الجزء الثامن - صفة مخرج الحسين إلى العراق

صفة مخرج الحسين إلى العراق

لما تواترت الكتب إلى الحسين من جهة أهل العراق وتكررت الرسل بينهم وبينه، وجاءه كتاب مسلم بن عقيل بالقدوم عليه بأهله، ثم وقع في غبون ذلك ما وقع من قتل مسلم بن عقيل، والحسين لا يعلم بشيء من ذلك‏.‏

بل قد عزم على المسير إليهم، والقدوم عليهم، فاتفق خروجه من مكة أيام التروية قبل مقتل مسلم بيوم واحد - فإن مسلماً قتل يوم عرفة - ولما استشعر الناس خروجه أشفقوا عليه من ذلك، وحذروه منه، وأشار عليه ذوو الرأي منهم والمحبة له بعدم الخروج إلى العراق، وأمروه بالمقام بمكة، وذكره ما جرى لأبيه وأخيه معهم‏.‏

قال سفيان بن عيينة‏:‏ عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ استشارني الحسين بن علي في الخروج‏.‏

فقلت‏:‏ لولا أن يزري بي وبك الناس لشبثت يدي في رأسك فلم أتركك تذهب‏.‏

فكان الذي ردّ عليّ أن قال‏:‏ لأن أقتل في مكان كذا وكذا أحب إليّ من أن أقتل بمكة‏.‏

قال‏:‏ فكان هذا الذي سلَّى نفسي عنه‏.‏

وروى أبو مخنف‏:‏ عن الحارث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان‏:‏ أن حسيناً لما أجمع المسير إلى الكوفة أتاه ابن عباس فقال‏:‏ يا ابن عم إنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع‏؟‏

فقال‏:‏ إني قد أجمعت المسير في أحد يوميّ هذين إن شاء الله تعالى‏.‏

فقال له ابن عباس‏:‏ أخبرني إن كان قد دعوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم، وإن كان أميرهم حي وهو مقيم عليهم، قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك‏.‏

فقال الحسين‏:‏ إني أستخير الله وأنظر ما يكون‏.‏

فخرج ابن عباس عنه، ودخل ابن الزبير فقال له‏:‏ ما أدري ما تركنا لهؤلاء القوم ونحن أبناء المهاجرين، وولاة هذا الأمر دونهم، أخبرني ما تريد أن تصنع ‏؟‏‏.‏

فقال الحسين‏:‏ والله لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إلىّ شيعتي بها وأشرافها بالقدوم عليهم، وأستخير الله‏.‏

فقال ابن الزبير‏:‏ أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت عنها‏.‏

فلما خرج من عنده، قال الحسين‏:‏ قد علم ابن الزبير أنه ليس له من الأمر معي شيء، وأن الناس لم يعدلوا بي غيري، فود أني خرجت لتخلو له‏.‏

فلما كان من العشي أو من الغد، جاء ابن عباس إلى الحسين فقال له‏:‏ يا ابن عم ‏!‏ إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصوناً وشعاباً، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس في معزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب‏.‏

فقال الحسين‏:‏ يا ابن عم ‏!‏ والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير‏.‏

فقال له‏:‏ فإن كنت ولا بد سائراً فلا تسر بأولادك ونسائك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه‏.‏

ثم قال ابن عباس‏:‏ أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه بالحجاز، فوالله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع عليّ وعليك الناس أطعتني وأقمت لفعلت ذلك‏.‏

قال‏:‏ ثم خرج من عنده فلقي ابن الزبير فقال‏:‏ قرت عينك يا ابن الزبير‏؟‏ ثم قال‏:‏

يالك من قنبرةٍ بمعمرٍ * خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئت أن تنقري * صيادك اليوم قتيل فابشري

ثم قال ابن عباس‏:‏ هذا حسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ عن شبابة بن سوار‏.‏

قال‏:‏ حدثنا يحيى بن إسماعيل بن سالم الأسدي‏.‏

قال‏:‏ سمعت الشعبي يحدث عن ابن عمر‏:‏ أنه كان بمكة فبلغه أن الحسين بن علي قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاث ليالٍ، فقال‏:‏ أين تريد‏؟‏

قال‏:‏ العراق، وإذا معه طوامير وكتب، فقال‏:‏ هذه كتبهم وبيعتهم‏.‏

فقال‏:‏ لا تأتهم؛ فأبى‏.‏

فقال ابن عمر‏:‏ إني محدثك حديثاً، إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وإنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والله ما يليها أحد منكم أبداً؛ وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع‏.‏

قال‏:‏ فاعتنقه ابن عمر وبكى قال‏:‏ أستودعك الله من قتيل‏.‏

وقال يحيى بن معين‏:‏ حدثنا أبو عبيدة، ثنا سليم بن حيان، عن سعيد بن مينا‏.‏

قال‏:‏ سمعت عبد الله بن عمرو يقول‏:‏ عجل حسين قدره، والله لو أدركته ما تركته يخرج إلا أن يغلبني، ببني هاشم فتح هذا الأمر، وببني هاشم يختم، فإذا رأيت الهاشمي قد ملك فقد ذهب الزمان‏.‏

قلت‏:‏ وهذا مع حديث ابن عمر يدل على أن الفاطميين أدعياء كذبة، لم يكونوا من سلالة فاطمة كما نص عليه غير واحد من الأئمة على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله‏.‏ وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا أبو بكر الحميدي، ثنا أبو سفيان، ثنا عبد الله بن شريك، عن بشر بن غالب‏.‏

قال‏:‏ قال ابن الزبير للحسين‏:‏ أين تذهب‏؟‏ إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك‏؟‏

فقال‏:‏ لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إليّ من أن تستحل بي - يعني‏:‏ مكة -‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ حدثني عمي مصعب بن عبد الله أخبرني من سمع هشام بن يوسف يقول عن معمر قال‏:‏ سمعت رجلاً يحدّث عن الحسين أنه قال لعبد الله بن الزبير‏:‏ أتتني بيعة أربعين ألفاً يحلفون بالطلاق والعتاق إنهم معي‏.‏

فقال له ابن الزبير‏:‏ أتخرج إلى قوم قتلوا أباك وأخرجوا أخاك‏؟‏

قال هشام‏:‏ فسألت معمراً عن الرجل فقال‏:‏ هو ثقة‏.‏

قال الزبير‏:‏ وقال عمي‏:‏ وزعم بعض الناس أن ابن عباس هو الذي قال هذا‏.‏

وقد ساق محمد بن سعد كاتب الواقدي هذا سياقاً حسناً مبسوطاً‏.‏

فقال‏:‏ أنبأنا علي بن محمد، عن يحيى بن إسماعيل بن أبي المهاجر، عن أبيه، وعن لوط يحيى العامري، عن محمد بن بشير الهمداني وغيره، وعن محمد بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير، عن هارون بن عيسى، عن يونس بن إسحاق، عن أبيه، وعن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن مجالد، عن الشعبي‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وغير هؤلاء قد حدثني أيضاً في هذا الحديث بطائفة فكتبت جوامع حديثهم في مقتل الحسين رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

قالوا‏:‏ لما بايع الناس معاوية ليزيد كان حسين ممن لم يبايع له، وكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، كل ذلك يأبى عليهم، فقدم منهم قوم إلى محمد بن الحنفية يطلبون إليه أن يخرج معهم فأبى، وجاء إلى الحسين يعرض عليه أمرهم‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا، ويستطيلوا بنا، ويستنبطوا دماء الناس ودماءنا، فأقام حسين على ما هو عليه من الهموم، مرة يريد أن يسير إليهم، ومرة يجمع الإقامة عنهم‏.‏

فجاءه أبو سعيد الخدري فقال‏:‏ يا أبا عبد الله ‏!‏ إني لكم ناصح، وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه قد كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم، فإني سمعت أباك يقول بالكوفة‏:‏ والله لقد مللتهم وأبغضتهم، وملوني وأبغضوني، وما يكون منهم وفاء قط، ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، والله ما لهم نيات ولا عزم على أمر، ولا صبر على السيف‏.‏

قال‏:‏ وقدم المسيب بن عتبة الفزاري في عدة معه إلى الحسين بعد وفاة الحسن، فدعوه إلى خلع معاوية وقالوا‏:‏ قد علمنا رأيك ورأي أخيك‏.‏

فقال‏:‏ إني لأرجو أن يعطي الله أخي على نيته في حبه الكف، وأن يعطيني على نيتي في حبي جهاد الظالمين‏.‏

وكتب مروان إلى معاوية‏:‏ إني لست آمن أن يكون حسين مرصداً للفتنة، وأظن يومكم من حسين طويلاً‏.‏

فكتب معاوية إلى الحسين‏:‏ إن من أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء، وقد أنبئت أن قوماً من أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق، وأهل العراق من قد جربت قد أفسدوا على أبيك وأخيك، فاتق الله واذكر الميثاق، فإنك متى تكدني أكدك‏.‏

فكتب إليه الحسين‏:‏ أتاني كتابك وأنا بغير الذي بلغك عني جدير، والحسنات لا يهدي لها إلا الله، وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافاً، وما أظن لي عند الله عذراً في ترك جهادك، وما أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمة

فقال معاوية‏:‏ إن أثرنا بأبي عبد الله إلا شراً‏.‏

وكتب إليه معاوية أيضاً في بعض ما بلغه عنه‏:‏ إني لأظن أن في رأسك نزوة، فوددت أني أدركها فأغفرها لك‏.‏

قالوا‏:‏ فلما احتضر معاوية دعا يزيد فأوصاه بما أوصاه به، فقال له‏:‏ انظر حسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله، فإنه أحب الناس إلى الناس، فصِلْ رحمه، وارفق به، يصلح لك أمره، فإن يكن منه شيء فإني أرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه‏.‏

وتوفي معاوية ليلة النصف من رجب سنة ستين، وبايع الناس يزيد، فكتب يزيد مع عبد الله بن عمرو بن أويس العامري عامر بن لؤي، إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وهو على المدينة‏:‏ أن ادع الناس فبايعهم، وابدأ بوجوه قريش، وليكن أول من تبدأ به الحسين بن علي، فإن أمير المؤمنين عهد إليّ في أمره الرفق به واستصلاحه‏.‏

فبعث الوليد من ساعته نصف الليل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير فأخبرهما بوفاة معاوية، ودعاهما إلى البيعة ليزيد بن معاوية‏.‏

فقالا‏:‏ إلى أن نصبح وننظر ما يصنع الناس، ووثب الحسين فخرج وخرج معه ابن الزبير وقالا‏:‏ هو يزيد الذي نعرف، والله ما حدث له عزم ولا مروءة‏.‏

وقد كان الوليد أغلظ للحسين فشتمه الحسين وأخذ عمامته فنزعها من رأسه‏.‏

فقال الوليد‏:‏ إن هجنا بأبي عبد الله إلا شراً‏.‏

فقال له مروان - أو بعض جلسائه - اقتله‏.‏

فقال‏:‏ إن ذلك لدم مضنون به مصون في بني عبد مناف‏.‏

قالوا‏:‏ وخرج الحسين وابن الزبير من ليلتهما إلى مكة، وأصبح الناس فغدوا على البيعة ليزيد، وطلب الحسين وابن الزبير فلم يوجدا‏.‏

فقال المسور بن مخرمة‏:‏ عجل الحسين وابن الزبير يلفته ويرجيه ليخلو بمكة، فقدما مكة فنزل الحسين دار العباس، ولزم ابن الزبير الحجر، ولبس المعافري وجعل يحرض الناس على بني أمية، وكان يغدو ويروح إلى الحسين ويشير عليه أن يقدم العراق، ويقول‏:‏ هم شيعتك وشيعة أبيك‏.‏

وكان ابن عباس ينهاه عن ذلك، وقال له عبد الله بن مطيع‏:‏ إني فداؤك وأبي وأمي، فأمتعنا بنفسك ولا تسر إلى العراق، فوالله لئن قتلك هؤلاء القوم ليتخذونا عبيداً وخولاً‏.‏

قالوا‏:‏ ولقيهما عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وابن أبي ربيعة بالأبواء، منصرفين من العمرة‏.‏

فقال لهما ابن عمر‏:‏ أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس، وتنظرا فإن اجتمع الناس عليه فلم تشذا، وإن افترقوا عليه كان الذي تريدان‏.‏

وقال ابن عمر للحسين‏:‏ لا تخرج فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وإنك بضعة منه ولا تنالها - يعني‏:‏ الدنيا - واعتنقه وبكى وودعه، فكان ابن عمر يقول‏:‏ غلبنا حسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، فرأى من الفتنة وخذلان الناس لهما ما كان ينبغي له أن لا يتحرك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير‏.‏

وقال له ابن عباس‏:‏ وأين تريد يا ابن فاطمة‏؟‏

فقال‏:‏ العراق وشيعتي‏.‏

فقال‏:‏ إني لكاره لوجهك هذا تخرج إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك حتى تركهم سخطة وملالة لهم‏؟‏ أذكرك الله أن تغرر بنفسك‏.‏ وقال أبو سعيد الخدري‏:‏ غلبني الحسين على الخروج، وقلت له‏:‏ اتق الله في نفسك والزم بيتك ولا تخرج على إمامك‏.‏

وقال أبو واقد الليثي‏:‏ بلغني خروج الحسين بن علي فأدركته بملل، فناشدته الله أن لا يخرج فإنه يخرج في غير وجه خروج، إنما خرج يقتل نفسه‏.‏

فقال‏:‏ لا أرجع‏.‏

وقال جابر بن عبد الله‏:‏ كلمت حسيناً فقلت‏:‏ اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ما حمدتم ما صنعتم، فعصاني‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ لو أن حسيناً لم يخرج لكان خيراً له‏.‏

وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن‏:‏ وقد كان ينبغي لحسين أن يعرف أهل العراق ولا يخرج إليهم، ولكن شجعه على ذلك ابن الزبير‏.‏

وكتب إليه المسور بن مخرمة‏:‏ إياك أن تغتر بكتب أهل العراق وبقول ابن الزبير‏:‏ الحق بهم فإنهم ناصروك‏.‏

وقال له ابن عباس‏:‏ لا تبرح الحرم، فإنهم إن كانت بهم إليك حاجة فسيضربون إليك أباط الإبل حتى يوافوك فتخرج في قوة وعدة‏.‏

فجزاه خيراً وقال‏:‏ أستخير الله في ذلك‏.‏

وكتبت إليه عمرة بنت عبد الرحمن تعظم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنه إن لم يفعل إنما يساق إلى مصرعه‏.‏

وتقول‏:‏ أشهد لسمعت عائشة تقول‏:‏ إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يقتل الحسين بأرض بابل‏)‏‏)‏‏.‏

فلما قرأ كتابها قال‏:‏ فلا بد لي إذا من مصرعي ومضى‏.‏

وأتاه بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال له‏:‏ يا ابن عم قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك من قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره، فأذكرك الله في نفسك‏.‏

فقال‏:‏ جزاك الله يا ابن عم خيراً، مهما يقضي الله من أمر يكن‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، نحتسب أباه عبد الله عند الله‏.‏

وكتب إليه عبد الله بن جعفر كتاباً يحذره أهل العراق ويناشده الله إن شخص إليهم‏.‏

فكتب إليه الحسين‏:‏ إني رأيت رؤيا، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بأمر وأنا ماضٍ له، ولست بمخبر بها أحداً حتى ألاقي عملي‏.‏

وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص نائب الحرمين‏:‏ إني أسأل الله أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عما يرديك، بلغني أنك قد عزمت على الشخوص إلى العراق، وإني أعيذك الله من الشقاق، فإنك إن كنت خائفاً فأقبل إليّ، فلك عندي الأمان والبر والصلة‏.‏

فكتب إليه الحسين‏:‏ إن كنت أردت بكتابك بري وصلتي فجزيت خيراً في الدنيا والآخرة، وأنه لم يشاقق من دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين، وخير الأمان أمان الله، ولم يؤمن بالله من لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أماناً يوم القيامة عنده‏.‏

قالوا‏:‏ وكتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس يخبره بخروج الحسين إلى مكة، وأحسبه قد جاءه رجال من أهل المشرق فمنوه الخلافة، وعندك منهم خبر وتجربة، فإن كان قد فعل فقد قطع راسخ القرابة، وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكففه عن السعي في الفرقة‏.‏

وكتب لهذه الأبيات إليه وإلى من بمكة والمدينة من قريش‏:‏

يا أيها الراكب العادي مطيته * على غدافرةٍ في سيرها فحم

أبلغ قريشاً على نأي المزار بها * بيني وبين حسين الله والرحم

وموقف بفناء البيت أنشده * عهد الإله وما توفي به الذمم

عنيتم قومكم فخراً بأمكم * أم لعمري حصان برة كرم

هي التي لا يداني فضلها أحدٌ * بنت الرسول وخير الناس قد علموا

وفضلها لكم فضل وغيركم * من قومكم لهم في فضلها قسم

إني لأعلم أو ظناً كعالمه * والظن يصدق أحياناً فينتظم

أن سوف يترككم ما تدعون بها * قتلى تهاداكم العقبان والرخم

يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ مسكت * ومسكوا بحبال السلم واعتصموا

