الجزء السابع - سنة عشرين من الهجرة

سنة عشرين من الهجرة

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فيها كان فتح مصر‏.‏

وكذا قال الواقدي‏:‏ أنها فتحت هي والإسكندرية في هذه السنة‏.‏

وقال أبو معشر‏:‏ فتحت مصر سنة عشرين، وإسكندرية في سنة خمس وعشرين‏.‏

وقال سيف‏:‏ فتحت مصر وإسكندرية في سنة ست عشرة في ربيع الأول منها‏.‏

ورجح ذلك أبو الحسن بن الأثير في ‏(‏الكامل‏)‏ لقصة بعث عمرو الميرة من مصر عام الرمادة، وهو معذور فيما رجحه والله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ كان فتح تستر في قول طائفة من علماء السير بعد محاصرة سنتين وقيل‏:‏ سنة ونصف‏.‏ والله أعلم‏.‏

صفة فتح مصر عن ابن إسحاق وسيف

قالوا‏:‏ لما استكمل عمر والمسلمون فتح الشام بعث عمرو بن العاص إلى مصر‏.‏

وزعم سيف‏:‏ أنه بعثه بعد فتح بيت المقدس، وأردفه بالزبير بن العوام وفي صحبته بشر بن أرطاة وخارجة بن حذافة، وعمير بن وهب الجمحي‏.‏ فاجتمعا على باب مصر فلقيهم أبو مريم جاثليق مصر ومعه الأسقف أبو مريام في أهل الثبات، بعثه المقوقس صاحب إسكندرية لمنع بلادهم، فلما تصافوا قال عمرو بن العاص‏:‏ لا تعجلوا حتى نعذر، ليبرز إلى بومريم وأبو مريام راهباً هذه البلاد، فبرزا إليه
فقال لهما عمرو بن العاص‏:‏ أنتما راهبا هذه البلاد فاسمعا إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأمره به وأمرنا به محمد صلى الله عليه وسلم، وأدى إلينا كل الذي أمر به، ثم مضى وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الأعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفاظاً لرحمنا منكم، وإن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة‏.‏

ومما عهد إلينا أميرنا استوصوا بالقبطيين خيراً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالقبطيين خيراً، لأن له رحماً وذمة‏.‏

فقالوا‏:‏ قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء معروفة شريفة، كانت ابنة ملكنا وكانت من أهل منف، والملك فيهم فأديل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوهم ملكهم واغتربوا فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام مرحباً به وأهلاً‏.‏

أمَّنَا حتى نرجع إليك، فقال عمرو‏:‏ إن مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكما ثلاثاً لتنظروا ولتناظرا قومكما، وإلا ناجزتكم‏.‏

قالا‏:‏ زدنا، فزادهم يوماً‏.‏

فقالا‏:‏ زدنا، فزادهم يوماً‏.‏ فرجعا إلى المقوقس فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم‏.‏

فقالا لأهل مصر‏:‏ إما نحن فسنجتهد أن ندفع عنكم، ولا نرجع إليهم، وقد بقيت أربعة أيام قاتلوا، وأشار عليهم بأن يبيتوا المسلمين‏.‏

فقال الملأ منهم‏:‏ ما تقاتلون من قوم قتلوا كسرى وقيصر، وغلبوهم على بلادهم‏.‏

فألح الأرطبون في أن يبيتوا للمسلمين، ففعلوا فلم يظفروا بشيء، بل قتل منهم طائفة منهم الأرطبون، وحاصر المسلمون عين شمس من مصر في اليوم الرابع‏.‏ وارتقى الزبير عليهم سور البلد، فلما أحسوا بذلك خرجوا إلى عمرو من الباب الآخر فصالحوه، واخترق الزبير البلد حتى خرج من الباب الذي عليه عمرو، فأمضوا الصلح، وكتب لهم عمرو كتاب أمان‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص ولا يساكنهم النوبة‏.‏

وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف وعليهم ما حق لصونهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبي بريئة‏.‏

وإن نقص نهرهم من غايته رفع عنهم بقدر ذلك‏.‏

ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثاً ي كل ثلث جباية ثلث ما عليهم‏.‏

على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأساً، وكذا وكذا فرساً على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة‏.‏

شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح، واجتمعت الخيول بمصر وعمروا الفسطاط، وظهر أبو مريم، وأبو مريام، فكلما عمرا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة فأبى عمرو أن يردها عليهما، وأمر بطردهما وإخراجهما من بين يديه، فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أمر أن كل سبي أخذ في الخمسة أيام التي أمنوها فيها أن يرد عليهم، وكل سبي أخذ ممن لم يقاتل، وكذلك من قاتل فلا يرد عليه سباياه‏.‏

وقيل‏:‏ إنه أمره أن يخيروا من في أيديهم من السبي بين الإسلام وبين أن يرجع إلى أهله، فمن اختار الإسلام فلا يردوه إليهم، ومن اختارهم ردوه عليهم، وأخذوا منه الجزية‏.‏

وأما ما تفرق من سبيهم في البلاد ووصل إلى الحرمين وغيرهما، فإنه لا يقدر على ردهم، ولا ينبغي أن يصالحهم على ما يتعذر الوفاء به‏.‏

ففعل عمرو ما أمر به أمير المؤمنين، وجمع السبايا وعرضوهم وخيروهم فمنهم من اختار الإسلام، ومنهم من عاد إلى دينه، وانعقد الصلح بينهم‏.‏

ثم أرسل عمرو جيشاً إلى إسكندرية - وكان المقوقس صاحب إسكندرية قبل ذلك يؤدي خراج بلده وبلد مصر إلى ملك الروم - فلما حاصره عمرو بن العاص جمع أساقفتة وأكابر دولته وقال لهم‏:‏ إن هؤلاء العرب غلبوا كسرى وقيصر وأزالوهم عن ملكهم ولا طاقة لنا بهم، والرأي عندي‏:‏ أن نؤدي الجزية إليهم‏.‏

ثم بعث إلى عمرو بن العاص يقول‏:‏ إني كنت أؤدي الخراج إلى من هو أبغض إلي منكم - فارس والروم - ثم صالحه على أداء الجزية، وبعث عمرو بالفتح والأخماس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

وذكر سيف‏:‏ أن عمرو بن العاص لما التقى مع المقوقس جعل كثير من المسلمين يفر من الزحف فجعل عمر يزمرهم ويحثهم على الثبات‏.‏

فقال له رجل من أهل اليمن‏:‏ إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد‏.‏

فقال عمرو‏:‏ اسكت، فإنما أنت كلب‏.‏

فقال له الرجل‏:‏ فأنت إذاً أمير الكلاب‏.‏ فأعرض عنه عمرو، ونادى يطلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اجتمع إليه من هناك من الصحابة قال لهم عمرو‏:‏ تقدموا فبكم ينصر الله المسلمين‏.‏

فنهدوا إلى القوم ففتح الله عليهم وظفروا أتم الظفر‏.‏

قال سيف‏:‏ ففتحت مصر في ربيع الأول من سنة ست عشرة، وقام فيها ملك الإسلام ولله الحمد والمنة‏.‏

وقال غيره‏:‏ فتحت مصر في سنة عشرين، وفتحت إسكندرية في سنة خمسٍ وعشرين، بعد محاصرة ثلاثة أشهر عنوة، وقيل‏:‏ صلحاً على ثنتي عشر ألف دينار‏.‏

وقد ذكر أن المقوقس سأل من عمرو أن يهادنه أولاً، فلم يقبل عمرو وقال له‏:‏ قد علمتم ما فعلنا بملككم الأكبر هرقل‏.‏

فقال المقوقس لأصحابه‏:‏ صدق فنحن أحق بالإذعان‏.‏ ثم صالح على ما تقدم‏.‏

وذكر غيره‏:‏ أن عمراً والزبير سارا إلى عين شمس فحاصراها، وأن عمراً بعث إلى الفرما أبرهة بن الصباح، وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندرية‏.‏

فقال كل منهما لأهل بلده‏:‏ إن نزلتم فلكم الأمان، فتربصوا ماذا يكون من أهل عين شمس، فلما صالحوا صالح الباقون‏.‏

وقد قال عوف بن مالك لأهل إسكندرية‏:‏ ما أحسن بلدكم ‏؟‏‏.‏

فقالوا‏:‏ إن إسكندر لما بناها قال‏:‏ لأبنين مدينة فقيرة إلى الله غنية عن الناس فبقيت بهجتها‏.‏

وقال أبرهة لأهل الفرما‏:‏ ما أقبح مدينتكم ‏؟‏‏.‏

فقالوا‏:‏ إن الفرما - وهو أخو الإسكندر - لما بناها قال‏:‏ لأبنين مدينة غنية عن الله فقيرة إلى الناس، فهي لا يزال ساقطاً بناؤها فشوهت بذلك‏.‏

وذكر سيف‏:‏ أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما ولي مصر بعد ذلك زاد في الخراج عليهم رءوساً من الرقيق يهدونها إلى المسلمين في كل سنة، ويعوضهم المسلمون بطعام مسمىً وكسوة‏.‏

وأقر ذلك عثمان بن عفان وولاة الأمور بعده، حتى كان عمر بن عبد العزيز فأمضاه أيضاً نظراً لهم، وإبقاءً لعهدهم‏.‏

قلت‏:‏ وإنما سميت ديراً مصر بالفسطاط، نسبة إلى فسطاط عمرو بن العاص، وذلك أنه نصب خيمته وهي الفسطاط موضع مصر اليوم، وبنى الناس حوله وتركت مصر القديمة من زمان عمرو بن العاص وإلى اليوم، ثم رفع الفسطاط وبنى موضعه جامعاً وهو المنسوب إليه اليوم‏.‏

وقد غزا المسلمون بعد فتح مصر النوبة فنالهم جراحات كثيرة، وأصيبت أعين كثيرة لجودة رمي النوبة فسموهم جند الحدق، ثم فتحها الله بعد ذلك وله الحمد والمنة‏.‏

وقد اختلف في بلاد مصر، فقيل‏:‏ فتحت صلحاً إلا الإسكندرية، وهو قول يزيد بن أبي حبيب‏.‏

وقيل‏:‏ كلها عنوة، وهو قول ابن عمر وجماعة‏.‏


وعن عمرو بن العاص‏:‏ أنه خطب الناس فقال‏:‏ ما قعدت مقعدي هذا، ولأحد من القبط عندي عهد إن شئت‏.‏

قلت‏:‏ وإن شئت بعت، وإن شئت خمست إلا لأهل الطابلس فإن لهم عهداً نوفي به‏.‏

قصة نيل مصر

روينا من طريق ابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج عمن حدثه قال‏:‏ لما افتتحت مصر آتى أهلها عمرو بن العاص - حين دخل بؤنة من أشهر العجم - فقالوا‏:‏ أيها الأمير، لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها‏.‏

قال‏:‏ وما ذلك ‏؟‏‏.‏

قالوا‏:‏ إذا كانت اثنتي عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل‏.‏

فقال لهم عمرو‏:‏ إن هذا مما لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما قبله‏.‏

قال‏:‏ فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى والنيل لا يجري قليلاً ولا كثيراً حتى هموا بالجلاء‏.‏

فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإني قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل‏.‏

فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة فإذا فيها من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أما بعد‏:‏ فإن كنت إنما تجري من قبلك ومن أمرك فلا تجر فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت إنما تجري بأمر الله الواحد القهار، وهو الذي يجريك فنسأل الله تعالى أن يجريك‏.‏

قال‏:‏ فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، وقطع الله تلك السُّنَّة عن أهل مصر إلى اليوم‏.‏

قال سيف بن عمرو‏:‏ وفي ذي القعدة من هذه السنة - وهي عنده سنة ست عشرة - جعل عمرو المسالح على أرجاء مصر، وذلك لأن هرقل أغزا الشام ومصر في البحر‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة غزا أرض الروم أبو بحرية عبد الله بن قيس العبدي - وهو أول من دخلها فيما قيل - فسلم وغنم، وقيل‏:‏ أول من دخلها ميسرة بن مسروق العبسي‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفيها عزل عمر قدامة بن مظعون عن البحرين، وحده في الشراب‏.‏ وولي على البحرين واليمامة أبا هريرة الدوسي رضي الله عنه‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ شكا أهل الكوفة سعداً في كل شيء، حتى قالوا‏:‏ لا يحسن يصلي، فعزله عنها، وولي عليها عبد الله بن عبد الله بن عتبان - وكان نائب سعد -‏.‏

وقيل‏:‏ بل ولاها عمرو بن ياسر‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان، عن عبد الملك سمعه من جابر بن سمرة قال‏:‏ شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر فقالوا‏:‏ إنه لا يحسن يصلي‏.‏

قال الأعاريب‏:‏ والله ما آلو بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، أردد في الأوليين وأصرف في الأخيرين‏.‏

فسمعت عمر يقول‏:‏ كذا الظن بك يا أبا إسحاق‏.‏

وفي صحيح مسلم‏:‏ أن عمر بعث من يسأل عنه أهل الكوفة فأثنوا خيراً إلا رجلاً يقال له‏:‏ أبو سعدة قتادة بن أسامة قام فقال‏:‏ أما إذا أنشدتنا فإن سعداً لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية، ولا يخرج في السرية‏.‏

فقال سعد‏:‏ اللهم إن كان عبدك هذا قام مقام رياء سمعه فأطل عمره وأدم فقره وعرضه للفتن‏.‏ فأصابته دعوة سعد فكان شيخاً كبيراً يرفع حاجبيه عن عينيه، ويتعرض للجواري في الطرق فيغمزهن‏.‏

فيقال له في ذلك فيقول‏:‏ شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد‏.‏

وقد قال عمر في وصيته‏:‏ - وذكره في الستة - فإن أصابت الإمرة سعداً فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ولي، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ أجلى عمر يهود خيبر عنها إلى أذرعات وغيرها‏.‏

وفيها‏:‏ أجلى عمر يهود نجران منها أيضاً إلى الكوفة، وقسم خيبر، ووادي القرى، ونجران بين المسلمين‏.‏

قال‏:‏ وفيها دون عمر الدواوين، وزعم غيره أنه دونها قبل ذلك فالله أعلم‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ بعث عمر علقمة بن مجزر المدجلي إلى الحبشة في البحر فأصيبوا فآلى عمر على نفسه أن لا يبعث جيشاً في البحر بعدها‏.‏

وقد خالف الواقدي في هذا أبو معشر فزعم أن غزوة الحبشة إنما كانت في سنة إحدى وثلاثين - يعني‏:‏ في خلافة عثمان بن عفان - والله أعلم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفيها‏:‏ تزوج عمر فاطمة بنت الوليد بن عتبة‏.‏ التي مات عنها الحارث بن هشام في الطاعون‏.‏ وهي‏:‏ أخت خالد بن الوليد‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ مات هلال بدمشق، وأسيد بن الحضير في شعبان، وزينب بنت جحش أم المؤمنين‏.‏ وهي أول من مات من أمهات المؤمنين رضي الله عنها‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ مات هرقل وقام بعده ولده قسطنطين‏.‏

قال‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة عمرو ونوابه وقضاته ومن تقدم في التي قبلها‏.‏ سوى من ذكرنا أنه عزل وولي غيره‏.‏

ذكر المتوفين من الأعيان

- أسيد بن الحضير

أسيد بن الحضير بن سماك النصاري الأشهلي من الأوس، أبو يحيى أحد النقباء ليلة العقبة، وكان أبوه رئيس الأوس يوم بعاث، وكان قبل الهجرة بست سنين وكان يقال‏:‏ حضير الكتائب‏.‏

يقال‏:‏ أنه أسلم على يدي مصعب بن عمير‏.‏ ولما هاجر الناس آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين زيد بن حارثة، ولم يشهد بدرا‏.‏

وفي الحديث الذي صححه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله ص قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نِعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أسيد بن الحضير‏)‏‏)‏ وذكر جماعة‏.‏
وقدم الشام مع عمر، وأثنت عليه عائشة، وعلى سعد بن معاذ، وعباد بن بشر رضي الله عنهم‏.‏

وذكر ابن بكير‏:‏ أنه توفي بالمدينة سنة عشرين، وأن عمر حمل بين عموديه وصلى عليه، ودفن بالبقيع، وكذا أرخ وفاته سنة عشرين الواقدي وأبو عبيد وجماعة‏.‏

أنيس بن مرثد بن أبي مرثد الغنوي

هو وأبوه وجده صحابة، وكان أنيس هذا عيناً لرسول الله يوم حنين، يقال‏:‏ إنه الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها‏)‏‏)‏‏.‏

والصحيح‏:‏ أنه غيره فإن في الحديث‏.‏

فقال لرجل من أسلم فقيل‏:‏ أنه أنيس بن الضحاك الأسلمي‏.‏

وقد مال ابن الأثير إلى ترجيحه والله أعلم‏.‏

له حديث في الفتنة‏.‏

قال إبراهيم بن المنذر‏:‏ توفي في ربيع الأول سنة عشرين‏.‏

بلال بن أبي رباح الحبشي المؤذن مولى أبي بكر

ويقال له‏:‏ بلال بن حمامة وهي‏:‏ أمه‏.‏

أسلم قديماً فعذب في الله فصبر، فاشتراه الصديق فأعتقه شهد بدراً وما بعدها‏.‏

وكان عمر يقول‏:‏ أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا‏.‏ رواه البخاري‏.‏

ولما شرع الأذان بالمدينة كان هو الذي يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مكتوم يتناوبان، تارة هذا وتارة هذا، وكان بلال ندي الصوت حسنه، فصيحاً‏.‏ وما يروى‏:‏ أن سين بلال عند الله شيناً فليس له أصل‏.‏ وقد أذن يوم الفتح على ظهر الكعبة‏.‏

ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الأذان، ويقال‏:‏ أذن للصديق أيام خلافته، ولا يصح‏.‏

ثم خرج إلى الشام مجاهداً، ولما قدم عمر إلى الجابية أذن بين يديه بعد الخطبة لصلاة الظهر، فانتحب الناس بالبكاء‏.‏

وقيل‏:‏ أنه زار المدينة في غضون ذلك فأذن فبكى الناس بكاء شديداً ويحق لهم ذلك، رضي الله عنهم‏.‏

وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني دخلت الجنة فسمعت خشف نعليك أمامي فأخبرني بأرجى عمل عملته‏.‏

فقال‏:‏ ما توضأت إلا وصليت ركعتين‏.‏

فقال‏:‏ بذاك‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ما أحدثت إلا توضأت، وما توضأت إلا رأيت أن علي أني أصلي ركعتين‏.‏

قالوا‏:‏ وكان بلال آدم شديد الأدمة طويلاً نحيفاً كثير الشعر خفيف العارضين‏.‏

قال ابن بكير‏:‏ توفي بدمشق في طاعون عمواس، سنة ثماني عشرة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق وغير واحد‏:‏ توفي سنة عشرين‏.‏

قال الواقدي‏:‏ ودفن بباب الصغير، وله بضع وستون سنة‏.‏

وقال غيره‏:‏ مات بداريا، ودفن بباب كيسان‏.‏

وقيل‏:‏ دفن بداريا‏.‏

وقيل‏:‏ إنه مات بحلب والأول أصح‏.‏ والله أعلم‏.‏

سعيد بن عامر بن خذيم

من أشراف بني جمح، شهد خيبر وكان من الزهاد والعباد، وكان أميراً لعمر على حمص بعد أبي عبيدة، بلغ عمر أنه قد أصابته جراحة شديدة فأرسل إليه بألف دينار، فتصدق بها جميعها، وقال لزوجته‏:‏ أعطيناها لمن يتجر لنا فيها رضي الله عنه‏.‏

قال خليفة‏:‏ فتح هو ومعاوية قيسارية، كل منهما أمير على من معه‏.‏

عياض بن غُنم

أبو سعد الفهري من المهاجرين الأولين، شهد بدراً وما بعدها، وكان سمحاً، جواداً، شجاعاً، وهو الذي افتتح الجزيرة، وهو أول من جاز درب الروم غازياً، واستنابه أبو عبيدة بعده على الشام فأقره عمر عليها إلى أن مات سنة عشرين عن ستين سنة‏.‏

أبو سفيان بن الحارث

أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل‏:‏ اسمه المغيرة‏.‏

أسلم عام الفتح فحسن إسلامه جداً، وكان قبل ذلك من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دينه ومن تبعه، وكان شاعراً مطيقاً يهجو الإسلام وأهله، وهو الذي رد عليه حسان بن ثابت رضي الله عنه في قوله‏:‏

ألا أبلغ أبا سفيان عني * مغلغلة فقد برح الخفاء

هجوت محمداً وأجبت عنه * وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء

ولما جاء هو وعبد الله بن أبي أمية ليسلما لم يأذن لهما عليه السلام، حتى شفعت أم سلمة لأخيها فأذن له، بلغه أن أبا سفيان هذا قال‏:‏ والله لئن لم يأذن لي لآخذن بيد بني هذا - لولد معه صغير - فلأذهبن فلا يدري، وأذن له ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أين أذهب فَرَقَّ حينئذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبه يوم حنين، وكان آخذاً بلجام بغلته يومئذٍ‏.‏

وقد روي‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبه، وشهد له بالجنة، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أرجو أن تكون خلفاً من حمزة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رثى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي بقصيدة ذكرناها فيما سلف وهي التي يقول فيها‏:‏


أرقت فبات ليلي لا يزول * وليل أخ المصيبة فيه طول

وأسعدني البكاء وذاك فيما * أصيب المسلمون به قليل

فقد عظمت مصيبتنا وجلت * عشية قيل قد قبض الرسول

فقدنا الوحي والتنزيل فينا * بروح به ويغدو جبرئيل

ذكروا أن أبا سفيان حج، فلما حلق رأسه قطع الحالق ثؤلولا له في رأسه فتمرض منه فلم يزل كذلك حتى مات بعد مرجعه إلى المدينة، وصلى عليه عمر بن الخطاب‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن أخاه نوفلاً توفي قبله بأربعة أشهر والله أعلم‏.‏

أبو الهيثم بن التيهان

هو‏:‏ مالك بن مالك بن عسل بن عمرو وبن عبد الأعلم بن عامر بن دعوراً بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي، شهد العقبة نقيباً، وشهد بدراً وما بعدها، ومات سنة عشرين‏.‏

وقيل‏:‏ إحدى وعشرين‏.‏

وقيل‏:‏ إنه شهد صفين مع علي‏.‏

قال ابن الأثير وهو الأكثر‏:‏ وقد ذكره شيخنا هنا‏.‏ فالله أعلم‏.‏

زينب بنت جحش

زينب بنت جحش بن رباب الأسدية من أسد خزيمة أول أمهات المؤمنين، وفاة أمها أميمة بنت عبد المطلب، وكان اسمها برة، فسماها رسول الله زينب، وتكنى‏:‏ أم الحكم، وهي التي زوجه الله بها وكانت تفتخر بذلك على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فتقول‏:‏ زوجكن أهلوكن وزوجني الله من السماء‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة، فلما طلقها تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قيل‏:‏ كان ذلك في سنة ثلاث‏.‏

وقيل‏:‏ أربع وهو الأشهر‏.‏

وقيل‏:‏ سنة خمس، وفي دخوله عليه السلام بها نزل الحجاب، كما ثبت في الصحيحين عن أنس‏.‏

وهي التي كانت تسمى عائشة بنت الصديق في الجمال والحظوة، وكانت دينة ورعة عابدة كثيرة الصدقة‏.‏ وذاك الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم

بقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً‏)‏‏)‏ أي‏:‏ بالصدقة، وكانت امرأة صناعاً تعمل بيديها، وتتصدق على الفقراء‏.‏

قالت عائشة‏:‏ ما رأيت امرأة قط خيراً في الدين وأتقى لله وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم أمانة، وصدقة من زينب بن جحش‏.‏
ولم تحج بعد حجة الوداع لا هي ولا سودة، لقوله عليه السلام لأزواجه‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه ثم ظهور الحصر‏)‏‏)‏‏.‏

