الجزء الثامن - سنة ستين من الهجرة النبوية

سنة ستين من الهجرة النبوية

فيها‏:‏ كانت غزوة مالك بن عبد الله مدينة سورية‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفيها‏:‏ دخل جنادة بن أبي أمية جزيرة رودس‏.‏

وفيها‏:‏ أخذ معاوية البيعة ليزيد من الوفد الذين قدموا صحبة عبيد الله بن زياد إلى دمشق‏.‏

وفيها‏:‏ مرض معاوية مرضه الذي توفي فيه في رجب منها كما سنبينه‏.‏

فروى ابن جرير‏:‏ من طريق أبي مخنف‏:‏ حدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة أن معاوية لما مرض مرضته التي هلك فيها، دعا ابنه يزيد فقال‏:‏ يا بني إني قد كفيتك الرحلة والرجال‏.‏

ووطأت لك الأشياء، ودللت لك الأعزاء، وأخضعت لك أعناق العرب، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي أسسته إلا أربعة نفر‏:‏ الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر‏.‏

كذا قال، والصحيح أن عبد الرحمن كان قد توفي قبل موت معاوية بسنتين كما قدمنا، فأما ابن عمر فهو رجل ثقة قد وقدته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك‏.‏

وأما الحسين فإن أهل العراق خلفه لا يدعونه حتى يخرجونه عليك، فإن خرج فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحماً ماسة، وحقاً عظيماً‏.‏

وأما ابن أبي بكر فهو رجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله، ليست له همة إلا في النساء واللهو‏.‏

وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، وإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إرباً إرباً‏.‏

قال غير واحد‏:‏ فحين حضرت معاوية الوفاة كان يزيد في الصيد، فاستدعى معاوية الضحاك بن قيس الفهري - وكان على شرطة دمشق - ومسلم بن عقبة فأوصى إليهما أن يبلغا يزيد السلام ويقولان له يتوصى بأهل الحجاز، وإن سأله أهل العراق في كل يوم أن يعزل عنهم عاملاً ويولي عليهم عاملاً فليفعل‏.‏

فعزل واحد وأحب إليك من أن يُسل عليك مائة سيف، وأن يتوصى بأهل الشام، وأن يجعلهم أنصاره، وأن يعرف لهم حقهم، ولست أخاف عليه من قريش سوى ثلاثة‏:‏ الحسين، وابن عمر، وابن الزبير‏.‏

ولم يذكر عبد الرحمن بن أبي بكر، وهذا أصح، فأما ابن عمر فقد وقدته العبادة، وأما الحسين فرجل ضعيف، وأرجو أن يكفيكه الله تعالى بمن قتل أباه وخذل أخاه، وإن له رحماً ماسة، وحقاً عظيماً‏.‏

وقرابة من محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فافصح عنه فإني لو صاحبته عفوت عنه‏.‏

وأما ابن الزبير‏:‏ فإنه خب ضب فإن شخص لك فانبذ إليه إلا أن يلتمس منك صلحاً، فإن فعل فاقبل منه، واصفح عن دماء قومك ما استطعت‏.‏

وكان موت معاوية لاستهلال رجب من هذه السنة، قاله هشام بن الكلبي‏.‏

وقيل‏:‏ للنصف منه، قاله الواقدي‏.‏

وقيل‏:‏ يوم الخميس لثمان بقين منه، قاله المدائني‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وأجمعوا على أنه هلك في رجب منها، وكان مدة ملكه استقلالاً من جمادى سنة إحدى وأربعين حين بايعه الحسن بن علي باذرج، فذلك تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر‏.‏

وكان نائباً في الشام عشرين سنة تقريباً‏.‏

وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏

وكان عمره ثلاثاً وسبعين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ خمساً وسبعين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ ثمانياً وسبعين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ خمساً وثمانين سنة، وسيأتي بقية الكلام في آخر ترجمته‏.‏

وقال أبو السكن زكريا بن يحيى‏:‏ حدثني عم أبي زحر بن حصين، عن جده حميد بن منهب‏.‏

قال‏:‏ كانت هند بنت عتبة عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلا ذلك البيت يوماً فاضطجع الفاكه وهند فيه في وقت القائلة‏.‏

ثم خرج الفاكه لبعض شأنه، وأقبل رجل ممن كان يغشاه فولج البيت فلما رأى المرأة فيه ولى هارباً، ورآه الفاكه وهو خارج من البيت، فأقبل إلى هند وهي مضطجعة فضربها برجله وقال‏:‏ من هذا الذي عندك‏؟‏

قالت‏:‏ ما رأيت أحداً ولا انتبهت حتى أنبهتني أنت‏.‏

فقال لها‏:‏ الحقي بأبيك، وتكلم فيها الناس، فقال لها أبوها‏:‏ يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك القالة فأنبئيني نبأك، فإن يكن الرجل عليك صادقاً دسست إليه من يقتله فينقطع عنك القالة، وإن يك كاذباً حاكمته إلى بعض كهان اليمن، فعند ذلك حلفت هند لأبيها بما كانوا يحلفون في الجاهلية إنه لكاذب عليها‏.‏

فقال عتبة بن ربيعة للفاكه‏:‏ يا هذا إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، وعار كبير، لا يغسله الماء، وقد جعلتنا في العرب بمكان ذلة ومنقصة، ولولا أنك مني ذو قرابة لقتلتك، ولكن سأحاكمك إلى كاهن اليمن‏.‏

فحاكمني إلى بعض كهان اليمن، فخرج الفاكه في بعض جماعة من بني مخزوم -أقاربه - وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف، وخرجوا بهند ونسوة معها من أقاربهم، ثم ساروا قاصدين بلاد اليمن‏.‏

فلما شارفوا بلاد الكاهن قالوا‏:‏ غداً نأتي الكاهن، فلما سمعت هند ذلك تنكرت حالها وتغير وجهها، وأخذت في البكاء‏.‏

فقال لها أبوها‏:‏ يا بنية، قد أرى ما بك من تنكر الحال وكثرة البكاء، وما ذاك أراه عندك إلا لمكروه أحدثتيه، وعمل اقترفتيه، فهلا كان هذا قبل أن يشيع في الناس ويشتهر مسيرنا‏؟‏ :

فقالت‏:‏ والله يا أبتاه ما هذا الذي تراه مني لمكروه وقع مني، وإني لبريئة، ولكن هذا الذي تراه من الحزن وتغير الحال هو أني أعلم أنكم تأتون هذا الكاهن وهو بشر يخطئ ويصيب، وأخاف أن يخطئ في أمري بشيء يكون عاره عليّ إلى آخر الدهر، ولا آمنه أن يسمني ميسماً تكون عليّ سبة في العرب‏.‏

فقال لها أبوها‏:‏ لا تخافي فإني سوف أختبره وأمتحنه قبل أن يتكلم في شأنك وأمرك، فإن أخطأ فيما أمتحنه به لم أدعه يتكلم في أمرك‏.‏

ثم إنه انفرد عن القوم - وكان راكباً مهراً - حتى توارى عنهم خلف رابية فنزل عن فرسه ثم صفر له حتى أدلى، ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليل المهر، وأوكى عليها بسير حتى أحكم ربطها‏.‏

ثم صفر له حتى اجتمع إحليله، ثم أتى القوم فظنوا أنه ذهب ليقضي حاجة له، ثم أتى الكاهن فلما قدموا عليه أكرمهم ونحر لهم‏.‏

فقال له عتبة‏:‏ إنا قد جئناك في أمر، ولكن لا أدعك تتكلم فيه حتى تبين لنا ما خبأت لك، فإني قد خبأت لك خبيئاً فانظر ما هو، فأخبرنا به‏.‏

قال الكاهن‏:‏ ثمرة في كمرة‏.‏

قال‏:‏ أريد أبين من هذا

قال‏:‏ حبات بر في إحليل مهر‏.‏

قال‏:‏ صدقت، فخذ لما جئناك له، انظر في أمر هؤلاء النسوة، فأجلس النساء خلفه وهند معهم لا يعرفها، ثم جعل يدنو من إحداهن فيضرب كتفها ويبريها ويقول‏:‏ انهضي، حتى دنا من هند فضرب كتفها وقال‏:‏ انهضي حصان رزان، غير رسخاً، ولا زانية، ولتلدنّ ملكاً يقال له معاوية‏.‏

فوثب إليها الفاكه فأخذ بيدها، فنترت يدها من يده، وقالت له‏:‏ إليك عني، والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادة، والله لأحرصن أن يكون هذا الملك من غيرك، فتزوجها أبو سفيان بن حرب فجاءت منه بمعاوية هذا‏.‏

وفي رواية‏:‏ أن أباها هو الذي قال للفاكه ذلك والله سبحانه أعلم‏.‏

 وهذه ترجمة معاوية وذكر شيء من أيامه وما ورد في مناقبه وفضائله

وهو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، القرشي الأموي، أبو عبد الرحمن، خال المؤمنين، وكاتب وحي رسول رب العالمين‏.‏

وأمه‏:‏ هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس‏.‏

أسلم معاوية عام الفتح، ورُوي عنه أنه قال‏:‏ أسلمت يوم القضية، ولكن كتمت إسلامي من أبي، ثم علم بذلك فقال لي‏:‏ هذا أخوك يزيد وهو خير منك على دين قومه، فقلت له‏:‏ لم آلَ نفسي جهداً‏.‏

قال معاوية‏:‏ ولقد دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء وإني لمصدق به، ثم لما دخل عام الفتح أظهرت إسلامي فجئته فرحب بي، وكتبت بين يديه‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وشهد معه حنيناً، وأعطاه مائة من الإبل، وأربعين أوقية من ذهب، وزنها بلال، وشهد اليمامة‏.‏

وزعم بعضهم أنه هو الذي قتل مسيلمة، حكاه ابن عساكر، وقد يكون له شرك في قتله، وإنما الذي طعنه وحشي، وجلله أبو دجانة سماك بن خرشة بالسيف‏.‏

وكان أبوه من سادات قريش، وتفرد بالسؤدد بعد يوم بدر، ثم لما أسلم حسن بعد ذلك إسلامه، وكان له مواقف شريفة، وآثار محمودة في يوم اليرموك وما قبله وما بعده‏.‏

وصحب معاوية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب الوحي بين يديه مع الكتّاب، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في ‏(‏الصحيحين‏)‏ وغيرهما من السنن والمسانيد، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين‏.‏

قال أبو بكر بن أبي الدنيا‏:‏ كان معاوية طويلاً، أبيض، جميلاً، إذا ضحك انقلبت شفته العليا، وكان يخضب‏.‏

حدثني محمد بن يزيد الأزدي، ثنا أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز، عن أبي عبد رب قال‏:‏ رأيت معاوية يصفر لحيته كأنها الذهب‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان أبيض طويلاً، أجلح أبيض الرأس واللحية، يخضبهما بالحناء والكتم‏.‏

وقد أصابته لوقة في آخر عمره، فكان يستر وجهه ويقول‏:‏ رحم الله عبداً دعا لي بالعافية، فقد رميت في أحسني وما يبدو مني ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي‏.‏

وكان حليماً وقوراً رئيساً سيداً في الناس، كريماً عادلاً شهماً‏.‏

وقال المدائني عن صالح بن كيسان قال‏:‏ رأى بعض متفرسي العرب معاوية وهو صبي صغير، فقال‏:‏ إني لأظن هذا الغلام سيسود قومه‏.‏

فقالت هند‏:‏ ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ قال أبو هريرة‏:‏ رأيت هنداً بمكة كأن وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعها صبي يلعب، فمر رجل فنظر إليه فقال‏:‏ إني لأرى غلاماً إن عاش ليسودن قومه‏.‏

فقالت هند‏:‏ إن لم يسد إلا قومه فأماته الله، وهو معاوية بن أبي سفيان‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنبأنا علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف قال‏:‏ نظر أبو سفيان يوماً إلى معاوية وهو غلام فقال لهند‏:‏ إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه‏.‏

فقالت هند‏:‏ قومه فقط، ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة‏.‏

وكانت هند تحمله وهو صغير وتقول‏:‏

إنّ بني معرقٍ كريمٌ * محببٌ في أهله حليم

ليس بفاحشٍ ولا لئيمٌ * ولا ضجورٌ ولا سؤوم

صخر بني فهرٍ به زعيمٌ * لا يخلف الظن ولا يخيم

قال‏:‏ فلما ولى عمر يزيد بن أبي سفيان ما ولاه من الشام، خرج إليه معاوية فقال أبو سفيان لهند‏:‏ كيف رأيت صار ابنك تابعاً لابني‏؟‏

فقالت‏:‏ إن اضطربت خيل العرب فستعلم أين يقع ابنك مما يكون فيه ابني‏.‏

فلما مات يزيد بن أبي سفيان سنة بضع عشرة، وجاء البريد إلى عمر بموته، رد عمر البريد إلى الشام بولاية معاوية مكان أخيه يزيد، ثم عزّى أبا سفيان في ابنه يزيد‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين من وليت مكانه‏؟‏

قال‏:‏ أخوه معاوية‏.‏

قال‏:‏ وصلت رحماً يا أمير المؤمنين‏.‏

وقالت هند لمعاوية فيما كتبت به إليه‏:‏ والله يا بني إنه قل أن تلد حرة مثلك، وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت‏.‏

وقال له أبوه‏:‏ يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا فرفعهم سبقهم وقدمهم عند الله وعند رسوله، وقصر بنا تأخيرنا فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعاً، وقد ولوك جسيماً من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد فنافس فإن بلغته أورثته عقبك‏.‏

فلم يزل معاوية نائباً على الشام في الدولة العمرية والعثمانية مدة خلافة عثمان‏.‏

وافتتح في سنة سبع وعشرين جزيرة قبرص وسكنها المسلمون قريباً من ستين سنة في أيامه ومن بعده، ولم تزل الفتوحات والجهاد قائماً على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها‏.‏

فلما كان من أمره وأمر أمير المؤمنين علي ما كان لم يقع في تلك الأيام فتح بالكلية، لا على يديه ولا على يدي علي، وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخشاه وأذله، وقهر جنده ودحاهم‏.‏

فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه‏:‏ والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت‏.‏

فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة‏.‏

ثم كان من أمر التحكيم ما كان، وكذلك ما بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسن بن علي كما تقدم، فانعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين كما قدمنا‏.‏

فلم يزل مستقلاً بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية‏.‏

والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو‏.‏

وقد ثبت في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ قال أبو سفيان‏:‏ يا رسول الله ثلاثاً أعطنيهن‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏

قال‏:‏ تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم ‏!‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏:‏ وذكر الثالثة، وهو أنه أراد أن يزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته الأخرى عزة بنت أبي سفيان، واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن ذلك لا يحل لي‏)‏‏)‏، وقد تكلمنا على ذلك في جزء مفرد وذكرنا أقوال الأئمة واعتذارهم عنه ولله الحمد‏.‏

والمقصود منه‏:‏ أن معاوية كان من جملة الكتّاب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يكتبون الوحي‏.‏

وروى الإمام أحمد، ومسلم، والحاكم في ‏(‏مستدركه‏)‏ من طريق أبي عوانة - الوضاح بن عبد الله اليشكري - عن أبي حمزة عمران بن أبي عطاء، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء فقلت‏:‏ ما جاء إلا إليّ، فاختبأت على باب فجاءني فخطاني خطاة أو خطاتين، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب فادع لي معاوية‏)‏‏)‏ - وكان يكتب الوحي - قال‏:‏ فذهبت فدعوته له فقيل‏:‏ إنه يأكل‏.‏

فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ إنه يأكل‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب فادعه‏)‏‏)‏، فأتيته الثانية فقيل‏:‏ إنه يأكل فأخبرته‏.‏

فقال في الثالثة‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أشبع الله بطنه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فما شبع بعدها؛ وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه‏.‏

أما في دنياه‏:‏ فإنه لما صار إلى الشام أميراً، كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً، ويقول‏:‏ والله ما أشبع وإنما أعيا، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك‏.‏

وأما في الآخرة‏:‏ فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة‏.‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلاً فاجعل ذلك كفارةً وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

فركب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يورد له غير ذلك‏.‏

وقال المسيب بن واضح‏:‏ عن أبي إسحاق الفزاري، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ أتى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد أقرئ معاوية السلام واستوص به خيراً؛ فإنه أمين الله على كتابه ووحيه ونعم الأمين‏.‏

ثم أورده ابن عساكر من وجه آخر عن عبد الملك بن أبي سليمان، ثم أورده أيضاً من رواية علي، وجابر بن عبد الله‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار جبريل في استكتابه معاوية، فقال‏:‏ استكتبه فإنه أمين‏.‏

ولكن في الأسانيد إليهما غرابة، ثم أورد عن علي في ذلك غرائب كثيرة عن غيره أيضاً‏.‏

وقال أبو عوانة‏:‏ عن سليمان، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأقمر الزبيدي، عن عبد الله بن عمرو‏.‏

قال‏:‏ كان معاوية يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن محمد الصيدلاني، ثنا السري، عن عاصم، ثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، عن أبيه هشام بن عروة، عن عائشة‏.‏

قالت‏:‏ لما كان يوم أم حبيبة من النبي صلى الله عليه وسلم، دق الباب داق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏انظروا من هذا‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ معاوية‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ائذنوا له‏)‏‏)‏، فدخل وعلى أذنه قلم يخط به، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما هذا القلم على أذنك يا معاوية‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ قلم أعددته لله ولرسوله‏.‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏جزاك الله عن نبيك خيراً، والله ما استكتبتك إلا بوحي من الله، وما أفعل من صغيرة ولا كبيرة إلا بوحي من الله، كيف بك لو قمصك الله قمصاً‏)‏‏)‏ - يعني‏:‏ الخلافة -‏؟‏

فقامت أم حبيبة فجلست بين يديه وقالت‏:‏ يا رسول الله، وإن الله مقمصه قميصاً‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم ‏!‏ ولكن فيه هنات وهنات‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت‏:‏ يا رسول الله فادع الله له‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهده بالهدى، وجنبه الردى، واغفر له في الآخرة والأولى‏)‏‏)‏‏.‏

قال الطبراني‏:‏ تفرد به السري، عن عاصم، عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، عن هشام‏.‏

وقد أورد ابن عساكر بعد هذا أحاديث موضوعة، والعجب منه مع حفظه واطلاعه كيف لا ينبه عليها وعلى نكارتها وضعف رجالها، والله الموفق للصواب‏.‏

وقد أوردنا من طريق أبي هريرة، وأنس، وواثلة بن الأسقع مرفوعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏الأمناء ثلاثة‏:‏ جبريل، وأنا، ومعاوية‏)‏‏)‏‏.‏

ولا يصح من جميع وجوهه‏.‏

ومن رواية ابن عباس‏:‏ ‏(‏‏(‏الأمناء سبعة‏:‏ القلم، واللوح، وإسرافيل، وميكائيل، وجبريل، وأنا، ومعاوية‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا أنكر من الأحاديث التي قبله، وأضعف إسناداً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية - يعني‏:‏ ابن صالح - عن يونس بن سيف، عن الحارث بن زياد، عن أبي رهم، عن العرباض بن سارية السلمي‏.‏

قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى السحور في شهر رمضان‏:‏ ‏(‏‏(‏هلم إلى الغداء المبارك‏)‏‏)‏، ثم سمعته يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب‏)‏‏)‏، تفرد به أحمد‏.‏

ورواه ابن جرير من حديث ابن مهدي‏.‏

وكذلك رواه أسد بن موسى، وبشر بن السري، وعبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح بإسناده مثله‏.‏

وفي رواية بشر بن السري‏:‏ ‏(‏‏(‏وأدخله الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه ابن عدي وغيره من حديث عثمان بن عبد الرحمن الجمحي، عن عطاء، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب‏)‏‏)‏‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ ثنا سليمان بن حرب والحسين بن موسى الأشيب قال‏:‏ ثنا أبو هلال محمد بن سليم، ثنا جبلة بن عطية، عن مسلمة بن مخلد‏.‏

وقال الأشهب‏:‏ قال أبو هلال‏:‏ أو عن رجل عن مسلمة بن مخلد، وقال سليمان بن حرب‏:‏ أو حدثه مسلمة عن رجل أنه رأى معاوية يأكل، فقال لعمرو بن العاص‏:‏ إن ابن عمك هذا لمخضد‏.‏

قال‏:‏ أما إني أقول لك هذا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم علمه الكتاب ومكن له في البلاد وقه العذاب‏)‏‏)‏‏.‏

وقد أرسله غير واحد من التابعين منهم الزهري، وعروة بن رويم، وجرير بن عثمان الرحبي الحمصي، ويونس بن ميسرة بن حلبس‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ ثنا أبو زرعة، وأحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الدمشقيان قالا‏:‏ ثنا أبو مسهر، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وهذا غريب، والمحفوظ بهذا الإسناد حديث العرباض الذي تقدم‏.‏

ثم روي من طريق الطبراني، عن أبي زرعة، عن أبي مسهر، عن سعيد، عن ربيعة، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني‏.‏

قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمعاوية‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اجعله هادياً مهدياً واهده واهد به‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن بحر، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر معاوية فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه الترمذي‏:‏ عن محمد بن يحيى، عن أبي مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز به‏.‏

وقال‏:‏ حسن غريب‏.‏

وقد رواه عمر بن عبد الواحد، ومحمد بن سليمان الحراني، كما رواه الوليد بن مسلم، وأبو مسهر، عن سعيد، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة‏.‏

ورواه محمد بن المصفى، عن مروان بن محمد الطاطري، عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن ابن أبي عميرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لمعاوية فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم علمه العلم، واجعله هادياً مهدياً، واهده واهد به‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه سلمة بن شبيب، وصفوان بن صالح، وعيسى بن هلال، وأبو الأزهر، عن مروان الطاطري، ولم يذكر أبا إدريس في إسناده‏.‏

ورواه الطبراني‏:‏ عن عبدان بن أحمد، عن علي بن سهل الرملي، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني‏.‏

أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر معاوية فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اجعله هادياً مهدياً واهده‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وقول الجماعة هو الصواب‏.‏

وقد اعتنى ابن عساكر بهذا الحديث وأطنب فيه، وأطيب وأطرب، وأفاد وأجاد، وأحسن الانتقاد، فرحمه الله، كم له من موطن قد تبرز فيه على غيره من الحفاظ والنقاد‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حدثنا محمد بن يحيى، ثنا عبد الله بن محمد النفيلي، ثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن حلبس، عن أبي إدريس الخولاني قال‏:‏ لما عزل عمر بن الخطاب عمير بن سعد عن الشام وولى معاوية، قال للناس‏:‏ عزل عمر عميراً وولى معاوية‏.‏

فقال عمر‏:‏ لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهد به‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به الترمذي، وقال‏:‏ غريب‏.‏

وعمرو بن واقد ضعيف، هكذا ذكره أصحاب الأطراف في ‏(‏مسند عمير بن سعد الأنصاري‏)‏‏.‏

وعندي‏:‏ أنه ينبغي أن يكون من رواية عمر بن الخطاب، ويكون الصواب فقال عمر‏:‏ لا تذكروا معاوية إلا بخير، ليكون عذراً له في توليته له‏.‏

ومما يقوي هذا أن هشام بن عمار قال‏:‏ حدثنا ابن أبي السائب - وهو عبد العزيز بن الوليد بن سليمان - قال‏:‏ وسمعت أبي يذكر أن عمر بن الخطاب ولى معاوية بن أبي سفيان فقالوا‏:‏ ولى حدث السن‏.‏

فقال‏:‏ تلومونني في ولايته، وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا منقطع يقويه ما قبله‏.‏

قال الطبراني‏:‏ حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، ثنا نعيم بن حماد، ثنا محمد بن شعيب بن سابور، ثنا مروان بن جناح، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن عبد الله بن بسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ استشار أبا بكر وعمر في أمر، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أشيروا عليَّ‏)‏‏)‏‏.‏

فقالا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ادعوا معاوية‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو بكر وعمر‏:‏ أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين من رجال قريش ما يتقنون أمرهم، حتى يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غلام من غلمان قريش‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ادعو لي معاوية‏)‏‏)‏‏.‏

فدعي له، فلما وقف بين يديه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أحضروه أمركم وأشهدوه أمركم، فإنه قوي أمين‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه بعضهم‏:‏ عن نعيم وزاد‏:‏ ‏(‏‏(‏وحملوه أمركم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ساق ابن عساكر أحاديث كثيرة موضوعة بلا شك في فضل معاوية، أضربنا عنها صفحاً، واكتفينا بما أوردناه من الأحاديث الصحاح والحسان والمستجادات عما سواها من الموضعات والمنكرات‏.‏

ثم قال ابن عساكر‏:‏ وأصح ما روي في فضل معاوية حديث أبي جمرة، عن ابن عباس‏:‏ أنه كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلم‏.‏

أخرجه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏‏.‏

وبعده حديث العرباض‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم علم معاوية الكتاب‏)‏‏)‏‏.‏

وبعده حديث ابن أبي عمير‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اجعله هادياً مهدياً‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد قال البخاري في كتاب ‏(‏المناقب‏)‏‏:‏ ذكر معاوية بن أبي سفيان‏:‏ حدثنا الحسن بن بشر، ثنا المعافى، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة قال‏:‏ أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس، فقال‏:‏ أوتر معاوية بركعة بعد العشاء، فقال‏:‏ دعه فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

حدثنا ابن أبي مريم‏:‏ ثنا نافع بن عمر، ثنا ابن أبي مليكة‏.‏

قال‏:‏ قيل لابن عباس‏:‏ هل لك في أمير المؤمنين معاوية‏؟‏

فإنه ما أوتر إلا بواحدة ‏!‏

قال‏:‏ أصاب، إنه فقيه‏.‏

ثنا عمرو بن عباس، ثنا جعفر، ثنا شعبة، عن أبي التياح قال‏:‏ سمعت حمران، عن أبان، عن معاوية‏.‏

قال‏:‏ إنكم لتصلون صلاة، لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليهما، ولقد نهى عنهما - يعني‏:‏ الركعتين بعد العصر -‏.‏

ثم قال البخاري بعد ذلك‏:‏ ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة‏:‏ حدثنا عبدان، ثنا عبد الله يونس، عن الزهري حدثني عروة أن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏‏(‏جاءت هند بنت عتبة - امرأة أبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقالت‏:‏ يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إليّ من أن يذلُّوا من أهل خبائك‏.‏

ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يعزوا من أهل خبائك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وأيضاً والذي نفسي بيده‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت‏:‏ يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مِسِّيك، فهل عليّ من حرج أن أطعم من الذي له عيالنا‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إلا بالمعروف‏)‏‏)‏‏.‏

فالمدحة في قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏وأيضاً والذي نفسي بيده‏)‏‏)‏، وهو أنه كان يود أن هنداً وأهلها وكل كافر يذلوا في حال كفرهم، فلما أسلموا كان يحب أن يعزوا فأعزهم الله - يعني‏:‏ أهل خبائها -‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا روح، ثنا أبو أمية، عمرو بن يحيى بن سعيد قال‏:‏ سمعت جدي يحدث‏:‏ أن معاوية أخذ الأداوة بعد أبي هريرة فتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها - وكان أبو هريرة قد اشتكى - فبينما هو يوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رفع رأسه إليه مرة أو مرتين وهو يتوضأ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معاوية إن وليت أمراً فاتق الله واعدل‏)‏‏)‏‏.‏ قال معاوية‏:‏ فما زلت أظن أني سأبتلي بعملٍ لقول النبي صلى الله عليه وسلم حتى ابتليت‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏

ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن أبي إسحاق الهمذاني، سعيد بن زنبور بن ثابت، عن عمرو بن يحيى بن سعيد‏.‏

ورواه ابن منده من حديث بشر بن الحكم، عن عمرو بن يحيى به‏.‏

وقال أبو يعلى‏:‏ حدثنا سويد بن سعيد، ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده عن معاوية قال‏:‏ اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء، فلما توضأ نظر إليّ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معاوية إن وليت أمراً فاتق واعدل‏)‏‏)‏‏.‏

فما زلت أظن أني مبتلى بعمل حتى وليت‏.‏

ورواه غالب القطان عن الحسن‏.‏

قال‏:‏ سمعت معاوية يخطب وهو يقول‏:‏ صببت يوماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءه، فرفع رأسه إليّ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما إنك ستلي أمر أمتي بعدي، فإذا كان ذلك فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ فما زلت أرجو حتى قمت مقامي هذا‏.‏

وروى البيهقي عن الحاكم بسنده إلى إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عمير‏.‏

قال قال معاوية‏:‏ والله ما حملني على الخلافة إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن ملكت فأحسن‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ إسماعيل بن إبراهيم هذا ضعيف، إلا أن للحديث شواهد‏.‏

وروى ابن عساكر بإسناده عن نعيم بن حماد‏:‏ ثنا محمد بن حرب، عن أبي بكر بن أبي مريم، ثنا محمد بن زياد، عن عوف بن مالك الأشجعي قال‏:‏ بينما أنا راقد في كنيسة يوحنا - وهي يومئذٍ مسجد يصلى فيها - إذا انتبهت من نومي فإذا أنا بأسد يمشي بين يدي، فوثبت إلى سلاحي، فقال الأسد‏:‏ مه ‏!‏ إنما أرسلت إليك برسالة لتبلغها‏.‏

قلت‏:‏ ومن أرسلك‏؟‏

قال‏:‏ الله أرسلني إليك لتبلغ معاوية السلام وتعلمه أنه من أهل الجنة‏.‏

فقلت له‏:‏ ومن معاوية‏؟‏

قال‏:‏ معاوية بن أبي سفيان‏.‏

ورواه الطبراني عن أبي يزيد القراطيسي عن المعلى بن الوليد القعقاعي، عن محمد بن حبيب الخولاني، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، وفيه ضعف وهذا غريب جداً، ولعل الجميع مناماً، ويكون قوله إذا انتبهت من نومي مدرجاً لم يضبطه ابن أبي مريم، والله أعلم‏.‏

وقال محمد بن عائذ‏:‏ عن الوليد، عن ابن لهيعة، عن يونس، عن الزهري قال‏:‏ قدم عمر الجابية فنزع شرحبيل وأمر عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر، ونفى الشام على أميرين أبي عبيدة ويزيد، ثم توفي أبو عبيدة فاستخلف عياض بن غنم، ثم توفي يزيد فأمر معاوية مكانه، ثم نعاه عمر لأبي سفيان، فقال لأبي سفيان‏:‏ احتسب يزيد بن أبي سفيان‏.‏

قال‏:‏ من أمرت مكانه‏؟‏

قال‏:‏ معاوية‏.‏

فقال‏:‏ وصلت رحماً يا أمير المؤمنين، فكان معاوية على الشام وعمير بن سعد حتى قتل عمر رضي الله عنهم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ مات أبو عبيدة في طاعون عمواس واستخلف معاذاً، فمات معاذ واستخلف يزيد بن أبي سفيان فمات، واستخلف أخاه معاوية فأقره عمر، وولى عمرو بن العاص فلسطين والأردن، ومعاوية دمشق وبعلبك والبلقاء، وولى سعد بن عامر بن جذيم حمص، ثم جمع الشام كلها لمعاوية بن أبي سفيان، ثم أمره عثمان بن عفان على الشام‏.‏

وقال إسماعيل بن أمية‏:‏ أفرد عمر معاوية بإمرة الشام، وجعل له في كل شهر ثمانين ديناراً‏.‏

والصواب أن الذي جمع لمعاوية الشام كلها عثمان بن عفان، وأما عمر فإنه إنما ولاه بعض أعمالها‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لما عزيت هند في يزيد بن أبي سفيان - ولم يكن منها - قيل لها‏:‏ إنه قد جعل معاوية أميراً مكانه، فقالت‏:‏ أو مثل معاوية يجعل خلفاً من أحد‏؟‏ فوالله لو أن العرب اجتمعت متوافرة ثم رُمي به فيها لخرج من أي أعراضها - نواحيها - شاء‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ذكر معاوية عند عمر، فقال‏:‏ دعوا فتى قريش وابن سيدها، إنه لمن يضحك في الغضب ولا ينال منه إلا على الرضا، ومن لا يؤخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثني محمد بن قدامة الجوهري، حدثني عبد العزيز بن يحيى، عن شيخ له‏.‏

قال‏:‏ لما قدم عمر بن الخطاب الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم، فلما دنا من عمر قال له‏:‏ أنت صاحب الموكب‏؟‏

قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ هذا حالك مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك‏؟‏

قال‏:‏ هو ما بلغك من ذلك‏.‏

قال‏:‏ ولم تفعل هذا‏؟‏ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافياً إلى بلاد الحجاز‏.‏

قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم به، فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت‏.‏

فقال له عمر‏:‏ يا معاوية ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقاً إنه لرأي أريت، ولئن كان باطلاً إنه لخديعة أديت‏.‏

قال‏:‏ فمرني يا أمير المؤمنين بما شئت‏.‏

قال‏:‏ لا آمرك ولا أنهاك‏.‏

فقال رجل‏:‏ يا أمير المؤمنين ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه‏؟‏ ‏!‏

فقال عمر‏:‏ لحسن موارده ومصادره جشمناه ما جشمناه‏.‏

وفي رواية‏:‏ أن معاوية تلقى عمر حين قدم الشام، ومعاوية في موكب كثيف، فاجتاز بعمر وهو وعبد الرحمن بن عوف راكبان على حمار، ولم يشعر بهما، فقيل له‏:‏ إنك جاوزت أمير المؤمنين، فرجع، فلما رأى عمر ترجل وجعل يقول له ما ذكرنا‏.‏

فقال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ ما أحسن ما صدر عما أوردته فيه يا أمير المؤمنين‏؟‏ ‏!‏

فقال‏:‏ من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه‏.‏

وقال عبد الله بن المبارك في كتاب ‏(‏الزهد‏)‏‏:‏ أخبرنا محمد بن ذئب، عن مسلم بن جندب، عن أسلم مولى عمر قال‏:‏ قدم علينا معاوية وهو أبيض نص وبّاص؛ أبضّ الناس وأجملهم

فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه فيعجب منه، ثم يضع أصبعه على متن معاوية ثم يرفعها عن مثل الشراك، فيقول‏:‏ بخ بخ، نحن إذاً خير الناس، أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة‏.‏

فقال معاوية‏:‏ يا أمير المؤمنين سأحدثك إنا بأرض الحمامات والريف والشهوات‏.‏

فقال عمر‏:‏ سأحدثك ما بك إلا إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك، وذووا الحاجات وراء الباب‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين علمني امتثل‏.‏

قال‏:‏ فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحاً كأنه ريح طيب‏.‏

فقال‏:‏ يعمد أحدكم فيخرج حاجاً مقلاً حتى إذا جاء أعظم بلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما‏؟‏ ‏!‏‏.‏

فقال معاوية‏:‏ إنما لبستهما لأدخل فيهما على عشيرتي وقومي، والله لقد بلغني أذاك ههنا وبالشام، فالله يعلم أني لقد عرفت الحياء فيه، ثم نزع معاوية ثوبيه ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا‏:‏ حدثني أبي، عن هشام بن محمد، عن أبي عبد الرحمن المدني‏.‏

قال‏:‏ كان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال‏:‏ هذا كسرى العرب‏.‏

وهكذا حكى المدائني عن عمر أنه قال ذلك‏.‏

وقال عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي، عن جده‏.‏

قال‏:‏ دخل معاوية على عمر وعليه حلة خضراء؛ فنظر إليها الصحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدرة فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول‏:‏ يا أمير المؤمنين الله الله فيّ‏.‏

فرجع عمر إلى مجلسه فقال له القوم‏:‏ لم ضربته يا أمير المؤمنين‏؟‏ وما في قومك مثله‏؟‏

فقال‏:‏ والله ما رأيت إلا خيراً، وما بلغني إلا خير، ولو بلغني غير ذلك لكان مني إليه غير ما رأيتم، ولكن رأيته - وأشار بيده - فأحببت أن أضع منه ما شمخ‏.‏

وقد قال أبو داود‏:‏ حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا يحيى بن حمزة، ثنا ابن أبي مريم‏:‏ أن القاسم بن مخيمرة أخبره، أن أبا مريم الأزدي أخبره‏.‏

قال‏:‏ دخلت على معاوية فقال‏:‏ ما أنعمنا بك أبا فلان - وهي كلمة تقولها العرب - فقلت‏:‏ حديث سمعته أخبرك به، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فجعل معاوية حين سمع هذا الحديث رجلاً على حوائج الناس‏.‏ ورواه الترمذي وغيره‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، ثنا حبيب بن الشهيد، عن أبي مجلز‏.‏

قال‏:‏ خرج معاوية على الناس فقاموا له‏.‏

فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ قال‏:‏ خرج معاوية على ابن عامر وابن الزبير، فقام له ابن عامر ولم يقم له ابن الزبير‏.‏

فقال معاوية لابن عامر‏:‏ اجلس ‏!‏ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من أحب أن يتمثل له العباد قياماً فليتبوأ مقعده من النار‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أبو داود والترمذي من حديث حبيب بن الشهيد‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏

وروى أبو داود من حديث الثوري، عن ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد المقري الحمصي، عن معاوية‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ كلمة سمعها معاوية نفعه الله بها‏.‏

تفرد به أحمد - يعني‏:‏ أنه كان جيد السيرة، حسن التجاوز، جميل العفو، كثير الستر رحمه الله تعالى - وثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن معاوية‏.‏

أنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏وهم على ذلك‏)‏‏)‏‏.‏

وقد خطب معاوية بهذا الحديث مرة ثم قال‏:‏ وهذا مالك بن يخامر يخبر عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهم بالشام - يحث بهذا أهل الشام على مناجزة أهل العراق‏:‏ ‏(‏‏(‏وإن أهل الشام هم الطائفة المنصورة على من خالفها‏)‏‏)‏ وهذا مما كان يحتج به معاوية لأهل الشام في قتالهم أهل العراق‏.‏

وقال الليث بن سعد‏:‏ فتح معاوية قيسارية سنة تسع عشرة في دولة عمر بن الخطاب‏.‏

وقال غيره‏:‏ وفتح قبرص سنة خمس‏.‏

وقيل‏:‏ سبع‏.‏

وقيل‏:‏ ثمان وعشرين في أيام عثمان‏.‏

قالوا‏:‏ وكان عام غزوة المضيق - يعني‏:‏ مضيق القسطنطينية - في سنة ثنتين وثلاثين في أيامه، وكان هو الأمير على الناس عامئذ‏.‏

وجمع عثمان لمعاوية جميع الشام‏.‏

وقيل‏:‏ إن عمر هو الذي جمعها له، والصحيح‏:‏ عثمان‏.‏

واستقضى معاوية فضالة بن عبيد بعد أبي الدرداء، ثم كان ما كان بينه وبين علي بعد قتل عثمان، على سبيل الاجتهاد والرأي، فجرى بينهما قتال عظيم كما قدمنا، وكان الحق والصواب مع علي، ومعاوية معذور عند جمهور العلماء سلفاً وخلفاً، وقد شهدت الأحاديث الصحيحة بالإسلام للفريقين من الطرفين - أهل العراق وأهل الشام -كما ثبت في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏‏(‏تمرق مارقة على خير فُرقة من المسلمين، فيقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق‏)‏‏)‏ فكانت المارقة الخوارج وقتلهم علي وأصحابه‏.‏

ثم قُتل علي، فاستقل معاوية بالأمر سنة إحدى وأربعين، وكان يغزو الروم في كل سنة مرتين، مرة في الصيف ومرة في الشتاء، ويأمر رجلاً من قومه فيحج بالناس، وحج هو سنة خمسين، وحج ابنه يزيد سنة إحدى وخمسين‏.‏

وفيها‏:‏ أوفى التي بعدها أغزاه بلاد الروم، فسار معه خلق كثير من كبراء الصحابة حتى حاصر القسطنطينية‏.‏

وقد ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏ ‏(‏‏(‏أول جيش يغزو القسطنطينة مغفور لهم‏)‏‏)‏‏.‏ :‏

وقال وكيع‏:‏ عن الأعمش، عن أبي صالح‏.‏

قال‏:‏ كان الحادي يحدو بعثمان فيقول‏:‏

إن الأمير بعده عليٌ * وفي الزبير خلفٌ مرضيُ

فقال كعب‏:‏ بل هو صاحب البغلة الشهباء - يعني‏:‏ معاوية -‏.‏

فقال‏:‏ يا أبا إسحاق تقول هذا وههنا علي والزبير وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ أنت صاحبها‏.‏

ورواه سيف عن بدر بن الخليل، عن عثمان بن عطية الأسدي، عن رجل من بني أسد‏.‏

قال‏:‏ ما زال معاوية يطمع فيها منذ سمع الحادي في أيام عثمان يقول‏:‏

إن الأمير بعده عليٌ * وفي الزبير خلفٌ مرضيُ

فقال كعب‏:‏ كذبت ‏!‏ بل صاحب البغلة الشهباء بعده - يعني‏:‏ معاوية - فقال له معاوية في ذلك فقال‏:‏ نعم ‏!‏ أنت الأمير بعده، ولكنها والله لا تصل إليك حتى تكذب بحديثي هذا، فوقعت في نفس معاوية‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا محمد بن عباد المكي، ثنا سفيان بن عيينة، عن أبي هارون قال‏:‏

قال عمر‏:‏ إياكم والفرقة بعدي، فإن فعلتم فإن معاوية بالشام، وستعلمون إذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبزها دونكم‏.‏

ورواه الواقدي من وجه آخر‏:‏ عن عمر رضي الله عنه‏.‏

وقد روى ابن عساكر عن عامر الشعبي‏:‏ أن علياً حين بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية قبل وقعة صفين - وذلك حين عزم علي على قصد الشام، وجمع الجيوش لذلك -‏.‏

وكتب معه كتاباً إلى معاوية يذكر له فيه أنه قد لزمته بيعته، لأنه قد بايعه المهاجرون والأنصار، فإن لم تبايع استعنت بالله عليك وقاتلتك‏.‏

وقد أكثرت القول في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إليّ أحملك وإياهم على كتاب الله، في كلام طويل‏.‏

وقد قدمنا أكثره، فقرأه معاوية على الناس وقام جرير فخطب الناس، وأمر في خطبته معاوية بالسمع والطاعة، وحذره من المخالفة والمعاندة، ونهاه عن إيقاع الفتنة بين الناس، وأن يضرب بعضهم بعضاً بالسيوف‏.‏

فقال معاوية‏:‏ انتظر حتى آخذ برأي أهل الشام، فلما كان بعد ذلك أمر معاوية منادياً فنادى في الناس‏:‏ الصلاة جامعة‏.‏

فلما اجتمع الناس صعد المنبر فخطب فقال‏:‏ الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركاناً، والشرائع للإيمان برهاناً، يتوقد مصباحه بالسنة في الأرض المقدسة التي جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده، فأحلها أهل الشام ورضيهم لها، ورضيها لهم؛ لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم أولياءه فيها، والقوام بأمره، الذابين عن دينه وحرماته‏.‏

ثم جعلهم لهذه الأمة نظاماً، وفي أعلام الخير عظاماً، يردع الله بهم الناكثين، ويجمع بهم الألفة بين المؤمنين، والله نستعين على إصلاح ما تشعث من أمور المسلمين، وتباعد بينهم بعد القرب والألفة، اللهم انصرنا على قوم يوقظون نائماً، ويخيفون آمناً، ويريدون هراقة دمائنا، وإخافة سبلنا‏.‏

وقد يعلم الله أنا لا نريد لهم عقاباً، ولا نهتك لهم حجاباً، غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوباً لن ننزعه طوعاً ما جاوب الصدى، وسقط الندى، وعرف الهدى، وقد علمنا أن الذي حملهم على خلافنا البغي والحسد لنا، فالله نستعين عليهم‏.‏

أيها الناس‏:‏ قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأني خليفة أمير المؤمنين عثمان عليكم، وأني لم أقم رجلاً منكم على خزائه قط، وإني ولي عثمان وابن عمه‏.‏

قال الله تعالى في كتابه‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 33‏]‏ وقد علمتم أنه قتل مظلوماً، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان‏.‏

فقال أهل الشام بأجمعهم‏:‏ بل نطلب بدمه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم، أو يدركوا بثأره، أو يفني الله أرواحهم قبل ذلك‏.‏

فلما رأى جرير من طاعة أهل الشام لمعاوية ما رأى، أفزعه ذلك، وعجب منه‏.‏

وقال معاوية لجرير‏:‏ إن ولاني عليّ الشام ومصر بايعته على أن لا يكون لأحد بعده على بيعة‏.‏

فقال‏:‏ اكتب إلى علي بما شئت، وأنا أكتب معك، فلما بلغ علياً الكتاب قال‏:‏ هذه خديعة، وقد سألني المغيرة بن شعبة أن أولي معاوية الشام وأنا بالمدينة فأبيت ذلك ‏{‏وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً‏} ‏[‏الكهف‏:‏ 51‏]‏‏.‏

ثم كتب إلى جرير بالقدوم عليه، فما قدم إلا وقد اجتمعت العساكر إلى علي‏.‏

وكتب معاوية إلى عمرو بن العاص - وكان معتزلاً بفلسطين حين قتل عثمان - وكان عثمان قد عزله عن مصر فاعتزل بفلسطين، فكتب إليه معاوية يستدعيه ليستشيره في أموره، فركب إليه فاجتمعا على حرب علي‏.‏

وقد قال عقبة بن أبي معيط في كتاب معاوية إلى علي حين سأله نيابة الشام ومصر، فكتب إلى معاوية يؤنبه ويلومه على ذلك ويعرض بأشياء فيه‏:‏ ‏

معاوي إن الشام شامك فاعتصم * بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا

فإن علياً ناظر ما تجيبه * فأهد له حرباً يشيب النواصيا

وحام عليها بالقتال وبالقنا * ولا تكُ مخشوش الذراعين وانيا

وإلاّ فسلم إن في الأمن راحةً * لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا

وإن كتاباً يا بن حربٍ كتبته * على طمع جانٍ عليك الدواهيا

سألت علياً فيه ما لا تناله * ولو نلته لم يبق إلا لياليا

إلى أن ترى منه الذي ليس بعدها * بقاءٌ فلا تكثر عليك الأمانيا

ومثل علي تغترره بخدعةٍ * وقد كان ما خربت من قبل بانيا

ولو نشبت أظفاره فيك مرةً * فراك ابن هندٍ بعد ما كنت فاريا

وقد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له‏:‏ أنت تنازع علياً أم أنت مثله‏؟‏

فقال‏:‏ والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمه، وأنا أطلب بدمه وأمره إليَّ‏؟‏

فقولوا له‏:‏ فليسلم إليَّ قتلة عثمان، وأنا أسلم له أمره‏.‏

فأتوا علياً فكلموه في ذلك فلم يدفع إليهم أحداً، فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية‏.‏

وعن عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، وأبي جعفر الباقر‏.‏

قال‏:‏ بعث علي رجلاً إلى دمشق ينذرهم أن علياً قد نهد في أهل العراق إليكم ليستعلم طاعتكم لمعاوية، فلما قدم أمر معاوية فنودي في الناس‏:‏ الصلاة جامعة، فملأوا المسجد، ثم صعد المنبر فقال في خطبته‏:‏ إن علياً قد نهد إليكم في أهل العراق فما الرأي‏؟‏

فضرب كل منهم على صدره، ولم يتكلم أحد منهم، ولا رفعوا إليه أبصارهم، وقام ذو الكلاع فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين عليك الرأي وعلينا الفعال‏.‏

ثم نادى معاوية في الناس‏:‏ أن أخرجوا إلى معسكركم في ثلاث، فمن تخلف بعدها فقد أحل بنفسه، فاجتمعوا كلهم، فركب ذلك الرجل إلى علي فأخبره‏.‏

فأمر علي منادياً فنادى‏:‏ الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر فقال‏:‏ إن معاوية قد جمع الناس لحربكم، فما الرأي‏؟‏

فقال كل فريق منهم مقالة، واختلط كلام بعضهم في بعض، فلم يدر علي مما قالوا شيئاً، فنزل عن المنبر وهو يقول‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب والله بها ابن آكلة الأكباد‏.‏

ثم كان من أمر الفريقين بصفين ما كان، كما ذكرناه مبسوطاً في سنة ست وثلاثين‏.‏

وقد قال أبو بكر بن دريد‏:‏ أنبأنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة‏.‏

قال‏:‏ قال معاوية‏:‏ لقد وضعت رجلي في الركاب وهممت يوم صفين بالهزيمة، فما منعني إلا قول ابن الأطنابة حيث يقول‏:‏

أبت لي عفتي وأبي بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإكراهي على المكروه نفسي * وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي

وروى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال‏:‏ الخلفاء أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي‏.‏

فقيل له‏:‏ فمعاوية‏؟‏

قال‏:‏ لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان علي من علي، رحم الله معاوية‏.‏ وقال علي بن المديني‏:‏ سمعت سفيان بن عيينة يقول‏:‏ ما كانت في علي خصلة تقصر به عن الخلافة، ولم يكن في معاوية خصلة ينازع بها علياً‏.‏

وقيل لشريك القاضي‏:‏ كان معاوية حليماً‏؟‏

فقال‏:‏ ليس بحليم من سفه الحق وقاتل علياً‏.‏

رواه ابن عساكر‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه ذكر معاوية وأنه لبى عشية عرفة فقال فيه قولاً شديداً، ثم بلغه أن علياً لبى عشية عرفة فتركه‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا‏:‏ حدثني عباد بن موسى، ثنا علي بن ثابت الجزري، عن سعيد بن أبي عروبة، عن عمر بن عبد العزيز‏.‏

قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينما أنا جالس إذ أُتي بعلي ومعاوية، فأدخلا بيتاً وأجيف الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول‏:‏ قضي لي ورب الكعبة‏.‏

ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول‏:‏ غفر لي ورب الكعبة‏.‏

وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي، أنه قال له رجل‏:‏ إني أبغض معاوية‏.‏

فقال له‏:‏ ولم‏؟‏

قال‏:‏ لأنه قاتل علياً‏.‏

فقال له أبو زرعة‏:‏ ويحك إن معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فإيش دخولك أنت بينهما‏؟‏ رضي الله عنهما‏.‏

وسئل الإمام أحمد عما جرى بين علي ومعاوية فقرأ‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 134‏]‏‏.‏

وكذا قال غير واحد من السلف‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ سئل الحسن عما جرى بين علي وعثمان فقال‏:‏ كانت لهذا سابقة ولهذا سابقة، ولهذا قرابة ولهذا قرابة، فابتلى هذا وعوفي هذا‏.‏

وسئل عما جرى بين علي ومعاوية فقال‏:‏ كانت لهذا قرابة ولهذا قرابة، ولهذا سابقة ولم يكن لهذا سابقة، فابتلينا جميعاً‏.‏

وقال كلثوم بن جوشن‏:‏ سأل النضر أبو عمر الحسن البصري فقال‏:‏ أبو بكر أفضل أم علي‏؟‏

فقال‏:‏ سبحان الله ولا سواء، سبقت لعلي سوابق يشركه فيها أبو بكر، وأحدث علي حوادث لم يشركه فيها أبو بكر، أبو بكر أفضل‏.‏

قال‏:‏ فعمر أفضل أم علي‏؟‏

فقال‏:‏ مثل قوله في أبي بكر، ثم قال‏:‏ عمر أفضل‏.‏

ثم قال‏:‏ عثمان أفضل أم علي‏؟‏

فقال‏:‏ مثل قوله الأول، ثم قال‏:‏ عثمان أفضل‏.‏

قال‏:‏ فعلي أفضل أم معاوية‏؟‏

فقال‏:‏ سبحان الله ولا سواء، سبقت لعلي سوابق لم يشركه فيها معاوية، وأحدث علي أحداثاً شركه فيها معاوية، علي أفضل من معاوية‏.‏

وقد رُوي عن الحسن البصري‏:‏ أنه كان ينقم على معاوية أربعة أشياء‏:‏ قتاله علياً، وقتله حجر بن عدي، واستلحاقه زياد بن أبيه، ومبايعته ليزيد ابنه‏.‏

وقال جرير بن عبد الحميد‏:‏ عن مغيرة‏.‏

قال‏:‏ لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي‏.‏

فقالت له امرأته‏:‏ أتبكيه وقد قاتلته‏؟‏

فقال‏:‏ ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم‏.‏

وفي رواية‏:‏ أنها قالت له‏:‏ بالأمس تقاتلنه، واليوم تبكينه ‏؟‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد كان مقتل علي في رمضان سنة أربعين، ولهذا قال الليث بن سعد‏:‏ إن معاوية بويع له بإيليا بيعة الجماعة، ودخل الكوفة سنة أربعين‏.‏

والصحيح الذي قاله ابن إسحاق والجمهور أنه بويع له بإيليا في رمضان سنة أربعين، حين بلغ أهل الشام مقتل علي، ولكنه إنما دخل الكوفة بعد مصالحة الحسن له في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وهو عام الجماعة، وذلك بمكان يقال له‏:‏ أدرج‏.‏

وقيل‏:‏ بمسكن من أرض سواد العراق من ناحية الأنبار، فاستقل معاوية بالأمر إلى أن مات سنة ستين‏.‏

قال بعضهم‏:‏ كان نقش خاتم معاوية‏:‏ لكل عمل ثواب‏.‏

وقيل‏:‏ بل كان‏:‏ لا قوة إلا بالله‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وسعيد بن منصور قالا‏:‏ ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن سويد‏.‏

قال‏:‏ صلى بنا معاوية بالنخيلة - يعني‏:‏ خارج الكوفة - الجمعة في الضحى، ثم خطبنا فقال‏:‏ ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون‏.‏

رواه محمد بن سعد عن يعلى بن عبيد، عن الأعمش به‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ حدثنا عارم، ثنا حماد بن يزيد، عن معمر، عن الزهري، أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه، ثم إنه بَعُدَ عن ذلك‏.‏

وقال نعيم بن حماد‏:‏ حدثنا ابن فضيل، عن السري بن إسماعيل، عن الشعبي، حدثني سفيان بن الليل قال‏:‏ قلت للحسن بن علي لما قدم من الكوفة إلى المدينة‏:‏ يا مذل المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ لا تقل ذلك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك معاوية‏)‏‏)‏‏.‏

فعلمت أن أمر الله واقع، فكرهت أن تهراق بيني وبينه دماء المسلمين‏.‏

وقال مجالد‏:‏ عن الشعبي، عن الحارث الأعور‏.‏

قال‏:‏ قال علي بعد ما رجع من صفين‏:‏ أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموه رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل‏.‏

وقال ابن عساكر‏:‏ بإسناده عن أبي داود الطيالسي، ثنا أيوب بن جابر، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد قال‏:‏ قلت لعائشة‏:‏ ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلافة‏؟‏

فقالت‏:‏ وما تعجب من ذلك‏؟‏ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة، وكذلك غيره من الكفار‏.‏

وقال الزهري‏:‏ حدثني القاسم بن محمد‏:‏ أن معاوية حين قدم المدينة يريد الحج دخل على عائشة فكلمها خاليين لم يشهد كلامهما أحد، إلا ذكوان أبو عمر عمرو، ومولى عائشة‏.‏

فقالت‏:‏ أمنت أن أخبأ لك رجلاً يقتلك بقتلك أخي محمداً‏؟‏

فقال‏:‏ صدقتي، فلما قضى معاوية كلامه معها تشهدت عائشة ثم ذكرت ما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والذي سن الخلفاء بعده، وحضّت معاوية على العدل واتباع أثرهم‏.‏

فقالت في ذلك‏:‏ فلم يترك له عذراً، فلما قضت مقالتها قال لها معاوية‏:‏ أنت والله العالمة العاملة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الناصحة المشفقة، البلوغة الموعظة، حضضت على الخير، وأمرت به، ولم تأمرينا إلا بالذي هو لنا مصلحة، وأنت أهل أن تطاعي‏.‏

وتكلمت هي ومعاوية كلاماً كثيراً‏.‏

فلما قام معاوية اتكأ على ذكوان وقال‏:‏ والله ما سمعت خطيباً ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغ من عائشة‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ حدثنا خالد بن مخلد البجلي، ثنا سليمان بن بلال، حدثني علقمة بن أبي علقمة، عن أمه قالت‏:‏ قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة فأرسل إلى عائشة أن أرسلي بأنبجانية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشعره

فأرسلت به معي أحمله، حتى دخلت به عليه، فأخذ الانبجانية فلبسها، وأخذ شعره فدعا بماء فغسله وشربه وأفاض على جلده‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ عن الهذلي، عن الشعبي قال‏:‏ لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقته رجال من وجوه قريش فقالوا‏:‏ الحمد لله الذي أعز نصرك، وأعلا أمرك‏.‏

فما رد عليهم جواباً حتى دخل المدينة، فقصد المسجد وعلا المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد ‏!‏

فإني والله ما وليت أمركم حين وليته وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه‏.‏

وأردتها على عمل ابن الخطاب فكانت أشد نفوراً وأعظم هرباً من ذلك، وحاولتها على مثل سنيات عثمان فأبت عليّ وأين مثل هؤلاء‏؟‏

ومن يقدر على أعمالهم‏؟‏

هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم‏؟‏

رحمة الله ورضوانه عليهم، غير أني سلكت بها طريقاً لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك‏.‏

ولكل فيه مواكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم‏.‏

والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه، فإنها بقاببة قوبها، وإن السيل إذا جاء يبرى، وإن قل أغنى، وإياكم والفتنة فلا تهتموا بها، فإنها تفسد المعيشة، وتكدر النعمة، وتورث الاستيصال، أستغفر الله لي ولكم، أستغفر الله‏.‏ ثم نزل‏.‏

- قال أهل اللغة‏:‏ القاببة البيضة، والقوب الفرخ، قابت البيضة تقوب إذا انفلقت عن الفرخ -‏.‏

والظاهر‏:‏ أن هذه الخطبة كانت عام حج في سنة أربع وأربعين، أو في سنة خمسين، لا في عام الجماعة‏.‏

وقال الليث‏:‏ حدثني علوان بن صالح بن كيسان أن معاوية قدم المدينة أول حجة حجها بعد اجتماع الناس عليه، فلقيه الحسن والحسين ورجال من قريش، فتوجه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها‏.‏

فقال معاوية لمن معه‏:‏ انصرفوا إلى منازلكم فإن لي حاجة في هذه الدار، فانصرفوا ودخل فسكن عائشة بنت عثمان، وأمرها بالكف وقال لها‏:‏ يا بنت أخي إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا‏.‏

فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا‏؟‏

وأن تكوني ابنة عثمان أمير المؤمنين أحب إليّ أن تكوني أمة من إماء المسلمين، ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك‏.‏

وقد روى ابن عدي من طريق علي بن زيد، وهو ضعيف، عن أبي نضرة عن أبي سعيد، ومن حديث مجالد، وهو ضعيف أيضاً، عن أبي الوداك أبي سعيد‏.‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه‏)‏‏)‏‏.‏

وأسنده أيضاً من طريق الحكم بن ظهير _ وهو متروك -عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود مرفوعاً‏.‏

وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحاً لبادر الصحابة إلى فعل ذلك، لأنهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم‏.‏ :

 وأرسله عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري، قال أيوب‏:‏ وهو كذب‏.‏

ورواه الخطيب البغدادي بإسناد مجهول، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه، فإنه أمين مأمون‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو زرعة الدمشقي‏:‏ عن دحيم، عن الوليد، عن الأوزاعي قال‏:‏ أدركت خلافة معاوية عدة من الصحابة منهم‏:‏ أسامة، وسعد، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك‏.‏

ورجال أكثر وأطيب ممن سمينا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، ومن الدين جديده، وعرفوا من الإسلام ما لم يعرفه غيرهم، وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويل القرآن‏.‏

ومن التابعين لهم بإحسان ما شاء الله، منهم‏:‏ المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن محيريز، وفي أشباه لهم لم ينزعوا يداً من جماعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أبو زرعة‏:‏ عن دحيم، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز‏.‏

قال‏:‏ لما قتل عثمان لم يكن للناس غازية تغزو، حتى كان عام الجماعة فأغزا معاوية أرض الروم ست عشرة غزوة، تذهب سرية في الصيف ويُشَتُّوا بأرض الروم، ثم تقفل وتعقبها أخرى‏.‏

وكان في جملة من أغزى ابنه يزيد ومعه خلق من الصحابة، فجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل بهم راجعاً إلى الشام، وكان آخر ما أوصى به معاوية أن قال‏:‏ شد خناق الروم‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ عن يونس، عن الزهري قال‏:‏ حج معاوية بالناس في أيام خلافته مرتين، وكانت أيامه عشرين سنة إلا شهراً‏.‏

وقال أبو بكر بن عياش‏:‏ حج بالناس معاوية سنة أربع وأربعين، وسنة خمسين‏.‏

وقال غيره‏:‏ سنة إحدى وخمسين فالله أعلم‏.‏

وقال الليث بن سعد‏:‏ حدثنا بكير، عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب - يعني‏:‏ معاوية -‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ حدثنا معمر، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، ثنا المسور بن مخرمة‏:‏ أنه وفد على معاوية‏.‏

قال‏:‏ فلما دخلت عليه - حسبت أنه قال‏:‏ سلمت عليه - فقال‏:‏ ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ ارفضنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له‏.‏

فقال‏:‏ لتكلمني بذات نفسك‏.‏

قال‏:‏ فلم أدع شيئاً أعيبه عليه إلا أخبرته به‏.‏

فقال‏:‏ لا تبرأ من الذنوب، فهل لك من الذنوب تخاف أن تهلكك إن لم يغفرها الله لك‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم ‏!‏

إن لي ذنوباً إن لم تغفرها هلكت بسببها‏.‏

 

قال‏:‏ فما الذي يجعلك أحق بأن ترجو أنت المغفرة مني، فوالله لما إليّ من إصلاح الرعايا وإقامة الحدود والإصلاح بين الناس، والجهاد في سبيل الله، والأمور العظام التي لا يحصيها إلا الله ولا نحصيها أكثر مما تذكر من العيوب والذنوب، وإني لعلى دين يقبل الله فيه الحسنات ويعفو عن السيئات‏.‏

والله على ذلك ما كنت لأخيَّر بين الله وغيره إلا اخترت الله على غيره مما سواه‏.‏

قال‏:‏ ففكرت حين قال لي ما قال فعرفت أنه قد خصمني‏.‏

قال‏:‏ فكان المسور إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير‏.‏

وقد رواه شعيب، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بنحوه‏.‏

وقال ابن دريد‏:‏ عن أبي حاتم عن العتبي قال‏:‏ قال معاوية‏:‏ يا أيها الناس ‏!‏

ما أنا بخيركم وإن منكم لمن هو خير مني، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم، وأدركم حلباً‏.‏

وقد رواه أصحاب محمد، عن ابن سعد، عن محمد بن مصعب، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن ثابت مولى معاوية‏:‏ أنه سمع معاوية يقول نحو ذلك‏.‏

وقال هشام بن عمار خطيب دمشق‏:‏ حدثنا عمرو بن واقد، ثنا يونس بن حلبس قال‏:‏ سمعت معاوية على منبر دمشق يوم جمعة يقول‏:‏

أيها الناس اعقلوا قولي، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في الصلاة، أو ليخالفن الله بين قلوبكم، خذوا على أيدي سفهائكم أو ليسلطن الله عليكم عدوكم فليسومنكم سوء العذاب‏.‏

تصدقوا ولا يقولن الرجل إني مقلٌ، فإن صدقة المقل أفضل من صدقة الغني، وإياكم وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل‏:‏ سمعت وبلغني، فلو قذف أحدكم امرأة على عهد نوح لسئل عنها يوم القيامة‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا يزيد بن طهمان الرقاشي، ثنا محمد بن سيرين‏.‏

قال‏:‏ كان معاوية إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتهم‏.‏

ورواه أبو القاسم البغوي‏:‏ عن سويد بن سعيد، عن همام بن إسماعيل، عن أبي قبيل‏.‏

قال‏:‏ كان معاوية يبعث رجلاً يقال له أبو الجيش في كل يوم فيدور على المجالس يسأل هل ولد لأحد مولود‏؟‏

أو قدم أحد من الوفود‏؟‏

فإذا أخبر بذلك أثبت في الديوان - يعني‏:‏ ليجري عليه الرزق -‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان معاوية متواضعاً ليس له مجالد إلا كمجالد الصبيان التي يسمونها المخاريق فيضرب بها الناس‏.‏

وقال هشام بن عمار‏:‏ عن عمرو بن واقد، عن يونس بن ميسرة بن حلبس‏.‏

قال‏:‏ رأيت معاوية في سوق دمشق وهو مردف وراءه وصفياً عليه قميص مرقوع الجيب، وهو يسير في أسواق دمشق‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ عن مجاهد أنه قال‏:‏ لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي‏.‏

وقال هشيم‏:‏ عن العوام، عن جبلة بن سحيم، عن ابن عمرو‏.‏

قال‏:‏ ما رأيت أحداً أسود من معاوية‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ ولا عمر‏؟‏

قال‏:‏ كان عمر خيراً منه، وكان معاوية أسود منه‏.‏

ورواه أبو سفيان الحيري‏:‏ عن العوام بن حوشب به‏.‏

وقال‏:‏ ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية‏.‏

قيل‏:‏ ولا أبو بكر‏؟‏

قال‏:‏ كان أبو بكر وعمر وعثمان خيراً منه، وهو أسود‏.‏

وروى من طرق عن ابن عمر مثله‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ عن معمر، عن همام‏:‏ سمعت ابن عباس يقول‏:‏ ما رأيت رجلاً كان أخلق بالملك من معاوية‏.‏ وقال حنبل بن إسحاق‏:‏ حدثنا أبو نعيم، حدثنا ابن أبي عتيبة، عن شيخ من أهل المدينة قال‏:‏ قال معاوية‏:‏ أنا أول الملوك‏.‏

وقال ابن أبي خيثمة‏:‏ حدثنا هارون بن معروف، حدثنا حمزة، عن ابن شوذب قال‏:‏ كان معاوية يقول‏:‏ أنا أول الملوك وآخر خليفة‏.‏

قلت‏:‏ والسُنَّة أن يقال لمعاوية‏:‏ ملك، ولا يقال له خليفة حديث سفينة‏:‏ ‏(‏‏(‏الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضاً‏)‏‏)‏‏.‏

وقال عبد الملك بن مروان يوماً وذكر معاوية فقال‏:‏ ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه‏.‏

وقال قبيصة بن جابر‏:‏ ما رأيت أحداً أعظم حلماً ولا أكثر سؤدداً ولا أبعد أناة ولا ألين مخرجاً، ولا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أسمع رجل معاوية كلاماً سيئاً شديداً، فقيل له‏:‏ لو سطوت عليه‏؟‏

فقال‏:‏ إني لأستحيي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي‏.‏

وفي رواية‏:‏ قال له رجل‏:‏ يا أمير المؤمنين ما أحلمك‏؟‏

فقال‏:‏ إني لأستحيي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي‏.‏

وقال الأصمعي عن الثوري‏:‏ قال‏:‏ قال معاوية‏:‏ إني لأستحيي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أكبر من حلمي، أو تكون عورة لا أواريها بستري‏.‏

وقال الشعبي والأصمعي‏:‏ عن أبيه قالا‏:‏ جرى بين رجل يقال له‏:‏ أبو الجهم وبين معاوية كلام فتكلم أبو جهم بكلام فيه غَمْرٌ لمعاوية، فأطرق معاوية‏.‏

ثم رفع رأسه فقال‏:‏ يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان، ويأخذ أخذ الأسد، وإن قليله يغلب كثير الناس‏.‏

ثم أمر معاوية لأبي الجهم بمالٍ‏.‏

فقال أبو جهم في ذلك يمدح معاوية‏:‏

نميل على جوانبه كأنا * نميل إذا نميل على أبينا

نقلبه لنخبر حالتيه * فنخبر منهما كرماً ولينا

وقال الأعمش‏:‏ طاف الحسن بن علي مع معاوية فكان معاوية يمشي بين يديه، فقال الحسن‏:‏ ما أشبه أليتيه بأليتي هند‏؟‏ ‏!‏

فالتفت إليه معاوية فقال‏:‏ أما إن ذلك كان يعجب أبا سفيان‏.‏

وقال ابن أخته عبد الرحمن بن أم الحكم لمعاوية‏:‏ أن فلاناً يشتمني‏.‏

فقال له‏:‏ طأطئ لها فتمر فتجاوزك‏.‏

وقال ابن الأعرابي‏:‏ قال رجل لمعاوية‏:‏ ما رأيت أنذل منك‏.‏

فقال معاوية‏:‏ بلى من واجه الرجال بمثل هذا‏.‏

وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ قال معاوية‏:‏ ما يسرني بذل الكرم حمر النعم‏.‏ :

 وقال‏:‏ ما يسر بي بذل الحلم عز النصر‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ قال معاوية‏:‏ يا بني أمية فارقوا قريشاً بالحلم، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتماً وأوسعه حلماً، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني، وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرماً‏.‏

وقال‏:‏ آفة الحلم الذل‏.‏

وقال‏:‏ لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم‏.‏

وقال عبد الله بن الزبير‏:‏ لله در ابن هند، إن كنا لنفرقه وما الليث على براثنه بأجرأ منه، فيتفارق لنا، وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منة فيتخادع لنا، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا الجبل حجر - وأشار إلى أبي قبيس -‏.‏

وقال رجل لمعاوية‏:‏ من أسود الناس‏؟‏

فقال‏:‏ أسخاهم نفساً حين يسأل، وأحسنهم في المجالس خلقاً، وأحلمهم حين يستجهل‏.‏

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى‏:‏ كان معاوية يتمثل بهذه الأبيات كثيراً‏:‏

فما قتل السفاهة مثل حلمٍ * يعود به على الجهل الحليم

فلا تسفه وإن ملِّئت غيظاً * على أحدٍ فإن الفحش لوم

ولا تقطع أخاً لك عند ذنبٍ * فإن الذنب يغفره الكريم

وقال القاضي الماوردي في ‏(‏الأحكام السلطانية‏)‏‏:‏ وحكي أن معاوية أتي بلصوص فقطعهم حتى بقي واحد من بينهم، فقال‏:‏

يميني أمير المؤمنين أعيذها * بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها

يدي كانت الحسناء لو تمَّ سترها * ولا تعدم الحسناء عيباً يشيبها

فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة * إذا ما شمالي فارقتها يمينها

فقال معاوية‏:‏ كيف أصنع بك‏؟‏

قد قطعنا أصحابك‏؟‏

فقالت أم السارق‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها‏.‏

فخلى سبيله، فكان أول حد ترك في الإسلام‏.‏

وعن ابن عباس أنه قال‏:‏ قد علمت بم غلب معاوية الناس، كانوا إذا طاروا وقع، وإذا وقع طاروا‏.‏

وقال غيره‏:‏ كتب معاوية إلى نائبه زياد‏:‏

إنه لا ينبغي أن يسوس الناس سياسة واحدة باللين فيمرحوا، ولا بالشدة فيحمل الناس على المهالك، ولكن كن أنت للشدة والفظاظة والغلظة، وأنا للين والألفة والرحمة، حتى إذا خاف خائف وجد باباً يدخل منه‏.‏

وقال أبو مسهر‏:‏ عن سعيد بن عبد العزيز‏.‏

قال‏:‏ قضى معاوية عن عائشة أم المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار، وما كان عليها من الدين الذي كانت تعطيه الناس‏.‏

وقال هشام بن عروة‏:‏ عن أبيه قال‏:‏ بعث معاوية إلى أم المؤمنين عائشة بمائة ألف ففرقتها من يومها، فلم يبق منها درهم‏.‏

فقالت لها خادمتها‏:‏ هلا أبقيت لنا درهما نشتري به لحماً تفطري عليه‏؟‏

فقالت‏:‏ لو ذكرتيني لفعلت‏.‏

وقال عطاء‏:‏ بعث معاوية إلى عائشة وهي بمكة بطوق قيمته مائة ألف فقبلته‏.‏

وقال زيد بن الحباب‏:‏ عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة‏.‏

قال‏:‏ قدم الحسن بن علي على معاوية فقال له‏:‏ لأجيزنك بجائزة لم يجزها أحد كان قبلي، فأعطاه أربعمائة ألف ألف‏.‏

ووفد إليه مرة الحسن والحسين فأجازهما على الفور بمائتي ألف، وقال لهما‏:‏ ما أجاز بهما أحد قبلي‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ ولم تعط أحد أفضل منا‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا يوسف ابن موسى، ثنا جرير بن مغيرة‏.‏

قال‏:‏ أرسل الحسن بن علي، وعبد الله بن جعفر إلى معاوية يسألانه المال، فبعث إليهما - أو إلى كل منهما - بمائة ألف، فبلغ ذلك علياً فقال لهما‏:‏ ألا تستحيان‏؟‏

رجل نطعن في عينه غدوةً وعشيةً تسألانه المال‏؟‏

فقالا‏:‏ بل حرمتنا أنت وجاد هولنا‏.‏

وروى الأصمعي قال‏:‏ وفد الحسن وعبد الله بن الزبير على معاوية فقال للحسن‏:‏ مرحباً وأهلاً بابن رسول الله، وأمر له بثلاثمائة ألف‏.‏

وقال لابن الزبير‏:‏ مرحباً وأهلاً بابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر له بمائة ألف‏.‏

وقال أبو مروان المرواني‏:‏ بعث معاوية إلى الحسن بن علي بمائة ألف فقسمها على جلسائه، وكانوا عشرة، فأصاب كل واحد عشرة آلاف‏.‏

وبعث إلى عبد الله بن جعفر بمائة ألف فاستوهبتها منه امرأته فاطمة فأطلقها لها، وبعث إلى مروان بن الحكم بمائة ألف فقسم منها خمسين ألفاً وحبس خمسين ألفاً، وبعث إلى ابن عمر بمائة ألف ففرق منها تسعين واستبقى عشرة آلاف‏.‏

فقال معاوية‏:‏ إنه لمقتصد يحب الاقتصاد‏.‏

وبعث إلى عبد الله بن الزبير بمائة ألف فقال للرسول‏:‏ لم جئت بها بالنهار‏؟‏

هلا جئت بها بالليل‏؟‏

ثم حبسها عنده ولم يعط منها أحداً شيئاً‏.‏

فقال معاوية‏:‏ إنه لخب ضبّ، كأنك به قد رفع ذنبه وقطع حبله‏.‏

وقال ابن دآب‏:‏ كان لعبد الله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف، ويقضي له معها مائة حاجة، فقدم عليه عاماً فأعطاه المال وقضى له الحاجات، وبقيت منها واحدة، فبينما هو عنده إذ قدم أصبغهند سجستان يطلب من معاوية أن يملكه على تلك البلاد، ووعد من قضى له هذه الحاجة من ماله ألف ألف‏.‏

