ثم
دخلت سنة خمس عشرة
قال ابن جرير: قال بعضهم فيها مصر سعد بن أبي وقاص الكوفة دلهم عليها
ابن بقيلة.
قال لسعد: أدلك على أرض ارتفعت عن البق وانحدرت عن الفلاة؟
فدلهم على موضع الكوفة اليوم.
قال: وفيها كانت وقعة مرج الروم، وذلك لما انصرف أبو عبيدة وخالد من
وقعة فحل قاصدين إلى حمص حسب ما أمر به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه، كما تقدم في رواية سيف بن عمر، فسارا حتى نزلا على ذي
الكلاع.
فبعث هرقل بطريقاً يقال له: توذرا في جيش معه، فنزل بمرج دمشق
وغربها، وقد هجم الشتاء فبدأ أبو عبيد بمرج الروم.
وجاء أمير آخر من الروم يقال له: شنس، وعسكر معه كثيف، فنازله أبو
عبيدة فاشتغلوا به عن توذرا، فسار توذرا نحو دمشق لينازلها وينتزعها من
يزيد ابن أبي سفيان، فاتبعه خالد بن الوليد وبرز إليه يزيد بن أبي
سفيان من دمشق، فاقتتلوا وجاء خالد وهم في المعركة، فجعل يقتلهم من
ورائهم، ويزيد يفصل فيهم من أمامهم، حتى أناموهم، ولم يفلت منهم إلا
الشارد.
وقتل خالد توذرا، وأخذوا من الروم أموالاً عظيمة فاقتسماها، ورجع يزيد
إلى دمشق، وانصرف خالد إلى أبي عبيدة فوجده قد واقع شنس بمرج الروم،
فقاتلهم فيه مقاتلة عظيمة حتى أنتنت الأرض من زهمهم.
وقتل أبو عبيدة شنس وركبوا أكتافهم إلى حمص، فنزل عليها يحاصرها.
وقعة حمص الأولى
لما وصل أبو عبيدة في أتباعه الروم المنهزمين إلى حمص، نزل حولها
يحاصرها، ولحقه خالد بن الوليد فحاصروها حصاراً شديداً، وذلك في زمن
البرد الشديد، وصابر أهل البلد رجاء أن يصرفهم عنهم شدة البرد، وصبر
الصحابة صبراً عظيماً بحيث إنه ذكر غير واحد أن من الروم من كان يرجع،
وقد سقطت رجله وهي في الخف، والصحابة ليس في أرجلهم شيء سوى النعال،
ومع هذا لم يصب منهم قدم ولا أصبع أيضاً، ولم يزالوا كذلك حتى انسلخ
فصل الشتاء فاشتد الحصار.
وأشار بعض كبار أهل حمص عليهم بالمصالحة، فأبوا عليه ذلك، وقالوا:
أنصالح والملك منا قريب؟
فيقال: إن الصحابة كبروا في بعض الأيام تكبيرة ارتجت منها المدينة
حتى تفطرت منها بعض الجدران، ثم تكبيرة أخرى فسقطت بعض الدور، فجاءت
عامتهم إلى خاصتهم فقالوا: ألا تنظرون إلى ما نزل بنا، وما نحن
فيه؟ إلا تصالحون القوم عنا؟
قال: فصالحوهم على ما صالحوا عليه أهل دمشق، على نصف المنازل، وضرب
الخراج على الأراضي، وأخذ الجزية على الرقاب بحسب الغنى والفقر.
وبعث أبو عبيدة بالأخماس والبشارة إلى عمر مع عبد الله بن مسعود.
وأنزل أبو عبيدة بحمص جيشاً كثيفاً يكون بها مع جماعة من الأمراء، منهم
بلال والمقداد، وكتب أبو عبيدة إلى عمر يخبره بأن هرقل قد قطع الماء
إلى الجزيرة، وأنه يظهر تارة ويخفى أخرى، فبعث إليه عمر يأمره بالمقام
ببلده.
وقعة قنسرين
لما فتح أبو عبيدة حمص بعث خالد بن الوليد إلى قنسرين، فلما جاءها ثار
إليه أهلها ومن عندهم من نصارى العرب، فقاتلهم خالد فيها قتالاً
شديداً، وقتل منهم خلقاً كثيراً.
فأما من هناك من الروم فأبادهم وقتل أميرهم ميتاس.
وأما الأعراب فإنهم اعتذروا إليه بأن هذا القتال لم يكن عن رأينا، فقبل
منهم خالد وكف عنهم، ثم خلص إلى البلد فتحصنوا فيه، فقال لهم خالد:
إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا.
ولم يزل بهم حتى فتحها الله عليه. ولله الحمد.
فلما بلغ عمر ما صنعه خالد في هذه الوقعة قال: يرحم الله أبا بكر،
كان أعلم بالرجال مني، والله إني لم أعزله عن ريبة، ولكن خشيت أن يوكل
الناس إليه.
وفي هذه السنة تقهقر هرقل بجنوده، وارتحل عن بلاد الشام إلى بلاد
الروم.
هكذا ذكره ابن جرير عن محمد بن إسحاق قال: قال سيف: كان ذلك في سنة
ست عشرة.
قالوا: وكان هرقل كلما حج إلى بيت المقدس وخرج منها يقول: عليك
السلام يا سورية، تسليم مودع لم يقض منك وطراً وهو عائد.
فلما عزم على الرحيل من الشام وبلغ الرها، طلب من أهلها أن يصحبوه إلى
الروم.
فقالوا: إن بقاءنا هاهنا أنفع لك من رحيلنا معك فتركهم.
فلما وصل إلى شمشان وعلا على شرف هنالك التفت إلى نحو بيت المقدس
وقال: عليك السلام يا سورية سلاماً لا اجتماع بعده إلا أن أسلم عليكم
تسليم المفارق، ولا يعود إليك رومي أبداً إلا خائفاً حتى يولد المولود
المشؤوم، ويا ليته لم يولد.
ما أحلى فعله، وأمر عاقبته على الروم !!
ثم سار هرقل حتى نزل القسطنطينية واستقر بها ملكه، وقد سأل رجلاً ممن
اتبعه كان قد أسر مع المسلمين، فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال:
أخبرك كأنك تنظر إليهم، هم فرسان بالنهار، رهبان بالليل، لا يأكلون في
ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربوه حتى يأتوا
عليه.
فقال: لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين.
قلت: وقد حاصر المسلمون قسطنطينية في زمان بني أمية فلم يملكوها،
ولكن سيملكها المسلمون في آخر الزمان كما سنبينه في كتاب الملاحم، وذلك
قبل خروج الدجال بقليل على ما صحت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره من الأئمة ولله الحمد والمنة.
وقد حرم الله على الروم أن يملكوا بلاد الشام برمتها إلى آخر الدهر،
كما ثبت به الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ((إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر
فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز
وجل)).
وقد وقع ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه كما رأيت، وسيكون ما أخبر
به جزماً لا يعود ملك القياصره إلى الشام أبداً، لأن قيصر علم جنس عند
العرب يطلق على كل من ملك الشام مع بلاد الروم.
فهذا لا يعود لهم أبداً.
وقعة قيسارية
قال ابن جرير: وفي هذه السنة أمر عمر معاوية بن أبي سفيان على
قيسارية وكتب إليه:
أما بعد: فقد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من
قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا
ومولانا فنعم المولى ونعم النصير.
فسار إليها، فحاصرها وزاحفه أهلها مرات عديدة، وكان آخرها وقعة أن
قاتلوا قتالاً عظيماً، وصمم عليهم معاوية، واجتهد في القتال حتى فتح
الله عليه فما انفصل الحال حتى قتل منهم نحواً من ثمانين ألفاً، وكمل
المائة الألف من الذين انهزموا عن المعركة، وبعث بالفتح والأخماس إلى
أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
قال ابن جرير: وفيها كتب عمر بن الخطاب إلى عمر بن العاص بالمسير إلى
إيليا، ومناجزة صاحبها فاجتاز في طريقه عند الرملة بطائفة من الروم
فكانت.
وقعة أجنادين
وذلك أنه سار بجيشه، وعلى ميمنته: ابنه عبد الله بن عمرو، وعلى
ميسرته: جنادة بن تميم المالكي من بني مالك بن كنانة، ومعه شرحبيل بن
حسنة، واستخلف على الأردن أبا الأعور السلمي، فلما وصل إلى الرملة وجد
عندها جمعاً من الروم عليهم الأرطبون، وكان أدهى الروم وأبعدها غوراً،
وأنكأها فعلاً، وقد كان وضع بالرملة جنداً عظيماً، وبإيلياء جنداً
عظيماً، فكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمرو قال: قد
رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عما تنفرج.
وبعث عمرو بن العاص، علقمة بن حكيم الفراسي، ومسروق بن بلال العكي على
قتال أهل إيليا.
وأبا أيوب المالكي إلى الرملة، وعليها التذارق، فكانوا بإزائهم
ليشغلوهم عن عمرو بن العاص وجيشه، وجعل عمرو كلما قدم عليه أمداداً من
جهة يبعث منهم طائفة إلى هؤلاء وطائفة إلى هؤلاء.
وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على سقطة، ولا تشفيه
الرسل، فوليه بنفسه، فدخل عليه كأنه رسول فأبلغه ما يريد وسمع كلامه
وتأمل حضرته حتى عرف ما أراد، وقال الأرطبون في نفسه: والله إن هذا
لعمرو أو أنه الذي يأخذ عمر برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر هو أعظم
من قتله.
فدعا حرسياً فساره فأمره بفتكه، فقال: اذهب فقم في مكان كذا وكذا،
فإذا مر بك فاقتله، ففطن عمرو بن العاص فقال للأرطبون: أيها الأمير
إني قد سمعت كلامك وسمعت كلامي، وإني واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب
لنكون مع هذا الوالي لنشهد أموره، وقد أحببت أن آتيك بهم ليسمعوا كلامك
ويروا ما رأيت.
فقال الأرطبون: نعم، فاذهب فأتني بهم.
ودعا رجلاً فساره، فقال: اذهب إلى فلان فرده.
وقام عمرو فذهب إلى جيشه ثم تحقق الأرطبون أنه عمرو بن العاص، فقال:
خدعني الرجل، هذا والله أدهى العرب.
وبلغت عمر بن الخطاب، فقال: لله در عمرو.
ثم ناهضه عمرو فاقتتلوا بأجنادين قتالاً عظيماً، كقتال اليرموك، حتى
كثرت القتلى بينهم، ثم اجتمعت بقية الجيوش إلى عمرو بن العاص، وذلك حين
أعياهم صاحب إيليا وتحصن منهم بالبلد، وكثر جيشه، فكتب الأرطبون إلى
عمرو: بأنك صديقي ونظيري، أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتح
من فلسطين شيئاً بعد أجنادين، فارجع ولا تغر فتلقى مثل ما لقي الذين
قبلك من الهزيمة.
فدعا عمرو رجلاً يتكلم بالرومية فبعثه إلى أرطبون وقال: اسمع ما يقول
لك ثم ارجع فأخبرني.
وكتب إليه معه جاءني كتابك وأنت نظيري، ومثلي في قومك لو أخطأتك خصلة
تجاهلت فضيلتي، وقد علمت أني صاحب فتح هذه البلاد، واقرأ كتابي هذا
بمحضر من أصحابك ووزرائك.
فلما وصله الكتاب جمع وزراءه وقرأ عليهم الكتاب، فقالوا للأرطبون: من
أين علمت أنه ليس بصاحب فتح هذه البلاد؟
فقال: صاحبها رجل اسمه على ثلاثة أحرف.
فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره بما قال.
فكتب عمرو إلى عمر يستمده ويقول له: إني أعالج حرباً كؤداً صدوماً
وبلاداً ادخرت لك فرأيك.
فلما وصل الكتاب إلى عمر علم أن عمراً لم يقل ذلك إلا لأمر علمه، فعزم
عمر على الدخول إلى الشام لفتح بيت المقدس كما سنذكر تفصيله.
قال سيف بن عمر عن شيوخه: وقد دخل عمر الشام أربع مرات:
الأولى: كان راكباً فرساً حين فتحت بيت المقدس.
والثانية: على بعير.
والثالثة: وصل إلى سرع، ثم رجع لأجل ما وقع بالشام من الوباء.
والرابعة: دخلها على حمار، هكذا نقله ابن جرير عنه.
فتح بيت المقدس على يدي عمر بن الخطاب
ذكره أبو جعفر بن جرير في هذه السنة عن رواية سيف بن عمر، وملخص ما
ذكره هو وغيره: أن أبا عبيدة لما فرغ من دمشق كتب إلى أهل إيليا
يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، أو يبذلون الجزية، أو يؤذنون بحرب،
فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه، فركب إليهم في جنوده، واستخلف على
دمشق سعيد بن زيد، ثم حاصر بيت المقدس وضيق عليهم حتى أجابوا إلى
الصلح، بشرط أن يقدم إليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
فكتب إليه أبو عبيدة بذلك فاستشار عمر الناس في ذلك فأشار عثمان بن
عفان بأن لا يركب إليهم ليكون أحقر لهم وأرغم لأنوفهم.
وأشار علي بن أبي طالب بالمسير إليهم ليكون أخف وطأة على المسلمين في
حصارهم بينهم، فهوي ما قال علي ولم يهو ما قال عثمان.
وسار بالجيوش نحوهم واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب، وسار العباس
بن عبد المطلب على مقدمته، فلما وصل إلى الشام تلقاه أبو عبيدة ورؤس
الأمراء، كخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، فترجل أبو عبيدة، وترجل
عمر، فأشار أبو عبيدة ليقبل يد عمر، فهم عمر بتقبيل رجل أبي عبيدة، فكف
أبو عبيدة فكف عمر.
ثم سار حتى صالح نصارى بيت المقدس، واشترط عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث،
ثم دخلها إذ دخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة الإسراء.
ويقال: إنه لبى حين دخل بيت المقدس، فصلى فيه تحية المسجد بمحراب
داود، وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد، فقرأ في الأولى بسورة
ص، وسجد فيها والمسلمون معه، وفي الثانية بسورة بني إسرائيل، ثم جاء
إلى الصخرة فاستدل على مكانها من كعب الأحبار، فأشار عليه كعب أن يجعل
المسجد من ورائه، فقال: ضاهيت اليهودية، ثم جعل المسجد في قبلي بيت
المقدس وهو العمري اليوم، ثم نقل التراب عن الصخرة في طرف ردائه
وقبائة، ونقل المسلمون معه في ذلك وسخر أهل الأردن في نقل بقيتها، وقد
كانت الروم جعلوا الصخرة مزبلة لأنها قبلة اليهود، حتى أن المرأة كانت
ترسل خرقة حيضتها من داخل الحوز لتلقى في الصخرة، وذلك مكافأة لما كانت
اليهود عاملت به القمامة وهي المكان الذي كانت اليهود صلبوا فيه
المصلوب، فجعلوا يلقون على قبره القمامة فلأجل ذلك سمي ذلك الموضع
القمامة، وانسحب هذا الاسم على الكنيسة التي بناها النصارى هنالك.
وقد كان هرقل حين جاءه الكتاب النبوي وهو بإيلياء وعظ النصارى فيما
كانوا قد بالغوا في إلقاء الكناسة على الصخرة حتى وصلت إلى محراب داود،
قال لهم: إنكم لخليق أن تقتلوا على هذه الكناسة مما امتهنتم هذا
المسجد كما قتلت بنو إسرائيل على دم يحيى بن زكريا، ثم أمروا بإزالتها،
فشرعوا في ذلك فما أزالوا ثلثها حتى فتحها المسلمون، فأزالها عمر بن
الخطاب، وقد استقصى هذا كله بأسانيده ومتونه الحافظ بهاء الدين بن
الحافظ أبي القاسم بن عساكر في كتابه (المستقصى في فضائل المسجد
الأقصى).
وذكر سيف في سياقه: أن عمر رضي الله عنه ركب من المدينة على فرس
ليسرع السير بعد ما استخلف عليها علي بن أبي طالب، فسار حتى قدم
الجابية فنزل بها وخطب بالجابية خطبة طويلة بليغة منها:
أيها الناس، أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا أمر
دنياكم، واعلموا أن رجلاً ليس بينه وبين آدم أب حي، ولا بينه وبين الله
هوادة، فمن أراد لَحْبَ (طريق) وجه الجنة فليلزم الجماعة فإن
الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد، ولا يخلون أحدكم بامرأة فإن
الشيطان ثالثهما، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن.
وهي خطبة طويلة اختصرناها.
ثم صالح عمر أهل الجابية ورحل إلى بيت المقدس، وقد كتب إلى أمراء
الأجناد أن يوافوه في اليوم الفلاني إلى الجابية، فتوافوا أجمعون في
ذلك اليوم إلى الجابية، فكان أول من تلقاه يزيد بن أبي سفيان، ثم أبو
عبيدة، ثم خالد بن الوليد في خيول المسلمين وعليهم يلامق الديباج، فسار
إليهم عمر ليحصبهم فاعتذروا إليه بأن عليهم السلاح، وأنهم يحتاجون إليه
في حروبهم.
فسكت عنهم، واجتمع الأمراء كلهم بعدما استخلفوا على أعمالهم سوى عمرو
بن العاص وشرحبيل بن حسنة، فإنهما مواقفان الأرطبون بأجنادين، فبينما
عمر في الجابية إذا بكردوس من الروم بأيديهم سيوف مسللة، فسار إليهم
المسلمون بالسلاح، فقال عمر: إن هؤلاء قوم يستأمنون.
فساروا نحوهم فإذا هم جند من بيت المقدس يطلبون الأمان والصلح من أمير
المؤمنين حين سمعوا بقدومه، فأجابهم عمر رضي الله عنه إلى ما سألوا،
وكتب لهم كتاب أمان ومصالحة، وضرب عليهم الجزية، واشترط عليهم شروطاً
ذكرها ابن جرير.
وشهد في الكتاب خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف،
ومعاوية بن أبي سفيان، وهو كاتب الكتاب، وذلك سنة خمس عشرة.
ثم كتب لأهل لدٍّ ومن هنالك من الناس كتاباً آخر، وضرب عليهم الجزية،
ودخلوا فيما صالح عليه أهل إيلياء، وفر الأرطبون إلى بلاد مصر، فكان
بها حتى فتحها عمرو بن العاص، ثم فر إلى البحر فكان يلي بعض السرايا
الذين يقاتلون المسلمين فظفر به رجل من قيس فقطع يد القيسي، وقتله
القيسي، وقال في ذلك:
فإن يكن أرطبون الروم أفسدها * فإن فيها بحمد الله منتفعاً
وإن يكن أرطبون الروم قطعها * فقد تركت بها أوصالة قطعاً
ولما صالح أهل الرملة وتلك البلاد، أقبل عمرو بن العاص، وشرحبيل بن
حسنة حتى قدما الجابية، فوجدا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب راكباً،
فلما اقتربا منه أكبا على ركبتيه فقبلاها، واعتنقهما عمر معاً رضي الله
عنهم.
قال سيف: ثم سار عمر إلى بيت المقدس من الجابية، وقد توحى فرسه فأتوه
ببرذون فركبه، فجعل يهملج به فنزل عنه وضرب وجهه وقال: لا علم الله
من علمك، هذا من الخيلاء، ثم لم يركب برذوناً قبله ولا بعده، ففتحت
إيلياء وأرضها على يديه، ماخلا أجنادين فعلى يدي عمرو، وقيسارية فعلى
يدي معاوية.
