الجزء السابع - سنة ثلاثين من الهجرة النبوية

 سنة ثلاثين من الهجرة النبوية

فيها‏:‏ افتتح سعيد بن العاص طبرستان في قول الواقدي وأبي معشر والمدائني، وقال‏:‏ هو أول من غزاها‏.‏

وزعم سيف‏:‏ أنهم كانوا صالحوا سويد بن مقرن قبل ذلك على أن لا يغزوها، على مال بذله له أصبهبذها فالله أعلم‏.‏

فذكر المدائني‏:‏ أن سعيد بن العاص ركب في جيش فيه الحسن والحسين، والعبادلة الأربعة، وحذيفة بن اليمان، في خلق من الصحابة، فسار بهم فمر على بلدان شتى يصالحونه على أموال جزيلة، حتى انتهى إلى بلد معاملة جرجان، فقاتلوه حتى احتاجوا إلى صلاة الخوف، فسأل حذيفة كيف صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

فأخبره، فصلى كما أخبره، ثم سأله أهل ذلك الحصن الأمان، فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً، ففتحوا الحصن فقتلهم إلا رجلاً واحداً، وحوى ما كان في الحصن، فأصاب رجل من بني نهد سفطاً مقفولاً، فاستدعى به سعيد، ففتحوه، فإذا فيه خرقة سوداء مدرجة فنشروها، فإذا فيها خرفة حمراء فنشروها، وإذا داخلها خرقة صفراء، وفيها‏:‏ إيران كميت وورد‏.‏

فقال شاعر يهجو بهما بني نهد‏:‏

آبَ الكرام بالسبايا غنيمة * وفاز بنو نهد بأيرين في سفطْ

كميتٍ ووردٍ وافرين كلاهما * فظنوهما غنماً فناهيك من غلطْ

قالوا‏:‏ ثم نقض أهل جرجان ما كان صالحهم عليه سعيد بن العاص، وامتنعوا عن أداء المال الذي ضربه عليهم - وكان مائة ألف دينار، وقيل‏:‏ مائتي ألف دينار وقيل‏:‏ ثلاثمائة ألف دينار -، ثم وجه إليهم يزيد بن المهلب بعد ذلك، كما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ عزل عثمان بن عفان الوليد بن عقبة عن الكوفة، وولى عليها سعيد بن العاص، وكان سبب عزلة أنه صلى بأهل الكوفة الصبح أربعاً، ثم التفت فقال‏:‏ أزيدكم ‏؟‏

فقال قائل‏:‏ مازلنا منك منذ اليوم في زيادة ‏.‏

ثم أنه تصدى له جماعة يقال‏:‏ كان بينهم وبينه شنآن، فشكوه إلى عثمان، وشهد بعضهم عليه أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقاياها، فأمر عثمان بإحضاره وأمر بجلده‏.‏

فيقال‏:‏ أن علياً نزع عنه حلته، وأن سعيد بن العاص جلده بين يدي عثمان بن عفان، وعزله وأمر مكانه على الكوفة سعيد بن العاص‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ سقط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من يد عثمان في بئر أريس، وهي على ميلين من المدينة، وهي من أقل الآبار ماء، فلم يدرك خبره بعد بذل مال جزيل، والاجتهاد في طلبه حتى الساعة، فاستخلف عثمان بعده خاتماً من فضة، ونقش عليه محمد رسول الله، فلما قتل عثمان ذهب الخاتم، فلم يدر من أخذه‏.‏

وقد روى ابن جرير هاهنا حديثاً طويلاً في اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب، ثم من فضة، وبعثه عمر بن الخطاب إلى كسرى، ثم دحية إلى قيصر، وأن الخاتم الذي كان في يد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في يد أبي بكر، ثم في يد عمر، ثم في يد عثمان ست سنين، ثم إنه وقع في بئر أريس، وقد تقدم بعض هذا في الصحيح‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ وقع بين معاوية وأبي ذر بالشام، وذلك أن أبا ذر أنكر على معاوية بعض الأمور، وكان ينكر على من يقتني مالاً من الأغنياء، ويمنع أن يدخر فوق القوت، ويوجب أن يتصدق بالفضل، ويتأول قول الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ فينهاه معاوية عن إشاعة ذلك فلا يمتنع‏.‏ فبعث يشكوه إلى عثمان‏.‏ فكتب عثمان إلى أبي ذر‏:‏ أن يقدم عليه المدينة فقدمها، فلامه عثمان على بعض ما صدر منه واسترجعه، فلم يرجع، فأمره بالمقام بالربذة - وهي شرقي المدينة - ويقال‏:‏ أنه سأل عثمان أن يقيم بها‏.‏

وقال‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها‏)‏‏)‏ وقد بلغ البناء سلعاً، فأذن له عثمان بالمقام بالربذة، وأمره أن يتعاهد المدينة في بعض الأحيان، حتى لا يرتد أعرابياً بعد هجرته‏.‏ ففعل فلم يزل مقيماً بها حتى مات على ما سنذكره رضي الله عنه‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ زاد عثمان النداء الثالث يوم الجمعة على الزوراء‏.‏

فصل

ذكر الذهبي وفاة أبي بن كعب

وممن ذكر شيخنا أبو عبد الله الذهبي‏:‏ أنه توفي في هذه السنة - أعني‏:‏ سنة ثلاثين - أبي بن كعب، فيما صححه الواقدي‏.‏

جبار بن صخر

ابن أمية بن خنساء، أبو عبد الرحمن الأنصاري، عقبي بدري، وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر خارصاً، وقد توفي عن ستين سنة‏.‏

حاطب بن أبي بلتعة

ابن عمرو بن عمير اللخمي، حليف بني أسد بن عبد العزى‏.‏

شهد بدراً وما بعدها، وهو الذي كان كتب إلى المشركين يعلمهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة، فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به، ثم بعثه بعد ذلك برسالة إلى المقوقس ملك الإسكندرية‏.‏
الطفيل بن الحارث

ابن المطلب، أخو عبيدة، وحصين، شهد بدراً‏.‏

قال سعيد بن عمير‏:‏ توفي في هذه السنة‏.‏

عبد الله بن كعب

ابن عمر المازني، أبو الحارث، وقيل‏:‏ أبو يحيى الأنصاري، شهد بدراً، وكان على الخمس يومئذ‏.‏

عبد الله بن مظعون

أخو عثمان بن مظعون، هاجر إلى الحبشة، وشهد بدراً‏.‏

عياض بن زهير

ابن أبي شداد بن ربيعة بن هلال، أبو سعيد القرشي الفهري، شهد بدراً وما بعدها‏.‏

مسعود بن ربيعة

وقيل‏:‏ ابن الربيع، أبو عمر القاري، شهد بدراً وما بعدها‏.‏ توفي عن نيف وستين سنة‏.‏

معمر بن أبي سرح

ابن ربيعة بن هلال القرشي، أبو سعد الفهري‏.‏

وقيل‏:‏ اسمه عمرو، بدري قديم الصحبة‏.‏

أبو أسيد

مالك بن ربيعة‏.‏

قال الفلاس‏:‏ مات في هذه السنة، و الأصح‏:‏ أنه مات سنة أربعين، و قيل‏:‏ سنة ستين فالله أعلم‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين

ففيها‏:‏ كانت غزوة الصواري، وغزوة الأساودة في البحر فيما ذكره الواقدي‏.‏

وقال أبو معشر‏:‏ كانت غزوة الصواري سنة أربع وثلاثين‏.‏

وملخص ذلك فيما ذكره الواقدي وسيف وغيرهما‏:‏ أن الشام كان قد جمعها لمعاوية بن أبي سفيان لسنتين مضتا من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد أحرزه غاية الحفظ وحمى حوزته، ومع هذا له في كل سنة غزوة في بلاد الروم في زمن الصيف - ولهذا يسمون هذه الغزوة الصائفة - فيقتلون خلقاً، ويأسرون آخرين، ويفتحون حصوناً، ويغنمون أموالاً، ويرعبون الأعداء، فلما أصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح من أصاب من الفرنج والبربر، ببلاد إفريقية والأندلس، حميت الروم واجتمعت على قسطنطين بن هرقل، وساروا إلى المسلمين في جمع لم ير مثله منذ كان الإسلام، خرجوا في خمسمائة مركب، وقصدوا عبد الله بن أبي سرح في أصحابه من المسلمين الذين ببلاد المغرب‏.‏

فلما تراءى الجمعان، بات الروم يقسقسون ويصلبون، وبات المسلمون يقرأون ويصلون، فلما أصبحوا صف عبد الله بن سعد أصحابه صفوفاً في المراكب، وأمرهم بذكر الله وتلاوة القرآن‏.‏

قال بعض من حضر ذلك‏:‏ فأقبلوا إلينا في أمر لم ير مثله من كثرة المراكب، وعقدوا صواريها، وكانت الريح لهم وعلينا فأرسينا، ثم سكنت الريح عنا، فقلنا لهم‏:‏ إن شئتم خرجنا نحن وأنتم إلى البر، فمات الأعجل منا ومنكم‏.‏

قال‏:‏ فنخروا نخرة رجل واحد، وقالوا‏:‏ الماء الماء‏.‏

قال‏:‏ فدنونا منهم، وربطنا سفننا بسفنهم، ثم اجتلدنا وإياهم بالسيوف، يثب الرجال على الرجال بالسيوف والخناجر، وضربت الأمواج في عيون تلك السفن حتى ألجأتها إلى الساحل وألقت الأمواج جثث الرجال إلى الساحل حتى صارت مثل الجبل العظيم، وغلب الدم على لون الماء، وصبر المسلمون يومئذ صبراً لم يعهد مثله قط، وقتل منهم بشر كثير، ومن الروم أضعاف ذلك، ثم أنزل الله نصره على المسلمين فهرب قسطنطين وجيشه - وقد قلوا جداً - وبه جراحات شديدة مكينة، مكث حيناً يداوي منها بعد ذلك، وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري أياماً، ثم رجع مؤيداً منصوراً مظفراً‏.‏

قال الواقدي‏:‏ فحدثني معمر، عن الزهري قال‏:‏ كان في هذه الغزوة محمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن أبي بكر، فأظهرا عيب عثمان وما غير وما خالف أبا بكر وعمر، ويقولان‏:‏ دمه حلال لأنه استعمل عبد الله بن سعد - وكان قد ارتد - وكفر بالقرآن العظيم وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، وأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواماً واستعملهم عثمان، ونزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمل سعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر‏.‏

فبلغ ذلك عبد الله بن سعد فقال‏:‏ لا تركبا معنا، فركبا في مركب ما فيه أحد من المسلمين ولقوا العدو فكانا أنكل المسلمين قتالاً، فقيل لهما في ذلك فقالا‏:‏ كيف نقاتل مع رجل لا ينبغي لنا أن نحكمه‏؟‏

فأرسل إليهما عبد الله بن سعد فنهاهما أشد النهي، وقال‏:‏ والله لولا لا أدري ما يوافق أمير المؤمنين لعاقبتكما وحبستكما‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة فتحت أرمينية على يدي حبيب بن مسلمة‏.‏

وفي هذه السنة قتل كسرى ملك الفرس‏.‏

كيفية قتل كسرى ملك الفرس وهو يزدجرد

قال ابن إسحاق‏:‏ هرب يزدجرد من كرمان في جماعة يسيرة إلى مرو، فسأل من بعض أهلها مالاً فمنعوه وخافوه على أنفسهم، فبعثوا إلى الترك يستفزونهم عليه، فأتوه فقتلوا أصحابه وهرب هو حتى أتى منزل رجل ينقر الأرحية على شط، فأوى إليه ليلاً، فلما نام قتله‏.‏

وقال المدائني‏:‏ لما هرب بعد قتل أصحابه انطلق ماشياً عليه تاجه ومنطقته وسيفه، فانتهى إلى منزل هذا الرجل الذي ينقر على الأرحية، فجلس عنده فاستغفله وقتله وأخذ ما كان عليه، وجاءت الترك في طلبه فوجدوه وقد قتله، وأخذ حاصله فقتلوا ذلك الرجل وأهل بيته وأخذوا ما كان مع كسرى، ووضعوا كسرى في تابوت وحملوه إلى اصطخر‏.‏

وقد كان يزدجرد وطئ امرأة من أهل مرو قبل أن يقتل فحملت منه ووضعت بعد قتله غلاماً ذاهب الشق، وسمى ذلك‏:‏ الغلام المخدج‏.‏

وكان له نسل وعقب في خراسان، وقد سبى قتيبة بن مسلم في بعض غزواته بتلك البلاد جاريتان من نسله، فبعث بإحداهما إلى الحجاج، فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك فولدت له ابنه يزيد بن الوليد الملقب‏:‏ بالناقص‏.‏

وقال المدائني وفي رواية عن بعض شيوخه‏:‏ أن يزدجرد لما انهزم عنه أصحابه عقر جواده وذهب ماشياً حتى دخل رحى على شط نهر يقال له‏:‏ المرغاب، فمكث فيه ليلتين والعدو في طلبه فلم يدر أين هو، ثم جاء صاحب الرحى فرأى كسرى وعليه أبهته، فقال له‏:‏ ما أنت‏؟‏ إنسي أم جني‏؟‏

قال‏:‏ إنسي، فهل عندك طعام‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏!‏ فأتاه بطعام‏.‏

فقال‏:‏ إني مزمزم، فأتني بما أزمزم به‏.‏

قال‏:‏ فذهب الطحان إلى أسوار من الأساورة فطلب منه ما يزمزم به، قال‏:‏ وما تصنع به‏؟‏

قال‏:‏ عندي رجل لم أر مثله قط وقد طلب مني هذا، فذهب به الأسوار إلى ملك البلد - مرو واسمه ماهويه بن باباه - فأخبره خبره، فقال‏:‏ هو يزدجرد، اذهبوا فجيئوني برأسه، فذهبوا مع الطحان، فلما دنوا من دار الرحى، هابوا أن يقتلوه وتدافعوا، وقالوا للطحان‏:‏ ادخل أنت فاقتله، فدخل فوجده نائماً، فأخذ حجراً فشدخ به رأسه، ثم احتزه فدفعه إليهم وألقى جسده في النهر، فخرجت العامة إلى الطحان فقتلوه‏.‏

وخرج أسقف فأخذ جسده من النهر وجعله في تابوت، وحمله إلى اصطخر فوضعه في ناووس، ويروى أنه مكث في منزل ذلك الطحان ثلاثة أيام لا يأكل حتى رق له، وقال له‏:‏ ويحك يا مسكين ألا تأكل، وأتاه بطعام‏.‏

فقال‏:‏ إني لا أستطيع أن آكل إلا بزمزمة‏.‏

فقال له‏:‏ كل وأنا أزمزم لك، فسأل أن يأتيه بمزمزم، فلما ذهب يطلب له من بعض الأساورة شموا رائحة المسك من ذلك الرجل، فأنكروا رائحة المسك منه، فسألوه فأخبرهم‏.‏

فقال‏:‏ إن عندي رجلاً من صفته كيت وكيت‏.‏

فعرفوه وقصدوه مع الطحان، وتقدم الطحان فدخل عليه وهم بالقبض عليه، فعرف يزدجرد ذلك، فقال له‏:‏ ويحك خذ خاتمي وسواري ومنطقتي ودعني أذهب من ههنا‏؟‏

فقال‏:‏ لا، أعطني أربعة دراهم وأنا أطلقك فزاده إحدى قرطيه من أذنه فلم يقبل حتى يعطيه أربعة دراهم أخرى، فهم في ذلك إذ دهمهم الجند، فلما أحاطوا به أرادوا قتله، قال‏:‏ ويحكم، لا تقتلوني فإنا نجد في كتبنا أن من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا مع ما هو قادم عليه، فلا تقتلوني واذهبوا بي إلى الملك أو إلى العرب فإنهم يستحيون من قتل الملوك، فأبوا عليه ذلك فسلبوه ما كان عليه من الحلي فجعلوه في جراب وخنقوه بوتر وألقوه في النهر فتعلق بعود، فأخذه أسقف - واسمه إيليا - فحن عليه مما كان من أسلافه من الإحسان إلى النصارى الذين كانوا ببلادهم، فوضعه في تابوت، ودفنه في ناووس، ثم حمل ما كان عليه من الحلي إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ففقد قرط من حليه فبعث إلى دهقان تلك البلاد فأغرمه ذلك‏.‏

وكان ملك يزدجرد عشرين سنة، منها أربع سنين في دعة، وباقي ذلك هارباً من بلد إلى بلد، خوفاً من الإسلام وأهله، وهو آخر ملوك الفرس في الدنيا على الإطلاق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده والذي نفسي بيده لتنفق كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏ رواه البخاري‏.‏

وثبت في الحديث الصحيح‏:‏ أنه لما جاء كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مزقه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يمزق كل ممزق، فوقع الأمر كذلك‏.‏

وفي هذه السنة فتح ابن عامر فتوحات كثيرة كان قد نقض أهلها ما كان لهم من الصلح، فمن ذلك ما فتح عنوة، ومن ذلك ما فتح صلحاً، فكان في جملة ما صالح عليه بعض المدائن وهي مرو على ألفي ألف ومائتي ألف‏.‏

وقيل‏:‏ على ستة آلاف ألف ومائتي ألف‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين

وفيها‏:‏ غزا معاوية بلاد الروم، حتى بلغ المضيق - مضيق القسطنطينية - ومعه زوجته عاتكة، ويقال‏:‏ فاطمة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف‏.‏

قاله أبو معشر والواقدي‏.‏

وفيها‏:‏ استعمل سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة على جيش وأمره أن يغزو الباب، وكتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة نائب تلك الناحية بمساعدته، فسار حتى بلغ بلنجر فحصروها ونصبت عليها المجانيق والعرادات‏.‏

ثم أن أهل بلنجر خرجوا إليهم وعاونهم الترك فاقتتلوا قتالاً شديداً - وكانت الترك تهاب قتال المسلمين ويظنون أنهم لا يموتون - حتى اجترأوا عليهم بعد ذلك، فلما كان هذا اليوم التقوا معهم فاقتتلوا، فقتل يومئذ عبد الرحمن بن ربيعة - وكان يقال له ذو النون - وانهزم المسلمون فافترقوا فرقتين، ففرقة ذهبت إلى بلاد الخزر، وفرقة سلكوا ناحية جيلان وجرجان، وفي هؤلاء أبو هريرة، وسلمان الفارسي‏.‏

وأخذت الترك جسد عبد الرحمن بن ربيعة - وكان من سادات المسلمين وشجعانهم - ودفنوه في بلادهم، فهم يستسقون عنده إلى اليوم‏.‏

ولما قتل عبد الرحمن بن ربيعة استعمل سعيد بن العاص على ذلك الفرع سلمان بن ربيعة، وأمدهم عثمان بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة، فتنازع حبيب وسلمان في الإمرة حتى اختلفا، فكان أول اختلاف وقع بين أهل الكوفة وأهل الشام، حتى قال في ذلك رجل من أهل الكوفة وهو أوس‏:‏

فإن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم * وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل

وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا * وهذا أمير في الكتائب مقبل

ونحن ولاة الثغر كنا حماته * ليالي نرمي كل ثغر وننكل

وفيها‏:‏ فتح ابن عامر مرو الروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان‏.‏

فأما مرو الروذ، فبعث إليهم ابن عامر الأحنف بن قيس فحصرها فخرجوا إليه فقاتلهم حتى كسرهم فاضطرهم إلى حصنهم، ثم صالحوه على مال جزيل وعلى أن يضرب على أراضي الرعية الخراج، ويدع الأرض التي كان اقتطعها كسرى لوالد المرزبان، صاحب مرو، حين قتل الحية التي كانت تقطع الطريق على الناس وتأكلهم، فصالحهم الأحنف على ذلك، وكتب لهم كتاب صلح بذلك‏.‏

ثم بعث الأحنف الأقرع بن حابس إلى الجوزجان ففتحها بعد قتال وقع بينهم، قتل فيه خلق من شجعان المسلمين، ثم نصروا فقال في ذلك أبو كثير النهشلي قصيدة طويلة فيها‏:‏

سقى مزن السحاب إذا استهلت * مصارع فتية بالجوزجان

إلى القصرين من رستاق خوط * أبادهم هناك الأقرعان

ثم سار الأحنف من مرو الروذ إلى بلخ فحاصرهم حتى صالحوه على أربعمائة ألف، واستناب ابن عمه أسيد بن المشمس على قبض المال، ثم ارتحل يريد الجهاد، وداهمه الشتاء فقال لأصحابه ما تشاؤون‏؟‏

فقالوا‏:‏ قد قال عمرو بن معد يكرب‏:‏

إذا لم تستطع شيئاً فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع

فأمر الأحنف بالرحيل إلى بلخ فأقام بها مدة الشتاء، ثم عاد إلى عامر فقيل لابن عامر‏:‏ ما فتح على أحد ما فتح عليك، فارس وكرمان وسجستان وعامر خراسان ‏.‏

فقال‏:‏ لا جرم لأجعلن شكري لله على ذلك أن أحرم بعمرة من موقفي هذا مشمراً، فأحرم بعمرة من نيسابور، فلما قدم على عثمان لأمه على إحرامه من خراسان‏.‏

وفيها‏:‏ أقبل قارن في أربعين ألفاً فالتقاه عبد الله بن خازم في أربعة آلاف، وجعل لهم مقدمة ستمائة رجل، وأمر كلا منهم أن يحمل على رأس رمحه ناراً، وأقبلوا إليهم في وسط الليل فبيتوهم، فثاروا إليهم فناوشتهم المقدمة فاشتغلوا بهم، وأقبل عبد الله بن خازم بمن معه من المسلمين فاتفقوا هم وإياهم، فولى المشركون مدبرين، واتبعهم المسلمون يقتلون من شاؤوا كيف شاؤوا، وغنموا سبياً كثيراً وأموالاً جزيلة‏.‏

ثم بعث عبد الله بن خازم بالفتح إلى ابن عامر فرضي عنه وأقره على خراسان - وكان قد عزله عنها - فاستمر بها عبد الله بن خازم إلى ما بعد ذلك‏.‏

ذكر من توفي من الأعيان في هذا السنة

العباس بن عبد المطلب

ابن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي أبو الفضل المكي عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووالد الخلفاء العباسيين، وكان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين أو ثلاث، أسر يوم بدر، فافتدى نفسه بمال، وافتدى ابني أخويه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث‏.‏

وقد ذكرنا أنه لما أسر وشد في الوثاق وأمسى الناس، أرق رسول صلى الله عليه وسلم، فقيل‏:‏ ‏(‏‏(‏يا رسول الله، مالك‏؟‏

فقال‏:‏ إني أسمع أنين العباس في وثاقه فلا أنام‏)‏‏)‏‏.‏

فقام رجل من المسلمين فحل من وثاق العباس حتى سكن أنينه فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم عام الفتح، وتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجحفة، فرجع معه وشهد الفتح، ويقال‏:‏ أنه أسلم قبل ذلك، ولكنه أقام بمكة بإذن النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك، كما ورد به الحديث فالله أعلم‏.‏

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجله ويعظمه، وينزله منزلة الوالد من الولد، ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا بقية آبائي‏)‏‏)‏ وكان من أوصل الناس لقريش، وأشفقهم عليهم، وكان ذا رأي وعقل تام واف، وكان طويلاً جميلاً، أبيض بضاً ذا طفرتين، وكان له من الولد‏:‏ عشرة ذكور، سوى الإناث، وهم تمام - وكان أصغرهم - والحارث، وعبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وعون، والفضل، وقثم، وكثير، ومعبد‏.‏

وأعتق سبعين مملوكاً من غلمانه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا علي بن عبد الله قال‏:‏ حدثني محمد بن طلحة التميمي من أهل المدينة، حدثني أبو سهيل نافع بن مالك، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا العباس بن عبد المطلب أجود قريش كفاً، وأوصلها‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به‏.‏

وثبت في الصحيحين‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر حين بعثه على الصدقة، فقيل‏:‏ منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه، وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي علي ومثلها، ثم قال‏:‏ يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

وثبت في صحيح البخاري عن أنس‏:‏ أن عمر خرج يستسقي، وخرج بالعباس معه يستسقي به، وقال‏:‏ اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، قال‏:‏ فيسقون‏.‏

ويقال‏:‏ إن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا إذا مرا بالعباس وهما راكبان ترجلاً إكراماً له‏.‏

قال الواقدي وغير واحد‏:‏ توفي العباس في يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، وقيل‏:‏ من رمضان سنة ثنتين وثلاثين، عن ثمان وثمانين سنة‏.‏

وصلى عليه عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع، وقيل‏:‏ توفي سنة ثلاث وثلاثين، وقيل‏:‏ سنة أربع وثلاثين، وفضائله ومناقبه كثيرة جداً‏.‏

عبد الله بن مسعود

ابن غافل بن حبيب بن سمح بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تيم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر الهذلي، أبو عبد الرحمن حليف بني زهرة‏.‏

أسلم قديماً قبل عمر، وكان سبب إسلامه حين مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وهو يرعى غنماً فسألاه لبناً‏.‏

فقال‏:‏ إني مؤتمن‏.‏

قال‏:‏ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عناقاً لم ينزل عليها الفحل فاعتقلها، ثم حلب وشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع‏:‏ ‏(‏‏(‏أقلص‏)‏‏)‏ فقلص‏.‏

فقلت‏:‏ علمني من هذا الدعاء‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنك غلام معلم‏)‏‏)‏، الحديث‏.‏

وروى محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه‏:‏ أن ابن مسعود كان أول من جهر بالقرآن بمكة، بعد النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت، وقريش في أنديتها، قرأ سورة الرحمن علم القرآن، فقاموا إليه فضربوه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحمل نعليه وسواكه، وقال له‏:‏ إذنك على أن تسمع سوادي، ولهذا كان يقال له‏:‏ صاحب السواك والوساد، وهاجر إلى الحبشة ثم عاد إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدراً، وهو الذي قتل أبا جهل بعد ما أثبته ابنا عفراء، وشهد بقية المشاهد، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً‏:‏ ‏(‏‏(‏اقرأ علي‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ اقرأ عليك وعليك أنزل‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني أحب أن أسمعه من غيري‏)‏‏)‏، فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏ فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏حسبك‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو موسى‏:‏ قدمت أنا وأخي من اليمن وما كنا نظن إلا أن ابن مسعود وأمه من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة دخولهم بيت النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال حذيفة‏:‏ ما رأيت أحداً أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه ودله وسمته من ابن مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله زلفى‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏وتمسكوا بعهد ابن أم عبد‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث الآخر الذي رواه أحمد‏:‏ عن محمد بن فضيل، عن مغيرة، عن أم حرسي، عن علي‏:‏ أن ابن مسعود صعد شجرة يجتني الكبات، فجعل الناس يعجبون من دقة ساقيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد‏)‏‏)‏‏.‏

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وقد نظر إلى قصره وكان يوازي بقامته الجلوس - فجعل يتبعه بصره ثم قال‏:‏ هو كنيف مليء علماً‏.‏

وقد شهد ابن مسعود بعد النبي صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة منها اليرموك وغيرها، وكان قدم من العراق حاجاً فمر بالربذة فشهد وفاة أبي ذر، ودفنه، ثم قدم إلى المدينة فمرض بها، فجاءه عثمان بن عفان عائداً، فيروى‏:‏ أنه قال له ما تشتكي‏؟‏