فطاف على رؤوس الأشهاد والأمراء من أهل الشام وأمراء العراق، ممن قدم مع الأحنف بن قيس، فكلهم يقولون‏:‏ عليك بعبد الله بن جعفر، فقصده الدهقان فكلم فيه ابن جعفر معاوية فقضى حاجته تكملة المائة حاجة‏.‏

وأمر الكاتب فكتب له عهده، وخرج به ابن جعفر إلى الدهقان فسجد له وحمل إليه ألف ألف درهم‏.‏

فقال له ابن جعفر‏:‏ اسجد لله واحمل مالك إلى منزلك، فإنا أهل بيت لا نبيع المعروف بالثمن‏.‏

فبلغ ذلك معاوية فقال‏:‏ لأن يكون يزيد قالها أحب إليّ من خراج العراق، أبت بنو هاشم إلا كرماً‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان لعبد الله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف، فاجتمع عليه في بعض الأوقات دين خمسمائة ألف، فألحّ عليه غرماؤه فاستنظرهم حتى يقدم على معاوية فيسأله أن يسلفه شيئاً من العطاء، فركب إليه فقال له‏:‏ ما أقدمك يا بن جعفر‏؟‏

فقال‏:‏ دين ألحّ علي غرماؤه‏.‏

فقال‏:‏ وكم هو‏؟‏

قال‏:‏ خمسمائة ألف‏.‏

فقضاها عنه وقال له‏:‏ إن الألف ألف ستأتيك في وقتها‏.‏

وقال ابن سعيد‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا ابن هلال، عن قتادة‏.‏

قال‏:‏ قال معاوية‏:‏ يا عجباً للحسن بن علي ‏!‏‏!‏ شرب شربة عسل يمانية بماء رومة فقضى نحبه، ثم قال لابن عباس‏:‏ لا يسؤك الله ولا يحزنك في الحسن بن علي‏.‏

فقال ابن عباس لمعاوية‏:‏ لا يحزنني الله ولا يسوءني ما أبقى الله أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ فأعطاه ألف ألف درهم وعروضاً وأشياء‏.‏

وقال‏:‏ خذها فاقسمها في أهلك‏.‏

وقال أبو الحسن المدايني‏:‏ عن سلمة بن محارب قال‏:‏ قيل لمعاوية‏:‏ أيكم كان أشرف، أنتم أو بنو هاشم‏؟‏

قال‏:‏ كنا أكثر أشرافاً وكانوا هم أشرف، فيهم واحد لم يكن في بني عبد مناف مثل هاشم، فلما هلك كنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً، وكان فيهم عبد المطلب لم يكن فينا مثله‏.‏

فلما مات صرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار العين حتى قالوا‏:‏ منا نبي‏.‏

فجاء نبي لم يسمع الأولون والآخرون بمثله، محمد صلى الله عليه وسلم، فمن يدرك هذه الفضيلة وهذا الشرف‏؟‏‏.‏

وروى ابن أبي خيثمة‏:‏ عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس‏:‏ أن عمرو بن العاص قصّ على معاوية مناماً رأى فيه أبا بكر، وعمر، وعثمان، وهم يحاسبون على ما وَلَّوه في أيامهم، ورأى معاوية وهو موكل به رجلان يحاسبانه على ما عمل في أيامه‏.‏

فقال له معاوية‏:‏ وما رأيت ثم دنانير مصر ‏؟‏‏.‏

وقال ابن دريد‏:‏ عن أبي حاتم، عن العتبي‏.‏

قال‏:‏ دخل عمرو على معاوية وقد ورد عليه كتاب فيه تعزية له في بعض الصحابة، فاسترجع معاوية فقال عمرو بن العاص‏:‏

تموت الصالحون وأنت حي * تخطاك المنايا لا تموت

فقال له معاوية‏:‏

أترجو أن أموت وأنت حي* فلست بميت حتى تموت

وقال ابن السماك‏:‏ قال معاوية‏:‏ كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها‏.‏

وقال الزهري‏:‏ عن عبد الملك، عن أبي بحرية‏.‏

قال‏:‏ قال معاوية‏:‏ المروءة في أربع‏:‏ العفاف في الإسلام، واستصلاح المال، وحفظ الإخوان، وحفظ الجار‏.‏

وقال أبو بكر الهذلي‏:‏ كان معاوية يقول الشعر فلما ولي الخلافة قال له أهله‏:‏ قد بلغت الغاية فماذا تصنع بالشعر‏؟‏

فارتاح يوماً فقال‏:‏

صرمت سفاهتي وأرحت حلمي * وفيّ على تحملي اعتراض

على أني أجيب إذا دعتني * إلى حاجاتها الحدق المراض

وقال مغيرة‏:‏ عن الشعبي‏:‏ أول من خطب جالساً معاوية حين كثر شحمه وعظم بطنه‏.‏

وكذا روي عن مغيرة، عن إبراهيم أنه قال‏:‏ أول من خطب جالساً يوم الجمعة معاوية‏.‏

وقال أبو المليح عن ميمون‏:‏ أول من جلس على المنبر معاوية واستأذن الناس في الجلوس‏.‏

وقال قتادة‏:‏ عن سعيد بن المسيب‏:‏ أول من أذن وأقام يوم الفطر والنحر معاوية‏.‏

وقال أبو جعفر الباقر‏:‏ كانت أبواب مكة لا أغلاق لها، وأول من اتخذ الأبواب معاوية‏.‏

وقال أبو اليمان‏:‏ عن شعيب، عن الزهري‏:‏ مضت السُنَّة أن لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، وأول من ورث المسلم من الكافر معاوية، وقضى بذلك بنو أمية بعده، حتى كان عمر بن عبد العزيز فراجع السنة، وأعاد هشام ما قضى به معاوية وبنو أمية من بعده‏.‏

وبه قال الزهري، ومضت السنة‏:‏ أن دية المعاهد كدية المسلم، وكان معاوية أول من قصرها إلى النصف، وأخذ النصف لنفسه‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ عن مالك، عن الزهري قال‏:‏ سألت سعيد بن المسيب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي‏:‏ اسمع يا زهري، من مات محباً لأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وشهد للعشرة بالجنة، وترحم على معاوية، كان حقاً على الله أن لا يناقشه الحساب‏.‏

وقال سعيد بن يعقوب الطالقاني‏:‏ سمعت عبد الله بن المبارك يقول‏:‏ تراب في أنف معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز‏.‏

وقال محمد بن يحيى بن سعيد‏:‏ سئل ابن المبارك عن معاوية فقال‏:‏ ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع الله لمن حمده، فقال خلفه‏:‏ ربنا ولك الحمد‏.‏

فقيل له‏:‏ أيهما أفضل‏؟‏

هو أو عمر بن عبد العزيز‏؟‏

فقال‏:‏ لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز‏.‏

وقال غيره‏:‏ عن ابن المبارك، قال معاوية‏:‏ عندنا محنة فمن رأيناه ينظر إليه شزراً اتهمناه على القول - يعني‏:‏ الصحابة -‏.‏

وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وغيره‏:‏ سئل المعافى بن عمران أيهما أفضل‏؟‏

معاوية أو عمر بن عبد العزيز‏؟‏

فغضب وقال للسائل‏:‏ أتجعل رجلاً من الصحابة مثل رجل من التابعين‏؟‏ معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله‏.‏

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوا لي أصحابي وأصهاري، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا قال الفضل بن عتيبة‏.‏

وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي‏:‏ معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه‏.‏

وقال الميموني‏:‏ قال لي أحمد بن حنبل‏:‏ يا أبا الحسن إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام‏.‏

وقال الفضل بن زياد‏:‏ سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له رافضي‏؟‏

فقال‏:‏ إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحداً من الصحابة إلا وله داخلة سوء‏.‏

وقال ابن مبارك‏:‏ عن محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة‏.‏

قال‏:‏ ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلا إنسان شتم معاوية، فإنه ضربه أسواطاً‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ بينما أنا على جبل بالشام إذ سمعت هاتفاً يقول‏:‏ من أبغض الصديق فذاك زنديق، ومن أبغض عمر فإلى جهنم زمراً، ومن أبغض عثمان فذاك خصمه الرحمن، ومن أبغض علياً فذاك خصمه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أبغض معاوية سحبته الزبانية إلى جهنم الحامية، يرمى به في الحامية الهاوية‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية، إذ جاء رجل فقال عمر‏:‏ يا رسول الله هذا يتنقصنا، فكأنه انتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله إني لا أتنقص هؤلاء ولكن هذا - يعني‏:‏ معاوية -‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ويلك أوليس هو من أصحابي‏؟‏‏)‏‏)‏ قالها ثلاثاً، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حربة فناولها معاوية فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏جابها في لبته‏)‏‏)‏‏.‏

فضربه بها وانتبهت فبكرت إلى منزلي فإذا ذلك الرجل قد أصابته الذبحة من الليل ومات، وهو راشد الكندي‏.‏

وروى ابن عساكر‏:‏ عن الفضيل بن عياض أنه كان يقول‏:‏ معاوية من الصحابة، من العلماء الكبار، ولكن ابتلى بحب الدنيا‏.‏

وقال العتبي‏:‏ قيل لمعاوية أسرع إليك الشيب‏؟‏

فقال‏:‏ كيف لا ولا أزال أرى رجلاً من العرب قائماً على رأسي يلقح لي كلاماً يلزمني جوابه، فإن أصبت لم أحمد، وإن أخطأت سارت بها البرود‏.‏

وقال الشعبي وغيره‏:‏ أصابت معاوية في آخر عمره لوقة‏.‏

وروى ابن عساكر في ترجمة خديج الخصي مولى معاوية قال‏:‏ اشترى معاوية جارية بيضاء جميلة فأدخلتها عليه مجردة، وبيده قضيب، فجعل يهوي به إلى متاعها - يعني‏:‏ فرجها - ويقول‏:‏ هذا المتاع لو كان لي متاع، اذهب بها إلى يزيد بن معاوية‏.‏

ثم قال‏:‏ لا ‏!‏

ادع لي ربيعة بن عمرو الجرشي - وكان فقيهاً - فلما دخل عليه قال‏:‏ إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد‏.‏

قال‏:‏ لا تفعل يا أمير المؤمنين ‏!‏ فإنها لا تصلح له‏.‏

فقال‏:‏ نعم ما رأيت‏.‏

قال‏:‏ ثم وهبها لعبد الله بن مسعدة الفزاري مولى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أسود‏.‏

فقال له‏:‏ بيض بها ولدك، وهذا من فقه معاوية ونحريه، حيث كان نظر إليها بشهوة، ولكنه استضعف نفسه عنها، فتحرج أن يهبها من ولده يزيد لقوله تعالى‏:‏ {‏وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وقد وافقه على ذلك الفقيه ربيعة بن عمرو الجرشي الدمشقي‏.‏

وذكر ابن جرير‏:‏ أن عمرو بن العاص قدم في وفد أهل مصر إلى معاوية، فقال لهم في الطريق‏:‏ إذا دخلتم على معاوية فلا تسلموا عليه بالخلافة فإنه لا يحب ذلك، فلما دخل عليه عمرو قبلهم‏.‏

قال معاوية لحاجبه‏:‏ أدخلهم، وأوعز إليه أن يخوفهم في الدخول ويرعبهم‏.‏

وقال‏:‏ إني لأظن عمراً قد تقدم إليهم في شيء ‏؟‏‏.‏

فلما أدخلوهم عليه - وقد أهانوهم - جعل أحدهم إذا دخل يقول‏:‏ السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما نهض عمرو من عنده قال‏:‏ قبحكم الله ‏!‏ نهيتكم عن أن تسلموا عليه بالخلافة فسلمتم عليه بالنبوة‏.‏

وذكر أن رجلاً سأل من معاوية أن يساعده في بناء داره باثني عشر ألف جذع من الخشب‏.‏

فقال له معاوية‏:‏ أين دارك‏؟‏

قال‏:‏ بالبصرة‏.‏

قال‏:‏ وكم اتساعها‏؟‏

قال‏:‏ فرسخان في فرسخين‏.‏

قال‏:‏ لا تقل داري بالبصرة، ولكن قل‏:‏ البصرة في داري‏.‏

وذكر أن رجلاً دخل بابن معه فجلسا على سماط معاوية فجعل ولده يأكل أكلاً ذريعاً، فجعل معاوية يلاحظه، وجعل أبوه يريد أن ينهاه عن ذلك فلا يفطن، فلما خرجا لامه أبوه وقطعه عن الدخول‏.‏

فقال له معاوية ‏!‏ أين ابنك التلقامة‏؟‏

قال‏:‏ اشتكى‏.‏

قال‏:‏ قد علمت أن أكله سيورثه داء‏.‏

قال‏:‏ ونظر معاوية إلى رجل وقف بين يديه يخاطبه وعليه عباءة فجعل يزدريه‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنك لا تخاطب العباءة، إنما يخاطبك من بها‏.‏

وقال معاوية‏:‏ أفضل الناس من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا وعد أنجز، وإذا أساء استغفر‏.‏

وكتب رجل من أهل المدينة إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه‏:‏

إذا الرجال ولدت أولادها * واضطربت من كبر أعضادها

وجعلت أسقامها تعتادها * فهي زروع قد دنا حصادها‏.‏

فقال معاوية‏:‏ نعى إليّ نفسي‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثني هارون بن سفيان، عن عبد الله السهمي، حدثني ثمامة بن كلثوم أن آخر خطبة خطبها معاوية أن قال‏:‏ أيها الناس ‏!‏ إن من زرع قد استحصد، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي خير مني‏.‏

وإنما يليكم من هو شر مني، كما كان من وليكم قبلي خيراً مني، ويا يزيد إذا دنا أجلي فولِّ غسلي رجلاً لبيباً، فإن اللبيب من الله بمكان، فلينعم الغسل وليجهر بالتكبير‏.‏

ثم اعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقراضة من شعره وأظفاره، فاستودع القراضة أنفي وفمي، وأذني وعيني، واجعل ذلك الثوب مما يلي جلدي دون لفافي‏.‏

ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جريدتي ووضعتموني في حفرتي، فخلوا معاوية وأرحم الراحمين‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لما احتضر معاوية جعل يقول‏:‏

لعمري لقد عمرت في الدهر برهةً * ودانت لي الدنيا بوقع البواتر

وأعطيت حمر المال والحكم والنهى * ولي سلمت كل الملوك الجبابر

فأضحى الذي قد كان مما يسرني * كحكمٍ مضى في المزمنات الغوابر

فيا ليتني لم أعنِ في الملك ساعةً * ولم أسمع في لذات عيشٍ نواضر

وكنت كذي طمرين عاش ببلغةٍ * فلم يك حتى زار ضيق المقابر

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنبأنا علي بن محمد، عن محمد بن الحكم، عمن حدثه أن معاوية لما احتضر أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال - كأنه أراد أن يطيب له - لأن عمر بن الخطاب قاسم عماله‏.‏

وذكروا‏:‏ أنه في آخر عمره اشتد به البرد فكان إذا لبس أو تغطى بشيء ثقيل يغمه، فاتخذ له ثوباً من حواصل الطير، ثم ثقل عليه بعد ذلك‏.‏

فقال‏:‏ تباً لك من دار، ملكتك أربعين سنة، عشرين أميراً، وعشرين خليفة، ثم هذا حالي فيك، ومصيري منك، تباً للدنيا ولمحبيها‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنبأنا أبو عبيدة، عن أبي يعقوب الثقفي، عن عبد الملك بن عمير‏.‏

قال‏:‏ لما ثقل معاوية وتحدث الناس بموته قال لأهله‏:‏ احشوا عيني إثمداً، وأوسعوا رأسي دهناً، ففعلوا وغرقوا وجهه بالدهن، ثم مهد له مجلس وقال‏:‏ أسندوني‏.‏

ثم قال‏:‏ إيذنوا للناس فليسلموا عليّ قياماً ولا يجلس أحد، فجعل الرجل يدخل فيسلم قائماً فيراه مكتحلاً متدهناً فيقول متقول الناس‏:‏ إن أمير المؤمنين لما به وهو أصح الناس‏.‏

فلما خرجوا من عنده، قال معاوية في ذلك‏:‏

وتجلدي للشامتين أريهم * أني لريب الدهر لا أتضعضع

وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع

قال‏:‏ وكان به النقابة - يعني‏:‏ لوقة - فمات من يومه ذلك رحمه الله‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ لما نزل بمعاوية الموت قال‏:‏ يا ليتني كنت رجلاً من قريش بذي طوى، ولم ألِ من هذا الأمر شيئاً‏.‏

وقال أبو السائب المخزومي‏:‏ لما حضرت معاوية الوفاة تمثل بقول الشاعر‏:‏

إن تناقش يكن نقاشك يا رب * عذاباً لا طوق لي بالعذاب

أو تجاوز تجاوز العفو واصفح * عن مسيءٍ ذنوبه كالتراب

وقال بعضهم‏:‏ لما احتضر معاوية جعل أهله يقلبونه‏.‏

فقال لهم‏:‏ أي شيخ تقلبون‏؟‏ إن نجاه الله من عذاب النار غداً‏.‏

وقال محمد بن سيرين‏:‏ جعل معاوية لما احتضر يضع خداً على الأرض ثم يقلب وجهه ويضع الخد الآخر ويبكي ويقول‏:‏ اللهم إنك قلت في كتابك‏:‏ ‏{‏اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏} ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ اللهم فاجعلني فيمن تشاء أن تغفر له‏.‏

وقال العتبي عن أبيه‏:‏ تمثل معاوية عند موته بقول بعضهم وهو في السياق‏:‏

هو الموت لا منجا من الموت والذي * نحاذر بعد الموت أدهى وأفظع

ثم قال‏:‏ اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرج غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك‏.‏

ورواه ابن دريد‏:‏ عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو بن العلاء فذكر مثله، وزاد‏:‏ ثم مات‏.‏

وقال غيره‏:‏ أغمي عليه ثم أفاق فقال لأهله‏:‏ اتقوا الله فإن الله تعالى يقي من اتقاه، ولا يقي من لا يتقي، ثم مات رحمه الله‏.‏

وقد روى أبو مخنف‏:‏ عن عبد الله بن نوفل‏.‏

قال‏:‏ لما مات معاوية صعد الضحاك بن قيس المنبر فخطب الناس - وأكفانُ معاوية على يديه -

فقال بعد حمد الله والثناء عليه‏:‏ إن معاوية الذي كان سُور العرب وعونهم وجدهم، قطع الله به الفتنة، وملكه على العباد، وفتح به البلاد، إلا إنه قد مات وهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله‏.‏