هذا سياق سيف بن عمر.
وقد خالفه غيره من أئمة السير: فذهبوا إلى أن فتح بيت المقدس كان في
سنة ست عشرة.
قال محمد بن عائذ، عن الوليد بن مسلم، عن عثمان بن حصن بن علان، قال
يزيد بن عبيدة: فتحت بيت المقدس سنة ست عشرة، وفيها قدم عمر بن
الخطاب الجابية.
وقال أبو زرعة الدمشقي، عن دحيم، عن الوليد بن مسلم قال: ثم عاد في
سنة سبع عشرة فرجع من سرع، ثم قدم سنة ثماني عشرة فاجتمع إليه الأمراء
وسلموا إليه ما اجتمع عندهم من الأموال فقسمها وجند الأجناد ومصر
الأمصار، ثم عاد إلى المدينة.
وقال يعقوب بن سفيان: ثم كان فتح الجابية وبيت المقدس سنة ست عشرة.
وقال أبو معشر: ثم كان عمواس والجابية في سنة ست عشرة.
ثم كانت سرع في سبع عشرة، ثم كان عام الرمادة في سنة ثماني عشرة.
قال: وكان فيها طاعون عمواس - يعني: فتح البلدة المعروفة بعمواس -
فأما الطاعون المنسوب إليها فكان في سنة ثماني عشرة كما سيأتي قريباً
إن شاء الله تعالى.
قال أبو مخنف: لما قدم عمر الشام فرأى غوطة دمشق ونظر إلى المدينة
والقصور والبساتين تلا قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا
فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}
[الدخان: 25-28].
ثم أنشد قول النابغة:
هما فتيا دهر يكر عليهما * نهار وليل يلحقان التواليا
إذا ما هما مرا بحي بغبطة * أناخا بهم حتى يلاقوا الدواهيا
وهذا يقتضي بادي الرأي أنه دخل دمشق، وليس كذلك فإنه لم ينقل أحد أنه
دخلها في شيء من قدماته الثلاث إلى الشام:
أما الأولى: وهي هذه فإنه سار من الجابية إلى بيت المقدس، كما ذكر
سيف وغيره والله أعلم.
وقال الواقدي: أما رواية غير أهل الشام فهي أن عمر دخل الشام مرتين،
ورجع الثالثة من سرع سنة سبع عشرة، وهم يقولون: دخل في الثالثة دمشق
وحمص، وأنكر الواقدي ذلك.
قلت: ولا يعرف أنه دخل دمشق إلا في الجاهلية قبل إسلامه، كما بسطنا
ذلك في سيرته.
وقد روينا أن عمر حين دخل بيت المقدس، سأل كعب الأحبار عن مكان
الصخرة.
فقال: يا أمير المؤمنين أذرع من وادي جهنم كذا وكذا ذراعاً فهي
ثمَّ.
فذرعوا فوجدوها وقد اتخذها النصارى مزبلة كما فعلت اليهود بمكان
القمامة، وهو المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي شبه بعيسى، فاعتقدت
النصارى واليهود أنه المسيح.
وقد كذبوا في اعتقادهم هذا كما نص الله نص الله تعالى على خطئهم في
ذلك.
والمقصود: أن النصارى لما حكموا على بيت المقدس قبل البعثة بنحو من
ثلاثمائة سنة طهروا مكان القمامة، واتخذوه كنيسة هائلة بنتها أم الملك
قسطنطين باني المدينة المنسوبة إليه، واسم أمه هيلانة الحرانية
البندقانية.
وأمرت ابنها فبنى للنصارى بيت لحم على موضع الميلاد وبنت هي على موضع
القبر فيما يزعمون.
والغرض أنهم اتخذوا مكان قبلة اليهود مزبلة أيضاً في مقابلة ما صنعوا
في قديم الزمان وحديثه.
فلما فتح عمر بيت المقدس، وتحقق موضع الصخرة أمر بإزالة ما عليها من
الكناسة، حتى قيل: أنه كنسها بردائه.
ثم استشار كعباً أين يضع المسجد، فأشار عليه بأن يجعله وراء الصخرة،
فضرب في صدره وقال: يا ابن أم كعب ضارعت اليهود، وأمر ببنائه في مقدم
بيت المقدس.
قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا حماد بن سلمة عن أبي سنان،
عن عبيد بن آدم، وأبي مريم، وأبي شعيب: أن عمر بن الخطاب كان
بالجابية فذكر فتح بيت المقدس، قال: قال ابن سلمة: فحدثني أبو
سنان، عن عبيد بن آدم سمعت عمر يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟
قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، وكانت القدس كلها بين يديك.
فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة فصلى، ثم جاء فبسط ردائه وكنس الكناسة في
ردائه، وكنس الناس.
وهذا إسناد جيد، اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتابه
(المستخرج)، وقد تكلمنا على رجاله في كتابنا الذي أفردناه في مسند
عمر، ما رواه من الأحاديث المرفوعة، وما روى عنه من الآثار الموقوفة
مبوباً على أبواب الفقه، ولله الحمد والمنة.
وقد روى سيف بن عمر، عن شيوخه، عن سالم قال: لما دخل عمر الشام،
تلقاه رجل من يهود دمشق، فقال: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب
إيلياء؟
لا هالله لا ترجع حتى يفتح الله عليك إيلياء.
وقد روى أحمد بن مروان الدينوري، عن محمد بن عبد العزيز، عن أبيه، عن
الهيثم بن عدي، عن أسامة بن يزيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده أسلم مولى
عمر بن الخطاب: أنه قدم دمشق في تجار من قريش فلما خرجوا تخلف عمر
لبعض حاجته، فبينما هو في البلد إذا ببطريق يأخذ بعنقه فذهب ينازعه فلم
يقدر، فأدخله داراً فيها تراب وفأس ومجرفة وزنبيل، وقال له: حول هذا
من ههنا إلى ههنا، وغلق عليه الباب، وانصرف فلم يجئ إلى نصف النهار.
قال: وجلست مفكراً ولم أفعل مما قال لي شيئاً.
فلما جاء قال: مالك لم تفعل؟
ولكمني في رأسي بيده، قال: فأخذت الفأس فضربته بها فقتلته، وخرجت على
وجهي فجئت ديراً لراهب، فجلست عنده من العشي فأشرف علي فنزل وأدخلني
الدير فأطعمي وسقاني، وأتحفني، وجعل يحقق النظر فيَّ، وسألني عن
أمري.
فقلت: إني ضللت أصحابي.
فقال: إنك لتنظر بعين خائف، وجعل يتوسمني، ثم قال: لقد علم أهل دين
النصرانية أني أعلمهم بكتابهم، وإني لأراك الذي تخرجنا من بلادنا هذه،
فهل لك أن تكتب لي كتاب أمان على ديري هذا؟
فقلت: يا هذا لقد ذهبت غير مذهب، فلم يزل بي حتى كتبت له صحيفة بما
طلب مني، فلما كان وقت الانصراف أعطاني أتاناً، فقال لي: اركبها فإذا
وصلت إلى أصحابك فابعث إلي بها وحدها فإنها لا تمر بدير إلا أكرموها.
ففعلت ما أمرني به، فلما قدم عمر لفتح بيت المقدس أتاه ذلك الراهب وهو
بالجابية بتلك الصحيفة فأمضاها له عمر، واشترط عليه ضيافة من يمر به من
المسلمين، وأن يرشدهم إلى الطريق.
رواه ابن عساكر وغيره.
وقد ساقه ابن عساكر من طريق أخرى في ترجمة يحيى بن عبيد الله بن أسامة
القرشي البلقاوي عن زيد بن أسلم، عن أبيه فذكر حديثاً طويلاً عجيباً
هذا بعضه.
وقد ذكرنا الشروط العمرية على نصارى الشام مطولاً في كتابنا الأحكام،
وأفردنا له مصنفاً على حدة، ولله الحمد والمنة.
وقد ذكرنا خطبته في الجابية بألفاظها وأسانيدها في الكتاب الذي أفردناه
لمسند عمر، وذكرنا تواضعه في دخوله الشام في السيرة التي أفردناها
له.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثني الربيع بن ثعلب، نا أبو إسماعيل
المؤدب، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي، عن أبي الغالية الشامي
قال: قدم عمر بن الخطاب الجابية على طريق إيلياء على جمل أورق، تلوح
صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة، تصطفق رجلاه بين شعبتي الرحل
بلا ركاب، وطاؤه كساء أنبجاني ذو صوف هو وطاؤه إذا ركب، وفراشه إذا
نزل، حقيبته نمرة أو شملة محشوة ليفاً، هي حقيبته إذا ركب ووسادته إذا
نزل، وعليه قميص من كرابيس قد رسم وتخرق جنبه.
فقال: ادعوا لي رأس القوم، فدعوا له الجلومس.
فقال: اغسلوا قميصي وخيطوه وأعيروني ثوباً أو قميصاً.
فأتي بقميص كتان، فقال: ما هذا؟
قالوا: كتان.
قال: وما الكتان؟
فأخبروه فنزع قميصه، فغسل ورقع، وأتى به فنزع قميصهم ولبس قميصه.
فقال له: الجلومس أنت ملك العرب، وهذه البلاد لا تصلح بها الإبل، فلو
لبست شيئاً غير هذا وركبت برذوناً لكان ذلك أعظم في أعين الروم.
فقال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فلا نطلب بغير الله بديلاً، فأتي
ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل فركبه بها، فقال: احبسوا
احبسوا، ما كنت أرى الناس يركبون الشيطان قبل هذا فأتي بجمله فركبه.
وقال إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا سفيان، عن
أيوب الطائي، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر
الشام عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره ونزع موقيه فأمسكهما بيد وخاض الماء
ومعه بعيره.
فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنيعاً عظيماً عند أهل الأرض، صنعت
كذا وكذا.
قال: فصك في صدره، وقال: أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم
أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام فمهما تطلبوا
العز بغير يذلكم الله.
أيام بُرس وبابل وكوثى
قال ابن جرير: وفي هذه السنة - أعني: سنة خمس عشرة - كانت بين
المسلمين وفارس وقعات في قول سيف بن عمر.
وقال ابن إسحاق والواقدي: إنما كان ذلك في سنة ست عشرة.
ثم ذكر ابن جرير وقعات كثيرة كانت بينهم، وذلك حين بعث عمر بن الخطاب
إلى سعد بن أبي وقاص يأمره بالمسير إلى المدائن، وأن يخلف النساء
والعيال بالعقيق في خيل كثيرة كثيفة، فلما تفرغ سعد من القادسية بعث
على المقدمة زهرة بن حوية، ثم أتبعه بالأمراء واحداً بعد واحد، ثم سار
في الجيوش وقد جعل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص على خلافته مكان خالد بن
عرفطة، وجعل خالداً هذا على الساقة، فساروا في خيول عظيمة، وسلاح كثير،
وذلك لأيام بقين من شوال من هذه السنة، فنزلوا الكوفة وارتحل زهرة بين
أيديهم نحو المدائن فلقيه بها بصبهرى في جيش من فارس فهزمهم زهرة،
وذهبت الفرس في هزيمتهم إلى بابل وبها جمع كثير ممن انهزم يوم القادسية
قد جعلوا عليهم الفيرزان، فبعث زهرة إلى سعد فأعلمه باجتماع المنهزمين
ببابل، فسار سعد بالجيوش إلى بابل فتقابل هو والفيرزان عند بابل،
فهزمهم كأسرع من لفة الرداء، وانهزموا بين يديه فرقتين، فرقة ذهبت إلى
المدائن، وأخرى سارت إلى نهاوند.
وأقام سعد ببابل أياماً، ثم سار منها نحو المدائن فلقوا جمعاً آخر من
الفرس فاقتتلوا قتالاً شديداً، وبارزوا أمير الفرس وهو شهريار، فبرز
إليه رجل من المسلمين يقال له: نائل الأعرجي أبو نباتة من شجعان
تميم، فتجاولا ساعة بالرماح، ثم ألقياها فانتضيا سيفيهما، وتصاولا بهما
ثم تعانقا وسقطا عن فرسيهما إلى الأرض، فوقع شهريار على صدر أبي نباتة،
وأخرج خنجراً ليذبحه بها، فوقعت أصبعه في فم أبي نباتة فقضمها حتى شغله
عن نفسه، وأخذ الخنجر فذبح شهريار بها، وأخذ فرسه وسواريه وسلبه،
وانكشف أصحابه فهزموا.
فأقسم سعد على نائل ليلبس سواري شهريار وسلاحه، وليركبن فرسه إذا كان
حرب، فكان يفعل ذلك.
قالوا: وكان أول من تسور بالعراق، وذلك بمكان يقال له: كوثى.
وزار المكان الذي حبس فيه الخليل وصلى عليه، وعلى سائر الأنبياء،
وقرأ: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}
الآية [آل عمران: 140].
وقعة نهرشير
قالوا: ثم قدم سعد زهرة بين يديه من كوثى إلى نهرشير، فمضى إلى
المقدمة، وقد تلقاه شيرزاذ إلى ساباط بالصلح والجزية، فبعثه إلى سعد
فأمضاه، ووصل سعد بالجنود إلى مكان يقال له: مظلم ساباط، فوجدوا
هنالك كتائب كثيرة لكسرى يسمونها: بوران، وهم يقسمون كل يوم لا يزول
ملك فارس ما عشنا، ومعهم أسد كبير لكسرى يقال له: المقرط قد أرصدوه
في طريق المسلمين، فتقدم إليه ابن أخي سعد، وهو هاشم بن عتبة، فقتل
الأسد والناس ينظرون، وسمي: يومئذ سيفه المتين.
وقبل سعد يومئذ رأس هاشم، وقبل هاشم قدم سعد، وحمل هاشم على الفرس
فأزالهم عن أماكنهم وهزمهم وهو يتلو قوله تعالى: ((أولم تكونوا
أقسمتم من قبل مالكم من زوال)) فلما كان الليل ارتحل المسلمون
ونزلوا نهرشير فجعلوا كلما وقفوا كبروا، وكذلك حتى كان آخرهم مع سعد
فأقاموا بها شهرين ودخلوا في الثالث وفرغت السنة.
قال ابن جرير: وفيها حج بالناس عمر وكان عامله فيها على مكة عتاب بن
أسيد، وعلى الشام أبو عبيدة، وعلى الكوفة والعراق سعد، وعلى الطائف
يعلى بن أمية، وعلى البحرين واليمامة عثمان بن أبي العاص، وعلى عُمان
حذيفة بن محصن.
قلت: وكانت وقعة اليرموك في سنة خمس عشرة في رجب منها عند الليث بن
سعد، وابن لهيعة، وأبي معشر، والوليد بن مسلم، ويزيد بن عبيدة، وخليفة
بن خياط، وابن الكلبي، ومحمد بن عائذ، وابن عساكر، وشيخنا أبي عبد الله
الذهبي الحافظ.
وأما سيف بن عمر، وأبو جعفر بن جرير فذكروا وقعة اليرموك في سنة ثلاث
عشرة.
وقد قدمنا ذكرها هنالك تبعاً لابن جرير، وهكذا وقعة القادسية عند بعض
الحفاظ: أنها كانت في أواخر هذه السنة - سنة خمس عشرة - وتبعهم في
ذلك شيخنا الحافظ الذهبي.
والمشهور: أنها كانت في سنة أربع عشرة كما تقدم ثم ذكر شيخنا
الذهبي.
ومن توفي هذه السنة مرتبين على الحروف
سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، وهو أحد أقوال المؤرخين.
وقد تقدم.
سعد بن عبيد بن النعمان أبو زيد الأنصاري الأوسي، قتل بالقادسية،
ويقال: أنه أبو زيد القاري أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنكر آخرون ذلك، ويقال: إنه والد
عمير بن سعد الزاهد أمير حمص.
وذكر محمد بن سعد وفاته بالقادسية، وقال: كانت سنة ست عشرة والله
أعلم.
سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن حسل بن عامر بن لؤي أبو
يزيد العامري أحد خطباء قريش وأشرافهم، أسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه،
وكان سمحاً جواداً فصيحاً، كثير الصلاة، والصوم، والصدقة، وقراءة
القرآن، والبكاء.
ويقال: إنه قام وصام حتى شحب لونه، وله سعي مشكور في صلح الحديبية.
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس بمكة خطبة عظيمة تثبت
الناس على الإسلام، وكانت خطبته بمكة قريباً من خطبة الصديق بالمدينة،
ثم خرج في جماعة إلى الشام مجاهداً، فحضر اليرموك، وكان أميراً على بعض
الكراديس، ويقال: إنه استشهد يومئذ.
وقال الواقدي والشافعي: توفي بطاعون عمواس.
عامر بن مالك بن أهيب الزهري أخي سعد بن أبي وقاص، هاجر إلى الحبشة،
وهو الذي قدم بكتاب عمر إلى أبي عبيدة بولايته على الشام وعزل خالد
عنها، واستشهد يوم اليرموك.
عبد الله بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي، صحابي هاجر إلى الحبشة مع
عمه أبي سلمة بن عبد الأسد.
روى عنه عمرو بن دينار منقطعاً لأنه قتل يوم اليرموك.
عبد الرحمن بن العوام، أخو الزبير بن العوام، حضر بدراً مشركاً، ثم
أسلم واستشهد يوم اليرموك في قول.
عتبة بن غزوان، توفي فيها في قول.
عكرمة بن أبي جهل، استشهد باليرموك في قول.
عمرو بن أم مكتوم، استشهد يوم القادسية وقد تقدم، ويقال: بل رجع إلى
المدينة.
عمرو بن الطفيل بن عمرو تقدم.
عامر بن أبي ربيعة تقدم.
فراس بن النضر بن الحارث، يقال: استشهد يوم اليرموك.
قيس بن عدي بن سعد بن سهم من مهاجرة الحبشة، قتل باليرموك.
قيس بن أبي صعصعة.
عمرو بن زيد بن عوف الأنصاري المازني، شهد العقبة وبدراً، وكان أحد
أمراء الكراديس يوم اليرموك، وقتل يومئذ، وله حديث قال: قلت يا رسول
الله في كم أقرأ القرآن؟
قال: ((في خمس عشرة)) الحديث.
قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: ففيه دليل على أنه ممن جمع القرآن في
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نصير بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي
القرشي العبدري، أسلم عام الفتح، وكان من علماء قريش، وأعطاه رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم حنين مائة من الإبل، فتوقف في أخذها وقال: لا
أرتشي على الإسلام.
ثم قال: والله ما طلبتها ولا سألتها، وهي عطية رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فأخذها وحسن إسلامه، واستشهد يوم اليرموك.
نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكان أسن من أسلم من بني عبد المطلب، وكان ممن أسر يوم بدر ففاداه
العباس، ويقال: أنه هاجر أيام الخندق، وشهد الحديبية والفتح، وأعان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بثلاثة آلاف رمح، وثبت يومئذٍ،
وتوفي سنة خمس عشرة، وقيل: سنة عشرين والله أعلم.
توفي بالمدينة، وصلى عليه عمر، ومشى في جنازته، ودفن بالبقيع، وخلف عدة
أولاد فضلاء وأكابر.