وأما بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكن يخرجن إلى الحج، وقالتا زينب وسودة، والله لا تحركنا بعده دابة‏.‏

قالوا‏:‏ وبعث عمر إليها فرضها اثني عشر ألفاً فتصدقت به في أقاربها، ثم قالت‏:‏ اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد هذا، فماتت في سنة عشرين وصلى عليها عمر‏.‏ وهي أول من صنع لها النعش ودفنت بالبقيع‏.‏

صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول

وهي‏:‏ أم الزبير بن العوام، وهي‏:‏ شقيقة حمزة والمقوم وحجل، أمهم هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة‏.‏

لا خلاف في إسلامها وقد حضرت يوم أحد ووجدت على أخيها حمزة وجداً كثيراً، وقتلت يوم الخندق رجلاً من اليهود جاء فجعل يطوف بالحصن التي هي فيه، وهو فارع حصن حسان، فقالت لحسان‏:‏ أنزل فاقتله فأبى، فنزلت إليه فقتلته، ثم قالت‏:‏ انزل فاسلبه، فلولا أنه رجل لاستلبته‏.‏

فقال‏:‏ لا حاجة لي فيه، وكانت أول امرأة قتلت رجلاً من المشركين، وقد اختلف في إسلام من عداها من عمات النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقيل‏:‏ أسلمت أروى وعاتكة‏.‏

قال ابن الأثير وشيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ‏:‏ والصحيح‏:‏ أنه لم يسلم منهن غيرها، وقد تزوجت أولاً بالحارث بن حرب بن أمية‏.‏ ثم خلف عليها العوام بن خويلد، فولدت له الزبير، وعبد الكعبة‏.‏

وقيل‏:‏ تزوج بها العوام بكراً، والصحيح الأول‏.‏

توفيت بالمدينة سنة عشرين عن ثلاث وسبعين سنة، ودفنت بالبقيع رضي الله عنها، وقد ذكر ابن إسحاق، من توفي غيرها‏.‏

عويم بن ساعدة الأنصاري

شهد العقبتين والمشاهد كلها وهو أول من استنجى بالماء، وفيه نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏ وله روايات‏.‏

توفي هذه السنة بالمدينة‏:‏ بشر بن عمرو بن حنش يلقب‏:‏ بالجاورد، أسلم في السنة العاشرة، وكان شريفاً مطاعاً في عبد القيس، وهو الذي شهد على قدامة بن مظعون‏:‏ أنه شرب الخمر، فعزله عمر عن اليمن وحده قتل الجاورد شهيداً‏.‏

أبو خراشة خويلد بن مرة الهذلي، كان شاعراً مجيداً مخضرماً، أدرك الجاهلية والإسلام وكان إذا جرى سبق الخيل‏.‏

لهشته حية فمات بالمدينة‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين

كانت وقعة نهاوند

وهي وقعة عظيمة جداً لها شأن رفيع، ونبأ عجيب، وكان المسلمون يسمونها فتح الفتوح‏.‏


قال ابن إسحاق والواقدي‏:‏ كانت وقعة نهاوند في سنة إحدى وعشرين‏.‏

وقال سيف‏:‏ كانت في سنة سبع عشرة‏.‏

وقيل‏:‏ في سنة تسع عشرة والله أعلم‏.‏

وإنما ساق أبو جعفر بن جرير قصتها في هذه السنة فتبعناه في ذلك وجمعنا كلام هؤلاء الأئمة في هذا الشأن سياقاً واحداً، حتى دخل سياق بعضهم في بعض‏.‏

قال سيف وغيره‏:‏ وكان الذي هاج هذه الوقعة أن المسلمين لما افتتحوا الأهواز ومنعوا جيش العلاء من أيديهم واستولوا على دار الملك القديم من اصطخر مع ما حازوا من دار مملكتهم حديثاً، وهي المدائن، وأخذ تلك المدائن والأقاليم والكور والبلدان الكثيرة، فحموا عند ذلك واستجاشهم يزدجرد الذي تقهقر من بلد إلى بلد حتى صار إلى أصبهان مبعداً طريداً، لكنه في أسرة من قومه وأهله وماله، وكتب إلى ناحية نهاوند وما ولاها من الجبال والبلدان، فتجمعوا وتراسلوا حتى كمل لهم من الجنود ما لم يجتمع لهم قبل ذلك‏.‏

فبعث سعد إلى عمر يعلمه بذلك، وثار أهل الكوفة على سعد في غضون هذا الحال، فشكوه في كل شيء حتى قالوا‏:‏ لا يحسن يصلي كان الذي نهض بهذه الشكوى رجل يقال له‏:‏ الجراح بن سنان الأسدي في نفر معه، فلما ذهبوا إلى عمر فشكوه، قال لهم عمر‏:‏ إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الحال عليه، وهو مستعد لقتال أعداء الله، وقد جمعوا لكم، ومع هذا لا يمنعني أن أنظر في أمركم‏.‏

ثم بعث محمد بن مسلمة - وكان رسول العمال - فلما قدم محمد بن مسلمة الكوفة طاف على القبائل والعشائر والمساجد بالكوفة، فكل يثني على سعد خيراً إلا ناحية الجراح بن سنان، فإنهم سكتوا فلم يذموا، ولم يشكروا حتى انتهى إلى بني عبس‏.‏

فقام رجل يقال له‏:‏ أبو سعدة أسامة بن قتادة، فقال‏:‏ أما إذ ناشدتنا فإن سعداً لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية‏.‏

فدعا عليه سعد فقال‏:‏ اللهم إن كان قالها كذباً ورياءاً وسمعة فأعم بصره، وكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن‏.‏

فعمى، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بالمرأة فلا يزال حتى يأتيها فيجسها، فإذا عثر عليه قال‏:‏ دعوة سعد الرجل المبارك‏.‏

ثم دعا سعد على الجراح وأصحابه فكل أصابته فارعة في جسده، ومصيبة في ماله بعد ذلك‏.‏

واستنفر محمد بن مسلمة أهل الكوفة لغزو أهل نهاوند في غضون ذلك عن أمر عمر بن الخطاب‏.‏

ثم سار سعد، ومحمد بن مسلمة، والجراح، وأصحابه حتى جاءوا عمر، فسأله عمر‏:‏ كيف يصلي‏؟‏

فأخبره أنه يطول في الأوليين، ويخفف في الأخريين، وما آلوا ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال له عمر‏:‏ ذاك الظن بك يا أبا إسحاق‏.‏

وقال سعد في هذه القصة‏:‏ لقد أسلمت خامس خمسة، ولقد كنا ومالنا طعام إلا ورق الحبلة حتى تقرحت أشداقنا، وإني لأول رجل رمى بسهم في سبيل الله، ولقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه وما جمعهما لأحد قبلي، ثم أصبحت بنو أسد يقولون‏:‏ لا يحسن يصلي‏.‏

وفي رواية‏:‏ يغرر بي على الإسلام، لقد خبت إذاً ضل عملي‏.‏

ثم قال عمر لسعد‏:‏ من استخلفت على الكوفة‏؟‏

فقال‏:‏ عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فأقره عمر على نيابته الكوفة - وكان شيخاً كبيراً من أشراف الصحابة حليفاً لبني الحبلى من الأنصار - واستمر سعد معزولاً من غير عجز ولا خيانة ويهدد أولئك النفر، وكان يوقع بهم بأساً، ثم ترك ذلك خوفاً من أن لا يشكو أحداً أميراً‏.‏

والمقصود‏:‏ أن أهل فارس اجتمعوا من كل فج عميق بأرض نهاوند‏.‏

حتى اجتمع منهم مائة ألف وخمسون ألف مقاتل، وعليهم الفيرزان، ويقال‏:‏ بندار، ويقال‏:‏ ذو الحاجب‏.‏

وتذامروا فيما بينهم، وقالوا‏:‏ إن محمداً الذي جاء العرب لم يتعرض لبلادنا، ولا أبو بكر الذي قام بعده تعرض لنا في دار ملكنا، وإن عمر بن الخطاب هذا لما طال ملكه انتهك حرمتنا وأخذ بلادنا، ولم يكفه ذلك حتى أغزانا في عقر دارنا، وأخذ بيت المملكة، وليس بمنته حتى يخرجكم من بلادكم‏.‏

فتعاهدوا وتعاقدوا على أن يقصدوا البصرة والكوفة ثم يشغلوا عمر عن بلاده، وتواثقوا من أنفسهم وكتبوا بذلك عليهم كتاباً‏.‏

فأما كتب سعد بذلك إلى عمر - وكان قد عزل سعداً في غضون ذلك - شافه سعد عمر بما تمالؤا عليه وتصدوا إليه، وأنه قد اجتمع منهم مائة وخمسون ألفاً‏.‏

وجاء كتاب عبد الله بن عبد الله بن عتبان من الكوفة إلى عمر مع قريب بن ظفر العبدي‏:‏ بأنهم قد اجتمعوا وهم منحرفون متذامرون على الإسلام وأهله، وأن المصلحة يا أمير المؤمنين أن نقصدهم فنعالجهم عما هموا به وعزموا عليه من المسير إلى بلادنا‏.‏

فقال عمر لحامل الكتاب‏:‏ ما اسمك‏؟‏

قال‏:‏ قريب‏.‏

قال‏:‏ ابن من‏؟‏

قال‏:‏ ابن ظفر‏.‏

فتفاءل عمر بذلك، وقال‏:‏ ظفر قريب، ثم أمر فنودي للصلاة جامعة، فاجتمع الناس، وكان أول من دخل المسجد لذلك سعد بن أبي وقاص فتفاءل عمر أيضاً بسعد، فصعد عمر المنبر حتى اجتمع الناس فقال‏:‏ إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، ألا وإني قد هممت بأمر فاسمعوا وأجيبوا وأوجزوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، إني قد رأيت أن أسير بمن قبلي حتى أنزل منزلاً وسطاً بين هذين المصرين فاستنفر الناس، ثم أكون لهم ردءاً، حتى يفتح الله عليهم‏.‏

فقام عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف في رجال من أهل الرأي، فتكلم كل منهم بانفراده، فأحسن وأجاد، واتفق رأيهم‏:‏ على أن لا يسير من المدينة، ولكن يبعث البعوث ويحصرهم برأيه ودعائه‏.‏

وكان من كلام علي رضي الله عنه أن قال‏:‏ يا أمير المؤمنين، إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، هو دينه الذي أظهر، وجنده الذي أعزه وأمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكانك منهم يا أمير المؤمنين مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإذا انحل تفرق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً‏.‏

والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً، فهم كثير عزيز بالإسلام، فأقم مكانك واكتب إلى أهل الكوفة، فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، فليذهب منهم الثلثان ويقيم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة يمدونهم أيضاً‏.‏ - وكان عثمان قد أشار في كلامه أن يمدهم في جيوش من أهل اليمن والشام‏.‏ ووافق عمر على الذهاب إلى ما بين البصرة والكوفة - فرد علي على عثمان في موافقته على الذهاب إلى ما بين البصرة والكوفة كما تقدم‏.‏

ورد رأي عثمان فيم أشار به من استمداد أهل الشام خوفاً على بلادهم إذا قل جيوشها من الروم‏.‏

ومن أهل اليمن خوفاً على بلادهم من الحبشة‏.‏

فأعجب عمر قول علي وسرَّ به - وكان عمر إذا استشار أحداً لا يبرم أمراً حتى يشاور العباس - فلما أعجبه كلام الصحابة في هذا المقام عرضه على العباس، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، خفض عليك، فإنما اجتمع هؤلاء الفرس لنقمة تنزل عليهم‏.‏

ثم قال عمر‏:‏ أشيروا علي بمن أوليه أمر الحرب وليكن عراقياً‏.‏

فقالوا‏:‏ أنت أبصر بجندك يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ ما والله لأولين رجلاً يكون أول الأسنة إذا لقيها غداً‏.‏

قالوا‏:‏ من يا أمير المؤمنين‏؟‏

قال‏:‏ النعمان بن مقرن‏.‏

فقالوا‏:‏ هو لها - وكان النعمان قد كتب إلى عمر وهو على كسكر وسأله أن يعزله عنها ويوليه قتال أهل نهاوند - فلهذا أجابه إلى ذلك وعينه له‏.‏

ثم كتب عمر إلى حذيفة‏:‏ أن يسير من الكوفة بجنود منها، وكتب إلى أبي موسى‏:‏ أن يسير بجنود البصرة، وكتب إلى النعمان - وكان بالبصرة - أن يسير بمن هناك من الجنود إلى نهاوند، وإذا اجتمع الناس فكل أمير على جيشه، والأمير على الناس كلهم النعمان بن مقرن‏.‏

فإذا قتل فحذيفة بن اليمان، فإن قتل فجرير بن عبد الله، فإن قتل فقيس بن مكشوح، فإن قتل قيس، ففلان ثم فلان، حتى عد سبعة أحدهم المغيرة بن شعبة، وقيل‏:‏ لم يسم فيهم‏.‏ والله أعلم‏.‏

وصورة الكتاب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى النعمان بن مقرن، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد‏:‏ فإنه قد بلغني أن جموعاً من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعراً فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم، ولا تدخلهم غيضةً، فإن رجلاً من المسلمين أحب إليَّ من مائة ألف دينار، والسلام عليك‏.‏

فسر في وجهك ذلك حتى تأتي ماه فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع إليك جنودك فسر إلى الفيرزان ومن جمع معه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، واستنصروا وأكثروا من لا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

وكتب عمر إلى نائب الكوفة - عبد الله بن عبد الله - أن يعين جيشاً، ويبعثهم إلى نهاوند، وليكن الأمير عليهم حذيفة بن اليمان، حتى ينتهي إلى النعمان بن مقرن، فإن قتل النعمان فحذيفة، فإن قتل فنعيم بن مقرن‏.‏

وولى السائب بن الأقرع قسم الغنائم‏.‏

فسار حذيفة في جيش كثيف نحو النعمان بن مقرن ليوافوه بماه، وسار مع حذيفة خلق كثير من أمراء العراق، وقد أرصد في كل كورة ما يكفيها من المقاتلة، وجعل الحرس في كل ناحية، واحتاطوا احتياطاً عظيماً، ثم انتهوا إلى النعمان بن مقرن حيث اتعدوا، فدفع حذيفة بن اليمان إلى النعمان كتاب عمر وفيه الأمر له بما يعتمده في هذه الوقعة، فكل جيش المسلمين في ثلاثين ألفاً من المقاتلة فيما رواه سيف عن الشعبي، فمنهم‏:‏ من سادات الصحابة ورءوس العرب خلق كثير وجم غفير‏.‏

منهم‏:‏ عبد الله بن عمر أمير المؤمنين، وجرير بن عبد الله البجلي، وحذيفة بن اليمان، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وطليحة بن خويلد الأسدي، وقيس بن مكشوح المرادي‏.‏

فسار الناس نحو نهاوند وبعث النعمان بن مقرن الأمير بين يديه طليعة ثلاثة‏:‏

وهم‏:‏ طليحة، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وعمرو بن أبي سلمة‏.‏

ويقال له‏:‏ عمرو بني ثبى أيضاً، ليكشفوا له خبر القوم وما هم عليه‏.‏

فسارت الطليعة يوماً وليلة فرجع عمرو بن ثبى فقيل له‏:‏ ما رجعك‏؟‏

فقال‏:‏ كنت في أرض العجم، وقتلت أرض جاهلها، وقتل أرض عالمها‏.‏

ثم رجع بعده عمرو بن معدي كرب وقال‏:‏ لم نر أحداً وخفت أن يؤخذ علينا الطريق، ونفذ طليحة ولم يحفل برجوعهما فسار بعد ذلك نحواً من بضعة عشر فرسخاً حتى انتهى إلى نهاوند، ودخل في العجم وعلم من أخبارهم ما أحب، ثم رجع إلى النعمان فأخبره بذلك، وأنه ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه‏.‏

فسار النعمان على تعبئته، وعلى المقدمة نعيم بن مقرن، وعلى المجنبتين حذيفة وسويد بن مقرن، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود، حتى انتهوا إلى الفرس وعليهم الفيرزان، ومعه من الجيش كل من غاب عن القادسية في تلك الأيام المتقدمة، وهو في مائة وخمسين ألفاً، فلما تراءى الجمعان كبر النعمان وكبر المسلمون ثلاث تكبيرات، فزلزلت الأعاجم ورعبوا من ذلك رعباً شديداً‏.‏

ثم أمر النعمان بحط الأثقال وهو واقف، فحط الناس أثقالهم، وتركوا رحالهم، وضربوا خيامهم وقبابهم‏.‏

وضربت خيمة للنعمان عظيمة، وكان الذين ضربوا أربعة عشر من أشراف الجيش، وهم‏:‏ حذيفة بن اليمان، وعتبة بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وبشير بن الخصاصية، وحنظلة الكاتب، وابن الهوبر، وربعي بن عامر، وعامر بن مطر، وجرير بن عبد الله الحميري، وجرير بن عبد الله البجلي، والأقرع بن عبد الله الحميري، والأشعث بن قيس الكندي، وسعيد بن قيس الهمداني، ووائل بن حجر، فلم ير بالعراق خيمة عظيمة أعظم من بناء هذا الخيمة‏.‏

وحين حطوا الأثقال، أمر النعمان بالقتال، وكان يوم الأربعاء، فاقتتلوا ذلك اليوم والذي بعده والحرب سجال، فلما كان يوم الجمعة انحجزوا في حصنهم، وحاصرهم المسلمون فأقاموا عليهم ما شاء الله، والأعاجم يخرجون إذا أرادوا ويرجعون إلى حصونهم إذا أرادوا‏.‏

وقد بعث أمير الفرس يطلب رجلاً من المسلمين ليكلمه، فذهب إليه المغيرة بن شعبة فذكر من عظم ما رأى عليه من لبسه ومجلسه، وفيما خاطبه به من الكلام في احتقار العرب واستهانته بهم، وأنهم كانوا أطول الناس جوعاً، وأقلهم داراً وقدراً‏.‏

وقال‏:‏ ما يمنع هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب إلا مجاً من جيفكم، فإن تذهبوا نخل عنكم، وإن تأبوا نزركم مصارعكم‏.‏


قال‏:‏ فتشهدت، وحمدت الله وقلت‏:‏ لقد كنا أسوأ حالاً مما ذكرت، حتى بعث الله رسوله فوعدنا النصر في الدنيا، والخير في الآخرة، وما زلنا نتعرف من ربنا النصر منذ بعث الله رسوله إلينا، وقد جئناكم في بلادكم وإنا لن نرجع إلى ذلك الشقاء أبداً حتى نغلبكم على بلادكم وما في أيديكم أونقتل بأرضكم‏.‏

فقال‏:‏ أما والله إن الأعور لقد صدقكم ما في نفسه‏.‏

فلما طال على المسلمين هذا الحال واستمر، جمع النعمان بن مقرن أهل الرأي من الجيش، وتشاوروا في ذلك وكيف يكون من أمرهم، حتى يتواجهوا هم والمشركون في صعيد واحد، فتكلم عمرو بن أبي سلمة أولاً - وهو أسن من كان هناك - فقال‏:‏ إن بقاءهم على ما هم عليه أضر عليهم من الذي يطلبه منهم وأبقى على المسلمين‏.‏

فرد الجميع عليه وقالوا‏:‏ إنا لعلى يقين من إظهار ديننا، وإنجاز موعود الله لنا‏.‏

وتكلم عمرو بن معدي كرب، فقال‏:‏ ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم‏.‏

فردوا جميعاً عليه، وقالوا‏:‏ إنما تناطح بنا الجدران، والجدران أعوان لهم علينا‏.‏

وتكلم طليحة الأسدي، فقال‏:‏ إنهما لم يصيبا، وإني أرى أن تبعث سرية فتحدق بهم ويناوشوهم بالقتال ويحمشوهم، فإذا برزوا إليهم فليفروا إلينا هراباً فإذا استطردوا وراءهم وانتموا إلينا عزمنا أيضاً على الفرار كلنا، فإنهم حينئذ لا يشكون في الهزيمة فيخرجون من حصونهم عن بكرة أبيهم، فإذا تكامل خروجهم رجعنا إليهم فجالدناهم حتى يقضي الله بيننا‏.‏

فاستجاد الناس هذا الرأي، وأمر النعمان على المجردة القعقاع بن عمرو، وأمرهم أن يذهبوا إلى البلد فيحاصروهم وحدهم ويهربوا بين أيديهم إذا برزوا إليهم‏.‏

ففعل القعقاع ذلك، فلما برزوا من حصونهم نكص القعقاع بمن معه ثم نكص، ثم نكص، فاغتنمها الأعاجم ففعلوا ما ظن طليحة، وقالوا‏:‏ هي هي، فخرجوا بأجمعهم، ولم يبق بالبلد من المقاتلة إلا من يحفظ لهم الأبواب حتى انتهوا إلى الجيش، والنعمان بن مقرن على تعبئته، وذلك في صدر نهار جمعة، فعزم الناس على مصادمتهم فنهاهم النعمان وأمرهم أن لا يقاتلوا حتى تزول الشمس، وتهب الأرواح، وينزل النصر كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل‏.‏

وألح الناس على النعمان في الحملة فلم يفعل - وكان رجلاً ثابتاً - فلما حان الزوال صلى بالمسلمين، ثم ركب برذوناً له أحوى قريباً من الأرض، فجعل يقف على كل راية ويحثهم على الصبر ويأمرهم بالثبات، ويقدم إلى المسلمين أنه يكبر الأولى فيتأهب الناس للحملة، ويكبر الثانية فلا يبقى لأحد أهبة، ثم الثالثة ومعها الحملة الصادقة‏.‏

ثم رجع إلى موقفه‏.‏ وتعبئت الفرس تعبئة عظيمة واصطفوا صفوفاً هائلة في عَدَدٍ وعُدَدٍ لم ير مثله، وقد تغلغل كثير منهم بعضهم في بعض وألقوا حسك الحديد وراء ظهورهم حتى لا يمكنهم الهرب ولا الفرار، ولا التحيز‏.‏

ثم إن النعمان بن مقرن رضي الله عنه كبر الأولى وهز الراية فتأهب الناس للحملة، ثم كبر الثانية وهز الراية فتأهبوا أيضاً، ثم كبر الثالثة وحمل وحمل الناس على المشركين، وجعلت راية النعمان تنقض على الفرس كانقضاض العقاب على الفريسة، حتى تصافحوا بالسيوف فاقتتلوا قتالاً لم يعهد مثله في موقف من المواقف المتقدمة، ولا سمع السامعون بوقعة مثلها، قتل من المشركين ما بين الزوال إلى الظلام من القتلى ما طبق وجه الأرض دماً، بحيث أن الدواب كانت تطبع فيه، حتى قيل‏:‏ أن الأمير النعمان بن مقرن زلق به حصانه في ذلك الدم فوقع وجاءه سهم في خاصرته فقتله، ولم يشعر به أحد سوى أخيه سويد، وقيل‏:‏ نعيم، وقيل‏:‏ غطاه بثوبه وأخفى موته ودفع الراية إلى حذيفة بن اليمان، فأقام حذيفة أخاه نعيماً مكانه، وأمر بكتم موته حتى ينفصل الحال لئلا ينهزم الناس‏.‏

فلما أظلم الليل انهزم المشركون مدبرين، وتبعهم المسلمون، وكان الكفار قد قرنوا منهم ثلاثين ألفاً بالسلاسل وحفروا حولهم خندقاً، فلما انهزموا وقعوا في الخندق، وفي تلك الأودية نحو مائة ألف وجعلوا يتساقطون في أودية بلادهم فهلك منهم بشر كثير نحو مائة ألف أو يزيدون، سوى من قتل في المعركة، ولم يفلت منهم إلا الشريد‏.‏

وكان الفيرزان أميرهم قد صرع في المعركة، فانفلت وانهزم واتبعه نعيم بن مقرن، وقدم القعقاع بين يديه وقصد الفيرزان همدان، فلحقه القعقاع وأدركه عند ثنية همدان، وقد أقبل منها بغال كثير، وحمر تحمل عسلاً فلم يستطع الفيرزان صعودها منهم، وذلك لحينه فترجل وتعلق في الجبل فاتبعه القعقاع حتى قتله‏.‏

