكسره خالد وفرَّقهم في الأمراء وأهل الغناء‏.‏

وكان حمران صار إلى عثمان بن عفَّان من الخمس، ومنهم سيرين والد محمَّد بن سيرين، أخذه أنس بن مالك، وجماعة آخرون من الموالي المشاهير أراد بهم وبذراريهم خيراً‏.‏

ولمَّا قدم الوليد بن عقبة على الصِّديق بالخمس، ردَّه الصِّديق إلى عياض بن غنم مدداً له وهو محاصر دومة الجندل، فلمَّا قدم عليه وجده في ناحية من العراق يحاصر قوماً وهم قد أخذوا عليه الطُّرق فهو محصور أيضاً، فقال عياض للوليد‏:‏ إنَّ بعض الرَّأي خير من جيش كثيف، ماذا ترى فيما نحن فيه ‏؟‏

فقال له الوليد‏:‏ اكتب إلى خالد يمدَّك بجيش من عنده‏.‏

فكتب إليه يستمدَّه فقدم كتابه على خالد عقب وقعة عين التَّمر وهو يستغيث به‏.‏

فكتب إليه من خالد إلى عياض‏:‏ إيَّاك أريد

لَبِّثْ قليلاً تَأْتِكَ الحَلائِبُ * يحْمِلْنَ آسَاداً عليها القَاشِبُ

كتَائِبُ تَتْبَعُهَا كَتَائِبُ

خبر دومة الجندل‏:‏

لمَّا فرغ خالد من عين التَّمر قصد إلى دومة الجندل، واستخلف على عين التَّمر عويمر بن الكاهن الأسلميّ، فلمَّا سمع أهل دومة الجندل بمسيره إليهم بعثوا إلى أحزابهم من بهراء، وتنوخ، وكلب، وغسَّان، والضجاعم، فأقبلوا إليهم وعلى غسَّان وتنوخ ابن الأيهم، وعلى الضجاعم ابن الحدرجان، وجماع النَّاس بدومة إلى رجلين أكيدر بن عبد الملك، والجودي بن ربيعة فاختلفا‏.‏

فقال أكيدر‏:‏ أنا أعلم النَّاس بخالد، لا أحد أيمن طائر منه في حرب ولا أحدَّ منه، ولا يرى وجه خالد قوم أبداً قلُّوا أم كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوا القوم‏.‏

فأبوا عليه، فقال‏:‏ لن أمالئكم على حرب خالد وفارقهم، فبعث إليه خالد عاصم بن عمرو فعارضه فأخذه، فلمَّا أتى به خالداً أمر فضربت عنقه، وأخذ ما كان معه، ثمَّ تواجه خالد وأهل دومة الجندل وعليهم الجودي بن ربيعة، وكل قبيلة مع أميرها من الأعراب، وجعل خالد دومة بينه وبين جيش عياض بن غنم، وافترق جيش الأعراب فرقتين، فرقة نحو خالد، وفرقة نحو عياض، وحمل خالد على من قبله، وحمل عياض على أولئك، فأسر خالد الجودي، وأسر الأقرع بن حابس وديعة، وفرَّت الأعراب إلى الحصن فملأوه، وبقي منهم خلق ضاق عليهم، فعطفت بنو تميم على من هو خارج الحصن فأعطوهم ميرة فنجا بعضهم، وجاء خالد فضرب أعناق من وجده خارج الحصن، وأمر بضرب عنق الجودي، ومن كان معه من الأسارى إلا أسارى بني كلب، فإنَّ عاصم بن عمرو والأقرع بن حابس وبني تميم أجاروهم‏.‏

فقال لهم خالد‏:‏ مالي ومالكم أتحفظون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام‏.‏