قد جرب الحرب من قد كان قبلكم * من القرون وقد باذت بها الأمم

فانصفوا قومكم لا تهلكوا برحاً * فرب ذي برحٍ زلت به القدم

قال‏:‏ فكتب إليه ابن عباس‏:‏ إني لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كل ما تجتمع به الألفة وتطفي به الثائرة‏.‏

ودخل ابن عباس على الحسين فكلمه طويلاً وقال له‏:‏ أنشدك أن تهلك غداً بحال مضيعة لا تأتي العراق، وإن كنت لا بد فاعلاً فأقم حتى ينقضي الموسم وتلقى الناس وتعلم ما يصدرون، ثم ترى رأيك، وذلك في عشر ذي الحجة‏.‏

فأبى الحسين إلا أن يمضي إلى العراق، فقال له ابن عباس‏:‏ والله إني لأظنك ستقتل غداً بين نسائك وبناتك كما قتل عثمان بين نسائه وبناته، والله إني لأخاف أن تكون أنت الذي يقاد به عثمان، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ أبا العباس إنك شيخ قد كبرت‏.‏

فقال له ابن عباس‏:‏ لولا أن يزري ذلك بي وبك لنشبت يدي في رأسك، ولو أعلم أنا إذا تباصينا أقمت لفعلت، ولكن لا أخال ذلك مانعك‏.‏

فقال الحسين‏:‏ لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إليّ من أن أقتل بمكة وتستحل بي‏.‏

قال‏:‏ فبكى ابن عباس وقال‏:‏ أقررت عين ابن الزبير بذلك، وذلك الذي سلى نفسي عنه‏.‏

قال‏:‏ ثم خرج ابن عباس عنه وهو مغضب وابن الزبير على الباب، فلما رآه قال‏:‏ يا ابن الزبير قد أتى ما أحببت، قرت عينك، هذا أبو عبد الله خارج ويتركك والحجاز، ثم قال‏:‏

يالكِ من قنبرةٍ بمعمر * خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئت أن تنقري * صيادك اليوم قتيل فأبشري

قال‏:‏ وبعث الحسين إلى المدينة يقدم عليه من خفّ من بني عبد المطلب، وهم تسعة عشر رجلاً ونساء وصبيان من إخوته وبناته ونسائه، وتبعهم محمد بن الحنفية، فأدرك حسيناً بمكة، فأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومه هذا‏.‏

فأبى الحسين أن يقبل، فحبس محمد بن الحنفية ولده فلم يبعث أحداً منهم حتى وجد الحسين في نفسه على محمد، وقال‏:‏ ترغب بولدك عن موضع أُصاب فيه‏؟‏

فقال‏:‏ وما حاجتي إلى أن تصاب ويصابون معك‏؟‏

وإن كانت مصيبتك أعظم عندنا منهم‏؟‏

قالوا‏:‏ وبعث أهل العراق إلى الحسين الرسل والكتب يدعونه إليهم، فخرج متوجهاً إليهم في أهل بيته وستين شخصاً من أهل الكوفة صحبته، وذلك يوم الاثنين في عشر ذي الحجة‏.‏

فكتب مروان إلى ابن زياد‏:‏ أما بعد فإن الحسين بن علي قد توجه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا من الحسين، فإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء، ولا تنساه العامة، ولا تدع ذكره آخر الدهر، والسلام‏.‏

وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص‏:‏ أما بعد فقد توجه إليك الحسين، وفي مثلها تعتق أو تكون عبداً تسترق كما يسترق العبيد‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ كتب يزيد إلى ابن زياد‏:‏ إنه قد بلغني أن حسيناً قد سار إلى الكوفة، وقد ابتلى به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت أنت به من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبداً كما ترق العبيد وتعبّد، فقتله ابن زياد وبعث برأسه إليه‏.‏

قلت‏:‏ والصحيح أنه لم يبعث برأس الحسين إلى الشام كما سيأتي

وفي رواية‏:‏ أن يزيد كتب إلى ابن زياد‏:‏ قد بلغني أن الحسين قد توجه إلى نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس واحبس على الظنة وخذ على التهمة، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إليّ في كل ما يحدث من خبر والسلام‏.‏

قال الزبير بن بكار‏:‏ وحدثني محمد بن الضحاك قال‏:‏ لما أراد الحسين الخروج من مكة إلى الكوفة مر بباب المسجد الحرام وقال‏:‏

لا ذعرت السوام في فلق الصبح * مغيراً ولا دعيت يزيدا

يوم أعطي مخافة الموت ضيماً * والمنايا ترصدنني أن أحيدا

وقال أبو مخنف‏:‏ قال أبو جناب يحيى بن أبي خيثمة‏:‏ عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عبد الله بن سليم، والمنذر بن المشمعل الأسديين قالا‏:‏ خرجنا حاجين من الكوفة فقدمنا مكة فدخلنا يوم التروية فإذا نحن بالحسين وابن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحجر والباب، فسمعنا ابن الزبير وهو يقول للحسين‏:‏ إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا الأمر فوازرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك‏؟‏

فقال الحسين‏:‏ إن أبي حدثني أن لها كبشاً يستحل حرمتها يقتل، فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش‏.‏

فقال له ابن الزبير‏:‏ فأقم إن شئت وولني أنا الأمر فتطاع ولا تعصى‏.‏

فقال‏:‏ وما أريد هذا أيضاً‏.‏

ثم إنهما أخفيا كلامهما دوننا، فما زالا يتناجيان حتى سمعنا دُعَاةَ الناس متوجهين إلى منى عند الظهيرة‏.‏

قالا‏:‏ فطاف الحسين بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصَّر من شعره، وحل من عمرته، ثم توجه نحو الكوفة وتوجهنا نحن مع الناس إلى منى‏.‏

وقال أبو مخنف‏:‏ حدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان‏.‏

قال‏:‏ لما خرج الحسين من مكة اعترضه رسل عمرو بن سعيد - يعني‏:‏ نائب مكة - عليهم أخوه يحيى بن سعيد، فقالوا له‏:‏ انصرف أين تريد‏؟‏

فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان وتضاربوا بالسياط والعصي، ثم إن حسيناً وأصحابه امتنعوا منهم امتناعاً قوياً، ومضى الحسين على وجهه ذلك، فناداه‏:‏ يا حسين ألا تتقي الله‏؟‏

تخرج من الجماعة وتفرق بين الأمة بعد اجتماع الكلمة‏؟‏

قال‏:‏ فتأول الحسين هذه الآية‏:‏ ‏{‏لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 41‏]‏‏.‏

قال‏:‏ ثم إن الحسين مر بالتنعيم فلقي بها عيراً قد بعث بها بجير بن زياد الحميري نائب اليمن قد أرسلها من اليمن إلى يزيد بن معاوية، عليها ورس وحلل كثيرة، فأخذها الحسين وانطلق بها، واستأجر أصحاب الجمال عليها إلى الكوفة، ودفع إليهم أجرتهم‏.‏

ثم ساق أبو مخنف بإسناده الأول‏:‏ أن الفرزدق لقي الحسين في الطريق فسلم عليه وقال له‏:‏ أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب‏.‏

فسأله الحسين عن أمر الناس وما وراءه فقال له‏:‏ قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء‏.‏

فقال له‏:‏ صدقت، لله الأمر من قبل ومن بعد، يفعل ما يشاء، وكل يوم ربنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدّ من كان الحق نيته، والتقوى سريرته، ثم حرك الحسين راحلته وقال‏:‏ السلام عليكم ثم افترقا‏.‏

وقال هشام بن الكلبي‏:‏ عن عوانة بن الحكم، عن ليطة بن غالب بن الفرزدق، عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ حججت بأمي فبينما أنا أسوق بها بعيرها حين دخلت الحرم في أيام الحج، وذلك في سنة ستين، إذ لقيت الحسين خارجاً من مكة معه أسيافه وأتراسه، فقلت له‏:‏ بأبي وأمي يا بن رسول الله، ما أعجلك عن الحج‏؟‏

فقال‏:‏ لو لم أعجل لأخِذتُ، ثم سألني ممن أنت‏؟‏

فقلت‏:‏ امرؤ من العراق، فسألني عن الناس فقلت له‏:‏ القلوب معك والسيوف مع بني أمية، وذكر نحو ما تقدم‏.‏

قال الفرزدق‏:‏ وسألت الحسين عن أشياء وعن المناسك فأخبرني بها، قال‏:‏ وإذا هو ثقيل اللسان من برسام كان أصابه بمن بالعراق‏.‏

قال‏:‏ ثم مضيت فإذا فسطاط مضروب في الحرم وهيئة حسنه، فإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص، فسألني فأخبرته أني لقيت الحسين، قال‏:‏ فهلا أتبعته‏؟‏ فإن الحسين لا يحيك فيه السلاح ولا يجوز فيه وفي أصحابه‏.‏

فندم الفرزدق وهمَّ أن يلحق به، ووقع في قلبه مقالة ابن عمرو، ثم ذكرت الأنبياء وقتلهم فصدني ذلك عن اللحاق به‏.‏

فلما بلغه أنه قتل لعن ابن عمرو، وكان ابن عمرو يقول‏:‏ والله لا تبلغ الشجرة ولا النخلة ولا الصغير حتى يبلغ هذا الأمر ويظهر، وإنما أراد ابن عمرو بقوله‏:‏ لا يحيك فيه السلاح، أي‏:‏ السلاح الذي لم يقدر أن يقتل به‏.‏

وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ أراد الهزل بالفرزدق‏.‏

قالوا‏:‏ ثم سار الحسين لا يلوي على شيء حتى نزل ذات عرق‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ فحدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن على بن الحسين بن علي‏.‏

قال‏:‏ لما خرجنا من مكة كتب عبد الله بن جعفر إلى الحسين مع ابنه عون ومحمد‏:‏

أما بعد‏:‏

فإني أسائلك بالله لما انصرفت حتى تنظر في كتابي هذا، فإني مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت اليوم طفئ نور الإسلام، فإنك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإني في أثر كتابي والسلام‏.‏

ثم نهض عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد نائب مكة، فقال له‏:‏ اكتب إلى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنيه في البر والصلة، وتوثق له في كتابك، وتسأله الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع‏.‏

فقال له عمرو‏:‏ اكتب عني ما شئت وأتني به حتى أختمه‏.‏

فكتب ابن جعفر على لسان عمرو بن سعيد ما أراد عبد الله، ثم جاء بالكتاب إلى عمرو فختمه بخاتمة، وقال عبد الله لعمرو بن سعيد‏:‏ ابعث معي أمانك، فبعث معه أخاه يحيى، فانصرفا حتى لحقا الحسين فقرآ عليه الكتاب فأبى أن يرجع وقال‏:‏ إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقد أمرني فيها بأمر وأنا ماضٍ له‏.‏

فقالا‏:‏ وما تلك الرؤيا‏؟‏

فقال‏:‏ لا أحدث بها أحداً حتى ألقى ربي عز وجل‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ وحدثني محمد بن قيس‏:‏ أن الحسين أقبل حتى إذا بلغ الحاجر من بطن ذي الرمة، بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليهم‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا، والطلب بحقنا، فنسأل الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر‏.‏

وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فاكتموا أمركم وجدوا فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

قال‏:‏ وكان كتاب مسلم قد وصل إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة، ومضمونه‏:‏

أما بعد‏:‏

فإن الرائد لا يكذب أهله، وإن جميع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي هذا والسلام عليكم‏.‏

قال‏:‏ وأقبل قيس بن مسهر الصيداوي بكتاب الحسين إلى الكوفة، حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيد الله بن زياد فقال له ابن زياد‏:‏ اصعد إلى أعلا القصر فسب الكذاب ابن الكذاب علي بن أبي طالب وابنه الحسين‏.‏ :‏ فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس ‏!‏ إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله، وهو ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر من بطن ذي الرمة، فأجيبوه واسمعوا له وأطيعوا‏.‏

ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعلي والحسين‏.‏

فأمر به ابن زياد فأُلقي من رأس القصر فتقطع، ويقال‏:‏ بل تكسرت عظامه وبقي فيه بقية رمق، فقام إليه عبد الملك بن عمير البجلي فذبحه‏.‏

وقال‏:‏ إنما أردت إراحته من الألم‏.‏

وقيل‏:‏ إنه رجل يشبه عبد الملك بن عمير وليس به، وفي رواية‏:‏ أن الذي قدم بكتاب الحسين إنما هو عبد الله بن بقطر أخو الحسين من الرضاعة، فأُلقي من أعلى القصر، والله أعلم‏.‏

ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة ولا يعلم بشيء مما وقع من الأخبار‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ عن أبي علي الأنصاري، عن بكر بن مصعب المزني‏.‏

قال‏:‏ وكان الحسين لا يمر بماء من مياه العرب إلا اتبعوه‏.‏

قال‏:‏ قال أبو مخنف‏:‏ عن أبي جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن سليم، والمنذر بن المشمعل الأسديين قالا‏:‏ لما قضينا حجنا لم يكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين، فأدركناه وقد مر برجل من بني أسد فهمّ الحسين أن يكلمه ويسأله ثم ترك، فجئنا ذلك الرجل فسألناه عن أخبار الناس فقال‏:‏ والله لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ورأيتهما يجران بأرجلهما في السوق‏.‏

قالا‏:‏ فلحقنا الحسين فأخبرناه، فجعل يقول‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون مراراً‏.‏

فقلنا له‏:‏ الله الله في نفسك‏.‏

فقال‏:‏ لا خير في العيش بعدهما‏.‏

قلنا‏:‏ خار الله لك‏.‏

وقال له بعض أصحابه‏:‏ والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ولو قد قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع‏.‏

وقال غيرهما‏:‏ لما سمع أصحاب الحسين بمقتل مسلم بن عقيل، وثب عند ذلك بنو عقيل بن أبي طالب وقالوا‏:‏ لا والله لا ترجع حتى ندرك ثأرنا، أو نذوق ما ذاق أخونا‏.‏

فسار الحسين حتى إذا كان بزرود بلغه أيضاً مقتل الذي بعثه بكتابه إلى أهل الكوفة بعد أن خرج من مكة ووصل إلى حاجر، فقال‏:‏ خذلتنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج عليه، وليس عليه منا ذمام‏.‏

قال‏:‏ فتفرق الناس عنه أيادي سباً يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من مكة، وإنما فعل ذلك لأنه ظن أن من اتبعه من الأعراب إنما اتبعوه لأنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهلها، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون على ما يقدمون، وقد علم أنه إذا بينّ لهم الأمر لم يصحبه إلا من يريد مواساته في الموت معه‏.‏

قال‏:‏ فلما كان السحر أمر فتيانه أن يستقوا من الماء ويكثروا منه، ثم سار حتى مر ببطن العقبة فنزل بها‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جعفر بن سليمان، عن يزيد الرشك قال‏:‏ حدثني من شافه الحسين قال‏:‏ رأيت أخبية مضروبة بفلاة من الأرض فقلت‏:‏ لمن هذه‏؟‏

قالوا‏:‏ هذه لحسين‏.‏

قال‏:‏ فأتيته فإذا شيخ يقرأ القرآن والدموع تسيل على خديه ولحيته‏.‏

قال‏:‏ قلت بأبي وأمي يا بن بنت رسول الله ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد‏؟‏

فقال‏:‏ هذه كتب أهل الكوفة إليّ ولا أراهم إلا قاتلي، فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلا انتهكوها، فيسلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قرم الأمة - يعني‏:‏ مقنعتها -‏.‏

وأخبرنا علي بن محمد، عن الحسن بن دينار، عن معاوية بن قرة‏.‏

قال‏:‏ قال الحسين‏:‏ والله لتعتدنّ عليّ كما اعتدت بنو إسرائيل في السبت‏.‏

وحدثنا علي بن محمد، عن جعفر بن سليمان الضبعي‏.‏

قال‏:‏ قال الحسين‏:‏ والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قرم الأمة‏.‏

فقتل بنينوى يوم عاشوراء سنة إحدى وستين‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا أبو بكر الحميدي، ثنا سفيان، ثنا شهاب بن حراش، عن رجل من قومه‏.‏

قال‏:‏ كنت في الجيش الذين بعثهم ابن زياد إلى الحسين، وكانوا أربعة آلاف يريدون قتال الديلم، فعينهم ابن زياد وصرفهم إلى قتال الحسين، فلقيت حسيناً فرأيته أسود الرأس واللحية‏.‏