وقال المسلمون يومئذ‏:‏ إن لله جنوداً من عسل، ثم غنموا ذلك العسل وما خالطه من الأحمال، وسميت تلك الثنية‏:‏ ثنية العسل‏.‏

ثم لحق القعقاع بقية المنهزمين منهم إلى همدان وحاصرها وحوى ما حولها، فنزل إليه صاحبها - وهو خسرشنوم - فصالحه عليها‏.‏

ثم رجع القعقاع إلى حذيفة ومن معه من المسلمين، وقد دخلوا بعد الوقعة نهاوند عنوة، وقد جمعوا الأسلاب والمغانم إلى صاحب الأقباض وهو‏:‏ السائب بن الأقرع‏.‏

ولما سمع أهل ماه بخبر أهل همدان بعثوا إلى حذيفة وأخذوا لهم منه الأمان‏.‏

وجاء رجل يقال له‏:‏ الهرند - وهو صاحب نارهم - فسأل من حذيفة الأمان ويدفع إليهم وديعة عنده لكسرى، ادخرها لنوائب الزمان، فأمنه حذيفة وجاء ذلك الرجل بسفطين مملوءتين جوهراً ثميناً لا يقوم، غير أن المسلمين لم يعبأوا به‏.‏

واتفق رأيهم على بعثه لعمر خاصة، وأرسلوه صحبة الأخماس السائب بن الأرقع، وأرسل قبله بالفتح مع طريف بن سهم، ثم قسم حذيفة بقية الغنيمة في الغانمين، ورضخ ونفل لذوي النجدات، وقسم لمن كان قد أرصد من الجيوش لحفظ ظهور المسلمين من ورائهم، ومن كان رداءاً لهم، ومنسوباً إليهم‏.‏

وأما أمير المؤمنين فإنه كان يدعو الله ليلاً ونهاراً، لهم دعاء الحوامل المقربات، وابتهال ذوي الضرورات، وقد استبطأ الخبر عنهم فبينا رجل من المسلمين ظاهر المدينة إذا هو براكب فسأله‏:‏ من أين أقبل ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ من نهاوند‏.‏

فقال‏:‏ ما فعل الناس ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ فتح الله عليهم وقتل الأمير، وغنم المسلمون غنيمةً عظيمةً أصاب الفارس ستة آلاف، والراجل ألفان‏.‏

ثم فاته وقدم ذلك الرجل المدينة فأخبره الناس وشاع الخبر حتى بلغ أمير المؤمنين، فطلبه فسأله عمن أخبره

فقال‏:‏ راكب‏.‏

فقال‏:‏ إنه لم يجئني، وإنما هو رجل من الجن بريدهم، واسمه‏:‏ عثيم‏.‏

ثم قدم طريف بالفتح بعد ذلك بأيام، وليس معه سوى الفتح، فسأله عمن قتل النعمان فلم يكن معه علم حتى قدم الذين معهم الأخماس فأخبروا بالأمر على جليته، فإذا ذلك الجني قد شهد الوقعة، ورجع سريعاً إلى قومه نذيراً‏.‏

ولما أخبر عمر بمقتل النعمان بكى، وسأل السائب عمن قتل من المسلمين، فقال‏:‏ فلان، وفلان، وفلان لأعيان الناس وأشرافهم‏.‏


ثم قال‏:‏ وآخرون من أفناد الناس ممن لا يعرفهم أمير المؤمنين، فجعل يبكي ويقول‏:‏ وما ضرهم أن لا يعرفهم أمير المؤمنين‏؟‏ لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر‏.‏

ثم أمر بقسمة الخمس على عادته، وحملت ذانك السفطان إلى منزل عمر، ورجعت الرسل، فلما أصبح عمر طلبهم فلم يجدهم، فأرسل في إثرهم البُرُد فما لحقهم البريد إلا بالكوفة‏.‏

قال السائب بن الأقرع‏:‏ فلما أنخت بعيري بالكوفة، أناخ البريد على عرقوب بعيري، وقال‏:‏ أجب أمير المؤمنين، فقلت‏:‏ لماذا‏؟‏

فقال‏:‏ لا أدري، فرجعنا على أثرنا حتى انتهيت إليه‏.‏

قال‏:‏ مالي ولك يا ابن أم السائب، بل ما لابن أم السائب ومالي ‏؟‏‏.‏

قال فقلت‏:‏ وما ذاك يا أمير المؤمنين ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ ويحك، والله إن هو إلا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها فباتت ملائكة الله تسحبني إلى ذينك السفطين وهما يشتعلان ناراً، ويقولون‏:‏ لنكوينك بهما‏.‏

فأقول‏:‏ إني سأقسمهما بين المسلمين‏.‏ فاذهب بهما لا أبالك فبعهما فاقسمهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم، فإنهم لا يدرون ما وهبوا ولم تدر أنت معهم‏.‏

قال السائب‏:‏ فأخذتهما حتى جئت بهما مسجد الكوفة، وغشيتني التجار فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف‏.‏

ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف‏.‏ فما زال أكثر أهل الكوفة مالاً بعد ذلك‏.‏

قال سيف‏:‏ ثم قسم ثمنهما بين الغانمين، فنال كل فارس أربعة آلاف درهم من ثمن السفطين‏.‏

قال الشعبي‏:‏ وحصل للفارس من أصل الغنيمة ستة آلاف، وللراجل ألفان وكان المسلمون ثلاثين ألفاً‏.‏

قال‏:‏ وافتتحت نهاوند في أول سنة تسع عشرة لسبع سنين من إمارة عمر‏.‏

رواه سيف عن، عمرو بن محمد عنه‏.‏

وبه عن الشعبي قال‏:‏ لما قدم سبي نهاوند إلى المدينة جعل أبو لؤلؤة - فيروز غلام المغيرة بن شعبة - لا يلقى منهم صغيراً إلا مسح رأسه وبكى، وقال‏:‏ أكل عمر كبدي - وكان أصل أبي لؤلؤة من نهاوند فأسرته الروم أيام فارس وأسرته المسلمون بعد، فنسب إلى حيث سبى -‏.‏

قالوا‏:‏ ولم تقم للأعاجم بعد هذه الوقعة قائمة، وأتحف عمر الذين أبلوا فيها بألفين تشريفاً لهم، وإظهاراً لشأنهم‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ افتتح المسلمون أيضاً بعد نهاوند مدينة جَيّ، وهي - مدينة أصبهان - بعد قتال كثير وأمور طويلة، فصالحوا المسلمين، وكتب لهم عبد الله بن عبد الله كتاب أمان وصلح، وفر منهم ثلاثون نفراً إلى كرمان لم يصالحوا المسلمين‏.‏

وقيل‏:‏ إن الذي فتح أصبهان هو النعمان بن مقرن، وإنه قتل بها، ووقع أمير المجوس وهو ذو الحاجبين عن فرسه فانشق بطنه ومات، وانهزم أصحابه‏.‏

والصحيح‏:‏ أن الذي فتح أصبهان‏:‏ عبد الله بن عبد الله بن عتبان - الذي كان نائب الكوفة -‏.‏

وفيها‏:‏ افتتح أبو موسى قم وقاشان، وافتتح سهيل بن عدي مدينة كرمان‏.‏ ‏‏
وذكر ابن جرير عن الواقدي‏:‏ أن عمرو بن العاص سار في جيش معه إلى طرابلس قال‏:‏ وهي برقة فافتتحها صلحاً على ثلاثة عشر ألف دينار في كل سنة‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ بعث عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري إلى زويلة ففتحها بصلح، وصار ما بين برقة إلى زويلة سِلماً للمسلمين‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ ولى عمر عمار بن ياسر على الكوفة بدل زياد بن حنظلة الذي ولاه بعد عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وجعل عبد الله بن مسعود على بيت المال فاشتكى أهل الكوفة من عمار، فاستعفي عمار من عمله فعزله، وولى جبير بن مطعم، وأمره أن لا يعلم أحداً‏.‏

وبعث المغيرة بن شعبة امرأته إلى امرأة جبير يعرض عليها طعاماً للسفر‏.‏

فقالت‏:‏ اذهبي فأتيني به‏.‏

فذهب المغيرة إلى عمر فقال‏:‏ بارك الله يا أمير المؤمنين فيمن وليت على الكوفة‏.‏

فقال‏:‏ وما ذاك ‏؟‏‏.‏

وبعث إلى جبير بن مطعم فعزله وولي المغيرة بن شعبة ثانية، فلم يزل عليها حتى مات عمر رضي الله عنهم‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ حج عمر واستخلف على المدينة زيد بن ثابت، وكان عماً له على البلدان المتقدمون في السنة التي قبلها سوى الكوفة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفيها‏:‏ توفي خالد بن الوليد بحمص، وأوصى إلى عمر بن الخطاب‏.‏

وقال غيره‏:‏ توفي سنة ثلاث وعشرين‏.‏

وقيل‏:‏ بالمدينة، والأول أصح وقال غيره‏.‏

وفيها‏:‏ توفي العلاء بن الحضرمي فولى عمر مكانه أبا هريرة، وقد قيل أن العلاء توفي قبل هذا كما تقدم‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقال ابن جرير فيما حكاه عن الواقدي‏:‏ وكان أمير دمشق في هذه السنة عمير بن سعيد، وهو أيضاً على حمص وحوران وقنسرين والجزيرة، وكان معاوية على البلقاء، والأردن، وفلسطين، والسواحل، وإنطاكية، وغير ذلك‏.‏

ذكر من توفي إحدى وعشرين




خالد بن الوليد

خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي أبو سليمان المخزومي، سيف الله، أحد الشجعان المشهورين، لم يقهر في جاهلية ولا إسلام‏.‏

وأمه عصماء بنت الحارث، أخت لبابة بنت الحارث، وأخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين‏.‏

قال الواقدي‏:‏ أسلم أول يوم من صفر سنة ثمان، وشهد مؤتة، وانتهت إليه الإمارة يومئذٍ عن غير إمرة، فقاتل يومئذٍ قتالاً شديداً لم ير مثله، اندقت في يده تسعة أسياف، ولم تثبت في يده إلا صفيحة يمانية‏.‏

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رُوي‏:‏ أن خالداً سقطت قلنسوته يوم اليرموك وهو في الحرب فجعل يستحث في طلبها، فعوتب في ذلك فقال‏:‏ إن فيها شيئاً من شعر ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنها ما كانت معي في موقف إلا نصرت بها‏.‏

وقد روينا في مسند أحمد‏:‏ من طريق الوليد بن مسلم، عن وحشي بن حرب، عن أبيه، عن جده وحشي بن حرب، عن أبي بكر الصديق‏:‏ أنه لما أمر خالداً على حرب أهل الردة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

‏(‏‏(‏فنعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير قال‏:‏ استعمل عمر بن الخطاب أبا عبيدة على الشام، وعزل خالد بن الوليد، فقال خالد‏:‏ بعث إليكم أمين هذه الأمة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

‏(‏‏(‏أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح‏)‏‏)‏، فقال أبو عبيدة‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏خالد سيف من سيوف الله، نعم فتى العشيرة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد أورده ابن عساكر من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وأبي هريرة، ومن طرق مرسلة يقوي بعضها بعضاً‏.‏

وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏‏(‏وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، وقد احتبس أدراعه وأعبده في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

وشهد الفتح وشهد حنيناً وغزا بني جذيمة، أميراً في حياته عليه السلام‏.‏

واختلف في شهوده خيبر، وقد دخل مكة أميراً على طائفة من الجيش وقتل خلقاً كثيراً من قريش، كما قدمنا ذلك مبسوطاً في موضعه‏.‏ ولله الحمد والمنة‏.‏

وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العزى - وكانت لهوازن - فكسر قمتها أولاً ثم دعثرها وجعل يقول‏:‏

يا عزى كفرانك لا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك

ثم حرقها، وقد استعمله الصديق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال أهل الردة وما نعي الزكاة، فشفي واستشفى‏.‏

ثم وجهه إلى العراق ثم أتى الشام، فكانت له من المقامات ما ذكرناها، مما تقربها القلوب والعيون، وتتشنف بها الأسماع‏.‏

ثم عزله عمر عنها وولي أبا عبيدة وأبقاه مستشاراً في الحرب، ولم يزل بالشام حتى مات على فراشه رضي الله عنه‏.‏

وقد روى الواقدي‏:‏ عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال‏:‏ لما حضرت خالداً الوفاة بكى، ثم قال‏:‏ لقد حضرت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء

وقال أبو يعلى‏:‏ ثنا شريح بن يونس، ثنا يحيى بن زكريا، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس قال‏:‏ قال خالد بن الوليد‏:‏ ما ليلة يُهدى إلي فيها عروس، أو أبشر فيها بغلام بأحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بهم العدو‏.‏
وقال أبو بكر بن عياش‏:‏ عن الأعمش، عن خيثمة قال‏:‏ أتي خالد برجل معه زق خمر، فقال‏:‏ اللهم اجعله عسلاً، فصار عسلاً وله طرق‏.‏

وفي بعضها‏:‏ مر عليه رجل معه زق خمر فقال له خالد‏:‏ ما هذا‏؟‏

فقال‏:‏ عسل‏.‏

فقال‏:‏ اللهم اجعله خلاً، فلما رجع إلى أصحابه قال‏:‏ جئتكم بخمر لم يشرب العرب مثله، ثم فتحه فإذا هو خل‏.‏

فقال‏:‏ أصابته والله دعوة خالد رضي الله عنه‏.‏

وقال حماد بن سلمة‏:‏ عن ثمامة عن أنس قال‏:‏ لقي خالد عدواً له، فولى عنه المسلمون منهزمين، وثبت هو وأخو البراء بن مالك، وكنت بينهما واقفاً، قال‏:‏ فنكس خالد رأسه ساعة إلى الأرض، ثم رفع رأسه إلى السماء ساعة - قال‏:‏ وكذلك كان يفعل إذا أصابه مثل هذا - ثم قال لأخي البراء‏:‏ قم فركبا، واختطب خالد من معه من المسلمين، وقال‏:‏ ما هو إلا الجنة، وما إلى المدينة سبيل‏.‏ ثم حمل بهم فهزم المشركين‏.‏

وقد حكى مالك عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكر‏:‏ اكتب إلى خالد أن لا يعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمرك، فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك‏.‏

فكتب إليه خالد‏:‏ أما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك بعملك‏.‏ فأشار عليه عمر بعزله‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ فمن يجزي عني جزاء خالد ‏؟‏‏.‏

قال عمر‏:‏ أنا‏.‏

قال‏:‏ فأنت‏.‏ فتجهر عمر حتى أنيخ الظهر في الدار، ثم جاء الصحابة فأشاروا على الصديق بإبقاء عمر بالمدينة، وإبقاء خالد بالشام‏.‏

فلما ولي عمر كتب إلى خالد بذلك، فكتب إليه خالد بمثل ذلك فعزله، وقال‏:‏ ما كان الله ليراني آمر أبا بكر بشيء لا أنفذه أنا‏.‏

وقد روى البخاري في ‏(‏التاريخ‏)‏ وغيره من طريق علي بن رباح، عن ياسر بن سمي البرني، قال‏:‏ سمعت عمر يعتذر إلى الناس بالجابية من عزل خالد، فقال‏:‏ أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس، وذا الشرف واللسان، فأمرت أبا عبيدة‏.‏

فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة‏:‏ ما اعتذرت يا عمر، لقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعت لواء رفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغمدت سيفاً سلة الله، ولقد قطعت الرحم، وحسدت ابن العم‏.‏

فقال عمر‏:‏ إنك قريب القرابة، حديث السن، مغضب في ابن عمك‏.‏

قال الواقدي رحمه الله‏:‏ ومحمد بن سعيد، وغير واحد‏:‏ مات سنة إحدى وعشرين بقرية على ميل من حمص، وأوصى إلى عمر بن الخطاب‏.‏

وقال دحيم وغيره‏:‏ مات بالمدينة، والصحيح الأول، وقدمنا فيما سلف تعزير عمر له حين أعطى الأشعث بن قيس عشرة آلاف، وأخذه من ماله عشرين ألفاً أيضاً‏.‏

وقدمنا عتبة عليه لدخوله الحمام، وتدلكه بعد النورة بدقيق عصفر معجون بخمر، واعتذار خالد إليه بأنه صار غسولاً‏.‏

وروينا عن خالد‏:‏ أنه طلق امرأة من نسائه، وقال‏:‏ إني لم أطلقها عن ريبة، ولكنها لم تمرض عندي، ولم يصبها شيء في بدنها، ولا رأسها، ولا في شيء من جسدها‏.‏

وروى سيف وغيره‏:‏ أن عمر قال حين عزل خالداً عن الشام، والمثنى بن حارثة عن العراق‏:‏ إنما عزلتهما ليعلم الناس أن الله نصر الدين لا بنصرهما، وأن القوة لله جميعاً‏.‏

وروى سيف أيضاً‏:‏ أن عمر قال حين عزل خالداً عن قنسرين، وأخذ منه ما أخذ‏:‏ إنك علي لكريم، وإنك عندي لعزيز، ولن يصل إليك من أمر تكرهه بعد ذلك‏.‏

وقد قال الأصمعي‏:‏ عن سلمة، عن بلال، عن مجالد، عن الشعبي قال‏:‏ اصطرع عمر وخالد وهما غلامان - وكان خالد ابن خال عمر - فكسر خالد ساق عمر، فعولجت وجبرت، وكان ذلك سبب العداوة بينهما‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ عن ابن عون، عن محمد بن سيرين قال‏:‏ دخل خالد على عمر وعليه قميص حرير فقال عمر‏:‏ ما هذا يا خالد‏؟‏

فقال‏:‏ وما بأس يا أمير المؤمنين، أليس قد لبسه عبد الرحمن بن عوف‏؟‏

فقال‏:‏ وأنت مثل ابن عوف‏؟‏ ولك مثل ما لابن عوف‏؟‏ عزمت على من في البيت إلا أخذ كل واحد منهم بطائفة مما يليه‏.‏

قال‏:‏ فمزقوه حتى لم يبق منه شيء‏.‏

وقال عبد الله بن المبارك‏:‏ عن حماد بن زيد، حدثنا عبد الله بن المختار، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل - ثم شك حماد في أبي وائل - قال‏:‏ ولما حضرت خالد بن الوليد الوفاة قال‏:‏ لقد طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي‏.‏

وما من عملي شيء أرجى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس والسماء تهلني تمطر إلى الصبح، حتى نغير على الكفار‏.‏

ثم قال‏:‏ إذا أنا مت فانظروا إلى سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله‏.‏

فلما توفي خرج عمر على جنازته، فذكر قوله‏:‏ ما على آل نساء الوليد أن يسفحن على خالد من دموعهن ما لم يكن نقعاً أو لقلقة‏.‏

قال ابن المختار‏:‏ النقع التراب على الرأس، واللقلقة الصوت‏.‏

وقد علق البخاري في صحيحه بعض هذا فقال‏:‏ وقال عمر‏:‏ دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة‏.‏

وقال محمد بن سعد، ثنا وكيع، وأبو معاوية، وعبد الله بن نمير قالوا‏:‏ حدثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة قال‏:‏ لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة بني المغيرة في دار خالد يبكين عليه، فقيل لعمر‏:‏ إنهن قد اجتمعن في دار خالد يبكين عليه، وهن خلقاء أن يسمعنك بعض ما تكره‏.‏ فأرسل إليهن فانههنَّ‏.‏

فقال عمر‏:‏ وما عليهن أن ينزفن من دموعهن على أبي سليمان، ما لم يكن نقعاً أو لقلقة‏.‏

ورواه البخاري في ‏(‏التاريخ‏)‏ من حديث الأعمش بنحوه‏.‏

وقال إسحاق بن بشر‏:‏ وقال محمد‏:‏ مات خالد بن الوليد بالمدينة، فخرج عمر في جنازته، وإذا أمه تندبه وتقول‏:‏

أنت خير من ألف ألف من القو * م إذا ما كبت وجوه الرجال
فقال‏:‏ صدقت، والله إن كان لكذلك‏.‏

وقال سيف بن عمر‏:‏ عن شيوخه، عن سالم قال‏:‏ فأقام خالد في المدينة، حتى إذا ظن عمر أنه قد زال ما كان يخشاه من افتتان الناس به، وقد عزم على توليته بعد أن يرجع من الحج، واشتكى خالد بعده وهو خارج من المدينة زائراً لأمه فقال لها‏:‏ احدروني إلى مهاجري، فقدمت به المدينة ومرضته، فلما ثقل وأظل قدوم عمر لقيه لاق على مسيرة ثلاث صادراً عن حجة فقال‏:‏ له عمر بهم‏.‏ فقال‏:‏ خالد بن الوليد ثقيل لما به‏.‏

فطوى عمر ثلاثاً في ليلة فأدركه حين قضى، فرق عليه واسترجع، وجلس ببابه حتى جهز وبكته البواكي، فقيل لعمر‏:‏ ألا تسمع ألا تنهاهن‏؟‏

فقال‏:‏ وما على نساء قريش أن يبكين أبا سليمان‏؟‏ ما لم يكن نقع ولا لقلقة‏.‏

فلما خرج لجنازته رأى عمر امرأة محرمة تبكيه، وتقول‏:‏

أنت خير من ألف ألف من النا * س إذا ما كبت وجوه الرجال

أشجاع فأنت أشجع من ليث * ضمر بن جهم أبي أشبال

أجواد فأنت أجود من سيل * دياس يسيل بين الجبال

فقال عمر‏:‏ من هذه‏؟‏

فقيل له‏:‏ أمه‏.‏

فقال‏:‏ أمه، وإلا له ثلاثاً، وهل قامت النساء عن مثل خالد‏.‏

قال‏:‏ فكان عمر يتمثل في طيه تلك الثلاث في ليلة وفي قدومه‏:‏

تبكي ما وصلت به الندامى * ولا تبكي فوارس كالجبال

أولئك إن بكيت أشد فقداً * من الأذهاب والعكر الجلال

تمنى بعدهم قوم مداهم * فلم يدنوا لأسباب الكمال

وفي رواية‏:‏ أن عمر قال لأم خالد‏:‏ أخالداً أو أجره ترزئين‏؟‏ عزمت عليك أن لا تبيني حتى تسود يداك من الخضاب‏.‏

وهذا كله مما يقتضي موته بالمدينة النبوية، وإليه ذهب دحيم عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي‏.‏

ولكن المشهور عن الجمهور، وهم الواقدي، وكاتبه محمد بن سعد، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وإبراهيم بن المنذر، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو عبد الله العصفري، وموسى بن أيوب، وأبو سليمان بن أبي محمد وغيرهم، أنه مات بحمص سنة إحدى وعشرين‏.‏

زاد الواقدي‏:‏ وأوصى إلى عمر بن الخطاب‏.‏

وقد روى محمد بن سعد، عن الواقدي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد وغيره قالوا‏:‏ قدم خالد بالمدينة بعد ما عزله عمر فاعتمر، ثم رجع إلى الشام فلم يزل بها حتى مات في سنة إحدى وعشرين‏.‏

وروى الواقدي‏:‏ أن عمر رأى حجاجاً يصلون بمسجد قباء فقال‏:‏ أين نزلتم بالشام‏؟‏

قال‏:‏ بحمص‏.‏

قال‏:‏ فهل من معرفة خبر‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم مات خالد بن الوليد‏.‏

قال‏:‏ فاسترجع عمر وقال‏:‏ كان والله سداداً لنحور العدو، ميمون النقيبة‏.‏

فقال له علي‏:‏ فلم عزلته‏؟‏

قال‏:‏ لبذله المال لذوي الشرف واللسان‏.‏

وفي رواية أن عمر قال لعلي‏:‏ ندمت على ما كان مني‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أخبرنا عبد الله بن الزبير الحميدي، ثنا سفيان بن عيينة، ثنا إسماعيل بن أبي خالد سمعت قيس بن أبي حازم يقول‏:‏ لما مات خالد بن الوليد قال عمر‏:‏ رحم الله أبا سليمان لقد كنا نظن به أموراً ما كانت‏.‏