قال‏:‏ ذنوبي‏.‏

قال‏:‏ فما تشتهي‏؟‏

قال‏:‏ رحمة ربي‏.‏

قال‏:‏ ألا آمر لك بطبيب‏؟‏

فقال‏:‏ الطبيب أمرضني‏.‏

قال‏:‏ ألا آمر لك بعطائك‏؟‏ - وكان قد تركه سنتين - فقال‏:‏ لا حاجة لي فيه‏.‏

فقال‏:‏ يكون لبناتك من بعدك‏.‏

فقال‏:‏ أتخشى على بناتي الفقر‏؟‏ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً‏)‏‏)‏‏.‏

وأوصى عبد الله بن مسعود إلى الزبير بن العوام، فيقال‏:‏ أنه هو الذي صلى عليه ليلاً، ثم عاتب عثمان الزبير على ذلك، وقيل‏:‏ بل صلى عليه عثمان، وقيل‏:‏ عمار فالله أعلم‏.‏

ودفن بالبقيع عن بضع وستين سنة‏.‏

عبد الرحمن بن عوف

ابن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، أبو محمد القرشي الزهري‏.‏

أسلم قديماً على يدي أبي بكر وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وشهد بدراً وما بعدها‏.‏

وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى بني كلب وأرخى له عذبة بين كتفية لتكون أمارة عليه للإمارة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى، ثم أحد الثلاثة الذين انتهت إليهم منهم، كما ذكرنا‏.‏

ثم كان هو الذي اجتهد في تقديم عثمان رضي الله عنه، وقد تقاول هو وخالد بن الوليد في بعض الغزوات فأغلظ له خالد في المقال، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تسبوا أصحابي، فوالدي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه‏)‏‏)‏‏.‏

وهو في الصحيح‏.‏

وقال معمر، عن الزهري‏:‏ تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألفاً، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمسمائة راحله في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة، فأما الحديث الذي قال عبد بن حميد في ‏(‏مسنده‏)‏‏:‏ ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك‏:‏ أن عبد الرحمن بن عوف لما هاجر آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عثمان بن عفان، فقال له‏:‏ إن لي حائطين فاختر أيهما شئت‏؟‏
فقال‏:‏ بارك الله لك في حائطيك، ما لهذا أسلمت، دلني على السوق‏.‏


قال‏:‏ فدله فكان يشتري السمنة والأقيطة والإهاب، فجمع فتزوج فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بارك الله لك أولم ولو بشاة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فكثر ماله حتى قدمت له سبعمائة راحله تحمل البر وتحمل الدقيق والطعام، قال‏:‏ فلما دخلت المدينة سمع لأهل المدينة رجه، فقالت عائشة‏:‏ ما هذه الرجه‏؟‏

فقيل لها‏:‏ عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف سبعمائة تحمل البر والدقيق والطعام‏.‏

فقالت عائشة‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يدخل عبد الرحمن بن عوف الجنة حبواً‏)‏‏)‏‏.‏

فلما بلغ عبد الرحمن ذلك قال‏:‏ أشهدك يا أمة أنها بأحمالها وأحلاسها وأقتابها في سبيل الله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عبد الصمد بن حسان، ثنا عمارة - هو ابن زاذان - عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ بينما عائشة في بيتها إذ سمعت صوتاً في المدينة، قالت‏:‏ ما هذا‏؟‏

قالوا‏:‏ عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل كل شيء - قال‏:‏ وكانت سبعمائة بعير - قال‏:‏ فارتجت المدينة من الصوت‏.‏

فقالت عائشة‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً‏)‏‏)‏‏.‏

فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف قال‏:‏ لئن استطعت لأدخلها قائماً فجعلها فأقتابها وأحمالها في سبيل الله‏.‏

فقد تفرد به عمارة بن زاذان الصيدلاني، وهو ضعيف‏.‏

وأما قوله في سياق عبد بن حميد‏:‏ أنه آخى بينه وبين عثمان بن عفان فغلط محض مخالف لما في صحيح البخاري من أن الذي آخى بينه وبينه إنما هو سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنهما‏.‏

وثبت في الصحيح‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى وراءه الركعة الثانية من صلاة الفجر في بعض الأسفار، وهذه منقبة عظيمة لا تبارى‏.‏

ولما حضرته الوفاة أوصى لكل رجل ممن بقي من أهل بدر بأربعمائة دينار - وكانوا مائة - فأخذوها حتى عثمان وعلي، وقال علي‏:‏ اذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوها، وسبقت زيفها وأوصى لكل امرأة من أمهات المؤمنين بمبلغ كثير حتى كانت عائشة تقول‏:‏ سقاه الله من السلسبيل‏.‏

وأعتق خلقاً من مماليكه ثم ترك بعد ذلك كله مالاً جزيلاً، من ذلك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال، وترك ألف بعير ومائة فرس، وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع‏.‏

وكان نساؤه أربعاً فصولحت إحداهن من ربع الثمن بثمانين ألفاً‏.‏

ولما مات صلى عليه عثمان بن عفان، وحمل في جنازته سعد بن أبي وقاص، ودفن بالبقيع عن خمس وسبعين سنة‏.‏

وكان أبيض مشرباً حمرة حسن الوجه، دقيق البشرة، أعين أهدب الأشفار، أقنى له جمة، ضخم الكفين، غليظ الأصابع، لا يغير شيبه رضي الله عنه‏.‏

أبو ذر الغفاري

واسمه جندب بن جنادة على المشهور، أسلم قديماً بمكة، فكان رابع أربعة أو خامس خمسة‏.‏

وقصة إسلامه تقدمت قبل الهجرة، وهو أول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام، ثم رجع إلى بلاده وقومه فكان هناك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فهاجر بعد الخندق، ثم لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم حضراً وسفراً‏.‏

وروى عنه أحاديث كثيرة، وجاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها‏:‏ ما رواه الأعمش، عن أبي اليقظان عثمان بن عمير، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن عبد الله بن عمرو‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر‏)‏‏)‏ وفيه ضعف‏.‏

ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، ثم نزل الربذة فأقام بها حتى مات في ذي الحجة من هذه السنة، وليس عنده سوى امرأته وأولاده، فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحابه فحضروا موته، وأوصاهم كيف يفعلون به، وقيل‏:‏ قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوه بعد الموت، وقد أرسل عثمان بن عفان إلى أهله فضمهم مع أهله‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين

فيها‏:‏ كان فتح قبرص في قول أبي معشر، وخالفه الجمهور فذكروها قبل ذلك كما تقدم‏.‏

وفيها‏:‏ غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفريقية ثانية حين نقض أهلها العهد‏.‏

وفيها‏:‏ سير أمير المؤمنين جماعة من قراء أهل الكوفة إلى الشام وكان سبب ذلك أنهم تكلموا بكلام قبيح في مجلس سعيد بن عامر، فكتب إلى عثمان في أمرهم، فكتب إليه عثمان أن يجليهم عن بلده إلى الشام، وكتب عثمان إلى معاوية أمير الشام‏:‏ أنه قد أخرج إليك قراء من أهل الكوفة فأنزلهم وأكرمهم وتألفهم‏.‏

فلما قدموا أنزلهم معاوية وأكرمهم واجتمع بهم ووعظهم ونصحهم فيما يعتمدونه من إتباع الجماعة وترك الانفراد والابتعاد‏.‏

فأجابه متكلمهم والمترجم عنهم بكلام فيه بشاعة وشناعة، فاحتملهم معاوية لحلمه، وأخذ في مدح قريش - وكانوا قد نالوا منهم - وأخذ في المدح لرسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه والصلاة والتسليم‏.‏

وافتخر معاوية بوالده وشرفه في قومه، وقال فيما قال‏:‏ وأظن أبا سفيان لو ولد الناس كلهم لم يلد إلا حازماً‏.‏

فقال له صعصعة بن صوحان‏:‏ كذبت، قد ولد الناس كلهم لمن هو خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البر والفاجر، والأحمق والكيس‏.‏

ثم بذل لهم النصح مرة أخرى فإذا هم يتمادون في غيهم، ويستمرون على جهالتهم وحماقتهم، فعند ذلك أخرجهم من بلده ونفاهم عن الشام، لئلا يشوشوا عقول الطغام، وذلك أنه كان يشتمل مطاوي كلامهم على القدح في قريش، كونهم فرطوا وضيعوا ما يجب عليهم من القيام فيه من نصرة الدين وقمع المفسدين‏.‏

وإنما يريدون بهذا التنقيص والعيب ورجم الغيب، وكانوا يشتمون عثمان وسعيد بن العاص‏.‏

وكانوا عشرة، وقيل‏:‏ تسعة وهو الأشبه، منهم‏:‏ كميل بن زياد، والأشتر النخعي - واسمه مالك بن يزيد - وعلقمة بن قيس النخعيان، وثابت بن قيس النخعي، وجندب بن زهير العامري، وجندب بن كعب الأزدي، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعي‏.‏
فلما خرجوا من دمشق آووا إلى الجزيرة فاجتمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد - وكان نائباً على الجزيرة‏.‏

ثم ولي حمص بعد ذلك - فهددهم وتوعدهم، فاعتذروا إليه وأنابوا إلى الإقلاع عما كانوا عليه، فدعا لهم وسير مالكاً الأشتر النخعي إلى عثمان بن عفان ليعتذر إليه عن أصحابه بين يديه، فقبل ذلك منهم وكف عنهم وخيرهم أن يقيموا حيث أحبوا، فاختاروا أن يكونوا في معاملة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فقدموا عليه حمص فأمرهم بالمقام بالساحل، وأجرى عليهم الرزق، ويقال‏:‏ بل لما مقتهم معاوية كتب فيهم إلى عثمان فجاءه كتاب عثمان أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردهم إليه، فلما رجعوا كانوا أزلق ألسنة، وأكثر شراً، فضج منهم سعيد بن العاص إلى عثمان فأمره أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص، وأن يلزموا الدروب‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ سير عثمان بعض أهل البصرة منها إلى الشام وإلى مصر بأسباب مسوغة لما فعله رضي الله عنه فكان هؤلاء ممن يؤلب عليه ويمالئ الأعداء في الحط والكلام فيه، وهم الظالمون في ذلك، وهو البار الراشد رضي الله عنه‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ حج بالناس أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وتقبل الله منه‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين

قال أبو معشر‏:‏ فيها‏:‏ كانت وقعة الصواري‏.‏

والصحيح في قول غيره‏:‏ أنها كانت قبل ذلك كما تقدم‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ تكاتب المنحرفون عن طاعة عثمان وكان جمهورهم من أهل الكوفة، وهم في معاملة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص منفيون عن الكوفة، وثاروا على سعيد بن العاص أمير الكوفة، وتألبوا عليه، ونالوا منه ومن عثمان، وبعثوا إلى عثمان من يناظره فيما فعل وفيما اعتمد من عزل كثير من الصحابة وتولية جماعة من بني أمية من أقربائه، وأغلظوا له في القول‏.‏

وطلبوا منه أن يعزل عماله، ويستبدل أئمة غيرهم من السابقين ومن الصحابة، حتى شق ذلك عليه جداً، وبعث إلى أمراء الأجناد فأحضرهم عنده ليستشيرهم، فاجتمع إليه معاوية بن أبي سفيان أمير الشام، وعمرو بن العاص أمير مصر، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير المغرب، وسعيد بن العاص أمير الكوفة، وعبد الله بن عامر أمير البصرة فاستشارهم فيما حدث من الأمر وافتراق الكلمة‏.‏

فأشار عبد الله بن عامر‏:‏ أن يشغلهم بالغزو عما هم فيه من الشر، فلا يكون هم أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته، فإن غوغاء الناس إذا تفرغوا وبطلوا واشتغلوا بما لا يغني، وتكلموا بما لا يرضي، وإذا تفرقوا نفعوا أنفسهم وغيرهم‏.‏

وأشار سعيد بن العاص بأن يستأصل شأفة المفسدين ويقطع دابرهم، وأشار معاوية بأن يرد عماله إلى أقاليمهم، وأن لا يلتفت إلى هؤلاء، وما تألبوا عليه من الشر فإنهم أقل وأضعف جنداً‏.‏

وأشار عبد الله بن سعد بن أبي سرح بأن يتألفهم بالمال فيعطيهم منه ما يكف به شرهم، ويأمن غائلتهم، ويعطف به قلوبهم إليه‏.‏

وأما عمرو بن العاص فقام فقال‏:‏ أما بعد يا عثمان، فإنك قد ركبت الناس ما يكرهون، فأما أن تعزل عنهم ما يكرهون، وإما أن تقدم فتنزل عمالك على ما هم عليه، وقال له كلاماً فيه غلظة، ثم اعتذر إليه في السر بأنه إنما قال هذا ليبلغ عنه من كان حاضراً من الناس إليهم ليرضوا من عثمان بهذا، فعند ذلك قرر عثمان عماله على ما كانوا عليه، وتألف قلوب أولئك بالمال، وأمر بأن يبعثوا إلى الغزو إلى الثغور، فجمع بين المصالح كلها، ولما رجعت العمال إلى أقاليمها امتنع أهل الكوفة من أن يدخل عليهم سعيد بن العاص، ولبسوا السلاح وحلفوا أن لا يمكنوه من الدخول فيها حتى يعزله عثمان ويولي عليهم أبا موسى الأشعري، وكان اجتماعهم بمكان يقال له الجرعة - وقد قال يومئذٍ الأشتر النخعي‏:‏ والله لا يدخلها علينا ما حملنا سيوفنا - وتواقف الناس بالجرعة‏.‏

وأحجم سعيد عن قتالهم، وصمموا على منعه، وقد اجتمع في مسجد الكوفة في هذا اليوم حذيفة وأبو مسعود عقبة بن عمرو، فجعل أبو مسعود يقول‏:‏ والله لا يرجع سعيد بن العاص حتى يكون دماء‏.‏

فجعل حذيفة يقول‏:‏ والله ليرجعن ولا يكون فيها محجمة من دم، وما أعلم اليوم شيئاً إلا وقد علمته ومحمد صلى الله عليه وسلم حي‏.‏

والمقصود‏:‏ أن سعيد بن العاص كرَّ راجعاً إلى المدينة وكسر الفتنة، فأعجب ذلك أهل الكوفة، وكتبوا إلى عثمان أن يولي عليهم أبا موسى الأشعري بذلك فأجابهم عثمان إلى ما سألوا إزاحة لعذرهم، وإزالة لشبههم، وقطعاً لعللهم‏.‏

وذكر سيف بن عمر أن سبب تألب الأحزاب على عثمان‏:‏ أن رجلاً يقال له عبد الله بن سبأ كان يهودياً، فأظهر الإسلام، وصار إلى مصر، فأوحى إلى طائفة من الناس كلاماً اخترعه من عند نفسه، مضمونه‏:‏ أنه يقول للرجل أليس قد ثبت أن عيسى بن مريم سيعود إلى هذه الدنيا‏؟‏

فيقول الرجل‏:‏ نعم ‏!‏

فيقول له‏:‏ فرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه فما تنكر أن يعود إلى هذه الدنيا، وهو أشرف من عيسى بن مريم عليه السلام‏؟‏

ثم يقول‏:‏ وقد كان أوصى إلى علي بن أبي طالب، فمحمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، ثم يقول‏:‏ فهو أحق بالإمرة من عثمان، وعثمان معتد في ولايته ما ليس له‏.‏

فأنكروا عليه، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر، وكتبوا إلى جماعات من عوام أهل الكوفة والبصرة فتمالأوا على ذلك وتكاتبوا فيه، وتواعدوا أن يجتمعوا في الإنكار على عثمان، وأرسلوا إليه من يناظره ويذكر له ما ينقمون عليه من توليته أقرباءه وذوي رحمه وعزله كبار الصحابة، فدخل هذا في قلوب كثير من الناس، فجمع عثمان بن عفان نوابه من الأمصار فاستشارهم فأشاروا عليه بما تقدم، ذكرنا له فالله أعلم‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ فيما رواه عن عبد الله بن محمد، عن أبيه قال‏:‏ لما كانت سنة أربع وثلاثين أكثر الناس بالمقالة على عثمان بن عفان، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، فكلم الناس علي بن أبي طالب أن يدخل على عثمان فدخل عليه، فقال له‏:‏ إن الناس ورائي، وقد كلموني فيك، ووالله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بأمور خفي عنك إدراكها، وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك، وإنك أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رحماً، ولقد نلت من صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم ينالا، ولا سبقاك إلى شيء، فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبصر من عمي، ولا تعلم من جهل‏.‏

وإن الطريق لواضح بين، وإن أعلام الدين لقائمة، تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هدي وهدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة معلومة، فوالله إن كلاً لبين، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وأضل به، فأمات سنة معلومة، وأحيا بدعة متروكة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر، وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور فيها كما تدور الرحا، ثم يرتطم في غمرة جهنم‏)‏‏)‏‏.‏

وإني أحذرك الله، وأحذرك سطوته ونقمته، فإن عذابه أليم شديد، واحذر أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه كان يقال‏:‏ يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتلبس أمورها عليها، ويتركون شيعاً لا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرحون فيها مرحاً‏.‏

فقال عثمان‏:‏ قد والله علمت لتقولن الذي قلت، أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك، ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، ولا جئت منكراً، إني وصلت رحماً، وسددت خلة، وآويت ضائعاً، ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولي، أنشدك الله يا علي، هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ فتعلم أن عمر ولاه‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ فلم تلوموني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته ‏؟‏‏.‏

فقال علي‏:‏ سأخبرك أن عمر كان كلما ولى أميراً فإنما يطأ على صماخيه‏؟‏ وأنه إن بلغه حرف جاء به، ثم بلغ به أقصى الغاية في العقوبة، وأنت لا تفعل ضعفت ورفقت على أقربائك‏.‏

فقال عثمان‏:‏ هم أقرباؤك أيضاً‏.‏

فقال علي‏:‏ لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم‏.‏

قال عثمان‏:‏ هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها، فقد وليته‏.‏

فقال علي‏:‏ أنشدك الله، هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏!‏

قال علي‏:‏ فإن معاوية يقطع الأمور دونك، وأنت تعلمها، ويقول للناس‏:‏ هذا أمر عثمان، فليبلغك فلا تنكر ولا تغير على معاوية‏.‏

ثم خرج علي من عنده، وخرج عثمان على إثره فصعد المنبر فوعظ وحذر وأنذر، وتهدد وتوعد، وأبرق وأرعد، فكان فيما قال‏:‏ ألا فقد والله عبتم علي بما أقررتم به لابن الخطاب، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم وأوطأت لكم كتفي، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي‏.‏

أما والله لأنا أعز نفراً وأقرب ناصراً وأكثر عدداً، وأقمن أن قلت هلم إلي، ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولاً، وكشرت لكم عن نابي، فأخرجتم مني خلقاً لم أكن أحسنه، ومنطقاً لم أنطق به، فكفوا ألسنتكم وطعنكم، وعيبكم على ولاتكم فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يليكم لرضيتم منه دون منطقي هذا، ألا فما تفقدون من حقكم‏؟‏ فوالله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي‏.‏

ثم اعتذر عما كان يعطي أقرباءه بأنه من فضل ماله‏.‏

فقام مروان بن الحكم فقال‏:‏ إن شئتم والله حكمنا بيننا وبينكم السيف، نحن والله وأنتم، كما قال الشاعر‏:‏

فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم * مغارسكم تبنون في دِمِنِ الثرى

فقال عثمان‏:‏ اسكت لا سكت، دعني وأصحابي ما منطقك في هذا، ألم أتقدم إليك أن لا تنطق‏.‏

فسكت مروان ونزل عثمان رضي الله عنه‏.‏

وذكر سيف بن عمر وغيره‏:‏ أن معاوية لما ودعه عثمان حين عزم على الخروج إلى الشام عرض عليه أن يرحل معه إلى الشام فإنهم قوم كثيرة طاعتهم للأمراء‏.‏

فقال‏:‏ لا أختار بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم سواه‏.‏

فقال‏:‏ أجهز لك جيشاً من الشام يكونون عندك ينصرونك ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ إني أخشى أن أضيق بهم بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه من المهاجرين والأنصار‏.‏

قال معاوية‏:‏ فوالله يا أمير المؤمنين لتغتالن - أو قال‏:‏ لتغزين -‏.‏

فقال عثمان‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل‏.‏

ثم خرج معاوية من عنده وهو متقلد السيف وقوسه في يده، فمر على ملأ من المهاجرين والأنصار فيهم علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، فوقف عليهم واتكأ على قوسه، وتكلم بكلام بليغ يشتمل على الوصاة بعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، والتحذير من إسلامه إلى أعدائه، ثم انصرف ذاهباً‏.‏

فقال الزبير‏:‏ ما رأيت أهيب في عيني من يومه هذا‏.‏

وذكر ابن جرير‏:‏ أن معاوية استشعر الأمر لنفسه من قدمته هذه إلى المدينة، وذلك أنه سمع حادياً يرتجز في أيام الموسم في هذا العام، وهو يقول‏:‏

قد علمت ضوامر المطي * وضمرات عوج القسي

أن الأمير بعده علي * وفي الزبير خلف رضي

وطلحة الحامي لها ولي

فلما سمعها معاوية لم يزل ذلك في نفسه، حتى كان ما كان على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة مات أبو عبس بن جبير بالمدينة وهو بدري‏.‏

ومات أيضاً مسطح بن أثاثة‏.‏ وغافل بن البكير‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ففيها مقتل عثمان

وكان السبب في ذلك‏:‏ أن عمرو بن العاص حين عزله عثمان عن مصر، ولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح‏.‏

وكان سبب ذلك‏:‏ أن الخوارج من المصريين كانوا محصورين من عمرو بن العاص، مقهورين معه لا يستطيعون أن يتكلموا بسوء في خليفة ولا أمير، فما زالوا حتى شكوه إلى عثمان لينزعه عنهم، ويولي عليهم من هو ألين منه‏.‏

فلم يزل ذلك دأبهم حتى عزل عمراً عن الحرب، وتركه على الصلاة، وولى على الحرب والخراج عبد الله بن سعد بن أبي سرح‏.‏

ثم سعوا فيما بينهما بالنميمة فوقع بينهما، حتى كان بينهما كلام قبيح‏.‏ فأرسل عثمان فجمع لابن أبي سرح جميع عمالة مصر، خراجها وحربها وصلاتها‏.‏
وبعث إلى عمرو يقول له‏:‏ لا خير لك في المقام عند من يكرهك، فأقدم إليّ، فانتقل عمرو بن العاص إلى المدينة وفي نفسه من عثمان أمرٌ عظيم وشرٌ كبير، فكلمه فيما كان من أمره بنفس، وتقاولا في ذلك، وافتخر عمرو بن العاص بأبيه على عثمان، وأنه كان أعز منه‏.‏

فقال له عثمان‏:‏ دع هذا، فإنه من أمر الجاهلية‏.‏

وجعل عمرو بن العاص يؤلب الناس على عثمان‏.‏

وكان بمصر جماعة يبغضون عثمان ويتكلمون فيه بكلام قبيح على ما قدمنا، وينقمون عليه في عزله جماعة من عِلية الصحابة، وتوليته من دونهم، أو من لا يصلح عندهم للولاية‏.‏

وكره أهل مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد عمرو بن العاص، واشتغل عبد الله بن سعد عنهم بقتال أهل المغرب، وفتحه بلاد البربر والأندلس وإفريقية‏.‏

وأنشأ بمصر طائفة من أبناء الصحابة يؤلبون الناس على حربه، والإنكار عليه، وكان عظم ذلك مسنداً إلى محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة حتى استنفرا نحواً من ستمائة راكب، يذهبون إلى المدينة في صفة معتمرين في شهر رجب، لينكروا على عثمان، فساروا إليها تحت أربع رفاق‏.‏

وأمر الجميع إلى عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر التيجي، وسودان بن حمران السكوني‏.‏

وأقبل معهم محمد بن أبي بكر، وأقام بمصر محمد بن أبي حذيفة يؤلب الناس ويدافع عن هؤلاء، وكتب عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى عثمان يعلمه بقدوم هؤلاء القوم إلى المدينة منكرين عليه في صفة المعتمرين‏.‏

فلما اقتربوا من المدينة أمر عثمان علي بن أبي طالب أن يخرج إليهم ليردهم إلى بلادهم قبل أن يدخلوا المدينة‏.‏

ويقال‏:‏ بل ندب الناس إليهم، فانتدب علي لذلك فبعثه، وخرج معه جماعة الأشراف وأمره أن يأخذ معه عمار بن ياسر‏.‏

فقال علي لعمار، فأبى عمار أن يخرج معه، فبعث عثمان سعد بن أبي وقاص أن يذهب إلى عمار ليحرضه على الخروج مع علي إليهم، فأبى عمار كل الإباء وامتنع أشد الامتناع، وكان متعصباً على عثمان بسبب تأديبه له فيما تقدم على أمرٍ وضربه إياه في ذلك‏.‏

وذلك بسبب شتمه عباس بن عتبة بن أبي لهب فأدبهما عثمان فتأمر عمار عليه لذلك، وجعل يحرّض الناس عليه، فنهاه سعد بن أبي وقاص عن ذلك ولامه عليه، فلم يقلع عنه، ولم يرجع ولم ينزع، فانطلق علي بن أبي طالب إليهم، وهم بالجُحفة، وكانوا يعظمونه ويبالغون في أمره فردهم، وانبهم وشتمهم، فرجعوا على أنفسهم بالملامة‏.‏

وقالوا‏:‏ هذا الذي تحاربون الأمير بسببه، وتحتجون عليه به‏.‏

ويقال‏:‏ أنه ناظرهم في عثمان، وسألهم ماذا ينقمون عليه، فذكروا أشياء‏.‏

منها‏:‏ أنه حمى الحمى، وأنه حرق المصاحف، وأنه أتم الصلاة، وأنه أولى الأحداث الولايات، وترك الصحابة الأكابر، وأعطى بني أمية أكثر من الناس‏.‏

فأجاب علي عن ذلك، أما الحمى فإنما حماه لا بل الصدقة لتسمن، ولم يحمه لإبله ولا لغنمه، وقد حماه عمر من قبله‏.‏

وأما المصاحف فإنما حرق ما وقع فيه اختلاف، وأبقى لهم المتفق عليه، كما ثبت في العرضة الأخيرة، وأما إتمامه الصلاة بمكة فإنه كان قد تأهل بها ونوى الإقامة فأتمها‏.‏

وأما توليته الأحداث فلم يول إلا رجلاً سوياً عدلاً، وقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة، وهو ابن عشرين سنة، وولى أسامة بن زيد بن حارثة‏.‏

وطعن الناس في أمارته فقال‏:‏ إنه لخليق بالإمارة، وأما إيثاره قومه بني أمية، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثر قريشاً على الناس، ووالله لو أن مفتاح الجنة بيدي لأدخلت بني أمية إليها‏.‏

ويقال‏:‏ أنهم عتبوا عليه في عمار، ومحمد بن أبي بكر فذكر عثمان عذره في ذلك، وأنه أقام فيهما ما كان يجب عليهما‏.‏

وعتبوا عليه في إيوائه الحكم بن أبي العاص وقد نفاه إليها، قال‏:‏ فقد نفاه رسول الله صلى إلى الطائف، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد نفاه إلى الطائف، ثم رده، ثم نفاه إليها‏.‏

قال‏:‏ فقد نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رده، ورُوي أن عثمان خطب الناس بهذا كله بمحضر الله عليه وسلم من الصحابة، وجعل يستشهد بهم فيشهدون له فيما فيه شهادة له‏.‏

ويروى‏:‏ أنهم بعثوا طائفة منهم فشهدوا خطبة عثمان هذه، فلما تمهدت الأعذار، وانزاحت عللهم ولم يبق لهم شبهة، أشار جماعة من الصحابة على عثمان بتأديبهم، فصفح عنهم رضي الله عنه‏.‏