فقلت له‏:‏ السلام عليك أبا عبد الله‏.‏

فقال‏:‏ وعليك السلام - وكانت فيه غنة -‏.‏

فقال‏:‏ لقد باتت فيكم سللة منذ الليلة - يعني‏:‏ سراقاً -‏.‏

قال شهاب‏:‏ فحدثت به زيد بن علي فأعجبه - وكانت فيه غنة -‏.‏

قال سفيان بن عيينة‏:‏ وهي في الحسينيين‏.‏

قال أبو مخنف عن أبي خالد الكاهلي‏.‏

قال‏:‏ لما صبحت الخيل الحسين بن علي رفع يديه فقال‏:‏ اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي من كل أمر نزل ثقة وعدة، فكم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، فأنزلته بك وشكوته إليك؛ رغبة فيه إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت لي وليّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل غاية‏.‏

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ حدثني حجاج بن محمد، عن أبي معشر، عن بعض مشيخته‏.‏

قال‏:‏ قال الحسين حين نزلوا كربلاء‏:‏ ما اسم هذه الأرض‏؟‏

قالوا‏:‏ كربلاء‏.‏

قال‏:‏ كرب وبلاء‏.‏

وبعث عبيد الله بن زياد عمر بن سعد لقتالهم، فقال له الحسين‏:‏ يا عمر اختبرني إحدى ثلاث خصال‏:‏ إما أن تتركني أرجع كما جئت، فإن أبيت هذه فسيّرني إلى يزيد فأضع يدي في يده فيحكم فيّ ما رأى، فإن أبيت هذه فسيّرني إلى الترك فأقاتلهم حتى أموت‏.‏

فأرسل إلى ابن زياد بذلك، فهمّ أن يسيره إلى يزيد، فقال شمر بن ذي الجوشن‏:‏ لا ‏!‏ إلا أن ينزل على حكمك، فأرسل إلى الحسين بذلك‏.‏

فقال الحسين‏:‏ والله لا أفعل، وأبطأ عمر عن قتاله فأرسل ابن زياد شمر بن ذي الجوشن وقال له‏:‏ إن تقدم عمر فقاتل وإلا فاقتله وكن مكانه، فقد وليتك الإمرة‏.‏

وكان مع عمر قريب من ثلاثين رجلاً من أعيان أهل الكوفة، فقالوا له‏:‏ يعرض عليكم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث خصال فلا تقبلوا منها شيئاً‏؟‏ فتحولوا مع الحسين يقاتلون معه‏.‏

وقال أبو زرعة‏:‏ حدثنا سعيد بن سليمان، ثنا عباد بن العوام، عن حصين قال‏:‏ أدركت من مقتل الحسين قال‏:‏ فحدثني سعد بن عبيدة قال‏:‏ فرأيت الحسين وعليه جبة برود ورماه رجل يقال له‏:‏ عمرو بن خالد الطهوي بسهمٍ، فنظرت إلى السهم معلقاً بجبته‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن عمار الرازي، حدثني سعيد بن سليمان، ثنا عباد بن العوام، ثنا حصين‏:‏ أن الحسين بعث إليه أهل الكوفة‏:‏ إن معك مائة ألف‏.‏

فبعث إليهم مسلم بن عقيل فذكر قصة مقتل مسلم كما تقدم‏.‏

قال حصين‏:‏ فحدثني هلال بن يساف‏:‏ أن ابن زياد أمر الناس أن يأخذوا ما بين واقصة إلى طريق الشام إلى طريق البصرة حفظاً فلا يدعون أحداً يلج ولا أحداً يخرج، وأقبل الحسين ولا يشعر بشيء حتى أتى الأعراب فسألهم عن الناس‏.‏

فقالوا‏:‏ والله لا ندري، غير أنك لا تستطيع أن تلج ولا تخرج‏.‏

قال‏:‏ فانطلق يسير نحو يزيد بن معاوية، فتلقته الخيول بكربلاء فنزل يناشدهم الله والإسلام‏.‏

قال‏:‏ وكان بعث إليه ابن زياد عمر بن سعد، وشمر بن ذي الجوشن، وحصين بن نمير، فناشدهم الله والإسلام أن يسيروه إلى أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده، فقالوا له‏:‏ لا ‏!‏ إلا أن تنزل على حكم ابن زياد، وكان في جملة من معهم الحر بن يزيد الحنظلي ثم النهشلي على خيل‏.‏

فلما سمع ما يقول الحسين قال لهم‏:‏ ألا تتقون الله‏؟‏ ألا تقبلون من هؤلاء ما يعرضون عليكم، والله لو سألتكم هذا الترك والديلم ما حلّ لكم أن تردوهم فأبوا إلا حكم ابن زياد‏؟‏ فضرب الحرّ وجه فرسه وانطلق إلى الحسين، فظنوا أنه إنما جاء ليقاتلهم، فلما دنا منهم قلب ترسه وسلم عليهم ثم كرّ على أصحاب ابن زياد فقتل منهم رجلين ثم قتل رحمه الله‏.‏

وذكر‏:‏ أن زهير بن القين البجلي لقي الحسين وكان حاجاً فأقبل معه، وخرج إليه ابن أبي مخرمة المرادي ورجلان آخران، وهما‏:‏ عمرو بن الحجاج، ومعن السلمي، وأقبل الحسين يكلم من بعث إليه ابن زياد وعليه جبة من برود‏.‏

فلما كلمهم انصرف فرماه رجل من بني تميم يقال له‏:‏ عمرو الطهوي بسهم بين كتفيه، فإني لأنظر إلى السهم بين كتفيه متعلقاً بجبته، فلما أبوا عليه رجع إلى مصافّه وإني لأنظر إليهم وهم قريب من مائة رجل، فيهم لصلب علي خمسة، ومن بني هاشم ستة عشر، ورجل من بني سُليم حليف لهم، ورجل من بني كنانة حليف لهم، وابن عم ابن زياد‏.‏

وقال حصين، حدثني سعد بن عبيدة قال‏:‏ إنا لمستنقعون الماء مع عمر بن سعد إذ أتاه رجل فسارّه فقال له‏:‏ قد بعث إليك ابن زياد جويرية بن بدر التميمي وأمره إن لم تقاتل القوم أن يضرب عنقك‏.‏

قال‏:‏ فوثب إلى فرسه فركبها ثم دعا بسلاحه فلبسه وأنه لعلى فرسه، ونهض بالناس إليهم فقاتلوهم فجيء برأس الحسين إلى ابن زياد فوضع بين يديه فجعل يقول بقضيبه في أنفه ويقول‏:‏ إن أبا عبد الله كان قد شمط‏.‏

قال‏:‏ وجيء بنسائه وبناته وأهله قال‏:‏ وكان أحسن شيء صنعه أن أمر لهم بمنزل في مكانٍ معتزلٍ وأجرى عليهم رزقاً، وأمر لهم بنفقة وكسوة‏.‏

قال‏:‏ وانطلق غلامان منهم من أولاد عبد الله بن جعفر - أو ابن أبي جعفر - فأتيا رجلاً من طيء فلجآ إليه مستجيران به، فضرب أعناقهما وجاء برأسيهما حتى وضعهما بين يدي ابن زياد‏.‏

قال‏:‏ فهمَّ ابن زياد بضرب عنقه وأمر بداره فهدمت‏.‏

قال‏:‏ وحدثني مولى لمعاوية بن أبي سفيان قال‏:‏ لما أتي يزيد برأس الحسين فوضع بين يديه رأيته يبكي ويقول‏:‏ لو كان بين ابن زياد وبينه رحم ما فعل هذا - يعني‏:‏ ابن زياد -‏.‏

قال الحصين‏:‏ ولما قتل الحسين لبثوا شهرين أو ثلاثة كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ حدثني لوذان، حدثني عكرمة أن أحد عمومته سأل الحسين‏:‏ أين تريد‏؟‏

فحدثه، فقال له‏:‏ أنشدك الله لما انصرفت راجعاً، فوالله ما بين يديك من القوم أحد يذب عنك ولا يقاتل معك، وإنما والله أنت قادم على الأسنة والسيوف، فإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطأوا لك الأشياء، ثم قدمت عليهم بعد ذلك كان ذلك رأياً، فأما على هذه الصفة فإني لا أرى لك أن تفعل‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ إنه ليس بخفي عليّ ما قلت وما رأيت، ولكن الله لا يغلب على أمره، ثم ارتحل قاصداً الكوفة‏.‏

وقال خالد بن العاص‏:‏

رُبَّ مستنصح يغش ويردي * وظنينٍ بالغيب يلقى نصيحاً

وقد حج بالناس في هذه السنة عمرو بن سعيد بن العاص وكان عامل المدينة ومكة ليزيد، وقد عزل يزيد عن إمرة المدينة الوليد بن عتبة وولاها عمرو بن سعيد بن العاص في شهر رمضان منها والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وستين

استهلت هذه السنة والحسين بن علي سائر إلى الكوفة فيما بين مكة والعراق ومعه أصحابه وقراباته، فقتل في يوم عاشوراء من شهر المحرم من هذه السنة على المشهور الذي صححه الواقدي وغير واحد، وزعم بعضهم أنه قتل في صفر منها والأول أصح‏.‏

 وهذه صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمة هذا الشأن لا كما يزعمه أهل التشيع من الكذب‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ عن أبي جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن حرملة، عن عبد الله بن سليم، والمذرى بن المشمعل الأسديين قالا‏:‏ أقبل الحسين فلما نزل شرف قال لغلمانه وقت السحر‏:‏ استقوا من الماء فأكثروا، ثم ساروا إلى صدر النهار فسمع الحسين رجلاً يكبر فقال له‏:‏ مم كبرت‏؟‏

فقال‏:‏ رأيت النخيلة، فقال له الأسديان‏:‏ إن هذا المكان لم ير أحد منه نخيلة‏.‏

فقال الحسين‏:‏ فماذا تريانه رأى‏؟‏

فقالا‏:‏ هذه الخيل قد أقبلت‏.‏

فقال الحسين‏:‏ أما لنا ملجأ نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد‏؟‏

فقالا‏:‏ بلى‏:‏ ذو حسم‏.‏

فأخذ ذات اليسار إليها فنزل، وأمر بأبنيته فضربت، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي، وهم مقدمة الجيش الذين بعثهم ابن زياد، حتى وقفوا في مقابلته في نحو الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمون متقلدون سيوفهم، فأمر الحسين أصحابه أن يرتووا من الماء ويسقوا خيولهم، وأن يسقوا خيول أعدائهم أيضاً‏.‏

وروى هو وغيره قالوا‏:‏ لما دخل وقت الظهر أمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفي فأذن ثم خرج الحسين في إزار ورداء ونعلين فخطب الناس من أصحابه وأعدائه واعتذر إليهم في مجيئه هذا إلى ههنا، بأنه قد كتب إليه أهل الكوفة أنهم ليس لهم إمام، وإن أنت قدمت علينا بايعناك وقاتلنا معك، ثم أقيمت الصلاة فقال الحسين للحر‏:‏ تريد أن تصلي بأصحابك‏؟‏

قال‏:‏ لا ‏!‏ ولكن صلّ أنت ونحن نصلي وراءك‏.‏

فصلى بهم الحسين، ثم دخل إلى خيمته واجتمع به أصحابه، وانصرف الحر إلى جيشه وكلُّ على أهبته، فلما كان وقت العصر صلى بهم الحسين ثم انصرف فخطبهم وحثهم على السمع والطاعة له وخلع من عاداهم من الأدعياء السائرين فيكم بالجور‏.‏

فقال له الحر‏:‏ إنا لا ندري ما هذه الكتب، ولا من كتبها، فأحضر الحسين خرجين مملوءين كتباً فنثرها بين يديه وقرأ منها طائفة‏.‏

فقال الحر‏:‏ لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك في شيء، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد‏.‏

فقال الحسين‏:‏ الموت أدنى من ذلك‏.‏

ثم قال الحسين لأصحابه‏:‏ اركبوا ‏!‏ فركبوا و ركب النساء، فلما أراد الانصراف حال القوم بينه وبين الانصراف‏.‏

فقال الحسين للحر‏:‏ ثكلتك أمك، ماذا تريد‏؟‏

فقال له الحر‏:‏ أما والله لو غيرك يقولها لي من العرب وهو على مثل الحال التي أنت عليها لأقتصن منه، ولما تركت أمه، ولكن لا سبيل إلى ذكر أمك إلا بأحسن ما نقدر عليه‏.‏

وتقاول القوم وتراجعوا‏.‏

فقال له الحر‏:‏ إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يقدمك الكوفة ولا تردك إلى المدينة، واكتب أنت إلى يزيد، وأكتب أنا إلى ابن زياد إن شئت، فلعل الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك‏.‏

قال‏:‏ فأخذ الحسين يساراً عن طريق العُذيب والقادسية، والحر بن يزيد يسايره وهو يقول له‏:‏ يا حسين إني أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن، ولئن قوتلت لتهلكن فيما أرى‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ أفبالموت تخوفني‏؟‏ ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وقد لقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أين تذهب فإنك مقتول‏؟‏

فقال‏:‏

سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى * إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً

وآسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق خوفاً أن يعيش ويرغما

ويروى على صفة أخرى‏:‏

سأمضي وما بالموت عارٌ على امرئ * إذا ما نوى حقاً ولم يلف مجرما

فإن مت أندم وإن عشت لم ألمْ * كفى بك موتاً أن تذل وترغما

فلما سمع ذلك الحر منه تنحى عنه وجعل يسير بأصحابه ناحية عنه، فانتهوا إلى عذيب الهجانات وإذا سفر أربعة - أي‏:‏ أربعة نفر - قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يخبون ويجنبون فرساً لنافع بن هلال يقال له‏:‏ الكامل، قد أقبلوا من الكوفة يقصدون الحسين ودليلهم رجل يقال له‏:‏ الطرماح بن عدي، راكب على فرس وهو يقول‏:‏

يا ناقتي لا تذعري من زجري * وشمّري قبل طلوع الفجر

بخير ركبانٍ وخير سفر * حتى تحلي بكريم النجر

الماجد الحرّ رحيب الصدر * أتى به الله لخير أمر

ثمت أبقاه بقاء الدهر

فأراد الحر أن يحول بينهم وبين الحسين، فمنعه الحسين من ذلك، فلما خلصوا إليه قال لهم‏:‏ أخبروني عن الناس وراءكم، فقال له مجمع بن عبد الله العامري - أحد النفر الأربعة -‏:‏

أما أشراف الناس فهم إلب عليك، لأنهم قد عظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، يستميل بذلك ودهم ويستخلص به نصيحتهم، فهم إلب واحد عليك، وأما سائر الناس فأفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غداً مشهورة عليك‏.‏

قال لهم‏:‏ فهل لكم برسولي علم‏؟‏

قالوا‏:‏ ومن رسولك‏؟‏

قال‏:‏ قيس بن مسهر الصيداوي‏.‏

قالوا‏:‏ نعم أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك، فصلى عليك وعلى أبيك ولعن زياد وأباه، ودعا الناس إلى نصرتك وأخبرهم بقدومك فأمر به فأُلقي من رأس القصر فمات، فترقرت عينا الحسين، وقرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ اللهم اجعل منازلهم الجنة نزلاً، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك، ورغائب مدخور ثوابك‏.‏

ثم إن الطرماح بن عدي قال للحسين‏:‏ أنظر فما معك‏؟‏ لا أرى معك أحداً إلا هذه الشرذمة اليسيرة، وإني لأرى هؤلاء القوم الذين يسايرونك أكفاء لمن معك، فكيف وظاهر الكوفة مملوء بالخيول والجيوش يعرضون ليقصدونك، فأنشدك الله، إن قدرت أن لا تتقدم إليهم شبراً فافعل، فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به من ملوك غسان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر‏.‏

والله إن دخل علينا ذل قط فأسير معك حتى أنزلك القرية، ثم تبعث إلى الرجال من بأجأ وسلمى من طيء، ثم أقم معنا ما بدا لك، فأنا زعيم بعشرة آلاف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصل إليك أبداً ومنهم عين تطرف‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ جزاك الله خيراً، فلم يرجع عما هو بصدده، فودعه الطرماح، ومضى الحسين، فلما كان من الليل أمر فتيانه أن يستقوا من الماء كفايتهم، ثم سرى فنعس في مسيره حتى خفق برأسه، واستيقظ وهو يقول‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين‏.‏

ثم قال‏:‏ رأيت فارساً على فرس وهو يقول‏:‏ القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نُعيت إلينا‏.‏

فلما طلع الفجر صلى بأصحابه وعجل الركوب ثم تياسر في مسيره حتى انتهى إلى نينوى، فإذا راكب متنكب قوساً قد قدم من الكوفة، فسلم على الحر بن يزيد ولم يسلم على الحسين، ودفع إلى الحر كتاباً من ابن زياد ومضمونه‏:‏ أن يعدل بالحسين في السير إلى العراق في غير قرية ولا حصن، حتى تأتيه رسله وجنوده، وذلك يوم الخميس الثاني من المحرم سنة إحدى وستين‏.‏

فلما كان من الغد قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص في أربعة آلاف، وكان قد جهّزه ابن زياد في هؤلاء إلى الديلم، وخيم بظاهر الكوفة، فلما قدم عليهم أمر الحسين قال له‏:‏ سر إليه، فإذا فرغت منه فسر إلى الديلم، فاستعفاه عمر بن سعد من ذلك‏.‏