ثم هول البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الأولى‏.‏

ثم نزل وبعث البريد إلى يزيد بن معاوية يعلمه ويستحثه على المجيء‏.‏

ولا خلاف أنه توفي بدمشق في رجب سنة ستين‏.‏

فقال جماعة‏:‏ ليلة الخميس للنصف من رجب سنة ستين‏.‏

وقيل‏:‏ ليلة الخميس لثمان بقين من رجب سنة ستين‏.‏

قاله ابن إسحاق وغير واحد‏.‏

وقيل‏:‏ لأربع خلت من رجب، قاله الليث‏.‏

وقال سعد بن إبراهيم‏:‏ لمستهل رجب‏.‏

قال محمد بن إسحاق والشافعي‏:‏ صلى عليه ابنه يزيد، وقد ورد من غير وجه أنه أوصى إليه أن يكفن في ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كساه إياه، وكان مُدَّخراً عنده لهذا اليوم، وأن يجعل ما عنده من شعره وقلامة أظفاره في فمه وأنفه وعينيه وأذنيه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل كان ابنه يزيد غائباً فصلى عليه الضحاك بن قيس بعد صلاة الظهر بمسجد دمشق، ثم دفن فقيل‏:‏ بدار الإمارة وهي الخضراء‏.‏

وقيل‏:‏ بمقابر باب الصغير، وعليه الجمهور فالله أعلم‏.‏

وكان عمره إذ ذاك ثمانياً وسبعين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ جاوز الثمانين وهو الأشهر والله أعلم‏.‏

ثم ركب الضحاك بن قيس في جيش وخرج ليتلقى يزيد بن معاوية - وكان يزيد بحوارين - فلما وصلوا إلى ثنية العُقاب تلقتهم أثقال يزيد، وإذا يزيد راكب على بختي وعليه الحزن ظاهر، فسلم عليه الناس بالإمارة وعزوه في أبيه، وهو يخفض صوته في رده عليهم، والناس صامتون لا يتكلم معه إلا الضحاك بن قيس‏.‏

فانتهى إلى باب توما، فظن الناس أنه يدخل منه إلى المدينة، فأجازه مع السور حتى انتهى إلى الباب الشرقي، فقيل‏:‏ يدخل منه لأنه باب خالد، فجازه حتى أتى الباب الصغير فعرف الناس أنه قاصد قبر أبيه‏.‏

فلما وصل إلى باب الصغير ترجل عند القبر ثم دخل فصلى على أبيه بعد ما دفن ثم انفتل، فلما خرج من المقبرة أتى بمراكب الخلافة فركب‏.‏

ثم دخل البلد وأمر فنودي في الناس إن الصلاة جامعة، ودخل الخضراء فاغتسل ولبس ثياباً حسنة ثم خرج فخطب الناس أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ بعد حمد الله والثناء عليه‏:‏ أيها الناس ‏!‏ إن معاوية كان عبداً من عبيد الله، أنعم الله عليه ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده ودون من قبله، ولا أزكيه على الله عزّ وجلّ فإنه أعلم به، إن عفى عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه‏.‏

وقد وليت الأمر من بعده، ولستُ آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئاً كان‏.‏

وقال لهم في خطبته هذه‏:‏ وإن معاوية كان يغزيكم في البحر، وإني لست حاملاً أحداً من المسلمين في البحر، وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم، ولست مشتياً أحداً بأرض الروم، وإن معاوية كان يخرج لكم العطاء أثلاثاً وأنا أجمعه لكم كله‏.‏

قال‏:‏ فافترق الناس عنه وهم لا يفضلون عليه أحداً‏.‏

وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم‏:‏ سمعت الشافعي يقول‏:‏ بعث معاوية وهو مريض إلى ابنه يزيد، فلما جاءه البريد ركب وهو يقول‏:‏

جاء البريد بقرطاس يخب به * فأوجس القلب من قرطاسه فزعا

قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم * قال الخليفة أمسى مثقلاً وجعاً

فمادت الأرض أو كادت تميد بنا * كأن أغبر من أركانها انقلعا 

ثم انبعثنا إلى خوص مضمرة * نرمي الفجاج بها ما نأتلي سرعاً

فما نبالي إذا بلغن أرجلنا * ما مات منهن بالمرمات أو طلعا

لما انتهينا وباب الدار منصفق * بصوت رملة ريع القلب فانصدعا

من لا تزل نفسه توفي على شرف * توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا

أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه * كأنا جميعاً خليطاً سالمين معاً

أغر أبلج يستسقى الغمام به * لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا

لا يرقع الناس ما أوهى وإن جهدوا * أن يرقعوه ولا يوهون ما رقعا

وقال الشافعي‏:‏ سرق يزيد هذين البيتين من الأعشى، ثم ذكر أنه دخل قبل موت أبيه دمشق وأنه أوصى إليه، وهذا قد قاله ابن إسحاق وغير واحد‏.‏

ولكن الجمهور على أن يزيد لم يدخل دمشق إلا بعد موت أبيه، وأنه صلى على قبره بالناس كما قدمناه والله أعلم‏.‏

وقال أبو الورد العنبري يرثي معاوية رضي الله عنه‏:‏

ألا أنعى معاوية بن حربٍ * نعاة الحل للشهر الحرام

نعاه الناعيات بكل فجٍ * خواضع في الأزمة كالسهام

فهاتيك النجوم وهن خرسٌ * ينحن على معاوية الهمام

وقال أيمن بن خريم يرثيه أيضاً‏:‏

رمى الحدثان نسوة آل حربٍ * بمقدارٍ سمدن له سمودا

فرد شعورهن السود بيضاً * ورد وجوههن البيض سودا

فإنك لو شهدت بكاء هندٍ * ورملة إذ يصفقن الخدودا

بكيت بكاء معولةٍ قريحٍ * أصاب الدهر واحدها الفريدا

 

 ذكر من تزوج من النساء ومن ولد له

كان له عبد الرحمن وبه كان يكنى، وعبد الله، وكان ضعيف العقل‏.‏

وأمهما‏:‏ فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف، وقد تزوج بأختها منفردة عنها بعدها، وهي كنوة بنت قرظة، وهي التي كانت معه حين افتتح قبرص، وتزوج نائلة بنت عمارة الكلبية فأعجبته وقال لميسون بنت بحدل‏:‏ ادخلي فانظري إلى ابنة عمك‏.‏

فدخلت فسألها عنها فقالت‏:‏ إنها لكاملة الجمال، ولكن رأيت تحت سرتها خالا، وإني لأرى هذه يقتل زوجها ويوضع رأسه في حجرها‏.‏

فطلقها معاوية فتزوجها بعده حبيب بن سلمة الفهري، ثم خلف عليها بعده النعمان بن بشير فقُتل ووضع رأسه في حجرها‏.‏

ومن أشهر أولاده‏:‏ يزيد وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن دلجة بن قنافة الكلبي، وهي التي دخلت على نائلة فأخبرت معاوية عنها بما أخبرته، وكانت حازمة عظيمة الشأن جمالاً ورياسة وعقلاً وديناً، دخل عليها معاوية يوماً ومعه خادم خصي فاستترت منه وقالت‏:‏ ما هذا الرجل معك‏؟‏

فقال‏:‏ إنه خصي فأظهري عليه‏.‏

فقالت‏:‏ ما كانت المثلة لتحل له ما حرم الله عليه، وحجبته عنها‏.‏

وفي رواية‏:‏ أنها قالت له‏:‏ إن مجرد مثلتك له لن تحل ما حرمه الله عليه، فلهذا أولى الله ابنها يزيد الخلافة بعد أبيه‏.‏

وذكر ابن جرير‏:‏ أن ميسون هذه ولدت لمعاوية بنتاً أخرى يقال لها‏:‏ أمة رب المشارق، ماتت صغيرة‏.‏

ورملة تزوجها عمرو بن عثمان بن عفان، كانت دارها بدمشق عند عقبة السمك تجاه زقاق الرمان، قاله ابن عساكر، قال‏:‏ ولها طاحون معروفة إلى الآن‏.‏

وهند بنت معاوية تزوجها عبد الله بن عامر، فلما أدخلت عليه بالخضراء جوار الجامع، أرادها على نفسها فتمنعت عليه وأبت أشد الإباء، فضربها فصرخت، فلما سمع الجواري صوتها صرخن وعلت أصواتهن، فسمع معاوية فنهض إليهن فاستعلمهن ما الخبر‏؟‏

فقلن‏:‏ سمعنا صوت سيدتنا فصحنا، فدخل فإذا بها تبكي من ضربه‏.‏

فقال لابن عامر‏:‏ ويحك ‏!‏‏!‏ مثل هذه تضرب في مثل هذه الليلة‏؟‏

ثم قال له‏:‏ أخرج من ههنا، فخرج ابن عامر وخلا بها معاوية فقال لها‏:‏ يا بنية إنه زوجك الذي أحله الله لك، أَوَ ما سمعت قول الشاعر‏:‏

من الخفرات البيض أّما حرامها * فصعب وأما حلها فذلول‏؟‏

ثم خرج معاوية من عندها وقال لزوجها‏:‏ ادخل فقد مهدت لك خلقها ووطأته‏.‏

فدخل ابن عامر فوجدها قد طابت أخلاقها فقضى حاجته منها رحمهم الله تعالى‏.‏

كان على قضاء معاوية أبو الدرداء بولاية عمر بن الخطاب، فلما حضره الموت أشار على معاوية بتولية فضالة بن عبيد، ثم مات فضالة فولى أبا إدريس الخولاني‏.‏:‏

 فصل قضاء معاوية

وكان على حرسه رجل من الموالي يقال له‏:‏ المختار، وقيل‏:‏ مالك، ويكنى أبا المخارق - مولى لحمير -‏.‏

وكان معاوية أول من اتخذ الحرس، وعلى حجابته سعد مولاه وعلى الشرطة قيس بن حمزة، ثم زُميل بن عمرو العذري، ثم الضحاك بن قيس الفهري، وكان صاحب أمره سرجون بن منصور الرومي‏.‏

وكان معاوية أول من اتخذ ديوان الخاتم وختم الكتب‏.‏

وممن ذكر أنه توفي في هذه السنة - أعني‏:‏ سنة ستين -

صفوان بن المعطل بن رخصة بن المؤمل بن خزاعي أبو عمرو، وأول مشاهده المريسيع

وكان في الساقة يومئذ، وهو الذي رماه أهل الإفك بأم المؤمنين فبرأه الله وإياها مما قالوا‏.‏

وكان من سادات المسلمين، وكان ينام نوماً شديداً حتى كان ربما طلعت عليه الشمس وهو نائم لا يستيقظ‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا استيقظت فصلّ‏)‏‏)‏ وقد قتل صفوان شهيداً‏.‏

أبو مسلم الخولاني

عبد بن ثُوَب الخولاني من خولان ببلاد اليمن‏.‏

دعاه الأسود العنسي إلى أن يشهد أنه رسول الله فقال له‏:‏ أتشهد أني رسول الله‏؟‏

فقال‏:‏ لا أسمع، أشهد أن محمداً رسول الله، فأجج له ناراً وألقاه فيها فلم تضره، وأنجاه الله منها فكان يشبه بإبراهيم الخليل‏.‏

ثم هاجر فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فقدم على الصديق فأجلسه بينه وبين عمر وقال له عمر‏:‏ الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى في أمة محمد من فعل به كما فعل بإبراهيم الخليل، وقبّله بين عينيه، وكانت له أحوال ومكاشف والله سبحانه أعلم‏.‏

ويقال‏:‏ إنه توفي فيها‏:‏ النعمان بن بشير، والأظهر أنه مات بعد ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

يزيد بن معاوية وما جرى في أيامه

بويع له بالخلافة بعد أبيه في رجب سنة ستين، وكان مولده سنة ست وعشرين، فكان يوم بويع ابن أربع وثلاثين سنة، فأقر نواب أبيه على الأقاليم، لم يعزل أحداً منهم، وهذا من ذكائه‏.‏

قال هشام بن محمد الكلبي‏:‏ عن أبي مخنف لوط بن يحيى الكوفي الأخباري‏:‏ ولي يزيد في هلال رجب سنة ستين، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأمير الكوفة النعمان بن بشير، وأمير البصرة عبيد الله بن زياد، وأمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص، ولم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية البيعة ليزيد‏.‏

فكتب إلى نائب المدينة الوليد بن عتبة‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد‏.‏

فإن معاوية كان عبداً من عباد الله أكرمه الله واستخلفه وخوّله ومكن له، فعاش بقدرٍ ومات بأجلٍ فرحمه الله، فقد عاش محموداً ومات براً تقياً والسلام‏.‏

وكتب إليه في صحيفة كأنها أذن الفأرة‏:‏

أما بعد‏:‏

فخذ حُسيناً، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام‏.‏

فلما أتاه نعي معاوية فظع به وكَبرُ عليه، فبعث إلى مروان فقرأ عليه الكتاب واستشاره في أمر هؤلاء النفر، فقال‏:‏ أرى أن تدعوهم قبل أن يعلموا بموت معاوية إلى البيعة، فإن أبَو ضربت أعناقهم‏.‏

فأرسل من فوره عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان إلى الحسين وابن الزبير - وهما في المسجد - فقال لهما‏:‏ أجيبا الأمير‏.‏

فقالا‏:‏ انصرف الآن نأتيه‏.‏

فلما انصرف عنهما قال الحسين لابن الزبير‏:‏ إني أرى طاغيتهم قد هلك‏.‏

قال ابن الزبير‏:‏ وأنا ما أظن غيره‏.‏

قال‏:‏ ثم نهض حسين فأخذ معه مواليه وجاء باب الأمير، فاستأذن فأذن له، فدخل وحده، وأجلس مواليه على الباب‏.‏

وقال‏:‏ إن سمعتم أمراً يريبكم فادخلوا، فسلم وجلس ومروان عنده، فناوله الوليد بن عتبة الكتاب ونعى إليه معاوية، فاسترجع وقال‏:‏ رحم الله معاوية، وعظم لك الأجر، فدعاه الأمير إلى البيعة‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ إن مثلي لا يبايع سراً، وما أراك تجتزئ مني بهذا، ولكن إذا اجتمع الناس دعوتنا معهم فكان أمراً واحداً‏.‏

فقال له الوليد‏:‏ - وكان يحب العافية - فانصرف على اسم الله حتى تأتينا في جماعة الناس‏.‏

فقال مروان للوليد‏:‏ والله لئن فارقك ولم يبايع الساعة ليكثرن القتل بينكم وبينه، فاحبسه ولا تخرجه حتى يبايع وإلا ضربت عنقه، فنهض الحسين وقال‏:‏ يا ابن الزرقاء أنت تقتلني‏؟‏ كذبت والله وأثمت‏.‏

ثم انصرف إلى داره، فقال مروان للوليد‏:‏ والله لا تراه بعدها أبداً‏.‏

فقال الوليد‏:‏ والله يا مروان ما أحب أن لي الدنيا وما فيها وأني قتلت الحسين، سبحان الله ‏!‏ أقتل حسيناً أن قال لا أبايع‏؟‏ والله إني لأظن أن من يقتل الحسين يكون خفيف الميزان يوم القيامة

وبعث الوليد إلى عبد الله بن الزبير فامتنع عليه وماطله يوماً وليلة، ثم إن ابن الزبير ركب في مواليه واستصحب معه أخاه جعفراً، وسار إلى مكة على طريق الفُرع، وبعث الوليد خلف ابن الزبير الرجال والفرسان فلم يقدروا على رده، وقد قال جعفر لأخيه عبد الله وهما سائران متمثلاً بقول صبرة الحنظلي‏:‏

وكل بني أمٍ سيمسون ليلةً * ولم يبق من أعقابهم غير واحد

فقال‏:‏ سبحان الله ‏!‏ ما أردت إلى هذا‏؟‏

فقال‏:‏ والله ما أردت به شيئاً يسوءك‏.‏

فقال‏:‏ إن كان إنما جرى على لسانك فهو أكره إليّ، أن قالوا وتطير به‏.‏

وأما الحسين بن علي فإن الوليد تشاغل عنه بابن الزبير وجعل كلما بعث إليه يقول‏:‏ حتى تنظر وننظر، ثم جمع أهله وبنيه‏.‏

وركب ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رجب من هذه السنة، بعد خروج ابن الزبير بليلة، ولم يتخلف عنه أحد من أهله سوى محمد بن الحنفية‏.‏

فإنه قال له‏:‏ والله يا أخي لأنت أعز أهل الأرض عليّ، وإني ناصح لك لا تدخلن مصراً من هذه الأمصار، ولكن اسكن البوادي والرمال، وابعث إلى الناس، فإذا بايعوك واجتمعوا عليك فادخل المصر، وإن أبيت إلا سكنى المصر فاذهب إلى مكة، فإن رأيت ما تحب وإلا ترفعت إلى الرمال والجبال‏.‏

فقال له‏:‏ جزاك الله خيراً فقد نصحت وأشفقت‏.‏

وسار الحسين إلى مكة فاجتمع هو وابن الزبير بها، وبعث الوليد إلى عبد الله بن عمر فقال‏:‏ بايع ليزيد‏.‏

فقال‏:‏ إذا بايع الناس بايعت‏.‏

فقال رجل‏:‏ إنما تريد أن تختلف الناس ويقتتلون حتى يتفانوا، فإذا لم يبق غيرك بايعوك‏؟‏

فقال ابن عمر‏:‏ لا أحب شيئاً مما قلت، ولكن إذا بايع الناس، فلم يبق غيري بايعت، وكانوا لا يتخوّفونه‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ لم يكن ابن عمر بالمدينة حين قدم نعي معاوية، وإنما كان هو وابن عباس بمكة فلقيهما وهما مقبلان منها الحسين وابن الزبير، فقال‏:‏ ما وراءكما‏؟‏

قالا‏:‏ موت معاوية والبيعة ليزيد بن معاوية‏.‏

فقال لهما ابن عمر‏:‏ اتقيا الله ولا تفرقا بين جماعة المسلمين، وقدم ابن عمر وابن عباس إلى المدينة، فلما جاءت البيعة من الأمصار بايع ابن عمر مع الناس‏.‏

وأما الحسين وابن الزبير فإنهما قدما مكة فوجدا بها عمرو بن سعيد بن العاص فخافاه وقالا‏:‏ إنا جئنا عواذاً بهذا البيت‏.‏

وفى هذه السنة في رمضان منها‏:‏ عزل يزيد بن معاوية الوليد بن عتبة عن إمرة المدينة لتفريطه، وأضافها إلى عمرو بن سعيد بن العاص نائب مكة، فقدم المدينة في رمضان‏.‏

وقيل‏:‏ في ذي القعدة، وكان متآلهاً متكبراً، وسلط عمرو بن الزبير - وكان عدواً لأخيه عبد الله - على حربه وجرده له، وجعل عمرو بن سعيد يبعث البعوث إلى مكة لحرب ابن الزبير‏.‏

وقد ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ أن أبا شريح الخزاعي قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة‏:‏ إيذن لي أيها الأمير أن أحدثك حديثاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح‏.‏

سمعته أذناي ووعاه قلبي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، وأنه لم يحل القتال فيها لأحد كان قبلي، ولم تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، ثم قد صارت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا‏:‏ إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقيل لأبي شريح‏:‏ ما قال لك‏؟‏