وردهم إلى قومهم فرجعوا خائبين من حيث أتوا، ولم ينالوا شيئاً مما كانوا أملوا وراموا، ورجع علي إلى عثمان فأخبره برجوعهم عنه وسماعهم منه‏.‏

وأشار على عثمان أن يخطب الناس خطبة يعتذر إليهم فيها مما وقع من الأثرة لبعض أقاربه، ويشهدهم عليه بأنه تاب من ذلك، وأناب إلى الاستمرار على ما كان عليه من سيرة الشيخين قبله، وأنه لا يحيد عنها كما كان الأمر أولاً في مدة ست سنين الأول‏.‏

فاستمع عثمان هذه النصيحة، وقابلها بالسمع والطاعة، ولما كان يوم الجمعة وخطب الناس رفع يديه في أثناء الخطبة وقال‏:‏

اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهم إني أول تائب مما كان مني، وأرسل عينيه بالبكاء، فبكى المسلمون أجمعون، وحصل للناس رقة شديدة على إمامهم، وأشهد عثمان الناس على نفسه بذلك، وأنه قد لزم ما كان عليه الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنه قد سبل بابه لمن أراد الدخول عليه لا يمنع أحد من ذلك، ونزل فصلى بالناس‏.‏ ثم دخل منزله، وجعل من أراد الدخول على أمير المؤمنين لحاجة أو مسألة أو سؤال لا يمنع أحد من ذلك مدة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ فحدثني علي بن عمر، عن أبيه قال‏:‏ ثم إن علياً جاء عثمان بعد انصراف المصريين، فقال له‏:‏ تكلم كلاماً تسمعه الناس منكم، ويشهدون عليك، ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة، فإن البلاد قد تمخضت عليك، ولا آمن رِكْباً آخرين يقدمون من قبل الكوفة، فتقول‏:‏ يا علي اركب إليهم، ويقدم آخرون من البصرة، فتقول‏:‏ يا علي اركب إليهم، فإن لم أفعل قطعت رحمك، واستخففت بحقك‏.‏

قال‏:‏ فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها، وأعلم الناس من نفسه التوبة، فقام فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله‏.‏

ثم قال‏:‏ أما بعد، أيها الناس، فوالله ما عاب من عاب شيئاً أجهله، وما جئت شيئاً إلا وأنا أعرفه، ولكن ضل رشدي، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من زل فليتب، ومن أخطأ فليتب، ولا يتمادى في الهلكة، إن من تمادى في الجور كان أبعد عن الطريق‏)‏‏)‏‏.‏

فأنا أول اتعظ استغفر الله مما فعلت، وأتوب فمثلي نزع وتاب، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم، فوالله لأكونن كالمرقوق إن مُلك صبر، وإن عُتق شكر، وما عن الله مذهب إلا إليه‏.‏

قال‏:‏ فرق الناس له، وبكى من بكى‏.‏

وقام إليه سعيد بن زيد، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ ألله الله في نفسك‏!‏ فأتمم على ما قلت‏.‏

فلما انصرف عثمان إلى منزله وجد به جماعة من أكابر الناس، وجاءه مروان بن الحكم فقال‏:‏ أتكلم يا أمير المؤمنين، أم أصمت ‏؟‏‏.‏

فقالت امرأة عثمان - نائلة بنت الفرافصة الكلبية - من وراء الحجاب‏:‏ بل اصمت، فوالله إنهم لقاتلوه، ولقد قال مقالة لا ينبغي النزوع عنها‏.‏

فقال لها‏:‏ وما أنت وذاك‏!‏ ‏؟‏فوالله لقد مات أبوك وما يحسن أن يتوضأ‏.‏

فقالت له‏:‏ دع ذكر الآباء، ونالت من أبيه الحكم، فأعرض عنها مروان، وقال لعثمان‏:‏ يا أمير المؤمنين أتكلم أم أصمت ‏؟‏‏.‏

فقال له عثمان‏:‏ بل تكلم‏.‏

فقال مروان‏:‏ بأبي أنت وأمي، لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت مُمنع منيع، فكنت أول من رضي بها، وأعان عليها، ولكنك قلت ما قلت حين جاوز الحزام الطبيين، وبلغ السيل الزبا، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل‏.‏

والله لإقامة على خطيئة يستغفر منها خير من توبة خوف عليها، وإنك لو شئت لعزمت التوبة، ولم تقرر لنا بالخطيئة، وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس‏.‏

فقال عثمان‏:‏ قم فاخرج إليهم فكلمهم، فإني استحي أن أكلمهم‏.‏

قال‏:‏ فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضاً‏.‏

فقال‏:‏ ما شأنكم كأنكم قد جئتم لنهبٍ، شاهت الوجوه، كل إنسان آخذ بأذن صاحبه، ألا من أريد جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنا أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم أمر يسؤكم ولا تحمدوا غبه، ارجعوا إلى منازلكم، فوالله ما نحن مغلوبين على ما بأيدينا‏.‏

قال‏:‏ فرجع الناس، وخرج بعضهم حتى أتى علياً فأخبره الخبر، فجاء علي مغضباً حتى دخل على عثمان‏.‏

فقال‏:‏ أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحويلك عن دينك وعقلك ‏؟‏‏!‏ وإن مثلك مثل جمل الظعينة سار حيث يسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وأيم والله إني لأراه سيوردك، ثم لا يصدرك، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت سوقك، وغلبت أمرك‏.‏

فلما خرج علي، دخلت نائلة على عثمان فقالت‏:‏ أتكلم أو أسكت ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ تكلمي‏.‏

فقالت‏:‏ سمعت قول علي إنه ليس يعاودك، وقد أطعت مروان حيث شاء‏.‏

قال‏:‏ فما أصنع ‏؟‏‏.‏

قالت‏:‏ تتقي الله وحده لا شريك له، وتتبع سنة صاحبيك من قبلك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الله قدر ولا هيبة ولا محبة، فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة منك، وهو لا يُعصى
قال‏:‏ فأرسل عثمان إلى علي فأبى أن يأتيه، وقال‏:‏ لقد أعلمته أني لست بعائد‏.‏

قال‏:‏ وبلغ مروان قول نائلة فيه، فجاء إلى عثمان فقال‏:‏ أتكلم أو أسكت ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ تكلم‏.‏

فقال‏:‏ إن نائلة بنت الفرافصة‏.‏

فقال عثمان‏:‏ لا تذكرها بحرف فأسوء إلى وجهك، فهي والله أنصح لي منك‏.‏

قال‏:‏ فكف مروان‏.‏

ذكر مجيء الأحزاب إلى عثمان للمرة الثانية من مصر

وذلك أن أهل الأمصار لما بلغهم خبر مروان، وغضب علي على عثمان بسببه، ووجدوا الأمر على ما كان عليه لم يتغير ولم يسلك سيرة صاحبيه، كاتب تكاتب أهل مصر وأهل الكوفة أهل البصرة وتراسلوا، وزورت كتب على لسان الصحابة الذين بالمدينة، وعلى لسان علي وطلحة والزبير، يدعون الناس إلى قتال عثمان ونصر الدين، وأنه أكبر الجهاد اليوم‏.‏

وذكر سيف بن عمر التميمي‏:‏ عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، وقاله غيرهم أيضاً، قالوا‏:‏ لما كان في شوال سنة خمس وثلاثين، وخرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة أمراء المقلل لهم يقول‏:‏ ستمائة، والمكثر يقول‏:‏ ألف‏.‏ على الرفاق عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر الليثي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة السكوني، وعلى القوم جميعاً الغافقي بن حرب العكي‏.‏

وخرجوا فيما يظهرون للناس حجاجاً ومعهم ابن السوداء - وكان أصله ذمياً، فأظهر الإسلام وأحدث بدعاً قولية وفعلية قبحه الله -، وخرج أهل الكوفة في عدتهم من أربع رفاق، وأمراؤهم زيد بن صوحان، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم، وعلى الجميع عمرو بن الأصم‏.‏

وخرج الله البصرة في عدتهم أيضاً في أربع رايات مع حُكيم بن جبلة العبدي، وبشر بن شريح بن ضبيعة القيسي، وذريح بن عباد العبدي، وعليهم كلهم حرقوص بن زهير السعدي‏.‏

وأهل مصر مصرون على ولاية علي بن أبي طالب، وأهل الكوفة عازمون على تأمير الزبير، وأهل البصرة مصممون على تولية طلحة‏.‏

لا تشك كل فرقة أن أمرها سيتم، فسار كل طائفة من بلدهم حتى توافوا حول المدينة، كما تواعدوا في كتبهم، في شهر شوال فنزل طائفة منهم بذي خشب، وطائفة بالأعوص، والجمهور بذي المروة، وهم على وجل من أهل المدينة

فبعثوا قصّاداً وعيوناً بين أيديهم ليخبروا الناس أنهم إنما جاؤا للحج لا لغيره، وليستعفوا هذا الوالي من بعض عماله، ما جئنا إلا لذلك، واستأذنوا للدخول فكل الناس أبى دخولهم ونهى عنه، فتجاسروا واقتربوا من المدينة وجاءت طائفة من المصريين إلى علي، وهو في عسكر عند أحجار الزيت، عليه حلة أصواف معتم بشقيقة حمراء يمانية، متقلداً السيف، وليس عليه قميص‏.‏

وقد أرسل ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه فسلم عليه المصريون، فصاح بهم وطردهم، وقال‏:‏ لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فارجعوا لا صبحكم الله‏.‏ قالوا‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏
وانصرفوا من عنده على ذلك، وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى جنب علي - وقد أرسل ابنيه إلى عثمان - فسلموا عليه فصاح بهم وطردهم وقال لهم كما قال علي لأهل مصر، وكذلك كان رد الزبير على أهل الكوفة‏.‏

فرجع كل فريق منهم إلى قومهم، وأظهروا للناس أنهم راجعون إلى بلدانهم، وساروا أياماً راجعين، ثم كروا عائدين إلى المدينة فما كان غير قليل حتى سمع أهل المدينة التكبير، وإذا القوم قد زحفوا على المدينة، وأحاطوا بها، وجمهورهم عند دار عثمان بن عفان‏.‏ وقالوا للناس‏:‏ من كف يده فهو آمن، فكف الناس ولزموا بيوتهم، وأقام الناس على ذلك أياماً‏.‏

هذا كله ولا يدري الناس ما القوم صانعون، ولا على ما هم عازمون، وفي كل ذلك وأمير المؤمنين عثمان بن عفان يخرج من داره فيصلي بالناس فيصلي وراءه أهل المدينة، وأولئك الآخرون، وذهب الصحابة إلى هؤلاء يؤنبونهم ويعذلونهم على رجوعهم‏.‏

حتى قال علي لأهل مصر‏:‏ ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم ‏؟‏‏.‏

فقالوا‏:‏ وجدنا مع بريد كتاباً بقتلنا، وكذلك قال البصريون لطلحة، والكوفيون للزبير‏.‏

وقال أهل كل مصر‏:‏ إنما جئنا لننصر أصحابنا‏.‏

فقال لهم الصحابة‏:‏ كيف علمتم بذلك من أصحابكم وقد افترقتم وصار بينكم مراحل‏؟‏ إنما هذا أمر اتفقتم عليه‏.‏

فقالوا‏:‏ ضعوه على ما أردتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا ونحن نعتزله - يعنون‏:‏ أنه إن نزل عن الخلافة تركوه آمنا -‏.‏

وكان المصريون فيما ذكر، لما رجعوا إلى بلادهم وجدوا في الطريق بريداً يسير، فأخذوه ففتشوه، فإذا معه في إدواة كتاباً على لسان عثمان فيه الأمر بقتل طائفة منهم، وبصلب آخرين، وبقطع أيدي آخرين منهم وأرجلهم، وكان على الكتاب طابع بخاتم عثمان، والبريد أحد غلمان عثمان وعلى جمله‏.‏

فلما رجعوا جاؤوا بالكتاب وداروا به على الناس، فكلم الناس أمير المؤمنين في ذلك، فقال‏:‏ بينة علي بذلك، وإلا فوالله لا كتبت، ولا أمليت، ولا دريت بشيء من ذلك، والخاتم قد يزور على الخاتم، فصدقه الصادقون في ذلك، وكذبه الكاذبون‏.‏

ويقال‏:‏ إن أهل مصر كانوا قد سألوا من عثمان أن يعزل عنهم ابن أبي سرح، ويولي محمد بن أبي بكر‏.‏

فأجابهم إلى ذلك، فلما رجعوا وجدوا ذلك البريد ومعه الكتاب بقتل محمد بن أبي بكر وآخرين معه، فرجعوا وقد حنقوا عليه حنقاً شديداً، وطافوا بالكتاب على الناس، فدخل ذلك في أذهان كثير من الناس‏.‏

وروى ابن جرير‏:‏ من طريق محمد بن إسحاق، عن عمه عبد الرحمن بن يسار، أن الذي كان معه الرسالة من جهة عثمان إلى مصر أبو الأعور السلمي، على جمل لعثمان‏.‏

وذكر ابن جرير من هذه الطريق‏:‏ أن الصحابة كتبوا إلى الآفاق من المدينة يأمرون الناس بالقدوم على عثمان ليقاتلوه، وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم، كما كتبوا من جهة علي وطلحة والزبير إلى الخوارج كتباً مزورة عليهم أنكروها، وهكذا زور هذا الكتاب على عثمان أيضاً، فإنه لم يأمر به، ولم يعلم به أيضاً‏.‏

واستمر عثمان يصلي بالناس في تلك الأيام كلها، وهم أحقر في عينه من التراب، فلما كان في بعض الجمعات وقام على المنبر وفي يده العصا التي كان يعمد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من بعده، فقام إليه رجل من أولئك فسبه ونال منه، وأنزله عن المنبر، فطمع الناس فيه من يومئذ‏.‏

كما قال الواقدي‏:‏ حدثني أسامة بن يزيد، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه قال‏:‏ بينا أنا أنظر إلى عثمان على عصا النبي صلى الله عليه وسلم التي يخطب عليها وأبو بكر وعمر، فقال له‏:‏ جهجاه، قم يا نعثل فانزل عن هذا المنبر، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى فدخلت شظية منها فيها فبقى الجرح حتى أصابته الأكلة، فرأيتها تدود، فنزل عثمان وحملوه، وأمر بالعصا فشدوها، فكانت مضببة، فما خرج بعد ذلك اليوم إلا خرجة أو خرجتين حتى حصر فقتل‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وحدثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عبد الله ابن إدريس، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع‏:‏ أن الجهجاه الغفاري أخذ عصا كانت في يد عثمان فكسرها على ركبته، فرمي في ذلك المكان بأكلة‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ وحدثني ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن ابن أبي حبيبة قال‏:‏ خطب عثمان الناس في بعض أيامه‏.‏

فقال عمرو بن العاص‏:‏ يا أمير المؤمنين، إنك ركبت بهاتير، وركبناها معك، فتب نتب معك‏.‏

فاستقبل عثمان القبلة وشمر يديه، وقال ابن أبي حبيبة‏:‏ فلم أر يوماً أكثر باكياً ولا باكية من يومئذ‏.‏

ثم لما كان بعد ذلك خطب الناس، فقام إليه جهجاه الغفاري فصاح إليه‏:‏ يا عثمان ألا إن هذه شارف قد جئنا بها عليها عباءة وجامعة، فانزل فلندرجك في العباة ولنطرحك في الجامعة ولنحملك على الشارف ثم نطرحك في جبل الدخان‏.‏

فقال عثمان‏:‏ قبحك الله وقبح ما جئت به، ثم نزل عثمان‏.‏

قال ابن أبي حبيبة‏:‏ وكان آخر يوم رأيته فيه‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد قال‏:‏ كان أول من اجترأ على عثمان بالنطق السيء جبلة بن عمرو الساعدي مر به عثمان وهو في نادي قومه، وفي يد جبلة جامعة، فلما مر عثمان سلم فرد القوم‏.‏

فقال جبلة‏:‏ لم تردون عليه‏؟‏ رجل قال كذا وكذا، ثم أقبل على عثمان فقال‏:‏ والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك، أو لتتركن بطانتك هذه‏.‏

فقال عثمان‏:‏ أي بطانة‏؟‏ فوالله لأتخير الناس، فقال مروان تخيرته، ومعاوية تخيرته، وعبد الله بن عامر بن كريز تخيرته، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح تخيرته، منهم من نزل القرآن بذمه، وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، قال‏:‏ فانصرف عثمان فما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وحدثني محمد بن صالح، عن عبيد الله بن رافع بن نقاخة، عن عثمان بن الشريد‏.‏

قال‏:‏ مر عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو بفناء داره، ومعه جامعة، فقال‏:‏ يا نعثل‏!‏ والله لأقتلنك ولأحملنك على قلوص جرباء، ولأخرجنك إلى حرة النار‏.‏

ثم جاءه مرة أخرى وعثمان على المنبر فأنزله عنه‏.‏

وذكر سيف بن عمر‏:‏ أن عثمان بعد أن صلى بالناس يوم الجمعة، صعد المنبر فخطبهم أيضاً فقال في خطبته‏:‏ يا هؤلاء الغرباء‏!‏ الله الله، فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فامحوا الخطأ بالصواب، فإن الله لا يمحو السيء إلا بالحسن‏.‏

فقام محمد بن مسلمة فقال‏:‏ أنا أشهد بذلك، فأخذه حُكَيم بن جبلة فأقعده، فقام زيد بن ثابت فقال‏:‏ إنه في الكتاب‏.‏

فثار إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي مريرة فأقعده‏.‏

وقال‏:‏ يا نطع، وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع من المنبر مغشياً عليه، فاحتمل وأدخل داره‏.‏

وكان المصريون لا يطمعون في أحد من الناس أن يساعدهم إلا محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، وعمار بن ياسر‏.‏

وأقبل علي وطلحة والزبير إلى عثمان في أناس يعودونه ويشكون إليه بثهم وما حل بالناس، ثم رجعوا إلى منازلهم، واستقبل جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة وابن عمر، وزيد بن ثابت في المحاربة عن عثمان، فبعث إليهم يقسم عليهم لما كفوا أيديهم وسكنوا حتى يقضى الله ما يشاء‏.‏

ذكر حصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان

لما وقع ما وقع يوم الجمعة، وشج أمير المؤمنين عثمان، وهو في رأس المنبر، وسقط مغشياً عليه واحتمل إلى داره وتفاقم الأمر، وطمع فيه أولئك الأجلاف الأخلاط من الناس، وألجاؤه إلى داره، وضيقوا عليه، وأحاطوا بها محاصرين له، ولزم كثير من الصحابة بيوتهم‏.‏

وسار إليه جماعة من أبناء الصحابة عن أمر آبائهم، منهم‏:‏ الحسن والحسين، وعبد الله بن الزبير - وكان أمير الدار - وعبد الله بن عمرو، وصاروا يحاجون عنه، ويناضلون دونه أن يصل إليه أحد منهم، وأسلمه بعض الناس رجاء أن يجيب أولئك إلى واحدة مما سألوا، فإنهم كانوا قد طلبوا منه إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، ولم يقع في خلد أحد أن القتل كان في نفس الخارجين‏.‏

وانقطع عثمان عن المسجد فكان لا يخرج إلا قليلاً في أوائل الأمر، ثم انقطع بالكلية في آخره، وكان يصلي بالناس في هذه الأيام الغافقي بن حرب‏.‏

وقد استمر الحصر أكثر من شهر، وقيل‏:‏ أربعين يوماً حتى كان آخر ذلك أن قتل شهيداً رضي الله عنه، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى‏.‏

والذي ذكره ابن جرير‏:‏ أن الذي كان يصلي بالناس في هذه المدة وعثمان محصور، طلحة بن عبيد الله‏.‏

وفي صحيح البخاري عن، وروى الواقدي‏:‏ أن علياً صلى أيضاً، وصلى أبو أيوب، وصلى بهم سهل بن حنيف، وكان يجمع بهم علي، وهو الذي صلى بهم بعد، وقد خاطب الناس في غبوب ذلك بأشياء، وجرت أمور سنورد منها ما تيسر‏.‏ وبالله المستعان‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا بهز، ثنا أبو عوانة، ثنا حصين عن عمرو بن جاوان قال‏:‏ قال الأحنف‏:‏ انطلقنا حجاجاً، فمررنا بالمدينة، فبينا نحن في منزلنا إذ جاءنا آت فقال‏:‏ الناس في المسجد، فانطلقت أنا وصاحبي، فإذا الناس مجتمعون على نفر في المسجد، قال‏:‏ فتخللتهم، حتى قمت عليهم، فإذا علي بن أبي طالب، والزبير، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، قال‏:‏ فلم يكن ذلك بأسرع من أن جاء عثمان يمشي‏.‏

فقال‏:‏ ههنا علي‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ ههنا الزبير‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ ههنا طلحة‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ ههنا سعد بن أبي وقاص‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم ‏!‏

فقال‏:‏ أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له‏)‏‏)‏ فابتعته، فأتيت رسول الله فقلت‏:‏ إني قد ابتعته، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اجعله في مسجدنا وأجره لك‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من يبتاع بئر رومة‏)‏‏)‏ فابتعتها بكذا وكذا‏.‏

فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ إني قد ابتعتها - يعني‏:‏ بئر رومة -‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اجعلها سقاية للمسلمين، ولك أجرها‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر في وجوه القوم يوم جيش العسرة، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من يجهز هؤلاء غفر الله له‏)‏‏)‏ فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاماً ولا عقالاً‏؟‏

قالوا‏:‏ اللهم نعم‏!‏

فقال‏:‏ اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثم انصرف‏.‏

ورواه النسائي من حديث حصين وعنده جاء رجل وعليه ملاءة صفراء‏.‏

طريق أخرى

قال عبد الله بن أحمد‏:‏ حدثني عبد الله بن عمر القواريري، حدثني القاسم بن الحكم بن أوس الأنصاري، حدثني أبو عبادة الدرقي الأنصاري، من أهل الحديبية، عن زيد بن أسلم عن أبيه قال‏:‏ شهدت عثمان يوم حصر في موضع الجنائز، ولو ألقى حجر لم يقع إلا على رأس رجل، فرأيت عثمان أشرف من الخوخة التي تلي مقام جبريل، فقال‏:‏ أيها الناس‏!‏ أفيكم طلحة‏؟‏ فسكتوا، ثم قال‏:‏ أيها الناس، أفيكم طلحة‏؟‏ فسكتوا، ثم قال‏:‏ أيها الناس، أفيكم طلحة‏؟‏

فقام طلحة بن عبيد الله، فقال له عثمان‏:‏ ألا أراك ههنا، ما كنت أرى أنك تكون في جماعة قوم تسمع نداي إلى آخر ثلاث مرات، ثم لا تجيبني، أنشدك الله يا طلحة تذكر يوم كنت وأنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع كذا وكذا، ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك‏؟‏

فقال‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا طلحة إنه ليس من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق من أمته معه في الجنة، وإن عثمان بن عفان هذا - يعني - رفيقي في الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

فقال طلحة‏:‏ اللهم نعم‏!‏ ثم انصرف‏.‏ لم يخرجوه‏.‏

طريق أخرى

قال عبد الله بن أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن أبي بكر المقدسي، ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا هلال بن إسحاق، عن الجريري، عن ثمامة بن جزء القشيري‏.‏ قال‏:‏ شهدت الدار يوم أصيب عثمان، فاطلع عليه اطلاعه فقال‏:‏ ادعوا لي صاحبيكم اللذين ألباكم علي، فدعيا له، فقال‏:‏ أنشدكما الله، تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ضاق المسجد بأهله، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين، وله خير منها في الجنة‏)‏‏)‏‏؟‏ فاشتريتها من خالص مالي فجعلتها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين

ثم قال‏:‏ أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن فيها بئر يستعذب منه إلا بئر رومة‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من يشتريها من خالص ماله، فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خير منها في الجنة‏)‏‏)‏‏؟‏

فاشتريتها من خالص مالي، وأنتم تمنعوني أن أشرب منها‏.‏

ثم قال‏:‏ هل تعلمون أني صاحب جيش العسرة ‏؟‏

قالوا‏:‏ اللهم نعم‏!‏

وقد رواه الترمذي‏:‏ عن عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي، وعباس الدوري وغير واحد‏.‏

أخرجه النسائي، عن زياد بن أيوب كلهم، عن سعيد بن عامر، عن يحيى بن أبي الحجاج المنقري، عن أبي مسعود الجريري به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

طريق أخرى

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، ثنا القاسم - يعني‏:‏ ابن المفضل - ثنا عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد قال‏:‏ دعا عثمان رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم عمار بن ياسر، فقال‏:‏ إني سائلكم وإني أحب أن تصدقوني، نشدتكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤثر قريش على الناس، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش‏؟‏ فسكت القوم‏.‏

فقال‏:‏ لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم‏.‏

فبعث إلى طلحة والزبير فقال عثمان‏:‏ ألا أحدثكما عنه - يعني‏:‏ عماراً - أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أخذ بيدي يمشي في البطحاء، حتى أتى على أبيه وأمه وهم يعذبون، فقال أبو عمار‏:‏ يا رسول الله الدهر هكذا‏.‏

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اصبر‏)‏‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اغفر لآل ياسر‏)‏‏)‏ وقد فعلت، تفرد به أحمد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب‏.‏

طريق أخرى

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسحاق بن سليمان، سمعت معاوية بن سلم أن سلمة يذكر عن مطرف، عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ أن عثمان أشرف على أصحابه، وهو محصور، فقال‏:‏ على مَ تقتلونني‏؟‏ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث‏:‏ رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل عمداً فعليه القتل، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل‏)‏‏)‏، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت أحداً فأقيد نفسي منه، ولا ارتددت منذ أسلمت، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده رسوله‏.‏ ورواه النسائي عن أحمد بن الأزهر عن إسحاق بن سليمان به‏.‏

طريق أخرى

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، ثنا حماد بن زيد، ثنا يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال‏:‏ كنت مع عثمان في الدار وهو محصور، قال‏:‏ وكنا ندخل مدخلاً إذا دخلناه سمعنا كلام من على البلاط‏.‏

قال‏:‏ فدخل عثمان يوماً لحاجته فخرج إلينا منتقعاً لونه، فقال‏:‏ إنهم ليتواعدوني بالقتل آنفاً‏.‏

قال‏:‏ قلنا يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ ولم يقتلونني‏؟‏ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث‏:‏ رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس‏)‏‏)‏، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام قط، ولا تمنيت بدلاً بديني منذ هداني الله له، ولا قتلت نفساً، فبم يقتلونني ‏؟‏‏.‏

وقد رواه أهل السنن الأربعة من حديث حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، حدثني أبو أسامة‏.‏

زاد النسائي وعبد الله بن عامر بن ربيعة قالا‏:‏ كنا مع عثمان فذكره‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن‏.‏

وقد رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد فرفعه‏.‏

طريق أخرى

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا قطن، ثنا يونس - يعني‏:‏ ابن أبي إسحاق - عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن‏.‏ قال‏:‏ أشرف عثمان من القصر وهو محصور، فقال‏:‏ أنشد بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حراء إذا اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اسكن حراء ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد‏)‏‏)‏ وأنا معه فانتشد له الرجال، ثم قال‏:‏ أنشد بالله من شهد رسول الله يوم بيعة الرضوان إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه يدي، وهذه يد عثمان‏)‏‏)‏‏.‏ ووضع يديه إحداهما على الأخرى فبايع لي فانتشد له رجال‏.‏