فقال له ابن زياد‏:‏ إن شئت عفيتك وعزلتك عن ولاية هذه البلاد التي قد استنبتك عليها‏.‏

فقال‏:‏ حتى أنظر في أمري، فجعل لا يستشير أحداً إلا نهاه عن المسير إلى الحسين، حتى قال له ابن أخته حمزة بن المغيرة بن شعبة‏:‏ إياك أن تسير إلى الحسين فتعصي ربك، وتقطع رحمك، فوالله لأن تخرج من سلطان الأرض كلها أحب إليك من أن تلقى الله بدم الحسين‏.‏

فقال‏:‏ إني أفعل إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم أن عبيد الله بن زياد تهدده وتوعده بالعزل والقتل، فسار إلى الحسين فنازله في المكان الذي ذكرنا، ثم بعث إلى الحسين الرسل‏:‏ ما الذي أقدمك‏؟‏

فقال‏:‏ كتب إليّ أهل الكوفة أن أقدم عليهم، فإذ قد كرهوني فأنا راجع إلى مكة وأذركم‏.‏

فلما بلغ عمر بن سعد هذا قال‏:‏ أرجو أن يعافيني الله من حربه، وكتب إلى ابن زياد ذلك، فرد عليه ابن زياد‏:‏ أن حل بينهم وبين الماء كما فعل بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وأعرض على الحسين أن يبايع هو ومن معه لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فإذا فعلوا ذلك رأينا رأينا‏.‏

وجعل أصحاب عمر بن سعد يمنعون أصحاب الحسين من الماء، وعلى سرية منهم عمرو بن الحجاج، فدعا عليهم بالعطش فمات هذا الرجل من شدة العطش‏.‏

ثم إن الحسين طلب من عمر بن سعد أن يجتمع به بين العسكرين، فجاء كل واحد منهما في نحو من عشرين فارساً، فتكلما طويلاً حتى ذهب هزيع من الليل، ولم يدر أحد ما قالا، ولكن ظن بعض الناس أنه سأله أن يذهب معه إلى يزيد بن معاوية إلى الشام ويتركا العسكرين متواقفين‏.‏

فقال عمر‏:‏ إذاً يهدم ابن زياد داري‏.‏

فقال الحسين‏:‏ أنا أبنيها لك أحسن مما كانت‏.‏

قال‏:‏ إذاً يأخذ ضياعي‏.‏

قال‏:‏ أنا أعطيك خيراً منها من مالي بالحجاز‏.‏

قال‏:‏ فتكره عمر بن سعد من ذلك‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ بل سأل منه إما أن يذهبا إلى يزيد، أو يتركه يرجع إلى الحجاز أو يذهب إلى بعض الثغور فيقاتل الترك‏.‏

فكتب عمر إلى عبيد الله بذلك، فقال‏:‏ نعم ‏!‏ قد قبلت، فقام الشمر بن ذي الجوشن فقال‏:‏ لا والله حتى ينزل على حكمك هو وأصحابه‏.‏

ثم قال‏:‏ والله لقد بلغني أن حسيناً وابن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل‏.‏

فقال له ابن زياد‏:‏ فنعم ما رأيت‏.‏

وقد روى أبو مخنف‏:‏ حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عقبة بن سمعان قال‏:‏ لقد صحبت الحسين من مكة إلى حين قتل، والله ما من كلمة قالها في موطن إلا وقد سمعتها، وأنه لم يسأل أن يذهب إلى يزيد فيضع يده إلى يده، ولا أن يذهب إلى ثغر من الثغور، ولكن طلب منهم أحد أمرين، إما أن يرجع من حيث جاء، وإما أن يدعوه يذهب في الأرض العريضة حتى ينظر ما يصير أمر الناس إليه‏.‏

ثم إن عبيد الله بعث شمر بن ذي الجوشن فقال‏:‏ اذهب فإن جاء حسين وأصحابه على حكمي وإلا فمر عمر بن سعد أن يقاتلهم، فإن تباطأ عن ذلك فاضرب عنقه، ثم أنت الأمير على الناس‏.‏

وكتب إلى عمر بن سعد يتهدده على توانيه في قتال الحسين، وأمره إن لم يجئ الحسين إليه أن يقاتله ومن معه، فإنهم مشاقون‏.‏

فاستأمن عبيد الله بن أبي المحل لبني عمته أم البنين بنت حزام من علي‏:‏ وهم‏:‏ العباس، وعبد الله، وجعفر، وعثمان‏.‏

فكتب لهم ابن زياد كتاب أمان وبعثه عبيد الله بن أبي المحل مع مولى له يقال له‏:‏ كرمان، فلما بلغهم ذلك قالوا‏:‏ أما أمان ابن سمية، فلا نريده، وإنا لنرجو أماناً خيراً من أمان ابن سمية‏.‏

ولما قدم شمر بن ذي الجوشن على عمر بن سعد بكتاب عبيد الله بن زياد، قال عمر‏:‏ أبعد الله دارك، وقبح ما جئت به، والله إني لأظنك الذي صرفته عن الذي عرضت عليه من الأمور الثلاثة التي طلبها الحسين‏.‏

فقال له شمر‏:‏ فأخبرني ما أنت صانع‏؟‏ أتقاتلهم أنت أو تاركي وإياهم‏؟‏

فقال له عمر‏:‏ لا ولا كرامة لك ‏!‏ أنا أتولى ذلك‏.‏

وجعله على الرجالة ونهضوا إليهم عشية يوم الخميس التاسع من المحرم، فقام شمر بن ذي الجوشن، فقال‏:‏ أين بنو أختنا‏؟‏

فقام إليه العباس، وعبد الله، وجعفر، وعثمان بنو علي بن أبي طالب، فقال‏:‏ أنتم آمنون‏.‏

فقالوا‏:‏ إن أمنتنا وابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا حاجة لنا بأمانك‏.‏

قال‏:‏ ثم نادى عمر بن سعد في الجيش‏:‏ يا خيل الله اركبي وابشري، فركبوا وزحفوا إليهم بعد صلاة العصر من يومئذ، هذا وحسين جالس أمام خيمته محتبياً بسيفه، ونعس فخفق برأسه وسمعت أخته الضجة فدنت منه فأيقظته، فرجع برأسه كما هو، وقال‏:‏ إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي‏:‏ ‏(‏‏(‏إنك تروح إلينا‏)‏‏)‏ فلطمت وجهها وقالت‏:‏ يا ويلتنا‏.‏

فقال‏:‏ ليس لك الويل يا أختاه‏:‏ اسكتي رحمك الرحمن‏.‏

وقال له أخوة العباس بن علي‏:‏ يا أخي جاءك القوم‏.‏

فقال‏:‏ اذهب إليهم فسلهم ما بدا لهم، فذهب إليهم في نحو من عشرين فارساً فقال‏:‏ ما لكم‏؟‏

فقالوا‏:‏ جاء أمر الأمير إما أن تأتوا على حكمه، وإما أن نقاتلكم‏.‏

فقال‏:‏ مكانكم حتى أذهب إلى أبي عبد الله فأعلمه، فرجع ووقف أصحابه فجعلوا يتراجعون القول ويؤنب بعضهم بعضاً‏.‏

يقول أصحاب الحسين‏:‏ بئس القوم، أنتم تريدون قتل ذرّية نبيكم وخيار الناس في زمانهم‏؟‏

ثم رجع العباس بن علي من عند الحسين إليهم فقال لهم‏:‏ يقول لكم أبو عبد الله‏:‏ انصرفوا عشيتكم هذه حتى ينظر في أمره الليلة‏.‏ : فقال عمر بن سعد لشمر بن ذي الجوشن‏:‏ ما تقول‏؟‏

فقال‏:‏ أنت الأمير والرأي رأيك‏.‏

فقال عمر بن الحجاج بن سلمة الزبيدي‏:‏ سبحان الله ‏!‏ والله لو سألكم ذلك رجل من الدليم لكان ينبغي إجابته‏.‏

وقال قيس بن الأشعث‏:‏ أجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة‏.‏

وهكذا جرى الأمر، فإن الحسين لما رجع العباس قال له‏:‏ ارجع فارددهم هذه العشية لعلنا نصلي لربنا هذه الليلة ونستغفره وندعوه، فقد علم الله مني إني أحب الصلاة له، وتلاوة كتابه، والاستغفار والدعاء‏.‏

وأوصى الحسين في هذه الليلة إلى أهله، وخطب أصحابه في أول الليل فحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على رسوله بعبارة فصيحة بليغة، وقال لأصحابه‏:‏ من أحب أن ينصرف إلى أهله في ليلته هذه فقد أذنت له فإن القوم إنما يريدونني‏.‏

فقال مالك بن النضر‏:‏ عليّ دين ولي عيال‏.‏

فقال‏:‏ هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه حجلاً، ليأخذ كل منكم بيد رجل من أهل بيتي ثم اذهبوا في بسيط الأرض في سواد هذا الليل إلى بلادكم ومدائنكم، فإن القوم إنما يريدونني، فلو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري، فاذهبوا حتى يفرج الله عزّ وجل‏.‏

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه‏:‏ لا بقاء لنا بعدك، ولا أرانا الله فيك ما نكره‏.‏

فقال الحسين‏:‏ يا بني عقيل حسبكم بمسلم أخيكم، اذهبوا فقد أذنت لكم‏.‏

قالوا‏:‏ فما تقول الناس إنا تركنا شيخنا، وسيدنا، وبني عمومتنا خير الأعمام، لم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، رغبة في الحياة الدنيا، لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك‏.‏

وقال نحو ذلك مسلم بن عوسجة الأسدي‏.‏

وكذلك قال سعيد بن عبد الله الحنفي‏:‏ والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك، والله لو علمت أني أقتل دونك ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عنك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك، لأحببت ذلك، وإنما هي قتلة واحدة‏.‏

وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً من وجه واحد، فقالوا‏:‏ والله لا نفارقك، وأنفسنا الفداء لك، نقيك بنحورنا وجباهنا، وأيدينا وأبداننا، فإذا نحن قتلنا وفينا وقضينا ما علينا‏.‏

وقال أخوه العباس‏:‏ لا أرانا الله يوم فقدك ولا حاجة لنا في الحياة بعدك‏.‏

وتتابع أصحابه على ذلك‏.‏

وقال أبو مخنف‏:‏ حدثني الحارث بن كعب، وأبو الضحاك، عن علي بن الحسين زين العابدين‏.‏

قال‏:‏ إني لجالس تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها، وعمتي زينب تمرضني إذا اعتزل أبي في خبائه ومعه أصحابه، وعنده حويّ مولى أبي ذر الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول‏:‏

يا دهر أفٍ لك من خليلٍ * كم لك بالإشراق والأصيل

من صاحبٍ أو طالبٍ قتيل * والدهر لا يقنع بالبديل

وإنما الأمر إلى الجليل * وكل حيٍ سالك السبيل

فأعادها مرتين أو ثلاثاً حتى حفظتها وفهمت ما أراد، فخنقتني العبرة فرددتها، ولزمت السكوت، وعلمت أن البلاء قد نزل‏.‏

وأما عمتي فقامت حاسرة حتى انتهت إليه فقالت‏:‏ واثكلاه ‏!‏‏!‏ ليت الموت أعدمني الحياة اليوم، ماتت أمي فاطمة، وعلي أبي، وحسن أخي، يا خليفة الماضي، وثمال الباقي‏.‏

فنظر إليها وقال‏:‏ يا أُخيّة، لا يذهبن حلمك الشيطان‏.‏

فقالت‏:‏ بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله، استقتلت‏؟‏

ولطمت وجهها، وشقت جيبها وخرت مغشياً عليها، فقام إليها فصبّ على وجهها الماء وقال‏:‏ يا أُخيّه اتق الله واصبري وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته، ويميتهم بقهره وعزته، ويعيدهم فيعبدونه وحده، وهو فرد وحده‏.‏

واعلمي أن أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة حسنة‏.‏

ثم حرج عليها أن لا تفعل شيئاً من هذا بعد مهلكه، ثم أخذ بيدها فردّها إلى عندي‏.‏

ثم خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يدنوا بيوتهم بعضاً من بعض حتى تدخل الأطناب بعضها في بعض، وأن لا يجعلوا للعدو مخلصاً إليهم إلا من جهة واحدة، وتكون البيوت عن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن ورائهم‏.‏

وبات الحسين وأصحابه طول ليلهم يصلون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون، وخيول حرس عدوهم تدور من ورائهم، عليها عزرة بن قيس الأحمسي، والحسين يقرأ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 178-179‏]‏‏.‏

فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرس من أصحاب ابن زياد فقال‏:‏ نحن ورب الكعبة الطيبون، ميزنا الله منكم‏.‏

قال‏:‏ فعرفته، فقلت لزيد بن حضير‏:‏ أتدري من هذا‏؟‏

قال‏:‏ لا ‏!‏

فقلت‏:‏ هذا أبو حرب السبيعي عبيد الله بن شمير - وكان مضحاكاً بطالاً - وكان شريفاً شجاعاً فاتكاً‏.‏

وكان سعيد بن قيس ربما حبسه في خبائه‏.‏

فقال له يزيد بن حصين‏:‏ يا فاسق متى كنت من الطيبين‏؟‏

فقال‏:‏ من أنت ويلك‏؟‏

قال‏:‏ أنا يزيد بن حصين‏.‏

قال‏:‏ إنا لله ‏!‏ هلكت والله عدو الله ‏!‏ علام يريد قتلك‏؟‏

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ يا أبا حرب هل لك أن تتوب من ذنوبك العظام‏؟‏ فوالله إنا لنحن الطيبون وأنكم لأنتم الخبيثون‏.‏

قال‏:‏ نعم وأنا على ذلك من الشاهدين‏.‏

قال‏:‏ ويحك أفلا ينفعك معرفتك‏؟‏

قال‏:‏ فانتهره عزرة بن قيس أمير السرية التي تحرسنا فانصرف عنا‏.‏

قالوا‏:‏ فلما صلى عمر بن سعد الصبح بأصحابه يوم الجمعة‏.‏

وقيل‏:‏ يوم السبت - وكان يوم عاشوراء - انتصب للقتال

وصلى الحسين أيضاً بأصحابه وهم اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، ثم انصرف فصفّهم فجعل على ميمنته زهير بن القين، وعلى الميسرة حبيب بن المطهر، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت بما فيها من الحرم وراء ظهورهم‏.‏

وقد أمر الحسين من الليل فحفروا وراء بيوتهم خندقاً، وقذفوا فيه حطباً وخشباً وقصباً، ثم أضرمت فيه النار لئلا يخلص أحد إلى بيوتهم من ورائها‏.‏

وجعل عمر بن سعد على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى الميسرة شمر بن ذي الجوشن - واسم ذي الجوشن شرحبيل بن الأعور بن عمرو بن معاوية من بني الضباب بن كلاب - وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجالة شبيث بن ربعي‏.‏

وأعطى الراية لوردان مولاه، وتواقف الناس في ذلك الموضع‏.‏

فعدل الحسين إلى خيمة قد نصبت فاغتسل فيها وانطلى بالنورة وتطيب بمسك كثير، ودخل بعده بعض الأمراء ففعلوا كما فعل‏.‏

فقال بعضهم لبعض‏:‏ ما هذا في هذه الساعة‏؟‏

فقال بعضهم‏:‏ دعنا منك، والله ما هذه بساعة باطل‏.‏

فقال يزيد بن حصين‏:‏ والله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً، ولكن والله إني لمستبشر بما نحن لاحقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء القوم فيقتلوننا‏.‏

ثم ركب الحسين على فرسه وأخذ مصحفاً فوضعه بين يديه، ثم استقبل القوم رافعاً يديه يدعو بما تقدم ذكره‏:‏

اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة إلى آخره‏.‏

وركب ابنه علي بن الحسين - وكان ضعيفاً مريضاً - فرساً يقال له‏:‏ الأحمق، ونادى الحسين أيها الناس‏:‏

اسمعوا مني نصيحة أقولها لكم، فأنصت الناس كلهم، فقال بعد حمد الله والثناء عليه‏:‏ أيها الناس إن قبلتم مني وأنصفتموني كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا مني ‏{‏فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏، ‏{‏إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ‏} ‏[‏الأعراف‏:‏ 196‏]‏‏.‏

فلما سمع ذلك أخواته وبناته ارتفعت أصواتهن بالبكاء‏.‏

فقال عند ذلك‏:‏ لا يبعد الله ابن عباس - يعني‏:‏ حين أشار عليه أن لا يخرج بالنساء معه ويدعهن بمكة إلى أن ينتظم الأمر - ثم بعث أخاه العباس فسكتهن، ثم شرع يذكر للناس فضله وعظمة نسبه وعلو قدره وشرفه، ويقول‏:‏