هشام بن العاص، أخو عمرو بن العاص تقدم.
وقال ابن سعد: قتل يوم اليرموك.
ثم دخلت سنة ست عشرة
استُهلت هذه السنة، وسعد بن أبي وقاص منازل مدينة نهرشير، وهي إحدى
مدينتي كسرى مما يلي دجلة من الغرب، وكان قدوم سعد إليها في ذي الحجة
من سنة خمس عشرة، واستهلت هذه السنة وهو نازل عندها.
وقد بعث السرايا والخيول في كل وجه فلم يجدوا واحداً من الجند بل جمعوا
من الفلاحين مائة ألف، فحبسوا حتى كتب إلى عمر ما يفعل بهم.
فكتب إليه عمر: إن من كان من الفلاحين لم يعن عليكم وهو مقيم ببلده
فهو أمانه، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به.
فأطلقهم سعد بعد ما دعاهم إلى الإسلام، فأبوا إلا الجزية.
ولم يبقى من غربي دجلة إلا أرض العرب أحد من الفلاحين إلا تحت الجزية
والخراج.
وامتنعت نهرشير من سعد أشد الامتناع، وقد بعث إليهم سعد سلمان الفارسي
فدعاهم إلى الله عز وجل، أو الجزية، أو المقاتلة، فأبوا إلا المقاتلة
والعصيان، ونصبوا المجانيق والدبابات.
وأمر سعد بعمل المجانيق فعملت عشرون منجنيقاً ونصبت على نهرشير، واشتد
الحصار، وكان أهل نهرشير يخرجون فيقاتلون قتالاً شديداً ويحلفون أن لا
يفروا أبداً، فأكذبهم الله وهزمهم زهرة بن حوية بعد ما أصابه سهم، وقتل
بعد مصابه كثيراً من الفرس، وفروا بين يديه، ولجأوا إلى بلدهم، فكانوا
يحاصرون فيه أشد الحصار، وقد انحصر أهل البلد حتى أكلوا الكلاب
والسنانير، وقد أشرف رجل منهم على المسلمين فقال:
يقول لكم الملك: هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة
إلى جبلنا؟ ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أم شبعتم؟ لا أشبع
الله بطونكم.
قال: فبدر الناس رجل يقال له أبو مقرن الأسود بن قطبة فأنطقه الله
بكلام لم يدر ما قال لهم، قال: فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون من نهرشير
إلى المدائن
فقال الناس لأبي مقرن: ما قلت لهم؟
فقال: والذي بعث محمد بالحق ما أدري ما قلت لهم، إلا أن علي سكينة،
وأنا أرجو أن أكون قد أنطقت بالذي هو خير، وجعل الناس ينتابونه يسألونه
عن ذلك، وكان فيمن سأله سعد بن أبي وقاص، وجاءه سعد إلى منزله فقال:
يا أبا مقرن ما قلت؟ فوالله إنهم هراب.
فحلف له أنه لا يدري ما قال.
فنادى سعد في الناس، ونهد بهم إلى البلد والمجانيق تضرب في البلد،
فنادى رجل من البلد بالأمان فأمناه، فقال: والله ما بالبلد أحد فتسور
الناس السور فما وجدنا فيها أحد إلا قد هربوا إلى المدائن.
وذلك في شهر صفر من هذه السنة، فسألنا ذلك الرجل وأناساً من الأسارى
فيها لأي شيء هربوا؟
قالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح فأجابه ذلك الرجل بأنه لا
يكون بينكم وبينه صلح أبداً حتى نأكل عسل أفريذين بأترج كوثى.
فقال الملك: يا ويلاه إن الملائكة لتتكلم على ألسنتهم، ترد علينا
وتجيبنا عن العرب، ثم أمر الناس بالرحيل من هناك إلى المدائن، فجازوا
في السفن منها إليها، وبينهما دجلة، وهي قريبة منها جداً.
ولما دخل المسلمون نهرشير لاح لهم القصر الأبيض من المدائن، وهو قصر
الملك الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيفتحه الله على
أمته، وذلك قريب الصباح، فكان أول من رآه من المسلمين ضرار بن الخطاب
فقال: الله أكبر، أبيض كسرى، هذا ما وعدنا الله ورسوله.
ونظر الناس إليه، فتتابعوا التكبير إلى الصبح.
ذكر فتح المدائن
لما فتح سعد نهرشير واستقر بها، وذلك في صفر، لم يجد فيها أحداً ولا
شيئاً مما يغنم، بل قد تحولوا بكمالهم إلى المدائن، وركبوا السفن وضموا
السفن إليهم، ولم يجد سعد رضي الله عنه شيئاً من السفن، وتعذر عليه
تحصيل شيء منها بالكلية، وقد زادت دجلة زيادة عظيمة، وأسودَّ ماؤها،
ورمت بالزبد من كثرة الماء بها، وأخبر سعد بأن كسرى يزدجرد عازم على
أخذ الأموال والأمتعة من المدائن إلى حلوان، وأنك إن لم تدركه قبل ثلاث
فات عليك وتفارط الأمر.
فخطب سعد المسلمين على شاطئ دجلة فحمد الله وأثنى عليه وقال:
إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه، وهم يخلصون
إليكم إذا شاؤا فينا وشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا
منه، وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا،
ألا أني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم.
فقالوا جميعاً عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل.
فعند ذلك ندب سعد الناس إلى العبور، ويقول: من يبدأ فيحمي لنا الفراض
- يعني: ثغرة المخاضة من الناحية الأخرى - ليجوز الناس إليهم
آمنين.
فانتدب عاصم بن عمرو ذو البأس من الناس قريب من ستمائة، فأمر سعد عليهم
عاصم بن عمرو فوقفوا على حافة دجلة، فقال عاصم: من ينتدب معي لنكون
قبل الناس دخولاً في هذا البحر فنحمي الفراض من الجانب الآخر ؟
فانتدب له ستون من الشجعان المذكورين - والأعاجم وقوف صفوفاً من الجانب
الآخر - فتقدم رجل من المسلمين وقد أحجم الناس عن الخوض في دجلة،
فقال: أتخافون من هذه النطفة ؟
ثم تلا قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران: 145].
ثم أقحم فرسه فيها واقتحم الناس، وقد افترق الستون فرقتين أصحاب الخيل
الذكور، وأصحاب الخيل الإناث.
فلما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا: ديوانا ديوانا.
يقولون: مجانين مجانين.
ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنساً بل تقاتلون جناً.
ثم أرسلوا فرساناً منهم في الماء يلتقون أول المسلمين ليمنعوهم من
الخروج من الماء، فأمر عاصم بن عمرو وأصحابه أن يشرعوا لهم الرماح،
ويتوخوا الأعين، ففعلوا ذلك بالفرس، فقلعوا عيون خيولهم.
فرجعوا أمام المسلمين لا يملكون كف خيولهم حتى خرجوا من الماء، واتبعهم
عاصم وأصحابه فساقوا وراءهم حتى طردوهم عن الجانب الآخر، ووقفوا على
حافة الدجلة من الجانب الآخر، ونزل بقية أصحاب عاصم من الستمائة في
دجلة فخاضوها حتى وصلوا إلى أصحابهم من الجانب الآخر، فقاتلوا مع
أصحابهم حتى نفوا الفرس عن ذلك الجانب، وكانوا يسمون الكتيبة الأولى:
كتيبة الأهوال، وأميرها عاصم بن عمرو.
والكتيبة الثانية: الكتيبة الخرساء وأميرها القعقاع بن عمرو، وهذا
كله وسعد والمسلمون ينظرون إلى ما يصنع هؤلاء الفرسان بالفرس، وسعد
واقف على شاطئ دجلة.
ثم نزل سعد ببقية الجيش، وذلك حين نظروا إلى الجانب الآخر قد تحصن بمن
حصل فيه من الفرسان المسلمين، وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن
يقولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم اقتحم بفرسه دجلة، واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد.
فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤا ما بين الجانبين فلا
يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء
كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم الطمأنينة والأمن،
والوثوق بأمر الله ووعده ونصره، وتأييده، ولأن أميرهم سعد بن أبي وقاص
أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو عنه راضٍ ودعا له فقال:
((اللهم أجب دعوته، وسدد رميته)).
والمقطوع به: أن سعداً دعا لجيشه هذا في هذا اليوم بالسلامة والنصر،
وقد رمى بهم في هذا اليم فسددهم الله وسلمهم فلم يفقد من المسلمين رجل
واحد غير أن رجلاً واحداً يقال له: غرقدة البارقي ذل عن فرس له
شقراء، فأخذ القعقاع بن عمرو بلجامها، وأخذ بيد الرجل حتى عدله على
فرسه، وكان من الشجعان، فقال: عجز النساء أن يلدن مثل القعقاع بن
عمرو.
ولم يعدم للمسلمين شيء من أمتعتهم غير قدح من خشب لرجل يقال له: مالك
بن عامر، كانت علاقته رثة فأخذه الموج، فدعا صاحبه الله عز وجل،
وقال: اللهم لا تجعلني من بينهم يذهب متاعي.
فرده الموج إلى الجانب الذي يقصدونه فأخذه الناس، ثم ردوه على صاحبه
بعينه.
وكان الفرس إذا أعيا وهو في الماء يقيض الله له مثل النشز المرتفع فيقف
عليه فيستريح، وحتى أن بعض الخيل ليسير وما يصل الماء إلى حزامها، وكان
يوماً عظيماً وأمراً هائلاً، وخطباً جليلاً، وخارقاً باهراً، ومعجزة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خلقها الله لأصحابه لم ير مثلها في تلك
البلاد، ولا في بقعة من البقاع، سوى قضية العلاء بن الحضرمي المتقدمة؛
بل هذا أجل وأعظم فإن هذا الجيش كان أضعاف ذلك.
قالوا: وكان الذي يساير سعد بن أبي وقاص في الماء سلمان الفارسي فجعل
سعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل. والله لينصرن الله وليه وليظهرن
الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب
الحسنات.
فقال له سلمان: إن الإسلام جديد، ذللت لهم والله البحور، كما ذلل لهم
البر، أما والذي نفس سليمان بيده ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا
أفواجاً.
فخرجوا منه كما قال سليمان لم يغرق منهم أحد ولم يفقدوا شيئاً.
ولما استقل المسلمون على وجه الأرض، خرجت الخيول تنفض أعرافها صاهلة،
فساقوا وراء الأعاجم حتى دخلوا المدائن، فلم يجدوا بها أحداً؛ بل قد
أخذ كسرى أهله وما قدروا عليه من الأموال والأمتعة والحواصل وتركوا ما
عجزوا عنه من الأنعام والثياب والمتاع، والآنية والألطاف والأدهان ما
لا يدري قيمته.
وكان في خزنة كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف ألف دينار ثلاث مرات، فأخذوا من
ذلك ما قدروا عليه وتركوا ما عجزوا عنه، وهو مقدار النصف من ذلك أو ما
يقاربه.
فكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال ثم الكتيبة الخرساء، فأخذوا في
سككها لا يلقون أحداً ولا يخشونه غير القصر الأبيض، ففيه مقاتلة وهو
محصن.
فلما جاء سعد بالجيش دعا أهل القصر الأبيض ثلاث أيام على لسان سلمان
الفارسي، فلما كان اليوم الثالث نزلوا منه وسكنه سعد، واتخذ الإيوان
مصلى، وحين دخله تلا قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا
فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}
[الدخان: 25-28]. ثم تقدم إلى صدره فصلى ثمان ركعات صلاة
الفتح.
وذكر سيف في روايته: أنه صلاها بتسليمة واحدة، وأنه جمَّع بالإيوان
في صفر من هذه السنة، فكانت أول جمعة جمِّعت بالعراق، وذلك لأن سعداً
نوى الإقامة بها، وبعث إلى العيالات فأنزلهم دور المدائن واستوطنوها،
حتى فتحوا جلولاء وتكريت والموصل، ثم تحولوا إلى الكوفة بعد ذلك كما
سنذكره.
ثم أرسل السرايا في إثر كسرى يزدجرد فلحق بهم طائفة فقتلوهم، وشردوهم،
واستلبوا منهم أموالاً عظيمة.
وأكثر ما استرجعوا من ملابس كسرى وتاجه وحليه.
وشرع سعد في تحصيل ما هنالك من الأموال والحواصل والتحف، مما لا يقوم
ولا يحد ولا يوصف كثرة وعظمة.
وقد روينا: أنه كان هناك تماثيل من جص، فنظر سعد إلى أحدها وإذا هو
يشير بأصبعه إلى مكان.
فقال سعد: إن هذا لم يوضع هكذا سدىً، فأخذوا ما يسامت أصبعه، فوجدوا
قبالتها كنزاً عظيماً من كنوز الأكاسرة الأوائل، فأخرجوا منه أموالاً
عظيمة جزيلة، وحواصل باهرة، وتحفاً فاخرة.
واستحوذ المسلمون على ما هنالك أجمع مما لم ير أحد في الدنيا أعجب منه،
وكان في جملة ذلك تاج كسرى وهو مكال بالجواهر النفيسة التي تحير
الأبصار، ومنطقته كذلك وسيفه وسواره وقباؤه وبساط إيوانه، وكان مربعاً
ستون ذراعاً في مثلها من كل جانب، والبساط مثله سواء، وهو منسوج بالذهب
واللآلئ والجواهر الثمينة، وفيه مصور جميع ممالك كسرى، بلاده بأنهارها
وقلاعها، وأقاليمها وكنوزها، وصفة الزروع والأشجار التي في بلاده.
فكان إذا جلس على كرسي مملكته ودخل تحت تاجه وتاجه معلق بسلاسل من ذهب،
لأنه كان لا يستطيع أن يقله على رأسه لثقله؛ بل كان يجيء فيجلس تحته،
ثم يدخل رأسه تحت التاج والسلاسل الذهب تحمله عنه، وهو يستره حال لبسه،
فإذا رفع الحجاب عنه خرت له الأمراء سجوداً.
وعليه المنطقة والسواران والسيف والقباء المرصع بالجواهر فينظر في
البلدان واحدة واحدة، فيسأل عنها ومن فيها من النواب، وهل حدث فيها شيء
من الأحداث؟ فيخبره بذلك ولاة الأمور بين يديه.
ثم ينتقل إلى الأخرى، وهكذا حتى يسأل عن أحوال بلاده في كل وقت لا يهمل
أمر المملكة، وقد وضعوا هذا البساط بين يديه تذكاراً له بشأن الممالك،
وهو إصلاح جيد منهم في أمر السياسة، فلما جاء قدر الله زالت تلك الأيدي
عن تلك الممالك والأراضي، وتسلمها المسلمون من أيديهم قسراً، وكسروا
شوكتهم عنها، وأخذوها بأمر الله صافية ضافية، ولله الحمد والمنة.
وقد جعل سعد بن أبي وقاص على الأقباض عمرو بن عمرو بن مقرن، فكان أول
ما حصل ما كان في القصر الأبيض ومنازل كسرى، وسائر دور المدائن، وما
كان بالإيوان مما ذكرنا، وما يفد من السرايا الذين في صحبة زهرة بن
حوية، وكان فيما رد زهرة بغل كان قد أدركه وغصبه من الفرس، وكانت تحوطه
بالسيوف فاستنقذه منهم وقال: إن لهذا لشأناً، فرده إلى الأقباض وإذا
عليه سفطان فيهما ثياب كسرى وحليه، ولبسه الذي كان يلبسه على السرير
كما ذكرنا.
وبغل آخر عليه تاجه الذي ذكرنا في سفطين أيضاً رداً من الطريق مما
استلبه أصحاب السرايا، وكان فيما ردت السرايا أموال عظيمة، وفيها أكثر
أثاث كسرى وأمتعته والأشياء النفيسة التي استصحبوها معهم فلحقهم
المسلمون فاستلبوها منهم.
ولم تقدر الفرس على حمل البساط لثقله عليهم، ولا حمل الأموال
لكثرتها.
فإنه كان المسلمون يجيئون بعض تلك الدور فيجدون البيت ملآناً إلى أعلاه
من أواني الذهب والفضة، ويجدون من الكافور شيئاً كثيراً فيحسبونه
ملحاً، وربما استعمله بعضهم في العجين فوجدوه مراً حتى تبينوا أمره
فتحصل الفيء على أمر عظيم من الأموال.
وشرع سعد فخمّسه، وأمر سلمان الفارسي فقسم الأربعة الأخماس بين
الغانمين، فحصل لكل واحدٍ من الفرسان اثني عشرة ألفاً، وكانوا كلهم
فرساناً، ومع بعضهم جنائب.
واستوهب سعد أربعة أخماس: البساط، ولبس كسرى من المسلمين، ليبعثه إلى
عمر والمسلمين بالمدينة لينظروا إليه ويتعجبوا منه، فطيبوا له ذلك
وأذنوا فيه، فبعثه سعد إلى عمر مع الخمس مع بشير بن الخصاصية.
وكان الذي بشر بالفتح قبله حليس بن فلان الأسدي، فروينا: أن عمر لما
نظر إلى ذلك قال: إن قوماً أدوا هذا لأمناء.
فقال له علي بن أبي طالب: إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت.
ثم قسّم عمر ذلك في المسلمين، فأصاب علياً قطعة من البساط، فباعها
بعشرين ألفاً.
وقد ذكر سيف بن عمر: أن عمر بن الخطاب ألبس ثياب كسرى لخشبة ونصبها
أمامه ليرى الناس ما في هذه الزينة من العجب، وما عليها من زهرة الحياة
الدنيا الفانية.
وقد روينا: أن عمر ألبس ثياب كسرى لسراقة بن مالك بن جعشم أمير بني
مدلج رضي الله عنه.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي في (دلائل النبوة): أخبرنا عبد الله
بن يوسف الأصبهاني، حدثنا أبو سعيد ابن الأعرابي قال: وجدت في كتابي
بخط يدي عن أبي داود، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد، ثنا يونس، عن
الحسن: أن عمر بن الخطاب أُتي بفروة كسرى، فوضعت بين يديه وفي القوم
سراقة بن مالك بن جعشم، قال: فألقى إليه سواري كسرى بن هرمز فجعلهما
في يده فبلغا منكبيه، فلما رآهما في يدي سراقة قال: الحمد لله سواري
كسرى بن هرمز في يدي سراقة بن مالك بن جعشم أعرابي من بني مدلج.
وذكر الحديث هكذا ساقه البيهقي.
ثم حُكي عن الشافعي أنه قال: وإنما ألبسهما سراقة لأن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال لسراقة: ((ونظر إلى ذراعيه كأني بك وقد ألبست
سواري كسرى)).
قال الشافعي: وقد قال عمر لسراقة حين ألبسه سواري كسرى، قل: الله
أكبر.
فقال: الله أكبر.
ثم قال: قل: الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن
مالك الأعرابي من بني مدلج.
وقال الهيثم بن عدي: أخبرنا أسامة بن زيد الليثي، حدثنا القاسم بن
محمد بن أبي بكر، قال: بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر
بقباء كسرى وسيفه ومنطقته وسواريه وسراويله وقميصه وتاجه وخفيه.
قال: فنظر عمر في وجوه القوم وكان أجسمهم وأبدنهم قامة سراقة بن مالك
بن جعشم، فقال: يا سراق قم فالبس.
قال سراقة: فطمعت فيه فقمت فلبست.