ثم قال‏:‏ أنشد بالله من شهد رسول الله قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من يوسع لنا بهذا البيت في المسجد بنيت له بيتاً في الجنة‏)‏‏)‏ فابتعته من مالي فوسعت به المسجد، فانتشد له رجال‏.‏

ثم قال‏:‏ أنشد بالله من شهد رسول الله يوم جيش العسرة قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من ينفق اليوم نفقة متقبلة‏)‏‏)‏ فجهزت نصف الجيش من مالي، فانتشد له رجال‏.‏

ثم قال‏:‏ أنشد بالله من شهد رومة يباع ماؤها ابن السبيل فابتعتها من مالي، فأبحتها ابن السبيل، قال فانتشد له رجال‏.‏

ورواه النسائي، عن عمران بن بكار، عن حطاب بن عثمان، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن جده أبي إسحاق السبيعي به‏.‏

وقد ذكر ابن جرير‏:‏ أن عثمان رضي الله عنه لما رأى ما فعل هؤلاء الخوارج من أهل الأمصار، من محاصرته في داره، ومنعه الخروج إلى المسجد، كتب إلى معاوية بالشام، وإلى ابن عامر بالبصرة، وإلى أهل الكوفة يستنجدهم في بعث جيش يطردون هؤلاء من المدينة، فبعث معاوية مسلمة بن حبيب، وانتدب يزيد بن أسد القشيري في جيش، وبعث أهل الكوفة جيشاً، وأهل البصرة جيشاً‏.‏

فلما سمع أولئك بخروج الجيوش إليهم صمموا في الحصار، فما اقترب الجيوش إلى المدينة حتى جاءهم قتل عثمان رضي الله عنه كما سنذكره‏.‏

وذكر ابن جرير‏:‏ أن عثمان استدعى الأشتر النخعي ووضعت لعثمان وسادة في كوة من داره، فأشرف على الناس، فقال له عثمان‏:‏ يا أشتر ماذا يريدون‏؟‏

فقال‏:‏ إنهم يريدون منك، إما أن تعزل نفسك عن الإمرة، وإما أن تفتدي من نفسك من قد ضربته، أو جلدته، أو حبسته، وإما أن يقتلوك‏.‏

وفي رواية‏:‏ أنهم طلبوا منه أن يعزل نوابه عن الأمصار ويولي عليها من يريدون هم، وإن لم يعزل نفسه أن يسلم لهم مروان بن الحكم فيعاقبوه كما زور على عثمان كتابه إلى مصر، فخشي عثمان إن سلمه إليهم أن يقتلوه، فيكون سبباً في قتل امرئ مسلم، وما فعل من الأمر ما يستحق بسببه القتل، واعتذر عن الاقتصاص مما قالوا بأنه رجل ضعيف البدن كبير السن‏.‏

وأما ما سألوه من خلعه نفسه فإنه لا يفعل ولا ينزع قميصاً قمصه الله إياه‏:‏ يترك أمة محمد يعدو بعضها على بعض، ويولي السفهاء من الناس من يختاروه هم فيقع الهرج ويفسد الأمر بسبب ذلك‏.‏

ووقع الأمر كما ظنه فسدت الأمة ووقع الهرج، وقال لهم فيما قال‏:‏ وأي شيء إلى من الأمر إن كنت كلما كرهتم أميراً عزلته، وكلما رضيتم عنه وليته‏؟‏

وقال لهم فيما قال‏:‏ والله لئن قتلتموني لا تتحابوا بعدي، ولا تصلوا جميعا أبداً، ولا تقاتلوا بعدي عدواً جميعاً أبداً، وقد صدق رضي الله عنه فيما قال‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن أبي قيس، حدثني النعمان بن بشير قال‏:‏ كتب معي عثمان إلى عائشة كتاباً فدفعت إليها كتابه، فحدثتني أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعثمان‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله لعله يقمصك قميصاً فإن أرادك أحد على خلعه فلا تخلعه، ثلاث مرات‏)‏‏)‏‏.‏

قال النعمان‏:‏ فقلت يا أم المؤمنين‏!‏ فأين كنت عن هذا الحديث‏؟‏

فقالت‏:‏ يا بني والله أنسيته‏.‏

وقد رواه الترمذي من حديث الليث، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر، عن النعمان، عن عائشة به‏.‏

ثم قال‏:‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏

ورواه ابن ماجه، من حديث الفرج بن فضالة، عن ربيعة بن يزيد، عن النعمان فأسقط عبد الله بن عامر‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن إسماعيل، ثنا قيس، عن أبي سهلة، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ادع لي بعض أصحابي‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ أبو بكر‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ عمر ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ابن عمك علي‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏!‏

قالت قلت‏:‏ عثمان‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم ‏!‏‏)‏‏)‏‏.‏

فلما جاء قال‏:‏ ‏(‏‏(‏تنحى‏)‏‏)‏، فجعل يساره ولون عثمان يتغير‏.‏

فلما كان يوم الدار وحصر فيها، قلنا‏:‏ يا أمير المؤمنين ألا تقاتل‏؟‏

قال‏:‏ لا‏!‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً، وإني صابر نفسي عليه‏)‏‏)‏‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وقال محمد بن عائد الدمشقي‏:‏ حدثنا الوليد بن مسلم، ثنا عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن عمرو أنه سمع أبا ثور الفقيمي يقول‏:‏ قدمت على عثمان فبينا أنا عنده فخرجت فإذا بوفد أهل مصر قد رجعوا، فدخلت على عثمان فأعلمته، قال‏:‏ فكيف رأيتهم‏؟‏

فقلت‏:‏ رأيت في وجوههم الشر، وعليهم ابن عديس البلوي، فصعد ابن عديس منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الجمعة، وتنقص عثمان في خطبته، فدخلت على عثمان فأخبرته بما قال فيهم، فقال‏:‏ كذب والله ابن عديس، ولولا ما ذكر ما ذكرت، إني رابع أربعة في الإسلام، ولقد أنكحني رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته ثم توفيت، فأنكحني ابنته الأخرى، ولا زنيت، ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام، ولا تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أتت علي جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة منذ أسلمت، إلا أن لا أجدها في تلك الجمعة فأجمعها في الجمعة الثانية‏.‏

ورواه يعقوب بن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن ابن لهيعة قال‏:‏ لقد اختبأت عند ربي عشراً، فذكرهن‏.‏

فصل استمرار حصار عثمان بن عفان‏.‏

كان الحصار مستمراً من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة‏.‏

فلما كان قبل ذلك بيوم، قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار - وكانوا قريباً من سبعمائة - فيهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والحسن، والحسين، ومروان، وأبو هريرة، وخلق من مواليه، ولو تركهم لمنعوه فقال لهم‏:‏ أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله، وعنده من أعيان الصحابة وأبنائهم جم غفير‏.‏

وقال لرقيقه‏:‏ من أغمد سيفه فهو حر، فبرد القتال من داخل وحمي من خارج واشتد الأمر، وكان سبب ذلك أن عثمان رأى في المنام رؤيا دلت على اقتراب أجله فاستسلم لأمر الله رجاء موعوده، وشوقاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليكون خيراً بني آدم حيث قال حين أراد أخوه قتله‏:‏ ‏{‏إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وروي أن آخر من خرج من عند عثمان من الدار، بعد أن عزم عليهم في الخروج‏:‏ الحسن بن علي، وقد خرج، وكان أمير الحرب على أهل الدار عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم

وروى موسى بن عقبة، عن سالم أو نافع‏:‏ أن ابن عمر لم يلبس سلاحه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يوم الدار ويوم نجرة الحروري‏.‏

قال أبو جعفر الداري، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ أن عثمان رضي الله عنه أصبح يحدث الناس، قال‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال‏:‏ يا عثمان أفطر عندنا، فأصبح صائماً وقتل من يومه‏.‏

وقال سيف بن عمر، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن رجل قال‏:‏ دخل عليه كثير بن الصلت، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين اخرج فاجلس بالفناء فيرى الناس وجهك فإنك إن فعلت ارتدعوا‏.‏

فضحك وقال‏:‏ يا كثير رأيت البارحة وكأني دخلت على نبي الله وعنده أبو بكر وعمر فقال‏:‏ ارجع فإنك مفطر عندي غداً‏.‏

ثم قال عثمان‏:‏ ولن تغيب الشمس والله غداً أو كذا وكذا إلا وأنا من أهل الآخرة، قال‏:‏ فوضع سعد وأبو هريرة السلاح، وأقبلا حتى دخلا على عثمان‏.‏

وقال موسى بن عقبة، حدثني أبو علقمة - مولى لعبد الرحمن بن عوف - حدثني ابن الصلت قال‏:‏ أغفى عثمان بن عفان في اليوم الذي قتل فيه فاستيقظ فقال‏:‏ لولا أن يقول الناس تمنى عثمان أمنية لحدثتكم‏.‏

قال قلنا‏:‏ أصلحك الله، حدثنا فلسنا نقول ما يقول الناس‏.‏

فقال‏:‏ إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي هذا فقال‏:‏ إنك شاهد معنا الجمعة‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا أبو عبد الرحمن القرشي، ثنا خلف بن تميم، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر البجلي، ثنا عبد الله بن عمير، حدثني كثير بن الصلت قال‏:‏ دخلت على عثمان وهو محصور فقال لي‏:‏ يا كثير ما أراني إلا مقتولاً يومي هذا‏.‏

قال‏:‏ قلت ينصرك الله على عدوك يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ ثم أعاد علي‏.‏

فقلت‏:‏ وقت لك في هذا اليوم شيء‏؟‏ أو قيل لك شيء‏؟‏

قال‏:‏ لا‏!‏ ولكني سهرت في ليلتي هذا الماضية فلما كان وقت السحر أغفيت إغفاءة فرأيت فيما يرى النائم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي‏:‏ يا عثمان إلحقنا لا تحبسنا فإنا ننتظرك، قال‏:‏ فقتل من يومه ذلك‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا يزيد بن هارون، عن فرج بن فضالة، عن مروان بن أبي أمية، عن عبد الله بن سلام‏.‏ قال‏:‏ أتيت عثمان لأسلم عليه وهو محصور فدخلت عليه فقال‏:‏ مرحباً بأخي، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة في هذه الخوخة - قال‏:‏ وخوخة في البيت - فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عثمان حصروك‏؟‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ عطشوك‏؟‏

قلت‏:‏ نعم، فأدلى دلواً فيه ماء فشربت حتى رويت، إني لأجد برده بين ثديي وبين كتفي، وقال لي‏:‏ إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا‏)‏‏)‏ فاخترت أن أفطر عنده، فقتل ذلك اليوم‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنا عفان بن مسلم، ثنا وهيب، ثنا داود، عن زياد بن عبد الله، عن أم هلال بنت وكيع، عن امرأة عثمان - قال‏:‏ وأحسبها بنت الفرافصة - قالت‏:‏ أغفى عثمان، فلما استيقظ قال‏:‏ إن القوم يقتلونني‏.‏

قلت‏:‏ كلا يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، فقالوا‏:‏ أفطر عندنا الليلة، أو إنك مفطر عندنا الليلة‏.‏ وقال الهيثم بن كليب‏:‏ حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني، ثنا شبابة، ثنا يحيى بن أبي راشد مولى عمر بن حريث، عن محمد بن عبد الرحمن الجرشي‏.‏

وعقبة بن أسد، عن النعمان بن بشير، عن نائلة بنت الفرافصة الكلبية - امرأة عثمان - قالت‏:‏ لما حصر عثمان ظل اليوم الذي كان فيه قتله صائماً، فلما كان عند إفطاره سألهم الماء العذب فأبوا عليه، وقالوا‏:‏ دونك ذلك الركي‏.‏ وركي في الدار الذي يلقى فيه النتن قالت‏:‏ فلم يفطر، فرأيت جاراً على أحاجير متواصلة - وذلك في السحر - فسألتهم الماء العذب فأعطوني كوزاً من ماء فأتيته، فقلت‏:‏ هذا ماء عذب أتيتك به، قالت فنظر فإذا الفجر قد طلع فقال‏:‏ إني أصبحت صائماً، قالت‏:‏ فقلت‏:‏ ومن أين أكلت، ولم أر أحداً أتاك بطعام ولا شراب‏؟‏

فقال‏:‏ إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع علي من هذا السقف ومعه دلو من ماء فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اشرب يا عثمان، فشربت حتى رويت، ثم قال‏:‏ ازدد فشربت حتى نهلت، ثم قال‏:‏ أما أن القوم سينكرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فدخلوا عليه من يومه فقتلوه‏.‏

وقال أبو يعلى الموصلي، وعبد الله بن الإمام أحمد‏:‏ حدثني عثمان بن أبي شيبة، ثنا يونس بن أبي يعفور العبدي، عن أبيه، عن مسلم، عن أبي سعيد مولى عثمان بن عفان‏:‏ أن عثمان أعتق عشرين مملوكاً، ودعا بسراويل فشدها ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام، وقال‏:‏ إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبا بكر وعمر وإنهم قالوا لي‏:‏ ‏(‏‏(‏اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة‏)‏‏)‏ ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه فقتل وهو بين يديه‏.‏

قلت‏:‏ إنما لبس السراويل رضي الله عنه في هذا اليوم لئلا تبدو عورته إذا قتل فإنه كان شديد الحياء، كانت تستحي منه ملائكة السماء، كما نطق بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ووضع بين يديه المصحف يتلو فيه، واستسلم لقضاء الله عز وجل، وكف يده عن القتال، وأمر الناس وعزم عليهم أن لا يقاتلوا دونه، ولولا عزيمته عليهم لنصروه من أعدائه ولكن كان أمر الله قدراً مقدوراً‏.‏

وقال هشام بن عروة‏:‏ عن أبيه‏:‏ إن عثمان رضي الله عنه أوصى إلى الزبير‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ عن العلاء بن الفضل، عن أبيه‏.‏ قال‏:‏ لما قتل عثمان فتشوا خزانته فوجدوا فيها صندوقاً مقفلاً ففتحوه فوجدوا فيه حقة فيها ورقة مكتوب فيها هذه وصية عثمان‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور، ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيى وعليها يموت، وعليها يبعث إن شاء الله تعالى‏.‏

وروى ابن عساكر‏:‏ أن عثمان رضي الله عنه قال يوم دخلوا عليه فقتلوه‏:‏

أرى الموت لا يبقي عزيزاً ولم يدع * لعاذ ملاذاً في البلاد ومرتعاً

وقال أيضاً:

يبيت أهل الحصن والحصن مغلق * ويأتي الجبال الموت في شماريخها العلا

صفة قتله رضي الله عنه

وقال خليفة بن خياط‏:‏ حدثنا ابن علية، ثنا ابن عوف، عن الحسن قال‏:‏ أنبأني رباب، قال‏:‏ بعثني عثمان فدعوت له الأشتر فقال‏:‏ ما يريد الناس‏؟‏

قال‏:‏ ثلاث ليس من إحداهن بد‏.‏

قال‏:‏ ما هن ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ يخيرونك بين أن تخلع لهم أمرهم فتقول‏:‏ هذا أمركم فاختاروا من شئتم، وبين أن تقتص من نفسك، فأن أبيت فإن القوم قاتلوك‏.‏

فقال‏:‏ أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالاً سربلنيه الله، وأما أن اقتص لهم من نفسي، فوالله لئن قتلتموني لا تحابون بعدي، ولا تصلون بعدي جميعاً، ولا تقاتلون بعدي جميعاً عدواً أبداً‏.‏

قال‏:‏ وجاء رويجل كأنه ذئب فاطلع من باب ورجع، وجاء محمد بن أبي بكر في ثلاثة عشر رجلاً، فأخذ بلحيته فعالَّ بها حتى سمعت وقع أضراسه، فقال‏:‏ ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن عامر، وما أغنت عنك كتبك‏.‏

قال‏:‏ أرسل لحيتي يا ابن أخي‏.‏

قال‏:‏ فأنا رأيته استعدى رجلاً من القوم بعينه - يعني أشار إليه - فقام إليه بمشقص فوجئ به رأسه‏.‏

قلت‏:‏ ثم مه ‏؟‏

قال‏:‏ ثم تعاوروا عليه حتى قتلوه‏.‏

قال سيف بن عمر التميمي رحمه الله‏:‏ عن العيص بن القاسم، عن رجل، عن خنساء مولاة أسامة بن زيد - وكانت تكون مع نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان -‏:‏ أنها كانت في الدار، ودخل محمد بن أبي بكر وأخذ بلحيته وأهوى بمشاقص معه فيجأ بها في حلقه‏.‏

فقال‏:‏ مهلاً يا ابن أخي، فوالله لقد أخذت مأخذاً ما كان أبوك ليأخذ به، فتركه وانصرف مستحيياً نادماً، فاستقبله القوم على باب الصفة فردهم طويلاً حتى غلبوه فدخلوا، وخرج محمد راجعاً‏.‏

فأتاه رجل بيده جريدة يقدمهم حتى قام على عثمان فضرب بها رأسه فشجه، فقطر دمه على المصحف حتى لطخه، ثم تعاوروا عليه، فأتاه رجل فضربه على الثدي بالسيف‏.‏

ووثبت نائلة بنت الفرافصة الكلبية فصاحت وألقت نفسها عليه وقالت‏:‏ يا بنت شيبة، أيقتل أمير المؤمنين ‏؟‏

وأخذت السيف فقطع الرجل يدها، وانتهبوا متاع الدار‏.‏

ومر رجل على عثمان ورأسه مع المصحف فضرب رأسه برجله، ونحاه عن المصحف، وقال‏:‏ ما رأيت كاليوم وجه كافر أحسن، ولا مضجع كافر أكرم‏.‏

قال‏:‏ والله ما تركوا في داره شيئاً حتى الأقداح إلا ذهبوا به‏.‏ ‏

وروى الحافظ ابن عساكر‏:‏ أن عثمان لما عزم على أهل الدار في الانصراف ولم يبق عنده سوى أهله، تسوروا عليه الدار، وأحرقوا الباب، ودخلوا عليه، وليس فيهم أحد من الصحابة ولا أبنائهم، إلا محمد بن أبي بكر، وسبقه بعضهم فضربوه حتى غشي عليه، وصاح النسوة‏:‏ فانزعروا، وخرجوا‏.‏

ودخل محمد بن أبي بكر وهو يظن أنه قد قتل، فلما رآه قد أفاق قال‏:‏ على أي دين أنت يا نعثل ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ على دين الإسلام، ولست بنعثل ولكني أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ غيرت كتاب الله ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ كتاب الله بيني وبينكم، فتقدم إليه وأخذ بلحيته وقال‏:‏ إنا لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا‏}‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏، وشطحه بيده من البيت إلى باب الدار، وهو يقول‏:‏ يا ابن أخي، ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي‏.‏

وجاء رجل من كندة من أهل مصر يلقب‏:‏ حماراً، ويكنى‏:‏ بأبي رومان‏.‏

وقال قتادة‏:‏ اسمه رومان‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان أزرق أشقر‏.‏

وقيل‏:‏ كان اسمه سودان بن رومان المرادي‏.‏

وعن ابن عمر قال‏:‏ كان اسم الذي قتل عثمان أسود بن حمران ضربه بحربة وبيده السيف صلتاً‏.‏

قال‏:‏ ثم جاء فضربه به في صدره حتى أقعصه، ثم وضع ذباب السيف في بطنه، واتكى عليه وتحامل حتى قتله، وقامت نائلة دونه فقطع السيف أصابعها رضي الله عنها‏.‏

ويروى‏:‏ أن محمد بن أبي بكر طعنه بمشاقص في أذنه حتى دخلت حلقه‏.‏

والصحيح‏:‏ أن الذي فعل ذلك غيره، وأنه استحى ورجع حين قال له عثمان‏:‏ لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها، فتذمم من ذلك وغطى وجهه ورجع وحاجز دونه فلم يفد، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وكان ذلك في الكتاب مسطوراً‏.‏

وروى ابن عساكر، عن ابن عون‏:‏ أن كنانة بن بشر ضرب جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد، فخر لجنبيه، وضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خر لجنبه فقتله، وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره، وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، وقال‏:‏ أما ثلاث منهن فلله، وست لما كان في صدري عليه‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي، وإسحاق بن داود الصواف التستري، قالا‏:‏ ثنا محمد بن خالد بن خداش، ثنا مسلم بن قتيبة، ثنا مبارك، عن الحسن قال‏:‏ حدثني سياف عثمان‏:‏ أن رجلاً من الأنصار دخل على عثمان فقال‏:‏ ارجع يا ابن أخي فلستَ بقاتلي‏.‏

قال‏:‏ وكيف علمت ذلك ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ لأنه أتى بك النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعك فحنكك ودعا لك بالبركة‏.‏

ثم دخل عليه رجل آخر من الأنصار فقال له مثل ذلك سواء، ثم دخل محمد بن أبي بكر فقال‏:‏ أنت قاتلي‏.‏

قال‏:‏ وما يدريك يا نعثل‏؟‏

قال‏:‏ لأنه أُتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم سابعك ليحنكك ويدعو لك بالبركة، فخريت على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ فوثب على صدره وقبض على لحيته، ووجأه بمشاقص كانت في يده هذا‏.‏

هذا حديث غريب جداً وفيه نكارة‏.‏

وثبت من غير وجه‏:‏ أن أول قطرة من دمه سقطت على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏‏.‏
ويروى‏:‏ أنه كان قد وصل إليها في التلاوة أيضاً حين دخلوا عليه، وليس ببعيد فإنه كان قد وضع المصحف يقرأ فيه القرآن‏.‏

وروى ابن عساكر‏:‏ أنه لما طعن قال‏:‏ بسم الله توكلت على الله، فلما قطر الدم قال‏:‏ سبحان الله العظيم‏.‏

وقد ذكر ابن جرير في ‏(‏تاريخه‏)‏ بأسانيده‏:‏ أن المصريين لما وجدوا ذلك الكتاب مع البريد إلى أمير مصر فيه الأمر بقتل بعضهم، وصلب بعضهم، وبقطع أيدي بعضهم وأرجلهم‏.‏

وكان قد كتبه مروان بن الحكم على لسان عثمان متأولاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وعنده أن هؤلاء الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه من جملة المفسدين في الأرض، ولا شك أنهم كذلك، لكن لم يكن له أن يفتات على عثمان، ويكتب على لسانه بغير علمه، ويزور على خطه وخاتمه، ويبعث غلامه على بعير بعد ما وقع الصلح بين عثمان وبين المصريين، على تأمير محمد بن أبي بكر على مصر، بخلاف ذلك كله‏.‏

ولهذا لما وجدوا هذا الكتاب على خلاف ما وقع الاتفاق عليه، وظنوا أنه من عثمان أعظموا ذلك، مع ما هم مشتملون عليه من الشر، فرجعوا إلى المدينة فطافوا به على رؤس الصحابة، وأعانهم على ذلك قوم آخرون، حتى ظن بعض الصحابة أن هذا عن أمر عثمان رضي الله عنه‏.‏

فلما قيل لعثمان رضي الله عنه في أمر هذا الكتاب بحضرة جماعة من أعيان الصحابة وجمهور المصريين، حلف بالله العظيم، وهو الصادق البار الراشد أنه لم يكتب هذا الكتاب، ولا أملاه على من كتبه، ولا علم به‏.‏

فقالوا له‏:‏ فإن عليه خاتمك‏؟‏

فقال‏:‏ إن الرجل قد يزور على خطه وخاتمه‏.‏

قالوا‏:‏ فإنه مع غلامك وعلى جملك‏؟‏

فقال‏:‏ والله لم أشعر بشيء من ذلك‏.‏

فقالوا له - بعد كل مقالة -‏:‏ إن كنت قد كتبته فقد خنت، وإن لم تكن قد كتبته بل كتب على لسانك وأنت لا تعلم فقد عجزت، ومثلك لا يصلح للخلافة، إما لخيانتك، وإما لعجزك‏.‏

وهذا الذي قالوا باطل على كل تقدير، فإنه لو فرض أنه كتب الكتاب، وهو لم يكتبه في نفس الأمر، لا يضره ذلك لأنه قد يكون رأى ذلك مصلحة للأمة في إزالة شوكة هؤلاء البغاة الخارجين على الإمام، وأما إذا لم يكن قد علم به فأي عجز ينسب إليه إذا لم يكن قد اطلع عليه وزور على لسانه‏؟‏

وليس هو بمعصوم، بل الخطأ والغفلة جائزان عليه رضي الله عنه، وإنما هؤلاء الجهلة البغاة متعنتون خونة، ظلمة مفترون، ولهذا صمموا بعد هذا على حصره والتضييق عليه، حتى منعوه الميرة والماء، والخروج إلى المسجد، وتهددوه بالقتل‏.‏

ولهذا خاطبهم بما خاطبهم به من توسعة المسجد وهو أول من منع منه، ومن وقفه بئر رومة على المسلمين، وهو أول من منع ماءها، ومن أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر أنه لم يقتل نفساً، ولا ارتد بعد إيمانه، ولا زنى في جاهلية ولا إسلام، بل ولا مس فرجه بيمينه بعد أن بايع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي رواية‏:‏ بعد أن كتب بها المفصل‏.‏

ثم ذكر لهم من فضائله ومناقبه ما لعله ينجع فيهم بالكف عنه والرجوع إلى الطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر منهم، فأبوا إلا الاستمرار على ما هم عليه من البغي والعدوان، ومنعوا الناس من الدخول إليه والخروج من عنده، حتى اشتد عليه الحال، وضاق المجال، ونفذ ما عنده من الماء‏.‏

فاستغاث بالمسلمين في ذلك فركب علي بنفسه وحمل معه قرباً من الماء، فبالجهد حتى أوصلها إليه بعد ما ناله من جهله أولئك كلام غليظ، وتنفير لدابته، وإخراق عظيم بليغ؛ وكان قد زجرهم أتم الزجر حتى قال لهم فيما قال‏:‏ والله إن فارس والروم لا يفعلون كفعلكم هذا بهذا الرجل، والله إنهم ليأسرون فيطعمون ويسقون، فأبوا أن يقبلوا منه حتى رمى بعمامته في وسط الدار، وجاءت أم حبيبة راكبة بغلة وحولها حشمها وخدمها، فقالوا‏:‏ ما جاء بك ‏؟‏‏.‏

فقالت‏:‏ إن عنده وصايا بني أمية لأيتام وأرامل، فأحببت أن أذكره بها، فكذبوها في ذلك، ونالها منهم شدة عظيمة، وقطعوا حزام البغلة وندَّت بها وكادت أو سقطت عنها، وكادت تقتل لولا تلاحق بها الناس فأمسكوا بدابتها، ووقع أمر كبير جداً‏.‏

ولم يبق يحصل لعثمان وأهله من الماء إلا ما يوصله إليهم آل عمرو بن حزم في الخفية ليلاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولما وقع هذا أعظمه الناس جداً، ولزم أكثر الناس بيوتهم، وجاء وقت الحج فخرجت أم المؤمنين عائشة في هذه السنة إلى الحج، فقيل لها‏:‏ إنك لو أقمت كان أصلح، لعل هؤلاء القوم يهابونك‏.‏

فقالت‏:‏ إني أخشى أن أشير عليهم برأي فينالني منهم من الأذية ما نال أم حبيبة، فعزمت على الخروج‏.‏

واستخلف عثمان رضي الله عنه في هذه السنة على الحج عبد الله بن عباس‏.‏

فقال له عبد الله بن عباس‏:‏ إن مقامي على بابك أحاجف عنك أفضل من الحج، فعزم عليه فخرج بالناس إلى الحج، واستمر الحصار بالدار حتى مضت أيام التشريق، ورجع اليسير من الحج، فأُخبر بسلامة الناس، وأخبر أولئك بأن أهل الموسم عازمون على الرجوع إلى المدينة ليكفوكم عن أمير المؤمنين‏.‏