فقال له عاصم بن عمرو‏:‏ أتحسدونهم العافية، وتحوذونهم الشَّيطان‏.‏

ثمَّ أطاف خالد بالباب فلم يزل عنه حتى اقتلعه واقتحموا الحصن، فقتلوا من فيه من المقاتلة، وسبوا الذَّراري، فبايعوهم بينهم فيمن يزيد، واشترى خالد يومئذ ابنة الجودي، وكانت موصوفة بالجمال، وأقام بدومة الجندل وردَّ الأقرع إلى الأنبار‏.‏

ثمَّ رجع خالد إلى الحيرة فتلقَّاه أهلها من أهل الأرض بالتقليس، فسمع رجلاً منهم يقول لصاحبه‏:‏ مر بنا فهذا يوم فرح الشرِّ‏.‏

خبر وقعتي الحصيد والمضيح‏:‏

قال سيف‏:‏ عن محمَّد وطلحة والمهلب قالوا‏:‏ وكان خالد أقام بدومة الجندل فظنَّ الأعاجم به وكاتبوا عرب الجزيرة فاجتمعوا لحربه، وقصدوا الأنبار يريدون انتزاعها من الزَّبرقان وهو نائب خالد عليها، فلمَّا بلغ ذلك الزَّبرقان كتب إلى القعقاع بن عمرو نائب خالد على الحيرة، فبعث القعقاع أعبد ابن فدكي السَّعدي وأمره بالحصيد، وبعث عروة ابن أبي الجعد البارقي وأمره بالخنافس، ورجع خالد من دومة إلى الحيرة وهو عازم على مصادمة أهل المدائن محلَّة كسرى، لكنَّه يكره أن يفعل ذلك بغير إذن أبي بكر الصِّديق، وشغله ما قد اجتمع من جيوش الأعاجم مع نصارى الأعراب يريدون حربه، فبعث القعقاع بن عمرو أميراً على النَّاس فالتقوا بمكان يقال له‏:‏ الحصيد وعلى العجم رجل منهم يقال له‏:‏ روزبه، وأمدَّه أمير آخر يقال له‏:‏ زرمهر فاقتتلوا قتالاً شديداً وهُزم المشركون، فقتل منهم المسلمون خلقاً كثيراً، وقتل القعقاع بيده زرمهر، وقتل رجل يقال له‏:‏ عصمة بن عبد الله الضبي رزوبه، وغنم المسلمون شيئاً كثيراً وهرب من هرب من العجم، فلجأوا إلى مكان يقال له‏:‏ خنافس فسار إليهم أبو ليلى ابن فدكي السَّعدي، فلمَّا أحسُّوا بذلك ساروا إلى المضيح، فلمَّا استقرُّوا بها بمن معهم من الأعاجم والأعارب قصدهم خالد بن الوليد بمن معه من الجنود، وقسَّم الجيش ثلاث فرق وأغار عليهم ليلاً وهم نائمون، فأنامهم ولم يفلت منهم إلا اليسير، فما شبِّهوا إلا بغنم مصرعة‏.‏

وقد روى ابن جرير عن عدي بن حاتم قال‏:‏ انتهينا في هذه الغارة إلى رجل يقال له‏:‏ حرقوص بن النُّعمان النمري وحوله بنوه وبناته وامرأته وقد وضع لهم جفنة من خمر وهم يقولون‏:‏ أحد يشرب هذه السَّاعة وهذه جيوش خالد قد أقبلت ‏؟‏


فقال لهم‏:‏ إشربوا شرب وداع، فما أرى أن تشربوا خمراً بعدها، فشربوا وجعل يقول‏:‏

أَلا يا اسقِيَاني قَبْلَ نَائِرَةِ الفَجْرِ * لعَلَّ مَنَايانَا قريبٌ وَلا نَدْرِي