راجعوا أنفسكم وحاسبوها‏.‏

هل يصلح لكم قتال مثلي، وأنا ابن بنت نبيكم، وليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيري‏؟‏ وعلي أبي، وجعفر ذو الجناحين عمي، وحمزة سيد الشهداء عم أبي‏؟‏ وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأخي‏:‏ ‏(‏‏(‏هذان سيدا شباب أهل الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

فإن صدقتموني بما أقول فهو الحق، فوالله ما تعمدت كذبةً منذ علمت أن الله يمقت عليّ الكذب، وإلا فاسألوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏:‏ جابر بن عبد الله، وأبا سعيد، وسهل بن سعد، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم بذلك، ويحكم ‏!‏ أما تتقون الله‏؟‏ أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ‏؟‏‏.‏

فقال عند ذلك شمر بن ذي الجوشن‏:‏ هو يعبد الله على حرف‏:‏ إن كنت أدري ما يقول‏؟‏

فقال له حبيب بن مطهر‏:‏ والله يا شمر إنك لتعبد الله على سبعين حرفاً، وأما نحن فوالله إنا لندري ما يقول، وأنه قد طبع على قلبك‏.‏

ثم قال‏:‏ أيها الناس ذروني أرجع إلى مأمني من الأرض‏.‏

فقالوا‏:‏ ما يمنعك أن تنزل على حكم بني عمك‏؟‏

فقال‏:‏ معاذ الله ‏{‏إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 27‏]‏‏.‏

ثم أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، ثم قال‏:‏ أخبروني أتطلبوني بقتيل لكم قتلته‏؟‏

أو مال لكم أكلته‏؟‏

أو بقصاصة من جراحه‏؟‏

قال‏:‏ فأخذوا لا يكلمونه‏.‏

قال‏:‏ فنادى يا شبيث بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا زيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أنه قد أينعت الثمار واخضر الجناب، فأقدم علينا فإنك إنما تقدم على جند مجندة‏؟‏

فقالوا له‏:‏ لم نفعل‏.‏

فقال‏:‏ سبحان الله ‏!‏ والله لقد فعلتم، ثم قال‏:‏ يا أيها الناس‏:‏ إذ قد كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم‏.‏

فقال له قيس بن الأشعث‏:‏ ألا تنزل على حكم بني عمك فإنهم لن يؤذوك، ولا ترى منهم إلا ما تحب‏؟‏

فقال له الحسين‏:‏ أنت أخو أخيك، أتريد أن تطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل‏؟‏

لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لهم إقرار العبيد‏.‏

قال‏:‏ وأقبلوا يزحفون نحوه وقد تحيز إلى جيش الحسين من أولئك طائفة قريب من ثلاثين فارساً فيما قيل، منهم‏:‏ الحر بن يزيد أمير مقدمة جيش ابن زياد، فاعتذر إلى الحسين مما كان منهم، قال‏:‏ ولو أعلم أنهم على هذه النية لسرت معك إلى يزيد، فقبل منه الحسين‏.‏

ثم تقدم بين يدي أصحاب الحسين فخاطب عمر بن سعد فقال‏:‏ ويحكم ألا تقبلون من ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعرض عليكم من الخصال الثلاث واحدة منها‏؟‏

فقال‏:‏ لو كان ذلك إليّ قبلت‏.‏

قال‏:‏ وخرج من أصحاب الحسين زهير بن القين على فرس له شاك في السلاح، فقال‏:‏ يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إن حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن أخوة، وعلى دين واحد، وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وأنتم أمة‏.‏

إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيِّه لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصره وخذلان الطاغية ابن الطاغية، عبيد الله بن زياد، فإنكم لم تدركوا منهما إلاّ سوء عموم سلطانهما، يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويقتلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه‏.‏ :‏

قال‏:‏ فسبوه وأثنوا على ابن زياد ودعوا له، وقالوا‏:‏ لا ننزع حتى نقتل صاحبك ومن معه‏.‏

فقال لهم‏:‏ إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن أنتم لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، خلّوا بين هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، نذهب حيث شاء، فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين‏.‏

قال‏:‏ فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال له‏:‏ اسكت أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك‏.‏

فقال له زهير‏:‏ يا ابن البوَّال على عقبيه، إياك أخاطب‏؟‏ إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحُكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم‏.‏

فقال له شمر‏:‏ إن الله قاتلك وصاحبك بعد ساعة‏.‏

فقال له زهير‏:‏ أبالموت تخوفني‏؟‏ فوالله للموت معه أحب إليّ من الخلد معكم‏.‏

ثم إن زهيراً أقبل على الناس رافعاً صوته يقول‏:‏ عباد الله لا يغرنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا ينال شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم قوم أهرقوا دماء ذريته، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم‏.‏

وقال الحر بن يزيد لعمر بن سعد‏:‏ أصلحك الله ‏!‏ أمقاتل أنت هذا الرجل‏؟‏

قال‏:‏ إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي‏.‏

وكان الحر من أشجع أهل الكوفة، فلامه بعض أصحابه على الذهاب إلى الحسين‏.‏

فقال له‏:‏ والله إني أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة غيرها، ولو قطعت وحرقت‏.‏

ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين فاعتذر إليه بما تقدم، ثم قال‏:‏ يا أهل الكوفة لأمكم الهبل، أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، ومنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة الوسيعة التي لا يمنع فيها الكلب والخنزير، وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الذي يشرب منه الكلب والخنزير وقد صرعهم العطش‏؟‏

بئس ما خلفتم محمداً في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ الأكبر إن لم تتوبوا وترجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه‏.‏

فحملت عليه رجال لهم ترميه بالنبل فأقبل حتى وقف أمام الحسين‏.‏

وقال لهم عمر بن سعد‏:‏ لو كان الأمر لي لأجبت الحسين إلى ما طلب، ولكن أبى عليّ عبيد الله بن زياد، وقد خاطب أهل الكوفة وأنبهم ووبخهم وسبهم‏.‏

فقال لهم الحر بن يزيد‏:‏ ويحكم منعتم الحسين ونساءه وبناته الماء الفرات الذي يشرب منه اليهود والنصارى، ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، فهو كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً‏.‏

قال‏:‏ فتقدم عمر بن سعد وقال لمولاه‏:‏ يا دريد أدن رايتك، فأدناها، ثم شمر عمر عن ساعده ورمى بسهم وقال‏:‏ اشهدوا أني أول من رمى القوم‏.‏

قال‏:‏ فترامى الناس بالنبال، وخرج يسار مولى زياد، وسالم مولى عبيد الله، فقالا‏:‏ من يبارز‏؟‏

فبرز لهما عبيد الله بن عمر الكلبي بعد استئذانه الحسين فقتل يساراً أولاً، ثم قتل سالماً بعده، وقد ضربه سالم ضربة أطار أصابع يده اليسرى، وحمل رجل يقال له‏:‏ عبد الله بن حوزة حتى وقف بين يدي الحسين فقال له‏:‏ يا حسين أبشر بالنار ‏!‏

فقال له الحسين‏:‏ كلا ويحك إني أقدم على ربٍ رحيمٍ وشفيعٍ مطاعٍ، بل أنت أولى بالنار‏.‏

قالوا‏:‏ فانصرف فوقصته فرسه فسقط وتعلقت قدمه بالركاب، وكان الحسين قد سأل عنه فقال‏:‏ أنا ابن حوزة، فرفع الحسين يده وقال‏:‏ اللهم حزه إلى النار، فغضب ابن حوزة وأراد أن يقحم عليه الفرس وبينه وبينه نهر‏.‏

فحالت به الفرس فانقطعت قدمه وساقه وفخذه وبقي جانبه الآخر متعلقاً بالركاب، وشد عليه مسلم بن عوسجة فضربه فأطار رجله اليمنى، وغارت به فرسه فلم يبقى حجر يمر به إلا ضربه في رأسه حتى مات‏.‏

وروى أبو مخنف عن أبي جناب قال‏:‏ كان منا رجل يدعى عبد الله بن عمير من بني عليم، كان قد نزل الكوفة واتخذ داراً عند بئر الجعد من همدان، وكانت معه امرأة له من النمر بن قاسط‏.‏

فرأى الناس يتهيئون للخروج إلى قتال الحسين، فقال‏:‏ والله لقد كنت على قتال أهل الشرك حريصاً، وإني لأرجو أن يكون جهادي مع ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء أفضل من جهاد المشركين، وأيسر ثواباً عند الله‏.‏

فدخل إلى امرأته فأخبرها بما هو عازم عليه، فقالت‏:‏ أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك، افعل وأخرجني معك‏.‏

قال‏:‏ فخرج بها ليلاً حتى أتى الحسين، ثم ذكر قصة رمي عمر بن سعد بالسهم، وقصة قتله يسار مولى ابن زياد، وسالم مولى ابن زياد، وأن عبد الله بن عمير استأذن الحسين في الخروج إليهما فنظر إليه الحسين، فرأى رجلاً آدم طويلاً، شديد الساعدين، بعيد ما بين المنكبين‏.‏

فقال الحسين‏:‏ إني لأحسبه للأقران قتّالاً، اخرج إن شئت، فخرج فقالا له‏:‏ من أنت‏؟‏

فانتسب لهما، فقالا‏:‏ لا نعرفك إلا من خير منكما، ثم شد على يسار فكان كأمس الذاهب، فإنه لمشتغل به إذ حمل عليه سالم مولى ابن زياد فصاح به صائح قد رهقك العبد‏.‏

قال‏:‏ فلم ينتبه حتى غشيته فضربه على يده اليسرى فأطار أصابعه، ثم مال على الكلبي فضربه حتى قتله وأقبل يرتجز ويقول‏:‏

إن تنكراني فأنا ابن كلبٍ * نسبي بيتي في عليم حسبي

إني امرؤ ذو مروءةٍ وعضب * ولست بالخوّار عند الكرب

إني زعيمٌ لك أم وهب * بالطعن فيهم مقدماً والضرب

ضرب غلام مؤمن بالرب

فأخذت أم وهب عموداً ثم أقبلت نحو زوجها تقول له‏:‏ فداؤك أبي وأمي، قاتل دون الطيبين ذرية محمد عليه السلام، فأقبل إليها يردها نحو النساء، فأقبلت تجاذبه ثوبه، قالت‏:‏ دعني أكون معك، فناداها الحسين انصرفي إلى النساء فاجلسي معهن، فإنه ليس على النساء قتال، فانصرفت إليهن‏.‏

قال‏:‏ وكثرت المبارزة يومئذ بين الفريقين والنصر في ذلك لأصحاب الحسين لقوة بأسهم، وأنهم مستميتون لا عاصم لهم إلا سيوفهم، فأشار بعض الأمراء على عمر بن سعد بعدم المبارزة، وحمل عمر بن الحجاج أمير ميمنة جيش ابن زياد‏.‏

وجعل يقول‏:‏ قاتلوا من مرق من الدين وفارق الجماعة‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ ويحك يا حجاج أعليّ تحرض الناس‏؟‏ أنحن مرقنا الدين وأنت تقيم عليه‏؟‏ ستعلمون إذا فارقت أرواحنا أجسادنا من أولى بصلي النار‏.‏

وقد قتل في هذه الحملة مسلم بن عوسجة، وكان أول من قتل من أصحاب الحسين، فمشى إليه الحسين فترحم عليه، وهو على آخر رمق، وقال له حبيب بن مطهر‏:‏ أبشر بالجنة‏.‏

فقال له بصوت ضعيف‏:‏ بشرك الله بالخير‏.‏

ثم قال له حبيب‏:‏ لولا أني أعلم أني على أثرك لاحقك لكنت أقضي ما توصي به‏.‏

فقال له مسلم بن عوسجة‏:‏ أوصيك بهذا - وأشار إلى الحسين - إلى أن تموت دونه‏.‏

قالوا‏:‏ ثم حمل شمر بن ذي الجوشن بالميسرة وقصدوا نحو الحسين فدافعت عنه الفرسان من أصحابه دفاعاً عظيماً، وكافحوا دونه مكافحة بليغة، فأرسلوا يطلبون من عمر بن سعد طائفة من الرماة الرجالة‏.‏

فبعث إليهم نحواً من خمسمائة، فجعلوا يرمون خيول أصحاب الحسين فعقروها كلها حتى بقي جميعهم رجالة، ولما عقروا جواد الحر بن يزيد نزل عنه وفي يده السيف كأنه ليث، وهو يقول‏:‏

إن تعقروا بي فأنا ابن الحر * أشجع من ذي لبد هزبر

ويقال‏:‏ إن عمر بن سعد أمر بتقويض تلك الأبنية التي تمنع من القتال من أتى ناحيتها، فجعل أصحاب الحسين يقتلون من يتعاطى ذلك، فأمر بتحريقها فقال الحسين‏:‏ دعوهم يحرقونها فإنهم لا يستطيعون أن يجوزوا منها وقد أحرقت‏.‏

وجاء شمر بن ذي الجوشن قبحه الله إلى فسطاط الحسين فطعنه برمحه - يعني‏:‏ الفسطاط - وقال‏:‏ إيتوني بالنار لأحرقه على من فيه، فصاحت النسوة وخرجن منه‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ أحرقك الله بالنار‏.‏

وجاء شبيث بن ربعي إلى شمر قبحه الله فقال له‏:‏ ما رأيت أقبح من قولك ولا من فعلك وموقفك هذا أتريد أن ترعب النساء‏؟‏ فاستحي وهمّ بالرجوع‏.‏

وقال حميد بن مسلم قلت لشمر‏:‏ سبحان الله ‏!‏ إن هذا لا يصلح لك، أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين‏؟‏ تعذب بعذاب الله، وتقتل الولدان والنساء‏؟‏ والله إن في قتلك الرجال لما ترضي به أميرك‏.‏

قال‏:‏ فقال لي‏:‏ من أنت‏؟‏

قلت‏:‏ لا أخبرك من أنا - وخشيت أني إن أخبرته فعرفني أن يسوءني عند السلطان - وشد زهير بن القين في رجال من أصحاب الحسين على شمر بن ذي الجوشن فأزالوه عن موقفه، وقتلوا أبا عزة الضبابي - وكان من أصحاب شمر - وكان الرجل من أصحاب الحسين إذا قتل بان فيهم الخلل، وإذا قتل من أصحاب ابن زياد الجماعة الكثيرة لم يتبين ذلك فيهم لكثرتهم، ودخل عليهم وقت الظهر‏.‏

فقال الحسين‏:‏ مروهم فليكفوا عن القتال حتى نصلي‏.‏

فقال رجل من أهل الكوفة‏:‏ إنها لا تقبل منكم‏.‏

فقال له حبيب بن مطهر‏:‏ ويحك ‏!‏‏!‏ أتقبل منكم ولا تقبل من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

وقاتل حبيب قتالاً شديداً حتى قتل رجلاً يقال له‏:‏ بديل بن صريم من بني عقفان، وجعل يقول‏:‏

أنا حبيبٌ وأبي مطهرٌ * فارس هيجاء وحرب مسعر

أنتم أوفر عدة وأكثر * ونحن أوفى منكم وأصبر

ونحن أعلى حجةً وأظهر * حقاً وأبقى منكم وأطهر

ثم حمل على حبيب هذا رجل من بني تميم فطعنه فوقع، ثم ذهب ليقوم فضربه الحصين بن عمير على رأسه بالسيف فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه وحمله إلى ابن زياد، فرأى ابن حبيب رأس أبيه فعرفه، فقال لحامله‏:‏ أعطني رأس أبي حتى أدفنه، ثم بكى‏.‏

وقال‏:‏ فمكث الغلام إلى أن بلغ أشده ثم لم تكن له همة إلا قتل قاتل أبيه‏.‏

قال‏:‏ فلما كان زمن مصعب بن عمير دخل الغلام عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فدخل عليه وهو قائل فضربه بسيفه حتى برد‏.‏

وقال أبو مخنف‏:‏ حدثني محمد بن قيس قال‏:‏ لما قتل حبيب بن مطهر هدّ ذلك الحسين وقال عند ذلك‏:‏ أحتسب نفسي، وأخذ الحر يرتجز ويقول للحسين‏:‏

آليت لا تقتل حتى أقتلا * ولن أصاب اليوم إلا مقبلاً

أضربهم بالسيف ضرباً مقصلاً * لأنا كلاً عنهم ولا مهملاً

ثم قاتل هو وزهير بن القين قتالاً شديداً، فكان إذا شد أحدهما حتى استلحم شد الآخر حتى يخلصه، فعلا ذلك ساعة، ثم إن رجالاً شدوا على الحر بن يزيد فقتلوه، وقتل أبو ثمامة الصائدي ابن عم له كان عدو له، ثم صلى الحسين بأصحابه الظهر صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعدها قتالاً شديداً، ودافع عن الحسين صناديد أصحابه‏.‏

وقاتل زهير بن القين بين يدي الحسين قتالاً شديداً، ورمى بعض أصحابه بالنبل حتى سقط بين يدي الحسين، وجعل زهير يرتجز ويقول‏:‏