وبلغتهم أيضاً‏:‏ أن معاوية قد بعث جيشاً مع حبيب بن مسلمة، وأن عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد نفذ آخر مع معاوية بن خديج، وأن أهل الكوفة قد بعثوا القعقاع بن عمرو في جيش، وأن أهل البصرة بعثوا مجاشعاً في جيش‏.‏

فعند ذلك صمموا على أمرهم وبالغوا فيه وانتهزوا الفرصة بقلة الناس وغيبتهم في الحج، وأحاطوا بالدار، وجدوا في الحصار، وأحرقوا الباب، وتسوروا من الدار المتاخمة للدار كدار عمرو بن حزم وغيرها، وحاجف الناس عن عثمان أشد المحاجفة، واقتتلوا على الباب قتالاً شديداً، وتبارزوا وتراجزوا بالشعر في مبارزتهم‏.‏

وجعل أبو هريرة يقول‏:‏ هذا يوم طاب في الضراب فيه‏.‏

وقتل طائفة من أهل الدار، وآخرين من أولئك الفجار، وجرح عبد الله بن الزبير جراحات كثيرة، وكذلك جرح الحسن بن علي، ومروان بن الحكم فقطع إحدى علباويه، فعاش أوقص حتى مات‏.‏

ومن أعيان من قتل من أصحاب عثمان‏:‏ زياد بن نعيم الفهري، والمغيرة بن الأخنس بن شريق، ونيار بن عبد الله الأسلمي، في أناس وقت المعركة‏.‏

ويقال‏:‏ إنه انهزم أصحاب عثمان ثم رجعوا‏.‏

ولما رأى عثمان ذلك عزم على الناس لينصرفوا إلى بيوتهم، فانصرفوا كما تقدم، فلم يبق عنده أحد سوى أهله، فدخلوا عليه من الباب، ومن الجدران، وفزع عثمان إلى الصلاة، وافتتح سورة طه - وكان سريع القراءة - فقرأها والناس في غلبة عظيمة، قد احترق الباب والسقيفة التي عنده، وخافوا أن يصل الحريق إلى بيت المال، ثم فرغ عثمان من صلاته، وجلس وبين يديه المصحف وجعل يتلو هذه الآية‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏

فكان أول من دخل عليه رجل يقال له‏:‏ الموت الأسود، فخنقه خنقاً شديداً حتى غشي عليه، وجعلت نفسه تتردد في حلقه فتركه، وهو يظن أنه قد قتله، ودخل ابن أبي بكر فمسك بلحيته ثم ند وخرج، ثم دخل عليه آخر ومعه سيف فضربه به فاتقاه بيده فقطعها، فقيل‏:‏ إنه أبانها‏.‏

وقيل‏:‏ بل قطعها ولم يبنها، إلا أن عثمان قال‏:‏ والله إنها أول يد كتبت المفصل، فكان أول قطرة دم منها سقطت على هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏‏.‏

ثم جاء آخر شاهراً سيفه، فاستقبلته نائلة بنت الفرافصة لتمنعه منه، وأخذت السيف فانتزعه منها فقطع أصابعها، ثم إنه تقدم إليه فوضع السيف في بطنه فتحامل عليه، رضي الله عن عثمان‏.‏

وفي رواية‏:‏ أن الغافقي بن حرب تقدم إليه بعد محمد بن أبي بكر فضربه بحديدة في فيه، ورفس المصحف الذي بين يديه برجله، فاستدار المصحف، ثم استقر بين يدي عثمان رضي الله عنه، وسالت عليه الدماء‏.‏

ثم تقدم سودان بن حمران بالسيف فما نعته نائلة فقطع أصابعها فولت، فضرب عجيزتها بيده، وقال‏:‏ إنها لكبيرة العجيزة، وضرب عثمان فقتله، فجاء غلام عثمان فضرب سودان فقتله، فضرب الغلام رجل يقال له‏:‏ قترة فقتله‏.‏

وذكر ابن جرير‏:‏ أنهم أرادوا حز رأسه بعد قتله، فصاح النساء، وضربن وجوههن، فيهن امرأتاه‏:‏ نائلة وأم البنين، وبناته‏.‏

فقال ابن عديس‏:‏ اتركوه، فتركوه‏.‏

ثم مال هؤلاء الفجرة على ما في البيت فنهبوه، وذلك أنه نادى مناد منهم‏:‏ أيحل لنا دمه، ولا يحل لنا ماله، فانتهبوه، ثم خرجوا فأغلقوا الباب على عثمان وقتيلين معه‏.‏

فلما خرجوا إلى صحن الدار، وثب غلام لعثمان على قترة فقتله، وجعلوا لا يمرون على شيء إلا أخذوه حتى استلب رجل يقال له‏:‏ كلثوم التجيبي، ملاءة نائلة، فضربه غلام لعثمان فقتله، وقتل الغلام أيضاً‏.‏

ثم تنادى القوم أن أدركوا بيت المال لا تستبقوا إليه، فسمعهم حفظه بيت المال فقالوا‏:‏

يا قوم النجا النجا، فإن هؤلاء القوم لم يصدقوا فيما قالوا من أن قصدهم قيام الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما ادعوا أنهم إنما قاموا لأجله، وكذبوا إنما قصدهم الدنيا، فانهزموا، وجاء الخوارج فأخذوا مال بيت المال، وكان فيه شيء كثير جداً‏.

فصل مقتل عثمان رضي الله عنه‏.‏

ولما وقع هذا الأمر العظيم، الفظيع الشنيع، أسقط في أيدي الناس فأعظموه جداً، وندم أكثر هؤلاء الجهلة الخوارج بما صنعوا، وأشبهوا تقدمهم ممن قصَّ الله علينا خبرهم في كتابة العزيز من الذين عبدوا العجل‏.‏

في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 147‏]‏‏.‏

ولما بلغ الزبير مقتل عثمان - وكان قد خرج من المدينة - قال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم ترحم على عثمان، وبلغه أن الذين قتلوه ندموا‏.‏
فقال‏:‏ تباً لهم، ثم تلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 49-50‏]‏‏.‏

وبلغ علياً قتله فترحم عليه‏.‏ وسمع بندم الذين قتلوه فتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 16‏]‏‏.‏

ولما بلغ سعد بن أبي وقاص قتل عثمان استغفر له وترحم عليه، وتلا في حق الذين قتلوه‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 103‏]‏ ثم قال سعد‏:‏ اللهم اندمهم ثم خذهم‏.‏

وقد أقسم بعض السلف بالله‏:‏ أنه ما مات أحد من قتلة عثمان إلا مقتولاً‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وهكذا ينبغي أن يكون لوجوه منها‏:‏ دعوة سعد المستجابة، كما ثبت في الحديث الصحيح، وقال بعضهم‏:‏ ما مات أحد منهم حتى جن‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث قال‏:‏ الذي قتل عثمان كنانة بن بشر بن عتاب التُجيبي‏.‏

وكانت امرأة منظور بن سيار الفزاري تقول‏:‏ خرجنا إلى الحج وما علمنا لعثمان بقتل، حتى إذا كنا بالمرج سمعنا رجلاً يغني تحت الليل‏:‏

ألا إن خير الناس بعد ثلاثة * قتيل التجيبي الذي جاء من مصر

ولما رجع الحج، وجدوا عثمان رضي الله عنه قد قتل، وبايع الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏

ولما بلغ أمهات المؤمنين في أثناء الطريق أن عثمان قد قتل رجعن إلى مكة، فأقمن بها نحواً من أربعة أشهر كما سيأتي‏.‏

فصل مدة حصاره أربعون يوماً‏.‏

كانت مدة حصار عثمان رضي الله عنه في داره أربعين يوماً على المشهور، وقيل‏:‏ كانت بضعاً وأربعين يوماً‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ كانت ثنتين وعشرين ليلة‏.‏

ثم كان قتله رضي الله عنه في يوم الجمعة بلا خلاف‏.‏

قال سيف بن عمر عن مشايخه‏:‏ في آخر ساعة منها، ونص عليه مصعب بن الزبير وآخرون‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ضحوة نهارها، وهذا أشبه، وكان ذلك لثماني عشر ليلة خلت من ذي الحجة على المشهور‏.‏

وقيل‏:‏ في أيام التشريق‏.‏

ورواه ابن جرير حدثني أحمد بن زهير، ثنا أبو خيثمة، ثنا وهب بن جرير سمعت يونس، عن يزيد، عن الزهري قال‏:‏ قُتل عثمان، فزعم بعض الناس أنه قتل في أيام التشريق، وقال بعضهم‏:‏ قتل يوم الجمعة لثلاثٍ خلت من ذي الحجة‏.‏

وقيل‏:‏ قتل يوم النحر، حكاه ابن عساكر، ويستشهد له بقول الشاعر‏:‏

ضحَّوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً

قال‏:‏ والأول هو الأشهر‏.‏

وقيل‏:‏ إنه قتل يوم الجمعة لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين على الصحيح المشهور‏.‏

وقيل‏:‏ سنة ست وثلاثين‏.‏

قال مصعب بن الزبير وطائفة‏:‏ وهو غريب فكانت خلافته ثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً، لأنه بويع له في مستهل المحرم سنة أربع وعشرين‏.‏

فأما عمره رضي الله عنه، فإنه جاوز ثنتين وثمانين سنة‏.‏

وقال صالح بن كيسان‏:‏ توفي عن ثنتين وثمانين سنة وأشهر‏.‏

وقيل‏:‏ أربع وثمانون سنة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ توفي عن ثمان وثمانين أو تسعين سنة‏.‏

وفي رواية عنه‏:‏ توفي عن ست وثمانين سنة‏.‏

وعن هشام بن الكلبي‏:‏ توفي عن خمس وسبعين سنة، وهذا غريب جداً‏.‏

وأغرب منه ما رواه سيف بن عمر عن مشايخه وهم محمد، وطلحة، وأبو عثمان، وأبو حارثة أنهم قالوا‏:‏ قتل عثمان رضي الله عنه عن ثلاث وستين سنة‏.‏

وأما موضع قبره‏:‏ فلا خلاف أنه دفن بحش كوكب -شرقي البقيع - وقد بنى عليه زمان بني أمية قبة عظيمة، وهي باقية إلى اليوم‏.‏

قال الإمام مالك رضي الله عنه‏:‏ بلغني أن عثمان رضي الله عنه كان يمر بمكان قبره من حش كوكب فيقول‏:‏ إنه سيدفن ههنا رجل صالح‏.‏

وقد ذكر ابن جرير‏:‏ أن عثمان رضي الله عنه بقي بعد أن قُتل ثلاثة أيام لا يدفن، قلت‏:‏ وكأنه اشتغل الناس عنه بمبايعة علي رضي الله عنه حتى تمت‏.‏

وقيل‏:‏ أنه مكث ليلتين‏.‏

وقيل‏:‏ بل دفن من ليلته، ثم كان دفنه ما بين المغرب والعشاء خيفة من الخوارج‏.‏

وقيل‏:‏ بل استؤذن في ذلك بعض رؤسائهم، فخرجوا به في نفر قليل من الصحابة، فيهم‏:‏ حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وأبو الجهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجبير بن مطعم، وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، وطلحة، والزبير، وعلي بن أبي طالب، وجماعة من أصحابه، ونسائه منهن امرأتاه نائلة وأم البنين بنت عتبة بن حصين، وصبيان‏.‏

وهذا مجموع من كلام الواقدي، وسيف بن عمر التميمي، وجماعة من خدمه حملوه على باب بعد ما غسلوه وكفنوه‏.‏

وزعم بعضهم‏:‏ أنه لم يغسل ولم يكفن، والصحيح الأول‏.‏ وصلى عليه جبير بن مطعم، وقيل‏:‏ الزبير بن العوام، وقيل‏:‏ حكيم بن حزام، وقيل‏:‏ مروان بن الحكم، وقيل‏:‏ المسور بن مخرمة‏.‏

وقد عارضه بعض الخوارج وأرادوا رجمه وإلقاءه عن سريره، وعزموا على أن يدفن بمقبرة اليهود بدير سلع، حتى بعث علي رضي الله عنه إليهم من نهاهم عن ذلك، وحمل جنازته حكيم بن حزام‏.‏

وقيل‏:‏ مروان بن الحكم‏.‏

وقيل‏:‏ المسور بن مخرمة، وأبو جهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم، وجبير بن مطعم‏.‏

وذكر الواقدي‏:‏ أنه لما وُضع ليُصلى عليه - عند مصلى الجنائز - أراد بعض الأنصار أن يمنعهم من ذلك، فقال أبو جهم بن حذيفة‏:‏ ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته‏.‏

ثم قالوا‏:‏ لا يدفن في البقيع، ولكن ادفنوه وراء الحائط، فدفنوه شرقي البقيع تحت نخلات هناك‏.‏

وذكر الواقدي‏:‏ أن عمير بن ضابي نزل على سريره وهو موضوع للصلاة عليه، فكسر ضلعاً من أضلاعه، وقال‏:‏ أحبست ضابياً حتى مات في السجن‏.‏

وقد قتل الحجاج فيما بعد عمير بن ضابي هذا‏.‏

وقال البخاري في ‏(‏التاريخ‏)‏‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، عن عيسى بن منهال، ثنا غالب، عن محمد بن سيرين قال‏:‏ كنت أطوف بالكعبة وإذا رجل يقول‏:‏ اللهم اغفر لي، وما أظن أن تغفر لي‏.‏

فقلت‏:‏ يا عبد الله، ما سمعت أحداً يقول ما تقول ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ كنت أعطيت لله عهداً إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته، فلما قتل وضع على سريره في البيت والناس يجيئون يصلون عليه، فدخلت كأني أصلي عليه فوجدت خلوة، فرفعت الثوب عن وجهه ولحيته ولطمته، وقد يبست يميني

قال ابن سيرين‏:‏ فرأيتها يابسة كأنها عود‏.‏

ثم أخرجوا بعبدي عثمان اللذين قتلا في الدار، وهما صبيح ونجيح، رضي الله عنهما، فدفنا إلى جانبه بحش كوكب‏.‏

وقيل‏:‏ إن الخوارج لم يمكنوا من دفنهما، بل جروهما بأرجلهما حتى ألقوهما بالبلاط فأكلتهما الكلاب‏.‏

وقد اعتنى معاوية في أيام إمارته بقبر عثمان، ورفع الجدار بينه وبين البقيع، وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حوله حتى اتصلت بمقابر المسلمين‏.‏

ذكر صفته رضي الله عنه

كان رضي الله عنه حسن الوجه دقيق البشرة، كبير اللحية، معتدل القامة، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، حسن الثغر، فيه سمرة، وقيل‏:‏ كان في وجهه شيء من آثار الجدري، رضي الله عنه‏.‏

وعن الزهري‏:‏ كان حسن الوجه والثغر، مربوعاً، أصلع، أروح الرجلين، يخضب بالصفرة، وكان قد شد أسنانه بالذهب، وقد كسى ذراعيه الشعر‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثنا ابن أبي سبرة، عن سعيد بن أبي زيد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عتبة قال‏:‏ كان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، ومائة ألف دينار، فانتهبت وذهبت، وترك ألف بعير بالربذة، وترك صدقات كان تصدق بها، بئر أريس، وخيبر، ووادي القرى، فيه مائتا ألف دينار‏.‏

وبئر رومة كان اشتراها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسبلها‏.‏

فصل قتل عثمان أول الفتن، وآخر الفتن الدجال‏.‏

قال الأعمش‏:‏ عن زيد بن وهب، عن حذيفة أنه قال‏:‏ أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن الدجال‏.‏

وروى الحافظ ابن عساكر من طريق شبابه، عن حفص بن مورق الباهلي، عن حجاج بن أبي عمار الصواف، عن زيد بن وهب، عن حذيفة قال‏:‏ أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال، والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حُبِّ قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه، وإن لم يدركه، آمن به في قبره‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا وغيره‏:‏ أنا محمد بن سعد، أنا عمرو بن عاصم الكلابي، ثنا أبو الأشهب، حدثني عوف، عن محمد بن سيرين، أن حذيفة بن اليمان قال‏:‏ اللهم إن كان قتل عثمان بن عفان خيراً، فليس لي فيه نصيب، وإن كان قتله شراً فأنا منه بريء، والله لئن كان قتله خيراً ليحلبنه لبناً، وإن كان قتله شراً ليمتص به دماً‏.‏

وقد ذكره البخاري في صحيحه‏.‏

طريق أخرى عنه

قال محمد بن عائذ‏:‏ ذكر محمد بن حمزة، حدثني أبو عبد الله الحراني‏:‏ أن حذيفة بن اليمان في مرضه الذي هلك فيه كان عنده رجل من إخوانه وهو يناجي امرأته ففتح عينيه فسألهما فقالا خيراً‏.‏

فقال‏:‏ شيئاً تسرانه دوني ما هو بخير‏.‏

قال‏:‏ قتل الرجل - يعني‏:‏ عثمان - قال‏:‏ فاسترجع، ثم قال‏:‏ اللهم إني كنت من هذا الأمر بمعزل، فإن كان خيراً فهو لمن حضره وأنا منه بريء، وإن كان شراً فهو لمن حضره وأنا منه بريء، اليوم تغيرت القلوب يا عثمان، الحمد لله الذي سبق بي الفتن، قادتها وعلوجها الخطى، من تردى بغيره، فشبع شحماً وقبل عمله‏.‏

وقال الحسن بن عرفة‏:‏ ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ لو كان قتل عثمان هدى لاحتلبت به الأمة لبناً، ولكنه كان ضلالاً فاحتلبت به الأمة دماً‏.‏

وهذا منقطع‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنا عارم بن الفضل، أنا الصعق بن حزن، ثنا قتادة، عن زهدم الجرمي‏.‏ قال‏:‏ خطب ابن عباس فقال‏:‏ لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء‏.‏

وقد روي من غير هذا الوجه عنه‏.‏

وقال الأعمش وغيره‏:‏ عن ثابت بن عبيد، عن أبي جعفر الأنصاري قال‏:‏ لما قتل عثمان جئت علياً وهو جالس في المسجد، وعليه عمامة سوداء، فقلت له‏:‏ قتل عثمان‏.‏

فقال‏:‏ تباً لهم آخر الدهر‏.‏ وفي رواية‏:‏ خيبة لهم‏.‏

وقال أبو القاسم البغوي‏:‏ أنبأنا علي بن الجعد، أنا شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن ابن أبي ليلى قال‏:‏ سمعت علياً وهو بباب المسجد أو عند أحجار الزيت رافعاً صوته يقول‏:‏ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان‏.‏

وقال أبو هلال‏:‏ عن قتادة، عن الحسن قال‏:‏ قتل عثمان وعلي غائب في أرض له، فلما بلغه قال‏:‏ اللهم إني لم أرض ولم أمالئ‏.‏

وروى الربيع بن بدر، عن سيار بن سلامة، عن أبي العالية‏:‏ أن علياً دخل على عثمان فوقع عليه وجعل يبكي حتى ظنوا أنه سيلحق به‏.‏

وقال الثوري وغيره‏:‏ عن ليث، عن طاووس، عن ابن عباس قال‏:‏ قال علي يوم قتل عثمان‏:‏ والله ما قتلت ولا أمرت ولكني غلبت‏.‏

ورواه غير ليث، عن طاووس، عن ابن عباس، عن علي نحوه‏.‏

وقال حبيب بن أبي العالية‏:‏ عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ قال علي‏:‏ إن شاء الناس حلفت لهم عند مقام إبراهيم بالله ما قتلت عثمان، ولا أمرت بقتله، ولقد نهيتهم فعصوني‏.‏

وقد روي من غير وجه عن علي بنحوه‏.‏

وقال محمد بن يونس الكديمي‏:‏ ثنا هارون بن إسماعيل، ثنا قره بن خالد، عن الحسن، عن قيس بن عباد قال‏:‏ سمعت علياً يوم الجمل يقول‏:‏ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي، وجاؤوني للبيعة فقلت‏:‏ والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لأستحيي ممن تستحي منه الملائكة‏)‏‏)‏ وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل في الأرض لم يدفن بعد، فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس يسألوني البيعة، فقلت‏:‏ اللهم إني أشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزمة فبايعت‏.‏

فلما قالوا‏:‏ أمير المؤمنين كان صدع قلبي، وأسكت نفرة من ذلك‏.‏

وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر بجمع الطرق الواردة عن علي‏:‏ أنه تبرأ من دم عثمان، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها أنه لم يقتله ولا أمر بقتله ولا مالأ ولا رضي به، ولقد نهى عنه فلم يسمعوا منه‏.‏

ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث ولله الحمد والمنة‏.‏

وثبت عنه أيضاً من غير وجه أنه قال‏:‏ إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وثبت عنه أيضاً من غير وجه أنه قال‏:‏ كان من الذين ‏{‏وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏‏.‏

وفي رواية أنه قال‏:‏ كان عثمان رضي الله عنه خيرنا، وأوصلنا للرحم، وأشدنا حياء، وأحسننا طهوراً، وأتقانا للرب عز وجل‏.‏

وروى يعقوب بن سفيان، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن مجالد عن عمير ابن رودى كذا أبي كثير‏.‏ قال‏:‏ خطب علي فقطع الخوارج عليه خطبته، فنزل فقال‏:‏ إن مثلي ومثل عثمان كمثل أثوار ثلاثة، أحمر وأبيض وأسود، ومعهم في أجمة أسد، فكان كلما أراد قتل أحدهم منعه الآخران، فقال للأسود والأحمر‏:‏ إن هذا الأبيض قد فضحنا في هذه الأجمة فخليا عنه حتى آكله، فخليا عنه فأكله، ثم كان كلما أراد أحدهما منعه الآخر فقال للأحمر‏:‏ إن هذا الأسود قد فضحنا في هذه الأجمة وإن لوني على لونك فلو خليت عنه أكلته، فخلى عنه الأحمر فأكله، ثم قال للأحمر‏:‏ إني آكلك، فقال‏:‏ دعني حتى أصيح ثلاث صيحات، فقال‏:‏ دونك، فقال‏:‏ ألا إني إنما أكلت يوم أكل البيض ثلاثاً، فلو أني نصرته لما أكلت‏.‏

ثم قال علي‏:‏ وإنما أنا وهنت يوم قتل عثمان، ولو أني نصرته لما وهنت قالها ثلاثاً‏.‏

وروى ابن عساكر من طريق محمد بن هارون الحضرمي، عن سويد بن عبد الله القشيري القاضي، عن ابن مهدي، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ كانت المرأة تجيء في زمان عثمان إلى بيت المال فتحمل وقرها، وتقول‏:‏ اللهم بدل اللهم غير‏.‏

فقال حسان بن ثابت حين قتل عثمان رضي الله عنه‏:‏

قلتم بدل فقد بدلكم * سنة حرى وحرباً كاللهب

ما نقمتم من ثياب خلفة * وعبيد وإماء وذهب

قال‏:‏ وقال أبو حميد أخو بني ساعدة - وكان ممن شهد بدراً، وكان ممن جانب عثمان - فلما قتل قال‏:‏ والله ما أردنا قتله، ولا كنا نرى أن يبلغ منه القتل، اللهم إن لك علي أن لا أفعل كذا وكذا، ولا أضحك حتى ألقاك‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنا عبد الله بن إدريس، أنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال‏:‏ لقد رأيتني وأن عمر موثقي وأخته على الإسلام، ولو أرفض أحد فيما صنعتم بابن عفان لكان حقيقاً‏.‏

وهكذا رواه البخاري في صحيحه، وروى محمد بن عائذ، عن إسماعيل بن عباس، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير قال‏:‏ سمع عبد الله بن سلام رجلاً يقول لآخر‏:‏ قتل عثمان بن عفان فلم ينتطح فيه عنزان‏.‏

فقال ابن سلام‏:‏ أجل‏!‏ إن البقر والمعز لا تنتطح في قتل الخليفة، ولكن ينتطح فيه الرجال بالسلاح، والله لنقتلن به أقوام إنهم لفي أصلاب آبائهم ما ولدوا بعد‏.‏

وقال ليث‏:‏ عن طاووس قال‏:‏ قال ابن سلام‏:‏ يحكّم عثمان يوم القيامة في القاتل والخاذل‏.‏

وقال أبو عبد الله المحاملي‏:‏ ثنا أبو الأشعث، ثنا حزم بن أبي حزم، سمعت أبا الأسود يقول‏:‏ سمعت أبا بكرة يقول‏:‏ لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أشرك في قتل عثمان‏.‏

وقال أبو يعلى‏:‏ ثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، ثنا محمد بن عباد الهباني، ثنا البراء بن أبي فضال، ثنا الحضرمي، عن أبي مريم رضيع الجارود قال‏:‏ كنت بالكوفة فقام الحسن بن علي خطيباً فقال‏:‏ أيها الناس‏!‏ رأيت البارحة في منامي عجباً، رأيت الرب تبارك وتعالى فوق عرشه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام عند قائمة من قوائم العرش، فجاء أبو بكر فوضع يده على منكب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء عمر فوضع يده على منكب أبي بكر، ثم جاء عثمان فكان بيده - يعني‏:‏ رأسه - فقال‏:‏ رب سل عبادك فيم قتلوني‏؟‏

فانبعث من السماء ميزابان من دم في الأرض، قال فقيل لعلي‏:‏ ألا ترى ما يحدث به الحسن ‏؟‏‏!‏

فقال‏:‏ حدث بما رأى‏.‏

ورواه أبو يعلى أيضاً، عن سفيان بن وكيع، عن جميع بن عمير، عن عبد الرحمن بن مجالد، عن حرب العجلي‏:‏ سمعت الحسن بن علي يقول‏:‏ ما كنت لأقاتل بعد رؤيا رأيتها، رأيت العرش ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متعلق بالعرش، ورأيت أبا بكر واضعاً يده على منكب رسول الله، وكان عمر واضعاً يده على منكب أبي بكر، ورأيت عثمان واضعاً يده على منكب عمر ورأيت دماً دونهم، فقلت‏:‏ ما هذا‏؟‏

فقيل‏:‏ دم عثمان يطلب الله به‏.‏

وقال مسلم بن إبراهيم‏:‏ ثنا سلام بن مسكين، عن وهب بن شبيب، عن زيد بن صوحان أنه قال‏:‏ يوم قتل عثمان نفرت القلوب منافرها، والذي نفسي بيده لا تتألف إلى يوم القيامة‏.‏

وقال محمد بن سيرين‏:‏ قالت عائشة‏:‏ مصصتموه مص الإناء ثم قتلتموه‏؟‏

وقال خليفة بن خياط‏:‏ ثنا أبو قتيبة، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن عون بن عبد الله ابن عتبة قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ غضبت لكم من السوط، ولا أغضب لعثمان من السيف، استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالعقب المصفى قتلتموه‏.‏

وقال أبو معاوية‏:‏ عن الأعمش، عن خيثمة، عن مسروق‏.‏ قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ حين قتل عثمان تركتموه كالثوب النقي من الدنس، ثم قتلتموه‏.‏

وفي رواية‏:‏ ثم قربتموه، ثم ذبحتموه كما يذبح الكبش ‏؟‏‏.‏

فقال لها مسروق‏:‏ هذا عملك، أنت كتبت إلى الناس تأمريهم أن يخرجوا إليه‏.‏

فقالت‏:‏ لا، والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون؛ ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا‏.‏