فقال: أدبر، فأدبرت.
ثم قال: أقبل، فأقبلت.
ثم قال: بخ بخ أُعَيْرَابي من بني مدلج، عليه قباء كسرى وسراويله
وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه.
رب يوم يا سراق بن مالك، لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى،
كان شرفاً لك ولقومك، انزع، فنزعت.
فقال: اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك، وكان أحب إليك مني، وأكرم
عليك مني، ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني، وأكرم إليك مني،
وأعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي.
ثم بكى حتى رحمه من كان عنده.
ثم قال لعبد الرحمن بن عوف: أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن
تمسي.
وذكر سيف بن عمر التميمي: أن عمر حين ملك تلك الملابس والجواهر جيء
بسيف كسرى ومعه عدة سيوف منها سيف النعمان بن المنذر نائب كسرى على
الحيرة.
وأن عمر قال: الحمد الله الذي جعل سيف كسرى فيما يضره ولا ينفعه.
ثم قال: إن قوماً أدوا هذا لأمناء، أو لذوا أمانة.
ثم قال: إن كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتي عن آخرته فجمع لزوج
امرأته، أو زوج ابنته، ولم يقدم لنفسه، ولو قدم لنفسه ووضع الفضول في
مواضعها لحصل له.
وقد قال بعض المسلمين وهو أبو نجيد نافع بن الأسود في ذلك:
وأملنا على المدائن خيلاً * بحرها مثل برِّهنّ أريضا
فانتشلنا خزائن المرء كسرى * يوم ولوا وحاص منا جريضا
وقعة جلولاء
لما سار كسرى، وهو: يزدجرد بن شهريار من المدائن هارباً إلى حلوان،
شرع في أثناء الطريق في جمع رجال وأعوان وجنود، من البلدان التي هناك،
فاجتمع إليه خلق كثير، وجم غفير من الفرس، وأمر على الجميع مهران، وسار
كسرى إلى حلوان فأقام الجمع الذي جمعه بينه وبين المسلمين في جلولاء،
واحتفروا خندقاً عظيماً حولها، وأقاموا بها في العَدد والعُدد وآلات
الحصار، فكتب سعد إلى عمر يخبره بذلك.
فكتب إليه عمر أن يقيم هو بالمدائن، ويبعث ابن أخيه هاشم بن عتبة
أميراً على الجيش الذي يبعثه إلى كسرى، ويكون على المقدمة القعقاع بن
عمرو، وعلى الميمنة سعد بن مالك، وعلى الميسرة أخوه عمر بن مالك، وعلى
الساقة عمرو بن مرة الجهني.
ففعل سعد ذلك وبعث مع ابن أخيه جيشاً كثيفاً يقارب اثني عشر ألفاً من
سادات المسلمين ووجوه المهاجرين والأنصار، ورءوس العرب.
وذلك في صفر من هذه السنة بعد فراغهم من أمر المدائن، فساروا حتى
انتهوا إلى المجوس وهم بجلولاء قد خندقوا عليهم، فحاصرهم هاشم بن عتبة،
وكانوا يخرجون من بلدهم للقتال في كل وقت فيقاتلون قتالاً لم يسمع
بمثله.
وجعل كسرى يبعث إليهم الأمداد، وكذلك سعد يبعث المدد إلى ابن أخيه مرة
بعد أخرى، وحمي القتال واشتد النزال، واضطرمت نار الحرب، وقام في الناس
هاشم فخطبهم غير مرة، فحرضهم على القتال والتوكل على الله.
وقد تعاقدت الفرس وتعاهدت وحلفوا بالنار أن لا يفروا أبداً حتى يفنوا
العرب.
فلما كان الموقف الأخير وهو يوم الفيصل والفرقان، تواقفوا من أول
النهار، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يعهد مثله حتى فني النشاب من
الطرفين، وتقصفت الرماح من هؤلاء ومن هؤلاء، وصاروا إلى السيوف
والطبرزنيات، وحانت صلاة الظهر فصلى المسلمون إيماءاً، وذهبت فرقة
المجوس، وجاءت مكانها أخرى.
فقام القعقاع بن عمرو في المسلمين فقال: أهالكم؟ ما رأيتم أيها
المسلمون ؟
قالوا: نعم، إنا كالون وهم مريحون.
فقال: بل إنا حاملون عليهم ومجدون في طلبهم، حتى يحكم الله بيننا،
فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى نخالطهم، فحمل وحمل الناس.
فأما القعقاع بن عمرو فإنه صمم الحملة في جماعة من الفرسان والأبطال
والشجعان، حتى انتهى إلى باب الخندق، وأقبل الليل بظلامه وجالت بقية
الأبطال بمن معهم في الناس، وجعلوا يأخذون في التحاجز من أجل إقبال
الليل.
وفي الأبطال يومئذ: طليحة الأسدي، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وقيس
بن مكشوح، وحجر بن عدي.
ولم يعلموا بما صنعه القعقاع في ظلمة الليل، ولم يشعروا بذلك، لولا
مناديه ينادي:
أين أيها المسلمون، هذا أميركم على باب خندقهم.
فلما سمع ذلك المجوس فروا وحمل المسلمون نحو القعقاع بن عمرو، فإذا هو
على باب الخندق قد ملكه عليهم، وهربت الفرس كل مهرب، وأخذهم المسلمون
من كل وجه، وقعدوا لهم كل مرصد، فقتل منهم في ذلك الموقف مائة ألف حتى
جللوا وجه الأرض بالقتلى، فلذلك سميت جلولاء.
وغنموا من الأموال والسلاح والذهب والفضة قريباً مما غنموا من المدائن
قبلها.
وبعث هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو في إثر من انهزم منهم وراء كسرى،
فساق خلفهم حتى أدرك مهران منهزماً، فقتله القعقاع بن عمرو، وأفلتهم
الفيرزان فاستمر منهزماً، وأسر سبايا كثيرة بعث بها إلى هاشم بن عتبة،
وغنموا دواب كثيرة جداً.
ثم بعث هاشم بالغنائم والأموال إلى عمه سعد بن أبي وقاص فنفل سعد ذوي
النجدة، ثم أمر بقسم ذلك على الغانمين.
قال الشعبي: كان المال المتحصل من وقعه جلولاء ثلاثين ألف ألف، فكان
خمسه ستة آلاف ألف.
وقال غيره: كان الذي أصاب كل فارس يوم جلولاء نظير ما حصل له يوم
المدائن - يعني: اثني عشر ألفاً لكل فارس - وقيل: أصاب كل فارس
تسعة آلاف وتسع دواب.
وكان الذي ولي قسم ذلك بين المسلمين وتحصيله، سلمان الفارسي رضي الله
عنه.
ثم بعث بالأخماس من المال والرقيق والدواب مع زياد بن أبي سفيان،
وقضاعي بن عمرو، وأبي مقرن الأسود.
فلما قدموا على عمر سأل عمر زياد بن أبي سفيان عن كيفية الوقعة فذكرها
له، وكان زياد فصيحاً، فأعجب إيراده لها عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
وأحب أن يسمع المسلمون منه ذلك، فقال: أتستطيع أن تخطب الناس بما
أخبرتني به ؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحد على وجه الأرض أهيب عندي
منك، فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك؟
فقام في الناس فقص عليهم خبر الوقعة، وكم قتلوا، وكم غنموا، بعبارة
عظيمة بليغة.
فقال عمر: إن هذا لهو الخطيب المصقع - يعني: الفصيح - فقال زياد:
إن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا.
ثم حلف عمر بن الخطاب أن لا يجن هذا المال الذي جاؤا به سقف حتى يقسمه،
فبات عبد الله بن أرقم، وعبد الرحمن بن عوف يحرسانه في المسجد، فلما
أصبح جاء عمر في الناس بعد ما صلى الغداة وطلعت الشمس، فأمر فكشف عنه
جلابيبه، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وذهبه الأصفر وفضته البيضاء، بكى
عمر.
فقال له عبد الرحمن: ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟! فوالله إن هذا
لموطن شكر.
فقال عمر: والله ما ذاك يبكيني، وتالله ما أعطي الله هذا قوماً إلا
تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى بأسهم بينهم.
ثم قسمه كما قسم أموال القادسية.
وروى سيف بن عمر، عن شيوخه أنهم قالوا: وكان فتح جلولاء في ذي القعدة
من سنة ستة عشر، وكان بينه وبين فتح المدائن تسعة أشهر.
وقد تكلم ابن جرير ههنا فيما رواه عن سيف على ما يتعلق بأرض السواد
وخراجها، وموضع تحرير ذلك كتاب (الأحكام).
وقد قال هاشم بن عتبة في يوم جلولاء:
يوم جلولاء ويم رستم * ويوم زحف الكوفة المقدم
ويوم عرض الشهر المحرم * وأيام خلت من بينهن صرم
شيبن أصدغي فهي هرم * مثل ثغام البلد المحرم
وقال أبو نجيد في ذلك:
ويوم جلولاء الوقيعة أصبحت * كتائبنا تردى بأسد عوابس
فضضت جموع الفرس ثم أئمتهم * فتباً لأجساد المجوس النجائس
وأفلتهن الفيرزان بجرعة * ومهران أردت يوم حز القوانس
أقاموا بدار للمنية موعد * وللترب تحثوها خجوج الروامس
ذكر فتح حلوان
ولما انقضت الوقعة أقام هشام بن عتبة بجلولاء عن أمر عمر بن الخطاب -
في كتابه إلى سعد - وتقدم القعقاع بن عمرو إلى حلوان عن أمر عمر أيضاً
ليكون ردءاً للمسلمين هنالك، ومرابطاً لكسرى حيث هرب، فسار كما
قدمنا.
وأدرك أمير الوقعة وهو مهران الرازي فقتله وهرب الفيرزان، فلما وصل إلى
كسرى وأخبره بما كان من أمر جلولاء، وما جرى على الفرس بعده، وكيف قتل
منهم مائة ألف، وأدرك مهران فقتل، هرب عند ذلك كسرى من حلوان إلى الري،
واستناب على حلوان أميراً يقال له: خسروشنوم.
فتقدم إليه القعقاع بن عمرو، وبزر إليه خسروشنوم إلى مكان خارج حلوان،
فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم فتح الله ونصر المسلمين، وانهزم خسروشنوم،
وساق القعقاع إلى حلوان فتسلمها.
ودخلها المسلمون فغنموا وسبوا، وأقاموا في الإسلام فأبوا إلا الجزية،
فلم يزل القعقاع بها حتى تحول سعد من المدائن بها، وضربوا الجزية على
من حولها من الكور والأقاليم بعد ما دعوا إلى الدخول، فسار إليها كما
سنذكره إن شاء الله تعالى.
فتح تكريت والموصل
لما افتتح سعد المدائن، بلغه أن أهل الموصل قد اجتمعوا بتكريت على رجل
من الكفرة يقال له: الأنطاق.
فكتب إلى عمر بأمر جلولاء واجتماع الفرس بها، وبأمر أهل الموصل، فتقدم
ما ذكرناه من كتاب عمر في أهل جلولاء وما كان من أمرها.
وكتب عمر في قضية أهل الموصل الذين قد اجتمعوا بتكريت على الأنطاق، أن
يعين جيشاً لحربهم، ويؤمر عليه عبد الله بن المعتم، وأن يجعل على
مقدمته ربعي بن الأفكل الغزي، وعلى الميمنة الحارث بن حسان الذهلي،
وعلى الميسرة فرات بن حيان العجلي، وعلى الساقة هانئ بن قيس، وعلى
الخيل عرفجة بن هرثمة.
ففصل عبد الله بن المعتم في خمسة آلاف من المدائن، فسار في أربع حتى
نزل بتكريت على الأنطاق، وقد اجتمع إليه جماعة من الروم، ومن الشهارجة،
ومن نصارى العرب من إياد وتغلب والنمر، وقد أحدقوا بتكريت، فحاصرهم عبد
الله بن المعتم أربعين يوماً، وزاحفوه في هذه المدة أربعة وعشرين مرة،
ما من مرة إلا وينتصر عليهم، ويفل جموعهم، فضعف جانبهم؛ وعزمت الروم
على الذهاب في السفن بأموالهم، وراسل عبد الله بن المعتم إلى من هنالك
من الأعراب، فدعاهم إلى الدخول معه في النصرة، على أهل البلد، فجاءت
القصاد إليه عنهم بالإجابة إلى ذلك.
فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فيما قلتم فاشهدوا أن لا إله إلا الله
وأن محمداً رسول الله، وأقروا بما جاء من عند الله.
فرجعت القصاد إليه: بأنهم قد أسلموا.
فبعث إليهم: إن كنتم صادقين، فإذا كبرنا وحملنا على البلد الليلة
فأمسكوا علينا أبواب السفن، وأمنعوهم أن يركبوا فيها، واقتلوا منهم من
قدرتم على قتله.
ثم شد عبد الله وأصحابه، وكبروا تكبيرة رجل واحد، وحملوا على البلد،
فكبرت الأعراب من الناحية الأخرى، فحار أهل البلد، وأخذوا في الخروج من
الأبواب التي تلي دجلة، فتلقتهم إياد والنمر وتغلب، فقتلوهم قتلاً
ذريعاً، وجاء عبد الله بن المعتم بأصحابه من الأبواب الأُخر، فقتل جميع
أهل البلد عن بكرة أبيهم.
ولم يسلم إلا من أسلم من الأعراب من إياد وتغلب والنمر، وقد كان عمر
عهد في كتابه إذا نصروا على تكريت أن يبعثوا ربعي بن الأفكل إلى
الحصنين، وهي الموصل سريعاً، فسار إليها كما أمر عمر، ومعه سرية كثيرة،
وجماعة من الأبطال، فسار إليها حتى فجئها قبل وصول الأخبار إليها، فما
كان إلا أن واقفها حتى أجابوا إلى الصلح فضربت عليهم الذمة عن يد وهم
صاغرون، ثم قسمت الأموال التي تحصلت من تكريت، فبلغ سهم الفارس ثلاثة
آلاف، وسهم الراجل ألف درهم.
وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان، وبالفتح مع الحارث بن حسان، وولي
إمرة حرب الموصل ربعي بن الأفكل، وولي الخراج بها عرفجة بن هرثمة
فتح ماسبذان من أرض العراق
لما رجع هاشم بن عتبة من جلولاء إلى عمر بالمدائن، بلغ سعداً أن آذين
بن الهرمزان قد جمع طائفة من الفرس، فكتب إلى عمر في ذلك.
فكتب إليه: أن ابعث جيشاً، وأمر عليهم ضرار بن الخطاب.
فخرج ضرار في جيش من المدائن، وعلى مقدمته ابن الهزيل الأسدي، فتقدم
ابن الهزيل بين يدي الجيش، فالتقى مع آذين وأصحابه قبل وصول ضرار إليه،
فكسر ابن الهزيل طائفة الفرس، وأسر آذين بن الهرمزان، وفر عنه أصحابه،
وأمر ابن الهزيل فضرب عنق آذين بين يديه، وساق وراءه المنهزمين حتى
انتهى إلى ماسبذان - وهي مدينة كبيرة - فأخذها عنوة، وهرب أهلها في
رءوس الجبال والشعاب، فدعاهم فاستجابوا له، وضرب على من لم يسلم
الجزية، وأقام نائباً عليها حتى تحول سعد من المدائن إلى الكوفة كما
سيأتي.
فتح قرقيسيا وهيت في هذه السنة
قال ابن جرير وغيره: لما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن، وكان أهل
الجزيرة قد أمدوا أهل حمص على قتال أبي عبيدة وخالد - لما كان هرقل
بقنسرين - واجتمع أهل الجزيرة في مدينة هيت.
كتب سعد إلى عمر في ذلك، فكتب إليه: أن يبعث إليهم جيشاً، وأن يؤمر
عليهم عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف، فسار فيمن معه من
المسلمين إلى هيت، فوجدهم قد خندقوا عليهم، فحاصرهم حيناً، فلم يظفر
بهم.
فسار في طائفة من أصحابه، واستخلف على محاصرة هيت الحارث بن يزيد، فراح
عمر بن مالك إلى قرقيسيا فأخذها عنوة، وأنابوا إلى بذل الجزية، وكتب
إلى نائبه على هيت: إن لم يصالحوا أن يحفر من وراء خندقهم خندقاً،
ويجعل له أبواباً من ناحيته.
فلما بلغهم ذلك أنابوا إلى المصالحة.
قال شيخنا أبو عبد الله الحافظ الذهبي: وفي هذه السنة بعث أبو عبيدة
عمرو بن العاص بعد فراغه من اليرموك إلى قنسرين، فصالح أهل حلب، ومنبج،
وأنطاكية، على الجزية، وفتح سائر بلاد قنسرين عنوة، قال:
وفيها افتتحت سروج والرها على يدي عياض بن غنم.
قال: وفيها فيما ذكر ابن الكلبي: سار أبو عبيدة وعلى مقدمته خالد
بن الوليد، فحاصر إيليا فسألوا الصلح على أن يقدم عمر فيصالحهم على
ذلك، فكتب أبو عبيدة إلى عمر فقدم حتى صالحهم، وأقام أياماً ثم رجع إلى
المدينة.
قلت: قد تقدم هذا فيما قبل هذه السنة والله أعلم.
قال الواقدي: وفي هذه السنة حمى عمر الربذة بخيل المسلمين.
وفيها: غرب عمر أبا محجن الثقفي إلى باضع.
وفيها: تزوج عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عبيد.
قلت: الذي قتل يوم الجسر، وكان أمير السرية، وهي: أخت المختار بن
أبي عبيد، أمير العراق فيما بعد، وكانت امرأة صالحة، وكان أخوها فاجراً
وكافراً أيضاً.
قال الواقدي: وفيها حج عمر بالناس، واستخلف على المدينة زيد بن
ثابت.
قال: وكان نائبه على مكة عتاب، وعلى الشام أبو عبيدة، وعلى العراق
سعد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى بن أمية، وعلى
اليمامة والبحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى عُمان حذيفة بن محصن، وعلى
البصرة المغيرة بن شعبة، وعلى الموصل ربعي الأفكل، وعلى الجزيرة عياض
بن غنم الأشعري.
قال الواقدي: وفي ربيع الأول من هذه السنة - أعني: سنة ست عشرة -
كتب عمر بن الخطاب التاريخ، وهو أول من كتبه.
قلت: قد ذكرنا سببه في سيرة عمر، وذلك: أنه رفع إلى عمر صك مكتوب
لرجل على آخر بدين يحل عليه في شعبان، فقال: أي شعبان؟ أَمِنْ هذه
السنة أم التي قبلها أم التي بعدها ؟.
ثم جمع الناس فقال: ضعوا للناس شيئاً يعرفون فيه حلول ديونهم.
فيقال: أنهم أراد بعضهم أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم، كلما هلك
ملك أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك.
ومنهم من قال: أرخوا بتاريخ الروم من زمان إسكندر، فكرهوا ذلك،
ولطوله أيضاً.
وقال قائلون: أرخوا من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: من مبعثه عليه السلام.
وأشار علي بن أبي طالب وآخرون: أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة
لظهوره لكل أحد، فإنه أظهر من المولد والمبعث.
فاستحسن ذلك عمر والصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأرخوا من أول تلك السنة من محرمها.