أنا زهير وأنا ابن القين * أذودكم بالسيف عن الحسين

قال‏:‏ وأخذ يضرب على منكب الحسين ويقول‏:‏

أقدم هديت هادياً مهدياً * فاليوم تلقى جدك النبيا

وحسناً والمرتضى علياً * وذا الجناحين الفتى الكميا

وأسد الله الشهيد الحيا

قال‏:‏ فشد عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه‏.‏

قال‏:‏ وكان من أصحاب الحسين نافع بن هلال الجملي، وكان قد كتب على فوق نبله فجعل يرمي بها مسمومة وهو يقول‏:‏

أرمي بها معلماً أفواقها * والنفس لا ينفعها شقاقها

أنا الجملي أنا على دين علي

فقتل اثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح، ثم ضرب حتى كسرت عضداه، ثم أسروه فأتوا به عمر بن سعد فقال له‏:‏ ويحك يا نافع، ما حملك على ما صنعت بنفسك‏؟‏ :‏ فقال‏:‏ إن ربي يعلم ما أردت، والدماء تسيل عليه وعلى لحيته، ثم قال‏:‏ والله لقد قتلت من جندكم اثني عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسي على الجهد، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني‏.‏

فقال شمر لعمر‏:‏ اقتله‏.‏

قال‏:‏ أنت جئت به، فإن شئت اقتله‏.‏

فقام شمر‏:‏ فأنضى سيفه فقال له نافع‏:‏ أما والله يا شمر لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه‏.‏

ثم قتله، ثم أقبل شمر فحمل على أصحاب الحسين وتكاثر معه الناس حتى كادوا أن يصلوا إلى الحسين، فلما رأى أصحاب الحسين أنهم قد كثروا عليهم، وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا الحسين ولا أنفسهم، تنافسوا أن يقتلوا بين يديه‏.‏

فجاء عبد الرحمن، وعبد الله ابنا عزرة الغفاري، فقالا‏:‏ أبا عبد الله عليك السلام حازنا العدو إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك وندفع عنك‏.‏

فقال‏:‏ مرحباً بكما ادن مني فدنوا منه فجعلا يقاتلان قريباً منه وهما يقولان‏:‏

قد علمت حقاً بنو غفار * وخندفٍ بعد بني نزار

لنضربن معشر الفجار * بكل عضبٍ قاطع بتار

يا قوم ذودوا عن بني الأخيار * بالمشرفي والقنا الخطار

ثم أتاه أصحابه مثنى وفرادى يقاتلون بين يديه وهو يدعو لهم ويقول‏:‏ جزاكم الله أحسن جزاء المتقين، فجعلوا يسلمون على الحسين ويقاتلون حتى يقتلوا‏.‏

ثم جاء عابس بن أبي شبيب فقال‏:‏ يا أبا عبد الله ‏!‏ أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز علي منك، ولو قدرت أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد لي أني على هديك‏.‏

ثم مشى بسيفه صلتاً وبه ضربة على جبينه - وكان أشجع الناس - فنادى‏:‏ ألا رجل لرجل‏؟‏ ألا ابرزوا إلي‏.‏

فعرفوه فنكلوا عنه، ثم قال عمر بن سعد‏:‏ أرضخوه بالحجارة، فرمي بالحجارة من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثم شد على الناس، والله لقد رأيته يكرد أكثر من مائتين من الناس بين يديه‏.‏

ثم إنهم عطفوا عليه من كل جانب فقتل رحمه الله، فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدد، كل يدعي قتله، فأتوا به عمر بن سعد فقال لهم‏:‏ لا تختصموا فيه، فإنه لم يقتله إنسان واحد، ففرق بينهم بهذا القول‏.‏

ثم قاتل أصحاب الحسين بين يديه حتى تفانوا ولم يبق معه أحد إلا سويد بن عمرو بن أبي مطاع الخثعمي، وكان أول قتيل قتل من أهل الحسين من بني أبي طالب علي الأكبر بن الحسين بن علي، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، طعنه مرة بن منقذ بن النعمان العبدي فقتله، لأنه جعل يقي أباه، وجعل يقصد أباه، فقال علي بن الحسين‏:‏

أنا علي بن الحسين بن علي * نحن وبيت الله أولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي * كيف ترون اليوم ستري عن أبي

فلما طعنه مرة احتوشته الرجال فقطعوه بأسيافهم، فقال الحسين‏:‏ قتل الله قوماً قتلوك يا بني ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك محارمه‏؟‏ ‏!‏ فعلى الدنيا بعدك العفاء‏.‏

قال‏:‏ وخرجت جارية كأنها الشمس حسناً، فقالت‏:‏ يا أخياه ويا ابن أخاه، فإذا هي زينب بنت علي من فاطمة، فأكبت عليه وهو صريع‏.‏

قال‏:‏ فجاء الحسين فأخذ بيدها فأدخلها الفسطاط، وأمر به الحسين فحول من هناك إلى بين يديه عند فسطاطه، ثم قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل‏.‏

ثم قتل عون ومحمد ابنا عبد الله بن جعفر، ثم قتل عبد الرحمن وجعفر ابنا عقيل بن أبي طالب، ثم قتل القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ وحدثني فضيل بن خديج الكندي‏:‏ أن يزيد بن زياد وكان رامياً، وهو أبو الشعثاء الكناني من بني بهدلة، جث على ركبتيه بين يدي الحسين فرمى بمائة سهم ما سقط منها على الأرض خمسة أسهم، فلما فرغ من الرمي قال‏:‏ قد تبين لي أني قتلت خمسة نفر‏:‏

أنا يزيد وأنا المهاجر * أشجع من ليث قوي حادر

بربي إني للحسين ناصر * ولابن سعد تارك وهاجر

قالوا‏:‏ ومكث الحسين نهاراً طويلاً وحده لا يأتي أحد إليه إلا رجع عنه، لا يحب أن يلي قتله، حتى جاءه رجل من بني بداء يقال له‏:‏ مالك بن البشر، فضرب الحسين على رأسه بالسيف فأدمى رأسه، وكان على الحسين برنس فقطعه وجرح رأسه فامتلأ البرنس دماً، فقال له الحسين‏:‏ لا أكلت بها ولا شربت، وحشرك الله مع الظالمين‏.‏

ثم ألقى الحسين ذلك البرنس ودعا بعمامةٍ فلبسها‏.‏

وقال أبو مخنف‏:‏ حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد قال‏:‏ خرج إلينا غلام كأن وجهه فلقة قمر، في يده السيف، وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما، ما أنسى أنها اليسرى‏.‏

فقال لنا عمر بن سعد بن نفيل الأزدي‏:‏ والله لأشدن عليه‏.‏

فقلت له‏:‏ سبحان الله‏!‏ وما تريد إلى ذلك‏؟‏ يكفيك قتل هؤلاء الذين تراهم قد احتولوهم‏.‏

فقال‏:‏ والله لأشدن عليه، فشد عليه عمر بن سعد أمير الجيش، فضربه وصاح الغلام يا عماه‏.‏

قال‏:‏ فشد الحسين على عمر بن سعد شدة ليث أعضب، فضرب عمر بالسيف فاتقاه بالساعد فأطنها من لدن المرفق فصاح ثم تنحى عنه‏.‏

وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمر من الحسين فاستقبلت عمر بصدورها وحركت حوافرها، وجالت بفرسانها عليه، ثم انجلت الغبرة، فإذا بالحسين قائم على رأس الغلام، والغلام يفحص برجله، والحسين يقول‏:‏ بعداً لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك‏.‏

ثم قال‏:‏ عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثم لا ينفعك، صوت، والله كثر واتره وقل ناصره‏.‏

ثم احتمله فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض، وقد وضع الحسين صدره على صدره، ثم جاء به حتى ألقاه مع ابنه علي الأكبر ومع من قتل من أهل بيته، فسألت عن الغلام، فقيل لي‏:‏ هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب‏.‏

وقال هانئ بن ثبيت الحضرمي‏:‏ إني لواقف يوم مقتل الحسين عاشر عاشرة ليس منا رجل إلا على فرس، إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية، وعليه إزار وقميص، وهو مذعور يلتفت يميناً وشمالاً، فكأني أنظر إلى درتين في أذنيه تذبذبان كلما التفت، إذ أقبل رجل يركض فرسه حتى إذا دنا من الغلام مال عن فرسه ثم أخذ الغلام فقطعه بالسيف‏.‏

قال هشام السكوني‏:‏ هانئ بن ثبيت هو الذي قتل الغلام، خاف أن يعاب ذلك عليه فكنى عن نفسه‏.‏

قال‏:‏ ثم إن الحسين أعيا فقعد على باب فسطاطه، وأتي بصبي صغير من أولاده اسمه عبد الله، فأجلسه في حجره، ثم جعل يقبله ويشمه ويودعه ويوصي أهله، فرماه رجل من بني أسد يقال له‏:‏ ابن موقد النار بسهم فذبح ذلك الغلام‏.‏ ‏)‏

فتلقى حسين دمه في يده وألقاه نحو السماء، وقال‏:‏ رب إن تك قد حبست عنا النصر من السماء فاجعله لما هو خير، وانتقم لنا من الظالمين‏.‏

ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بسهم فقتله أيضاً، ثم قتل عبد الله، والعباس، وعثمان، وجعفر، ومحمد بنو علي بن أبي طالب إخوة الحسين، وقد اشتد عطش الحسين فحاول أن يصل إلى أن يشرب من ماء الفرات فما قدر، بل مانعوه عنه‏.‏

فخلص إلى شربه منه، فرماه رجل يقال له‏:‏ حصين بن تميم بسهم في حنكة فأثبته، فانتزعه الحسين من حنكة ففار الدم فتلقاه بيديه، ثم رفعهما إلى السماء وهما مملوءتان دماً، ثم رمى به إلى السماء وقال‏:‏ اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذر على الأرض منهم أحداً، ودعا عليهم دعاء بليغاً‏.‏

قال‏:‏ فوالله إن مكث الرجل الرامي إلا يسيراً حتى صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى ويسقى الماء مبرداً، وتارة يبرد له اللبن والماء جميعاً ويسقى فلا يروى بل يقول‏:‏ ويلكم ‏!‏ اسقوني قتلني الظمأ‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما لبث إلا يسيراً حتى انفذ بطنه انفداد بطن البعير، ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نحو من عشرة من رجالة الكوفة قبل منزل الحسين الذي فيه ثقلة عياله، فمشى نحوهم فحالوا بينه وبين رحله‏.‏

فقال لهم الحسين‏:‏ ويلكم ‏!‏‏!‏ إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا في دنياكم أحراراً وذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم‏.‏

فقال ابن ذي الجوشن‏:‏ ذلك لك يا ابن فاطمة، ثم أحاطوا به فجعل شمر يحرضهم على قتله‏.‏

فقال له أبو الجنوب‏:‏ وما يمنعك أنت من قتله‏؟‏

فقال له شمر‏:‏ إلي تقول ذا‏؟‏

فقال أبو الجنوب‏:‏ إلي تقول ذا‏؟‏ فاستبا ساعة‏.‏

فقال له أبو الجنوب - وكان شجاعاً -‏:‏ والله لقد هممت أن أخضخض هذا السنان في عينك، فانصرف عنه شمر‏.‏

ثم جاء شمر ومعه جماعة من الشجعان حتى أحاطوا بالحسين، وهو عند فسطاطه، ولم يبق معه أحد يحول بينهم وبينه، فجاء غلام يشتد من الخيام كأنه البدر، وفي أذنيه درتان فخرجت زينب بنت علي لترده فامتنع عليها، وجاء يحاجف عن عمه فضربه رجل منهم بالسيف فاتقاه بيده فأطنها سوى جلده‏.‏

فقال‏:‏ يا أبتاه‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ يا بني احتسب أجرك عند الله، فإنك تلحق بآبائك الصالحين‏.‏ :‏ ثم حمل على الحسين الرجال من كل جانب وهو يجول فيهم بالسيف يميناً وشمالاً، فيتنافرون عنه كتنافر المعزى عن السبع، وخرجت أخته زينب بنت فاطمة إليه فجعلت تقول‏:‏ ليت السماء تقع على الأرض‏.‏

وجاءت عمر بن سعد فقالت‏:‏ يا عمر، أرضيت أن يقتل أبو عبد الله وأنت تنظر‏؟‏ فتحادرت الدموع على لحيته وصرف وجهه عنها، ثم جعل لا يقدم أحد على قتله، حتى نادى شمر بن ذي الجوشن‏:‏ ويحكم ‏!‏ ماذا تنتظرون بالرجل، فاقتلوه ثكلتكم أمهاتكم‏.‏

فحملت الرجال من كل جانب على الحسين، وضربه زرعة بن شريك التميمي على كتفه اليسرى، وضرب على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو ينوء ويكبو، ثم جاء إليه سنان بن أبي عمرو بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع، ثم نزل فذبحه وحز رأسه، ثم دفع رأسه إلى خولي بن يزيد‏.‏

وقيل‏:‏ إن الذي قتله شمر بن ذي الجوشن‏.‏

وقيل‏:‏ رجل من مذحج‏.‏

وقيل‏:‏ عمرو بن سعد بن أبي وقاص، وليس بشيء، وإنما كان عمر أمير السرية التي قتلت الحسين فقط‏.‏ والأول أشهر‏.‏

وقال عبد الله بن عمار‏:‏ رأيت الحسين حين اجتمعوا عليه يحمل على من على يمينه حتى انذعروا عنه، فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل أولاده وأصحابه أربط جأشاً منه، ولا أمضى جناناً منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله‏.‏

وقال‏:‏ ودنا عمر بن سعد من الحسين، فقالت له زينب‏:‏ يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر‏؟‏ فبكى وصرف وجهه عنها‏.‏

وقال أبو مخنف‏:‏ حدثني الصقعب بن زهير، عن حميد بن مسلم قال‏:‏ جعل الحسين يشد على الرجال وهو يقول‏:‏ أعلى قتلي تحابون‏؟‏ أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله أسخط عليكم بقتله مني، وأيم الله إني أرجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم الله لي منكم من حيث لا تشعرون، أما والله لو قد قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم، ثم لا يرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الأليم‏.‏

قال‏:‏ ولقد مكث طويلاً من النهار، ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكن كان يتقي بعضهم ببعض دمه، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء مؤنة قتله، حتى نادى شمر بن ذي الجوشن‏:‏ ماذا تنتظرون بقتله‏؟‏

فتقدم إليه زرعة بن شريك التميمي فضربه بالسيف على عاتقه، ثم طعنه سنان بن أنس بن عمرو النخعي بالرمح، ثم نزل فاحتز رأسه ودفعه إلى خولي‏.‏

وقد روى ابن عساكر في ترجمة شمر بن ذي الجوشن، وذو الجوشن صحابي جليل، قيل‏:‏ اسمه شرحبيل‏.‏

وقيل‏:‏ عثمان بن نوفل‏.‏

ويقال‏:‏ ابن أوس بن الأعور العامري الضبابي، بطن من كلاب، ويكنى شمر بأبي السابغة‏.‏

ثم روى من طريق عمر بن شبة‏:‏ ثنا أبو أحمد، حدثني عمي فضيل بن الزبير، عن عبد الرحيم بن ميمون، عن محمد بن عمرو بن حسن قال‏:‏ كنا مع الحسين بنهري كربلاء، فنظر إلى شمر بن ذي الجوشن فقال‏:‏ صدق الله ورسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كأني أنظر إلى كلب أبقع بلغ في دماء أهل بيتي‏)‏‏)‏‏.‏

وكان شمر - قبحه الله - أبرص‏.‏

وأخذ سنان وغيره سلبه، وتقاسم الناس ما كان من أمواله وحواصله وما في خبائه، حتى ما على النساء من الثياب الطاهرة‏.‏

وقال أبو مخنف‏:‏ عن جعفر بن محمد قال‏:‏ وجدنا بالحسين حين قتل ثلاث وثلاثين طعنة، وأربع وثلاثين ضربة، وهَمَّ شمر بن ذي الجوشن بقتل علي بن الحسين الأصغر زين العابدين، وهو صغير مريض حتى صرفه عن ذلك حميد بن مسلم أحد أصحابه‏.‏

وجاء عمر بن سعد فقال‏:‏ ألا لا يدخلن على هذه النسوة أحد، ولا يقتل هذا الغلام أحد، ومن أخذ من متاعهم شيئاً فليرده عليهم‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما رد أحد شيئاً‏.‏

فقال له علي بن الحسين‏:‏ جزيت خيراً، فقد دفع الله عني بمقالتك شراً‏.‏

قالوا‏:‏ ثم جاء سنان بن أنس إلى باب فسطاط عمر بن سعد، فنادى بأعلى صوته‏:‏

أوقر ركابي فضة وذهباً * أنا قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس أما وأبا * وخيرهم إذ ينسبون نسبا

فقال عمر بن سعد‏:‏ أدخلوه علي، فلما دخل رماه بالسوط، وقال‏:‏ ويحك ‏!‏ أنت مجنون، والله لو سمعك ابن زياد تقول هذا لضرب عنقك‏.‏

