الجزء الثامن - فصل مقتل الحسين رضي الله عنه

فصل مقتل الحسين رضي الله عنه

وكان مقتل الحسين رضي الله عنه يوم الجمعة، يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى وستين‏.‏

وقال هشام بن الكلبي‏:‏ سنة اثنتين وستين، وبه قال علي بن المديني‏.‏

وقال ابن لهيعة‏:‏ سنة ثنتين أو ثلاث وستين‏.‏

وقال غيره‏:‏ سنة ستين‏.‏

والصحيح الأول‏.‏

بمكان من الطّفّ يقال له‏:‏ كربلاء من أرض العراق وله من العمر ثمان وخمسون سنة أو نحوها‏.‏

وأخطأ أبو نعيم في قوله‏:‏ إنه قتل وله من العمر خمس أو ست وستون سنة‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد بن حسان، ثنا عمارة - يعني‏:‏ ابن زاذان - عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ استأذن ملك القطر أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له فقال لأم سلمة‏:‏ ‏(‏‏(‏احفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد‏)‏‏)‏، فجاء الحسين بن علي فوثب حتى دخل، فجعل يصعد على منكب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال الملك‏:‏ أتحبه‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم ‏!‏‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ إن أمتك تقتله، وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه‏.‏

قال‏:‏ فضرب بيده فأراه تراباً أحمر، فأخذت أم سلمة ذلك التراب فصرته في طرف ثوبها‏.‏

قال‏:‏ فكنا نسمع أنه يقتل بكربلاء‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، حدثني عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن عائشة - أو أم سلمة -‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد دخل عليّ البيت ملك لم يدخل قبلها‏)‏‏)‏، فقال لي‏:‏ إن ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتك الأرض التي يقتل بها‏.‏

قال‏:‏ فأخرج تربة حمراء‏.‏

وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أم سلمة‏.‏

ورواه الطبراني‏:‏ عن أبي أمامة وفيه قصة أم سلمة‏.‏

ورواه محمد بن سعد، عن عائشة بنحو رواية أم سلمة فالله أعلم‏.‏

وروى ذلك من حديث زينب بنت جحش، ولبابة أم الفضل امرأة العباس‏.‏

وأرسله غير واحد من التابعين‏.‏

وقال أبو القاسم البغوي‏:‏ حدثنا محمد بن هارون، أبو بكر، ثنا إبراهيم بن محمد الرقي، وعلي بن الحسن الرازي قالا‏:‏ ثنا سعيد بن عبد الملك أبو واقد الحراني، ثنا عطاء بن مسلم، ثنا أشعث بن سحيم، عن أبيه قال‏:‏ سمعت أنس بن الحارث يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن ابني- يعني‏:‏ الحسين - يقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد منكم ذلك فلينصره‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء فقتل مع الحسين‏.‏

قال‏:‏ ولا أعلم رواه غيره‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن عبيد، ثنا شراحيل بن مدرك، عن عبد الله بن يحيى، عن أبيه‏:‏ أنه سار مع علي - وكان صاحب مطهرته - فلما جاؤوا نينوى وهو منطلق إلى صفين‏.‏

فنادى علي‏:‏ اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله، بشط الفرات‏.‏

قلت‏:‏ وماذا تريد‏؟‏

قال‏:‏ دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وعيناه تفيضان فقلت‏:‏ ما أبكاك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى، قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقال‏:‏ هل لك أن أشمك من تربته‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا‏)‏‏)‏‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وروى محمد بن سعد‏:‏ عن علي بن محمد، عن يحيى بن زكريا، عن رجل، عن عامر الشعبي، عن علي مثله‏.‏

وقد روى محمد بن سعد وغيره من غير وجه عن علي بن أبي طالب أنه مر بكربلاء عند أشجار الحنظل، وهو ذاهب إلى صفين، فسأل عن اسمها، فقيل‏:‏ كربلاء‏.‏

فقال‏:‏ كربٌ وبلاء‏.‏

فنزل فصلى عند شجرة هناك ثم قال‏:‏ يقتل ههنا شهداء هم خير الشهداء غير الصحابة، يدخلون الجنة بغير حساب -وأشار إلى مكان هناك - فعلّموه بشيء فقتل فيه الحسين‏.‏

وقد روي عن كعب الأحبار آثار في كربلاء‏.‏

وقد حكى أبو الجناب الكلبي وغيره‏:‏ أن أهل كربلاء لا يزالون يسمعون نوح الجن على الحسين وهن يقلن‏:‏