وعند مالك رحمه الله فيما حكاه عن السهيلي وغيره: أن أول السنة من
ربيع الأول لقدومه عليه السلام إلى المدينة.
والجمهور: على أن أول السنة من المحرم، لأنه أضبط لئلا تختلف الشهور،
فإن المحرم أول السنة الهلالية العربية.
وفي هذه السنة - أعني: سنة ست عشرة - توفيت مارية أم إبراهيم ابن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في المحرم منها، فيما ذكره الواقدي
وابن جرير وغير واحد.
وصلى عليها عمر بن الخطاب، وكان يجمع الناس لشهود جنازتها، ودفنت
بالبقيع رضي الله عنها وأرضاها، وهي: مارية القبطية أهداها صاحب
الإسكندرية، -وهو جريج بن مينا - في جملة تحف وهدايا لرسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقبل ذلك منه، وكان معها أختها شيرين التي وهبها رسول
الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت، فولدت له ابنه عبد الرحمن بن
حسان
ويقال: أهدى المقوقس معهما جاريتين أخرتين، فيحتمل أنهما كانتا
خادمتين لمارية وشيرين.
وأهدى معهن غلاماً خصياً اسمه: مابور، وأهدى مع ذلك بغلة شهباء
اسمها: الدلدل، وأهدى حلة حرير من عمل الإسكندرية.
وكان قدوم هذه الهدية في سنة ثمان.
فحملت مارية من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبراهيم عليه السلام،
فعاش عشرين شهراً، ومات قبل أبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة
سواء.
وقد حزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكى عليه، وقال:
((تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا
إبراهيم لمحزونون)). وقد تقدم ذلك في سنة عشر.
وكانت مارية هذه من الصالحات الخيرات الحسان، وقد حظيت عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأعجب بها، وكانت جميلة ملاحة أي: حلوة، وهي
تشابه هاجر سرية الخليل، فإن كلاً منهما من ديار مصر، وتسراها نبي
كريم، وخليل جليل عليهما السلام.
ثم دخلت سنة سبع عشرة
في المحرم منها انتقل سعد بن أبي وقاص من المدائن إلى الكوفة، وذلك أن
الصحابة استوخموا المدائن، وتغيرت ألوانهم وضعفت أبدانهم، لكثرة ذبابها
وغبارها، فكتب سعد إلى عمر في ذلك.
فكتب عمر: أن العرب لا تصلح إلا حيث يوافق إبلها،. فبعث سعد حذيفة
وسلمان بن زياد يرتادان للمسلمين منزلاً مناسباً يصلح لإقامتهم.
فمرا على أرض الكوفة وهي حصباء في رملة حمراء فأعجبتهما، ووجد هنالك
ديرات ثلاث: دير حرقة بنت النعمان، ودير أم عمرو، ودير سلسلة.
وبين ذلك خصاص خلال هذه الكوفة فنزلا فصليا هنالك، وقال كل واحد
منهما: اللهم رب السماء وما أظلت، ورب الأرض وما أقلت، ورب الريح وما
ذرت، والنجوم وما هوت، والبحار وما جرت، والشياطين وما أضلت والخصاص
وما أجنت، بارك لنا في هذه الكوفة، واجعلها منزل ثبات.
ثم كتبا إلى سعد بالخبر، فأمر سعد باختطاط الكوفة، وسار إليها في أول
هذه السنة في محرمها، فكان أول بناء وضع فيها المسجد.
وأمر سعد رجلاً رامياً شديد الرمي، فرمى من المسجد إلى الأربع جهات،
فحيث سقط سهمه بنى الناس منازلهم، وعمر قصراً تلقاء محراب المسجد
للإمارة، وبيت المال، فكان أول ما بنوا المنازل بالقصب، فاحترقت في
أثناء السنة، فبنوها باللبن عن أمر عمر، بشرط أن لا يسرفوا ولا يجاوزوا
الحد.
وبعث سعد إلى الأمراء والقبائل، فقدموا عليه فأنزلهم الكوفة، وأمر سعد
أبا هياج الموكل بإنزال الناس فيها أن يعمروا ويدعوا للطريق المنهج وسع
أربعين ذراعاً.
ولما دون ذلك ثلاثين وعشرين ذراعاً، وللأزقة سبعة أذرع.
وبنى لسعد قصر قريب من السوق، فكانت غوغاء الناس تمنع سعداً من الحديث،
فكان يغلق بابه، ويقول: سكِّنْ الصويت.
فلما بلغت هذه الكلمة عمر بن الخطاب بعث محمد بن مسلمة فأمره إذا انتهى
إلى الكوفة أن يقدح زناده، ويجمع حطباً، ويحرق باب القصر، ثم يرجع من
فوره.
فلما انتهى إلى الكوفة فعل ما أمره به عمر، وأمر سعداً أن لا يغلق بابه
عن الناس، ولا يجعل على بابه أحداً يمنع الناس عنه، فامتثل ذلك سعد،
وعرض على محمد بن مسلمة شيئاً من المال، فامتنع من قبوله ورجع إلى
المدينة، واستمر سعد بعد ذلك في الكوفة ثلاث سنين ونصف، حتى عزله عنها
عمر من غير عجز ولا خيانة.
أبو عبيدة وحصر الروم له بحمص وقدوم عمر إلى الشام
وذلك أن جمعاً من الروم عزموا على حصار أبي عبيدة بحمص، واستجاشوا بأهل
الجزيرة وخلق ممن هنالك، وقصدوا أبا عبيدة.
فبعث أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه من قنسرين، وكتب إلى عمر بذلك،
واستشار أبو عبيدة المسلمين في أن يناجز الروم أو يتحصن بالبلد حتى
يجيء أمر عمر؟ فكلهم أشار بالتحصن إلا خالداً فإنه أشار بمناجزتهم
فعصاه وأطاعهم، وتحصن بحمص وأحاط به الروم، وكل بلد من بلدان الشام
مشغول أهله عنه بأمرهم، ولو تركوا ما هم فيه، وأقبلوا إلى حمص لا نخرم
النظام في الشام كله.
وكتب عمر إلى سعد: أن يندب الناس مع القعقاع بن عمرو، ويسيرهم إلى
حمص من يوم يقدم عليه الكتاب، نجدة لأبي عبيدة فإنه محصور، وكتب
إليه: أن يجهز جيشاً إلى أهل الجزيرة الذين مالأوا الروم على حصار
أبي عبيدة، ويكون أمير الجيش إلى الجزيرة عياض بن غنم.
فخرج الجيشان معاً من الكوفة، القعقاع في أربعة آلاف نحو حمص لنجدة أبي
عبيدة.
وخرج عمر بنفسه من المدينة لينصر أبا عبيدة، فبلغ الجابية، وقيل:
إنما بلغ سرع.
قاله ابن إسحاق وهو أشبه والله أعلم.
فلما بلغ أهل الجزيرة الذين مع الروم على حمص أن الجيش قد طرق بلادهم
انشمروا إلى بلادهم، وفارقوا الروم، وسمعت الروم بقدوم أمير المؤمنين
عمر لينصر نائبه عليهم فضعف جانبهم جداً، وأشار خالد على أبي عبيدة بأن
يبرز إليهم ليقاتلهم، ففعل ذلك أبو عبيدة، ففتح الله عليه ونصره، وهزمت
الروم هزيمة فظيعة.
وذلك قبل ورود عمر عليهم، وقبل وصول الأمداد إليهم بثلاث ليال.
فكتب أبو عبيدة إلى عمر وهو بالجابية يخبره بالفتح، وأن المدد وصل
إليهم بعد ثلاث ليال، وسأله هل يدخلهم في القسم معهم مما أفاء الله
عليهم؟ فجاء الجواب بأن يدخلهم معهم في الغنيمة، فإن العدو إنما يضعف
وإنما انشمر عنه المدد من خوفهم منهم، فأشركهم أبو عبيدة في الغنيمة.
وقال عمر: جزى الله أهل الكوفة خيراً، يحمون حوزتهم، ويمدون أهل
الأمصار.
فتح الجزيرة
قال ابن جرير: وفي هذه السنة: فتحت الجزائر فيما قاله سيف بن
عمر.
قال ابن جرير: في ذي الحجة من سنة سبع عشرة، فوافق سيف بن عمر في
كونها في هذه السنة.
وقال ابن إسحاق: كان ذلك في سنة تسع عشرة، سار إليها عياض بن غنم،
وفي صحبته أبو موسى الأشعري، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وهو غلام صغير
السن ليس إليه من الأمر شيء، وعثمان بن أبي العاص، فنزل الرها فصالحه
أهلها على الجزية، وصالحت حران على ذلك.
ثم بعث أبا موسى الأشعري إلى نصيبين، وعمر بن سعد إلى رأس العين، وسار
بنفسه إلى داراً، فافتتحت هذه البلدان، وبعث عثمان بن أبي العاص إلى
أرمينية، فكان عندها شيء من قتال، قتل فيه صفوان بن المعطل السلمي
شهيداً.
ثم صالحهم عثمان بن أبي العاص على الجزية على كل أهل بيت دينار.
وقال سيف في روايته: جاء عبد الله بن عبد الله بن غسان، فسلك على
رجليه حتى انتهى إلى الموصل، فعبر إلى بلد حتى انتهى إلى نصيبين، فلقوه
بالصلح وصنعوا كما صنع أهل الرقة.
وبعث إلى عمر برؤوس النصارى من عرب أهل الجزيرة.
فقال لهم عمر: أدوا الجزية.
فقالوا: أبلغنا مامننا، فوالله لئن وضعت علينا الجزية لندخلن أرض
الروم، والله لتفضحنا من بين العرب.
فقال لهم: أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمتكم، ووالله لتؤدن الجزية
وأنتم صغرة قمئة، ولئن هربتم إلى الروم لأكتبن فيكم، ثم لأسبينكم.
قالوا: فخذ منا شيئاً ولا تسميه جزية.
فقال: أما نحن فنسميه جزية، وأما أنتم فسموه ما شئتم.
فقال له علي بن أبي طالب: ألم يضعف عليهم سعد الصدقة ؟.
قال: بلى؛ وأصغى إليه ورضي به منهم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة: قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى
الشام، فوصل إلى سَرْع في قول محمد بن إسحاق.
وقال سيف: وصل إلى الجابية.
قلت: والأشهر أنه وصل سرع، وقد تلقاه أمراء الأجناد: أبو عبيدة،
ويزيد بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد إلى سرع، فأخبروه أن الوباء قد
وقع في الشام، فاستشار عمر المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه، فمن قائل
يقول: أنت قد جئت لأمر فلا ترجع عنه، ومن قائل يقول: لا نرى أن
تقدم بوجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوباء.
فيقال: أن عمر أمر الناس بالرجوع من الغد.
فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله ؟.
قال: نعم! نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو هبطت وادياً ذا
عدوتين، إحداهما: مخصبة، والأخرى: مجدبة، فإن رعيت الخصبة رعيتها
بقدر الله، وإن أنت رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟
ثم قال: لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة.
قال ابن إسحاق في روايته وهو في صحيح البخاري: وكان عبد الرحمن بن
عوف متغيباً في بعض شأنه، فلما قدم قال: إن عندي من ذلك عِلماً، سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سمعتم به بأرض قومٍ
فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً
منه)).
فحمد الله عمر - يعني لكونه وافق رأيه - ورجع بالناس.
وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان بن حسين بن أبي ثابت، عن
إبراهيم بن سعد، عن سعد بن مالك بن أبي وقاص وخزيمة بن ثابت وأسامة بن
زيد قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن هذا الطاعون رجزٌ وبقية عذاب عذب به قوم قبلكم، فإذا وقع بأرض
أنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا
عليه)).
ورواه الإمام أحمد أيضاً من حديث سعيد بن المسيب، ويحيى بن سعيد، عن
سعد بن أبي وقاص به.
قال سيف بن عمر: كان الوباء قد وقع بالشام في المحرم من هذه السنة ثم
ارتفع، وكان سيفاً يعتقد أن هذا الوباء هو طاعون عمواس الذي هلك فيه
خلق من الأمراء، ووجوه المسلمين، وليس الأمر كما زعم؛ بل طاعون عمواس
من السنة المستقبلة بعد هذه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وذكر سيف بن عمر: أن أمير المؤمنين عمر كان قد عزم على أن يطوف
البلدان، ويزور الأمراء، وينظر فيما اعتمدوه، وما آثروا من الخير،
فاختلف عليه الصحابة، فمن قائل يقول: ابدأ بالعراق، ومن قائل يقول:
بالشام.
فعزم عمر على قدوم الشام لأجل قسم مواريث من مات من المسلمين في طاعون
عمواس، فإنه أشكل قسمها على المسلمين بالشام، فعزم على ذلك وهذا يقتضي
أن عمر عزم على قدوم الشام بعد طاعون عمواس، وقد كان الطاعون في سنة
ثماني عشرة كما سيأتي، فهو قدوم آخر غير قدوم سرع. والله أعلم.
قال سيف: عن أبي عثمان وأبي حارثة والربيع بن النعمان قالوا: قال
عمر: ضاعت مواريث الناس بالشام أبدأ بها فأقسم المواريث، وأقيم لهم
ما في نفسي، ثم أرجع فأتقلب في البلاد، وأنبذ إليهم أمري.
قالوا: فأتى عمر الشام أربع مرات، مرتين في سنة ست عشرة، ومرتين في
سنة سبع عشرة، ولم يدخلها في الأولى من الأخريين.
وهذا يقتضي ما ذكرناه عن سيف أنه يقول: بكون طاعون عمواس في سنة سبع
عشرة.
وقد خالفه محمد بن إسحاق وأبو معشر وغير واحد، فذهبوا إلى: أنه كان
في سنة ثماني عشرة.
وفيه توفي أبو عبيدة، ومعاذ، ويزيد بن أبي سفيان، وغيرهم من الأعيان
على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
شيء من أخبار طاعون عمواس
الذي توفي فيه أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم من أشراف
الصحابة وغيرهم.
أورده ابن جرير في هذه السنة.
قال محمد بن إسحاق: عن شعبة، عن المختار بن عبد الله البجلي، عن طارق
بن شهاب البجلي قال: أتينا أبا موسى وهو في داره بالكوفة لنتحدث
عنده، فلما جلسنا قال: لا تحفوا فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم،
ولا عليكم أن تتنزهوا عن هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها،
حتى يرتفع هذا البلاء، فإني سأخبركم بما يكره مما يتقى.
من ذلك أن يظن من خرج أنه لو قام مات، ويظن من أقام فأصابه ذلك أنه لو
خرج لم يصبه، فإذا لم يظن ذلك هذا المرء المسلم فلا عليه أن يخرج وأن
يتنزه عنه، إني كنت مع أبي عبيدة بن الجراح بالشام عام طاعون عمواس،
فلما اشتعل الوجع وبلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه:
أن سلام عليك، أما بعد: فإنه قد عرضت لي إليك حاجة، أريد أن أشافهك
بها، فعزمت عليك إذا نظرت في كتاب هذا أن لا تضعه من يدك حتى تقبل
إلي.
قال: فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء.
فقال: يغفر الله لأمير المؤمنين، ثم كتب إليه يا أمير المؤمنين إني
قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم،
فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه، فخلني من عزمتك
يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي.
فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير المؤمنين أمات أبو
عبيدة؟
قال: لا، وكأن قد.
قال: ثم كتب إليه: سلام عليك، أما بعد فإنك أنزلت الناس أرضاً
عميقة، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة.
قال أبو موسى: فلما أتاه كتابه دعاني.
فقال: يا أبا موسى، إن كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى، فاخرج
فارتد للناس منزلاً حتى أتبعك بهم، فرجعت إلى منزلي لأرتحل فوجدت
صاحبتي قد أصيبت فرجعت إليه وقلت: والله لقد كان في أهلي حدث.
فقال: لعل صاحبتك قد أصيبت ؟.
قلت: نعم.
فأمر ببعير فرحل له، فلما وضع رجله في غرزه طعن.
فقال: والله لقد أصبت، ثم سار بالناس حتى نزل الجابية ورُفع عن الناس
الوباء.
وقال محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن شهر بن حوشب، عن رابة - رجل
من قومه -: وكان قد خلف على أمه بعد أبيه، وكان قد شهد طاعون
عمواس.
قال: لما اشتعل الوجع، قام أبو عبيدة في الناس خطيباً فقال: أيها
الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن
أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة منه حظه، فطعن، فمات.
واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيباً بعده، فقال: أيها الناس،
إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذ
يسأل الله تعالى أن يقسم لآل معاذ منه حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن
فمات، ثم قام فدعا لنفسه فطعن في راحته فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقلب
ظهر كفه، ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئاً من الدنيا.
فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام فيهم خطيباً، فقال:
أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتحصنوا
منه في الجبال.
فقال أبو وائل الهذلي: كذبت والله لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأنت شر من حماري هذا.
فقال: والله ما أرد عليك ما تقول، وأيم الله لا نقيم عليه.
قال: ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا، ودفعه الله عنهم.
قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو بن العاص فوالله ما كرهه.
قال ابن إسحاق: ولما انتهى إلى عمر مصاب أبي عبيدة، ويزيد بن أبي
سفيان، أمر معاوية على جند دمشق وخراجها، وأمر شرحبيل بن حسنة على جند
الأردن وخراجها.
وقال سيف بن عمر عن شيوخه قالوا: لما كان طاعون عمواس وقع مرتين لم
ير مثلهما، وطال مكثه، وفني خلق كثير من الناس، حتى طمع العدو، وتخوفت
قلوب المسلمين لذلك.
قلت: ولهذا قدم عمر بعد ذلك إلى الشام فقسم مواريث الذين ماتوا لما
أشكل أمرها على الأمراء، وطابت قلوب الناس بقدومه، وانقمعت الأعداء من
كل جانب لمجيئه إلى الشام ولله الحمد والمنة
وقال سيف بعد ذكره قدوم عمر بعد طاعون عمواس في آخر سنة سبع عشرة،
قال: فلما أراد القفول إلى المدينة في ذي الحجة منها، خطب الناس،
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا إني قد وليت عليكم وقضيت الذي علي
في الذي ولاني الله من أمركم إن شاء الله، فبسطنا بينكم فيأكم ومنازلكم
ومغازيكم، وأبلغناكم ما لدينا، فجندنا لكم الجنود، وهيأنا لكم الفروج،
وبوأنا لكم ووسعنا عليكم ما بلغ فيؤكم، وما قاتلتم عليه من شامكم،
وسمينا لكم أطعماتكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم وأرزاقكم ومغانمكم.
فمن علم منكم شيئاً ينبغي العمل به فليعلمنا نعمل به إن شاء الله، ولا
قوة إلا بالله.
قال: وحضرت الصلاة، فقال الناس: لو أمرت بلالاً فأذن؟ فأمره
فأذن، فلم يبق أحد كان أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلال يؤذن
إلا بكى حتى بل لحيته، وعمر أشدهم بكاء، وبكى من لم يدركه لبكائهم
ولذكره صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن جرير في هذه السنة: من طريق سيف بن عمر عن أبي المجالد أن
عمر بن الخطاب بعث ينكر على خالد بن الوليد في دخوله إلى الحمام وتدلكه
بعد النورة بعصفر معجون بخمر، فقال في كتابه: إن الله قد حرم ظاهر
الخمر وباطنه، كما حرم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرم مس الخمر فلا تمسوها
أجسامكم فإنها نجس، فإن فعلتم فلا تعودوا.