وقال جويرية، عن نافع قال‏:‏ لما مات خالد لم يوجد له إلا فرسه وغلامه وسلاحه‏.‏ ‏)‏

وقال القاضي المعافا بن زكريا الحريري‏:‏ ثنا أحمد بن العباس العسكري، ثنا عبد الله بن أبي سعد، حدثني عبد الرحمن بن حمزة اللخمي، ثنا أبو علي الحرنازي قال‏:‏ دخل هشام بن البحتري في ناس من بني مخزوم على عمر بن الخطاب فقال له‏:‏ يا هشام أنشدني شعرك في خالد‏.‏

فأنشده، فقال‏:‏ قصرت في الثناء على أبي سليمان رحمه الله، إنه كان ليحب أن يذل الشرك وأهله، وإن كان الشامت به لمتعرضاً لمقت الله‏.‏

ثم قال عمر‏:‏ قاتل الله أخا بني تميم ما أشعره‏.‏

وقل للذي يبقى خلاف الذي مضى * تهيأ لأخرى مثلها فكأن قدي‏.‏

فما عيش من قد عاش بعدي بنافعي * ولا موت من قد مات يوماً بمخلدي‏.‏

ثم قال عمر‏:‏ رحم الله أبا سليمان ما عند الله خير له مما كان فيه، ولقد مات سعيداً وعاش حميداً ولكن رأيت الدهر ليس بقائل‏.‏

طليحة بن خويلد

ابن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن جحوان بن فقعس بن طريف بن عمر بن قعير بن الحارث بن ثعلبة بن داود بن أسد بن خزيمة الأسدي الفقعسي، كان ممن شهد الخندق من ناحية المشركين، ثم أسلم سنة تسع، ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم ارتد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام الصديق، وادعى النبوة كما تقدم‏.‏

وروى ابن عساكر‏:‏ أنه ادعى النبوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ابنه خيال قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فسأله ما اسم الذي يأتي إلى أبيك‏؟‏

فقال‏:‏ ذو النون الذي لا يكذب ولا يخون، ولا يكون كما يكون‏.‏

قال‏:‏ لقد سمي ملكاً عظيم الشأن‏.‏
ثم قال لابنه‏:‏ قتلك الله وحرمك الشهادة ورده كما جاء‏)‏‏)‏‏.‏

فقتل خيال في الردة في بعض الوقائع، قتله عكاشة بن محصن، ثم قتل طليحة عكاشة، وله مع المسلمين وقائع‏.‏

ثم خذله الله على يدي خالد بن الوليد، وتفرق جنده فهرب حتى دخل الشام، فنزل على آل جفنة فأقام عندهم حتى مات الصديق حياءً منه‏.‏

ثم رجع إلى الإسلام واعتمر، ثم جاء يسلم على عمر، فقال له‏:‏ أغرب عني، فإنك قاتل الرجلين الصالحين عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هما رجلان أكرمهما الله على يدي ولم يهني بأيديهما، فأعجب عمر كلامه ورضي عنه‏.‏

وكتب له بالوصاة إلى الأمراء أن يشاور ولا يولي شيئاً من الأمر، ثم عاد إلى الشام مجاهداً فشهد اليرموك وبعض حروب كالقادسية ونهاوند الفرس، وكان من الشجعان المذكورين والأبطال المشهورين، وقد حسن إسلامه بعد هذا كله‏.‏

وذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة وقال‏:‏ كان يعد بألف فارس لشدته، وشجاعته، وبصره بالحرب‏.‏

وقال أبو نصر بن ماكولا‏:‏ أسلم ثم ارتد، ثم أسلم وحسن إسلامه، وكان يعدل بألف فارس‏.‏

ومن شعره أيام ردته وادعائه النبوة في قتل المسلمين أصحابه‏:‏

فما ظنكم بالقوم إذ تقتلونهم * أليسوا وإن لم يسلموا برجال

فإن يكن أزاد أصبىً ونسوة * فلم يذهبوا فرعاً بقتل خيال

نصبت لهم صدر الحمالة إنها * معاودة قتل الكماة نزال

فيوماً تراها في الجلال مصونة * ويوماً تراها غير ذات جلال

ويوماً تراها تضيء المشرفية نحوها *ويوماً تراها في ظلالِ عوالي

عشية غادرت ابن أقرم ثاوياً * وعكاشة العمي عند مجال

وقال سيف بن عمر، عن مبشر بن الفضيل، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ بالله الذي لا إله إلا هو ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتهمنا ثلاثة نفر فما رأينا كما هجمنا عليهم من أمانتهم وزهدهم، طليحة بن خويلد الأسدي، وعمر بن معدي كرب، وقيس بن المكشوح‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ ذكر أبو الحسين محمد بن أحمد بن الفراس الوراق‏:‏ أن طليحة استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين مع النعمان بن مقرن، وعمرو بن معدي كرب رضي الله عنهم‏.‏

عمرو بن معدي كرب

ابن عبد الله بن عمر بن عاصم بن عمرو بن زبيد الأصعر بن ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن شيبة، وهو زبيد الأكبر بن الحارث بن ضعف بن سعد العشيرة بن مذحج الزبيدي المدحجي أبو ثور، أحد الفرسان المشاهير الأبطال، والشجعان المذاكير، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع، وقيل‏:‏ عشر مع وفد مراد، وقيل‏:‏ في وفد مراد، وقيل‏:‏ في وفد زبيد قومه‏.‏
وقد ارتد مع الأسود العنسي، فسار إليه خالد بن سعيد بن العاص فقاتله فضربه خالد بن سعيد بالسيف على عاتقه فهرب وقومه، وقد استلب خالد سيفه الصمصامة، ثم أسر ودفع إلى أبي بكر فأنبه وعاتبه واستتابه، فتاب وحسن إسلامه بعد ذلك‏.‏

فسيره إلى الشام فشهد اليرموك، ثم أمره عمر بالمسير إلى سعد وكتب بالوصاة به، وأن يشاور ولا يولي شيئاً، فنفع الله به الإسلام وأهله، وأبلى بلاءً حسناً يوم القادسية‏.‏

وقيل‏:‏ إنه قتل بها، وقيل‏:‏ بنهاوند، وقيل‏:‏ مات عطشاً في بعض القرى يقال لها‏:‏ روذة فالله أعلم‏.‏

وذلك كله في إحدى وعشرين‏.‏

فقال بعض من رثاه من قومه:

لقد غادر الركبان يوم تحملوا * بروذة شخصاً لا جباناً ولا غمراً

فقل لزبيد بلٍ لمذحج كلها * رزئتم أبا ثور قريع الوغى عمراً

وكان عمرو بن معدي كرب رضي الله عنه من الشعراء المجيدين فمن شعره‏:‏

أعاذل عدتي بدني ورمحي * وكل مقلص سلس القياد

أعاذل إنما أفني شبابي * إجابتي الصريخ إلى المنادي

مع الأبطال حتى سل جسمي * وأقرع عاتقي حمل النجاد

ويبقى بعد حلم القوم حلمي * ويفنى قبل زاد القوم زادي

تمنى أن يلاقيني قييس * وددت وأينما مني ودادي

فمن ذا عاذري من ذي سفاه * يرود بنفسه مني المرادي

أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مرادي

له حديث واحد في التلبية رواه شراحيل بن القعقاع عنه، قال‏:‏ كنا نقول في الجاهلية إذا لبينا‏:‏ لبيك تعظيماً إليك عذراً، هذي زبيد قد أتتك قسراً، يعدو بها مضمرات شزراً، يقطعن خبتاً وجبالاً وعراً، قد تركوا الأوثان خلواً صفراً‏.‏

قال عمرو‏:‏ فنحن نقول الآن ولله الحمد ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك‏.‏




العلاء بن الحضرمي

أمير البحرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأقره عليها أبو بكر، ثم عمر، تقدم أنه توفي‏:‏ سنة أربع عشرة‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ إنه تأخر إلى سنة إحدى وعشرين، وعزله عمر عن البحرين وولى مكانه أبا هريرة، وأمره عمر على الكوفة فمات قبل أن يصل إليها منصرفه من الحج، كما قدمنا ذلك والله أعلم‏.‏

وقد ذكرنا في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ قصته في سيره بجيشه على وجه الماء وما جرى له من خرق العادات والله الحمد‏.‏

النعمان بن مقرن بن عائذ المزني

أمير وقعة نهاوند، صحابي جليل، قدم مع قومه من مزينة في أربعمائة راكب، ثم سكن البصرة وبعثه الفاروق أميراً على الجنود إلى نهاوند، ففتح الله على يديه فتحاً عظيماً، ومكن الله له في تلك البلاد، ومكنه من رقاب أولئك العباد، ومكن به للمسلمين هناك إلى يوم التناد، ومنحه النصر في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأتاح له بعد ما أراه ما أحب شهادة عظيمة وذلك غاية المراد، فكان ممن قال الله تعالى في حقه في كتابه المبين وهو صراطه المستقيم‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏‏.‏

ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وفيها كانت فتوحات كثيرة

منها‏:‏ فتح همدان ثانية ثم الري وما بعدها ثم أذربيجان‏.‏

قال الواقدي وأبو معشر‏:‏ كانت في سنة ثنتين وعشرين‏.‏

وقال سيف‏:‏ كانت في سنة ثماني عشرة بعد فتح همدان والري وجرجان‏.‏

وأبو معشر يقول‏:‏ بأن أذربيجان كانت بعد هذه البلدان، ولكن عنده أن الجميع كان في هذه السنة‏.‏

وعند الواقدي‏:‏ أن فتح همدان والري في سنة ثلاث وعشرين، فهمدان افتتحها المغيرة بعد مقتل عمر بستة أشهر، قال‏:‏ ويقال‏:‏ كان فتح الري قبل وفاة عمر سنتين، إلا أن الواقدي وأبا معشر متفقان على أن أذربيجان في هذه السنة، وتبعهما ابن جرير وغيره‏.‏

وكان السبب في ذلك أن المسلمين لما فرغوا من نهاوند وما وقع من الحرب المتقدم، فتحوا حلوان وهمذان بعد ذلك‏.‏ ثم إن أهل همذان نقضوا عهدهم الذي صالحهم عليه القعقاع بن عمرو، فكتب عمر إلى نعيم بن مقرن أن يسير إلى همذان، وأن يجعل على مقدمته أخاه سويد بن مقرن، وعلى مجنبتيه ربعي بن عامر الطائي، ومهلهل بن زيد التميمي‏.‏

فسار حتى نزل على ثنية العسل ثم تحدر على همذان، واستولى على بلادها وحاصرها فسألوه الصلح فصالحهم، ودخلها فبينما هو فيها ومعه اثني عشر ألفاً من المسلمين، إذ تكاتف الروم والديلم وأهل الري وأهل أذربيجان، واجتمعوا على حرب نعيم بن مقرن في جمع كثير، فعلى الديلم ملكهم واسمه‏:‏ موتا، وعلى أهل الري أبو الفَرُّخان، وعلى أذربيجان أسفندياذ أخو رستم‏.‏

فخرج إليهم بمن معه من المسلمين حتى التقوا بمكان يقال له‏:‏ واج الروذ، فاقتتلوا قتالاً شديداً وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند، ولم تك دونها فقتلوا من المشركين جمعاً كثيراً وجمعاً صغيراً لا يحصون كثرة، وقتل ملك الديلم موتاً وتمزق شملهم، وانهزموا بأجمعهم، مد من قتل بالمعركة منهم، فكان نعيم بن مقرن أول من قاتل الديلم من المسلمين‏.‏

وقد كان نعيم كتب إلى عمر يعلمه باجتماعهم فهمه ذلك واغتم له‏.‏ فلم يفجأه إلا البريد بالبشارة فحمد الله وأثنى عليه، وأمر بالكتاب فقرئ على ناس، ففرحوا وحمدوا الله عز وجل‏.‏

ثم قدم عليه بالأخماس ثلاثة من الأمراء وهم‏:‏ سماك بن خرشة، ويعرف‏:‏ بأبي دجانة، وسماك بن عبيد، وسماك بن مخرمة، فلما استسماهم عمر قال‏:‏ اللهم اسمك بهم الإسلام، وأمد بهم الإسلام‏.‏

ثم كتب إلى نعيم بن مقرن بأن يستخلف على همذان ويسير إلى الري فامتثل نعيم‏.‏ وقد قال نعيم في هذه الوقعة‏:‏

ولما أتاني أن موتاً ورهطه * بني باسل جروا جنود الأعاجمِ

نهضت إليهم بالجنود مسامياً * لأمنع منهم ذمتي بالقواصمِ

فجئنا إليهم بالحديد كأننا * جبال تراءى من فروع القلاسمِ

فلما لقيناهم بها مستفيضة * وقد جعلوا يسمعون فعل المساهمِ

صدمناهم في واج روذ بجمعنا * غداة رميناهم بإحدى العظائمِ

فما صبروا في حومة الموت ساعة * لحد الرماح والسيوف الصوارمِ

كأنهم عند انبثاث جموعهم * جدار تشظى لَبْنُهُ للهادمِ

أصبنا بها موتاً ومن لف جمعة * وفيها نهاب قسمه غير عاتمِ

تبعناهم حتى أووا في شعابهم * فنقتلهم قتل الكلاب الجواحمِ

كأنهم في واج روذ وجوه * ضئين أصابتها فروج المخارمِ

فتح الري

استخلف نعيم بن مقرن على همذان يزيد بن قيس الهمداني، وسار بالجيوش حتى لحق الري فلقي هناك جمعاً كثيراً من المشركين، فاقتتلوا عند سفح جبل الري، فصبروا صبراً عظيماً ثم انهزموا، فقتل منهم النعيم بن مقرن مقتلة عظيمة، بحيث عدوا بالقصب فيها، وغنموا منهم غنيمة عظيمة قريباً مما غنم المسلمون من المدائن‏.‏

وصالح أبو الفرخان على الري، وكتب له أماناً بذلك، ثم كتب نعيم إلى عمر بالفتح ثم بالأخماس ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏)‏

فتح قومس

ولما ورد البشير بفتح الري وأخماسها، كتب عمر إلى نعيم بن مقرن‏:‏ أن يبعث أخاه سويد بن مقرن إلى قومس‏.‏ فسار إليها سويد، فلم يقم له شيء حتى أخذها سلماً وعسكر بها وكتب لأهلها كتاب أمان وصلح‏.‏

فتح جرجان

لما عسر سويد بقومس بعث إليه أهل بلدان شتى منها جرجان وطبرستان وغيرها يسألونه الصلح على الجزية، فصالح الجميع وكتب لأهل كل بلدة كتاب أمان وصلح‏.‏

وحكى المدائني‏:‏ أن جرجان فتحت في سنة ثلاثين أيام عثمان فالله أعلم‏.‏


وهذا فتح أذربيجان

لما افتتح نعيم بن مقرن همذان ثم الري، وكان قد بعث بين يديه بكير بن عبد الله، من همذان إلى أذربيجان، وأردفه بسماك بن خرشة، فلقي أسفندياذ بن الفرخزاذ بكيراً وأصحابه، قبل أن يقدم عليهم سماك، فاقتتلوا فهزم الله المشركين، وأسر بكير أسفندياذ‏.‏

فقال له أسفندياذ‏:‏ الصلح أحب إليك أم الحرب‏؟‏

قال‏:‏ بل الصلح‏.‏

قال‏:‏ فأمسكني عندك، فأمسكه، ثم جعل يفتح بلداً بلداً، وعتبة بن فرقد أيضاً، يفتح معه بلداً بلداً في مقابلته من الجانب الآخر‏.‏
ثم جاء كتاب عمر بأن يتقد بكير إلى الباب وجعل سماك موضعه نائباً لعبته بن فرقد، وجمع عمر أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد، وسلم إليه بكير أسفندياذ‏.‏

وسار كما أمره عمر إلى الباب‏.‏

قالوا‏:‏ وقد كان اعترض بهرام بن فرخزاذ لعتبة بن فرقد فهزمه عتبة وهرب بهرام، فلما بلغ ذلك أسفندياذ وهو في الأسر عند بكير قال‏:‏ الآن تم الصلح، وطفئت الحرب‏.‏ فصالحه فأجاب إلى ذلك كلهم‏.‏ وعادت أذربيجان سلماً‏.‏

وكتب بذلك عتبة وبكير إلى عمر، وبعثوا بالأخماس إليه، وكتب عتبة حين انتهت إمرة أذربيجان لأهلها كتاب أمان وصلح‏.‏

فتح الباب

قال ابن جرير‏:‏ وزعم سيف‏:‏ أنه كان في هذه السنة كتب عمر بن الخطاب كتاباً بالإمرة على هذه الغزوة لسراقة بن عمرو - الملقب‏:‏ بذي النور - وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، - ويقال له‏:‏ ذو النور أيضاً - وجعل على إحدى المجنبتين حذيفة بن أسيد، وعلى الأخرى بكير بن عبد الله الليثي - وكان قد تقدمهم إلى الباب - وعلى المقاسم سلمان بن ربيعة‏.‏

فساروا كما أمرهم عمر وعلى تعبئته، فلما انتهى مقدم العساكر - وهو عبد الرحمن بن ربيعة - إلى الملك الذي هناك عند الباب وهو شهربراز ملك أرمينية، وهو من بيت الملك الذي قتل بني إسرائيل، وغزا الشام في قديم الزمان، فكتب شهربراز لعبد الرحمن واستأمنه، فأمنه عبد الرحمن بن ربيعة‏.‏

فقدم عليه الملك فأنهى إليه أنّ صغوه إلى المسلمين، وأنه مناصح للمسلمين‏.‏ فقال له‏:‏ إن فوقي رجلاً فاذهب إليه‏.‏

فبعثه إلى سراقة بن عمرو وأمير الجيش، فسأل من سراقة الأمان، فكتب إلى عمر فأجاز ما أعطاه من الأمان، واستحسنه، فكتب له سراقة كتاباً بذلك‏.‏

ثم بعث سراقة بكيراً، وحبيب بن مسلمة، وحذيفة بن أسيد، وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، جبال اللان وتفليس وموقان، فافتتح بكير موقان، وكتب لهم كتاب أمان، ومات في غضون ذلك أمير المسلمين هناك، وهو‏:‏ سراقة بن عمرو‏.‏

واستخلف بعده عبد الرحمن بن ربيعة، فلما بلغ عمر ذلك أقره على ذلك، وأمره بغزو الترك‏.‏





أول غزو الترك

وهو تصديق الحديث المتقدم الثابت في الصحيح عن أبي هريرة وعمر بن تغلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً عراض الوجوه، دلف الأنوف، حمر الوجوه، كأن وجوهم المجان المطرقة‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏ينتلعون الشعر‏)‏‏)‏‏.‏

لما جاء كتاب عمر إلى عبد الرحمن بن ربيعة يأمره بأن يغزو الترك، سار حتى قطع الباب قاصداً لما أمره عمر، فقال له شهربراز‏:‏ أين تريد ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ أريد ملك الترك بلنجر‏.‏

فقال له شهربراز‏:‏ إنا لنرضى منهم الموادعة ونحن من وراء الباب‏.‏

فقال له عبد الرحمن‏:‏ إن الله بعث إلينا رسولاً، ووعدنا على لسانه بالنصر والظفر، ونحن لا نزال منصورين، فقاتل الترك وسار في بلاد بلنجر مائتي فرسخ، وغزا مرات متعددة‏.‏

ثم كانت له وقائع هائلة في زمن عثمان كما سنورده في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

وقال سيف بن عمر‏:‏ عن الغصن بن القاسم، عن رجل، عن سلمان بن ربيعة قال‏:‏ لما دخل عليهم عبد الرحمن بن ربيعة بلادهم، حال الله بين الترك والخروج عليه، وقالوا‏:‏ ما اجترأ علينا هذا الرجل إلا ومعهم الملائكة تمنعهم من الموت‏.‏ فتحصنوا منه، وهربوا بالغنم والظفر‏.‏

ثم إنه غزاهم غزوات في زمن عثمان فظفر بهم كما كان يظفر بغيرهم‏.‏ فلما ولي عثمان على الكوفة بعض من كان ارتد، غزاهم فتذامرت الترك، وقال بعضهم لبعض‏:‏ إنهم لا يموتون‏.‏

قال‏:‏ انظروا وفعلوا فاختفوا لهم في الغياض، فرمى رجل منهم رجلاً من المسلمين على غرةٍ فقتله وهرب عنه أصحابه، فخرجوا على المسلمين بعد ذلك حتى عرفوا أن المسلمين يموتون، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ونادى مناد من الجو صبراً آل عبد الرحمن موعدكم الجنة‏.‏

فقاتل عبد الرحمن حتى قتل، وانكشف الناس وأخذ الراية سلمان بن ربيعة فقاتل بها، ونادى المنادي من الجو صبراً آل سلمان بن ربيعة، فقاتل قتالاً شديداً‏.‏

ثم تحيز سلمان، وأبو هريرة بالمسلمين، وفروا من كثرة الترك، ورميهم الشديد السديد على جيلان، فقطعوها إلى جرجان، واجترأت الترك بعدها، ومع هذا أخذت الترك عبد الرحمن بن ربيعة فدفنوه في بلادهم، فهم يستسقون بقبره إلى اليوم، وسيأتي تفصيل ذلك كله‏.‏

قصة السد

ذكر ابن جرير بسنده‏:‏ أن شهربراز قال لعبد الرحمن بن ربيعة لما قدم عليه حين وصل إلى الباب وأراه رجلاً فقال شهربراز‏:‏ أيها الأمير، إن هذا الرجل كنت بعثته نحو السد، وزودته مالاً جزيلاً وكتبت له إلى الملوك الذين يولوني، وبعثت لهم هدايا، وسألت منهم أن يكتبوا له إلى من يليهم من الملوك حتى ينتهي إلى سد ذي القرنين، فينظر إليه ويأتينا بخبره‏.‏

فسار حتى انتهى إلى الملك الذي السد في أرضه، فبعثه إلى عامله مما يلي السد، فبعث معه بازياره ومعه عقابه، فلما انتهوا إلى السد إذا جبلان بينهما سد مسدود، حتى ارتفع على الجبلين، وإذا دون السد خندق أشد سواداً من الليل لبعده، فنظر إلى ذلك كله وتفرس فيه، ثم لما هم بالانصراف، قال له البازيار‏:‏ على رسلك، ثم شرح بضعة لحم معه فألقاها في ذلك الهواء، وانقض عليها العقاب‏.‏

فقال‏:‏ إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء، وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شيء‏.‏

قال‏:‏ فلم تدركها حتى وقعت في أسفله واتبعها العقاب فأخرجها، فإذا فيها ياقوتة وهي هذه، ثم ناولها الملك شهربراز لعبد الرحمن بن ربيعة فنظر إليها عبد الرحمن ثم ردها إليه، فلما ردها إليه فرح، وقال‏:‏ والله لهذه خير من مملكة هذه المدينة - يعني‏:‏ مدينة باب الأبواب التي هو فيها - وهي هذه خير من مملكة هذه المدينة - يعني‏:‏ مدينة باب الأبواب التي خبرها - ووالله لأنتم أحب إلي اليوم من مملكة آل كسرى، ولو كنت في سلطانهم وبلغهم خبرها لانتزعوها مني‏.‏

وأيم الله، لا يقوم لكم شيء ما وفيتم وفي ملككم، الأكبر‏.‏

ثم أقبل عبد الرحمن بن ربيعة على الرسول الذي ذهب على السد فقال‏:‏ ما حال هذا الردم‏؟‏ - يعني‏:‏ ما صفته - فأشار إلى ثوب في زرقه وحمرة فقال‏:‏ مثل هذا‏.‏

فقال رجل لعبد الرحمن‏:‏ صدق والله لقد نفذ ورأى‏.‏

فقال‏:‏ أجل وصف صفة الحديد والصفر‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 96‏]‏ وقد ذكرت صفة السد في التفسير، وفي أوائل هذا الكتاب‏.‏