مسح الرسول جبينه * فله بريقٌ في الخدود

أبواه من عليا قريشٍ * جده خير الجدود

وقد أجابهم بعض الناس فقال‏:‏

خرجوا به وفداً إليـ*ـه فهم له شر الوفود

قتلوا ابن بنت نبيهم * سكنوا به ذات الخدود

وروى ابن عساكر‏:‏ أن طائفة من الناس ذهبوا في غزوة إلى بلاد الروم، فوجدوا في كنسية مكتوباً‏:‏

أترجو أمةٌ قتلت حسيناً * شفاعة جده يوم الحساب‏؟‏

فسألوهم من كتب هذا‏؟‏

فقالوا‏:‏ إن هذا مكتوب ههنا من قبل مبعث نبيكم بثلاثمائة سنة‏.‏

وروي‏:‏ أن الذين قتلوه رجعوا فباتوا وهم يشربون الخمر والرأس معهم، فبرز لهم قلم من حديد فرسم لهم في الحائط بدم هذا البيت‏:‏

أترجو أمةٌ قتلت حسيناً * شفاعة جده يوم الحساب‏؟‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن وعفان، ثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام نصف النهار أشعث أغبر، معه قارورة فيها دم، فقلت‏:‏ بأبي وأمي يا رسول الله، ما هذا‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم‏)‏‏)‏‏.‏

قال عمار‏:‏ فأحصينا ذلك اليوم فوجدناه قد قتل في ذلك اليوم‏.‏

تفرد به أحمد، وإسناده قوي‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد بن هانىء أبو عبد الرحمن النحوي، ثنا مهدي بن سليمان، ثنا علي بن زيد بن جدعان‏.‏

قال‏:‏ استيقظ ابن عباس من نومه فاسترجع وقال‏:‏ قتل الحسين والله‏.‏

فقال له أصحابه‏:‏ لِمَ يا ابن عباس‏؟‏

فقال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زجاجة من دم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتعلم ما صنعت أمتي من بعدي‏؟‏ قتلوا الحسين وهذا دمه ودم أصحابه أرفعهما إلى الله‏)‏‏)‏‏.‏

فكتب ذلك اليوم الذي قال فيه، وتلك الساعة، فما لبثوا إلا أربعة وعشرين يوماً حتى جاءهم الخبر بالمدينة أنه قتل في ذلك اليوم وتلك الساعة‏.‏

وروى الترمذي‏:‏ عن أبي سعيد الأشج، عن أبي خالد الأحمر، عن رزين، عن سلمى قالت‏:‏ دخلت على أم سلمة وهي تبكي فقلت‏:‏ ما يبكيك‏؟‏

فقالت‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه ولحيته التراب‏.‏

فقلت‏:‏ ما لك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏شهدت قتل الحسين آنفاً‏)‏‏)‏‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، أنبأنا قرة بن خالد، أخبرني عامر بن عبد الواحد، عن شهر بن حوشب قال‏:‏ إنا لعند أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا صارخةً فأقبلت حتى انتهت إلى أم سلمة، فقالت‏:‏ قتل الحسين‏.‏

فقالت‏:‏ قد فعلوها، ملأ الله قبورهم - أو بيوتهم -عليهم ناراً، ووقعت مغشياً عليها، وقمنا‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا ابن مسلم، عن عمار قال‏:‏ سمعت أم سلمة قالت‏:‏ سمعت الجن يبكين على الحسين، وسمعت الجن تنوح على الحسين‏.‏

رواه الحسين بن إدريس، عن هاشم بن هاشم، عن أمه، عن أم سلمة قالت‏:‏ سمعت الجن ينحن على الحسين وهن يقلن‏:‏

أيها القاتلون جهلاً حسيناً * أبشروا بالعذاب والتنكيل

كل أهل السماء يدعو عليكم * ونبي ومرسل وقبيل

قد لعنتم على لسان ابن داود * وموسى وصاحب الإنجيل

وقد روي من طريق أخرى، عن أم سلمة بشعر غير هذا فالله أعلم‏.‏

وقال الخطيب‏:‏ أنبأنا أحمد بن عثمان بن ساج السكري، ثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، ثنا محمد بن شداد المسمعي، ثنا أبو نعيم، ثنا عبيد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ أوحى الله تعالى إلى محمد إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفاً، وأنا قاتل بابن بنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً‏.‏

هذا حديث غريب جداً، وقد رواه الحاكم في ‏(‏مستدركه‏)‏‏.‏

وقد ذكر الطبراني ههنا آثاراً غريبة جداً، ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذباً فاحشاً‏.‏