فكتب إليه خالد: إنا قتلناها فعادت غسولاً غير خمر.
فكتب إليه عمر: إني أظن أن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم
الله عليه، فانتهى لذلك.
قال سيف: وأصاب أهل البصرة تلك السنة طاعون أيضاً، فمات بشر كثير وجم
غفير، رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين.
قالوا: وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهله إلى الشام، فلم يرجع
منهم إلا أربعة.
فقال المهاجر بن خالد في ذلك:
من يسكن الشام يعرس به * والشام إن لم يفننا كارب
أفنى بني ريطة فرسانهم * عشرون لم يقصص لهم شارب
ومن بني أعمامهم مثلهم * لمثل هذا يعجب العاجب
طعناً وطاعوناً مناياهم * ذلك ما خط لنا الكاتب
كائنة غريبة فيها عزل خالد عن قنسرين أيضاً
قال ابن جرير: وفي هذه السنة: أدرب خالد بن الوليد، وعياض بن غنم،
أي: سلكا درب الروم، وأغارا عليهم، فغنموا أموالاً عظيمةً، وسبيا
كثيراً.
ثم روي من طريق سيف، عن أبي عثمان، وأبي حارثة، والربيع، وأبي المجالد
قالوا: لما رجع خالد ومعه أموال جزيلة من الصائفة، انتجعه الناس
يبتغون وفده ونائله، فكان ممن دخل عليه الأشعث بن قيس، فأجازه بعشرة
آلاف.
فلما بلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة: يأمره أن يقيم خالداً ويكشف
عمامته، وينزع عنه قلنسوته، ويقيده بعمامته، ويسأله عن هذه العشرة
آلاف، إن كان أجازها الأشعث من ماله فهو سرف، وإن كان من مال الصائفة
فهي خيانة ثم أعزله عن عمله.
فطلب أبو عبيدة خالداً، وصعد أبو عبيدة المنبر، وأقيم خالد بين يدي
المنبر، وقام إليه بلال، ففعل ما أمر به عمر بن الخطاب هو والبريد الذي
قدم بالكتاب.
هذا وأبو عبيدة ساكت لا يتكلم، ثم نزل أبو عبيدة واعتذر إلى خالد مما
كان بغير اختياره وإرادته، فعذره خالد وعرف أنه لا قصد له في ذلك.
ثم سار خالد إلى قنسرين، فخطب أهل البلد وودعهم، وسار بأهله إلى حمص،
فخطبهم أيضاً وودعهم، وسار إلى المدينة، فلما دخل خالد على عمر أنشد
عمر قول الشاعر:
صنعت فلم يصنع كصنعك صانع * وما يصنع الأقوام فالله صانع
ثم سأله من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف؟
فقال: من الأنفال والسهمان.
قال: فما زاد على الستين ألفاً فلك، ثم قوم أمواله وعروضه، وأخذ منه
عشرين ألفاً، ثم قال: والله إنك علي لكريم، وإنك إليَّ لحبيب، ولن
تعمل لي بعد اليوم على شيء.
وقال سيف، عن عبد الله، عن المستورد، عن أبيه، عن عدي بن سهل قال:
كتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالداً عن سخطة ولا خيانة، ولكن
الناس فتنوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع.
ثم رواه سيف، عن مبشر، عن سالم قال: لما قدم خالد على عمر فذكر
مثله.
قال الواقدي: وفي هذه السنة اعتمر عمر في رجب منها، وعمَّر في المسجد
الحرام، وأمر بتجديد أنصاب الحرم أمر بذلك لمخرمة بن نوفل، وأزهر بن
عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، وسعيد بن يربوع.
قال الواقدي: وحدثني كثير بن عبد الله المري، عن أبيه، عن جده قال:
قدم عمر مكة في عمرة سنة سبع عشرة، فمر في الطريق فكلمه أهل المياه أن
يبنوا منازل بين مكة والمدينة - ولم يكن قبل ذلك بناء - فأذن لهم وشرط
عليهم أن ابن السبيل أحق بالظل والماء.
قال الواقدي: وفيها تزوج عمر بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، من
فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل بها في ذي القعدة.
وقد ذكرنا في سيرة عمر ومسنده صفة تزويجه بها أنه أمهرها أربعين ألفاً،
وقال: إنما تزوجتها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل
سبب ونسب فإنه ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي)).
قال: وفي هذه السنة ولى عمر أبا موسى الأشعري البصرة، وأمره أن يشخص
إليه المغيرة بن شعبة في ربيع الأول، فشهد عليه فيما حدثني معمر عن
الزهري عن سعيد بن المسيب: أبو بكرة، وشبل بن معبد البجلي، ونافع بن
عبيد، وزياد.
ثم ذكر الواقدي وسيف هذه القصة وملخصها: أن امرأة كان يقال لها أم
جميل بنت الأفقم، من نساء بني عامر بن صعصعة، ويقال: من نساء بني
هلال.
وكان زوجها من ثقيف قد توفي عنها، وكانت تغشى نساء الأمراء والأشراف،
وكانت تدخل على بيت المغيرة بن شعبة، وهو أمير البصرة، وكانت دار
المغيرة تجاه دار أبي بكرة، وكان بينهما طريق، وفي دار أبي بكرة كوة
تشرف على كوة في دار المغيرة، وكان لا يزال بين المغيرة وبين أبي بكرة
شنآن.
فبينما أبو بكرة في داره وعنده جماعة يتحدثون في العلية إذ فتحت الريح
باب الكوة، فقام أبو بكرة ليغلقها، فإذا كوة المغيرة مفتوحة، وإذا هو
على صدر امرأة وبين رجليها، وهو يجامعها.
فقال أبو بكرة لأصحابه: تعالوا فانظروا إلى أميركم يزني بأم جميل،
فقاموا فنظروا إليه وهو يجامع تلك المرأة.
فقالوا لأبي بكرة: ومن أين قلت أنها أم جميل؟ - وكان رأساهما من
الجانب الآخر -.
فقال: انتظروا، فلما فرغا قامت المرأة، فقال أبو بكرة: هذه أم
جميل. فعرفوها فيما يظنون.
فلما خرج المغيرة وقد اغتسل ليصلي بالناس منعه أبو بكرة أن يتقدم.
وكتبوا إلى عمر في ذلك، فولى أبا موسى الأشعري أميراً على البصرة.
وعزل المغيرة، فسار إلى البصرة فنزل البرد.
فقال المغيرة: والله ما جاء أبو موسى تاجراً ولا زائراً ولا جاء إلا
أميراً.
ثم قدم أبو موسى على الناس وناول المغيرة كتاباً من عمر، هو أوجز كتاب
فيه:
أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميراً، فسلم ما في يديك
والعجل.
وكتب إلى أهل البصرة: إني قد وليت عليكم أبا موسى ليأخذ من قويكم
لضعيفكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن دينكم، وليجبي لكم فيأكم، ثم
ليقسمه بينكم.
وأهدى المغيرة لأبي موسى جارية من مولدات الطائف تسمى: عقيلة،
وقال: إني رضيتها لك، وكانت فارهة.
وارتحل المغيرة والذين شهدوا عليه، وهم أبو بكرة، ونافع بن كلدة، وزياد
بن أمية، وشبل بن معبد البجلي.
فلما قدموا على عمر جمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة: سل هؤلاء
الأعبد كيف رأوني؟ مستقبلهم أو مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة
وعرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم يستتروا؟ أو مستدبري فكيف
استحلوا النظر في منزلي على امرأتي؟ والله ما أتيت إلا امرأتي، وكانت
تشبهها.
فبدأ عمر بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله
ويخرجه كالميل في المكحلة.
قال: كيف رأيتهما؟
قال: مستدبرهما.
قال: فكيف استبنت رأسها؟
قال: تحاملت.
ثم دعا شبل بن معبد فشهد بمثل ذلك.
فقال: استقبلتهما أم استدبرتهما؟
قال: استقبلتهما.
وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم.
قال: رأيته جالساً بين رجلي امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين يخفقان،
وأستين مكشوفتين، وسمعت حفزاناً شديداً.
قال: هل رأيت كالميل في المكحلة؟
قال: لا.
قال: فهل تعرف المرأة؟
قال: لا، ولكن أشبهها.
قال: فتنح.
وروي: أن عمر رضي الله عنه كبر عند ذلك، ثم أمر بثلاث فجلدوا الحد،
وهو يقرأ قوله تعالى: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ
فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:
13].
فقال المغيرة: إشفني من الأعبد.
قال: اسكت، اسكت الله فاك، والله لو تمت الشهادة لرجمناك بأحجارك
فتح الأهواز ومناذر ونهر تيري
قال ابن جرير: كان في هذه السنة.
وقيل: في سنة ست عشرة.
ثم روي من طريق سيف، عن شيوخه: أن الهرمزان كان قد تغلب على هذه
الأقاليم، وكان ممن فر يوم القادسية من الفرس، فجهز أبو موسى من
البصرة، وعتبة بن غزوان من الكوفة جيشين لقتاله، فنصرهم الله عليه،
وأخذوا منه ما بين دجلة إلى دجيل، وغنموا من جيشه ما أرادوا، وقتلوا من
أرادوا، ثم صانعهم وطلب مصالحتهم عن بقية بلاده، فشاورا في ذلك عتبة بن
غزوان، فصالحه، وبعث بالأخماس والبشارة إلى عمر، وبعث وفداً فيهم
الأحنف بن قيس.
فأعجب عمر به، وحظي عنده.
وكتب إلى عتبة يوصيه به، ويأمره بمشاورته والاستعانة برأيه.
ثم نقض الهرمزان العهد والصلح، واستعان بطائفة من الأكراد، وغرته نفسه،
وحسن له الشيطان عمله في ذلك.
فبرز إليه المسلمون فنصروا عليه، وقتلوا من جيشه جماً غفيراً، وخلقاً
كثيراً، وجمعاً عظيماً، واستلبوا منه ما بيده من الأقاليم والبلدان إلى
تستر، فتحصن بها، وبعثوا إلى عمر بذلك.
وقد قال الأسود بن سريع في ذلك، وكان صحابياً رضي الله عنه:
لعمرك ما أضاع بنو أبينا * ولكن حافظوا فيمن يطيعوا
أطاعوا لربهم وعصاه قوم * أضاعوا أمره فيمن يضيع
مجوس لا ينهنهها كتاب * فلاقوا كبة فيها قبوع
وولى الهرمزان على جواد * سريع الشد يثفنه الجميع
وخلى سرة الأهواز كرهاً * غداة الجسر إذ نجم الربيع
وقال حرقوص بن زهير السعدي، وكان صحابيا أيضاً:
غلبنا الهرمزان على بلاد * لها في كل ناحية ذخائر
سواء برهم والبحر فيها * إذا صارت نواحيها بواكر
لها بجر يعج بجانبيه * جعافر لا يزال لها زواخر
فتح تستُر المرة الأولى صلحاً
قال ابن جرير: كان ذلك في هذه السنة في قول سيف وروايته.
وقال غيره: في سنة ست عشرة.
وقال غيره: كانت في سنة تسع عشرة.
ثم قال ابن جرير: ذكر الخبر عن فتحها، ثم ساق من طريق سيف عن محمد،
وطلحة، والمهلب، وعمرو قالوا: ولما افتتح حرقوص بن زهير سوق الأهواز،
وفر الهرمزان بين يديه، فبعث في إثره جزء بن معاوية - وذلك عن كتاب عمر
بذلك - فما زال جزء يتبعه حتى انتهى إلى رامهرمز، فتحصن الهرمزان في
بلادها، وأعجز جزءاً تطلبه، واستحوذ جزء على تلك البلاد والأقاليم
والأراضي، فضرب الجزية على أهلها، وعمر عامرها وشق الأنهار إلى خرابها
ومواتها، فصارت في غاية العمارة والجودة.
ولما رأى الهرمزان ضيق بلاده عليه لمجاورة المسلمين، طلب من جزء بن
معاوية المصالحة، فكتب إلى حرقوص، فكتب حرقوص إلى عتبة بن غزوان، وكتب
عتبة إلى عمر في ذلك، فجاء الكتاب العمري بالمصالحة على رامهرمز،
وتستر، وجندسابور، ومدائن أخر من ذلك.
فوقع الصلح على ذلك، كما أمر به عمر رضي الله عنه.
ذكر غزو بلاد فارس من ناحية البحرين عن ابن جرير عن سيف
وذلك أن العلاء بن الحضرمي كان على البحرين في أيام الصديق، فلما كان
عمر عزله عنها، وولاها لقدامة بن مظعون.
ثم أعاد العلاء بن الحضرمي إليها، وكان العلاء الحضرمي يباري سعد بن
أبي وقاص.
فلما افتتح سعد القادسية، وأزاح كسرى عن داره، وأخذ حدود ما يلي السواد
واستعلى وجاء بأعظم مما جاء به العلاء بن الحضرمي من ناحية البحرين.
فأحب العلاء أن يفعل فعلاً في فارس نظير ما فعله سعد فيهم، فندب الناس
إلى حربهم، فاستجاب له أهل بلاده، فجزأهم أجزاء، فعلى فرقة الجارود بن
المعلي، وعلى الأخرى السوار بن همام، وعلى الأخرى خليد بن المنذر بن
ساوى، وخليد هو أمير الجماعة.
فحملهم في البحر إلى فارس، وذلك بغير إذن عمر له في ذلك - وكان عمر
يكره ذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ما أغزيا فيه
المسلمين - فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا من عند
أصطخر، فحالت فارس بينهم وبين سفنهم، فقام في الناس خليد بن المنذر،
فقال:
أيها الناس، إنما أراد هؤلاء القوم بصنيعهم هذا محاربتكم، وأنتم جئتم
لمحاربتهم، فاستعينوا بالله وقاتلوهم، فإنما الأرض والسفن لمن غلب،
واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين، فأجابوه إلى
ذلك، فصلوا الظهر ثم ناهدوهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً في مكان من
الأرض، يدعى: طاوس
ثم أمر خليد المسلمين فترجلوا وقاتلوا، فصبروا ثم ظفروا، فقتلوا فارس
مقتلة لم يقتلوا قبلها مثلها.
ثم خرجوا يريدون البصرة، فغرقت بهم سفنهم، ولم يجدوا إلى الرجوع في
البحر سبيلاً، ووجدوا شهرك في أهل أصطخر قد أخذوا على المسلمين بالطرق،
فعسكروا وامتنعوا من العدو.
ولما بلغ عمر صنع العلاء بن الحضرمي اشتد غضبه عليه، وبعث إليه فعزله،
وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه، وأبغض الوجوه إليه.
فقال: الحق بسعد بن أبي وقاص
وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان: أن العلاء بن الحضرمي خرج بجيش، فأقطعهم
أهل فارس وعصاني، وأظنه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم أن لا ينصروا،
أن يغلبوا وينشبوا، فأندب إليهم الناس، واضممهم إليك من قبل أن
يجتاحوا.
فندب عتبة المسلمين، وأخبرهم بكتاب عمر إليه في ذلك، فانتدب جماعة من
الأمراء الأبطال، منهم: هاشم بن أبي وقاص، وعاصم بن عمرو، وعرفجة بن
هرثمة، وحذيفة بن محصن، والأحنف بن قيس، وغيرهم، في اثني عشر ألفاً.
وعلى الجميع أبو سبرة بن أبي رهم.
فخرجوا على البغال يجنبون الخيل سراعاً، فساروا على الساحل لا يلقون
أحداً حتى انتهوا إلى موضع الوقعة التي كانت بين المسلمين من أصحاب
العلاء، وبين أهل فارس بالمكان المسمى: بطاوس، وإذا خليد بن المنذر
ومن معه من المسلمين محصورون قد أحاط بهم العدو من كل جانب، وقد تداعت
عليهم تلك الأمم من كل وجه، وقد تكاملت أمداد المشركين، ولم يبق إلا
القتال.
فقدم المسلمون إليهم في أحوج ما هم فيه إليهم، فالتقوا مع المشركين
رأساً، فكسر أبو سبرة المشركين كسرة عظيمة، وقتل منهم مقتلة عظيمة
جداً، وأخذ منهم أموالاً جزيلةً باهرةً، واستنقذ خليداً ومن معه من
المسلمين من أيديهم، وأعز به الإسلام وأهله، ودفع الشرك وذله، ولله
الحمد والمنة.
ثم عادوا إلى عتبة بن غزوان إلى البصرة.
ولما استكمل عتبة فتح تلك الناحية، استأذن عمر في الحج فأذن له، فسار
إلى الحج، واستخلف على البصرة أبا سبرة بن أبي رهم واجتمع بعمر في
الموسم، وسأله أن يقيله فلم يفعل، وأقسم عليه عمر ليرجعن إلى عمله.
فدعا عتبة الله عز وجل فمات ببطن نخلة، وهو منصرف من الحج فتأثر عليه
عمر، وأثنى عليه خيراً، وولى بعده بالبصرة المغيرة بن شعبة، فوليها
بقية تلك السنة والتي تليها، لم يقع في زمانه حدث، وكان مرزوق السلامة
في عمله.
ثم وقع الكلام في تلك المرأة من أبي بكرة، فكان أمره ما قدمنا.
ثم بعث إليها أبا موسى الأشعري والياً عليها رضي الله عنهم.
ذكر فتح تستر ثانية وأسر الهرمزان وبعثه إلى عمر بن الخطاب
قال ابن جرير: كان ذلك في هذه السنة في رواية سيف بن عمر التميمي.
وكان سبب ذلك: أن يزدجرد كان يحرض أهل فارس في كل وقت، ويؤنبهم بملك
العرب بلادهم وقصدهم إياهم في حصونهم، فكتب إلى أهل الأهواز وأهل فارس،
فتحركوا وتعاهدوا وتعاقدوا على حرب المسلمين، وأن يقصدوا البصرة.
وبلغ الخبر إلى عمر، فكتب إلى سعد - وهو بالكوفة -: أن ابعث جيشاً
كثيفاً إلى الأهواز مع النعمان بن مقرن وعجل وليكونوا بإزاء الهرمزان،
وسمى رجالاً من الشجعان الأعيان الأمراء يكونون في هذا الجيش، منهم
جرير بن عبد الله البجلي، وجرير بن عبد الله الحِمْيَري، والنعمان بن
مقرن، وسويد بن مقرن، وعبد الله بن ذي السهمين.
وكتب عمر إلى أبي موسى وهو بالبصرة: أن ابعث إلى الأهواز جنداً
كثيفاً، وأمر عليهم سهيل بن عدي، وليكن معه البراء بن مالك، وعاصم بن
عمرو، ومجزأة بن ثور، وكعب بن ثور، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن،
وعبد الرحمن بن سهل، والحصين بن معبد.
وليكن على أهل الكوفة، وأهل البصرة جميعاً أبو سبرة بن أبي رهم، وعلى
كل من أتاه من المدد.
قالوا: فسار النعمان بن مقرن بجيش الكوفة، فسبق البصريين فانتهى إلى
رامهرمز، وبها الهرمزان، فخرج إليه الهرمزان في جنده ونقض العهد بينه
وبين المسلمين، فبادره طمعاً أن يقتطعه قبل مجيء أصحابه من أهل البصرة
رجاء أن ينصر أهل فارس.