وقد ذكر البخاري في صحيحه تعليقاً‏:‏ أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم رأيت السد‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف رأيته ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ مثل البرد المحبر رأيته‏.‏

قالوا‏:‏ ثم قال عبد الرحمن بن ربيعة لشهربراز‏:‏ كم كانت هديتك‏؟‏

قال‏:‏ قيمة مائة ألف في بلادي وثلاثة آلاف ألف في تلك البلدان‏.‏

بقية من خبر السد

أورد شيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ في هذه السنة ما ذكره صاحب كتاب ‏(‏مسالك الممالك‏)‏ عما أملاه عليه سلام الترجمان، حين بعثه الواثق بأمر الله بن المعتصم - وكان قد رأى في النوم كأن السد قد فتح -فأرسل سلاماً هذا، وكتب له إلى الملوك بالوصاة به، وبعث معه ألفي بغل تحمل طعاماً فساروا بين سامراً إلى إسحاق بتفليس، فكتب لهم إلى صاحب السرير، وكتب لهم صاحب السرير إلى ملك اللان، فكتب لهم إلى قبلان شاه، فكتب لهم إلى ملك الخزر، فوجه معه خمسة أولاد فساروا ستة وعشرين يوماً‏.‏

انتهوا إلى أرض سوداء منتنة حتى جعلوا يشمون الخل، فساروا فيها عشرة أيام، فانتهوا إلى مدائن خراب مدة سبعة وعشرين يوماً، وهي التي كانت يأجوج و مأجوج تطرقها فخربت من ذلك الحين و إلى الآن، ثم انتهوا إلى حصن قريب من السد، فوجدوا قوماً يعرفون بالعربية و بالفارسية و يحفظون القرآن، ولهم مكاتب و مساجد، فجعلوا يعجبون منهم و يسألونهم من أين أقبلوا‏؟‏

فذكروا لهم أنهم من جهة أمير المؤمنين الواثق، فلم يعرفوه بالكلية‏.‏

ثم انتهوا إلى جبل أملس ليس عليه خضراً، و إذا السد هنالك من لبن حديد مغيب في نحاس، و هو مرتفع جداً لا يكاد البصر ينتهي إليه، وله شرفات من حديد، وفي وسطه باب عظيم بمصراعين مغلقين، عرضهما مائة ذراع، في طول مائة ذراع، في ثخانة خمسة أذرع، و عليه قفل طوله سبعة أذرع في غلظ باع - وذكر أشياء كثيرة - و عند ذلك المكان حرس يضربون عند القفل في كل يوم فيسمعون بعد ذلك صوتاً عظيماً مزعجاً، ويقال‏:‏ أن وراء هذا الباب حرس وحفظة، وقريب من هذا الباب حصنان عظيمان بينهما عين ماء عذبة، وفي إحداهما بقايا العمارة من مغارف ولبن من حديد وغير ذلك، وإذا طول اللبنة ذراع ونصف في مثله، في سمك شبر‏.‏

وذكروا‏:‏ أنهم سألوا أهل تلك البلاد هل رأوا أحداً من يأجوج ومأجوج ‏؟‏

فأخبروهم أنهم رأوا منهم يوماً أشخاصاً فوق الشرفات فهبت الريح فألقتهم إليهم، فإذا طول الرجل منهم شبر أو نصف شبر‏.‏ والله أعلم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة غزا معاوية الصائفة من بلاد الروم، وكان معه حماد والصحابة فسار وغنم ورجع سالماً‏.‏

وفيها‏:‏ ولد يزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عمر بن الخطاب، وكان عماله فيها على البلاد، وهم الذين كانوا في السنة قبلها‏.‏

وذكر‏:‏ أن عمر عزل عماراً في هذه السنة عن الكوفة اشتكاه أهلها وقالوا‏:‏ لا يحسن السياسة، فعزله وولى أبا موسى الأشعري، فقال أهل الكوفة‏:‏ لا نريده، وشكوا من غلامه‏.‏

فقال‏:‏ دعوني حتى أنظر في أمري، وذهب إلى طائفة من المسجد ليفكر من يولي‏.‏ فنام من الهم، فجاءه المغيرة فجعل يحرسه حتى استيقظ‏.‏

فقال له‏:‏ إن هذا الأمر عظيم يا أمير المؤمنين الذي بلغ بك هذا‏.‏

قال‏:‏ وكيف وأهل الكوفة مائة ألف لا يرضون أمير المؤمنين، ولا يرضى عنهم أمير‏.‏

ثم جمع الصحابة واستشارهم هل يولي عليهم قوياً مشدداً أو ضعيفاً مسلماً‏؟‏

فقال له المغيرة بن شعبة‏:‏ يا أمير المؤمنين، إن القوي قوته لك وللمسلمين وتشديده لنفسه، وأما الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وإسلامه لنفسه‏.‏

فقال عمر للمغيرة - واستحسن ما قال له -‏:‏ اذهب فقد وليتك الكوفة‏.‏

فرده إليها بعد ما كان عزله عنها بسبب ما كان شهد عليه الذين تقدم حدهم بسبب قذفه، والعلم عند الله عز وجل‏.‏

وبعث أبا موسى الأشعري إلى البصرة فقيل لعمار‏:‏ أساءك العزل ‏؟‏

فقال‏:‏ والله ما سرتني الولاية، ولقد ساءني العزل‏.‏

وفي رواية‏:‏ أن الذي سأله عن ذلك عمر رضي الله عنه، ثم أراد عمر أن يبعث سعد بن أبي وقاص على الكوفة بدل المغيرة فعاجلته المنية سنة ثلاث وعشرين على ما سيأتي بيانه، ولهذا أوصى لسعد به‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس بلاد خراسان، وقصد البلد الذي فيه يزدجرد ملك الفرس‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وزعم سيف أن هذا كان في سنة ثماني عشرة‏.‏

قلت‏:‏ والأول هو المشهور والله أعلم‏.‏




قصة يزدجرد بن شهريار بن كسرى

لما استلب سعد من يديه مدينة ملكه، ودار مقره، وإيوان سلطانه، وبساط مشورته وحواصله، تحول من هناك إلى حلوان، ثم جاء المسلمون ليحاصروا حلوان فتحول إلى الري، وأخذ المسلمون حلوان ثم أخذت الري فتحول منها إلى أصبهان فأخذت أصبهان‏.‏

فسار إلى كرمان فقصد المسلمون كرمان فافتتحوها، فانتقل إلى خراسان فنزلها‏.‏

هذا كله والنار التي يعبدها من دون الله يسير بها معه من بلد إلى بلد، ويبني لها في كل بيت توقد فيهم على عادتهم، وهو يحمل في الليل في مسيره إلى هذا البلدان على بعير عليه هودج ينام فيه‏.‏

فبينما هو ذات ليلة في هودجه وهو نائم فيه، إذا مروا به على مخاضة، فأرادوا أن ينبهوه قبلها لئلا ينزعج إذا استيقظ في المخاضة، فلما أيقظوه تغضب عليهم شديداً وشتمهم، وقال‏:‏ حرمتموني أن أعلم مدة بقاء هؤلاء في هذه البلاد وغيرها، إني رأيت في منامي هذا أني ومحمداً عند الله، فقال له‏:‏ ملككم مائة سنة‏.‏

فقال‏:‏ زدني‏.‏

فقال‏:‏ عشراً ومائة‏.‏

فقال‏:‏ زدني‏.‏

فقال‏:‏ عشرين ومائة سنة‏.‏

فقال‏:‏ زدني‏.‏

فقال‏:‏ لك، وأنبهتموني فلو تركتموني لعلمت مدة هذه الأمة‏.‏

خراسان مع الأحنف بن قيس

وذلك أن الأحنف بن قيس هو الذي أشار على عمر بأن يتوسع المسلمون بالفتوحات في بلاد العجم، ويضيقوا على كسرى يزدجرد فإنه هو الذي يستحث الفرس والجنود على قتال المسلمين‏.‏

فأذن عمر بن الخطاب في ذلك عن رأيه، وأمر الأحنف، وأمره بغزو بلاد خراسان‏.‏

فركب الأحنف في جيش كثيف إلى خراسان قاصداً حرب يزدجرد، فدخل خراسان فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي، ثم سار إلى مرو الشاهجان وفيها يزدجرد‏.‏

وبعث الأحنف بين يديه مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى نيسابور، والحارث بن حسان إلى سرخس‏.‏

ولما اقترب الأحنف من مرو الشاهجان ترحل منها يزدجرد إلى مرو الروذ، فافتتح الأحنف مرو الشاهجان، فنزلها‏.‏

وكتب يزدجرد حين نزل مرو الروذ إلى خاقان ملك الترك يستمده، وكتب إلى ملك الصفد يستمده، وكتب إلى ملك الصين يستعينه‏.‏

وقصده الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ وقد استخلف على مرو الشاهجان حارثة بن النعمان، وقد وفدت إلى الأحنف أمداد من أهل الكوفة مع أربعة أمراء، فلما بلغ مسيره إلى يزدجرد، ترحل إلى بلخ، فالتقى معه ببلخ يزدجرد فهزمه الله عز وجل، وهرب هو ومن بقي معه من جيشه، فعبر النهر، واستوثق ملك خراسان على يدي الأحنف بن قيس، واستخلف في كل بلدة أميراً، ورجع الأحنف فنزل مرو الروذ، وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان بكمالها‏.‏

فقال عمر‏:‏ وددت أنه كان بيننا وبين خراسان بحر من نار‏.‏

فقال له علي‏:‏ ولم يا أمير المؤمنين‏؟‏

فقال‏:‏ إن أهلها سينقضون عهدهم ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، لأن يكون ذلك بأهلها، أحب إلي من أن يكون ذلك بالمسلمين‏.‏

وكتب عمر إلى الأحنف ينهاه عن العبور إلى ما وراء النهر‏.‏

وقال‏:‏ احفظ ما بيدك من بلاد خراسان‏.‏

ولما وصل رسول يزدجرد إلى اللذين استنجد بهما لم يحتفلا بأمره، فلما عبر يزدجرد النهر ودخل في بلادهما تعين عليهما إنجاده في شرع الملوك، فسار معه خاقان الأعظم ملك الترك، ورجع يزدجرد بجنود عظيمة فيهم ملك التتار خاقان، فوصل إلى بلخ واسترجعها، وفر عمال الأحنف إليه إلى مرو الروذ، وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ فتبرز الأحنف بمن معه من أهل البصرة وأهل الكوفة، والجميع عشرون ألفاً، فسمع رجلاً يقول لآخر‏:‏ إن كان الأمير ذا رأي فإنه يقف دون هذا الجبل فيجعله وراء ظهره، ويبقى هذا النهر خندقاً حوله فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة‏.‏

فلما أصبح الأحنف أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه، وكان أمارة النصر والرشد، وجاءت الأتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج، فقام الأحنف في الناس خطيباً فقال‏:‏ إنكم قليل وعدوكم كثير، فلا يهولنكم ‏{‏كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏ فكانت الترك يقاتلون بالنهار، ولا يدري الأحنف أين يذهبون في الليل‏.‏

فسار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو جيش خاقان، فلما كان قريب الصبح خرج فارس من الترك طليعة وعليه طوق وضرب بطبله، فتقدم إليه الأحنف فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله، وهو يرتجز‏:‏

إن على كل رئيس حقاً * أن يخضب الصعدة أو يندقا

إن لها شيخاً بها ملقى * بسيف أبي حفص الذي تبقى

قال‏:‏ ثم استلب التركي طوقه ووقف موضعه، فخرج آخر علم طوق ومعه طبل فجعل يضرب بطبله، فتقدم إليه الأحنف فقتله أيضاً واستلبه طوقه ووقف موضعه، فخرج ثالث فقتله، وأخذ طوقه‏.‏

ثم أسرع الأحنف الرجوع إلى جيشه ولا يعلم بذلك أحد من الترك بالكلية‏.‏

وكان من عادتهم أنهم لا يخرجون من صبيتهم حتى تخرج ثلاثة من كهولهم بين أيديهم، يضرب الأول بطبله، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم يخرجون بعد الثالث‏.‏

فلما خرجت الترك ليلتئذٍ بعد الثالث، فأتوا على فرسانهم مقتلين، تشاءم بذلك الملك خاقان وتطير، وقال لعسكره‏:‏ قد طال مقامنا، وقد أصيب هؤلاء القوم بمكان لم نصب بمثله‏.‏

ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا‏.‏

فرجعوا إلى بلادهم، وانتظرهم المسلمون يومهم ذلك ليخرجوا إليهم من شعبهم فلم يروا أحداً منهم، ثم بلغهم انصرافهم إلى بلادهم راجعين عنهم، وقد كان يزدجرد - وخاقان في مقابلة الأحنف بن قيس ومقاتلته - ذهب إلى مرو الشاهجان فحاصرها وحارثة بن النعمان بها، واستخرج منها خزانته التي كان دفنها بها، ثم رجع وانتظره خاقان ببلخ حتى رجع إليه‏.‏

وقد قال المسلمون للأحنف‏:‏ ما ترى في اتباعهم‏؟‏

فقال‏:‏ أقيموا بمكانكم ودعوهم‏.‏

وقد أصاب الأحنف في ذلك، فقد جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏اتركوا الترك ما تركوكم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ‏(‏‏(‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً‏)‏‏)‏‏.‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏

ورجع كسرى خاسراً الصفقة، لم يشف له غليل، ولا حصل على خير ولا انتصر، كما كان في زعمه، بل تخلى عنه من كان يرجو النصر منه، وتنحى عنه وتبرأ منه أحوج ما كان إليه، وبقي مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 88‏]‏ وتحير في أمره ماذا يصنع‏؟‏ وإلى أين يذهب ‏؟‏‏.‏

وقد أشار عليه بعض أولي النهي من قومه حين قال‏:‏ قد عزمت أن أذهب إلى بلاد الصين أو أكون مع خاقان في بلاده‏.‏
فقالوا‏:‏ إنا نرى أن نصانع هؤلاء القوم فإن لهم ذمة وديناً يرجعون إليه، فنكون في بعض هذه البلاد وهم مجاورينا، فهم خير لنا من غيرهم‏.‏ فأبى عليهم كسرى ذلك‏.‏

ثم بعث إلى ملك الصين يستغيث به ويستنجده، فجعل ملك الصين يسأل الرسول عن صفة هؤلاء القوم الذين قد فتحوا البلاد وقهروا رقاب العباد، فجعل يخبره عن صفتهم، وكيف يركبون الخيل والإبل‏؟‏ وماذا يصنعون‏؟‏ وكيف يصلون ‏؟‏‏.‏

فكتب معه إلى يزدجرد‏:‏ أنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو جئت لنصرك أزالوني ماداموا على ما وصف لي رسولك، فسالمهم وأرض منهم بالمسالمة‏.‏

فأقام كسرى وآل كسرى في بعض البلاد مقهورين‏.‏ ولم يزل ذلك دأبه حتى قتل بعد سنتين من إمارة عثمان كما سنورده في موضعه‏.‏

ولما بعث الأحنف بكتاب الفتح وما أفاء الله عليهم من أموال الترك، ومن كان معهم، وأنهم قتلوا منهم مع ذلك مقتله عظيمة، ثم ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً‏.‏ فقام عمر على المنبر وقرئ الكتاب بين يديه، ثم قال عمر‏:‏ إن الله بعث محمداً بالهدى ووعد على أتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة‏.‏

فقال‏:‏ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فالحمد لله الذي أنجز وعده ونصر جنده، ألا وإن الله قد أهلك ملك المجوسية، فرق شملهم فليسوا يملكون من بلادهم شبراً يضير بمسلم‏.‏

ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، فقوموا في أمره على وجل، يوف لكم بعهده ويؤتكم وعده ولا تغيروا يستبدل قوماً غيركم، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم‏.‏

وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ في تاريخ هذه السنة - أعني سنة ثنتين وعشرين - وفيها‏:‏ فتحت أذربيجان على يدي المغيرة بن شعبة قاله ابن إسحاق‏.‏ فيقال‏:‏ أنه صالحهم على ثمانمائة ألف درهم‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ فتحها حبيب بن سلمة الفهري بأهل الشام عنوة، ومعه أهل الكوفة فيهم حذيفة، فافتتحها بعد قتال شديد والله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ افتتح حذيفة الدينور عنوة - بعدما كان سعد افتتحها فانتقضوا عهدهم -‏.‏

وفيها‏:‏ افتتح حذيفة ماه سندان عنوة - وكانوا نقضوا أيضاً عهد سعد - وكان مع حذيفة أهل البصرة فلحقهم أهل الكوفة فاختصموا في الغنيمة، فكتب عمر‏:‏ أن الغنيمة لمن شهد الوقعة‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ ثم غزا حذيفة همذان فافتتحها عنوة، ولم تكن فتحت قبل ذلك، وإليها انتهى فتوح حذيفة‏.‏ قال‏:‏ ويقال‏:‏ افتتحها جرير بن عبد الله بأمر المغيرة‏.‏

ويقال‏:‏ افتتحها المغيرة سنة أربع وعشرين‏.‏

وفيها‏:‏ افتتحت جرجان‏.‏

قال خليفة‏:‏ وفيها‏:‏ افتتح عمرو بن العاص طرابلس المغرب‏.‏

ويقال‏:‏ في السنة التي بعدها‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذا كله غرابة لنسبته إلى ما سلف والله أعلم‏.‏

قال شيخنا‏:‏ وفيها‏:‏ توفي أبي بن كعب في قول الواقدي وابن نمير والذهلي والترمذي، وقد تقدم في سنة تسع عشرة، ومعضد بن يزيد الشيباني استشهد بأذربيجان، ولا صحبه له‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين

وفيها‏:‏ وفاة عمر بن الخطاب

قال الواقدي وأبو معشر‏:‏ فيها‏:‏ كان فتح اصطخر وهمذان‏.‏

وقال سيف‏:‏ كان فتحها بعد فتح تَوَّج الآخرة‏.‏

ثم ذكر أن الذي افتتح تَوَّج مجاشع بن مسعود، بعد ما قتل من الفرس مقتله عظيمة وغنم منهم غنائم جمة، ثم ضرب الجزية على أهلها، وعقد لهم الذمة، ثم بعث بالفتح وخمس الغنائم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

ثم ذكر‏:‏ أن عثمان بن أبي العاص افتتح جور بعد قتال شديد كان عندها، ثم افتتح المسلمون اصطخر - وهذه المرة الثانية - وكان أهلها قد نقضوا العهد بعدما كان جند العلاء بن الحضرمي افتتحوها حين جاز في البحر - من أرض البحرين - والتقوا هم والفرس في مكان يقال له‏:‏ طاوس، كما تقدم بسط ذلك في موضعه‏.‏

ثم صالحه الهربد على الجزية، وأن يضرب لهم الذمة، ثم بعث بالأخماس والبشارة إلى عمر‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وكانت الرسل لها جوائز، وتقضي لهم حوائج، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاملهم بذلك‏.‏

ثم إن شهرك خلع العهد، ونقض الذمة، ونشط الفرس، فنقضوا، فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص ابنه وأخاه الحكم، فاقتلوا مع الفرس، فهزم الله جيوش المشركين، وقتل الحكم بن أبي العاص شهرك، وقتل ابنه معه أيضاً‏.‏

وقال أبو معشر‏:‏ كانت فارس الأولى واصطخر الآخرة سنة ثمان وعشرين في إمارة عثمان، وكانت فارس الآخرة، ووقعه جور، في سنة تسع وعشرين‏.‏


فتح فسا ودار أبجرد وقصة سارية بن زُنَيْم

ذكر سيف عن مشايخه‏:‏ أن سارية بن زنيم قصد فسا ودار أبجرد، فاجتمع له جموع - من الفرس والأكراد - عظيمة، ودهم المسلمين منهم أمر عظيم وجمع كثير، فرأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في وقت من النهار، وأنهم في صحراء وهناك جبل إن أسندوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فنادى من الغد الصلاة جامعة، حتى إذا كانت الساعة التي رأى أنهم اجتمعوا فيها، خرج إلى الناس وصعد المنبر، فخطب الناس وأخبرهم بصفة ما رأى، ثم قال‏:‏ يا سارية الجبلَ الجبلَ، ثم أقبل عليهم، وقال‏:‏ إن لله جنوداً ولعل بعضها أن يبلغهم‏.‏

قال‏:‏ ففعلوا ما قال عمر، فنصرهم الله على عدوهم، وفتحوا البلد‏.‏

وذكر سيف في رواية أخرى عن شيوخه‏:‏ أن عمر بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ قال‏:‏ يا سارية بن زُنَيم، الجبلَ الجبلَ‏.‏

فلجأ المسلمون إلى جبل هناك فلم يقدر العدو عليهم إلا من جهة واحدة فأظفرهم الله بهم، وفتحوا البلد‏.‏

وغنموا شيئاً كثيراً، فكان من جملة ذلك سفط من جوهر فاستوهبه سارية من المسلمين لعمر، فلما وصل إليه مع الأخماس قدم الرسول بالخمس، فوجد عمر قائماً في يده عصا وهو يطعم المسلمين سماطهم، فلما رآه عمر قال له‏:‏ اجلس - ولم يعرفه - فجلس الرجل فأكل مع الناس، فلما فرغوا انطلق عمر إلى منزله واتبعه الرجل، فاستأذن فأذن له وإذا هو قد وضع له خبز وزيت وملح، فقال‏:‏ ادن فكل‏.‏

قال‏:‏ فجلست فجعل يقول لامرأته‏:‏ ألا تخرجين يا هذه فتأكلين‏؟‏

فقالت‏:‏ إني اسمع حس رجل عندك‏.‏

فقال‏:‏ أوما ترضين أن يقال أم كلثوم بنت عمر على وامرأة عمر‏.‏

فقالت‏:‏ ما أقل غناء ذلك عني‏.‏

ثم قال للرجل‏:‏ ادن فكل، فلو كانت راضية لكان أطيب مما ترى‏.‏ فـأكلا فلما فرغا قال‏:‏ أنا رسول سارية بن زنيم يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ مرحباً وأهلاً، ثم أدناه حتى مست ركبته ركبته، ثم سأله عن المسلمين، ثم سأله عن سارية بن زنيم فأخبره، ثم ذكر له شأن السفط من الجوهر، فأبى أن يقبله، وأمر برده إلى الجند‏.‏

وقد سأل أهل المدينة رسول سارية عن الفتح فأخبرهم فسألوه‏:‏ هل سمعوا صوتاً يوم الوقعة‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏ سمعنا قائلاً يقول‏:‏ يا سارية الجبل، وقد كدنا نهلك فلجأنا إليه، ففتح الله‏.‏

ثم رواه سيف‏:‏ عن مجالد، عن الشعبي بنحو هذا‏.‏

وقال عبد الله بن وهب‏:‏ عن يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ أن عمر وجه جيشاً، ورأس عليهم رجلاً يقال له‏:‏ سارية، قال‏:‏ فبينما عمر يخطب فجعل ينادي‏:‏ يا ساري الجبل يا ساري الجبل، ثلاثاً‏.‏

ثم قدم رسول الجيش فسأله عمر فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هزمنا، فبينما نحن كذلك إذا سمعنا منادياً‏:‏ يا سارية الجبل ثلاثاً، فأسندنا ظهورنا بالجبل، فهزمهم الله‏.‏

قال‏:‏ فقيل لعمر‏:‏ إنك كنت تصيح بذلك‏.‏

وهذا إسناد جيد حسن‏.‏
وقال الواقدي‏:‏ حدثني نافع بن أبي نعيم، عن نافع مولى ابن عمر أن عمر قال على المنبر‏:‏ يا سارية بن زنيم الجبل، فلم يدر الناس ما يقول حتى قدم سارية بن زنيم المدينة على عمر فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، كنا محاصري العدو فكنا نقيم الأيام لا يخرج علينا منهم أحد، نحن في خفض من الأرض وهم في حصن عال، فسمعت صائحاً ينادي بكذا وكذا‏:‏ يا سارية بن زنيم الجبل، فعلوت بأصحابي الجبل، فما كان إلا ساعة حتى فتح الله علينا‏.‏