القصيدة إلى آخرها‏.‏

قال‏:‏ فهجم النَّاس عليه فضرب رجل رأسه فإذا هو في جفنته، وأُخذت بنوه وبناته وامرأته، وقد قتل في هذه المعركة رجلان كانا قد أسلما ومعهما كتاب من الصِّديق بالأمان، ولم يعلم بذلك المسلمون، وهما‏:‏ عبد العزى ابن أبي رهم بن قرواش قتله جرير بن عبد الله البجليّ، والآخر لبيد بن جرير قتله بعض المسلمين، فلمَّا بلغ خبرهما الصِّديق ودَّاهما، وبعث بالوصاة بأولادهما، وتكلَّم عمر بن الخطَّاب في خالد بسببهما، كما تكلَّم فيه بسبب مالك بن نويرة‏.‏

فقال له الصِّديق‏:‏ كذلك يلقى من يساكن أهل الحرب في ديارهم، أي الذَّنب لهما في مجاورتهما المشركين‏.‏

وهذا كما في الحديث ‏(‏‏(‏أنا بريء من كلِّ من ساكن المشرك في داره‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث الآخر ‏(‏‏(‏لا ترى نارهما‏)‏‏)‏ أي لا يجمتع المسلمون والمشركون في محلة واحدة‏.‏

ثمَّ كانت وقعة الثنى، والزميل، وقد بيتوهم فقتلوا من كان هنالك من الأعراب والأعاجم فلم يفلت منهم أحد ولا انبعث بخبر، ثمَّ بعث خالد بالخمس من الأموال والسَّبي إلى الصِّديق، وقد اشترى علي ابن أبي طالب من هذا السَّبي جارية من العرب وهي ابنة ربيعة بن بجير التَّغلبي فاستولدها عمر، ورقية - رضي الله عنهم أجمعين -‏.‏

وقعة الفِراض‏:‏

ثمَّ سار خالد بمن معه من المسلمين إلى وقعة الفراض وهي تخوم الشَّام والعراق والجزيرة، فأقام هنالك شهر رمضان مفطراً لشغله بالأعداء، ولما بلغ الرُّوم أمر خالد ومصيره إلى قرب بلادهم، حموا وغضبوا وجمعوا جموعاً كثيرة، واستمدوا تغلب وإياد والنَّمر، ثمَّ ناهدوا خالداً فحالت الفرات بينهم‏.‏

فقالت الرُّوم لخالد‏:‏ أعبر إلينا‏.‏

وقال خالد للرُّوم‏:‏ بل اعبروا أنتم‏.‏

فعبرت الرُّوم إليهم وذلك للنِّصف من ذي القعدة سنة اثنتي عشرة فاقتتلوا هنالك قتالاً عظيماً بليغاً، ثمَّ هزم الله جموع الرُّوم، وتمكَّن المسلمون من اقتفائهم فقتل في هذه المعركة مائة ألف، وأقام خالد بعد ذلك بالفراض عشرة أيَّام، ثمَّ أذن بالقفول إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير في المقدِّمة، وأمر شجرة بن الأعز أن يسير في السَّاقة، وأظهر خالد أنَّه يسير في السَّاقة، وسار خالد في عدَّة من أصحابه وقصد شطر المسجد الحرام وسار إلى مكة في طريق لم يسلك قبله قط ويأتي له في ذلك أمر لم يقع لغيره، فجعل يسير متعسِّفاً على غير جادَّة حتى انتهى إلى مكة فأدرك الحج في هذه السَّنة، ثم عاد فأدرك أمر السَّاقة قبل أن يصلوا إلى الحيرة، ولم يعلم أحد بحج خالد هذه السَّنة إلا القليل من النَّاس ممَّن كان معه، ولم يعلم أبو بكر الصِّديق بذلك أيضاً إلا بعدما رجع أهل الحج من الموسم، فبعث يعتب عليه في مفارقته الجيش، وكانت عقوبته عنده أن صرفه من غزو العراق إلى غزو الشَّام، وقال له‏:‏ فيما كتب إليه يقول له‏:‏ وإنَّ الجموع لم تشج بعون الله شجيك فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتمم الله لك ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإيَّاك أن تدل بعمل فإنَّ الله له المنُّ وهو ولي الجزاء‏.‏