فالتقى معه النعمان بن مقرن بأربل فاقتتلا قتالاً شديداً، فهزم
الهرمزان وفر إلى تستر، وترك رامهرمز فتسلمها النعمان عنوةً وأخذ ما
فيها من الحواصل، والذخائر، والسلاح، والعدد.
فلما وصل الخبر إلى أهل البصرة بما صنع الكوفيون بالهرمزان، وأنه فر
فلجاً إلى تستر، ساروا إليها، ولحقهم أهل الكوفة حتى أحاطوا بها
فحاصروها جميعاً، وعلى الجميع أبو سبرة، فوجدوا الهرمزان قد حشد بها
خلقاً كثيراً وجماً غفيراً.
وكتبوا إلى عمر في ذلك، وسألوه أن يمدهم، فكتب إلى أبي موسى: أن يسير
إليهم.
فسار إليهم - وكان أمير أهل البصرة - واستمر أبو سبرة على الإمرة على
جميع أهل الكوفة والبصرة، فحاصرهم أشهراً، وكثر القتل من الفريقين،
وقتل البراء بن مالك أخو أنس بن مالك يومئذ مائة مبارز، سوى من قتل غير
ذلك، وكذلك فعل كعب بن ثور، ومجزأة بن ثور، وأبو يمامة، وغيرهم من أهل
البصرة.
وكذلك أهل الكوفة قتل منهم جماعة مائة مبارزة كحبيب بن قرة، وربعي بن
عامر، وعامر بن عبد الأسود، وقد تزاحفوا أياماً متعددة، حتى إذا كان في
آخر زحف، قال المسلمون للبراء بن مالك - وكان مجاب الدعوة -: يا
براء، أقسم على ربك ليهزمنهم لنا.
فقال: اللهم اهزمهم لنا، واستشهدني.
قال: فهزمهم المسلمون حتى أدخلوهم خنادقهم واقتحموها عليهم، ولجأ
المشركون إلى البلد فتحصنوا به وقد ضاقت بهم البلد، وطلب رجل من أهل
البلد الأمان من أبي موسى فأمنه، فبعث يدل المسلمين على مكان يدخلون
منه إلى البلد، وهو من مدخل الماء إليها، فندب الأمراء الناس إلى ذلك،
فانتدب رجال من الشجعان والأبطال.
وجاؤوا فدخلوا مع الماء - كالبط - إلى البلد، وذلك في الليل، فيقال:
كان أول من دخلها عبد الله بن مغفل المزني، وجاؤا إلى البوابين
فأناموهم وفتحوا الأبواب، وكبر المسلمون فدخلوا البلد، وذلك في وقت
الفجر إلى أن تعالى النهار.
ولم يصلوا الصبح يومئذ إلا بعد طلوع الشمس - كما حكاه البخاري عن أنس
بن مالك قال: شهدت فتح تستر، وذلك عند صلاة الفجر، فاشتغل الناس
بالفتح فما صلوا الصبح إلا بعد طلوع الشمس، فما أحب أن لي بتلك الصلاة
حمر النعم.
احتج بذلك البخاري لمكحول والأوزاعي في ذهابهما إلى جواز تأخير الصلاة
لعذر القتال.
وجنح إليه، البخاري واستدل بقصة الخندق في قوله عليه السلام:
((شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً))
وبقوله يوم بني قريظة: ((لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني
قريظة)).
فأخرها فريق من الناس إلى بعد غروب الشمس، ولم يعنفهم، وقد تكلمنا على
ذلك في غزوة الفتح.
والمقصود: أن الهرمزان لما فتحت البلد لجأ إلى القلعة فتبعه جماعة من
الأبطال ممن ذكرنا وغيرهم، فلما حصروه في مكان من القلعة ولم يبق إلا
تلافه أو تلافهم، قال لهم بعد ما قتل البراء بن مالك، ومجزأة بن ثور
رحمهما الله: إن معي جعبة فيها مائة سهم، وإنه لا يتقدم إلى أحد منكم
إلا رميته بسهم فقتلته، ولا يسقط لي سهم إلا في رجل منكم، فماذا ينفعكم
إن أسرتموني بعد ما قتلت منكم مائة رجل ؟.
قالوا: فماذا تريد ؟.
قال: تؤمنوني، حتى أسلمكم يدي، فتذهبوا بي إلى عمر بن الخطاب، فيحكم
فيَّ كما يشاء. (
فأجابوه إلى ذلك، فألقى قوسه ونشابه، وأسروه فشدوه وثاقاً، وأرصدوه
ليبعثوه إلى أمير المؤمنين عمر، ثم تسلموا ما في البلد من الأموال
والحواصل، فاقتسموا أربعة أخماسه، فنال كل فارس ثلاثة آلاف، وكل راجل
ألف درهم.
فتح السويس
ثم ركب أبو سبرة في طائفة من الجيش، ومعه أبو موسى الأشعري، والنعمان
بن مقرن، واستصحبوا معهم الهرمزان، وساروا في طلب المنهزمين من الفرس
حتى نزلوا على السوس، فأحاطوا بها.
وكتب أبو سبرة إلى عمر، فجاء الكتاب بأن يرجع أبو موسى إلى البصرة،
وأمر عمر زر بن عبد الله بن كليب العقيمي - وهو صحابي - أن يسير إلى
جندسابور. فسار.
ثم بعث أبو سبرة بالخمس، وبالهرمزان مع وفد فيهم أنس بن مالك، والأحنف
بن قيس، فلما اقتربوا من المدينة هيؤا الهرمزان بلبسه الذي كان يلبسه
من الديباج والذهب المكلل بالياقوت واللآلئ.
ثم دخلوا المدينة وهو كذلك، فتيمموا به منزل أمير المؤمنين، فسألوا عنه
فقالوا: إنه ذهب إلى المسجد بسبب وفد من الكوفة، فجاؤا المسجد فلم
يروا أحداً فرجعوا، فإذا غلمان يلعبون فسألوهم عنه، فقالوا: إنه نائم
في المسجد متوسداً برنساً له.
فرجعوا إلى المسجد، فإذا هو متوسد برنساً كان قد لبسه للوفد، فلما
انصرفوا عنه توسد البرنس ونام وليس في المسجد غيره، والدرة معلقة في
يده.
فقال الهرمزان: أين عمر؟
فقالوا: هو ذا.
وجعل الناس يخفضون أصواتهم لئلا ينبهوا.
وجعل الهرمزان يقول: وأين حجابه؟ أين حرسه؟
فقالوا: ليس له حجاب، ولا حرس، ولا كاتب، ولا ديوان.
فقال: ينبغي أن يكون نبياً.
فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء.
وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالساً، ثم نظر إلى الهرمزان
فقال: الهرمزان؟
قالوا: نعم، فتأمله وتأمل ما عليه، ثم قال: أعوذ بالله من النار،
وأستعين بالله.
ثم قال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين
تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيكم، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها
غدارة.
فقال له الوفد: هذا ملك الأهواز فكلمه.
فقال: لا حتى لا يبقى عليه من حليته شيء.
ففعلوا ذلك، وألبسوه ثوباً صفيقاً، فقال عمر: يا هرمزان، كيف رأيت
وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟
فقال: يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية، كان الله قد خلى بيننا وبينكم
فغلبناكم، إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا.
فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا.
ثم قال: ما عذرك، وما حجتك في إنقاضك مرة بعد مرة؟
فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك.
قال: لا تخف ذلك.
فاستسقى الهرمزان ماء فأتي به في قدح غليظ، فقال: لو مت عطشاً لم
أستطع أن أشرب في هذا، فأتي به قدح آخر يرضاه، فلما أخذه جعلت يده
ترعد، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب ؟
فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه.
فقال عمر: أعيدوه عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش.
فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأنس به.
فقال له عمر: إني قاتلك؟
فقال: إنك أمنتني ؟
قال: كذبت.
فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين.
فقال عمر: ويحك يا أنس، أنا أؤمن من قبل مجزأة والبراء؟ لتأتيني
بمخرج وإلا عاقبتك.
قال قلت: لا بأس عليك، حتى تخبرني.
وقلت: لأباس عليك حتى تشربه.
وقال له من حوله مثل ذلك.
فأقبل على الهرمزان فقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا أن تسلم،
فأسلم، ففرض له في ألفين، وأنزله المدينة.
وفي رواية: إن الترجمان بين عمر وبين الهرمزان كان المغيرة بن شعبة،
فقال له عمر: قل له من أي أرض أنت؟
قال: مهرجاني.
قال: تكلم بحجتك.
فقال: أكلام حي أم ميت؟
قال: بل كلام حي.
فقال: قد أمنتني.
فقال: خدعتني ولا أقبل ذلك إلا أن تسلم، فأسلم، ففرض له في ألفين،
وأنزله المدينة، ثم جاء زيد فترجم بينهما أيضاً.
قلت: وقد حسن إسلام الهرمزان، وكان لا يفارق عمر حتى قتل عمر، فاتهمه
بعض الناس بمملأة أبي لؤلؤة هو وجفينة، فقتل عبد الله بن عمر الهرمزان
وجفينة على ما سيأتي تفصيله.
وقد روينا: أن الهرمزان لما علاه عبيد الله بالسيف قال: لا إله إلا
الله، وأما جفينه: فصلب على وجهه.
والمقصود: أن عمر كان يحجر على المسلمين أن يتوسعوا في بلاد العجم
خوفاً عليهم من العجم، حتى أشار عليه الأحنف بن قيس بأن المصلحة تقتضي
توسعهم في الفتوحات، فإن الملك يزدجرد لا يزال يستحثهم على قتال
المسلمين، وإن لم يستأصل شأو العجم، وإلا طمعوا في الإسلام وأهله،
فاستحسن عمر ذلك منه وصوبه.
وأذن للمسلمين في التوسع في بلاد العجم، ففتحوا بسبب ذلك شيئاً كثيراً،
ولله الحمد.
وأكثر ذلك وقع في سنة ثماني عشرة كما سيأتي بيانه فيها.
ثم نعود إلى فتح السوس، وجندسابور، وفتح نهاوند في قول سيف: كان قد
تقدم أن أبا سبرة سار بمن معه من علية الأمراء من تستر إلى السوس
فنازلها حيناً، وقتل من الفريقين خلق كثير، فأشرف عليه علماء أهلها
فقالوا: يا معشر المسلمين، لا تتعبوا في حصار هذا البلد، فإنا نأثر
فيما نرويه عن قدمائنا من أهل هذا البلد أنه لا يفتحه إلا الدجال، أو
قوم معهم الدجال.
واتفق: أنه كان في جيش أبي موسى الأشعري صاف بن صياد، فأرسله أبو
موسى فيمن يحاصره، فجاء إلى الباب فدقه برجله فتقطعت السلاسل وتكسرت
الأغلاق، ودخل المسلمون البلد فقتلوا من وجدوا حتى نادوا بالأمان،
ودعوا إلى الصلح فأجابوهم إلى ذلك، وكان على السوس شهريار أخو
الهرمزان، فاستحوذ المسلمون على السوس، وهو بلد قديم العمارة في الأرض
يقال: إنه أول بلد وضع على وجه الأرض. والله أعلم.
وذكر ابن جرير: أنهم وجدوا قبر دانيال بالسوس، وأن أبا موسى لما قدم
بها بعد مضي أبي سبرة إلى جندي سابور، كتب إلى عمر في أمره، فكتب
إليه: أن يدفنه وأن يغيب عن الناس موضع قبره ففعل.
وقد بسطنا ذلك في سيرة عمر ولله الحمد.
قال ابن جرير: وقال بعضهم: أن فتح السوس، ورامهز، وتسيير الهرمزان
من تستر إلى عمر في سنة عشرين والله أعلم.
وكان الكتاب العمري قد ورد: بأن النعمان بن مقرن يذهب إلى أهل
نهاوند، فسار إليها فمر بماه - بلدة كبيرة قبلها - فافتتحها، ثم ذهب
إلى نهاوند ففتحها، ولله الحمد.
قلت: المشهور أن فتح نهاوند إنما وقع في سنة إحدى وعشرين كما سيأتي
فيها بيان ذلك، وهي وقعة عظيمة، وفتح كبير، وخبر غريب، ونبأ عجيب.
وفتح زر بن عبد الله الفقيمي مدينة جندي سابور، فاستوثقت تلك البلاد
للمسلمين، هذا وقد تحول يزدجرد من بلد إلى بلد حتى انتهى أمره إلى
الإقامة بأصبهان، وقد كان صرف طائفة من أشراف أصحابه قريباً من
ثلاثمائة من العظماء عليهم رجل يقال له: سياه، فكانوا يفرون من
المسلمين من بلد إلى بلد حتى فتح المسلمون تستر واصطخر.
فقال سياه لأصحابه: إن هؤلاء بعد الشقاء والذلة ملكوا أماكن الملوك
الأقدمين، ولا يلقون جنداً إلا كسروه، والله ما هذا عن باطل. - ودخل
في قلبه الإسلام وعظمته - فقالوا له: نحن تبع لك.
وبعث عمار بن ياسر في غضون ذلك يدعوهم إلى الله، فأرسلوا إلى أبي موسى
الأشعري بإسلامهم.
وكتب فيهم إلى عمر في ذلك، فأمره أن يفرض لهم في ألفين ألفين، وفرض
لستة منهم في ألفين وخمسمائة، وحسن إسلامهم، وكان لهم نكاية عظيمة في
قتال قومهم حتى بلغ من أمرهم أنهم حاصروا حصناً فامتنع عليهم، فجاء
أحدهم فرمى بنفسه في الليل على باب الحصن، وضمخ ثيابه بدم، فلما نظروا
إليه حسبوا أنه منهم، ففتحوا إليه باب الحصن ليأووه، فثار إلى البواب
فقتله، وجاء بقية أصحابه ففتحوا ذلك الحصن، وقتلوا من فيه من المجوس.
إلى غير ذلك من الأمور العجيبة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وذكر ابن جرير: أن عمر بن الخطاب عقد الألوية والرايات الكبيرة في
بلاد خراسان والعراق لغزو فارس والتوسع في بلادهم، كما أشار عليه بذلك
الأحنف بن قيس، فحصل بسبب ذلك فتوحات كثيرة في السنة المستقبلة بعدها
كما سنبينه وننبه عليه، ولله الحمد والمنة.
قال: وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ثم ذكر
نوابه على البلاد، وهم من ذكر في السنة قبلها غير المغيرة فإن على
البصرة بدله أبو موسى الأشعري.
قلت: وقد توفي في هذه السنة أقوام، قيل أنهم توفوا قبلها وقد
ذكرناهم، وقيل فيما بعدها، وسيأتي ذكرهم في أماكنهم والله تعالى
أعلم.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة
المشهور الذي عليه الجمهور: أن طاعون عمواس كان بها، وقد تبعنا قول
سيف بن عمر وابن جرير في إيراده ذلك في السنة التي قبلها، لكنا نذكر
وفاة من مات في الطاعون في هذه السنة إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق، وأبو معشر: كان في هذه السنة طاعون عمواس، وعام
الرمادة، فتفانى فيهما الناس.
قلت: كان في عام الرمادة جدب عم أرض الحجاز، وجاع الناس جوعاً
شديداً، وقد بسطنا القول في ذلك في سيرة عمر.
وسميت عام الرمادة: لأن الأرض اسودت من قلة المطر، حتى عاد لونها
شبيهاً بالرماد.
وقيل: لأنها تسفى الريح تراباً كالرماد.
ويمكن أن تكون سميت لكل منها والله أعلم.
وقد أجدبت الناس في هذا السنة بأرض الحجاز، وجفلت الأحياء إلى المدينة،
ولم يبق عند أحد منهم زاد، فلجأوا إلى أمير المؤمنين فأنفق فيهم من
حواصل بيت المال مما فيه مِن الأطعمة والأموال حتى أنفذه، وألزم نفسه
أن لا يأكل سمناً ولا سميناً حتى يكشف ما بالناس، فكان في زمن الخصب
يبث له الخبز باللبن والسمن، ثم كان عام الرمادة يبث له بالزيت والخل،
وكان يستمرئ الزيت.
وكان لا يشبع مع ذلك، فاسود لون عمر رضي الله عنه وتغير جسمه حتى كاد
يخشى عليه من الضعف.
واستمر هذا الحال في الناس تسعة أشهر، ثم تحول الحال إلى الخصب والدعة،
وانشمر الناس عن المدينة إلى أماكنهم.
قال الشافعي: بلغني أن رجلاً من العرب قال لعمر حين ترحلت الأحياء عن
المدينة: لقد انجلت عنك، ولأنك لابن حرة. أي: واسيت الناس،
وأنصفتهم، وأحسنت إليهم.
وقد روينا: أن عمر عس المدينة ذات ليلة عام الرمادة فلم يجد أحداً
يضحك، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة، ولم ير سائلاً يسأل،
فسأل عن سبب ذلك فقيل له: يا أمير المؤمنين إن السؤّال سألوا فلم
يعطوا فقطعوا السؤال، والناس في همٍّ وضيق، فهم لا يتحدثون ولا
يضحكون.
فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة: أن يا غوثاه لأمة محمد.
وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر: أن يا غوثاه لأمة محمد.
فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البر وسائر الأطعمات، ووصلت
ميرة عمرو في البحر إلى جدة، ومن جدة إلى مكة، وهذا الأثر جيد الإسناد،
لكن ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة مشكل، فإن مصر لم تكن فتحت في
سنة ثماني عشرة، فإما أن يكون عام الرمادة بعد سنة ثماني عشرة، أو يكون
ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة وهم. والله أعلم
وذكر سيف عن شيوخه: أن أبا عبيدة قدم المدينة ومعه أربعة آلاف راحله
تحمل طعاماً، فأمره عمر بتفريقها في الأحياء حول المدينة، فلما فرغ من
ذلك أمر له بأربعة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها، فلح عليه عمر حتى
قبلها.
وقال سيف بن عمرو، عن سهل بن يوسف السلمي، عن عبد الرحمن بن كعب بن
مالك قال: كان عام الرمادة في آخر سنة سبع عشرة، وأول سنة ثماني
عشرة، أصاب أهل المدينة وما حولها جوع فهلك كثير من الناس، حتى جعلت
الوحش تأوي إلى الإنس، فكان الناس بذلك وعمر كالمحصور عن أهل الأمصار
حتى أقبل بلال بن الحارث المزني فاستأذن على عمر فقال: أنا رسولُ
رسول الله إليك، يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد
عهدتك كيساً، وما زلت على ذلك فما شأنك ؟))
قال: متى رأيت هذا؟
قال: البارحة، فخرج فنادى في الناس الصلاة جامعة، فصلى بهم ركعتين،
ثم قام فقال:
أيها الناس: أنشدكم الله هل تعلمون مني أمراً غيره خير منه.
فقالوا: اللهم لا.
فقال: إن بلال بن الحارث يزعم ذية وذية.
قالوا: صدق بلال، فاستغث بالله، ثم بالمسلمين.
فبعث إليهم - وكان عمر عن ذلك محصوراً - فقال عمر: الله أكبر، بلغ
البلاء مدته فانكشف. ما أذن لقوم في الطلب إلا وقد رفع عنهم الأذى
والبلاء.
وكتب إلى أمراء الأمصار: أن أغيثوا أهل المدينة ومن حولها، فإنه قد
بلغ جهدهم.