ومنَّ عمر بن سعد على عقبة بن سمعان حين أخبره أنه مولى، فلم ينج منهم غيره‏.‏

والمرقع بن يمانة أسر فمنَّ عليه ابن زياد، وقتل من أصحاب الحسين اثنان وسبعون نفساً، فدفنهم أهل الغاضرية من بني أسد بعد ما قتلوا بيوم واحد‏.‏

قال‏:‏ ثم أمر عمر بن سعد أن يوطأ الحسين بالخيل ولا يصح ذلك والله أعلم‏.‏

وقتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون نفساً‏.‏

وروي عن محمد بن الحنفية أنه قال‏:‏ قتل مع الحسين سبعة عشر رجلاً كلهم من أولاد فاطمة‏.‏

وعن الحسن البصري أنه قال‏:‏ قتل مع الحسين ستة عشر رجلاً كلهم من أهل بيته ما على وجه الأرض يومئذٍ لهم شبه‏.‏

وقال غيره‏:‏ قتل معه من ولده إخوته، وأهل بيته ثلاثة وعشرون رجلاً‏.‏

فمن أولاد علي رضي الله عنه‏:‏ جعفر، والحسين، والعباس، ومحمد، وعثمان، وأبو بكر‏.‏

ومن أولاد الحسين‏:‏ علي الأكبر، وعبد الله‏.‏

ومن أولاد أخيه الحسن ثلاثة‏:‏ عبد الله، والقاسم، وأبو بكر بنو الحسن بن علي بن أبي طالب‏.‏

ومن أولاد عبد الله بن جعفر اثنان‏:‏ عون، ومحمد‏.‏

ومن أولاد عقيل‏:‏ جعفر، وعبد الله، وعبد الرحمن، ومسلم قتل قبل ذلك كما قدمنا‏.‏

فهؤلاء أربعة لصلبه، واثنان آخران هما‏:‏ عبد الله بن مسلم بن عقيل، ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل، فكملوا ستة من ولد عقيل، وفيهم يقول الشاعر‏:‏

واندبي تسعة لصلب علي * قد أصيبوا وستة لعقيل

وسمى النبي غودر فيهم * قد علوه بصارم مصقول

وممن قتل مع الحسين بكربلاء، أخوه من الرضاعة عبد الله بن بقطر، وقد قيل‏:‏ إنه قتل قبل ذلك حيث بعث معه كتاباً إلى أهل الكوفة، فحمل إلى ابن زياد فقتله، وقتل من أهل الكوفة من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلاً سوى الجرحى، فصلى عليهم عمر بن سعد ودفنهم‏.‏

ويقال‏:‏ إن عمر بن سعد أمر عشرة فرسان فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتى ألصقوه بالأرض يوم المعركة، وأمر برأسه أن يحمل من يومه إلى ابن زياد مع خولي بن يزيد الأصبحي، فلما انتهى به إلى القصر وجده مغلقاً، فرجع به إلى منزله فوضعه تحت إجانة، وقال لامرأته نوار بنت مالك‏:‏ جئتك بعز الدهر‏.‏

فقالت‏:‏ وما هو‏؟‏

فقال‏:‏ برأس الحسين‏.‏

فقالت‏:‏ جاء الناس بالذهب والفضة، وجئت أنت برأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ والله لا يجمعني وإياك فراش أبداً، ثم نهضت عنه من الفراش واستدعى بامرأة له أخرى من بني أسد فنامت عنده‏.‏

قالت المرأة الثانية الأسدية‏:‏ والله ما زلت أرى النور ساطعاً من تلك الإجانة إلى السماء، وطيوراً بيضاء ترفرف حولها، فلما أصبح غدا به إلى ابن زياد فأحضره بين يديه‏.‏

ويقال‏:‏ إنه كان معه رؤوس بقية أصحابه، وهو المشهور، ومجموعها اثنان وسبعون رأساً، وذلك أنه ما قتل قتيل إلا احتزوا رأسه وحملوه إلى ابن زياد، ثم بعث بها ابن زياد إلى يزيد بن معاوية إلى الشام‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين، ثنا جرير، عن محمد، عن أنس قال‏:‏ أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعل في طست فجعل ينكت عليه، وقال في حسنه شيئاً، فقال أنس‏:‏ إنه كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوباً بالوشمة‏.‏

ورواه البخاري في ‏(‏المناقب‏)‏ عن محمد بن الحسين بن إبراهيم - هو ابن إشكاب - عن حسين بن محمد، عن جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أنس فذكره‏.‏ وقد رواه الترمذي، من حديث حفصة بنت سيرين، عن أنس قال‏:‏ حسن صحيح، وفيه‏:‏ فجعل ينكت بقضيب في أنفه ويقول‏:‏ ما رأيت مثل هذا حسناً‏.‏

وقال البزار‏:‏ حدثنا مفرج بن شجاع بن عبيد الله الموصلي، ثنا غسان بن الربيع، ثنا يونس بن عبيدة، عن ثابت وحميد، عن أنس قال‏:‏ لما أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين جعل ينكت بالقضيب ثناياه ويقول‏:‏ لقد كان - أحسبه قال جميلاً -

فقلت‏:‏ والله لأسوءنك، إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم حيث يقع قضيبك‏.‏

قال‏:‏ فانقبض‏.‏

تفرد به البزار من هذا الوجه، وقال‏:‏ لا نعلم رواه عن حميد غير يونس بن عبدة، وهو رجل من أهل البصرة مشهور، وليس به بأس‏.‏

ورواه أبو يعلى الموصلي‏:‏ عن إبراهيم بن الحجاج، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أنس فذكره‏.‏

ورواه قرة بن خالد، عن الحسن، عن أنس فذكره‏.‏

وقال أبو مخنف‏:‏ عن سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال‏.‏

دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لأبشرهم بما فتح الله عليه وبعافيته، فأجد ابن زياد قد جلس للناس، وقد دخل عليه الوفد الذين قدموا عليه فدخلت فيمن دخل، فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه، وإذا هو ينكت فيه بقضيب بين ثناياه ساعة‏.‏

فقال له زيد بن أرقم‏:‏ ارفع هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الثنيتين يقبلهما، ثم انفضخ الشيخ يبكي‏.‏

فقال له ابن زياد‏:‏ أبكى الله عينك، فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك‏.‏

قال‏:‏ فنهض فخرج، فلما خرج قال الناس‏:‏ والله لقد قال زيد بن أرقم كلاماً لو سمعه ابن زياد لقتله‏.‏

قال‏:‏ فقلت ما قال‏؟‏ قالوا‏:‏ مر بنا وهو يقول‏:‏

ملك عبد عبيداً * فاتخذهم تليداً

أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة فهو يقتل خياركم ويستعبد شرار كم، فبعداً لمن رضي بالذل‏.‏

وقد روي من طريق أبي داود بإسناده عن زيد بن أرقم بنحوه‏.‏

ورواه الطبراني من طريق ثابت عن زيد‏.‏

وقد قال الترمذي‏:‏ حدثنا واصل بن عبد الأعلى، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير قال‏.‏

لما جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه، فنصبت في المسجد في الرحبة فانتهيت إليهم وهم يقولون‏:‏ قد جاءت قد جاءت، فإذا حية قد جاءت تتخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد، فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيب‏.‏

ثم قالوا‏:‏ قد جاءت، قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً‏.‏

ثم قال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وأمر ابن زياد فنودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر فذكر ما فتح الله عليه من قتل الحسين الذي أراد أن يسلبهم الملك ويفرق الكلمة عليهم، فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي‏.‏

فقال‏:‏ ويحك يا ابن زياد ‏!‏‏!‏ تقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين ‏!‏ فأمر به ابن زياد فقتل وصلب‏.‏

ثم أمر برأس الحسين فنصب بالكوفة وطيف به في أزقتها، ثم سيره مع زحر بن قيس ومعه رؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية بالشام، وكان مع زحر جماعة من الفرسان، منهم‏:‏ أبو بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان الأزدي، فخرجوا حتى قدموا بالرؤوس كلها على يزيد بن معاوية‏.‏

قال هشام‏:‏ فحدثني عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي، عن أبيه، عن الغاز بن ربيعة الجرشي من حمير‏.‏

قال‏:‏ والله إني لعند يزيد بن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس فدخل على يزيد، فقال له يزيد‏:‏ ويحك ما وراءك‏؟‏

فقال‏:‏ أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله عليك ونصره، ورد علينا الحسين بن علي بن أبي طالب وثمانية عشر من أهل بيته، وستون رجلاً من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال‏.‏

فغدونا إليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، فجعلوا يهربون إلى غير مهرب ولا وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر، لواذاً كما لاذ الحمام من صقر‏.‏

فوالله ما كانوا إلا جزر جزور، أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مزملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم‏.‏

قال‏:‏ فدمعت عينا يزيد بن معاوية وقال‏:‏ كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، ورحم الله الحسين‏.‏

ولم يصل الذي جاء برأسه بشيء‏.‏

ولما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد قال‏:‏ أما والله لو إني صاحبك ما قتلتك، ثم أنشد قول الحسين بن الحمام المري الشاعر‏:‏

يفلقن هاماً من رجالٍ أعزّةٍ * علينا وهم كانوا أعق وأظلما

قال أبو مخنف‏:‏ فحدثني أبو جعفر العبسي قال‏:‏ وقام يحيى بن الحكم -أخو مروان بن الحكم - فقال‏:‏

لهام بجنب الطف أدنى قرابةً * من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل

سميةً أضحى نسلها عدد الحصى * وليس لآل المصطفى اليوم من نسل

قال‏:‏ فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحكم وقال له‏:‏ اسكت‏.‏

وقال محمد بن حميد الرازي - وهو شيعي -‏:‏ حدثنا محمد بن يحيى الأحمري، ثنا ليث، عن مجاهد قال‏:‏ لما جيء برأس الحسين فوضع بين يدي يزيد تمثل بهذه الأبيات‏:‏

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا * جزع الخزرج في وقع الأسل

فأهلّوا واستهلوا فرحاً * ثم قالوا لي هنياً لا تسل

حين حكت بفناء بركها * واستحر القتل في عبد الأسل

قد قتلنا الضعف من أشرافكم * وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدل

قال مجاهد‏:‏ نافق فيها، والله ثم والله ما بقي في جيشه أحد إلا تركه أي‏:‏ ذمه وعابه‏.‏

وقد اختلف العلماء بعدها في رأس الحسين هل سّيره ابن زياد إلى الشام إلى يزيد أم لا‏؟‏

على قولين، الأظهر منهما أنه سيره إليه، وقد ورد في ذلك آثار كثيرة فالله أعلم‏.‏

وقال أبو مخنف‏:‏ عن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الله اليماني، عن القاسم بن بخيت، قال‏:‏ لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينكت بقضيب كان في يده في ثغره، ثم قال‏:‏ إن هذا وإيانا كما قال الحصين ابن الحمام المري‏:‏

يفلقن هاماً من رجال أعزةٍ * علينا وهم كادونا أعق وأظلما

فقال له أبو برزة الأسلمي‏:‏ أما والله لقد أخذ قضيبك هذا مأخذاً لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشفه، ثم قال‏:‏ ألا إن هذا سيجيء يوم القيامة وشفيعه محمد، وتجيء وشفيعك ابن زياد‏.‏

ثم قام فولى‏.‏

وقد رواه ابن أبي الدنيا، عن أبي الوليد، عن خالد بن يزيد بن أسد، عن عمار الدهني، عن جعفر‏.‏

قال‏:‏ لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد وعنده أبو برزة، وجعل ينكت بالقضيب فقال له‏:‏ ارفع قضيبك فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثمه‏.‏

قال ابن أبي الدنيا‏:‏ وحدثني مسلمة بن شبيب، عن الحميدي، عن سفيان، سمعت سالم بن أبي حفصة قال‏:‏ قال الحسن‏:‏ لما جيء برأس الحسين جعل يزيد

‏[‏بالهامش لا يتصور أن يكون يزيد قد تمثل بهذه الأبيات هذه الأيام، فإن المؤرخين قاطبة ذكروا أنه تمثل بها لما جاءه خبر وقعة الحرة بالمدينة الشريفة وقتل الأنصار ووقعة الحرة بعد هذه كما سنراه، وأيضاً فإن قضية الحسين رضي الله عنه لم يكن حاضرها أحد من الخزرج يعلم ذلك من الألمام بالأخبار وأيام الناس والله أعلم‏]‏‏؟‏ ‏

يطعن بالقضيب‏.‏

قال سفيان‏:‏ وأخبرت أن الحسن كان ينشد على إثر هذا‏:‏

سمية أمسى نسلها عدد الحصى * وبنت رسول الله ليس لها نسل

وأما بقية أهله ونسائه فإن عمر بن سعد وكّل بهم من يحرسهم ويكلؤهم، ثم أركبوهم على الرواحل في الهوادج، فلما مروا بمكان المعركة ورأوا الحسين وأصحابه مطرحين هنالك بكته النساء، وصرخن، وندبت زينب أخاها الحسين وأهلها‏.‏

فقالت وهي تبكي‏:‏

يا محمداه، يا محمداه، صلى عليك الله، ومليك السماه، هذا حسين بالعراه، مزمل بالدماه، مقطع الأعضاء يا محمده، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عليها الصبا‏.‏

قال‏:‏ فأبكت والله كل عدوٍ وصديق‏.‏

قال قرة بن قيس‏:‏ لما مرت النسوة بالقتلى صحن ولطمن خدودهن‏.‏

قال‏:‏ فما رأيت من منظر من نسوة قط أحسن من منظر رأيته منهن ذلك اليوم، والله إنهن لأحسن من مهابيرين‏.‏

وذكر الحديث كما تقدم‏.‏

ثم قال‏:‏ ثم ساروا بهم من كربلاء حتى دخلوا الكوفة فأكرمهم ابن زياد وأجرى عليهم النفقات والكساوى وغيرها‏.‏

قال‏:‏ دخلت زينب ابنة فاطمة في أرذل ثيابها قد تنكرت وحفّت بها إماؤها، فلما دخلت على عبيد الله بن زياد قال‏:‏ من هذه‏؟‏

فلم تكلمه‏.‏

فقال بعض إمائها‏:‏ هذه زينب بنت فاطمة‏.‏

فقال‏:‏ الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وكذّب أحدوثتكم‏.‏

فقالت‏:‏ بل الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيراً لا كما تقول، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر‏.‏

قال‏:‏ كيف رأيت صنع الله بأهل بيتكم‏؟‏

فقالت‏:‏ كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فيحاجونك إلى الله‏.‏

فغضب ابن زياد واستشاط‏.‏

فقال له عمرو بن حريث‏:‏ أصلح الله الأمير‏!‏ إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها‏؟‏ إنها لا تؤاخذ بما تقول ولا تلام على خطل‏.‏

وقال أبو مخنف‏:‏ عن المجالد، عن سعيد‏:‏ إن ابن زياد لما نظر إلى علي بن الحسين زين العابدين قال لشرطي‏:‏ أنظر أأدرك هذا الغلام، فإن كان أدرك فانطلقوا به فاضربوا عنقه‏؟‏

فكشف إزاره عنه فقال‏:‏ نعم ‏!‏

فقال‏:‏ اذهب به فاضرب عنقه‏.‏

فقال له علي بن الحسين‏:‏ إن كان بينك وبين هؤلاء النسوة قرابة فابعث معهن رجلاً يحافظ عليهن‏.‏

فقال له ابن زياد‏:‏ تعال أنت ‏!‏ فبعثه معهن‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ وأما سليمان بن أبي راشد فحدثني عن حميد بن مسلم قال‏:‏ إني لقائم عند ابن زياد حين عرض عليه علي بن الحسين، فقال له‏:‏ ما اسمك‏؟‏

قال‏:‏ أنا علي بن الحسين‏.‏ :‏ قال‏:‏ أولم يقتل الله علي بن الحسين‏؟‏

فسكت‏.‏

فقال له ابن زياد‏:‏ مالك لا تتكلم‏؟‏

قال‏:‏ كان لي أخ يقال له‏:‏ علي أيضاً، قتله الناس‏.‏

قال‏:‏ إن الله قتله‏.‏

فسكت‏.‏

فقال‏:‏ مالك لا تتكلم‏؟‏

فقال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا‏}‏‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏

‏]‏‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏ 145‏]‏‏.‏

قال‏:‏ أنت والله منهم، ويحك ‏!‏‏!‏ انظروا هذا أدرك‏؟‏ والله إني لأحسبه رجلاً‏.‏

فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري فقال‏:‏ نعم قد أدرك‏.‏

فقال‏:‏ اقتله‏.‏

فقال علي بن الحسين‏:‏ من يوكل بهذه النسوة‏؟‏

وتعلقت به زينب عمته فقالت‏:‏ يا ابن زياد حسبك منا ما فعلت بنا، أما رويت من دمائنا‏؟‏