فصل فيما كان من الحوادث في هذه السَّنة‏:‏

فيها أمر الصِّديق زيد بن ثابت أن يجمع القرآن من اللِّحاف والعسب وصدور الرِّجال وذلك بعد ما استحرَّ القتل في القرَّاء يوم اليمامة، كما ثبت به الحديث في صحيح البخاري‏.‏

وفيها تزوَّج علي ابن أبي طالب بأمامة بنت زينب بنت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهي من أبي العاص بن الرَّبيع بن عبد شمس الأموي، وقد توفِّي أبوها في هذا العام، وهذه هي التي كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يحملها في الصَّلاة فيضعها إذا سجد، ويرفعها إذا قام‏.‏

وفيها تزوَّج عمر بن الخطَّاب عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وهي ابنة عمِّه وكان لها محباً وبها معجباً، وكان لا يمنعها من الخروج إلى الصَّلاة، ويكره خروجها، فجلس لها ذات ليلة في الطَّريق في ظلمة فلمَّا مرَّت ضرب بيده على عجزها، فرجعت إلى منزلها ولم تخرج بعد ذلك، وقد كانت قبله تحت زيد بن الخطَّاب فيما قيل فقتل عنها، وكانت قبل زيد تحت عبد الله ابن أبي بكر فقتل عنها، ولما مات عمر تزوجها بعده الزُّبير فلمَّا قتل خطبها علي ابن أبي طالب، فقالت‏:‏ إني أرغب بك عن الموت، وامتنعت عن التزوج حتى ماتت‏.‏

وفيها اشترى عمر مولاه أسلم، ثمَّ صار منه أن كان أحد سادات التَّابعين، وابنه زيد بن أسلم أحد الثِّقات الرُّفعاء‏.‏

وفيها حجَّ بالنَّاس أبو بكر الصِّديق رضي الله عنه واستخلف على المدينة عثمان بن عفَّان‏.‏

رواه ابن إسحاق عن العلاء بن عبد الرَّحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن رجل من بني سهم، عن ابن ماجدة قال‏:‏ حجَّ بنا أبو بكر في خلافته سنة اثنتي عشرة، فذكر حديثاً في القصاص من قطع الأذن، وأنَّ عمر حكم في ذلك بأمر الصِّديق‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال بعض النَّاس‏:‏ لم يحجّ أبو بكر في خلافته، وأنَّه بعث على الموسم السَّنة اثنتي عشرة عمر بن الخطِّاب أو عبد الرَّحمن بن عوف‏.‏

فصل فيمن توفِّي في هذه السَّنة‏:‏

قد قيل‏:‏ إنَّ وقعة اليمامة وما بعدها كانت في سنة اثنتي عشرة، فليذكر هاهنا من تقدَّم ذكره في سنة إحدى عشرة من قتل اليمامة وما بعدها، ولكنَّ المشهور ما ذكرناه‏.‏

بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي‏:‏

والد النُّعمان بن بشير شهد العقبة الثَّانية وبدراً وما بعدها، ويقال‏:‏ إنَّه أوَّل من أسلم من الأنصار، وهو أوَّل من بايع الصِّديق يوم السَّقيفة من الأنصار، وشهد مع خالد حروبه إلى أن قتل بعين التَّمر رضي الله عنه‏.‏

وروى له النَّسائي حديث النَّحل‏.‏

والصعب بن جثامة اللَّيثي أخو محكم بن جثامة له عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحاديث، قال أبو حاتم‏:‏ هاجر وكان نزل ودَّان ومات في خلافة الصِّديق‏.‏