وقد رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي‏:‏ من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر بنحوه، وفي صحته من حديث مالك نظر‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني أسامة بن زيد، عن أسلم، عن أبيه، وأبو سليمان، عن يعقوب بن زيد قالا‏:‏ خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الجمعة إلى الصلاة، فصعد المنبر ثم صاح‏:‏ يا سارية بن زنيم الجبل، يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، ثم خطب حتى فرغ‏.‏

فجاء كتاب سارية إلى عمر‏:‏ أن الله قد فتح علينا يوم الجمعة ساعة كذا وكذا - لتلك الساعة التي خرج فيها عمر فتكلم على المنبر - قال سارية‏:‏


فسمعت صوتاً‏:‏ يا سارية بن زنيم الجبل، يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، فعلوت بأصحابي الجبل، ونحن قبل ذلك في بطن واد، ونحن محاصروا العدو، ففتح الله علينا‏.‏

فقيل لعمر بن الخطاب‏:‏ ما ذلك الكلام ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ والله ما ألقيت له إلا بشيء ألقي علي لساني‏.‏

فهذه طرق يشد بعضها بعضاً‏.‏

فتح كرمان وسجستان ومكران

ثم ذكر ابن جرير طريق سيف عن شيوخه فتح كرمان على يدي سهيل بن عدي، وأمده عبد الله بن عبد الله بن عتبان‏.‏

وقيل‏:‏ على يدي عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وذكر فتح سجستان على يدي عاصم بن عمرو، بعد قتال شديد وكانت ثغورها متسعة، وبلادها متنائية، ما بين السند إلى نهر بلخ، وكانوا يقاتلون القُنْدُهار، والترك من ثغورها وفروجها‏.‏

وذكر فتح مكران على يدي الحكم بن عمرو، وأمده بشهاب بن المخارق بن شهاب، وسهيل بن عدي، وعبد الله بن عبد الله، واقتتلوا مع ملك السند فهزم الله جموع السند، وغنم المسلمون منهم غنيمة كثيرة، وكتب الحكم بن عمرو بالفتح، وبعث بالأخماس مع صحار العبدي‏.‏

فلما قدم على عمر سأله عن أرض مكران فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وثمرها دَقَلْ، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وماوراءها شر منها‏.‏

فقال عمر‏:‏ أسَجَّاعٌ أنت أم مخبر ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ لا بل مخبر، فكتب عمر إلى الحكم بن عمرو أن لا يغزو بعد ذلك مكران، وليقتصروا على مادون النهر‏.‏

وقد قال الحكم بن عمر في ذلك‏:‏

لقد شبع الأرامل غير فخر * بفيء جاءهم من مكرانِ

أتاهم بعد مسغبة وجهد * وقد صَفَر الشتاء من الدخانِ

فإني لا يذم الجيش فعلي * ولا سيفي يذم ولا لساني

غداة أدافع الأوباش دفعاً * إلى السند العريضة والمداني

ومهران لنا فيما أردنا * مطيع غير مسترخي العناني

فلولا ما نهى عنه أميري * قطعناه إلى البدد الزواني

غزة الأكراد

ثم ذكر ابن جرير بسنده عن سيف، عن شيوخه‏:‏ أن جماعة من الأكراد، والتف إليهم طائفة من الفرس اجتمعوا، فلقيهم أبو موسى بمكان من أرض بيروذ قريب من نهر تيري، ثم سار عنهم أبو موسى إلى أصبهان، وقد استخلف على حربهم الربيع بن زياد بعد مقتل أخيه المهاجر بن زياد، فتسلم الحرب وحنق عليهم، فهزم الله العدو، وله الحمد والمنة، كما هي عادته المستمرة، وسنته المستقرة، في عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين، من أتباع سيد المرسلين‏.‏
ثم خمست الغنيمة، وبعث بالفتح والخمس إلى عمر رضي الله عنه، وقد سار ضبة بن محصن العنزي فاشتكى أبا موسى إلى عمر، وذكر عنه أموراً لا ينقم عليه بسببها، فاستدعاه عمر فسأله عنها، فاعتذر منها بوجوه مقبولة فسمعها عمرو وقبلها، ورده إلى عمله، وعذر ضبه فيما تأوله، ومات عمر وأبو موسى على صلاة البصرة‏.‏

خبر سلمة بن قيس الأشجعي والأكراد

بعثه عمر على سرية ووصاه بوصايا كثيرة بمضمون حديث بريدة في صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اغزوا بسم الله، قاتلوا من كفر بالله‏)‏‏)‏ الحديث إلى آخره‏.‏

فساروا فلقوا جمعاً من المشركين، فدعوهم إلى إحدى ثلاث خلال، فأبوا أن يقبلوا واحدة منها، فقاتلوهم فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وغنموا أموالهم‏.‏

ثم بعث سلمة بن قيس رسولاً إلى عمر بالفتح وبالغنائم، فذكروا وروده على عمر، وهو يطعم الناس، وذهابه معه إلى منزله، كنحو ما تقدم من قصة أم كلثوم بنت علي، وطلبها الكسوة كما يكسي طلحة وغيرة أزواجهم‏.‏

فقال‏:‏ ألا يكفيك أن يقال‏:‏ بنت علي، وامرأة أمير المؤمنين، ثم ذكر طعامه الخشن وشرابه من سلت، ثم شرع يستعمله عن أخبار المهاجرين، وكيف طعامهم وأشعارهم، وهل يأكلون اللحم الذي هو شجرتهم، ولا بقاء للعرب دونه شجرتهم، وذكر عرضه عليه ذلك السفط من الجوهر، فأبى أن يأخذه، وأقسم على ذلك، وأمره بأن يرده فيقسم بين الغانمين‏.‏

وقد أورده ابن جرير مطولاً جداً‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة حج عمر بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي آخر حجة حجها رضي الله عنه‏.‏

قال‏:‏ وهي هذه السنة كانت وفاته، ثم ذكر صفة قتله مطولاً أيضاً، وقد ذكرت ذلك مستقصى في آخر سيرة عمر، فليكتب من هناك إلى هنا‏.‏

وهو‏:‏ عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشي، أبو حفص العدوي، الملقب‏:‏ بالفاروق‏.‏

قيل‏:‏ لقبه بذلك أهل الكتاب، وأمه‏:‏ حنتمة بنت هشام أخت أبي جهل بن هشام‏.‏

أسلم عمر وعمره سبع وعشرين سنة، وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج في عدة سرايا، وكان أميراً على بعضها، وهو أول من دعي أمير المؤمنين، وأول من كتب التاريخ، وجمع الناس على التراويح‏.‏

وأول من عس بالمدينة، وحمل الدرة وأدب بها، وجلد في الخمر ثمانين، وفتح الفتوح، ومصر الأمصار، وجند الأنجاد، ووضع الخراج، ودون الدواوين، وعرض الأعطية، واستقضى القضاة، وكور الكور، مثل‏:‏ السواد والآهواز والجبال وفارس وغيرها، وفتح الشام كله، والجزيرة، والموصل، وميافارقين، وأرمينية، ومصر، وإسكندرية‏.‏

ومات عساكره على بلاد الري‏.‏ فتح من الشام اليرموك وبصرى ودمشق والأردن وبيسان وطبرية والجابية، وفلسطين والرملة وعسقلان، وغزة، والسواحل، والقدس، وفتح مصر، وإسكندرية، وطرابلس الغرب، وبرقة‏.‏

ومن مدن الشام‏:‏ بعلبك وحمص وقنسرين وحلب وأنطاكية، وفتح الجزيرة وحران والرها والرقة ونصيبين ورأس عين وشمشاط وعين وردة وديار بكر وديار ربيعة وبلاد الموصل وأرمينية جميعها‏.‏

وبالعراق‏:‏ القادسية والحيرة ونهرسير وساباط ومدائن كسرى وكورة الفرات ودجلة والأبلة والبصرة والأهواز وفارس ونهاوند وهمذان والري وقومس وخراسان، واصطخر، وأصبهان، والسوس، ومرو، ونيسابور، وجرجان، وأذربيجان، وغير ذلك‏.‏

وقطعت جيوشه النهر مراراً، وكان متواضعاً في الله، خشن العيش، خشن المطعم، شديداً في ذات الله، يرقع الثوب بالأديم، ويحمل القربة على كتفه مع عظم هيبته، ويركب الحمار عرياً، والبعير مخطوماً بالليف، وكان قليل الضحك لا يمازح أحداً، وكان نقش خاتمه‏:‏ كفى بالموت واعظاً يا عمر‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أشد أمتي في دين الله عمر‏)‏‏)‏‏.‏

وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن لي وزيرين من أهل السماء، ووزيرين من أهل الأرض، فوزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر، وإنهما السمع والبصر‏)‏‏)‏‏.‏

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الشيطان يفرق من عمر‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر‏)‏‏)‏‏.‏

وقيل لعمر‏:‏ إنك قضاء‏.‏

فقال‏:‏ الحمد لله الذي ملأ له قلبي رحماً، وملأ قلوبهم لي رعباً‏.‏

وقال عمر‏:‏ لا يحل لي من مال الله إلا حلتان‏:‏ حلة للشتاء وحلة للصيف، وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم، ثم أنا رجل من المسلمين‏.‏

وكان عمر إذا استعمل عاملاً‏:‏ كتب له عهداً وأشهد عليه رهطاً من المهاجرين، واشترط عليه أن لا يركب برذوناً، ولا يأكل نقياً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات‏.‏

فإن فعل شيئاً من ذلك، حملت عليه العقوبة‏.‏

وقيل‏:‏ أنه كان إذا حدثه الرجل بالحديث فيكذب فيه الكلمة والكلمتين فيقول عمر‏:‏ احبس هذه، احبس هذه، فيقول الرجل‏:‏ والله كلما حدثتك به حق غير ما أمرتني أن أحبسه‏.‏

وقال معاوية بن أبي سفيان‏:‏ أما أبو بكر فلم يرد الدنيا، وأما عمر فأرادته فلم يردها، وأما نحن فتمرغنا فيها ظهراً لبطن‏.‏

وعوتب عمر فقيل له‏:‏ لو أكلت طعاماً طيباً كان أقوى لك على الحق ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ إني تركت صاحبي على جادة، فإن أدركت جادتهما فلم أدركهما في المنزل، وكان يلبس وهو خليفة جبة صوف مرقوعة بعضها بأدم، ويطوف بالأسواق على عاتقه الدرة يؤدب بها الناس، وإذا مر بالنوى وغيره يلتقطه ويرمي به في منازل الناس ينتفعون به‏.‏

قال أنس‏:‏ كان بين كتفي عمر أربع رقاع، وإزاره بأدم‏.‏ وخطب على المنبر وعليه إزار فيه اثني عشر رقعة، وأنفق في حجته ستة عشر ديناراً، وقال لابنه‏:‏ قد أسرفنا‏.‏

وكان لا يستظل بشيء غير أنه كان يلقي كساءه على الشجرة ويستظل تحته، وليس له خيمة ولا فسطاط‏.‏


ولما قدم الشام لفتح بيت المقدس كان على جمل أورق تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة، قد طبق رجليه بين شعبي الرحل بلا ركاب، ووطاؤه كبش صوف، وهو فراشه إذا نزل، وحقيبته محشوة ليفاً، وهي وسادته إذا نام‏.‏

وعليه قميص من كرابيس قد رسم وتخرق جيبه، فلما نزل قال‏:‏ ادعوا لي رأس القرية، فدعوه‏.‏

فقال‏:‏ اغسلوا قميصي وخيطوه، وأعيروني قميصاً، فأتي بقميص كتان، فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏

فقيل‏:‏ كتان‏.‏

فقال‏:‏ فما الكتان ‏؟‏‏.‏

فأخبروه، فنزع قميصه فغسلوه وخاطوه ثم لبسه‏.‏

فقال له‏:‏ أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا يصلح فيها ركوب الإبل‏.‏ فأتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل، فلما سار جعل البرذون يهملج به‏.‏

فقال لمن معه‏:‏ احبسوا، ما كنت أظن الناس يركبون الشياطين، هاتوا جملي‏.‏ ثم نزل وركب الجمل‏.‏

وعن أنس قال‏:‏ كنت مع عمر، فدخل حائطاً لحاجته، فسمعته يقول - بيني وبينه جدار الحائط - عمر بن الخطاب أمير المؤمنين‏:‏ بخ بخ، والله لتتقين الله بني الخطاب أو ليعذبنك‏.‏

وقيل‏:‏ أنه حمل قربة على عاتقه، فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها ‏؟‏

وكان يصلي بالناس العشاء، ثم يدخل بيته فلا يزال يصلي إلى الفجر‏.‏

وما مات حتى سرد الصوم، وكان في عام الرمادة لا يأكل إلا الخبز والزيت، حتى أسود جلده، ويقول‏:‏ بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع‏.‏


وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء، وكان يسمع الآية من القرآن فيغشى عليه، فيحمل صريعاً إلى منزله فيعاد أياما ليس به مرض إلا الخوف‏.‏


وقال طلحة بن عبد الله‏:‏ خرج عمر ليلة في سواد الليل فدخل بيتاً، فلما أصبحت ذهبت إلى ذلك البيت فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقلت لها‏:‏ ما بال هذا الرجل يأتيكي ‏؟‏

فقالت‏:‏ إنه يتعاهدني مدة كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى‏.‏

فقلت لنفسي‏:‏ ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع ‏؟‏‏.‏

وقال أسلم مولى عمر‏:‏ قدم المدينة رفقة من تجار فنزلوا المصلى، فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف‏:‏ هل لك أن نحرسهم الليلة ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏

فباتا يحرسانهم ويصليان، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه، فقال لأمه‏:‏ اتق الله تعالى وأحسني إلى صبيك‏.‏

ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه، فعاد إلى أمه فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه‏.‏

فلما كان آخر الليل سمع بكاء الصبي فأتى إلى أمه، فقال لها‏:‏ ويحك إنك أم سوء مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة من البكاء‏؟‏‏!‏

فقالت‏:‏ يا عبد الله إن أشغله عن الطعام فيأبى ذلك‏.‏

قال‏:‏ ولم ‏؟‏‏.‏

قالت‏:‏ لأن عمر لا يفرض إلا للمفطوم‏.‏

قال‏:‏ وكم عمر ابنك هذا ‏؟‏‏.‏

قالت‏:‏ كذا وكذا شهراً‏.‏

فقال‏:‏ ويحك، لا تعجليه عن الفطام‏.‏

فلما صلى الصبح وهو لا يستبين للناس قراءته من البكاء، قال‏:‏ بؤساً لعمر كم قتل من أولاد المسلمين‏.‏

ثم أمر مناديه فنادى‏:‏ لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق‏.‏

وقال أسلم‏:‏ خرجت ليلة مع عمر إلى ظاهر المدينة، فلاح لنا بيت شعر فقصدناه، فإذا فيه امرأة تمخض وتبكي، فسألها عمر عن حالها فقالت‏:‏ أنا امرأة عربية، وليس عندي شيء، فبكى عمر، وعاد يهرول إلى بيته فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب‏:‏ هل لك في أجرٍ ساقه الله إليك‏؟‏ وأخبرها الخبر‏.‏

فقالت‏:‏ نعم، فحمل على ظهره دقيقاً وشحماً، وحملت أم كلثوم ما يصلح للولادة، وجاءا، فدخلت أم كلثوم على المرأة، وجلس عمر مع زوجها - وهو لا يعرفه - يتحدث، فوضعت المرأة غلاماً فقالت أم كلثوم‏:‏ يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام‏.‏

فلما سمع الرجل قولها استعظم ذلك، وأخذ يعتذر إلى عمر‏.‏

فقال عمر‏:‏ لا بأس عليك، ثم أوصلهم بنفقة وما يصلحهم وانصرف‏.‏

وقال أسلم‏:‏ خرجت ليلة مع عمر إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بصرار إذا بنار، فقال‏:‏ يا أسلم، ههنا ركب قد قصر بهم الليل انطلق بنا إليهم، فأتيناهم فإذا امرأة معها صبيان لها وقدر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون‏.‏

فقال عمر‏:‏ السلام عليكم يا أصحاب الضوء‏.‏

قالت‏:‏ وعليك السلام‏.‏

قال‏:‏ ادنو‏.‏

قالت‏:‏ ادن أو دع، فدنا‏.‏

فقال‏:‏ ما بالكم‏؟‏

قالت‏:‏ قصر بنا الليل والبرد‏.‏

قال‏:‏ فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون‏؟‏

قالت‏:‏ من الجوع‏.‏

فقال‏:‏ وأي شيء على النار‏.‏

قالت‏:‏ ماء أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر‏.‏

فبكى عمر ورجع يهرول إلى دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق وجراب شحم‏.‏

وقال‏:‏ يا أسلم، احمله على ظهري‏.‏

فقلت‏:‏ أنا أحمله عنك‏.‏

فقال‏:‏ أنت تحمل وزري يوم القيامة ‏؟‏‏.‏

فحمله على ظهره، وانطلقنا إلى المرأة، فألقي عن ظهره، وأخرج من الدقيق في القدر، وألقى عليه من الشحم، وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل لحيته ساعة، ثم أنزلها عن النار، وقال‏:‏ ايتني بصحفة فأتي بها فغرفها، ثم تركها بين يدي الصبيان، وقال‏:‏ كلوا فأكلوا حتى شبعوا - والمرأة تدعوا له وهي لا تعرفه - فلم يزل عندهم حتى نام الصغار، ثم أوصلهم بنفقة وانصرف، ثم أقبل علي فقال‏:‏ يا أسلم، الجوع الذي أسهرهم وأبكاهم‏.‏

وقيل‏:‏ إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رأى عمر وهو يعدو إلى ظاهر المدينة، فقال له‏:‏ إلى أين يا أمير المؤمنين ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ قد ند بعير من إبل الصدقة، فأنا أطلبه‏.‏

فقال‏:‏ قد أتعبت الخلفاء من بعدك‏.‏

وقيل‏:‏ أنه رأى جارية تتمايل من الجوع‏.‏

فقال‏:‏ من هذه ‏؟‏‏.‏

فقالت‏:‏ ابنة عبد الله هذه ابنتي‏.‏

قال‏:‏ فما بالها ‏؟‏‏.‏

فقالت‏:‏ إنك تحبس عنا ما في يدك، فيصيبنا ما ترى‏.‏

فقال‏:‏ يا عبد الله، بيني وبينكم كتاب الله، والله أعطيكم إلا ما فرض الله لكم، أتريدون مني أن أعطيكم ما ليس لكم‏؟‏ فأعود خائناً ‏؟‏

روي ذلك عن الزهري‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثنا أبو حمزة يعقوب بن مجاهد عن محمد بن إبراهيم عن أبي عمر قال‏:‏ قلت لعائشة‏:‏ من سمى عمر الفاروق أمير المؤمنين ‏؟‏‏.‏

قالت‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أمير المؤمنين هو‏)‏‏)‏‏.‏

وأول من حياه بها المغيرة بن شعبة، وقيل‏:‏ غيره‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني أحمد بن عبد الصمد الأنصاري، حدثتني أم عمر وبنت حسان الكوفية - وكان قد أتى عليها مائة وثلاثون سنة -، عن أبيها قال‏:‏ لما ولي عمر قالوا‏:‏ يا خليفة خليفة رسول الله ‏؟‏‏.‏

فقال عمر‏:‏ هذا أمر يطول، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فسمي أمير المؤمنين‏.‏

وملخص ذلك‏:‏ أنه رضي الله عنه لما فرغ من الحج سنة ثلاث وعشرين ونزل بالأبطح، دعا الله عز وجل، وشكا إليه أنه قد كبرت سنه وضعفت قوته، وانتشرت رعيته، وخاف من التقصير، وسأل الله أن يقبضه إليه، وأن يمن عليه بالشهادة في بلد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

كما ثبت عنه في الصحيح‏:‏ أنه كان يقول‏:‏ اللهم إني أسالك شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، فاستجاب له الله هذا الدعاء، وجمع له بين هذين الأمرين الشهادة في المدينة النبوية، وهذا عزيز جداً‏.‏

ولكن الله لطيف بمن يشاء تبارك وتعالى، فاتفق له أن ضربه أبو لؤلؤة فيروز المجوسي الأصل، الرومي الدار، وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الصبح من يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة من هذه السنة، بخنجر ذات طرفين، فضربه ثلاث ضربات‏.‏

وقيل‏:‏ ست ضربات، إحداهن تحت سرته قطعت السفاق، فخر من قامته‏.‏

واستخلف عبد الرحمن بن عوف، ورجع العلج بخنجره لا يمر بأحد إلا ضربه، حتى ضرب ثلاثة عشر رجلاً مات منهم ستة، فألقى عليه عبد الله بن عوف برنساً فانتحر نفسه، لعنه الله‏.‏

وحمل عمر إلى منزله والدم يسيل من جرحه - وذلك قبل طلوع الشمس - فجعل يفيق ثم يغمى عليه، ثم يذكرونه بالصلاة فيفيق، ويقول‏:‏ نعم‏.‏

ولا حظَّ في الإسلام لمن تركها‏.‏

ثم صلى في الوقت، ثم سأل عمن قتله من هو‏؟‏

فقالوا له‏:‏ أبو لؤلؤة، غلام المغيرة بن شعبة‏.‏

فقال‏:‏ الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يدي رجل يدعي الإيمان، ولم يسجد لله سجدة‏.‏

ثم قال‏:‏ قبحه الله، لقد كنا أمرنا به معروفاً - وكان المغيرة قد ضرب عليه في كل يوم درهمين ثم سأل من عمر أن يزيد في خراجه فإنه نجار نقاش حداد، فزاد في خراجه إلى مائة في كل شهر -‏.‏

وقال له‏:‏ لقد بلغني أنك تحسن أن تعمل رحاً تدور بالهواء‏؟‏

فقال أبو لؤلؤة‏:‏ أما والله لأعملن لك رحاً يتحدث عنها الناس في المشارق والمغارب - وكان هذا يوم الثلاثاء عشية - وطعنه صبيحة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة‏.‏

وأوصى عمر‏:‏ أن يكون الأمر شورى بعده في ستة ممن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم وهم‏:‏ عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص‏.‏

ولم يذكر سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي فيهم، لكونه من قبيلته، خشية أن يراعي في الإمارة بسببه، وأوصى من يستخلف بعده بالناس خيراً على طبقاتهم ومراتبهم، ومات رضي الله عنه بعد ثلاث، ودفن يوم الأحد، مستهل المحرم من سنة أربع وعشرين بالحجرة النبوية إلى جانب الصديق، عن إذن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في ذلك، وفي ذلك اليوم حكم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏


قال الواقدي رحمه الله‏:‏ حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن أبيه قال‏:‏ طعن عمر يوم الأربعاء لأربع ليالٍ بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم، سنة أربع وعشرين، فكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وإحدى وعشرين يوماً، وبويع لعثمان يوم الاثنين، لثلاث مضين من المحرم‏.‏

قال‏:‏ فذكرت ذلك لعثمان الأخنس، فقال‏:‏ ما أراك إلا وهللت‏.‏

توفي عمر لأربع ليال بقين من ذي الحجة، وبويع لعثمان لليلة بقيت من ذي الحجة، فاستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين‏.‏

وقال أبو معشر‏:‏ قتل عمر لأربع بقين من ذي الحجة تمام سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وبويع عثمان بن عفان‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثت عن هشام بن محمد قال‏:‏ قتل عمر لثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين، فكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام‏.‏

وقال سيف‏:‏ عن خليد بن وفرة ومجالد قالا‏:‏ استخلف عثمان لثلاث من المحرم، فخرج فصلى بالناس صلاة العصر‏.‏