وهل أبقيت منا أحداً‏؟‏

قال‏:‏ واعتنقته وقالت‏:‏ أسألك بالله إن كنت مؤمناً إن قتلته لما قتلني معه‏.‏

وناداه علي فقال‏:‏ يا ابن زياد ‏!‏‏!‏ إن كان بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلاً تقياً يصحبهن بصحبة الإسلام‏.‏

قال‏:‏ فنظر إليهن ساعة، ثم نظر إلى القوم فقال‏:‏ عجباً للرحم ‏!‏‏!‏ والله إني لأظن أنها ودّت لو إني قتلته أن أقتلها معه، دعوا الغلام، انطلق مع نسائك‏.‏

قال‏:‏ ثم إن ابن زياد أمر بنساء الحسين وصبيانه وبناته فجهزن إلى يزيد، وأمر بعلي بن الحسين فغل بغلٍ إلى عنقه، وأرسلهم مع محقر بن ثعلبة العائذي - من عائذة قريش - ومع شمر بن ذي الجوشن قبحه الله‏.‏

فلما بلغوا باب يزيد بن معاوية رفع محقر بن ثعلبة صوته فقال‏:‏ هذا محقر بن ثعلبة، أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة‏.‏

فأجابه يزيد بن معاوية‏:‏ ما ولدت أم محقر شر وألأم‏.‏

فلما دخلت الرؤوس والنساء على يزيد، دعا أشراف الشام فأجلسهم حوله، ثم دعا بعلي بن الحسين وصبيان الحسين ونسائه، فأدخلن عليه والناس ينظرون‏.‏

فقال لعلي بن الحسين‏:‏ يا علي أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت‏.‏

فقال علي‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 22‏]‏‏.‏

فقال يزيد لابنه خالد‏:‏ أجبه‏.‏

قال‏:‏ فما درى خالد ما يرد عليه‏.‏

فقال له يزيد‏:‏ قل‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ‏} ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ فسكت عنه ساعة، ثم دعا بالنساء والصبيان فرأى هيئة قبيحة‏.‏

فقال‏:‏ قبح الله ابن مرجانة، لو كانت بينهم وبينه قرابة ورحم ما فعل هذا بهم، ولا بعث بكم هكذا‏.‏

وروى أبو مخنف‏:‏ عن الحارث بن كعب، عن فاطمة بنت علي قالت‏:‏ لما أجلسنا بين يدي يزيد رق لنا وأمر لنا بشيء وألطفنا، ثم إن رجلاً من أهل الشام أحمر قام إلى يزيد فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، هب لي هذه - يعنيني - وكنت جارية وضيئة، فارتعدت فزعة من قوله، وظننت أن ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب أختي زينب - وكانت أكبر مني وأعقل، وكانت تعلم أن ذلك لا يجوز -‏.‏

فقالت‏:‏ لذلك الرجل كذبت والله ولؤمت، وما ذلك لك وله‏.‏

فغضب يزيد، فقال لها‏:‏ كذبتِ ‏!‏ والله إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت

قالت‏:‏ كلا ‏!‏ والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا‏.‏

قالت‏:‏ فغضب يزيد واستطار‏.‏

ثم قال‏:‏ إياي تستقبلين بهذا‏؟‏ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك‏.‏

فقالت زينب‏:‏ بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك‏.‏

قال‏:‏ كذبتِ يا عدوة الله‏.‏

قالت‏:‏ أنت أمير المؤمنين مسلط تشتم ظالماً، وتقهر بسلطانك‏.‏

قالت‏:‏ فوالله لكأنه استحي فسكت، ثم قام ذلك الرجل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هب لي هذه‏.‏

فقال له يزيد‏:‏ اعزب وهب الله لك حتفاً قاضياً‏.‏

ثم أمر يزيد النعمان بن بشير أن يبعث معهم إلى المدينة رجلاً أميناً معه رجال وخيل، ويكون علي بن الحسين معهن‏.‏

ثم أنزل النساء عند حريمه في دار الخلافة فاستقبلهن نساء آل معاوية يبكين وينحن علي الحسين، ثم أقمن المناحة ثلاثة أيام، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا ومعه علي بن الحسين وأخوه عمر بن الحسين‏.‏

فقال يزيد يوماً لعمر بن الحسين‏:‏ - وكان صغيراً جداً- أتقاتل هذا‏؟‏ يعني‏:‏ ابنه خالد بن يزيد - يريد ذلك ممازحته وملاعبته‏.‏

فقال‏:‏ أعطني سكيناً وأعطه سكيناً حتى نتقاتل، فأخذه يزيد فضمه إليه وقال‏:‏ شِنشنةٌ أعرفها من أخزم، هل تلد الحية إلا حية ‏؟‏‏.‏

ولما ودعهم يزيد قال لعلي بن الحسين‏:‏ قبح الله ابن سمية، أما والله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة إلا أعطيته إياها، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت‏.‏

ثم جهزه وأعطاه مالاً كثيراً وكساهم وأوصى بهم ذلك الرسول، وقال له‏:‏ كاتبني بكل حاجة تكون لك، فكان ذلك الرسول الذي أرسله معهن يسير عنهن بمعزل من الطريق، ويبعد عنهن بحيث يدركهن طرفه وهو في خدمتهم حتى وصلوا المدينة‏.‏

فقالت فاطمة بنت علي‏:‏ قلت لأختي زينب‏:‏ إن هذا الرجل أرسل معنا قد أحسن صحبتنا فهل لك أن نصله‏؟‏

فقالت‏:‏ والله ما معنا شيء نصله به إلا حلينا‏.‏

قالت وقلت لها‏:‏ نعطيه حلينا‏.‏

قالت‏:‏ فأخذت سواري ودملجي، وأخذت أختي سوارها ودملجها، وبعثنا به إليه واعتذرنا إليه وقلنا‏:‏ هذا جزاؤك بحسن صحبتك لنا‏.‏

فقال‏:‏ لو كان الذي صنعت معكم إنما هو للدنيا كان في هذا الذي أرسلتموه ما يرضيني وزيادة، ولكن والله ما فعلت ذلك إلا لله تعالى ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل‏:‏ إن يزيد لما رأى رأس الحسين قال‏:‏ أتدرون من أين أتى ابن فاطمة‏؟‏

وما الحامل له على ما فعل‏؟‏

وما الذي أوقعه فيما وقع فيه‏؟‏

قالوا‏:‏ لا

قال‏:‏ يزعم أن أباه خير من أبي، وأمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من أمي، وجده رسول الله خير من جدي، وأنه خير مني وأحق بهذا الأمر مني‏.‏

فأما قوله‏:‏ أبوه خير من أبي فقد حاج أبي أباه إلى الله عز وجل، وعلم الناس أيهما حكم له‏.‏

وأما قوله‏:‏ أمه خير من أمي فلعمري إن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من أمي‏.‏

وأما قوله‏:‏ جده رسول الله خير من جدي، فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى أن رسول الله فينا عدلاً ولا نداً، ولكنه إنما أتى من قلة فقهه لم يقرأ‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ‏} الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ‏} ‏[‏البقرة‏:‏ 247‏]‏‏.‏

فلما دخلت النساء على يزيد قالت فاطمة بنت الحسين - وكانت أكبر من سكينة -‏:‏ يا يزيد ‏!‏ بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا‏.‏

فقال يزيد‏:‏ يا بنت أخي، أنا لهذا كنت أكره‏.‏

قالت‏:‏ قلت والله ما تركوا لنا خرصاً‏.‏

فقال‏:‏ ابنة أخي ‏!‏ ما أتى إليك أعظم مما ذهب لك‏.‏

ثم أدخلهن داره، ثم أرسل إلى كل امرأة منهن ماذا أخذ لك‏؟‏ فليس منهن امرأة تدّعي شيئاً بالغاً ما بلغ إلا أضعفه لها‏.‏

وقال هشام عن أبي مخنف‏:‏ حدثني أبو حمزة الثمالي، عن عبد الله الثمالي، عن القاسم بن نجيب‏.‏

قال‏:‏ لما أقبل وفد الكوفة برأس الحسين دخلوا به مسجد دمشق، فقال لهم مروان بن الحكم‏:‏ كيف صنعتم‏؟‏

قالوا‏:‏ ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلاً فأتينا والله على آخرهم، وهذه الرؤوس والسبايا‏.‏

فوثب مروان وانصرف، وأتاهم أخوه يحيى بن الحكم فقال‏:‏ ما صنعتم‏؟‏

فقالوا له‏:‏ مثل ما قالوا لأخيه‏.‏

فقال لهم‏:‏ حجبتم عن محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، لن أجامعكم على أمر أبداً، ثم قام فانصرف‏.‏

قال‏:‏ ولما بلغ أهل المدينة مقتل الحسين بكى عليه نساء بني هاشم ونُحْنَ عليه‏.‏

وروي‏:‏ أن يزيد استشار الناس في أمرهم فقال رجال ممن قبحهم الله‏:‏ يا أمير المؤمنين لا يتخذن من كلب سوء جرواً، اقتل علي بن الحسين حتى لا يبقى من ذرية الحسين أحد‏.‏

فسكت يزيد‏.‏

فقال النعمان بن بشير‏:‏ يا أمير المؤمنين اعمل معهم كما كان يعمل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو رآهم على هذه الحال‏.‏

فرق عليهم يزيد وبعث بهم إلى الحمام وأجرى عليهم الكساوى والعطايا والأطعمة، وأنزلهم في داره‏.‏

وهذا يرد قول الرافضة‏:‏ إنهم حملوا على جنائب الإبل سبايا عرايا، حتى كذب من زعم منهم أن الإبل البخاتي إنما نبتت لها الأسنمة من ذلك اليوم لتستر عوراتهن من قبلهن ودبرهن‏.‏

ثم كتب ابن زياد إلى عمرو بن سعيد أمير الحرمين يبشره بمقتل الحسين، فأمر منادياً فنادى بذلك‏.‏

فلما سمع نساء بني هاشم ارتفعت أصواتهن بالبكاء والنوح، فجعل عمرو بن سعيد يقول‏:‏ هذا بكاء نساء عثمان بن عفان‏.‏

وقال عبد الملك بن عمير‏:‏ دخلت على عبيد الله بن زياد وإذا رأس الحسين بن علي بين يديه على ترس، فوالله ما لبث إلا قليلاً حتى دخلت على المختار بن أبي عبيد، وإذا رأس عبيد الله بن زياد بين يدي المختار على ترس، ووالله ما لبثت إلا قليلاً حتى دخلت على عبد الملك بن مروان وإذا رأس مصعب بن الزبير على ترس بين يديه‏.‏

وقال أبو جعفر بن جرير الطبري في ‏(‏تاريخه‏)‏‏:‏ حدثني زكريا بن يحيى الضرير، ثنا أحمد بن جناب المصيصي، ثنا خالد بن يزيد، عن عبد الله القسري، ثنا عمار الدهني قال‏:‏ قلت لأبي جعفر‏:‏ حدثني عن مقتل الحسين كأني حضرته‏.‏

فقال‏:‏ أقبل الحسين بكتاب مسلم بن عقيل الذي كان قد كتبه إليه يأمره فيه بالقدوم عليه، حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال، لقيه الحر بن يزيد التميميي، فقال له‏:‏ أين تريد‏؟‏

فقال‏:‏ أريد هذا المصر‏.‏

فقال له‏:‏ ارجع فإني لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه‏.‏

فهَمَّ الحسين أن يرجع، وكان معه أخوة مسلم بن عقيل، فقالوا‏:‏ والله لا نرجع حتى نأخذ بثأرنا ممن قتل أخانا أو نقتل‏.‏

فقال‏:‏ لا خير في الحياة بعدكم، فسار فلقيه أوائل خيل ابن زياد، فلما رأى ذلك عاد إلى كربلاء، فأسند ظهره إلى قصيتا وحلفا ليقاتل من جهة واحدة‏.‏

فنزل وضرب أبنيته وكان أصحابه خمسة وأربعين فارساً ومائة راجل، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولاه بن زياد الريّ وعهد إليه عهده، فقال‏:‏ اكفني هذا الرجل واذهب إلى عملك‏.‏

فقال‏:‏ اعفني‏.‏

فأبى أن يعفيه، فقال‏:‏ أنظرني الليلة، فأخره فنظر في أمره، فلما أصبح غداً عليه راضياً بما أمره به، فتوجه إليه عمر بن سعد فلما أتاه قال له الحسين‏:‏ اختر واحدة من ثلاث، إما أن تدعوني فأنصرف من حيث جئت، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فألحق بالثغور‏.‏

فقبل ذلك عمر، فكتب إليه عبيد الله بن زياد‏:‏ لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي‏.‏

فقال الحسين‏:‏ لا والله لا يكون ذلك أبداً‏.‏

فقاتله فقتل أصحاب الحسين كلهم، وفيهم بضعة عشر شاباً من أهل بيته، وجاءه سهم فأصاب ابناً له في حجره فجعل يمسح الدم ويقول‏:‏ اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا‏.‏

ثم أمر بحبرة فشقها ثم لبسها وخرج بسيفه فقاتل حتى قتل، قتله رجل من مذحج وحز رأسه، فانطلق به إلى ابن زياد وقال في ذلك‏:‏

أوقر ركابي فضةً وذهباً * فقد قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس أماً وأبا * وخيرهم إذ ينسبون نسبا

قال‏:‏ فأوفده إلى يزيد بن معاوية فوضع رأسه بين يديه، وعنده أبو برزة الأسلمي، فجعل يزيد ينكت بالقضيب على فيه ويقول‏:‏

يفلقن هاماً من رجالٍ أعزةٍ * علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما

فقال أبو برزة‏:‏ ارفع قضيبك، فوالله لربما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً فيه على فيه يلثمه‏.‏

قال‏:‏ وأرسل عمر بن سعد بحرمه وعياله إلى ابن زياد، ولم يكن بقي من آل الحسين إلا غلام، وكان مريضاً مع النساء، فأمر به ابن زياد ليقتل فطرحت زينب نفسها عليه وقالت‏:‏ والله لا يقتل حتى تقتلوني‏.‏

فرقّ لها وكف عنه، قال‏:‏ فأرسلهم إلى يزيد فجمع يزيد من كان بحضرته من أهل الشام، ثم دخلوا عليه فهنوه بالفتح، فقام رجل منهم أحمر أزرق - ونظر إلى وصيفة من بناته - فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، هب لي هذه‏.‏

فقالت زينب‏:‏ لا ولا كرامة لك ولا له، إلا أن تخرجا من دين الله‏.‏

قال‏:‏ فأعادها الأزرق، فقال له يزيد‏:‏ كف عن هذا‏.‏

ثم أدخلهم على عياله، ثم حملهم إلى المدينة، فلما دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب ناشرة شعرها واضعة كُمها على رأسها تتلقاهم وهي تبكي وتقول‏:‏

ماذا تقولون إن قال النبي لكم * ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي * منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم * أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحم

وقد روى أبو مخنف‏:‏ عن سليمان بن أبي راشد، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود‏:‏ أن بنت عقيل هي التي قالت هذا الشعر‏.‏

وهكذا حكى الزبير بن بكار‏:‏ أن زينب الصغرى بنت عقيل بن أبي طالب هي التي قالت ذلك حين دخل آل الحسين المدينة النبوية‏.‏

وروى أبو بكر بن الأنباري بإسناده‏:‏ أن زينب بنت علي بن أبي طالب من فاطمة - وهي زوج عبد الله بن جعفر أم بنيه - رفعت سجف خفائها يوم كربلاء يوم قتل الحسين، وقالت هذه الأبيات فالله أعلم‏.‏

وقال هشام بن الكلبي‏:‏ حدثني بعض أصحابنا، عن عمرو بن المقدام قال‏:‏ حدثني عمر بن عكرمة قال‏:‏ أصبحنا صبيحة قتل الحسين بالمدينة فإذا مولاة لنا تحدثنا قالت‏:‏ سمعت البارحة منادياً ينادي وهو يقول‏:‏

أيها القاتلون ظلماً حسيناً * أبشروا بالعذاب والتنكيل

كل أهل السماء يدعو عليكم* من نبيٍ ومالكٍ وقبيل

لقد لعنتم على لسان بن داود * وموسى وحامل الإنجيل

قال ابن هشام‏:‏ حدثني عمرو بن حيزوم الكلبي، عن أمه قالت‏:‏ سمعت هذا الصوت، وقال الليث وأبو نعيم‏:‏ يوم السبت‏.‏

ومما أنشده الحاكم أبو عبد الله النيسابوري وغيره لبعض المتقدمين في مقتل الحسين‏:‏

جاؤوا برأسك يا ابن بنت محمدٍ * متزملاً بدمائه تزميلا

وكأن بك يا ابن بنت محمدٍ * قتلوا جهاراً عامدين رسولا

قتلوك عطشاناً ولم يتدبروا * في قتلك القرآن والتنزيلا

ويكبرون بأن قتلت وإنما * وقتلوا بك التكبير والتهليلا