فقال‏:‏ قال لي نحن أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم، ولا فاراً بخربة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ ولىّ عمرو بن سعيد شرطة المدينة عمرو بن الزبير فتتبع أصحاب أخيه ومن يهوى هواه، فضربهم ضرباً شديداً حتى ضرب من جملة من ضرب أخاه المنذر بن الزبير، وأنه لا بد أن يأخذ أخاه عبد الله في جامعة من فضة حتى يقدم به على الخليفة‏.‏

فضرب المنذر بن الزبير، وابنه محمد بن المنذر، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، وخبيب بن عبد الله بن الزبير، ومحمد بن عمار بن ياسر وغيرهم، ضربهم من الأربعين إلى الخمسين إلى الستين جلدة‏.‏

وفرَّ منه عبد الرحمن بن عثمان التيمي، وعبد الرحمن بن عمرو بن سهل في أناس من مكة، ثم جاء العزم من يزيد إلى عمرو بن سعيد في تطلب ابن الزبير، وأنه لا يقبل منه وإن بايع حتى يؤتى به إليّ في جامعة من ذهب أو من فضة تحت برنسه، فلا ترى إلا أنه يسمع صوتها‏.‏

وكان ابن الزبير قد منع الحارث بن خالد المخزومي من أن يصلي بأهل مكة، وكان نائب عمرو بن سعيد عليها فحينئذ صمم عمرو على تجهيز سرية إلى مكة بسبب ابن الزبير، فاستشار عمرو بن سعيد عمرو بن الزبير‏:‏ من يصلح أن نبعثه إلى مكة لأجل قتاله ‏؟‏‏.‏

فقال له عمرو بن الزبير‏:‏ إنك لا تبعث إليه من هو أنكى له مني‏.‏

فعينه على تلك السرية وجعل على مقدمته أُنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة مقاتل‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ إنما عينهما يزيد بن معاوية نفسه، وبعث بذلك إلى عمرو بن سعيد، فعسكر أنيس بالجرف وأشار مروان بن الحكم على عمرو بن سعيد أن لا يغزو مكة، وأن يترك ابن الزبير بها، فإنه عما قليل إن لم يقتل يمت‏.‏

فقال أخوه عمرو بن الزبير‏:‏ والله لنغزونه ولو في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم‏.‏

فقال مروان‏:‏ والله إن ذلك ليسرني‏.‏

فسار أنيس واتبعه عمرو بن الزبير في بقية الجيش - وكانوا ألفين - حتى نزل بالأبطح‏.‏

وقيل‏:‏ بداره عند الصفا، ونزل أنيس بذي طوى، فكان عمرو بن الزبير يصلي بالناس، ويصلي وراءه أخوه عبد الله بن الزبير‏.‏

وأرسل عمرو إلى أخيه يقول له‏:‏ برّ يمين الخليفة، وأتهِ وفي عنقك جامعة من ذهب أو فضة، ولا تدع الناس يضرب بعضهم بعضاً، واتق الله فإنك في بلد حرام‏.‏

فأرسل عبد الله يقول لأخيه‏:‏ موعدك المسجد‏.‏

وبعث عبد الله بن الزبير عبد الله بن صفوان بن أمية في سرية فاقتتلوا مع عمرو بن أنيس الأسلمي، فهزموا أنيساً هزيمة قبيحة، وتفرق عن عمرو بن الزبير أصحابه، وهرب عمرو إلى دار ابن علقمة‏.‏

فأجاره أخوه عبيدة بن الزبير، فلامه أخوه عبد الله بن الزبير وقال‏:‏ تجير من في عنقه حقوق الناس‏؟‏

ثم ضربه بكل من ضربه بالمدينة إلا المنذر بن الزبير وابنه فإنهما أبيا أن يستقيدا من عمرو، وسجنه ومعه عارم، فسمي سجن عارم‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن عمرو بن الزبير مات تحت السياط والله أعلم‏.‏

قصة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة وكيفية مقتله

ولنبدأ قبل ذلك بشيء من ترجمته ثم نتبع الجميع بذكر مناقبه وفضائله‏.‏

هو الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، أبو عبد الله، القرشي الهاشمي، السبط الشهيد بكربلاء ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة الزهراء، وريحانته من الدنيا‏.‏

ولد بعد أخيه الحسن، وكان مولد الحسن في سنة ثلاث من الهجرة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنما كان بينهما طهر واحد ومدة الحمل، وولد لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ولد الحسين لست سنين وخمسة أشهر ونصف من التاريخ‏.‏

وقتل يوم الجمعة، يوم عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين، وله أربع وخمسون سنة وستة أشهر ونصف رضي الله عنه‏.‏

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حنكه وتفل في فيه ودعا له وسماه حسيناً، وقد كان سماه أبوه قبل ذلك حرباً‏.‏

وقيل‏:‏ جعفراً

وقيل‏:‏ إنما سماه يوم سابعه وعق عنه‏.‏

وقال جماعة‏:‏ عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ الحسن أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه به ما بين أسفل من ذلك‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ حدثني محمد بن الضحاك الحزامي‏.‏

قال‏:‏ كان وجه الحسن يشبه وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جسد الحسين يشبه جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروى محمد بن سيرين، وأخته حفصة، عن أنس‏.‏

قال‏:‏ كنت عند ابن زياد فجيء برأس الحسين، فجعل يقول بقضيب في أنفه ويقول‏:‏ ما رأيت مثل هذا حسناً‏.‏

فقلت له‏:‏ إنه كان من أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال سفيان‏:‏ قلت لعبيد الله بن أبي زياد‏:‏ رأيت الحسين‏؟‏

قال‏:‏ نعم، أسود الرأس واللحية، إلا شعرات ههنا في مقدم لحيته، فلا أدري أخضب وترك ذلك المكان تشبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، أولم يكن شاب منه غير ذلك ‏؟‏‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ سمعت عمر بن عطاء قال‏:‏ رأيت الحسين بن علي يصبغ بالوشمة، أما هو فكان ابن ستين سنة، وكان رأسه ولحيته شديدي السواد‏.‏

فأما الحديث الذي روي من طريقين ضعيفين أن فاطمة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض الموت أن يَنْحَل ولديها شيئاً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما الحسن فله هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فله جُرأتي وجودي‏)‏‏)‏ فليس بصحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب المعتبرة‏.‏

وقد أدرك الحسين من حياة النبي صلى الله عليه وسلم خمس سنين أو نحوها، وروى عنه أحاديث‏.‏

وقال مسلم بن الحجاج‏:‏ له رؤية من النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد روى صالح بن أحمد بن حنبل، عن أبيه أنه قال في الحسن بن علي‏:‏ إنه تابعي ثقة، وهذا غريب فلأن يقول في الحسين إنه تابعي بطريق الأولى‏.‏

وسنذكر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمهما به، وما كان يظهر من محبتهما والحنو عليهما‏.‏

والمقصود‏:‏ أن الحسين عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى أن توفي وهو عنه راضٍ، ولكنه كان صغيراً‏.‏

ثم كان الصديق يكرمه ويعظمه، وكذلك عمر وعثمان، وصحب أباه وروى عنه، وكان معه في مغازيه كلها، في الجمل وصفين، وكان معظماً موقراً، ولم يزل في طاعة أبيه حتى قتل‏.‏

فلما آلت الخلافة إلى أخيه وأراد أن يصالح شق ذلك عليه ولم يسدد رأي أخيه في ذلك، بل حثّه على قتل أهل الشام‏.‏

فقال له أخوه‏:‏ والله لقد هممت أن أسجنك في بيتٍ وأطبق عليك بابه حتى أفرغ من هذا الشأن ثم أخرجك‏.‏

فلما رأى الحسين ذلك سكت وسلم، فلما استقرت الخلافة لمعاوية كان الحسين يتردد إليه مع أخيه الحسن فيكرمهما معاوية إكراماً زائداً، ويقول لهما‏:‏ مرحباً وأهلاً، ويعطيهما عطاء جزيلاً‏.‏

وقد أطلق لهما في يوم واحد مائتي ألف، وقال‏:‏ خذاها وأنا ابن هند، والله لا يعطيكماها أحد قبلي ولا بعدي‏.‏

فقال الحسين‏:‏ والله لن تعطي أنت ولا أحد قبلك ولا بعدك رجلاً أفضل منا‏.‏

ولما توفي الحسن كان الحسين يفد إلى معاوية في كل عام فيعطيه ويكرمه، وقد كان في الجيش الذين غزوا القسطنطينية مع ابن معاوية يزيد، في سنة إحدى وخمسين‏.‏

ولما أخذت البيعة ليزيد في حياة معاوية كان الحسين ممن امتنع من مبايعته، هو وابن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وابن عمر، وابن عباس، ثم مات ابن أبي بكر وهو مصمم على ذلك‏.‏

فلما مات معاوية سنة ستين وبويع ليزيد، بايع ابن عمر وابن عباس، وصمم على المخالفة الحسين وابن الزبير، وخرجا من المدينة فارين إلى مكة فأقاما بها، فعكف الناس على الحسين يفدون إليه ويقدمون عليه ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد‏.‏

وأما ابن الزبير فإنه لزم مصلاه عند الكعبة، وجعل يتردد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولا يمكنه أن يتحرك بشيء مما في نفسه مع وجود الحسين، لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إياه عليه‏.‏

غير أنه قد تعينت السرايا والبعوث إلى مكة بسببه، ولكن أظفره الله بهم كما تقدم آنفاً، فانقشعت السرايا عن مكة مفلولين وانتصر عبد الله بن الزبير على من أراد هلاكه من اليزيديين‏.‏

وضرب أخاه عمراً وسجنه واقتص منه وأهانه، وعظم شأن ابن الزبير عند ذلك ببلاد الحجاز، واشتهر أمره وبُعد صيته، ومع هذا كله ليس هو معظماً عند الناس مثل الحسين‏.‏

بل الناس إنما ميلهم إلى الحسين لأنه السيد الكبير، وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس على وجه الأرض يومئذٍ أحد يساميه ولا يساويه، ولكن الدولة اليزيدية كانت كلها تناوئه‏.‏

وقد كثر ورود الكتب عليه من بلاد العراق يدعونه إليهم - وذلك حين بلغهم موت معاوية وولاية يزيد، ومصير الحسين إلى مكة فراراً من بيعة يزيد - فكان أول من قدم عليه عبد الله بن سبع الهمذاني، وعبد الله بن والٍ معمها كتاب فيه السلام والتهنئة بموت معاوية‏.‏

فقدما على الحسين لعشر مضين من رمضان من هذه السنة، ثم بعثوا بعدهما نفراً منهم‏:‏ قيس بن مسهر الضدائي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكوا الأرحبي، وعمارة بن عبد الله السلولي، ومعهم نحو من مائة وخمسين كتاباً إلى الحسين‏.‏

ثم بعثوا هانئ بن هانئ السبيعي، وسعيد بن عبد الله الحنفي ومعهما كتاب فيه الاستعجال في السير إليهم، وكتب إليه شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث و يزيد بن رويم، وعمرو بن حجاج الزبيدي، ومحمد بن عمر بن يحيى التميمي‏:‏

أما بعد‏:‏ فقد أخضرت الجنان، وأينعت الثمار، ولطمت الجمام، فإذا شئت فأقدم على جند لك مجندة والسلام عليك‏.‏

فاجتمعت الرسل كلها بكتبها عند الحسين، وجعلوا يستحثونه ويستقدمونه عليهم ليبايعوه عوضاً عن يزيد بن معاوية، ويذكرون في كتبهم أنهم فرحوا بموت معاوية، وينالون منه ويتكلمون في دولته، وأنهم لم يبايعوا أحداً إلى الآن، وأنهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدموك عليهم‏.‏

فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى العراق، ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق، فإن كان متحتماً وأمراً حازماً محكماً، بعث إليه ليركب في أهله وذويه، ويأتي الكوفة ليظفر بمن يعاديه‏.‏

وكتب معه كتاباً إلى أهل العراق بذلك، فلما سار مسلم من مكة اجتاز بالمدينة فأخذ منها دليلين فسارا به على براري مهجورة المسالك‏.‏

فكان أحد الدليلين منهما أول هالك، وذلك من شدة العطش، وقد أضلوا الطريق فهلك الدليل الواحد بمكان يقال له‏:‏ المضيق، من بطن خبيت، فتطير به مسلم بن عقيل، فتلبث مسلم على ما هنالك ومات الدليل الآخر‏.‏

فكتب إلى الحسين يستشيره في أمره، فكتب إليه يعزم عليه أن يدخل العراق، وأن يجتمع بأهل الكوفة ليستعلم أمرهم ويستخبر خبرهم‏.‏

فلما دخل الكوفة نزل على رجل يقال له‏:‏ مسلم بن عوسجة الأسدي‏.‏

وقيل‏:‏ نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي فالله أعلم‏.‏

فتسامع أهل الكوفة بقدومه، فجاؤوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفاً، ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفاً‏.‏

فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليها فقد تمهدت له البيعة والأمور، فتجهز الحسين من مكة قاصداً الكوفة كما سنذكره‏.‏

وانتشر خبرهم حتى بلغ أمير الكوفة النعمان بن بشير خّبره رجل بذلك، فجعل يضرب عن ذلك صفحاً ولا يعبأ به، ولكنه خطب الناس ونهاهم عن الاختلاف والفتنة، وأمرهم بالائتلاف والسنة‏.‏

وقال‏:‏ إني لا أقاتل من لا يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب عليّ، ولا آخذكم بالظنة، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لئن فارقتم إمامكم ونكثتم بيعته لأقاتلنكم ما دام في يدي من سيفي قائمته‏.‏

فقام إليه رجل يقال له‏:‏ عبد الله بن مسلم بن شعبة الحضرمي‏.‏

فقال له‏:‏ إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالغشمة، وإن الذي سلكته أيها الأمير مسلك المستضعفين‏.‏

فقال له النعمان‏:‏ لأن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إليّ من أن أكون من الأقوياء الأعزين في معصية الله‏.‏

ثم نزل فكتب ذلك الرجل إلى يزيد يعلمه بذلك، وكتب إلى يزيد عمارة بن عقبة، وعمرو بن سعد بن أبي وقاص، فبعث يزيد فعزل النعمان عن الكوفة وضمها إلى عبيد الله بن زياد مع البصرة، وذلك بإشارة سرجون مولى يزيد بن معاوية، وكان يزيد يستشيره‏.‏

فقال سرجون‏:‏ أكنت قابلاً من معاوية ما أشار به لو كان حياً‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ فاقبل مني فإنه ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد، فوله إياها‏.‏

وكان يزيد يبغض عبيد الله بن زياد، وكان يريد أن يعزله عن البصرة، فولاه البصرة والكوفة معاً لما يريده الله به وبغيره‏.‏

ثم كتب يزيد إلى ابن زياد‏:‏ إذا قدمت الكوفة فاطلب مسلم بن عقيل، فإن قدرت عليه فاقتله أو انفه، وبعث الكتاب مع العهد مع مسلم بن عمرو الباهلي، فسار ابن زياد من البصرة إلى الكوفة‏.‏

فلما دخلها متلثماً بعمامة سوداء، فجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قال‏:‏ سلام عليكم‏.‏

فيقولون‏:‏ وعليكم السلام مرحباً بابن رسول الله - يظنون أنه الحسين وقد كانوا ينتظرون قدومه - وتكاثر الناس عليه، ودخلها في سبعة عشر راكباً‏.‏

فقال لهم مسلم بن عمرو‏:‏ من جهة يزيد، تأخروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد، فلما علموا ذلك علتهم كآبة وحزن شديد، فتحقق عبيد الله الخبر، ونزل قصر الإمارة من الكوفة‏.‏

فلما استقر أمره أرسل مولى أبي رهم - وقيل‏:‏ كان مولى له يقال له‏:‏ معقل - ومعه ثلاثة آلاف درهم في صورة قاصد من بلاد حمص، وأنه إنما جاء لهذه البيعة، فذهب ذلك المولى فلم يزل يتلطف ويستدل على الدار التي يبايعون بها مسلم بن عقيل حتى دخلها، وهي دار هانئ بن عروة التي تحول إليها من الدار الأولى‏.‏

فبايع وأدخلوه على مسلم بن عقيل فلزمهم أياماً حتى اطلع على جلية أمرهم، فدفع المال إلى أبي ثمامة العامري بأمر مسلم بن عقيل - وكان هو الذي يقبض ما يؤتى به من الأموال ويشتري السلاح - وكان من فرسان العرب، فرجع ذلك المولى وأعلم عبيد الله بالدار وصاحبها‏.‏

وقد تحول مسلم بن عقيل إلى دار هانئ بن حميد بن عروة المرادي، ثم إلى دار شريك بن الأعور، وكان من الأمراء الأكابر، وبلغه أن عبيد الله يريد عيادته‏.‏

فبعث إلى هانئ يقول له‏:‏ ابعث مسلم بن عقيل حتى يكون في داري ليقتل عبيد الله إذا جاء يعودني‏.‏

فبعثه إليه فقال له شريك‏:‏ كن أنت في الخباء، فإذا جلس عبيد الله فإني أطلب الماء وهي إشارتي إليك، فاخرج فاقتله‏.‏

فلما جاء عبيد الله جلس على فراش شريك وعنده هانئ بن عروة، وقام من بين يديه غلام يقال له مهران، فتحدث عنده ساعة‏.‏

ثم قال شريك‏:‏ اسقوني، فتجبن مسلم عن قتله، وخرجت جارية بكوز من ماء، فوجدت مسلماً في الخباء فاستحيت ورجعت بالماء ثلاثاً‏.‏

ثم قال‏:‏ اسقوني، ولو كان فيه ذهاب نفسي أتحمونني من الماء‏؟‏

ففهم مهران الغدر، فغمز مولاه فنهض سريعاً وخرج‏.‏

فقال شريك‏:‏ أيها الأمير، إني أريد أن أوصي إليك‏.‏

فقال‏:‏ سأعود ‏!‏

فخرج به مولاه فأركبه وطرد به - أي ساق به - وجعل يقول له مولاه‏:‏ إن القوم أرادوا قتلك‏.‏

فقال‏:‏ ويحك إني بهم لرفيق، فما بالهم‏؟‏

وقال شريك لمسلم‏:‏ ما منعك أن تخرج فتقتله‏؟‏

قال‏:‏ حديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الإيمان ضد الفتك، لا يفتك مؤمن‏)‏‏)‏، وكرهت أن أقتله في بيتك‏.‏

فقال‏:‏ أَما لو قتلته لجلست في القصر لم يستعد منه أحد وليكفينك أمر البصرة، ولو قتلته لقتلت ظالماً فاجراً، ومات شريك بعد ثلاث‏.‏

ولما انتهى ابن زياد إلى باب القصر وهو متلثم ظنه النعمان بن بشير الحسين قد قدم، فأغلق باب القصر وقال‏:‏ ما أنا بمسلم إليك أمانتي‏.‏

فقال له عبيد الله‏:‏ افتح لأفتحنه، ففتح وهو يظنه الحسين، فلما تحقق أنه عبيد الله أسقط في يده، فدخل عبيد الله إلى قصر الإمارة وأمر منادياً فنادى‏:‏ إن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخرج إليهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد‏:‏