قال الأعمش‏:‏ فكانوا يرون أنه كتب على لسانها‏.‏

وهذا إسناد صحيح إليها‏.‏

وفي هذا وأمثاله دلالة ظاهرة على أن هؤلاء الخوارج قبحهم الله زوروا كتباً على لسان الصحابة إلى الآفاق يحرضونهم على قتال عثمان، كما قدمنا بيانه ولله الحمد والمنة‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا حزم القطعي، ثنا أبو الأسود بن سوادة، أخبرني طلق بن حسان قال‏:‏ قال‏:‏ قتل عثمان، فتفرقنا في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نسألهم عن قتله، فسمعت عائشة تقول‏:‏ قتل مظلوماً لعن الله قتلته‏.‏

وروى محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن ثمامة، عن أنس قال‏:‏ قالت أم سليم‏:‏ لما سمعت بقتل عثمان رحمه الله، أما إنه لم يحلبوا بعده إلا دماً‏.‏

وأما كلام أئمة التابعين في هذا الفصل فكثير جداً يطول ذكرنا له، فمن ذلك‏:‏

قول أبي مسلم الخولاني حين رأى الوفد الذين قدموا من قتله‏:‏ إنكم مثلهم أو أعظم جرماً، أما مررتم ببلاد ثمود‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ فأشهد إنكم مثلهم، لخليفة الله أكرم عليه من ناقته‏.‏

وقال ابن علية‏:‏ عن يونس بن عبدي، عن الحسن قال‏:‏ لو كان قتل عثمان هدىً لاحتلبت به الأمة لبناً، ولكنه كان ضلالاً فاحتلبت به الأمة دماً‏.‏

وقال أبو جعفر الباقر‏:‏ كان قتل عثمان على غير وجه الحق‏.‏

وهذا ذكر بعض ما رثي به رضي الله عنه

قال مجالد‏:‏ عن الشعبي ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك‏:‏

فكف يديه ثم أغلق بابه * وأيقن أن الله ليس بغافل

وقال لأهل الدار لا تقتلوهم * عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل

فكيف رأيت الله صب عليهم * العداوة والبغضاء بعد التواصل

وكيف رأيت الخير أدبر بعده * عن الناس إدبار النعام الجوافل

وقد نسب هذه الأبيات سيف بن عمر إلى أبي المغيرة الأخنس بن شريق‏.‏

وقال سيف بن عمر‏:‏ وقال حسان بن ثابت‏:‏

ماذا أردتم من أخي الدين باركت * يد الله في ذاك الأديم المقدد
قتلتم ولي الله في جوف داره * وجئتم بأمر جائر غير مهتد

فهلا رعيتم ذمة الله بينكم * وأوفيتم بالعهد عهد محمد

ألم يك فيكم ذا بلاء ومصدق * وأوفاكم عهداً لدى كل مشهد

فلا ظفرت أيمان قوم تبايعوا * على قتل عثمان الرشيد المسدد

وقال ابن جرير‏:‏ وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه‏:‏

من سره الموت صرفاً لا مزاج له * فليأت مأسدة في دار عثماناً

مستحقبي حلق الماذي قد سفعت * فوق المخاطم بيض زان أبداناً

ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً

صبراً فدى لكم أمي وما ولدت * قد ينفع الصبر في المكروه أحياناً

فقد رضينا بأرض الشام نافرة * وبالأمير وبالإخوان إخواناً

إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا * ما دمت حياً وما سميت حساناً

لتسمعن وشيكاً في ديارهم * الله أكبر يا ثارات عثماناً

يا ليت شعري وليت الطير تخبرني * ما كان شأن علي وابن عفاناً

وهو القائل أيضاً‏:‏

إن تُمْسِ الدار ابن أروى منه خاوية * باب صريع وباب محرق خرب

فقد يصادف باغي العرف حاجته * فيها ويأوي إليها المجد والحسب

يا معشر الناس أبدوا ذات أنفسكم * لا يستوي الصدق عند الله والكذب

وقال الفرزدق‏:‏

إن الخلافة لما أظعنت ظعنت * عن أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا

صارت إلى أهلها منهم ووارثها * لما رأى الله في عثمان ما انتهكوا

السافكي دمه ظلماً ومعصيةً * أي دم لا هدوا من غيتهم سفكوا

وقال راعي الإبل النميري في ذلك‏:‏

عشية يدخلون بغير إذن * على متوكل أوفى وطابا

خليل محمد ووزير صدق * ورابع خير من وطئ التراباً

فصل كيفية قتله في المدينة وفيها كثير من الصحابة‏.‏

إن قال قائل‏:‏ كيف وقع قتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة وفيها جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم‏؟‏

فجوابه من وجوه‏:‏

(‏أحدها‏)‏‏:‏ أن كثيراً منهم بل أكثرهم أو كلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الأمر إلى قتله، فإن أولئك الأحزاب لم يكونوا يحاولون قتله عيناً، بل طلبوا منه أحد أمور ثلاثة، إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، أو يقتلوه، فكانوا يرجون أن يسلم إلى الناس مروان، أو أن يعزل نفسه ويستريح من هذه الضائقة الشديدة‏.‏

وأما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع، ولا أن هؤلاء يجترئون عليه إلى ما هذا حده، حتى وقع ما وقع الله والله أعلم‏.‏

‏(‏الثاني‏)‏‏:‏ أن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة، ولكن لما وقع التضييق الشديد عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم ففعلوا، فتمكن أولئك مما أرادوا، ومع هذا ما ظن أحد من الناس أنه يقتل بالكلية‏.‏

‏(‏الثالث‏)‏‏:‏ أن هؤلاء الخوارج لما اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في أيام الحج، ولم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة، بل لما اقترب مجيئهم، انتهزوا فرصتهم قبحهم الله، وصنعوا ما صنعوا من الأمر العظيم‏.‏

‏(‏الرابع‏)‏‏:‏ أن هؤلاء الخوارج كانوا قريباً من ألفي مقاتل من الأبطال، وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة، لأن الناس كانوا في الثغور وفي الأقاليم في كل جهة، ومع هذا كان كثير من الصحابة اعتزل هذه الفتنة ولزموا بيوتهم، ومن كان يحضر منهم المسجد لا يجيء إلا ومعه السيف، يضعه على حبوته إذا احتبى، والخوارج محدقون بدار عثمان رضي الله عنه، وربما لو أرادوا صرفهم عن الدار لما أمكنهم ذلك، ولكن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار يحاجفون عن عثمان رضي الله عنه، لكي تقدم الجيوش من الأمصار لنصرته، فما فجئ الناس إلا وقد ظفر أولئك بالدار من خارجها، وأحرقوا بابها وتسوروا عليه حتى قتلوه‏.‏

وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان رضي الله عنه، بل كلهم كرهه، ومقته، وسب من فعله، ولكن بعضهم كان يود لو خلع نفسه من الأمر، كعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن الحمق، وغيرهم‏.‏

وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة سهم بن خنش أو خنيش أو خنش الأزدي - وكان قد شهد الدار -‏.‏

ورواه محمد بن عائذ، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن يزديد الرجي عنه‏:‏ وكان قد استعاده عمر بن عبد العزيز إلى دير سمعان فسأله عن مقتل عثمان، فذكر ما ملخصه‏:‏ أن وفد السبائية وفد مصر كانوا قد قدموا على عثمان فأجازهم وأرضاهم فانصرفوا راجعين، ثم كروا إلى المدينة فوافقوا عثمان قد خرج لصلاة الغداة أو الظهر فحصبوه بالحصا والنعال والخفاف، فانصرف إلى الدار ومعه أبو هريرة والزبير وابنه عبد الله وطلحة ومروان والمغيرة بن الأخنس في ناس، وطاف وفد مصر بداره، فاستشار الناس، فقال عبد الله بن الزبير‏:‏ يا أمير المؤمنين، إني أشير بإحدى ثلاث خصال‏:‏ إما أن تحرم بعمرة فيحرم عليهم دماؤنا، وإما أن نركب معك إلى معاوية بالشام، وإما أن نخرج فنضرب بالسيف إلى أن يحكم الله بيننا وبينهم، فإنا على الحق وهم على الباطل‏.‏

فقال عثمان‏:‏ أما ما ذكرت من الإحياء بعمرة فتحرم دماؤنا فإنهم يرونا ضلالاً الآن وحال الإحرام وبعد الإحرام، وأما الذهاب إلى الشام، فإني أستحيي أن أخرج من بينهم خائفاً، فيراني أهل الشام، وتسمع الأعداء من الكفار ذلك‏.‏

وأما القتال‏:‏ فإني أرجو أن ألقى الله وليس يهراق بسببي محجمة دم‏.‏

قال‏:‏ ثم صلينا معه صلاة الصبح ذات يوم، فلما فرغ أقبل على الناس فقال‏:‏ إني رأيت أبا بكر وعمر أتياني الليلة، فقالا لي‏:‏ صم يا عثمان فإنك تفطر عندنا، وإني أشهدكم إني قد أصبحت صائماً، وإني أعزم على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخرج من الدار سالماً مسلوماً منه‏.‏

فقلنا‏:‏ يا أمير المؤمنين إن خرجنا لم نأمن منهم علينا فأذن لنا أن نكون معه في بيت من الدار تكون لنا فيه جماعة ومنعة، ثم أمر بباب الدار ففتح ودعا بالمصحف فأكب عليه، وعنده امرأتاه بنت الفرافصة وابنه شيبة، فكان أول من دخل عليه محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته فقال‏:‏ دعها يا ابن أخي، فوالله لقد كان أبوك يتلهف لها بأدنى من هذا، فاستحيى فخرج‏.‏

فقال للقوم‏:‏ قد أشعرته لكم، وأخذ عثمان ما امتعط من لحيته فأعطاه إحدى امرأتيه، ثم دخل رومان بن سودان رجل أزرق قصير محدد عداده من مراد معه حرف من حديد فاستقبله فقال‏:‏ على أي ملة أنت يا نعثل‏؟‏

فقال عثمان‏:‏ لست بنعثل ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين‏.‏

فقال‏:‏ كذبت، وضربه بالحرف على صدغه الأيسر فقتله، فخر فأدخلته نائلة بينها وبين ثيابها، وكانت جسيمة ضليعة، فألقت نفسها عليه، وألقت بنت شيبة نفسها على ما بقي من جسده‏.‏

ودخل رجل من أهل مصر بالسيف مصلتاً، فقال‏:‏ والله لأقطعن أنفه، فعالج المرأة عنه فغلبته فكشف عنها درعها من خلفها حتى نظر إلى متنها فلما لم يصل إليه أدخل السيف بين قرطها ومنكبها فقبضت على السيف فقطع أناملها، فقالت‏:‏ يا رباح، لغلام عثمان أسود، يا غلام ادفع عني هذا الرجل، فمشى إليه الغلام فضربه فقتله وخرج أهل البيت يقاتلون عن أنفسهم، فقتل المغيرة بن الأخنس، وجرح مروان‏.‏

قال‏:‏ فلما أمسينا قلنا‏:‏ إن تركتم صاحبكم حتى يصبح مَثّلوا به، فاحتملناه إلى بقيع الفرقد في جوف الليل، وغشينا سواد من خلفنا فهبناهم، وكدنا أن نتفرق عنه، فنادى مناديهم‏:‏ أن لا روع عليكم البثوا إنما جئنا لنشهده معكم - وكان أبو حبيش يقول‏:‏ هم ملائكة الله - فدفناه، ثم هربنا إلى الشام من ليلتنا، فلقينا الجيش بوادي القرى عليه حبيب بن مسلمة قد أتوا في نصرة عثمان، فأخبرناهم بقتله ودفنه‏.‏

قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ دفنوا عثمان رضي الله عنه بحش كوكب - وكان قد اشتراه وزاده في البقيع - ولقد أحسن بعض السلف إذ يقول وقد سئل عن عثمان‏:‏ هو أمير البررة، وقتيل الفجرة، مخذول من خذله، منصور من نصره‏.‏

وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في آخر ترجمة عثمان وفضائله - بعد حكايته هذا الكلام -‏:‏ الذين قتلوه أو ألبوا عليه، قتلوا إلى عفو الله ورحمته، والذين خذلوه خذلوا وتنغص عيشهم، وكان الملك بعده في نائبه، ومعاوية وبنيه، ثم في وزيره مروان، وثمانية من ذريته استطالوا حياته وملوه مع فضله وسوابقه، فتملك عليهم من هو من بني عمه بضعاً وثمانين سنة، فالحكم لله العلي الكبير‏.‏ وهذا لفظه بحروفه‏.‏

بعض الأحاديث الواردة في فضائل عثمان بن عفان

هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان أبو عمرو وأبو عبد الله القرشي، الأموي، أمير المؤمنين، ذو النورين وصاحب الهجرتين، وزوج الابنتين‏.‏ وأمه‏:‏ أروى بنت كريز بن ربيعة بن عبد شمس‏.‏

وأمها أم حكيم، وهي البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة، ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فكان ثالث الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، المأمور باتباعهم والاقتداء بهم‏.‏ أسلم عثمان رضي الله عنه قديماً على يدي أبي بكر الصديق، وكان سبب إسلامه عجيباً فيما ذكره الحافظ ابن عساكر، وملخص ذلك‏:‏ أنه لما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنته رقية - وكانت ذات جمال - من ابن عمها عتبة بن أبي لهب، تأسف إذ لم يكن هو تزوجها، فدخل على أهله مهموماً، فوجد عندهم خالته سعدى بنت كريز - وكانت كاهنة -

فقالت له‏:‏ أبشر وحييت ثلاثاً تتراً، ثم ثلاثاً وثلاثاً أخرى، ثم بأخرى كي تتم عشراً، أتاك خير، ووقيت شراً، أنكحت والله حصاناً زهراً، وأنت بكر، ولقيت بكراً، وافيتها بنت عظيم قدراً، بنيت أمراً قد أشاد ذكراً‏.‏

قال عثمان‏:‏ فعجبت من أمرها حيث تبشرني بالمرأة قد تزوجت بغيري، فقلت‏:‏ يا خالة‏!‏ ما تقولين ‏؟‏‏.‏

فقالت‏:‏ عثمان لك الجمال، ولكِ اللسان، هذا النبي معه البرهان‏.‏ أرسله بحقه الديان، وجاءه التنزيل والفرقان، فاتبعه لا تغتالك الأوثان‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ إنك لتذكرين أمراً ما وقع ببلدنا‏.‏

فقالت‏:‏ محمد بن عبد الله رسول من عند الله، جاء بتنزيل الله يدعو به إلى الله، ثم قالت‏:‏ مصباحه مصباح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطاح، ذلَّت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الذباح، وسلت الصفاح ومدت الرماح‏.‏

قال عثمان‏:‏ فانطلقت مفكراً، فلقيني أبو بكر فأخبرته، فقال‏:‏ ويحك يا عثمان، إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأصنام التي يعبدها قومنا‏؟‏ أليست من حجارة صم لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ قلت بلى‏!‏ والله إنها لكذلك‏.‏

فقال‏:‏ والله لقد صدقتك خالتك هذا رسول الله محمد بن عبد الله، قد بعثه الله إلى خلقه برسالته، هل لك أن تأتيه ‏؟‏‏.‏

فاجتمعنا برسول الله، فقال‏:‏ يا عثمان، أجب الله إلى حقه، فأنا رسول الله إليك وإلى خلقه‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما تمالكت نفسي منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقال‏:‏

أحسن زوج رآه إنسان * رقية وزوجها عثمانُ

فقالت في ذلك سُعدى بنت كريز‏:‏

هدى الله عثماناً بقولي إلى الهدى * وأرشده والله يهدي إلى الحقِ

فتابع بالرأي السديد محمداً * وكان برأي لا يصد عن الصدقِ

وأنكحه المبعوث بالحق بنته * فكانا كبدر مازج الشمس في الأفقِ

فداؤك يا ابن الهاشميين مُهجتي * وأنت أمين الله أرسلت للخلقِ

قال‏:‏ ثم جاء أبو بكر من الغد بعثمان بن مظعون، وبأبي عبيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا، وكانوا مع من اجتمع مع رسول الله ثمانية وثلاثون رجلاً‏.‏

وهاجر إلى الحبشة أول الناس ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة‏.‏

فلما كانت وقعة بدر اشتغل بتمريض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام بسببها في المدينة، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه منها، وأجره فيها فهو معدود فيمن شهدها‏.‏

فلما توفيت زوَّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأختها أم كلثوم فتوفيت أيضاً في صحبته، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كان عندنا أخرى لزوجناها بعثمان‏)‏‏)‏‏.‏

وشهد أحداً، وفر يومئذ فيمن تولى، وقد نص الله على العفو عنهم، وشهد الخندق والحديبية، وبايع عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بإحدى يديه، وشهد خيبر وعمرة القضاء، وحضر الفتح وهوازن والطائف وغزوة تبوك، وجهز جيش العسرة‏.‏

وتقدم عن عبد الرحمن بن خباب أنه جهزهم يومئذٍ بثلاثمائة بعير بأقتابها وأحلاسها، وعن عبد الرحمن بن سمرة‏:‏ أنه جاء يومئذٍ بألف دينار فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ماضر عثمان ما فعل بعد هذا اليوم مرتين‏)‏‏)‏‏.‏

وحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وتوفي وهو عنه راضٍ، وصحب أبا بكر فأحسن صحبته، وتوفي وهو عنه راضٍ، وصحب عمر فأحسن صحبته، وتوفي وهو عنه راضٍ‏.‏

ونص عليه في أهل الشورى الستة، فكان خيرهم كما سيأتي‏.‏

فولي الخلافة بعده ففتح الله على يديه كثيراً من الأقاليم والأمصار، وتوسعت المملكة الإسلامية، وامتدت الدولة المحمدية، وبلغت الرسالة المصطفوية في مشارق الأرض ومغاربها، وظهر للناس مصداق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا كله تحقق وقوعه وتأكد وتوطد زمان عثمان رضي الله عنه‏.‏

وقد كان رضي الله عنه حسن الشكل، مليح الوجه، كريم الأخلاق، ذا حياء كثير، وكرم غزير، يُؤثر أهله وأقاربه في الله، تأليفاً لقلوبهم من متاع الحياة الدنيا الفاني، لعله يرغبهم في إيثار ما يبقى على ما يفنى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي أقواماً ويدع آخرين، يعطي أقواماً خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار، ويكل آخرين إلى ما جعل الله في قلوبهم من الهدى والإيمان‏.‏

وقد تعنت عليه بسبب هذه الخصلة أقوام، كما تعنت بعض الخوارج على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيثار، وقد قدمنا ذلك غزوة حنين حيث قسم غنائمها‏.‏

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل عثمان رضي الله عنه، نذكر ما تيسر منها إن شاء الله وبه الثقة، وهي قسمان‏:‏

الأول فيما ورد في فضائله مع غيره‏:‏

فمن ذلك الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه‏:‏ حدثنا مسدد، ثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد، عن قتادة أن أنساً حدثهم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف، فقال‏:‏ اسكن أحد - أظنه ضربه برجله - فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان‏)‏‏)‏‏.‏ تفرد به دون مسلم‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ ثنا قتيبة، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اهدئي فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال في الباب‏:‏ عن عثمان وسعيد بن زيد، وابن عباس، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، وبريدة الأسلمي، وهذا حديث صحيح‏.‏

قلت‏:‏ ورواه أبو الدرداء، ورواه الترمذي، عن عثمان في خطبته يوم الدار، وقال‏:‏ على ثبير‏.‏

حديث آخر

وهو عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط، فأمرني بحفظ الباب، فجاء رجل يستأذن فقلت‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ أبو بكر‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ائذن له وبشره بالجنة‏.‏

ثم جاء عمر، فقال‏:‏ ائذن له وبشره بالجنة‏.‏

ثم جاء عثمان، فقال‏:‏ ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فدخل وهو يقول‏:‏ اللهم صبراً‏.‏

وفي رواية‏:‏ - الله المستعان -‏)‏‏)‏‏.‏

رواه عنه قتادة وأيوب السختياني‏.‏

وقال البخاري‏:‏ وقال حماد بن زيد‏:‏ حدثنا عاصم الأحول، وعلي بن الحكم، سمعا أبا عثمان يحدث عن أبي موسى الأشعري بنحوه‏.‏

وزاد عاصم‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعداً في مكان قد انكشف عن ركبتيه، أو ركبته، فلما دخل عثمان غطاها‏)‏‏)‏‏.‏

وهو في الصحيحين أيضاً من حديث سعيد بن المسيب، عن أبي موسى، وفيه‏:‏ ‏(‏‏(‏أن أبا بكر وعمر دليا أرجلهما مع رسول الله في باب القف وهو في البئر، وجاء عثمان فلم يجد له موضعاً‏)‏‏)‏، قال سعيد‏:‏ فأولت ذلك قبورهم اجتمعت وانفرد عثمان‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد بن مروان، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة‏.‏ قال‏:‏ قال نافع بن الحارث‏:‏ ‏(‏‏(‏خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل حائطاً، فقال‏:‏ امسك علي الباب، فجاء حتى جلس على القف ودلى رجليه فضرب الباب فقلت‏:‏ من هذا‏؟‏

فقال‏:‏ أبو بكر، فقلت‏:‏ يا رسول الله هذا أبو بكر‏.‏

قال‏:‏ ائذن له وبشره بالجنة، فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على القف، ودلى رجليه في البئر، ثم ضرب الباب‏.‏

فقلت من هذا‏؟‏

قال‏:‏ عمر، قلت‏:‏ يا رسول الله هذا عمر‏.‏

قال‏:‏ ائذن لي وبشره بالجنة، ففعلت فجاء فجلس مع رسول الله على القف، ودلى رجليه في البئر‏.‏

ثم ضرب الباب، فقلت‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ عثمان‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله هذا عثمان‏.‏

قال‏:‏ ائذن له وبشره بالجنة معها بلاء، فأذنت له وبشرته بالجنة، فجلس مع رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم على القف ودلى رجليه في البئر‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا وقع في هذه الرواية‏.‏

وقد أخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي سلمة، فيحتمل أن أبا موسى، ونافع بن عبد الحارث كانا موكلين بالباب، أو إنها قصة أخرى‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد، عن عفان، عن وهيب، عن موسى بن عقبة، سمعت أبا سلمة ولا أعلمه إلا عن نافع بن عبد الحارث‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً فجلس على قف البئر، فجاء أبو بكر فاستأذن، فقال لأبي موسى‏:‏ ائذن له وبشره بالجنة‏.‏

ثم جاء عمر فقال‏:‏ ائذن له وبشره بالجنة‏.‏

ثم جاء عثمان، فقال‏:‏ ائذن له وبشره بالجنة وسيلقى بلاء‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا السياق أشبه من الأول، على أنه قد رواه النسائي من حديث صالح بن كيسان، عن أبي الزناد، عن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن نافع بن عبد الحارث، عن أبي موسى الأشعري‏.‏ فالله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، أنا همام، عن قتادة، عن ابن سيرين، ومحمد بن عبيد، عن عبد الله ابن عمر وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر فاستأذن، فقال‏:‏ ائذن له وبشره بالجنة‏.‏

ثم جاء عمر، فقال‏:‏ ائذن له وبشره بالجنة‏.‏

ثم جاء عثمان فاستأذن، فقال‏:‏ ائذن له وبشره بالجنة‏.‏

قال قلت‏:‏ فأين أنا‏؟‏

قال‏:‏ أنت مع أبيك‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏

وقد رواه البزار، وأبو يعلى، من حديث أنس بن مالك بنحو ما تقدم‏.‏

حديث آخر

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن يحيى بن سعيد بن العاص‏:‏ أن سعيد بن العاص أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان حدثاه‏:‏ ‏(‏‏(‏أن أبا بكر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف، فاستأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحالة فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان‏:‏ ثم استأذنت عليه فجلس، وقال‏:‏ اجمعي عليك ثيابك فقُضِيت إليه حاجتي ثم انصرفت، فقالت عائشة‏:‏ يا رسول الله مالي لا أراك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحالة لا يبلغ إلي حاجته‏)‏‏)‏‏.‏

قال الليث‏:‏ وقال جماعة الناس‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث محمد بن أبي حرملة، عن عطاء، وسليمان بن يسار، عن أبي سلمة، عن عائشة‏.‏

ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث سهيل، عن أبيه، عن عائشة‏.‏

ورواه جبير بن نفير، وعائشة بنت طلحة عنها‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مروان، ثنا عبد الله بن يسار‏:‏ سمعت عائشة بنت طلحة تذكر عن عائشة أم المؤمنين‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً كاشفاً عن فخذه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه‏.‏

فلما قاموا قلت‏:‏ يا رسول الله استأذن عليك أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك ‏؟‏

فقال‏:‏ يا عائشة ألا نستحي من رجل والله إن الملائكة لتستحي منه ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد من هذا الوجه عنها‏.‏

طريق أخرى عن حفصة

رواه الحسن بن عرفة، وأحمد بن حنبل، عن روح بن عبادة، عن ابن جريج، أخبرني أبو خالد عثمان بن خالد، عن عبد الله بن أبي سعيد المدني، حدثتني حفصة، فذكر مثل حديث عائشة، وفيه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا نستحي ممن تستحي منه الملائكة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

طريق أخرى عن ابن عباس

قال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا أبو كريب، ثنا يونس بن بكير، ثنا النضر - هو ابن عبد الرحمن أبو عمر الخزاز الكوفي -، عن عكرمة، عن ابن عباس‏.‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا نستحي ممن تستحي منه الملائكة عثمان بن عفان ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال البزار‏:‏ لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، قلت‏:‏ هو على شرط الترمذي ولم يخرجوه‏.‏

طريق أخرى عن ابن عمر

قال الطبراني‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، ثنا أبو معشر، حدثني إبراهيم بن عمر بن أبان، حدثني أبي عمر بن أبان، عن أبيه‏.‏ قال‏:‏ سمعت عبد الله بن عمر يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعائشة وراءه إذ استأذن أبو بكر فدخل، ثم استأذن عمر فدخل، ثم استأذن سعد بن مالك فدخل، ثم استأذن عثمان بن عفان فدخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث كاشفاً عن ركبته، فرد ثوبه على ركبته حين استأذن عثمان، وقال لامرأته‏:‏ استأخري فتحدثوا ساعة ثم خرجوا‏.‏

فقالت عائشة‏:‏ يا نبي الله‏!‏ دخل أبي وأصحابه فلم تصلح ثوبك على ركبتك ولم تؤخرني عنك‏؟‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة، والذي نفسي بيده إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحي من الله ورسوله، ولو دخل وأنت قريب مني لم يتحدث ولم يرفع رأسه حتى يخرج‏)‏‏)‏‏.‏

هذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه زيادة على ما قبله، وفي سنده ضعف‏.‏

قلت‏:‏ وفي الباب عن علي، وعبد الله بن أبي أوفى، وزيد بن ثابت‏:‏ وروى أبو مروان القرشي، عن أبيه، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏عثمان حيي تستحي من الملائكة‏)‏‏)‏‏.‏

حديث آخر

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأشدها حياء عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله أُبي، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث خالد الحذاء‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وفي صحيح البخاري، ومسلم آخره‏:‏ ‏(‏‏(‏ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى هشيم، عن كريز بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر مثل حديث أبي قلابة، عن أنس أو نحوه‏.‏

حديث آخر

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد بن عبد ربه، ثنا محمد بن حرب، حدثني الزبيدي، عن ابن شهاب، عن عمرو بن أبان بن عثمان، عن جابر بن عبد الله‏:‏ أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر‏.‏

فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا‏:‏ أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوط بعضهم ببعض، فهؤلاء ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أبو داود، عن عمرو بن عثمان، عن محمد بن حرب، ثم قال‏:‏ ورواه يونس، وشعيب، عن الزهري فلم يذكرا عمراً‏.‏