وقال علي بن محمد المدائني‏:‏ عن شريك، عن الأعمش - أو جابر الجعفي - عن عوف بن مالك الأشجعي، وعامر بن أبي محمد، عن أشياخ من قومه، وعثمان بن عبد الرحمن عن الزهري قال‏:‏ طعن عمر يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي الحجة، والقول الأول هو الأشهر‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

صفته رضي الله عنه

كان رجلاً طوالاً أصلع أعسر أيسر أحور العينين، آدم اللون، وقيل‏:‏ كان أبيض شديد البياض تعلوه حمرة أشنب الأسنان، وكان يصفر لحيته، ويرجل رأسه بالحناء‏.‏

واختلف في مقدار سنه يوم مات رضي الله عنه على أقوال عدتها - عشرة -‏.‏

فقال ابن جرير‏:‏ حدثنا زيد بن أحزم، ثنا أبو قتيبة، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ قتل عمر بن الخطاب، وهو ابن خمس وخمسين سنة‏.‏

ورواه الدرواردي عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر‏.‏

وقاله عبد الرزاق عن، ابن جريج، عن الزهري‏.‏

ورواه أحمد، عن هشيم، عن علي بن زيد، عن سالم بن عبد الله بن عمر، وعن نافع رواية أخرى ست وخمسون سنة‏.‏

قال ابن جرير، وقال آخرون‏:‏ كان عمره ثلاث وخمسين سنة، حدثت بذلك عن هشام بن محمد‏.‏

ثم روى عن عامر الشعبي‏:‏ أنه توفي وله ثلاث وستون سنة‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم في عمر الصديق مثله، وروي عن قتادة أنه قال‏:‏ توفي عمر وهو ابن إحدى وستين سنة‏.‏

وعن ابن عمر والزهري‏:‏ خمس وستون‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ ست وستون‏.‏

وروى ابن جرير عن أسلم مولى عمر أنه قال‏:‏ توفي وهو ابن ستين سنة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وهذا أثبت الأقاويل عندنا‏.‏

وقال المدائني‏:‏ توفي عمر، وهو ابن سبع وخمسين سنة‏.‏

ذكر زوجاته وأبنائه وبناته

قال الواقدي، وابن الكلبي، وغيرهما‏:‏ تزوج عمر في الجاهلية زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن الأكبر، وحفصة رضي الله عنهم‏.‏

وتزوج مليكة بنت جرول فولدت له عبيد الله فطلقها في الهدنة، فخلف عليها أبو الجهم بن حذيفة، قاله المدائني‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ هي أم كلثوم بنت جرول فولدت له عبيد الله، وزيداً الأصغر‏.‏

قال المدائني‏:‏ وتزوج قريبة بنت أبي أمية المخزومي ففارقها في الهدنة، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن أبي بكر‏.‏

قالوا‏:‏ وتزوج أم حكيم بنت الحارث بن هشام بعد زوجها - حين قتل في الشام - فولدت له فاطمة‏.‏

ثم طلقها قال المدائني، وقيل‏:‏ لم يطلقها‏.‏

قالوا‏:‏ وتزوج جميلة بنت عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح من الأوس‏.‏

وتزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي مليكة، ولما قتل عمر تزوجها بعده الزبير بن العوام رضي الله عنهم، ويقال‏:‏ هي أم ابنه عياض فالله أعلم‏.‏

قال المدائني‏:‏ وكان قد خطب أم كلثوم ابنة أبي بكر الصديق وهي صغيرة وراسل فيها عائشة‏.‏

فقالت أم كلثوم‏:‏ لا حاجة لي فيه، فقالت عائشة‏:‏ أترغبين عن أمير المؤمنين ‏؟‏‏.‏

قالت‏:‏ نعم، إنه خشن العيش‏.‏

فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فصده عنها ودله على أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، ومن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ تعلق منها بسبب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبها من علي فزوجه إياها، فأصدقها عمر رضي الله عنه أربعين ألفاً، فولدت له زيداً ورقية‏.‏

قالوا‏:‏ وتزوج لهية - امرأة من اليمن - فولدت له عبد الرحمن الأصغر، وقيل‏:‏ الأوسط‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ هي أم ولد وليست زوجة‏.‏

قالوا‏:‏ وكانت عنده فكيهة أم ولد فولدت له زينب‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وهي أصغر ولده‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وخطب أم أبان بنت عتبة بن شيبة فكرهته وقالت‏:‏ يغلق بابه ويمنع خيره ويدخل عابساً ويخرج عابساً‏.‏


قلت‏:‏ فجملة أولاده رضي الله عنه وأرضاه ثلاثة عشر ولداً، وهم‏:‏ زيد الأكبر، وزيد الأصغر، وعاصم، وعبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، وعبد الرحمن الأوسط قال الزبير بن بكار‏:‏ وهو أبو شحمة، وعبد الرحمن الأصغر، وعبيد الله، وعياض، وحفصة، ورقية، وزينب، وفاطمة رضي الله عنهم‏.‏

ومجموع نسائه اللاتي تزوجهن في الجاهلية والإسلام ممن طلقهن أو مات عنهن سبع، وهن‏:‏ جميلة بنت عاصم بن ثابت بن الأقلح، وزينب بنت مظعون، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وقريبة بنت أبي أمية، ومليكة بنت جرول، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام، وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وأم كلثوم أخرى وهي‏:‏ مليكة بنت جرول‏.‏

وكانت له أمتان له منهما أولاد، هما‏:‏ فكيهة، ولهية، وقد اختلف في لهية هذه، فقال بعضهم‏:‏ كانت أم ولد وقال بعضهم‏:‏ كان أصلها من اليمن وتزوجها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‏.‏ فالله أعلم‏.‏

ذكر بعض ما رثي به

قال علي بن محمد المدائني‏:‏ عن ابن داب وسعيد بن خالد، عن صالح بن كيسان، عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ لما مات عمر بكته ابنة أبي خيثمة فقالت‏:‏ واعمراه، أقام الأود وأبرَّ العهد، أمات الفتن وأحيا السنن، خرج نقي الثوب برياً من العيب‏.‏

قال‏:‏ فقال علي بن أبي طالب‏:‏ والله لقد صدقت، ذهب بخيرها، ونجا من شرها، أما والله ما قالت ولكن قولت‏.‏

وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل في زوجها عمر‏:‏

فجعني فيروز لا در دره * بأبيض تال للكتاب منيب

رؤوف على الأدنى غليظ على العدى * أخى ثقة في النائبات نجيب

متى ما يقل لا يكذب القول فعله * سريع إلى الخيرات غير قطوب

وقالت أيضاً‏:‏

عين جودي بعبرة ونحيب * لا تملي على الإمام النجيب

فجعتنا المنون بالفارس العيـ * ـلم يوم الهياج والتلبيب

عصمة الناس والمعين على الدهـ * ـر وغيث المنتاب والمحروب

قل لأهل السراء والبؤس موتوا * قد سقته المنون كأس سغوب

وقالت امرأة من المسلمين تبكيه‏:‏

سيبكيك نساء الحـ * ـي يبكين شجيات

ويخمشن وجوهاً * كالدنانير نقيات

ويلبسن ثياب الحز * ن بعد القصبيات

وقد ذكر ابن جرير ترجمة طويلة لعمر بن الخطاب، وكذلك أطال ابن الجوزي في سيرته، وشيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في ‏(‏تاريخه‏)‏، وقد جمعنا متفرقات كلام الناس في مجلد مفرد، وأفردنا لما أسنده وروي عنه من الأحكام مجلداً آخر كبيراً مرتباً على أبواب الفقه ولله الحمد‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة توفي قتادة بن النعمان‏.‏

وفيها‏:‏ غزا معاوية الصائفة حتى بلغ عمورية ومعه من الصحابة عبادة بن الصامت، وأبو أيوب، وأبو ذر، وشداد بن أوس‏.‏

وفيها‏:‏ فتح معاوية عسقلان صلحاً‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ كان على قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة كعب بن سوار، قال‏:‏ وأما مصعب الزبيري، فإنه ذكر أن مالكاً روى عن الزهري أن أبا بكر وعمر لم يكن لهما قاضٍ‏.‏

وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في ‏(‏تاريخه‏)‏ في سنة ثلاث وعشرين‏.‏

فيها‏:‏ كانت قصة سارية بن زنيم‏.‏

وفيها‏:‏ فتحت كرمان، وأميرها سهيل بن عدي‏.‏

وفيها‏:‏ فتحت سجستان، وأميرها عاصم بن عمرو‏.‏

وفيها‏:‏ فتحت مكران، وأميرها الحكم بن أبي العاص أخو عثمان، وهي من بلاد الجبل‏.‏

وفيها‏:‏ رجع أبو موسى الأشعري من بلاد أصبهان، وقد افتتح بلادها‏.‏

وفيها‏:‏ غزا معاوية الصائفة حتى بلغ عمورية‏.‏

ثم ذكر وفاة من مات فيها‏.‏

فمنهم‏:‏ قتادة بن النعمان الأنصاري الأوسي الظفري أخو أبي سعيد الخدري لأمه، وقتادة أكبر منه، شهد بدراً وأصيبت عينه في يوم أحد حتى وقعت على خده فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت أحسن عينيه، وكان من الرماة المذكورين، وكان على مقدمة عمر حين قدم إلى الشام، توفي في هذه السنة على المشهور عن خمس وستين سنة‏.‏

ونزل عمر في قبره، وقيل‏:‏ أنه توفي في التي قبلها‏.‏

ثم ذكر ترجمة عمر بن الخطاب فأطال فيها، وأكثر وأطنب، وأتى بمقاصد كثيرة مهمة، وفوائد جمة، وأشياء حسنة، فأثابه الله الجنة‏.‏

ثم قال‏:‏ ذكر من توفي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

الأقرع بن حابس

ابن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي المجاشعي‏.‏


قال ابن دريد‏:‏ واسمه فراس بن حابس، ولقب‏:‏ بالأقرع، لقرع في رأسه، وكان أحد الرؤساء، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد بني تميم، وهو الذي نادى من وراء الحجرات‏:‏ يا محمد إن مدحي زين، وذمي شين، وهو القائل - وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن - أتقبله ‏؟‏‏!‏ والله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أملك إن نزع الله الرحمة من قلبك‏)‏‏)‏‏.‏

وكان ممن تألفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه يوم حنين مائة من الإبل، وكذلك لعيينة بن حصن الفزاري، وأعطى عباس بن مرداس خمسين من الإبل فقال‏:‏

أتجعل نهبي ونهب العبيـ * ـد بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما * ومن يخفض اليوم لا يرفع

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت القائل‏:‏

أتجعل نهبي ونهب العبيـ * ـد بين عيينة والأقرع‏)‏‏)‏‏.‏

رواه البخاري قال السهيلي‏:‏ إنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الأقرع قبل عيينة لأن الأقرع كان خيراً من عيينة، ولهذا لم يرتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما ارتد عيينة، فبايع طليحة وصدقه، ثم عاد‏.‏

والمقصود‏:‏ أن الأقرع كان سيداً مطاعاً، وشهد مع خالد وقائعه بأرض العراق، وكان على مقدمته يوم الأنبار‏.‏

ذكره شيخنا فيمن توفي في خلافة عمر بن الخطاب‏.‏

والذي ذكره ابن الأثير في الغابة‏:‏ أنه استعمله عبد الله بن عامر على جيش، وسيره إلى الجوزجان فقتل وقتلوا جميعاً، وذلك في خلافة عثمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

حباب من المنذر

ابن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة أبو عمر، ويقال‏:‏ أبو عمرو الأنصاري الخزرجي السلمي‏.‏

ويقال له‏:‏ ذو الرأي لأنه أشار يوم بدر أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء يكون إلى القوم، وأن يغور ما وراءهم من القلب، فأصاب في هذا الرأي، ونزل الملك بتصديقه‏.‏

وأما قوله يوم السقيفة‏:‏ إنا جذيلها المحكك، ومزيجها المرجب، منا أمير ومنكم أمير‏.‏ فقد رده عليه الصديق والصحابة‏.‏

ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب

عتبة بن مسعود الهذلي، هاجر مع أخيه لأبويه، عبد الله إلى الحبشة شهد أحداً وما بعدها‏.‏

قال الزهري‏:‏ ما كان عبد الله بأفقه منه، ولكن مات عتبة قبله، وتوفي زمن عمر على الصحيح، ويقال‏:‏ في زمن معاوية سنة أربع وأربعين‏.‏



علقمة بن علاثة

ابن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الكلابي، أسلم عام الفتح، وشهد حنيناً وأعطي يومئذ مائة من الإبل تأليفاً لقلبه‏.‏

وكان يكون بتهامة وكان شريفاً مطاعاً في قومه، وقد ارتد أيام الصديق، فبعث إليه سرية فانهزم ثم أسلم وحسن إسلامه، ووفد على عمر في خلافته، وقدم دمشق في طلب ميراث له ثَمَّ، ويقال‏:‏ استعمله عمر على حوران فمات بها، وقد كان الحطيئة قصده ليمتدحه فمات قبل مقدمه بليالٍ، فقال‏:‏

فما كان بيني لو لقيتك سالماً * وبين الغنى إلا ليال قلائل

علقمة بن مجزز

ابن الأعور بن جعدة بن معاذ بن عتوارة بن عمرو بن مدلج الكناني المدلجي، أحد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، على بعض السرايا، وكانت فيه دعابة، فأجج ناراً، وأمر أصحابه أن يدخلوا فيها، فامتنعوا‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو دخلوا فيها ما خرجوا منها‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما الطاعة في المعروف‏)‏‏)‏‏.‏

وقد كان علقمة جواداً ممدحاً، رثاه جواس العذري، فقال‏:‏

إن السلام وحسن كل تحية * تغدو على ابن مجزز وتروحُ

عويم بن ساعدة

ابن عباس، أبو عبد الرحمن الأنصاري الأوسي، أحد بني عمرو بن عوف، شهد العقبة، وبدراً وما بعدها‏.‏

له حديث عند أحمد، وابن ماجة في الاستنجاء بالماء‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل‏:‏ في خلافة عمر، وقال‏:‏ وهو واقف على قبره لا يستطيع أحد أن يقول‏:‏ أنا خير من صاحب هذا القبر، ما نصبت راية للنبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو واقف تحتها‏.‏

وقد روى هذا الأثر ابن أبي عاصم كما أورده ابن الأثير من طريقه‏.‏

غيلان بن سلمة الثقفي

أسلم عام الفتح على عشر نسوة، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً، وقد وفد قبل الإسلام على كسرى، فأمره أن يبني له قصراً بالطائف‏.‏

وقد سأله كسرى‏:‏ أي ولدك أحب إليك ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم‏.‏

فقال له كسرى‏:‏ أنى لك هذا‏؟‏ هذا كلام الحكماء‏.‏

قال‏:‏ فما غذائك ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ البر‏.‏

قال‏:‏ نعم، هذا من البر لا من التمر واللبن‏.‏

معمر بن الحارث

ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي، أخو حاطب وحطاب‏.‏

أمهم‏:‏ قيلة بنت مظعون، أخت عثمان بن مظعون‏.‏

أسلم معمر قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وشهد بدراً وما بعدها، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معاذ بن عفراء‏.‏

ميسرة بن مسروق العبسي

شيخ صالح قيل‏:‏ إنه صحابي شهد اليرموك، ودخل الروم أميراً على جيش ستة آلاف، وكانت له همة عالية، فقتل وسبي وغنم وذلك في سنة عشرين‏.‏

وروى عن أبي عبيدة، وعنه أسلم مولى عمر لم يذكره ابن الأثير في ‏(‏الغابة‏)‏‏.‏

واقد بن عبد الله

بن عبد مناف بن عرين الحنظلي اليربوعي حليف بني عدي بن كعب، أسلم قبل دخول النبي دار الأرقم، وشهد بدراً وما بعدها، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين بشر من البراء بن معرور، وهو أول من قتل في سبيل الله عز وجل ببطن نخلة، مع عبد الله بن جحش حين قتل عمرو بن الحضرمي، توفي في خلافة عمر رضي الله عنه‏.‏

أبو خراش الهذلي الشاعر

واسمه خويلد بن مرة، كان يسبق الخيل على قدميه، وكان فَتاكاً في الجاهلية، ثم أسلم وحسن إسلامه‏.‏

وتوفي في زمن عمر، أتاه حجاج فذهب يأتيهم بماء فنهشته حية، فرجع إليهم بالماء وأعطاهم شاة وقدراً، ولم يعلمهم بما جرى له، فأصبح فمات فدفنوه‏.‏

ذكره ابن عبد البر وابن الأثير في ‏(‏أسماء الصحابة‏)‏‏.‏

والظاهر‏:‏ أنه ليست له وفادة، وإنما أسلم في حياة النبي فهو مخضرم والله أعلم‏.‏

أبو ليلى عبد الرحمن

ابن كعب بن عمرو الأنصاري شهد أحداً وما بعدها، إلا تبوك فإنه تخلف لعذر الفقر، وهو أحد البكائين المذكورين‏.‏

سودة بنت زمعة

القرشية العامرية أم المؤمنين، أول من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها، وكانت صوامة قوامة‏.‏

ويقال‏:‏ كان في خلقها حدة، وقد كبرت، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفارقها - ويقال‏:‏ بل فارقها - فقالت‏:‏ يا رسول الله لا تفارقني وأنا أجعل يومي لعائشة، فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصالحها على ذلك‏.‏

وفي ذلك أنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 128‏]‏‏.‏

قالت عائشة‏:‏ نزلت في سودة بنت زمعة‏.‏ توفيت في خلافة عمر بن الخطاب‏.‏

هند بنت عتبة

يقال‏:‏ ماتت في خلافة عمر‏.‏

وقيل‏:‏ توفيت قبل ذلك كما تقدم فالله أعلم‏.‏

خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ثم استهلت سنة أربع وعشرين

ففي أول يوم منها‏:‏ دفن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك يوم الأحد في قول، وبعد ثلاث أيام بويع أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

كان عمر رضي الله عنه قد جعل الأمر بعده شورى بين ستة نفر، وهم‏:‏ عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، وتحرج أن يجعلها لواحد من هؤلاء على التعيين‏.‏

وقال‏:‏ لا أتحمل أمرهم حياً وميتاً، وإن يرد الله بكم خيراً يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومن تمام ورعة لم يذكر في الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل لأنه ابن عمه، خشي أن يراعى فيولى لكونه ابن عمه، فلذلك تركه‏.‏

وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، بل جاء في رواية المدائني عن شيوخه‏:‏ أنه استثناه من بينهم، وقال‏:‏ لست مدخله فيهم‏.‏

وقال لأهل الشورى‏:‏ يحضركم عبد الله - يعني‏:‏ ابنه - وليس إليه من الأمر شيء - يعني‏:‏ بل يحضر الشورى ويشير بالنصح ولا يولي شيئاً - وأوصى أن يصلي بالناس صهيب بن سنان الرومي ثلاثة أيام حتى تنقضي الشورى، وأن يجتمع أهل الشورى ويوكل بهم أناس حتى ينبرم الأمر، ووكل بهم خمسين رجلاً من المسلمين، وجعل عليهم مستحثاً أبا طلحة الأنصاري، والمقداد بن الأسود الكندي‏.‏

وقد قال عمر بن الخطاب‏:‏ ما أظن الناس يعدلون بعثمان وعلي أحداً، إنهما كانا يكتبان الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينزل به جبريل عليه‏.‏

قالوا‏:‏ فلما مات عمر رضي الله عنه، وأحضرت جنازته تبادر إليها علي وعثمان أيهما يصلي عليه، فقال لهما عبد الرحمن بن عوف‏:‏ لستما من هذا في شيء، إنما هذا إلى صهيب الذي أمره عمر أن يصلي بالناس‏.‏

فتقدم صهيب وصلى عليه، ونزل في قبره مع ابنه عبد الله أهل الشورى سوى طلحة فإنه كان غائباً، فلما فرغ من شأن عمر جمعهم المقداد بن الأسود في بيت المسور بن مخرمة‏.‏

وقيل‏:‏ في حجرة عائشة‏.‏
وقيل‏:‏ في بيت المال‏.‏

وقيل‏:‏ في بيت فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس، والأول أشبه والله أعلم‏.‏

فجلسوا في البيت وقام أبو طلحة يحجبهم، وجاء عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة فجلسا من وراء الباب، فحصبهم سعد بن أبي وقاص وطردهما، وقال‏:‏ جئتما لتقولا حضرنا أمر الشورى ‏؟‏

رواه المدائني عن مشايخه والله أعلم بصحته‏.‏

والمقصود‏:‏ أن القوم خلصوا من الناس في بيت يتشاورون في أمرهم فكثر القول وعلت الأصوات، وقال أبو طلحة‏:‏ إني كنت أظن أن تدافعوها ولم أكن أظن أن تنافسوها، ثم صار الأمر بعد حضور طلحة إلى أن فوض ثلاثة منهم مالهم في ذلك إلى ثلاثة، ففوض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي، وفوض سعد ماله في ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، وترك طلحة حقه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

فقال عبد الرحمن لعلي وعثمان‏:‏ أيكما يبرأ من هذا الأمر فنفوض الأمر إليه والله عليه والإسلام ليولين أفضل الرجلين الباقيين‏.‏

فأسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن‏:‏ إني أترك حقي من ذلك والله علي الإسلام أن أجتهد فأولي أولاكما بالحق، فقالا‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏

ثم خاطب كل واحد منهما بما فيه من الفضل، وأخذ عليه العهد والميثاق لئن ولاه ليعدلن ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن‏.‏

فقال كل منهما‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏ ثم تفرقوا‏.‏

ويروى‏:‏ أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليه، فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان بن عفان، حتى أنه قال لعلي‏:‏ أرأيت إن لم أولك بمن تشير به عليَّ ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ بعثمان‏.‏

وقال لعثمان‏:‏ أرأيت إن لم أولك بمن تشير به ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ بعلي بن أبي طالب‏.‏

والظاهر‏:‏ أن هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها ينظر الأفضل، والله عليه والإسلام ليجتهدن في أفضل الرجلين فيوليه‏.‏

ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما، ويجمع رأي المسلمين برأي رؤس الناس وأقيادهم جميعاً وأشتاتاً مثنى وفرادى ومجتمعين، سراً وجهراً، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب‏.‏

وحتى سأل من يرد بمن الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقدم عثمان بن عفان إلا ما ينقل عن عمار والمقداد أنهما أشارا بعلي بن أبي طالب، ثم بايعا مع الناس على ما سنذكره‏.‏

فسعى في ذلك عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نوم إلا صلاة ودعاءاً واستخارةً، وسؤالاً من ذوي الرأي عنهم، فلم يجداً أحداً يعدل بعثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما كانت الليلة يسفر صباحها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب، جاء إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة فقال‏:‏ أنائم يا مسور، والله لم أغتمض بكثير نوم منذ ثلاث اذهب فادع إليَّ علياً وعثمان‏.‏
قال المسور‏:‏ فقلت‏:‏ بأيهما أبدأ‏؟‏

فقال‏:‏ بأيهما شئت‏.‏

قال‏:‏ فذهبت إلى علي فقلت‏:‏ أجب خالي، فقال‏:‏ أمرك أن تدعو معي أحداً‏؟‏
قلت‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏

قال‏:‏ من ‏؟‏

قلت‏:‏ عثمان بن عفان‏.‏

قال‏:‏ بأينا بدأ‏؟‏

قلت‏:‏ لم يأمرني بذلك، بل قال‏:‏ ادع لي أيهما شئت أولاً، فجئت إليك، قال‏:‏ فخرج معي فلما مررنا بدار عثمان بن عفان جلس عليَّ حتى دخلت فوجدته يوتر مع الفجر، فقال لي كما قال لي علي سواء، ثم خرج فدخلت بهما على خالي وهو قائم يصلي، فلما انصرف أقبل على علي وعثمان، فقال‏:‏ إني قد سألت الناس عنكما، فلم أجد أحداً يعدل بكما أحداً، ثم أخذ العهد على كل منهما أيضاً لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن، ثم خرج بهما إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقلد سيفاً، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة، فامتلأ المسجد حتى غص بالناس، وتراص الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس إلا في أخريات الناس - وكان رجلاً حيياً رضي الله عنه -‏.‏

ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف وقوفاً طويلاً، ودعا دعاءً طويلاً لم يسمعه الناس ثم تكلم فقال‏:‏ أيها الناس، إني سألتكم سراً وجهراً بأمانيكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين، إما علي وأما عثمان، فقم إلي يا علي فقام إليه فوقف تحت المنبر، فأخذ عبد الرحمن بيده، فقال‏:‏ هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر‏؟‏

قال‏:‏ اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال‏:‏ فأرسل يده، وقال‏:‏ قم إلي يا عثمان، فأخذ بيده فقال‏:‏ هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر‏؟‏

قال‏:‏ اللهم نعم‏!‏

قال‏:‏ فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال‏:‏ اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان‏.‏

قال‏:‏ وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر، قال‏:‏ فقعد عبد الرحمن مقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولاً، ويقال‏:‏ آخراً‏.‏

وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن علياً قال لعبد الرحمن‏:‏ خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكأ حتى قال له عبد الرحمن‏:‏ ‏{‏فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح، فهي مردودة على قائليها وناقلها والله أعلم‏.‏

والمظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تميز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها، ومستقيمها وسقيمها، ومبادها وقويمها، والله الموفق للصواب‏.‏


وقد اختلف علماء السير في اليوم الذي بويع فيه لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فروى الواقدي عن شيوخه‏:‏ أنه بويع يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، واستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين، وهذا غريب جداً‏.‏

وقد روى الواقدي أيضاً، عن ابن جرير، عن ابن أبي مليكة قال‏:‏ بويع لعثمان بن عفان لعشر خلون من المحرم بعد مقتل عمر بثلاث ليال، وهذا أغرب من الذي قبله‏.‏


وكذا روى سيف بن عمر، عن عامر الشعبي أنه قال‏:‏ اجتمع أهل الشورى على عثمان لثلاث خلون من المحرم سنة أربع وعشرين، وقد دخل وقت العصر، وقد أذن مؤذن صهيب، واجتمع الناس بين الأذان والإقامة فخرج فصلى بهم العصر‏.‏

وقال سيف‏:‏ عن خليفة بن زفر ومجالد قالا‏:‏ استخلف عثمان لثلاث خلون من المحرم سنة ثلاث وعشرين فخرج فصلى بالناس العصر، وزاد الناس - يعني‏:‏ في أعطياتهم مائة - ووفد أهل الأمصار، وهو أول من صنع ذلك‏.‏

قلت‏:‏ ظاهر ما ذكرناه من سياق بيعته يقتضي أن ذلك كان قبل الزوال، لكنه لما بايعه الناس في المسجد ذهب به إلى دار الشورى على ما تقدم فيها من الخلاف، فبايعه بقية الناس، وكأنه لم يتم البيعة إلا بعد الظهر وصلى صهيب يومئذ الظهر في المسجد النبوي وكان أول صلاة صلاها الخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان بالمسلمين صلاة العصر، كما ذكره الشعبي وغيره‏.‏

وأما أول خطبة خطبها بالمسلمين، فروى سيف بن عمر، عن بدر بن عثمان، عن عمه قال‏:‏ لما بايع أهل الشورى عثمان خرج وهو أشدهم كآبه، فأتى منبر النبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، واعتبروا بمن مضى ثم جدوا ولا تغفلوا فإنه لا يغفل عنكم‏.‏

أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلاً‏؟‏ ألم تلفظهم‏؟‏ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلاً، بالذي هو خير، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 45-46‏]‏‏.‏

قال‏:‏ وأقبل الناس يبايعونه‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الخطبة‏:‏ إما بعد صلاة العصر يومئذٍ، أو قبل الزوال، وعبد الرحمن بن عوف جالس في رأس المنبر وهو الأشبه والله أعلم‏.‏

وما يذكره بعض الناس من أن عثمان لما خطب أول خطبة ارتج عليه فلم يدر ما يقول حتى قال‏:‏ أيها الناس، إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياماً، وإن أعش فستأتيكم الخطبة على وجهها‏.‏

فهو شيء يذكره صاحب ‏(‏العقد‏)‏ وغيره، ممن يذكر طرف الفوائد، ولكن لم أر هذا بإسناد تسكن النفس إليه والله أعلم‏.‏

وأما قول الشعبي‏:‏ إنه زاد الناس مائة مائة - يعني‏:‏ في عطاء كل واحد من جند المسلمين - زاده على ما فرض له عمر مائة درهم من بيت المال، وكان عمر قد جعل لكل نفس من المسلمين في كل ليلة من رمضان درهماً من بيت المال يفطر عليه، ولأمهات المؤمنين درهمين درهمين، فلما ولي عثمان أقر ذلك وزاده، واتخذ سماطاً في المسجد أيضاً للمتعبدين، والمعتكفين، وأبناء السبيل، والفقراء، والمساكين رضي الله عنه‏.‏

وقد كان أبو بكر إذا خطب يقوم على الدرجة التي تحت الدرجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عليها، فلما ولي عمر نزل درجة أخرى عن درجة أبي بكر رضي الله عنهما، فلما ولي عثمان قال‏:‏ إن هذا يطول فصعد إلى الدرجة التي كان يخطب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد الأذان الأول يوم الجمعة، قبل الأذان الذي كان يؤذن به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر‏.‏

وأما أول حكومة حكم فيها، فقضية عبيد الله بن عمر، وذلك أنه غدا على ابنة أبي لؤلؤة قاتل عمر فقتلها، وضرب رجلاً نصرانياً يقال له‏:‏ جفينة بالسيف فقتله، وضرب الهرمزان الذي كان صاحب تستر فقتله، وكان قد قيل‏:‏ إنهما مالآ أبا لؤلؤة على قتل عمر‏.‏ فالله أعلم‏.‏

وقد كان عمر قد أمر بسجنه ليحكم فيه الخليفة من بعده، فلما ولي عثمان وجلس للناس كان أول ما تحوكم إليه في شأن عبيد الله، فقال علي‏:‏ ما من العدل تركه، وأمر بقتله‏.‏

وقال بعض المهاجرين‏:‏ أيقتل أبوه بالأمس، ويقتل هو اليوم‏؟‏

فقال عمرو بن العاص‏:‏ يا أمير المؤمنين قد برأك الله من ذلك، قضية لم تكن في أيامك فدعها عنك، فودى عثمان رضي الله عنه أولئك القتلى من ماله، لأن أمرهم إليه، إذ لا وارث لهم إلا بيت المال، والإمام يرى الأصلح في ذلك، وخلى سبيل عبيد الله‏.‏

قالوا‏:‏ فكان زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر يقول‏:‏

ألا يا عبيد الله مالك مهرب * ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر

أصبت دماً والله في غير حله * حراماً وقتل الهرمزان له خطر

على غير شيء غير أن قال قائل * أتتهمون الهرمزان على عمر

فقال سفيه والحوادث جمة * نعم اتهمه قد أشار وقد أمر

وكان سلاح العبد في جوف بيته * يقلبها والأمر بالأمر يعتبر

قال‏:‏ فشكا عبيد الله بن عمر زياداً إلى عثمان فاستدعى عثمان زياد بن لبيد، فأنشأ زياد يقول في عثمان‏:‏

أبا عمرو عبيد الله رهن * فلا تشكك بقتل الهرمزان

أتعفوا إذ عفوت بغير حق * فمالك بالذي يخلى يدان

قال‏:‏ فنهاه عثمان عن ذلك وزبره فسكت زياد بن لبيد عما يقول‏.‏

ثم كتب عثمان بن عفان إلى عماله على الأمصار أمراء الحرب، والأئمة على الصلوات، والأمناء على بيوت المال يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحثهم على طاعة الله وطاعة رسوله، ويحرضهم على الاتباع وترك الابتداع‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة عزل عثمان المغيرة بن شعبة عن الكوفة، وولى عليها سعد بن أبي وقاص فكان أول عامل ولاه لأن عمر قال‏:‏ فإن أصابت الإمرة سعداً فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ولي، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة‏.‏

فاستعمل سعداً عليها سنة وبعض أخرى، ثم رواه ابن جرير من طريق سيف، عن مجالد، عن الشعبي‏.‏

وقال الواقدي فيما ذكره‏:‏ عن زيد بن أسلم، عن أبيه‏:‏ أن عمر أوصى أن تقرَّ عماله سنة، فلما ولي عثمان أقر المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة، ثم عزله واستعمل سعداً، ثم عزله وولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ فعلى ما ذكره الواقدي تكون ولاية سعد على الكوفة سنة خمس وعشرين‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة - أعني‏:‏ سنة أربع وعشرين - غزا الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية حين منع أهلها ما كانوا صالحوا عليه أهل الإسلام في أيام عمر بن الخطاب، وهذا في رواية أبي مخنف‏.‏

وأما في رواية غيره فإن ذلك كان في سنة ست وعشرين، ثم ذكر ابن جرير ههنا هذه الوقعة وملخصها‏:‏ أن الوليد بن عقبة سار بجيش الكوفة نحو أذربيجان وأرمينية حين نقضوا العهد، فوطئ بلادهم وأغار بأراضي تلك الناحية فغنم وسبى وأخذ أموالاً جزيلة، فلما أيقنوا بالهلكة صالحهم أهلها على ما كانوا صالحوا عليه حذيفة بن اليمان ثمانمائة ألف درهم في كل سنة، فقبض منهم جزية سنة ثم رجع سالماً غانماً إلى الكوفة، فمر بالموصل‏.‏

وجاءه كتاب عثمان وهو بها يأمره أن يمد أهل الشام على حرب أهل الروم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة جاشت الروم حتى خاف أهل الشام، وبعثوا إلى عثمان رضي الله عنه يستمدونه فكتب إلى الوليد بن عقبة‏:‏ أن إذا جاءك كتابي هذا فابعث رجلاً أميناً كريماً شجاعاً في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إلى إخوانكم بالشام‏.‏

فقام الوليد بن عقبة في الناس خطيباً حين وصل إليه كتاب عثمان فأخبرهم بما أمر به أمير المؤمنين، وندب الناس وحثهم على الجهاد ومعاونة معاوية وأهل الشام، وأمَّرَ سلمان بن ربيعة على الناس الذين يخرجون إلى الشام، فانتدب في ثلاثة أيام ثمانية آلاف فبعثهم إلى الشام، وعلى جند المسلمين حبيب بن مسلم الفهري، فلما اجتمع الجيشان شنوا الغارات على بلاد الروم فغنموا وسبوا شيئاً كثيراً وفتحوا حصوناً كثيرة ولله الحمد‏.‏

وزعم الواقدي‏:‏ أن الذي أمد أهل الشام بسلمان بن ربيعة إنما هو سعيد بن العاص عن كتاب عثمان رضي الله عنه، فبعث سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة في ستة آلاف فارس حتى انتهى إلى حبيب بن مسلمة، وقد أقبل إليه الموريان الرومي في ثمانين ألفاً من الروم والترك، وكان حبيب بن مسلمة شجاعاً شهماً فعزم على أن يبيت جيش الروم، فسمعته امرأته يقول للأمراء ذلك، فقالت له‏:‏ فأين موعدي معك‏؟‏ - تعني‏:‏ أين اجتمع بك غداً‏؟‏ -، فقال لها‏:‏ موعدك سرادق الموريان، أو الجنة‏.‏

ثم نهض إليهم في ذلك الليل بمن معه من المسلمين فقتل من أشرف له وسبقته امرأته إلى سرادق الموريان فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها سرادق وقد مات عنها حبيب بن مسلمة بعد ذلك، فخلف عليها بعده الضحاك بن قيس الفهري، فهي أم ولده‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال الواقدي، وأبو معشر‏:‏ حج بهم عبد الرحمن بن عوف بأمر عثمان‏.‏

وقال آخرون‏:‏ حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

والأول هو الأشهر فإن عثمان لم يتمكن من الحج في هذه السنة لأجل رعاف أصابه مع الناس في هذه السنة حتى خشي عليه، وكان يقال لهذه السنة‏:‏ سنة الرعاف‏.‏

وفيها‏:‏ افتتح أبو موسى الأشعري الري بعد ما نقضوا العهد الذي كان واثقهم عليه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه‏.‏

وفيها‏:‏ توفي سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ويكنى‏:‏ بأبي سفيان، وكان ينزل قديداً وهو الذي اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أريقط الديلي حين خرجوا من غار ثور قاصدين المدينة فأراد أن يردهم على أهل مكة لما جعلوا في كل واحد من النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مائة مائة من الإبل، فطمع أن يفوز بهذا الجعل فلم يسلطه الله عليهم، بل لما اقترب منهم وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخت قوائم فرسه في الأرض حتى ناداهم بالأمان فأعطوه الأمان، وكتب له أبو بكر كتاب أمان عن إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قدم به بعد غزوة الطائف فأسلم وأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القائل‏:‏ يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد‏؟‏
فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏بل لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وعشرين

فيها نقض أهل الإسكندرية العهد، وذلك أن ملك الروم بعث إليهم معويل الخصي في مراكب من البحر، فطمعوا في النصرة، ونقضوا ذمتهم، فغزاهم عمرو بن العاص في ربيع الأول، فافتتح الأرض عنوة، وافتتح المدينة صلحاً‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

وفيها‏:‏ في قول سيف عزل عثمان سعداً عن الكوفة وولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط مكانه، فكان هذا مما نقم على عثمان‏.‏

وفيها‏:‏ وجه عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح لغزو بلاد المغرب، واستأذنه ابن أبي سرح في غزو إفريقية فأذن له، ويقال فيها أيضاً‏:‏ عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقيل‏:‏ بل كان هذا في سنة سبع وعشرين، كما سيأتي والله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ فتح معاوية الحصون‏.‏

وفيها‏:‏ ولد ابنه يزيد بن معاوية‏.‏

ثم دخلت سنة ست وعشرين

قال الواقدي‏:‏ فيها أمر عثمان بتجديد أنصاب الحرم‏.‏

وفيها‏:‏ وسع المسجد الحرام‏.‏

وفيها‏:‏ عزل سعداً عن الكوفة، وولاها الوليد بن عقبة، وكان سبب عزل سعد أنه اقترض من ابن مسعود مالاً من بيت المال، فلما تقاضاه به ابن مسعود ولم يتيسر قضاؤه تقاولا، وجرت بينهما خصومة شديدة، فغضب عليهما عثمان فعزل سعداً واستعمل الوليد بن عقبة - وكان عاملاً لعمر على عرب الجزيرة - فلما قدمها أقبل عليه أهلها فأقام بها خمس سنين، وليس على داره باب، وكان فيه رفق برعيته‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفيها‏:‏ حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

وقال غيره‏:‏ وفيها‏:‏ افتتح عثمان بن أبي العاص سابور صلحاً على ثلاثة آلاف ألف وثلاثمائة ألف‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وعشرين

قال الواقدي، وأبو معشر‏:‏ وفيها‏:‏ عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح - وكان أخا عثمان لأمه - وهو الذي شفع له يوم الفتح حين كان أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه‏.‏

غزوة إفريقية

أمر عثمان عبد الله بن أبي سرح أن يغزو بلاد إفريقية، فإذا افتتحها الله عليه فله خمس الخمس من الغنيمة نفلاً، فسار إليها في عشرة آلاف، فافتتحها سهلها وجبلها، وقتل خلقاً كثيراً من أهلها، ثم اجتمعوا على الطاعة والإسلام، وحسن إسلامهم‏.‏

وأخذ عبد الله بن سعد خمس الخمس من الغنيمة، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان، وقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الجيش، فأصاب الفارس ثلاثة آلاف دينار، والراجل ألف دينار‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وصالحه بطريقها على ألفي ألف دينار، وعشرين ألف دينار، فأطلقها كلها عثمان في يوم واحد لآل الحكم، ويقال‏:‏ لآل مروان‏.‏ ‏

لما افتتحت إفريقية بعث عثمان إلى عبد الله بن نافع بن عبد قيس، وعبد الله بن نافع بن الحصين الفهريين من فورهما إلى الأندلس، فأتياها من قبل البحر، وكتب عثمان إلى الذين خرجوا إليها يقول‏:‏ إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتتح قسطنطينية في الأجر آخر الزمان والسلام‏.‏




غزوة الأندلس

قال‏:‏ فساروا إليها فافتتحوها، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقعة جرجير والبربر مع المسلمين

لما قصد المسلمون وهم عشرون ألفاً إفريقية، وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وفي جيشه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، صمد إليهم ملك البربر جرجير في عشرين ومائة ألف، وقيل‏:‏ في مائتي ألف‏.‏

فلما تراءى الجمعان أمر جيشه فأحاطوا بالمسلمين هالة، فوقف المسلمون في موقف لم ير أشنع منه، ولا أخوف عليهم منه‏.‏

قال عبد الله بن الزبير‏:‏ فنظرت إلى الملك جرجير من وراء الصفوف، وهو راكب على برذون، وجاريتان تظلانه بريش الطواويس، فذهبت إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح فسألته‏:‏ أن يبعث معي من يحمي ظهري، وأقصد الملك، فجهز معي جماعة من الشجعان‏.‏

قال‏:‏ فأمر بهم فحموا ظهري، وذهبت حتى خرقت الصفوف إليه - وهم يظنون أني في رسالة إلى الملك - فلما اقتربت منه أحس مني الشر، ففر على برذونه، فلحقته فطعنته برمحي، وذففت عليه بسيفي، وأخذت رأسه فنصبته على رأس الرمح وكبرت‏.‏

فلما رأى ذلك البربر فرقوا وفروا كفرار القطا، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون فغنموا غنائم جمة وأموالاً كثيرة، وسبياً عظيماً، وذلك ببلد يقال له‏:‏ سبيطلة -على يومين من القيروان -، فكان هذا أول موقف اشتهر فيه أمر عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وعن أبيه، وأصحابهما أجمعين‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة‏:‏ افتتحت اصطخر ثانية على يدي عثمان بن أبي العاص‏.‏

وفيها‏:‏ غزا معاوية قنسرين‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عثمان بن عفان‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ قال بعضهم‏:‏ وفي هذه السنة غزا معاوية قبرص‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ كان ذلك في سنة ثمان وعشرين‏.‏

وقال أبو معشر‏:‏ غزاها معاوية سنة ثلاث وثلاثين فالله أعلم‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين فتح قبرص

ففيها‏:‏ ذكر ابن جرير فتح قبرص تبعاً للواقدي‏.‏


وهي‏:‏ جزيرة غربي بلاد الشام في البحر مخلصة وحدها، ولها ذنب مستطيل إلى نحو الساحل مما يلي دمشق، وغربيها أعرضها، وفيها فواكه كثيرة، ومعادن‏.‏

وهي بلد جيد، وكان فتحها على يدي معاوية بن أبي سفيان، ركب إليها في جيش كثيف من المسلمين ومعه عبادة بن الصامت، وزوجته أم حرام بنت ملحان التي تقدم حديثها في ذلك حين نام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها ثم استيقظ يضحك، فقالت‏:‏ ما أضحكك يا رسول الله‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ناس من أمتي عُرضوا عليَّ يركبون ثبج هذا البحر مثل الملوك على الأسرة‏.‏

فقالت‏:‏ يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم‏.‏

فقال‏:‏ أنت منهم‏.‏

ثم نام فاستيقظ وهو يضحك، فقال مثل ذلك، فقالت‏:‏ ادع الله أن يجعلني منهم‏.‏

فقال‏:‏ أنت من الأولين‏)‏‏)‏‏.‏

فكانت في هذه الغزوة، وماتت بها‏.‏

وكانت الثانية عبارة عن غزوة قسطنطينية بعد هذا كما سنذكره‏.‏

والمقصود‏:‏ أن معاوية ركب البحر في مراكب فقصد الجزيرة المعروفة بقبرص، ومعه جيش عظيم من المسلمين، وذلك بأمر من عثمان بن عفان رضي الله عنه، له في ذلك بعد سؤاله إياه‏.‏

وقد كان سأل في ذلك عمر بن الخطاب فأبى أن يمكنه من حمل المسلمين على هذا الخلق العظيم الذي لو اضطرب لهلكوا عن آخرهم، فلما كان عثمان لحَّ معاوية عليه في ذلك فأذن له فركب في المراكب فانتهى إليها، ووافاه عبد الله بن سعد بن أبي سرح إليها من الجانب الآخر، فالتقيا على أهلها فقتلوا خلقاً كثيراً، وسبوا سبايا كثيرة، وغنموا مالاً جزيلاً جداً‏.‏

ولما جيء بالأسارى جعل أبو الدرداء يبكي، فقال له جبير بن نفير‏:‏ أتبكي وهذا يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ ويحك، إن هذه كانت أمة قاهرة لهم ملك، فلما ضيعوا أمر الله صيرهم إلى ما ترى، سلط الله عليهم السبي، وإذا سلط على قوم السبي فليس لله فيهم حاجة‏.‏

وقال‏:‏ ما أهون العباد على الله تعالى إذا تركوا أمره ‏؟‏‏!‏

ثم صالحهم معاوية على سبعة آلاف دينار في كل سنة، وهادنهم، فلما أرادوا الخروج منها، قُدِمت لأم حرام بغلة لتركبها، فسقطت عنها، فاندقت عنقها فماتت هناك فقبرها هنالك يعظمونه ويستسقون به، ويقولون قبر المرأة الصالحة‏.‏
قال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم‏.‏

وتزوج عثمان نائلة بنت الفرافصة الكلبية - وكانت نصرانية فأسلمت قبل أن يدخل بها -‏.‏

وفيها‏:‏ بنى عثمان داره بالمدينة الزوراء‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وعشرين

ففيها‏:‏ عزل عثمان بن عفان أبا موسى الأشعري عن البصرة بعد عمله ست سنين، وقيل‏:‏ ثلاث‏.‏

وأمر عليها عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وهو ابن خال عثمان بن عفان، وجمع له بين جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص، وله من العمر خمس وعشرون سنة، فأقام بها ست سنين‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ افتتح عبد الله بن عامر فارس في قول الواقدي وأبي معشر‏.‏

زعم سيف‏:‏ أنه كان قبل هذه السنة‏.‏ فالله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ وسع عثمان بن عفان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبناه بالقَصَّة - وهي الكلس - كان يؤتى به من بطن نخل والحجارة المنقوشة، وجعل عمده حجارة مرصعة، وسقفه بالساج، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه ستة، على ما كانت عليه في زمان عمر بن الخطاب، ابتدأ بناءه في ربيع الأول منها‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عثمان بن عفان، وضرب له بمنى فسطاطاً، فكان أول فسطاط ضربه عثمان بمنى، وأتم الصلاة عامه هذا، فأنكر ذلك عليه غير واحد من الصحابة كعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، حتى قال ابن مسعود‏:‏ ليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان‏.‏

وقد ناظره عبد الرحمن بن عوف فيما فعله، فروى ابن جرير أنه قال‏:‏ تأهلت بمكة‏.‏

فقال له‏:‏ ولك أهل بالمدينة، وإنك تقوم حيث أهلك بالمدينة‏.‏

قال‏:‏ وإن لي مالاً بالطائف أريد أن أطلعه بعد الصدر‏.‏

قال‏:‏ إنك بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث‏.‏

فقال‏:‏ وإن طائفة من أهل اليمن قالوا‏:‏ إن الصلاة بالحضر ركعتان، فربما رأوني أصلي ركعتين فيحتجون بي‏.‏

فقال له‏:‏ قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي والناس يومئذ الإسلام فيهم قليل، وكان يصلي ههنا ركعتين، وكان أبو بكر يصلي ههنا ركعتين، وكذلك عمر بن الخطاب، وصليت أنت ركعتين صدراً من إمارتك‏.‏

قال‏:‏ فسكت عثمان، ثم قال‏:‏ إنما هو رأي رأيته‏.‏