فإن أمير المؤمنين قد ولاني أمركم وثغركم وفيأكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، والشدة على مريبكم وعاصيكم، وإنما أنا ممتثل فيكم أمره ومنفذ عهده‏.‏

ثم نزل وأمر العرفاء أن يكتبوا من عندهم من الزورية وأهل الريب والخلاف والشقاق، وأيما عريف لم يطلعنا على ذلك صلب أو نفي، وأسقطت عرافته من الديوان - وكان هانئ أحد الأمراء الكبار - ولم يسلم على عبيد الله منذ قدم وتمارض، فذكره عبيد الله وقال‏:‏ ما بال هانئ لم يأتني مع الأمراء‏؟‏

فقالوا‏:‏ أيها الأمير إنه يشتكي‏.‏

فقال‏:‏ إنه بلغني أنه يجلس على باب داره‏.‏

وزعم بعضهم‏:‏ أنه عاده قبل شريك بن الأعور ومسلم بن عقيل عنده، وقد هموا بقتله فلم يمكنهم هانئ لكونه في داره‏.‏

فجاء الأمراء إلى هانئ بن عروة فلم يزالوا به حتى أدخلوه على عبيد الله بن زياد، فالتفت عبيد الله إلى القاضي فقال متمثلاً بقول الشاعر‏:‏

أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد

فلما سلم هانئ على عبيد الله قال‏:‏ يا هانئ أين مسلم بن عقيل‏؟‏

قال‏:‏ لا أدري‏.‏ :‏ ‏

فقام ذلك المولى التميمي الذي دخل دار هانئ في صورة قاصد من حمص فبايع في داره، ودفع الدراهم بحضرة هانئ إلى مسلم‏.‏

فقال‏:‏ أتعرف هذا‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فلما رآه هانئ قطع وأسقط في يده‏.‏

فقال‏:‏ أصلح الله الأمير، والله ما دعوته إلى منزلي، ولكنه جاء فطرح نفسه عليَّ‏.‏

فقال عبيد الله‏:‏ فأتني به‏.‏

فقال‏:‏ والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه‏.‏

فقال‏:‏ أدنوه مني، فأدنوه فضربه بحربة على وجهه فشجه على حاجبه وكسر أنفه، وتناول هانئ سيف شرطي ليسله فدفع عن ذلك‏.‏

وقال عبيد الله‏:‏ قد أحل الله لي دمك، لأنك حروري، ثم أمر به فحبسه في جانب الدار، وجاء قومه من بني مذحج مع عمرو بن الحجاج فوقفوا على باب القصر يظنون أنه قد قتل‏.‏

فسمع عبيد الله لهم جلبة، فقال لشريح القاضي وهو عنده‏:‏ أخرج إليهم فقل لهم إن الأمير لم يحبسه إلا ليسأله عن مسلم بن عقيل‏.‏

فقال لهم‏:‏ إن صاحبكم حي، وقد ضربه سلطاننا ضرباً لم يبلغ نفسه، فانصرفوا ولا تحلوا بأنفسكم ولا بصاحبكم‏.‏

فتفرقوا إلى منازلهم، وسمع مسلم بن عقيل الخبر فركب ونادى بشعاره‏:‏ يا منصور أمت‏.‏

فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، وكان معه المختار بن أبي عبيد، ومعه راية خضراء، عبد الله بن نوفل بن الحارث براية حمراء، فرتبهم ميمنة وميسرة وسار هو في القلب إلى عبيد الله، وهو يخطب الناس في أمر هانئ ويحذرهم من الاختلاف، وأشراف الناس وأمراؤهم تحت منبره‏.‏

فبينما هو كذلك إذ جاءت النظارة يقولون‏:‏ جاء مسلم بن عقيل، فبادر عبيد الله فدخل القصر ومن معه وأغلقوا عليهم الباب‏.‏

فلما انتهى مسلم إلى باب القصر وقف بجيشه هناك، فأشرف أمراء القبائل الذين عند عبيد الله في القصر، فأشاروا إلى قومهم الذين مع مسلم بالانصراف، وتهددوهم وتوعدوهم‏.‏

وأخرج عبيد الله بعض الأمراء وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذلون الناس عن مسلم بن عقيل، ففعلوا ذلك، فجعلت المرأة تجيء إلى ابنها وأخيها وتقول له‏:‏ ارجع إلى البيت، الناس يكفونك‏.‏

ويقول الرجل لابنه وأخيه‏:‏ كأنك غداً بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم‏؟‏

فتخاذل الناس وقصّروا وتصرّموا وانصرفوا عن مسلم بن عقيل، حتى لم يبق إلا في خمسمائة نفس‏.‏

ثم تقالّوا حتى بقي في ثلاثمائة، ثم تقالّوا حتى بقي معه ثلاثون رجلاً، فصلى بهم المغرب وقصد أبواب كندة فخرج منها في عشرة‏.‏

ثم انصرفوا عنه فبقي وحده ليس معه من يدله على الطريق، ولا من يؤانسه بنفسه، ولا من يأويه إلى منزله، فذهب على وجهه واختلط الظلام وهو وحده يتردد في الطريق لا يدري أين يذهب‏.‏

فأتى باباً فنزل عنده وطرقه، فخرجت منه امرأة يقال لها‏:‏ طوعة، كانت أم ولد للأشعث بن قيس، وقد كان لها ابن من غيره يقال له‏:‏ بلال بن أسيد، خرج مع الناس وأمه قائمة بالباب تنتظره‏.‏

فقال لها مسلم بن عقيل‏:‏ اسقني ماء فسقته، ثم دخلت وخرجت فوجدته‏.‏

فقالت‏:‏ ألم تشرب‏؟‏

قال‏:‏ بلى ‏!‏

قالت‏:‏ فاذهب إلى أهلك عافاك الله، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أجمله لك‏.‏

فقام فقال‏:‏ يا أمة الله ليس لي في هذا البلد منزل ولا عشيرة، فهل إلى أجر ومعروف وفعل نكافئك به بعد اليوم‏؟‏

فقالت‏:‏ يا عبد الله وما هو‏؟‏

قال‏:‏ أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم وغرّوني‏.‏

فقالت‏:‏ أنت مسلم‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قالت‏:‏ ادخل‏!‏ فأدخلته بيتاً من دارها غير البيت الذي يكون فيه وفرشت له، وعرضت عليه العشاء فلم يتعش، فلم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول والخروج، فسألها عن شأنها‏.‏

فقالت‏:‏ يا بني اله عن هذا، فألح عليها فأخذت عليه أن لا يحدث أحداً، فأخبرته خبر مسلم، فاضطجع إلى الصباح ساكتاً لا يتكلم‏.‏

وأما عبيد الله بن زياد فإنه نزل من القصر بمن معه من الأمراء والأشراف بعد العشاء الآخرة، فصلى بهم العشاء في المسجد الجامع‏.‏

ثم خطبهم وطلب منهم مسلم بن عقيل وحث على طلبه، ومن وجد عنده ولم يعلم به فدمه هدر، ومن جاء به فله ديته، وطلب الشرط وحثهم على ذلك وتهددهم‏.‏

فلما أصبح ابن تلك العجوز ذهب إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأعلمه بأن مسلم بن عقيل في دارهم، فجاء عبد الرحمن فسارّ أباه بذلك وهو عند ابن زياد‏.‏

فقال ابن زياد‏:‏ ما الذي سارّك به‏؟‏

فأخبره الخبر فنخس بقضيب في جنبه وقال‏:‏ قم فأتني به الساعة‏.‏

وبعث ابن زياد عمر بن حريث المخزومي - وكان صاحب شرطته - ومعه عبد الرحمن، ومحمد بن الأشعث في سبعين أو ثمانين فارساً، فلم يشعر مسلم إلا وقد أحيط بالدار التي هو فيها‏.‏

فدخلوا عليه فقام إليهم بالسيف فأخرجهم من الدار ثلاث مرات، وأصيبت شفته العليا والسفلى‏.‏

ثم جعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطناب القصب فضاق بهم ذرعاً، فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم‏.‏

فأعطاه عبد الرحمن الأمان فأمكنه من يده، وجاؤوا ببغلة فأركبوه عليها وسلبوا عنه سيفه، فلم يبق يملك من نفسه شيئاً‏.‏

فبكى عند ذلك وعرف أنه مقتول، فيئس من نفسه، وقال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

فقال بعض من حوله‏:‏ إن من يطلب مثل الذي تطلب لا يبكي إذا نزل به هذا‏.‏

فقال‏:‏ أما والله لست أبكي على نفسي، ولكن أبكي على الحسين، وآل الحسين، إنه قد خرج إليكم اليوم أو أمس من مكة، ثم التفت إلى محمد بن الأشعث فقال‏:‏ إن استطعت أن تبعث إلى الحسين على لساني تأمره بالرجوع فافعل‏.‏ ‏)‏

فبعث محمد بن الأشعث إلى الحسين يأمره بالرجوع فلم يصدق الرسول في ذلك، وقال‏:‏ كل ما حم الإله واقع‏.‏

قالوا‏:‏ ولما انتهى مسلم بن عقيل إلى باب القصر، إذا على بابه جماعة من الأمراء من أبناء الصحابة ممن يعرفهم ويعرفونه، ينتظرون أن يؤذن لهم على ابن زياد، ومسلم مخضب بالدماء في وجهه وثيابه، وهو مثخن بالجراح، وهو في غاية العطش، وإذا قلة من ماء بارد هنالك فأراد أن يتناولها ليشرب منها‏.‏

فقال له رجل من أولئك‏:‏ والله لا تشرب منها حتى تشرب من الحميم‏.‏

فقال له‏:‏ ويلك يا ابن ناهلة، أنت أولى بالحميم والخلود في نار الجحيم مني‏.‏

ثم جلس فتساند إلى الحائط من التعب والكلال والعطش، فبعث عمارة بن عقبة بن أبي معيط مولى له إلى داره فجاء بقلة عليها منديل، ومعه قدح‏.‏

فجعل يفرغ له في القدح ويعطيه فيشرب فلا يستطيع أن يسيغه من كثرة الدماء التي تعلو على الماء مرتين أو ثلاثاً، فلما شرب سقطت ثناياه مع الماء‏.‏

فقال‏:‏ الحمد لله لقد كان بقي لي من الرزق المقسوم شربة ماء‏.‏

ثم أدخل على ابن زياد، فلما وقف بين يديه لم يسلم عليه‏.‏

فقال له الحرسي‏:‏ ألا تسلم على الأمير‏؟‏ ‏!‏

فقال‏:‏ لا ‏!‏ إن كان يريد قتلي فلا حاجة لي بالسلام عليه، وإن لم يرد قتلي فسأسلم عليه كثيراً‏.‏

فأقبل ابن زياد عليه فقال‏:‏ إيه يا ابن عقيل، أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتتهم وتفرق كلمتهم، وتحمل بعضهم على قتل بعض‏؟‏

قال‏:‏ كلا لست لذلك أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب‏.‏

قال‏:‏ وما أنت وذاك يا فاسق‏؟‏ لم لا كنت تعمل بذلك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ أنا أشرب الخمر‏؟‏ ‏!‏ والله إن الله ليعلم أنك غير صادق، وأنك قلت بغير علم، وأنت أحق بذلك مني، فإني لست كما ذكرت، وإن أولى بها مني من يلغ في دماء المسلمين ولغاً، ويقتل النفس التي حرم الله بغير نفس، ويقتل على الغضب والظن، وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئاً‏.‏

فقال له ابن زياد‏:‏ يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حال الله دونك ودونه، ولم يرك أهله‏.‏

قال‏:‏ فمن أهله يا ابن زياد‏؟‏

قال‏:‏ أمير المؤمنين يزيد‏.‏

قال‏:‏ الحمد لله على كل حال، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم‏.‏

قال‏:‏ كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئاً‏؟‏

قال‏:‏ لا والله ما هو بالظن ولكنه اليقين‏.‏

قال له‏:‏ قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحد في الإسلام من الناس‏.‏

قال‏:‏ أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، أما إنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة المكتسبة عن كتابكم وجهالكم‏.‏

وأقبل ابن زياد يشتمه، ويشتم حسيناً وعلياً، ومسلم ساكت لا يكلمه‏.‏ رواه ابن جرير، عن أبي مخنف وغيره من رواة الشيعة‏.‏

ثم قال له ابن زياد‏:‏ إني قاتلك‏.‏

قال‏:‏ كذلك‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فدعني أوصي إلى بعض قومي‏.‏

قال‏:‏ أوص‏.‏

فنظر في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص‏.‏

فقال‏:‏ يا عمر إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك‏.‏ فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد‏.‏

فقام فتنحى قريباً من ابن زياد، فقال له مسلم‏:‏ إنّ عليّ ديناً في الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عني، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين، فإني كنت كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلاً‏.‏

فقام عمر فعرض على ابن زياد ما قال له، فأجاز ذلك له كله‏.‏

وقال‏:‏ أما الحسين فإنه لم يردنا لا نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه‏.‏

ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل فأصعد إلى أعلا القصر، وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ويقول‏:‏ اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا‏.‏

ثم ضرب عنقه رجل يقال له‏:‏ بكير بن حمران، ثم ألقي رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده‏.‏

ثم أمر بهانئ بن عروة المذحجي فضربت عنقه بسوق الغنم، وصُلب بمكان من الكوفة يقال له‏:‏ الكناسة‏.‏

فقال رجل شاعر في ذلك قصيدة‏:‏

فان كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هانئ في السوق وابن عقيل

أصابهما أمر الإمام فأصبحا * أحاديث من يغشى بكل سبيل

إلى بطلٍ قد هشم السيف وجهه * وآخر يهوي في طمار قتيل

ترى جسداً قد غير الموت لونه * ونضح دمٍ قد سال كلّ مسيل

فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم * فكونوا بغياً أرضيت بقليل

ثم إن ابن زياد قتل معهما أناساً آخرين، ثم بعث برؤوسهما إلى يزيد بن معاوية إلى الشام، وكتب له كتاباً صورة ما وقع من أمرهما‏.‏

وقد كان عبيد الله قبل أن يخرج من البصرة بيوم خطب أهلها خطبة بليغة، ووعظهم فيها وحذرهم، وأنذرهم من الاختلاف والفتنة والتفرق‏.‏

وذلك لما رواه هشام بن الكلبي وأبو مخنف، عن الصقعب بن زهير، عن أبي عثمان النهدي‏.‏

قال‏:‏ بعث الحسين مع مولى له يقال له‏:‏ سلمان كتاباً إلى أشراف أهل البصرة فيه‏:‏

أما بعد‏:‏

فإن الله اصطفى محمداً على خلقه وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به، وكنا أهله وأولياءه وورثته وأحق الناس به وبمقامه في الناس‏.‏

فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه، وقد أحسنوا وأصلحوا، وتحروا الحق فرحمهم الله وغفر لنا ولهم‏.‏

وقد بعثت إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فإن السنة قد أميتت، وإن البدعة قد أحييت، فتسمعوا قولي وتطيعوا أمري، فإن فعلتم أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله‏.‏

وعندي في صحة هذا عن الحسين نظر، والظاهر أنه مطرز بكلام مريد من بعض رواة الشيعة‏.‏

قال‏:‏ فكل من قرأ ذلك من الأشراف كتمه إلا المنذر بن الجارود فإنه ظن أنه دسيسة من ابن زياد، فجاء به إليه، فبعث خلف الرسول الذي جاء به من حسين فضرب عنقه، وصعد عبيد الله بن زياد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد‏:‏

فوالله ما بي تقرن الصعبة، وما يقعقع لي بالشنان، وإني لنكال لمن عاداني، وسهام لمن حاربني، أنصف القارة من رماها‏.‏

يا أهل البصرة إن أمير المؤمنين ولاني الكوفة وأنا غادٍ إليها الغداة، وقد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان، وإياكم والخلاف والإرجاف، فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقصى‏.‏

حتى يستقيم لي الأمر، ولا يكن فيكم مخالف ولا مشاقق، أنا ابن زياد أشبهته من بين مَنْ وطئ الحصى، ولم يتنزعني شبه خالٍ ولا عمٍ‏.‏

ثم خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي فكان من أمره ما تقدم‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ عن الصقعب بن زهير، عن عون بن جحيفة قال‏:‏ كان مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة، وقتل يوم الأربعاء لتسع مضين من ذي الحجة، وذلك يوم عرفة سنة ستين‏.‏

وكان ذلك بعد مخرج الحسين من مكة قاصداً أرض العراق بيوم واحد، وكان خروج الحسين من المدينة إلى مكة يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين، ودخل مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، فأقام بمكة بقية شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة‏.‏

وخرج من مكة لثمان مضين من ذي الحجة يوم الثلاثاء يوم التروية‏.‏

وفي رواية ذكرها ابن جرير‏:‏ أن مسلم بن عقيل لما بكى قال له عبيد الله بن عباس السلمي‏:‏ إن من يطلب مثل ما تطلب لا يبكي إذ أنزل به مثل الذي نزل بك‏.‏

قال‏:‏ إني والله ما لنفسي أبكي، ومالها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكنني أبكي لأهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي الحسين وآل حسين‏.‏

ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال‏:‏ يا عبد الله ‏!‏ إني والله أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير تستطيع أن تبعث رجلاً على لساني يبلغ حسيناً عني رسالة‏؟‏

فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم أو غداً هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جزعي لذلك، فتقول له‏:‏ إن ابن عقيل بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يقتل‏.‏

وهو يقول لك‏:‏ ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لكاذب رأي‏.‏

فقال ابن الأشعث‏:‏ والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ فدعا محمد بن الأشعث إياس بن العباس الطائي من بني مالك بن ثمامة - وكان شاعراً - فقال له‏:‏ اذهب فالق حسيناً فأبلغه هذا الكتاب - وكتب فيه الذي أمره به ابن عقيل - ثم أعطاه راحلة وتكفل له بالقيام بأهله وداره‏.‏

فخرج حتى لقي الحسين بزبالة، لأربع ليال من الكوفة فأخبره الخبر وأبلغه الرسالة‏.‏

فقال الحسين‏:‏ كل ما حم نازل، عند الله نحتسب وأنفسنا وفساد أئمتنا‏.‏

ولما انتهى مسلم إلى باب القصر وأراد شرب الماء قال له مسلم بن عمرو الباهلي‏:‏ أتراها ما أبردها‏؟‏ والله لا تذوقها أبداً حتى تذوق الحميم في نار جهنم‏.‏

فقال ابن عقيل‏:‏ ويحك من أنت‏؟‏

قال‏:‏ أنا من عرف الحق إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيت، أنا مسلم بن عمرو الباهلي‏.‏

فقال له مسلم‏:‏ لأمك الويل ‏!‏ ما أجفاك وأفظّك، وأغلظك يا ابن ناهلة ‏!‏‏!‏ أنت والله أولى بالحميم ونار الجحيم‏.‏