أبو مرثد الغنويّ‏:‏

واسمه معاذ بن الحصين ويقال‏:‏ ابن الحصين بن يربوع بن عمرو بن يربوع بن خرشة بن سعد بن طريف بن خيلان بن غنم بن غني بن أعصر بن سعد بن قيس بن غيلان بن مضر بن نزار أبو مرثد الغنوي شهد هو وابنه مرثد بدراً، ولم يشهدها رجل هو وابنه سواهما، واستشهد ابنه مرثد يوم الرَّجيع كما تقدَّم، وابن ابنه أنيس بن مرثد ابن أبي مرثد له صحبة أيضاً شهد الفتح وحنيناً، وكان عين رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم أوطاس، فهم ثلاثة نسقاً وقد كان أبو مرثد حليفاً للعبَّاس بن عبد المطَّلب، وروي له عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حديث واحد أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تصلُّوا إلى القبور ولا تجلسوا إليها‏)‏‏)‏‏.‏

قال الواقديّ‏:‏ توفِّي سنة اثنتي عشرة، زاد غيره بالشَّام، وزاد غيره عن ست وستين سنة، وكان رجلاً طويلاً كثير الشَّعر‏.‏

قلت‏:‏ وفي قِبليّ دمشق قبر يعرف بقبر كثير، والذي قرأته على قبره‏:‏ هذا قبر كناز بن الحصين صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورأيت على ذلك المكان روحا وجلالة‏.‏
والعجب أنَّ الحافظ ابن عساكر لم يذكره في ‏(‏تاريخ الشَّام‏)‏ فالله أعلم‏.‏

وممَّن توفِّي في هذه السَّنة أبو العاص بن الرَّبيع‏:‏

ابن عبد العزَّى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشيّ العبشمي زوج أكبر بنات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم زينب، وكان محسناً إليها، ومحباً لها، ولمَّا أمره المسلمون بطلاقها حين بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أبى عليهم ذلك، وكان ابن أخت خديجة بنت خويلد، واسم أمَّه هالة، ويقال‏:‏ هند بنت خويلد، واختلف في اسمه فقيل‏:‏ لقيط وهو الأشهر، وقيل‏:‏ مهشم، وقيل‏:‏ هشيم، وقد شهد بدراً من ناحية الكفَّار فأسر، فجاء أخوه عمرو بن الرَّبيع ليفاديه وأحضر معه الفداء قلادة كانت خديجة أخرجتها مع ابنتها زينب حين تزوَّج أبو العاص بها، فلمَّا رآها رسول الله رقَّ لها رقَّة شديدة وأطلقه بسببها، واشترط عليه أن يبعث له زينب إلى المدينة، فوفَّى له بذلك، واستمرَّ أبو العاص على كفره بمكة إلى قبيل الفتح بقليل، فخرج في تجارة لقريش فاعترضه زيد بن حارثة في سرية فقتلوا جماعة من أصحابه وغنموا العير، وفرَّ أبو العاص هارباً إلى المدينة فاستجار بامرأته زينب فأجارته، فأجاز رسول الله جوارها، وردَّ عليه ما كان معه من أموال قريش فرجع بها أبو العاص إليهم، فردَّ كل مال إلى صاحبه، ثمَّ تشهَّد شهادة الحقِّ، وهاجر إلى المدينة، وردَّ عليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم زينب بالنِّكاح الأوَّل، وكان بين فراقها له وبين اجتماعها ستَّ سنين، وذلك بعد سنتين من وقت تحريم المسلمات على المشركين في عمرة الحديبية، وقيل‏:‏ إنَّما ردَّها عليه بنكاح جديد، فالله أعلم‏.‏

وقد ولد له من زينب علي ابن أبي العاص وخرج مع علي إلى اليمن حين بعثه إليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يثني عليه خيراً في صهارته‏.‏

ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏حدَّثني فصدَّقني، وواعدني فوفَّاني‏)‏‏)‏‏.‏

وقد توفِّي في أيَّام الصِّديق سنة اثنتي عشرة‏.‏

وفي هذه السَّنة تزوَّج علي ابن أبي طالب بابنته أمامة بنت أبي العاص بعد وفاة خالتها فاطمة، وما أدري هل كان ذلك قبل وفاة أبي العاص أو بعده، فالله أعلم تمَّ الجزء السادس‏.‏