حديث آخر

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو داود - عمر بن سعد -، ثنا بدر بن عثمان، عن عبيد الله بن مروان، عن أبي عائشة، عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال‏:‏ رأيت قبل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين، فأما المقاليد فهذه المفاتيح، وأما الموازين فهي التي يوزن بها، فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة، فوزنت بهم فرجحت، ثم جيء بأبي بكر فَوُزِنَ، فَوَزَنَ بهم، ثم جيء بعمر فَوُزِنَ، فَوَزَنَ بهم، ثم جيء بعثمان فَوُزِنَ فَوَزَنَ بهم، ثم رفعت‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا هشام بن عمار، ثنا عمرو بن واقد، ثنا يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس، عن معاذ بن جبل قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني رأيت أني وضعت في كفة وأمتي في كفة فعدلتها، ثم وضع أبو بكر في كفة وأمتي في كفة فعدلها، ثم وضع عمر في كفة وأمتي في كفة فعدلها، ثم وضع عثمان في كفة وأمتي في كفة فعدلها‏)‏‏)‏‏.‏

حديث آخر

قال أبو يعلى‏:‏ حدثنا عبد الله بن مطيع، ثنا هشيم، عن العوام، عمن حدثه عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏‏(‏لما أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة جاء بحجر فوضعه، وجاء أبو بكر بحجر فوضعه، وجاء عمر بحجر فوضعه، وجاء عثمان بحجر فوضعه‏.‏

قالت‏:‏ فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏؟‏

فقال‏:‏ هم أمراء الخلافة من بعدي‏)‏‏)‏‏.‏

وقد تقدم هذا الحديث في بناء مسجده أول مقدمه المدينة عليه الصلاة والسلام، وكذلك تقدم في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ من حديث الزهري، عن رجل، عن أبي ذر في تسبيح الحصا في يده عليه السلام، ثم في كف أبي بكر، ثم في كف عمر، ثم في كف عثمان رضي الله عنهم‏)‏‏)‏‏.‏

وفي بعض الروايات‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه خلافة النبوة‏)‏‏)‏‏.‏

وسيأتي حديث سفينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً‏)‏‏)‏، فكانت ولاية عثمان ومدتها ثنتي عشرة سنة، من جملة هذه الثلاثين بلا خلاف بين العلماء العاملين، كما أخبر به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين


حديث آخر

وهو ما روي من طرق متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه شهد للعشرة بالجنة، وهو أحدهم بنص النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن حازم بن بزيغ، ثنا شاذان، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نذر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم‏)‏‏)‏‏.‏

تابعه عبد الله بن صالح بن عبد العزيز، تفرد به البخاري ورواه إسماعيل بن عياش، والفرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن ابن عمر‏.‏

ورواه أبو يعلى‏:‏ عن أبي معشر، عن يزيد بن هارون، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن عمر به‏.‏

طريق أخرى عن ابن عمر

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، ثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كنا نعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه متوافرون أبو بكر وعمر وعثمان، ثم نسكت‏)‏‏)‏‏.‏

طريق أخرى عن ابن عمر بلفظ آخر

قال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا عمرو بن علي، وعقبة بن مكرم قالا، ثنا أبو عاصم، عن عمر بن محمد عن سالم، عن أبيه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كنا نقول في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان - يعني‏:‏ في الخلافة -‏)‏‏)‏ وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجوه‏.‏

لكن قال البزار‏:‏ وهذا الحديث قد روي عن ابن عمر من وجوه‏:‏

‏(‏‏(‏كنا نقول‏:‏ أبو بكر وعمر وعثمان، ثم لا نفاضل بعد‏)‏‏)‏‏.‏

وعمر بن محمد لم يكن بالحافظ، وذلك‏:‏ يتبين في حديثه إذا روى عن غير سالم فلم يقل شيئاً‏.‏

وقد رواه غير واحد من الضعفاء، عن الزهري، عن سالم عن أبيه به‏.‏

وقد اعتنى الحافظ بن عساكر بجمع طرقه عن ابن عمر فأفاد وأجاد‏.‏

فأما الحديث الذي قال الطبراني‏:‏ حدثنا سعيد بن عبد ربه الصفار البغدادي، حدثنا علي بن جميل الرقي، أنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس‏.‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏في الجنة شجرة - أو ما في الجنة شجرة شك على بن حنبل - ما عليها ورقة إلا مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو النورين‏)‏‏)‏، فإنه حديث ضعيف في إسناده من تكلم فيه، ولا يخلو من نكارة‏.‏ والله أعلم‏.‏

القسم الثاني فيما ورد من فضائله وحده

قال البخاري‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، ثنا عثمان بن موهب‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏جاء رجل من أهل مصر حج البيت، فرأى قوماً جلوساً فقال‏:‏ من هؤلاء القوم‏؟‏

قالوا‏:‏ قريش‏.‏

قال‏:‏ فمن الشيخ فيهم‏؟‏

قالوا‏:‏ عبد الله بن عمر‏.‏

قال‏:‏ يا ابن عمر‏!‏ إني سائلك عن شيء فحدثني، هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏

قال‏:‏ تعلم أنه تغيب يوم بدر ولم يشهدها‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏

قال‏:‏ تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان ولم يشهدها‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏

قال‏:‏ الله أكبر‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ تعال أبين لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له‏.‏

وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله وكانت مريضة، فقال له رسول الله‏:‏ إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه‏.‏

وأما تغيبه عن بيعة الرضوان‏:‏ فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى‏:‏ هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال‏:‏ هذه لعثمان‏.‏

فقال له ابن عمر‏:‏ اذهب بها الآن معك‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به دون مسلم‏.‏

طريق أخرى

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، عن عاصم، عن سفيان قال‏:‏ لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة، فقال له الوليد‏:‏ مالي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان‏؟‏

فقال له عبد الرحمن‏:‏ أبلغه أني لم أفر يوم حنين‏.‏

قال عاصم‏:‏ يقول - يوم أحد - ولم أتخلف عن يوم بدر، ولم أترك سنة عمر‏.‏

قال‏:‏ فانطلق فخبر بذلك عثمان‏.‏

فقال‏:‏ أما قوله‏:‏ إني لم أفر يوم حنين، فكيف يعيرني بذلك وقد عفا الله عني، فقال‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 155‏]‏‏.‏

وأما قوله‏:‏ إني تخلفت يوم بدر، فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهد‏.‏

وأما قوله‏:‏ ولم أترك سنة عمر فإني لا أطيقها ولا هو، فإنه يحدثه بذلك‏.‏

حديث آخر

قال البخاري‏:‏ حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد، ثنا أبي، عن يونس، قال ابن شهاب‏:‏ أخبرني عروة أن عبيد الله بن عدي بن الخيار أخبره أن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قالا‏:‏ ما يمنعك أن تكلم عثمان لأخيه الوليد، فقد أكثر الناس فيه‏؟‏ فقصدت لعثمان حين خرج إلى الصلاة فقلت‏:‏ إن لي إليك حاجة، وهي نصيحة لك‏.‏

فقال‏:‏ يا أيها المرء منك‏.‏

- قال‏:‏ أبو عبد الله، قال معمر‏:‏ أعوذ بالله منك - فانصرفت فرجعت إليهم إذ جاء رسول عثمان فأتيته‏.‏

فقال‏:‏ ما نصيحتك ‏؟‏‏.‏

فقلت‏:‏ إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكنتَ ممن استجاب لله ولرسوله، وهاجرتَ الهجرتين، وصحبتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيتَ هديه، وقد أكثر الناس في شأن الوليد‏.‏

فقال‏:‏ أدركتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏‏.‏

فقلت‏:‏ لا‏!‏ ولكن خلص إليَّ من علمه ما يخلص إلى العذراء في سِتْرها‏.‏

قال‏:‏ أما بعد‏!‏ فإن الله بعث محمداً بالحق، وكنت ممن استجاب لله ولرسوله فآمنت بما بعث به، وهاجرتُ الهجرتين كما قلتَ، وصحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته، فوالله ما عصيته، ولا غششته حتى توفاه الله عز وجل، ثم أبو بكر مثله، ثم عمر مثله، ثم استخلفتُ، أفليس لي من الحق مثل الذي لهم ‏؟‏‏.‏

قلت‏:‏ بلى ‏!‏‏.‏

قال‏:‏ فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم‏؟‏ أمَّا ما ذكرت من شأن الوليد فسآخذ فيه بالحق إن شاء الله‏.‏
ثم دعا علياً فأمره أن يجلده فجلده ثمانين‏.‏

حديث آخر

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو المغيرة، ثنا الوليد بن مسلم، حدثني ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر، عن النعمان بن بشير، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏(‏‏(‏أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان فجاء، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأينا إقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان أقبلت إحدانا على الأخرى، فكان من آخر كلمة أن ضرب منكبه وقال‏:‏ يا عثمان، إن الله عسى أن يلبسك قميصاً، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني‏.‏ ثلاثاً‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت لها يا أم المؤمنين‏:‏ فأين كان هذا عنك‏؟‏

قالت‏:‏ نسيته والله ما ذكرته‏.‏

قال‏:‏ فأخبرته معاوية بن أبي سفيان، فلم يرض بالذي أخبرته، حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إلي به، فكتبت إليه به كتاباً‏.‏

وقد رواه أبو عبد الله الجيري‏:‏ عن عائشة وحفصة بنحو ما تقدم‏.‏

ورواه قيس بن أبي حازم، وأبو سلمة عنها‏.‏

ورواه أبو سهلة عن عثمان‏:‏ ‏(‏‏(‏إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ عهداً، فأنا صابر نفسي عليه‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه فرج بن فضالة‏:‏ عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة فذكره‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ تفرد به الفرج بن فضالة‏.‏

ورواه أبو مروان محمد‏:‏ عن عثمان بن خالد العماني، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة‏.‏

ورواه ابن عساكر‏:‏ من طريق المنهال بن عمر، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عنها‏.‏

ورواه ابن أسامة‏:‏ عن الجريري، حدثني أبو بكر العدوي‏.‏ قال‏:‏ سألت عائشة، وذكر عنها نحو ما تقدم، تفرد به الفرج بن فضالة‏.‏

ورواه حصين‏:‏ عن مجاهد، عن عائشة بنحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن كنانة الأسدي، أبو يحيى، ثنا إسحاق بن سعيد، عن أبيه‏.‏ قال‏:‏

بلغني أن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏‏(‏ما استمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة، فإن عثمان جاءه في حرِّ الظهيرة فظننت أنه جاءه في أمر النساء، فحملتني الغيرة على أن أصغيت إليه فسمعته يقول‏:‏ إن الله ملبسك قميصاً تريدك أمتي على خلعه فلا تخلعه‏)‏‏)‏‏.‏

فلما رأيت عثمان يبذل لهم ما سألوه إلا خلعه، علمت أنه عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عهد إليه‏.‏

طريق أخرى

قال الطبراني‏:‏ حدثنا مطلب بن سعيد الأزدي، ثنا عبد الله بن صالح، ثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف قال‏:‏ كنا عند شفى الأصبحي فقال‏:‏ حدثنا عبد الله بن عمر قال‏:‏ التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عثمان إن الله كساك قميصاً فأرادك الناس على خلعه فلا تخلعه، فوالله لئن خلعته لا ترى الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه أبو يعلى من طريق عبد الله بن عمر عن أخته حفصة أم المؤمنين‏.‏

وفي سياق متنه غرابة والله أعلم‏.‏

حديث آخر

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثتني فاطمة بنت عبد الرحمن‏.‏ قالت‏:‏ حدثتني أمي أنها سألت عائشة وأرسلها عمها فقال‏:‏ قولي إن أحد بنيك يقرئك السلام، ويسألك عن عثمان بن عفان، فإن الناس قد شتموه، فقالت‏:‏ ‏(‏‏(‏لعن الله من لعنه، فوالله لقد كان قاعداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن رسول الله لمسند ظهره إليّ، وإن جبريل ليوحي إليه القرآن، وإنه ليقول له‏:‏ اكتب يا عثيم‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريماً على الله ورسوله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم رواه الإمام أحمد‏:‏ عن يونس، عن عمر بن إبراهيم اليشكري، عن أمه، عن أمها‏:‏ أنها سألت عائشة عند الكعبة عن عثمان، فذكرت مثله‏.‏

حديث آخر

قال البزار‏:‏ حدثنا عمر بن الخطاب قال‏:‏ ذكر أبو المغيرة، عن صفوان بن عمرو، عن ماعز التميمي، عن جابر‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة، فقال أبو بكر‏:‏ أنا أدركها‏؟‏

فقال‏:‏ لا‏!‏

فقال عمر‏:‏ أنا يا رسول الله أدركها‏؟‏

قال‏:‏ لا‏!‏

فقال عثمان‏:‏ يا رسول الله فأنا أدركها‏؟‏

قال‏:‏ بك يبتلون‏)‏‏)‏‏.‏

قال البزار‏:‏ وهذا لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه‏.‏

حديث آخر

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسود بن عمر، ثنا سنان بن هارون، ثنا كليب بن واصل، عن ابن عمر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة، فقال‏:‏ يقتل فيها هذا المقنع يومئذٍ مظلوماً، فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه الترمذي‏:‏ عن إبراهيم بن سعيد، عن شاذان به، وقال‏:‏ حسن غريب‏.‏

حديث آخر

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا موسى بن عقبة، حدثني أبو أمي أبو حنيفة‏:‏ أنه دخل الدار وعثمان محصور فيها، وأنه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام فأذن له، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافا - أو قال اختلافا وفتنة - فقال له قائل من الناس‏:‏ فمن لنا يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ عليكم بالأمين وأصحابه وهو يشير إلى عثمان بذلك‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد وإسناده جيد حسن، ولم يخرجوه من هذا الوجه‏.‏

وقال الإمام‏:‏ أحمد حدثنا، أبو أسامة، ثنا حماد بن أسامة، ثنا كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن شقيق، حدثني هرم بن الحارث وأسامة بن خزيم - وكانا يغازيان - فحدثاني حديثاً، ولم يشعر كل واحد منهما أن صاحبه حدثنيه عن مُرَّة البهزي قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة فقال‏:‏ كيف تصنعون في فتنة تثور في أقطار الأرض كأنها صياصي بقر ‏؟‏‏.‏

قالوا‏:‏ نصنع ماذا يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ عليكم هذا وأصحابه - أو اتبعوا هذا وأصحابه -‏.‏ قال‏:‏ فأسرعت حتى عييت فأدركت الرجل، فقلت‏:‏ هذا يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ هذا، فإذا هو عثمان بن عفان‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ هذا وأصحابه فذكره‏.‏

طريق أخرى

وقال الترمذي في جامعه‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، ثنا عبد الوهاب الثقفي، ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني‏:‏ أن خطباء قامت بالشام، وفيهم رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له مُرَّة بن كعب، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلمت، وذكر الفتن فقرَّبها، فمر رجل متقنع في ثوب، فقال‏:‏ هذا يومئذٍ على الهدى، فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفان، فأقبلت عليه بوجهه، فقلت‏:‏ هذا‏.‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

وفي الباب‏:‏ عن ابن عمر، وعبد الله بن حوالة، وكعب بن عجرة‏.‏ قلت‏:‏ وقد رواه أسد بن موسى، عن معاوية بن صالح، حدثني سليم بن عامر، عن جبير بن نفير، عن مرة بن كعب البهزي، فذكر نحوه‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد‏:‏ عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية، عن صالح، عن سليم بن عامر، عن جبير بن نفير، عن كعب بن مرة البهزي‏.‏

الصحيح مرة بن كعب كما تقدم، وأما حديث ابن حوالة، فقال حماد بن سلمة‏:‏ عن سعيد الجريري، عن عبد الله بن سفيان، عن عبد الله بن شقيق عن، عبد الله بن حوالة‏.‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف أنت وفتنة تكون في أقطار الأرض ‏؟‏‏.‏

قلت‏:‏ ما خار الله لي ورسوله‏.‏

قال‏:‏ اتبع هذا الرجل فإنه يومئذٍ ومن اتبعه على الحق‏.‏

قال‏:‏ فاتبعته، فأخذت بمنكبه ففتلته، فقلت‏:‏ هذا يا رسول الله‏؟‏

فقال‏:‏ نعم، فإذا هو عثمان بن عفان‏)‏‏)‏‏.‏

وقال حرملة‏:‏ عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط، عن ابن حوالة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ثلاث من نجا منهن فقد نجا موتي، وخروج الدجال، وقتل خليفة مصطبر قوَّام بالحق يعطيه

وأما حديث كعب بن عجرة، فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، أخبرني معاوية بن مسلم، عن مطر الوراق، عن ابن سيرين، عن كعب بن عجرة قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقرَّبها وعظمها قال‏:‏ ثم مر رجل مقنع في ملحفة، فقال‏:‏ هذا يومئذ على الحق‏.‏

قال‏:‏ فانطلقت مسرعاً أو محضراً وأخذت بضبعيه فقلت‏:‏ هذا يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ هذا، فإذا هو عثمان بن عفان‏)‏‏)‏‏.‏

ثم رواه أحمد‏:‏ عن يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن كعب بن عجرة فذكر مثله‏.‏

ورواه أبو يعلى‏:‏ عن هدبة، عن همام، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن كعب بن عجرة‏.‏

وكذا رواه أبو عون‏:‏ عن ابن سيرين، عن كعب‏.‏

وقد تقدم حديث أبي ثور التميمي عنه في قوله في الخطبة التي خاطب بها الناس من داره‏:‏ والله ما تغنيت ولا تمنيت ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يعتق كل يوم جمعة عتيقاً فإن تعذر عليه أعتق في الجمعة الأخرى عتيقين‏.‏

وقال مولاه حمران‏:‏ كان عثمان يغتسل كل يوم منذ أسلم‏.‏ رضي الله عنه‏.‏


حديث آخر

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن عياش، ثنا الوليد بن مسلم، أنبأنا الأوزاعي، عن محمد بن عبد الملك بن مروان أنه حدثه عن المغيرة بن شعبة‏:‏ أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال‏:‏ إنك إمام العامة وقد نزل بك ما ترى وإني أعرض عليك خصالاً ثلاثاً اختر إحداهن، إما أن تخرج فتقاتلهم فإن معك عدداً وقوة وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق باباً سوى الذي هم عليه فتقعد على رواحلك فتلحق مكة، فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية‏.‏

فقال عثمان‏:‏ أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلوني بها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم‏)‏‏)‏، ولن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو المغيرة، ثنا أرطأة - يعني‏:‏ ابن المنذر - حدثني أبو عون الأنصاري‏:‏ أن عثمان قال لابن مسعود‏:‏ هل أنت منته عما بلغني عنك‏؟‏ فاعتذر بعض العذر، فقال عثمان‏:‏ ويحك‏!‏ إني قد سمعت وحفظت - وليس كما سمعت - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏سيقتل أمير، ويتبرى متبرئ‏)‏‏)‏، وإني أنا المقتول، وليس عمر، إنما قتل عمر واحد، وأنه يجتمع علي، وهذا الذي قاله لابن مسعود قبل مقتله بنحو من أربع سنين، فإنه مات قبله بنحو ذلك‏.‏

حديث آخر

قال عبد الله بن أحمد‏:‏ ثنا عبيد الله بن عمر الفربري، ثنا القاسم بن الحكم بن أوس الأنصاري، حدثني أبو عبادة الزرقي الأنصاري - من أهل المدينة - عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال‏:‏ شهدت عثمان يوم حصر في موضع الجنائز ولو ألقي حجر لم يقع إلا على رأس رجل فرأيت عثمان أشرف من الخوخة التي تلي باب مقام جبريل، فقال‏:‏ أيها الناس‏!‏ أفيكم طلحة‏؟‏

فسكتوا، ثم قال‏:‏ أيها الناس‏!‏ أفيكم طلحة بن عبيد الله‏؟‏

فسكتوا، ثم قال‏:‏ أيها الناس‏!‏ أفيكم طلحة‏؟‏

فقام طلحة بن عبيد الله فقال له عثمان‏:‏ ألا أراك ههنا‏؟‏ ما كنت أرى أنك تكون في جماعة قوم تسمع نداي آخر ثلاث مرات، ثم لا تجيئني‏؟‏ أنشدك الله يا طلحة تذكر يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله في موضع كذا وكذا ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك‏؟‏

فقال‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه ما من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق في الجنة، وإن عثمان بن عفان هذا - يعني‏:‏ نفسه - رفيقي في الجنة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال طلحة‏:‏ اللهم نعم‏!‏

تفرد به أحمد‏.‏

حديث آخر عن طلحة

قال الترمذي‏:‏ حدثنا أبو هشام الرفاعي، ثنا يحيى بن اليمان، عن شريح بن زهرة، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، عن طلحة بن عبيد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لكل نبي رفيق ورفيقي في الجنة عثمان‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ هذا حديث غريب وليس إسناده بالقوي، وإسناده منقطع‏.‏

ورواه‏:‏ أبو عثمان محمد بن عثمان، عن أبيه، عن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة‏:‏ وقال الترمذي‏:‏ حدثنا الفضل بن أبي طالب البغدادي، وغير واحد قالوا‏:‏ حدثنا عثمان بن زفر، حدثنا محمد بن زياد، عن محمد بن عجلان، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة رجل ليصلي عليه فلم يصل عليه، فقيل‏:‏ يا رسول الله ما رأيناك تركت الصلاة على أحد قبل هذا‏؟‏

فقال‏:‏ إنه كان يبغض عثمان فأبغضه الله عز وجل‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال الترمذي‏:‏ هذا حديث غريب، ومحمد بن زياد هذا صاحب ميمون بن مهران ضعيف الحديث جداً، ومحمد بن زياد صاحب أبي هريرة بصري ثقة، يكنى أبا الحارث، ومحمد بن زياد الألهاني صاحب أبي أمامة ثقة شامي يكنى أبا سفيان

حديث آخر

روى الحافظ ابن عساكر من حديث أبي مروان العثماني، ثنا أبي عثمان بن خالد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عثمان بن عفان على باب المسجد فقال‏:‏ يا عثمان‏!‏ هذا جبريل يخبرني أن الله قد زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية على مثل مصاحبتها‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى ابن عساكر أيضاً من حديث ابن عباس، وعائشة، وعمارة بن روبية، وعصمة بن مالك، الخطمي، وأنس بن مالك، وابن عمر، وغيرهم وهو غريب ومنكر من جميع طرقه‏.‏

وروي بإسناد ضعيف عن علي‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كان لي أربعون ابنة لزوجتهن بعثمان واحدة بعد واحدة، حتى لا يبقى منهن واحدة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال محمد بن سعيد الأموي‏:‏ عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن المهلب بن أبي صفرة قال‏:‏ سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم قلتم في عثمان أعلانا فوقا‏؟‏

قالوا‏:‏ لأنه لم يتزوج رجل من الأولين والآخرين ابنتي نبي غيره‏.‏

رواه ابن عساكر‏.‏

وقال إسماعيل بن عبد الملك‏:‏ عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏‏(‏ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعاً يديه حتى يبدو ضبعيه إلا لعثمان بن عفان إذا دعا له‏)‏‏)‏‏.‏

وقال مسعر‏:‏ عن عطية، عن أبي سعيد قال‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الليل إلى أن طلع الفجر رافعاً يديه يدعو لعثمان، يقول‏:‏ اللهم عثمان رضيت عنه فارض عنه‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ يقول لعثمان‏:‏ ‏(‏‏(‏غفر الله لك ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما كان منك وما هو كائن إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه الحسن بن عرفة، عن محمد بن القاسم الأسدي، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً‏.‏

وقال ابن عدي‏:‏ عن أبي يعلى، عن عمار بن ياسر المستملي، عن إسحاق بن إبراهيم المستملي، عن أبي إسحاق عن أبي وائل عن حذيفة‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى عثمان يستعينه في غزاة غزاها، فبعث إليه عثمان بعشرة آلاف دينار فوضعها بين يديه، فجعل يقلبها بين يديه ويدعو له‏:‏ غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائن إلى يوم القيامة ما يبالي عثمان ما فعل بعدها‏.‏


حديث آخر

وقال ليث بن أبي سليم‏:‏ أول من خبص الخبيص عثمان خلط بين العسل والنقي، ثم بعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزل أم سلمة، فلم يصادفه فلما جاء وضعوه بين يديه، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من بعث هذا‏؟‏

قالوا‏:‏ عثمان‏.‏

قالت‏:‏ فرفع يديه إلى السماء فقال‏:‏ اللهم إن عثمان يترضّاك فارض عنه

حديث آخر

روى أبو يعلى‏:‏ عن سنان بن فروخ، عن طلحة بن يزيد، عن عبيدة بن حسان، عن عطاء الكيخاراني، عن جابر‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتنق عثمان وقال‏:‏ أنت وليي في الدنيا ووليي في الآخرة‏)‏‏)‏‏.‏

حديث آخر

قال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، عن الجريري، عن عبيد الله بن شقيق، عن عبد الله بن حوالة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏تهجمون على رجل معتجر ببرده من أهل الجنة يبايع الناس‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فهجمنا على عثمان بن عفان فرأيناه معتجراً يبايع الناس‏.‏

ذكر شيء من سيرته وهي دالة على فضيلته

قال ابن مسعود‏:‏ لما توفي عمر بايعنا خيرنا ولم نأل‏.‏

وفي رواية‏:‏ بايعوا خيرهم ولم يألوا‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ عن أبي الزناد، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان بن عفان قال‏:‏ كان نقش خاتم عثمان آمنت بالذي خلق فسوى‏.‏

وقال محمد بن المبارك‏:‏ بلغني أنه كان نقش خاتم عثمان آمن عثمان بالله العظيم‏.‏

وقال البخاري في ‏(‏التاريخ‏)‏‏:‏ ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا مبارك بن فضالة قال‏:‏ سمعت الحسن يقول‏:‏ أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قل ما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيراً، يقال لهم‏:‏ يا معشر المسلمين اغدوا على أعطياتكم فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم‏:‏ اغدوا على أرزاقكم فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم‏:‏ اغدوا على السمن والعسل الأعطيات جارية، والأرزاق دارة، والعدو متقى، وذات البين حسن، والخير كثير، وما من مؤمن يخاف مؤمناً، ومن لقيه فهو أخوه، قد كان من إلفته ونصيحته ومودته قد عهد إليهم أنها ستكون أثره، فإذا كانت فاصبروا‏.‏

قال الحسن‏:‏ فلو أنهم صبروا حين رأوها لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير، بل قالوا‏:‏ لا والله ما نصابرها‏:‏ فوالله ما وردوا وما سلموا والأخرى كان السيف مغمداً عن أهل الإسلام فسلوه على أنفسهم، فوالله ما زال مسلولاً إلى يوم الناس، هذا وأيم الله إني لأراه سيفاً مسلولاً إلى يوم القيامة‏.‏

وقال غير واحد عن الحسن البصري قال‏:‏ سمعت عثمان يأمر في خطبته بذبح الحمام وقتل الكلاب‏.‏

وروى سيف ابن عمر‏:‏ أن أهل المدينة اتخذ بعضهم الحمام ورمى بعضهم بالجلاهقات، فوكل عثمان رجلاً من بني ليث يتبع ذلك فيقص الحمام ويكسر الجلاهقات - وهي قسي البندق -‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنبأنا القعنبي وخالد بن مخلد، ثنا محمد بن هلال، عن جدته - وكانت تدخل على عثمان وهو محصور - فولدت هلالاً ففقدها يوماً فقيل له‏:‏ إنها قد ولدت هذه الليلة غلاماً، قالت‏:‏ فأرسل إلي بخمسين درهماً وشقيقة سنبلانية، وقال‏:‏ هذا عطاء ابنك وكسوته، فإذا مرت به سنة رفعناه إلى مائة‏.‏