وأخرج الناس إلى الاستسقاء فخرج وخرج معه العباس بن عبد المطلب ماشياً،
فخطب وأوجز وصلى ثم حثى لركبتيه وقال: اللهم إياك نعبد وإياك نستعين،
اللهم اغفر لنا وارحمنا وأرض عنا.
ثم انصرف فما بلغوا المنازل راجعين حتى خاضوا الغدران.
ثم روى سيف، عن مبشر بن الفضيل، عن جبير بن صخر، عن عاصم بن عمر بن
الخطاب: أن رجلاً من مزينة عام الرمادة سأله أهله أن يذبح لهم شاة
فقال: ليس فيهن شيء.
فألحوا عليه فذبح شاة فإذا عظامها حمر فقال: يا محمداه.
فلما أمسى أري في المنام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له:
أبشر بالحياة، إيت عمر فأقره مني السلام، وقل له إن عهدي بك وفيّ العهد
شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر.
فجاء حتى أتى باب عمر، فقال لغلامه: استأذن لرسول الله صلى الله عليه
وسلم.
فأتى عمر فأخبره ففزع، ثم صعد عمر المنبر فقال للناس: أنشدكم الله
الذي هداكم للإسلام هل رأيتم مني شيئاً تكرهونه؟
فقالوا: اللهم لا. وعم ذلك؟
فأخبرهم بقول المزني - وهو بلال بن الحارث - ففطنوا ولم يفطن.
فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا.
فنادى في الناس فخطب فأوجز، ثم صلى ركعتين فأوجز، ثم قال: اللهم عجزت
عنا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوتنا، وعجزت عن أنفسنا، ولا حول ولا قوة
إلا بك، اللهم اسقنا وأحي العباد والبلاد)
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، وأبو بكر
الفارسي قالا: حدثنا أبو عمر بن مطر، حدثنا إبراهيم بن علي الذهلي،
حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن
مالك قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر بن الخطاب، فجاء رجل إلى قبر
النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا.
فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: إيت عمر، فأقرئه
مني السلام، وأخبرهم أنه مسقون، وقل له عليك بالكيس الكيس.
فأتى الرجل فأخبر عمر، فقال: يا رب ما آلوا إلا ما عجزت عنه.
وهذا إسناد صحيح.
وقال الطبراني: حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا أبو محمد الأنصاري، ثنا
أبي، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس: أن عمر خرج يستسقي، وخرج
بالعباس معه يستسقي، يقول: اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبينا
توسلنا إليك بنبينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه البخاري، عن الحسن بن محمد، عن محمد بن عبد الله به، ولفظه عن
أنس: أن عمر كان إذا قحطوا يستسقي بالعباس بن عبد المطلب فيقول:
اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا
فاسقنا.
قال: فيسقون.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا - في (كتاب المطر)، وفي كتاب (مجابي
الدعوة) - حدثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا عطاء بن مسلم، عن العمري،
عن خوات بن جبير قال: خرج عمر يستسقي بهم فصلى ركعتين فقال: اللهم
إنا نستغفرك ونستسقيك، فما برح من مكانه حتى مطروا، فقدم أعراب
فقالوا: يا أمير المؤمنين بينا نحن في وادينا في ساعة كذا إذ أظلتنا
غمامة فسمعنا منها صوتاً: أتاك الغوث أبا حفص، أتاك الغوث أبا حفص.
وقال ابن أبي الدنيا: ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا سفيان، عن مطرف بن
طريف، عن الشعبي قال: خرج عمر يستسقي بالناس فما زاد على الاستغفار
حتى رجع فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما نراك استسقيت.
فقال: لقد طلبت المطر بمحاديج السماء التي يستنزل بها المطر، ثم
قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ
السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح: 10-11]، ثم قرأ:
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} الآية
[هود: 3].
وذكر ابن جرير في هذا السنة من طريق سيف بن عمر، عن أبي المجالد،
والربيع، وأبي عثمان، وأبي حارثة، وعن عبد الله بن شبرمة، عن الشعبي
قالوا: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب أن نفراً من المسلمين أصابوا
الشراب، منهم ضرار، وأبو جندل بن سهل، فسألناهم فقالوا: خيرنا
فاخترنا.
قال: فهل أنتم منتهون؟ ولم يعزم.
فجمع عمر الناس فأجمعوا على خلافهم، وأن المعنى: فهل أنتم منتهون؟
أي: انتهوا.
وأجمعوا على جلدهم ثمانين ثمانين.
وأن من تأول هذا التأويل وأصر عليه يقتل.
فكتب عمر إلى أبي عبيدة: أن ادعهم فسلهم عن الخمر، فإن قالوا: هي
حلال، فاقتلهم، وإن قالوا: هي حرام، فاجلدهم.
فاعترف القوم بتحريمها، فجلدوا الحد وندموا على ما كان منهم من اللجاجة
فيما تأولوه، حتى وسوس أبو جندل في نفسه، فكتب أبو عبيدة إلى عمر في
ذلك، وسأله أن يكتب إلى أبي جندل ويذكره.
فكتب إليه عمر بن الخطاب في ذلك: من عمر إلى أبي جندل إن الله لا
يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فتب وارفع رأسك، وابرز ولا
تقنط فإن الله تعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
وكتب عمر إلى الناس: إن عليكم أنفسكم ومن غير فغيروا عليه، ولا
تعيروا أحداً فيفشوا فيكم البلاء، وقد قال أبو الزهراء القشيري في
ذلك:
ألم تر أن الدهر يعثر بالفتى * وليس على صرف المنون بقادر
صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي * ولست عن الصهباء يوماً بصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها * فخلانها يبكون حول المقاصر
قال الواقدي وغيره: وفي هذه السنة في ذي الحجة منها حول عمر المقام -
وكان ملصقاً بجدار الكعبة - فأخره إلى حيث هو الآن لئلا يشوش المصلون
عنده على الطائفين.
قلت: قد ذكرت أسانيد ذلك في سيرة عمر ولله الحمد والمنة.
قال: وفيها: استقضى عمر شريحاً على الكوفة، وكعب بن سور على
البصرة.
قال: وفيها: حج عمر بالناس، وكانت نوابه فيها الذين تقدم ذكرهم في
السنة الماضية.
وفيها: فتحت الرقة، والرها، وحران، على يدي عياض بن غنم.
قال: وفتحت رأس عين الوردة على يدي عمر بن سعد بن أبي وقاص.
وقال غيره خلاف ذلك.
وقال شيخنا الحافظ الذهبي في (تاريخه): وفيها - يعني: هذه
السنة - افتتح أبو موسى الأشعري الرها وشمشاط عنوة.
وفي أوائلها: وجه أبو عبيدة عياض بن غنيم إلى الجزيرة، فوافق أبا
موسى فافتتحا حران، ونصيبين، وطائفة من الجزيرة عنوة، وقيل: صلحاً.
وفيها: سار عياض إلى الموصل فافتتحها وما حولها عنوة.
وفيها: بنى سعد جامع الكوفة.
وقال الواقدي: وفيها: كان طاعون عمواس، فمات فيه خمسة وعشرون
ألفاً.
قلت: هذا الطاعون منسوب إلى بلدة صغيرة يقال لها: عمواس - وهي بين
القدس والرمله - لأنها كانت أول ما نجم الداء بها، ثم انتشر في الشام
منها فنسب إليها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال الواقدي: توفي في عام طاعون عمواس من المسلمين بالشام خمسة
وعشرون ألفاً.
وقال غيره: ثلاثون ألفاً.
وهذا ذكر طائفة من أعيانهم رضي الله عنهم.
الحارث بن هشام
أخو أبي جهل، أسلم يوم الفتح، وكان سيداً شريفاً في الإسلام كما كان في
الجاهلية، استشهد بالشام في هذه السنة في قول، وتزوج عمر بعده بامرأته
فاطمة.
شرحبيل بن حسنة
أحد أمراء الأرباع، وهو أمير فلسطين، وهو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع
بن قطن الكندي حليف بني زهرة، وحسنة أمه، نسب إليها وغلب عليه ذلك،
أسلم قديماً، وهاجر إلى الحبشة، وجهزه الصديق إلى الشام، فكان أميراً
على ربع الجيش، وكذلك في الدولة العمرية، وطعن هو وأبو عبيدة وأبو مالك
الأشعري في يوم واحد سنة ثماني عشرة.
له حديثان، روى ابن ماجه أحدهما في الوضوء وغيره.
عامر بن عبد الله بن الجراح
ابن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر القرشي، أبو عبيدة بن الجراح
الفهري، أمين هذه الأمة، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخمسة
الذين أسلموا في يوم واحد، وهم: عثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث،
وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وأبو عبيدة بن الجراح.
أسلموا على يدي الصديق.
ولما هاجروا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن معاذ،
وقيل: بين محمد بن مسلمة.
وقد شهد بدراً وما بعدها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح))،
ثبت ذلك في الصحيحين.
وثبت في الصحيحين أيضاً: أن الصديق قال يوم السقيفة: وقد رضيت لكم
أحد هذين الرجلين فبايعوه - يعني عمر بن الخطاب، وأبا عبيدة -.
وبعثه الصديق أميراً على ربع الجيش إلى الشام، ثم لما انتدب خالداً من
العراق، كان أميراً على أبي عبيدة وغيره لعلمه بالحروب
فلما انتهت الخلافة إلى عمر عزل خالداً وولى أبا عبيدة بن الجراح،
وأمره أن يستشير خالداً، فجمع للأمة بين أمانة أبي عبيدة وشجاعة
خالد.
قال ابن عساكر: وهو أول من سمي أمير الأمراء بالشام.
قالوا: وكان أبو عبيدة طوالاً نحيفاً أجنى معروق الوجه، خفيف اللحية،
أهتم، وذلك لأنه لما انتزع الحلقتين من وجنتي رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم أحد خاف أن يؤلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحامل على
ثنيتيه فسقطتا، فما رأى أحسن هتماً منه.
توفي بالطاعون عام عمواس كما تقدم سياقه في سنة ست عشرة عن سيف بن
عمر.
والصحيح: أن عمواس كانت في هذه السنة - سنة ثماني عشرة - بقرية فحل،
وقيل: بالجابية.
وقد اشتهر في هذه الأعصار قبر بالقرب من عقبة ينسب إليه والله أعلم.
وعمره يوم مات: ثمان وخمسون سنة.
الفضل بن عباس بن عبد المطلب
كان حسناً وسيماً جميلاً، أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه
يوم النحر من حجة الوداع، وهو شاب حسن، وقد شهد فتح الشام، واستشهد
بطاعون عمواس في قول محمد بن سعد، والزبير بن بكار، وأبي حاتم، وابن
الرقي وهو الصحيح.
وقيل: يوم مرج الصفر، وقيل: بأجنادين.
ويقال: باليرموك سنة ثمان وعشرين.
ابن عمرو بن أوس بن عابد بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدى بن علي بن أسد
بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن
المدني، صحابي جليل كبير القدر.
معاذ بن جبل
قال الواقدي: كان طوالاً حسن الشعر والثغر، براق الثنايا، لم يولد
له.
وقال غيره: بل ولد له ولد وهو عبد الرحمن.
شهد معه اليرموك. وقد شهد معاذ العقبة.
ولما هاجر الناس آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين ابن
مسعود.
وحكى الواقدي الإجماع على ذلك.
وقد قال محمد بن إسحاق: آخى بينه وبين جعفر بن أبي طالب.
وشهد بدراً وما بعدها. وكان أحد الأربعة من الخزرج الذين جمعوا
القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهم: أُبيُّ بن كعب، وزيد
بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد عمر بن أنس بن مالك.
وصح في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي من حديث حيوة بن شريح، عن
عقبة بن مسلم، عن أبي عبد الرحمن الجيلي، عن الصنابحي، عن معاذ: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا معاذ، والله إني
لأحبك، فلا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك
وحسن عبادتك)).
وفي المسند، والنسائي، وابن ماجه من طريق أبي قلابة عن أنس مرفوعاً:
((وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل)).
وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وقال له: ((بم
تحكم ؟))
فقال: بكتاب الله، وبالحديث.
وكذلك أقره الصديق على ذلك يعلم الناس الخير باليمن.
ثم هاجر إلى الشام فكان بها حتى مات بعد ما استخلفه أبو عبيدة حين طعن
ثم طعن بعده في هذه السنة.
وقد قال عمر بن الخطاب: إن معاذاً يبعث أمام العلماء بربوة.
ورواه محمد بن كعب مرسلاً.
وقال ابن مسعود: كنا نشبهه بإبراهيم الخليل.
وقال ابن مسعود: إن معاذاً كان قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من
المشركين.
وكانت وفاته شرقي غور بيسان، سنة ثماني عشرة، وقيل: سنة تسع عشرة.
وقيل: سبع عشرة، عن ثمان وثلاثين سنة على المشهور.
وقيل غير ذلك والله أعلم.
يزيد بن أبي سفيان
أبو خالد صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي،
أخو معاوية، وكان يزيد أكبر وأفضل.
وكان يقال له: يزيد الخير، أسلم عام الفتح، وحضر حنيناً وأعطاه رسول
الله صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل وأربعين أوقية.
واستعمله الصديق على ربع الجيش إلى الشام، وهو أول أمير وصل إليها،
ومشى الصديق في ركابه يوصيه، وبعث معه أبا عبيدة، وعمرو بن العاص،
وشرحبيل بن حسنة، فهؤلاء أمراء الأرباع.
ولما افتتحوا دمشق دخل هو من باب الجابية الصغير عنوة كخالد في دخوله
من الباب الشرقي عنوة، وكان الصديق قد وعده بإمرتها، فوليها عن أمر عمر
وأنفذ له ما وعده الصديق، وكان أول من وليها من المسلمين.
المشهور: أنه مات في طاعون عمواس كما تقدم.
وزعم الوليد بن مسلم: أنه توفي سنة تسع عشرة بعد ما فتح قيسارية.
ولما مات كان قد استخلف أخاه معاوية على دمشق، فأمضى عمر بن الخطاب له
ذلك رضي الله عنهم، وليس في الكتب شيء.
وقد روى عنه أبو عبد الله الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: ((مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه ولا سجوده مثل الجائع الذي
لا يأكل إلا التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئاً)).
أبو جندل بن سهيل
ابن عمرو، وقيل: اسمه العاص.
أسلم قديماً، وقد جاء يوم صلح الحديبية مسلماً يوسف في قيوده لأنه كان
قد استضعف فرده أبوه وأبى أن يصالح حتى يرد، ثم لحق أبو جندل بأبي بصير
إلى سيف البحر، ثم هاجر إلى المدينة وشهد فتح الشام.
وقد تقدم أنه تأول آية الخمر ثم رجع، ومات بطاعون عمواس رحمه الله ورضي
عنه.
أبو عبيدة بن الجراح
هو عامر بن عبد الله تقدم.
أبو مالك الأشعري، قيل: اسمه كعب بن عاصم، قدم مهاجراً سنة خيبر مع
أصحاب السفينة، وشهد ما بعدها، واستشهد بالطاعون عام عمواس هو وأبو
عبيدة ومعاذ في يوم واحد رضي الله عنهم أجمعين.
ثم دخلت سنة تسع عشرة
قال الواقدي وغيره: كان فتح المدائن وجلولاء فيها.
والمشهور خلاف ما قال كما تقدم.
وقال محمد ابن إسحاق: كان فتح الجزيرة والرها وحران ورأس العين
ونصيبين في هذه السنة.
وقد خالفه غيره.
وقال أبو معشر وخليفة وابن الكلبي: كان فتح قيسارية في هذه السنة
وأميرها معاوية، وقال غيره: يزيد بن أبي سفيان.
وقد تقدم أن معاوية افتتحها قبل هذا بسنتين.
وقال محمد بن إسحاق: كان فتح قيسارية من فلسطين وهرب هرقل وفتح مصر
في سنة عشرين.
وقال سيف بن عمر: كان فتح قيسارية وفتح مصر في سنة ست عشرة.
قال ابن جرير: فأما فتح قيسارية فقد تقدم، وأما فتح مصر فإني سأذكره
في سنة عشرين إن شاء الله تعالى.
قال الواقدي: وفي هذه السنة ظهرت نار من حرة ليلاً فأراد عمر أن يخرج
بالرجال إليها، ثم أمر المسلمين بالصدقة فطفئت ولله الحمد.
ويقال: كان فيها وقعة أرمينية، وأميرها عثمان بن أبي العاص، وقد أصيب
فيها صفوان بن المعطل بن رخصة السلمي ثم الذكواني، وكان أحد الأمراء
يومئذ.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما علمت عليه إلا
خيراً)) وهو الذي ذكره المنافقون في قصة الإفك فبرأ الله ساحته،
وجناب أم المؤمنين زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قالوا.
وقد كان إلى حين قالوا: لم يتزوج ولهذا قال: والله ما كشفت كنف
أنثى قط.
ثم تزوج بعد ذلك، وكان كثير النوم ربما غلب عليه عن صلاة الصبح في
وقتها، كما جاء في سنن أبي داود وغيره.
وكان شاعراً ثم حصلت له شهادة في سبيل الله.
قيل: بهذا البلد، وقيل: بالجزيرة، وقيل: بشمشاط. وقد تقدم بعض
هذا فيما سلف.
وفيها: فتحت تكريت في قول والصحيح قبل ذلك.
وفيها فيما ذكرنا: أسرت الروم عبد الله بن حذافة.
وفيها: في ذي الحجة منها كانت وقعة بأرض العراق قتل فيها أمير المجوس
شهرك، وكان أمير المسلمين يومئذ الحكم بن أبي العاص رضي الله عنه.
قال ابن جرير: وفيها: حج بالناس عمر ونوابه في البلاد وقضاته هم
المذكورون قبلها. والله أعلم.
ذكر من توفى فيها من الأعيان:
وممن توفي فيها من الأعيان أُبيُّ بن كعب سيد القراء، وهو: أبي بن
كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، أبو
المنذر، وأبو الطفيل الأنصاري النجاري، سيد القراء، شهد العقبة وبدراً
وما بعدهما، وكان سيداً جليل القدر.
وهو أحد القراء الأربعة الخزرجيين الذين جمعوا القرآن في حياة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال لعمر يوماً: إني تلقيت القرآن ممن
تلقاه منه جبريل وهو رطب.
وفي المسند، والنسائي، وابن ماجه من طريق أبي قلابة عن أنس مرفوعاً:
((أقرأ أمتي أبي بن كعب)).
وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((إن
الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن)).
قال: وسماني لك؟
قال: ((نعم)).
فزرفت عيناه، وقد تكلما على ذلك في التفسير عند سورة: {لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:
1].
قال الهيثم بن عدي: توفي أُبيُّ سنة تسع عشرة.
وقال يحيى بن معين: سنة سبع عشرة، أو عشرين.
وقال الواقدي عن غير واحد: توفي سنة ثنتين وعشرين.
وبه قال أبو عبيد وابن نمير وجماعة.
وقال الفلاس وخليفة: توفي في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وفيها: مات خباب مولى عتبة بن غزوان من المهاجرين شهد بدراً وما
بعدها، وهو صحابي من السابقين، وصلى عليه عمر.
ومات فيها صفوان بن المعطل في قول كما تقدم والله أعلم.