وروى الزبير بن أبي بكر‏:‏ عن محمد بن سلام، عن ابن بكار قال‏:‏ قال ابن سعيد بن يربوع بن عتكة المخزومي‏:‏ انطلقت وأنا غلام في الظهيرة ومعي طير أرسله في المسجد، والمسجد بيننا، فإذا شيخ جميل حسن الوجه نائم، تحت رأسه لبنة أو بعض لبنة، فقمت أنظر إليه أتعجب من جماله، ففتح عينيه فقال‏:‏ من أنت يا غلام‏؟‏

فأخبرته، فإذا غلام نائم قريباً منه فدعاه فلم يجبه، فقال لي‏:‏ ادعه‏!‏ فدعوته فأمره بشيء، وقال لي‏:‏ اقعد‏!‏ فذهب الغلام فجاء بحلة وجاء بألف درهم، ونزع ثوبي وألبسني الحلة، وجعل الألف درهم فيها، فرجعت إلى أبي فأخبرته، فقال‏:‏ يا بني من فعل هذا بك‏؟‏

فقلت‏:‏ لا أدري إلا أنه رجل في المسجد نائم لم أر قط أحسن منه، قال‏:‏ ذاك أمير المؤمنين عثمان بن عفان‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ عن ابن جرير، أخبرني يزيد بن خصيفة، عن أبي السائب بن يزيد‏:‏ أن رجلاً سأل عبد الرحمن بن عثمان التميمي، أهي صلاة طلحة بن عبيد الله عن صلاة عثمان‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ قلت لأغلبن الليلة النفر على الحجر - يعني‏:‏ المقام - فلما قمت فإذا رجل يرجمني مقنعاً، قال‏:‏ فالتفت، فإذا بعثمان يزحمني فتأخرت عنه فصلى فإذا هو يسجد بسجود القرآن، حتى إذا قلت هذا هو أذان الفجر أوتر بركعة لم يصل غيرها ثم انطلق‏.‏

وقد روي هذا من غير وجه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود، أيام الحج، وقد كان هذا من دأبه رضي الله عنه‏.‏

ولهذا روينا عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏ قال‏:‏ هو عثمان بن عفان‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 76‏]‏ قال‏:‏ هو عثمان‏.‏

وقال حسان‏:‏

ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ ثنا إسرائيل بن موسى، سمعت الحسن يقول‏:‏ قال عثمان‏:‏ لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف‏.‏

وما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم النظر فيه‏.‏

وقال أنس ومحمد بن سيرين‏:‏ قالت امرأة عثمان يوم الدار‏:‏ اقتلوه أو دعوه، فوالله لقد كان يحيي بالقرآن في ركعة‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ أنه رضي الله عنه كان لا يوقظ أحداً من أهله إذا قام من الليل ليعينه على وضوئه، إلا أن يجده يقظاناً، وكان يصوم الدهر، وكان يُعَاتَبُ فيقال‏:‏ لو أيقظت بعض الخدم‏؟‏

فيقول‏:‏ لا‏!‏ الليل لهم يستريحون فيه‏.‏

وكان إذا اغتسل لا يرفع المئزر عنه، وهو في بيت مغلق عليه، ولا يرفع صلبه جيداً من شدة حيائه رضي الله عنه‏.‏

شيء من خطبه

قال الواقدي‏:‏ حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، عن أبيه‏:‏ أن عثمان لما بويع خرج إلى الناس فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏

أيها الناس، أول كل مركب صعب، وإن بعد اليوم أياماً، وإن أعِش تأتكم الخطب على وجهها، وما كنا خطباء، وسيعلمنا الله‏.‏

وقال الحسن‏:‏ خطب عثمان فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏

أيها الناس‏!‏ اتقوا الله فإن تقوى الله غنم، وإن أكيس الناس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نوراً لظلمة القبر، وليخشَ عبد أن يحشره الله أعمى، وقد كان بصيراً، وقد يلقى الحكيم جوامع الكلم، والأصم ينادي من مكان بعيد، واعلموا أن من كان الله له لم يخف شيئاً، ومن كان الله عليه فمن يرجو بعده ‏؟‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ خطب عثمان فقال‏:‏ ابن آدم‏!‏ أعلم أن ملك الموت الذي وكل بك لم يزل يخلفك ويتخطى إلى غيرك منذ أنت في الدنيا، وكأنه قد تخطى غيرك إليك وقصدك، فخذ حذرك واستعد له، ولا تغفل فإنه لا يغفل عنك، واعلم ابن آدم إن غفلت عن نفسك ولم تستعد لها لم يستعد لها غيرك، ولا بد من لقاء الله فخذ لنفسك ولا تكلها إلى غيرك، والسلام‏.‏

وقال سيف بن عمر‏:‏ عن بدر بن عثمان، عن عمه‏.‏ قال‏:‏ آخر خطبة خطبها عثمان في جماعة‏:‏

إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى وإن الآخرة تبقى، لا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية، وآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة، وإن المصير إلى الله، اتقوا الله فإن تقواه جُنَّة من بأسه، ووسيلة عنده، واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم لا تصيروا أحزاباً ‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً‏}‏ إلى آخر الآيتين ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏‏.‏ :‏ 7/ 242‏)‏

فصل من مناقبه رضي الله عنه‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هشيم، ثنا محمد بن قيس الأسدي، عن موسى بن طلحة‏.‏ قال‏:‏ سمعت عثمان بن عفان وهو على المنبر والمؤذن يقيم الصلاة وهو يستخبر الناس يسألهم عن أخبارهم، وأسفارهم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا يونس - يعني‏:‏ ابن عبيد -، حدثني عطاء بن فروخ مولى القرشيين أن عثمان اشترى من رجل أرضاً، فأبطأ عليه فلقيه، فقال‏:‏ ما منعك من قبض مالك ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ إنك غبنتني، فما ألقى من الناس أحداً إلا وهو يلومني‏.‏

قال‏:‏ أذلك يمنعك‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏

قال‏:‏ فاختر بين أرضك ومالك، ثم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أدخَلِ الله الجنة رجلاً كان سهلاً مشترياً وبائعاً وقاضياً ومقتضياً‏)‏‏)‏‏.‏

وروى ابن جرير‏:‏ أن طلحة لقي عثمان وهو خارج إلى المسجد فقال له طلحة‏:‏ إن الخمسين ألفاً التي تلك عندي قد حصلت فأرسل من يقبضها‏.‏

فقال له عثمان‏:‏ إنا قد وهبناكها لمروءتك‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ استعمل ابن عامر قطن بن عوف الهلالي على كرمان، فأقبل جيش من المسلمين - أربعة آلاف - وجرى الوادي فقطعهم عن طريقهم، وخشي قطن الفوت‏.‏

فقال‏:‏ من جاز الوادي‏؟‏ فله ألف درهم، فحملوا أنفسهم على العوم، فكان إذا جاز الرجل منهم قال‏:‏ قطن أعطوه جائزته، حتى جازوا جميعاً، وأعطاهم أربعة آلاف ألف درهم، فأبى ابن عامر أن يحسبها له، فكتب بذلك إلى عثمان بن عفان، فكتب عثمان‏:‏ أن احسبها له فإنه إنما أعان المسلمين في سبيل الله، فمن ذلك اليوم سميت الجوائز لإجازة الوادي‏.‏

فقال الكناني ذلك‏:‏

فَدىً للأكرمين بني هلال * على عِلاتهم أهلي ومالي

همَّوا سنَّوا الجوائز في معدٍّ * فعادت سنَّةً أخرى الليالي

رماحهمُ تزيد على ثمان * وعشرٍ قبل تركيب النصالِ

فصل ومن مناقبه أيضاً‏.‏

ومن مناقبة الكبار وحسناته العظيمة‏:‏ أنه جمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على الفرضة الأخيرة، التي درسها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سني حياته‏.‏


وكان سبب ذلك‏:‏ أن حذيفة بن اليمان كان في بعض الغزوات، وقد اجتمع فيها خلق من أهل الشام ممن يقرأ على قراءة المقداد بن الأسود، وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق، ممن يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بسوغان القراءة على سبعة أحرف يفضل قراءته على قراءة غيره، وربما خطّأ الآخر أو كفره‏.‏

فأدى ذلك إلى اختلاف شديد، وانتشار في الكلام السيء بين الناس، فركب حذيفة إلى عثمان فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم‏.‏

وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة، فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به، دون ما سواه، لما رأى في ذلك من مصلحة كف المنازعة ودفع الاختلاف، فاستدعى بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت يجمعها، فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر‏.‏

فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين، فاستدعى بها عثمان، وأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب، وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي بحضرة عبد الله بن الزبير الأسدي، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة قريش‏.‏

فكتب لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصر آخر، بعث إلى البصرة مصحفاً، وإلى الكوفة بآخر، وأرسل إلى مكة مصحفاً، وإلى اليمين مثله، وأقر بالمدينة مصحفاً‏.‏

ويقال لهذه المصاحف‏:‏ الأئمة، وليست كلها بخط عثمان بل ولا واحد منها، وإنما هي بخط زيد بن ثابت‏.‏

وإنما يقال لها المصاحف‏:‏ العثمانية، نسبة إلى أمره وزمانه وإمارته، كما يقال‏:‏ دينار هرقلي، أي‏:‏ ضرب في زمانه ودولته‏.‏

قال الواقدي‏:‏ حدثنا ابن أبي سبرة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة‏.‏

ورواه غيره من وجه آخر‏:‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال‏:‏ أصبت ووفقت، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن أشد أمتي حبَّاً لي، قوم يأتون من بعدي يؤمنون ولم يروني، يعملون بما في الورق المعلق‏.‏

فقلت‏:‏ أي ورق‏؟‏

حتى رأيت المصاحف، قال‏:‏ فأعجب ذلك عثمان، وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف، وقال‏:‏ والله ما علمت أنك لتحبس علينا حديث نبينا صلى الله عليه وسلم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم عمد إلى بقية المصاحف التي بأيدي الناس مما يخالف ما كتبه فحرقه، لئلا يقع بسببه اختلاف‏.‏

فقال أبو بكر بن أبي داود في ‏(‏كتاب المصاحف‏)‏‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن قالا‏:‏ ثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن رجل، عن سويد بن غفلة‏.‏ قال‏:‏ قال لي علي حين حرق عثمان المصاحف‏:‏ لو لم يصنعه هو لصنعته‏.‏

وهكذا رواه أبو داود الطيالسي‏:‏ وعمرو بن مرزوق عن شعبة مثله‏.‏

وقد رواه البيهقي وغيره من حديث محمد بن أبان - زوج أخت حسين -، عن علقمة بن مرثد قال‏:‏ سمعت العيزار بن جرول، سمعت سويد بن غفلة قال‏:‏

قال علي‏:‏ أيها الناس‏!‏ إياكم والغلو في عثمان، تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأٍ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولو وليت مثل ما ولي لفعلت مثل الذي فعل‏.‏

وقد رُوي عن ابن مسعود‏:‏ أنه تعتب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف، وأمر أصحابه أن يغلوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 161‏]‏‏.‏

فكتب إليه عثمان رضي الله عنه يدعوه إلى إتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك، وجمع الكلمة، وعدم الاختلاف، فأناب وأجاب إلى المتابعة، وترك المخالفة رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

وقد قال أبو إسحاق‏:‏ عن عبد الرحمن بن يزيد‏:‏ أن عبد الله بن مسعود دخل مسجد منى فقال‏:‏ كم صلى أمير المؤمنين الظهر ‏؟‏‏.‏

قالوا‏:‏ أربعاً‏.‏

فصلى ابن مسعود أربعاً‏.‏

فقالوا‏:‏ ألم تحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر صلوا ركعتين ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ نعم، وأنا أحدثكموه الآن، ولكني أكره الاختلاف‏.‏

وفي الصحيح‏:‏ أن ابن مسعود قال‏:‏ ليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ حدثني معاوية بن قرة - بواسط -، عن أشياخه قالوا‏:‏ صلى عثمان الظهر بمنى أربعاً، فبلغ ذلك ابن مسعود فعاب عليه، ثم صلى بأصحابه العصر في رحله أربعاً، فقيل له‏:‏ عتبتَ على عثمان وصليت أربعاً‏؟‏ فقال‏:‏ إني أكره الخلاف‏.‏ وفي رواية‏:‏ الخلاف شر‏.‏

فإذا كان هذا متابعة من ابن مسعود إلى عثمان في هذا الفرغ، فكيف بمتابعته إياه في أصل القرآن‏؟‏ والاقتداء به في التلاوة التي عزم على الناس أن يقرؤا بها لا بغيرها ‏؟‏‏.‏

وقد حكى الزهري وغيره‏:‏ أن عثمان إنما أتم خشية على الأعراب أن يعتقدوا أن فرض الصلاة ركعتان، وقيل‏:‏ بل قد تأهل بمكة‏.‏

فروى يعلى وغيره‏:‏ من حديث عكرمة بن إبراهيم، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذباب، عن أبيه‏:‏ أن عثمان صلى بهم بمنى أربع ركعات، ثم أقبل عليهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إذا تزوج الرجل ببلد فهو من أهله،‏)‏‏)‏ وإني أتممت لأني تزوجت بها منذ قدمتها‏.‏

وهذا الحديث لا يصح، وقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء بميمونة بنت الحارث ولم يتم الصلاة‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن عثمان تأول أنه أمير المؤمنين حيث كان وهكذا تأولت عائشة فأتمت، وفي هذا التأويل نظر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حيث كان، ومع هذا ما أتم الصلاة في الأسفار‏.‏

ومما كان يعتمده عثمان بن عفان أنه كان يلزم عماله بحضور الموسم كل عام، ويكتب إلى الرعايا‏:‏ من كانت له عند أحد منهم مظلمة فليواف إلى الموسم فإني آخذ له حقه من عامله‏.‏

وكان عثمان قد سمح لكثير من كبار الصحابة في المسير حيث شاءوا من البلاد، وكان عمر يحجر عليهم في ذلك حتى ولا في الغزو، ويقول‏:‏ إني أخاف أن تروا الدنيا، وأن يراكم أبناؤها‏.‏

فلما خرجوا في زمان عثمان اجتمع عليهم الناس، وصار لكل واحد أصحاب، وطمع كل قوم في تولية صاحبهم الإمارة العامة بعد عثمان، فاستعجلوا موته واستطالوا حياته حتى وقع ما وقع من بعض أهل الأمصار كما تقدم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، العلي العظيم‏.‏

تزوج برقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولد له منها عبد الله، وبه كان يكنى، بعد ما كان يكنى في الجاهلية‏:‏ بأبي عمرو‏.‏

ذكر زوجاته وبنيه وبناته رضي الله عنهم

ثم لما توفيت تزوج بأختها أم كلثوم‏.‏

ثم توفيت فتزوج بفاختة بنت غزوان بن جابر، فوِلد له منها عبيد الله الأصغر‏.‏

وتزوج بأم عمرو بنت جندب بن عمرو الأزدية، فولدت له عمراً، وخالداً، وأباناً، وعمر، ومريم‏.‏

وتزوج بفاطمة بنت الوليد بن عبد شمس المخزومية، فولدت له الوليد، وسعيداً‏.‏

وتزوج أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية، فولدت له عبد الملك، ويقال‏:‏ عتبة‏.‏

وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، فولدت له عائشة، وأم أبان، وأم عمرو، بنات عثمان‏.‏

وتزوج نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة بن حصن بن ضمضم بن عدي بن حيان بن كليب، فولدت له مريم، ويقال‏:‏ وعنبسة‏.‏

وقتل رضي الله عنه وعنده أربع‏:‏ نائلة، ورملة، وأم البنين، وفاختة‏.‏

ويقال‏:‏ إنه طلق أم البنين وهو محصور‏.‏

فصل ذكر حديث‏:‏ تدور رحا الإسلام ‏.‏‏.‏‏.‏

تقدم في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود‏:‏ من حديث سفيان الثوري، عن منصور، عن ربعي، عن البراء بن ناجية الكاهلي، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن رحا الإسلام ستدور لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن تهلك فسبيل ما هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله أبما مضى أم بما بقي ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ بل بما بقي‏)‏‏)‏‏.‏

وفي لفظ له ولأبي داود‏:‏ ‏(‏‏(‏تدور رحا الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين‏)‏‏)‏ الحديث

وكأن هذا الشك من الراوي، والمحفوظ في نفس الأمر خمس وثلاثين، فإن فيها قتل أمير المؤمنين عثمان على الصحيح‏.‏

وقيل‏:‏ ست وثلاثين، والصحيح الأول، وكانت أمور شنيعة، ولكن الله سلّم ووقى بحوله وقوته فلم يكن بأسرع من أن بايع الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانتظم الأمر، واجتمع الشمل، ولكن جرت بعد ذلك أمور في يوم الجمل، وأيام صفين على ما سنبينه إن شاء الله تعالى‏.‏

في ذكر من توفي زمان عثمان ممن لا يعرف وقت وفاته على التعيين

أنس بن معاذ بن أنس بن قيس الأنصاري النجاري، ويقال له‏:‏ أنيس أيضاً، شهد المشاهد كلها رضي الله عنه‏.‏

أوس بن الصامت، أخو عبادة بن الصامت الأنصاريان، شهد بدراً، وأوس هو زوج المجادلة المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 1‏]‏، وامرأته خولة بنت ثعلبة‏.‏

أوس بن خولى الأنصاري من بني الحبلى، شهد بدراً وهو المنفرد من بين الأنصار بحضور غسل النبي صلى الله عليه وسلم، والنزول مع أهله في قبره عليه الصلاة والسلام‏.‏

الحر بن قيس، كان سيداً في الأنصار، ولكن كان بخيلاً ومتهماً بالنفاق، يقال‏:‏ إنه شهد بيعة الرضوان فلم يبايع، واستتر ببعير له وهو الذي نزل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 49‏]‏‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه تاب وأقلع فالله أعلم‏.‏

الحطيئة الشاعر المشهور‏.‏

قيل‏:‏ اسمه جرول، ويكنى بأبي مليكة من بني عبس، أدرك أيام الجاهلية، وأدرك صدراً من الإسلام، وكان يطوف في الآفاق يمتدح الرؤساء من الناس ويستجديهم‏.‏

ويقال‏:‏ كان بخيلاً مع ذلك، سافر مرة فودع امرأته فقال لها‏:‏

عدي السنين إذا خرجت لغيبة * ودعي الشهور فإنهن قصار

وكان مداحاً هجاء، وله شعر جيد، ومن شعره ما قاله بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فاستجاد منه قوله‏:‏

من يفعل الخير لم يعدم جوائزه * لا يذهب العرف بين الله والناس

خبيب بن يساف بن عتبة الأنصاري، أحد من شهد بدراً‏.‏

سلمان بن ربيعة الباهلي، يقال‏:‏ له صحبه، كان من الشجعان الأبطال المذكورين، والفرسان المشهورين، ولاه عمر قضاء الكوفة، ثم ولي في زمن عثمان إمرة على قتال الترك، فقتل ببلنجر، فقبره هناك في تابوت يستسقى به الترك إذا قحطوا‏.‏

عبد الله بن حذافة بن قيس القرشي السهمي، هاجر هو وأخوه قيس إلى الحبشة وكان من سادات الصحابة، وهو القائل‏:‏ ‏(‏‏(‏يا رسول الله من أبي‏؟‏ - وكان إذا لاحى الرجال دعى لغير أبيه -‏.‏

فقال‏:‏ أبوك حذافة‏)‏‏)‏‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى كسرى، فدفع كتابه إلى عظيم بصرى، فبعث معه من يوصله إلى هرقل كما تقدم‏.‏

وقد أسرته الروم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي جملة ثمانين من المسلمين، فأرادوه على الكفر فأبى عليهم‏.‏

فقال له الملك‏:‏ قبل رأسي وأنا أطلقك ومن معك من المسلمين، فقبل رأسه فأطلقهم‏.‏

فلما قدم على عمر قال له‏:‏ حق على كل مسلم أن يقبل رأسك، ثم قام عمر فقبل رأسه قبل الناس رضي الله عنه‏.‏

عبد الله بن سراقة بن المعتمر، العدوي صحابي أحدي‏.‏

وزعم الزهري‏:‏ أنه شهد بدراً فالله أعلم‏.‏

عبد الله بن قيس بن خالد الأنصاري، شهد بدراً‏.‏

عبد الرحمن بن سهل بن زيد الأنصاري الحارثي، شهد أحداً وما بعدها‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ شهد بدراً، استعمله عمر على البصرة بعد موت عتبة بن غزوان، وقد نهشته حية فرقاه عمارة بن حزم، وهو القائل لأبي بكر‏:‏ - وقد جاءته جدتان فأعطى السدس أم الأم، وترك الأخرى وهي أم الأب - فقال له‏:‏ أعطيت التي لو ماتت لم يرثها، وتركت التي لو ماتت لورثها، فشرك بينهما‏.‏

عمرو بن سراقة بن المعتمر العدوي، أخو عبد الله بن سراقة، وهو بدري كبير، روي‏:‏ أنه جاع مرة فربط حجراً على بطنه من شدة الجوع، ومشى يومه ذلك إلى الليل، فأضافه قوم من العرب ومن معه، فلما شبع قال لأصحابه‏:‏ كنت أحسب الرجلين يحملان البطن، فإذا البطن يحمل الرجلين‏.‏

عمير بن سعد الأنصاري الأوسي، صحابي جليل القدر، كبير المحل، كان يقال له‏:‏ نسيج وحده لكثرة زهادته وعبادته‏.‏

شهد فتح الشام مع أبي عبيدة، وناب بحمص وبدمشق أيضاً في زمان عمر، فلما كانت خلافة عثمان عزله وولى معاوية الشام بكماله وله أخبار يطول ذكرها‏.‏

عروة بن حزام أبو سعيد العدوي، كان شاعراً مغرماً في ابنة عم له، وهي‏:‏ عفراء بنت مهاجر، يقول فيها الشعر، واشتهر بحبها، فارتحل أهلها من الحجاز إلى الشام، فتبعهم عروة فخطبها إلى عمه، فامتنع من تزويجه لفقره وزوجها بابن عمها الآخر، فهلك عروة هذا في محبتها، وهو مذكور في كتاب ‏(‏مصارع العشاق‏)‏، ومن شعره فيها قوله‏:‏

وما هي إلا أن أراها فجاءة * فأبهت حتى ما أكاد أجيب

وأصرف عن رأيي الذي كنت أرتأي * وأنسى الذي أعددت حين تغيب

قطبة بن عامر أبو زيد الأنصاري عقبي بدري‏.‏

قيس بن مهدي بن قيس بن ثعلبة الأنصاري النجاري، له حديث في الركعتين قبل الفجر‏.‏

وزعم ابن ماكولا‏:‏ أنه شهد بدراً‏.‏

قال مصعب الزبيري‏:‏ هو جد يحيى بن سعيد الأنصاري‏.‏

وقال الأكثرون‏:‏ بل هو جد أبي مريم عبد الغفار بن القاسم الكوفي فالله أعلم‏.‏

لبيد بن ربيعة أبو عقيل العامري الشاعر المشهور، صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل‏)‏‏)‏

وتمام البيت‏:‏ وكل نعيم لا محالة زائل‏.‏

فقال عثمان بن مظعون‏:‏ إلا نعيم الجنة‏.‏

وقد قيل‏:‏ أنه توفي سنة إحدى وأربعين فالله أعلم‏.‏

المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي، شهد بيعة الرضوان، وهو والد سعيد بن المسيب، سيد التابعين‏.‏

معاذ بن عمرو بن الجموح الأنصاري، شهد بدراً، وضرب يومئذ أبا جهل بسيفه فقطع رجله، وحمل عكرمة بن أبي جهل على معاذ هذا فضربه بالسيف فحل يده من كتفه، فقاتل بقية يومه وهي معلقة يسحبها خلفه، قال معاذ‏:‏ فلما انتهيت وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها حتى طرحتها رضي الله عنه‏.‏

وعاش بعد ذلك إلى هذه السنة سنة خمس وثلاثين‏.‏

محمد بن جعفر بن أبي طالب، القرشي الهاشمي، ولد لأبيه وهو بالحبشة، فلما هاجر إلى المدينة سنة خيبر وتوفي يوم مؤتة شهيداً، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزلهم، فقال لأمهم أسماء بنت عميس‏:‏ إيتيني ببني وأخي، فجيء بهم كأنهم أفرخ فجعل يقبلهم ويشمهم ويبكي، فبكت أمهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتخافين عليهم العيلة وأنا وليهم في الدنيا والآخرة ‏؟‏‏)‏‏)‏ ثم أمر الحلاق فحلق رؤوسهم‏.‏

وقد مات محمد وهو شاب في أيام عثمان كما ذكرنا‏.‏ وزعم ابن عبد البر‏:‏ أنه توفي في تستر فالله أعلم‏.‏

معبد بن العباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل شاباً بإفريقية من بلاد المغرب‏.‏

معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، صاحب خاتم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قيل‏:‏ توفي في أيام عثمان، وقيل‏:‏ قبل ذلك، وقيل‏:‏ سنة أربعين والله أعلم‏.‏

منقذ عمرو الأنصاري، أحد بني مازن بن النجار، كان قد أصابته آفة في رأسه، فكسرت لسانه، وضعف عقله، وكان يكثر من البيع والشراء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من بايعت فقل لا خلابة، ثم أنت بالخيار في كل ما تشتريه ثلاثة أيام‏)‏‏)‏‏.‏

قال الشافعي‏:‏ كان مخصصاً بإثبات الخيار ثلاثة في كل بيع سواء اشترط الخيار أم لا‏؟‏

نعيم بن مسعود، أبو سلمة الغطفاني وهو الذي خذل بين الأحزاب وبين بني قريظة كما قدمناه، فله بذلك اليد البيضاء والراية العليا‏.‏

أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي، الشاعر، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد يوم السقيفة وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشعر هذيل، وهذيل أشعر العرب، وهو القائل‏:‏

وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمة لا تنفع

وتجلدي للشامتين أريهم * أني لريب الدهر لا أتضعضع

توفي غازياً بإفريقية في خلافة عثمان‏.‏

أبو رهم سبرة بن عبد العزى القرشي الشاعر، ذكره في هذا الفصل محمد بن سعد وحده‏.‏

أبو زبيد الطائي، الشاعر، اسمه حرملة بن المنذر كان نصرانياً وكان يجالس الوليد بن عقبة فأدخله على عثمان فاستنشده شيئاً من شعره فأنشده قصيدة له في الأسد بديعة، فقال له عثمان‏:‏ تفتأ تذكر الأسد ما حييت إني لأحسبك جباباً نصرانياً‏.‏
أبو سبرة بن أبي رهم العامري، أخو أبي سلمة بن عبد الأسد، أمهما‏:‏ برة بنت عبد المطلب، هاجر إلى الحبشة وشهد بدراً وما بعدها‏.‏

قال الزبير‏:‏ لا نعلم بدرياً سكن مكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم سواه، قال‏:‏ وأهله ببدر في ذلك‏.‏

أبو لبابة بن عبد المنذر، أحد نقباء ليلة العقبة، وقيل‏:‏ أنه توفي في خلافة علي والله أعلم‏.‏

أبو هاشم بن عتبة، تقدم وفاته في سنة إحدى وعشرين، وقيل‏:‏ في خلافة عثمان والله أعلم‏.‏