من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم، وما رفع يومئذٍ حجر إلا وجد تحته دم، وأن أرجاء السماء احمرت، وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه دم، وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب ضرب بعضها بعضاً، وأمطرت السماء دماً أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذٍ، ونحو ذلك‏.‏

وروى ابن لهيعة‏:‏ عن أبي قبيل المعافري‏:‏ أن الشمس كسفت يومئذٍ حتى بدت النجوم وقت الظهر‏.‏

وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دماً، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، ولم يمس زعفران ولا ورس بما كان معه يومئذٍ إلا احترق من مسه، ولم يرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط، وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم‏.‏

إلى غير ذلك من الأكاذيب، والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء‏.‏

وأما ما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح، فإنه قل من نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة وعاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض، وأكثرهم أصابهم الجنون‏.‏

وللشيعة والرافضة في صفة مصرع الحسين كذب كثير وأخبار باطلة، وفيما ذكرنا كفاية‏.‏

وفي بعض ما أوردناه نظر، ولولا أن ابن جرير وغيره من الحفاظ والأئمة ذكروه ما سقته، وأكثره من رواية أبي مخنف لوط بن يحيى، وقد كان شيعياً، وهو ضعيف الحديث عند الأئمة، ولكنه أخباري حافظ، عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنفين في هذا الشأن ممن بعده والله أعلم‏.‏

وقد أسرف الرافضة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها، فكانت الدبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويذر الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتعلق المسوح على الدكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء ليلتئذٍ موافقة للحسين لأنه قتل عطشاناً‏.‏

ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن، حافيات في الأسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة، والأهواء الفظيعة، والهتائك المخترعة، وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يشنعوا على دولة بني أمية، لأنه قتل في دولتهم‏.‏

وقد عاكس الرافضة والشيعة يوم عاشوراء النواصب من أهل الشام، فكانوا إلى يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون، ويتطيبون، ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتخذون ذلك اليوم عيداً يصنعون فيه أنواع الأطعمة، ويظهرون السرور والفرح، يريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم‏.‏

وقد تأول عليه من قتله أنه جاء ليفرق كلمة المسلمين بعد اجتماعها، وليخلع من بايعه من الناس واجتمعوا عليه‏.‏

وقد ورد في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ الحديث بالزجر عن ذلك، والتحذير منه، والتوعد عليه، وبتقدير أن تكون طائفة من الجهلة قد تأولوا عليه وقتلوه، ولم يكن لهم قتله، بل كان يجب عليهم إجابته إلى ما سأل من تلك الخصال الثلاثة المتقدم ذكرها‏.‏

فإذا ذمت طائفة من الجبارين تذم الأمة كلها بكمالها وتتهم على نبيها صلى الله عليه وسلم، فليس الأمر كما ذهبوا إليه، ولا كما سلكوه، بل أكثر الأئمة قديماً وحديثاً كاره ما وقع من قتله وقتل أصحابه، سوى شرذمة قليلة من أهل الكوفة قبحهم الله، وأكثرهم كانوا قد كاتبوه ليتوصلوا به إلى أغراضهم ومقاصدهم الفاسدة‏.‏

فلما علم ذلك ابن زياد منهم بلغهم ما يريدون من الدنيا، وآخذهم على ذلك وحملهم عليه بالرغبة والرهبة، فانكفوا عن الحسين وخذلوه ثم قتلوه‏.‏

وليس كل ذلك الجيش كان راضياً كما وقع من قتله، بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك والله أعلم، ولا كرهه، والذي يكاد يغلب على الظن أن يزيد لو قدر عليه قبل أن يقتل لعفا عنه كما أوصاه بذلك أبوه، وكما صرح هو به مخبراً عن نفسه بذلك‏.‏

وقد لعن ابن زياد على فعله ذلك وشتمه فيما يظهر ويبدو، ولكن لم يعزله على ذلك ولا عاقبه ولا أرسل يعيب عليه ذلك والله أعلم‏.‏

فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه قتله رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين، وعلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل بناته، وقد كان عابداً وشجاعاً وسخياً، ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء‏.‏

وقد كان أبوه أفضل منه فقتل، وهم لا يتخذون مقتله مأتماً كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة‏.‏

وقد قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً‏.‏

وكذلك عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلي، قتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً‏.‏

وكذلك الصديق كان أفضل منه ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله، ولم يتخذ أحد يوم موتهم مأتماً يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين‏.‏

ولا ذكر أحد أنه ظهر يوم موتهم وقبلهم شيء مما ادعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة، مثل كسوف الشمس والحمرة التي تطلع في السماء، وغير ذلك‏.‏

وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب وأمثالها ما رواه علي بن الحسين‏:‏ عن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها فيحدث لها استرجاعاً إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب منها‏)‏‏)‏‏.‏

رواه الإمام أحمد وابن ماجه‏.‏

 وأما قبر الحسين رضي الله عنه

فقد اشتهر عند كثير من المتأخرين أنه في مشهد علي‏.‏

بمكان من الطف عند نهر كربلاء، فيقال‏:‏ إن ذلك المشهد مبني على قبره فالله أعلم‏.‏

وقد ذكر ابن جرير وغيره‏:‏ أن موضع قتله عفي أثره حتى لم يطلع أحد على تعيينه بخبر‏.‏

وقد كان أبو نعيم، الفضل بن دكين، ينكر على من يزعم أنه يعرف قبر الحسين‏.‏

وذكر هشام بن الكلبي‏:‏ أن الماء لما أجري على قبر الحسين ليمحي أثره نضب الماء بعد أربعين يوماً، فجاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمها حتى وقع على قبر الحسين فبكى، وقال‏:‏ بأبي أنت وأمي، ما كان أطيبك تربتك ‏!‏‏!‏

ثم أنشأ يقول‏:‏

أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه * فطيب تراب القبر دل على القبر

 وأما رأس الحسين رضي الله عنه

فالمشهور عند أهل التاريخ وأهل السير أنه بعث به ابن زياد إلى يزيد بن معاوية، ومن الناس من أنكر ذلك‏.‏

وعندي‏:‏ أن الأول أشهر فالله أعلم‏.‏

ثم اختلفوا بعد ذلك في المكان الذي دفن فيه الرأس، فروى محمد بن سعد‏:‏ أن يزيد بعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد نائب المدينة فدفنه عند أمه بالبقيع‏.‏

وذكر ابن أبي الدنيا من طريق عثمان بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمر بن صالح - وهما ضعيفان -‏:‏ أن الرأس لم يزل في خزانة يزيد بن معاوية حتى توفي، فأخذ من خزانته فكفن ودفن داخل باب الفراديس من مدينة دمشق‏.‏

قلت‏:‏ ويعرف مكانه بمسجد الرأس اليوم داخل باب الفراديس الثاني‏.‏

وذكر ابن عساكر في ‏(‏تاريخه‏)‏‏:‏ في ترجمته ريّا حاضنة يزيد بن معاوية، أن يزيد حين وضع رأس الحسين بين يديه تمثل بشعر ابن الزبعري يعني قوله‏:‏

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل

قال‏:‏ ثم نصبه بدمشق ثلاثة أيام، ثم وضع في خزائن السلاح، حتى كان زمن سليمان بن عبد الملك جيء به إليه، وقد بقي عظماً أبيض، فكفنه وطيبه، وصلى عليه ودفنه في مقبرة المسلمين، فلما جاءت المسودّة - يعني‏:‏ بني العباس - نبشوه وأخذوه معهم‏.‏

وذكر ابن عساكر‏:‏ أن هذه المرأة بقيت بعد دولة بني أمية، وقد جاوزت المائة سنة فالله أعلم‏.‏

وادّعت الطائفة المسمون بالفاطميين الذين ملكوا الديار المصرية قبل سنة أربعمائة إلى ما بعد سنة ستين وستمائة، أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها، وبنوا عليه المشهد المشهور به بمصر، الذي يقال له‏:‏ تاج الحسين بعد سنة خمسمائة‏.‏

وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك، وإنما أرادوا أن يروجوا بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف، وهم في ذلك كذبة خونة‏.‏

وقد نص على ذلك القاضي الباقلاني وغير واحد من أئمة العلماء، في دولتهم في حدود سنة أربعمائة، كما سنبين ذلك كله إذا انتهينا إليه في مواضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

قلت‏:‏ والناس أكثرهم يروج عليهم مثل هذا، فإنهم جاؤوا برأس فوضعوه في مكان المسجد المذكور، وقالوا‏:‏ هذا رأس الحسين‏.‏

فراج ذلك عليهم واعتقدوا ذلك والله أعلم‏.‏

 فصل شيء من فضائله

روى البخاري من حديث شعبة، ومهدي بن ميمون، عن محمد بن أبي يعقوب‏:‏ سمعت ابن أبي نعيم قال‏:‏ سمعت عبد الله بن عمر، وسأله رجل من أهل العراق عن المحرم يقتل الذباب‏.‏

فقال‏:‏ أهل العراق يسألون عن قتل الذباب وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هما ريحانتاي من الدنيا‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه الترمذي‏:‏ عن عقبة بن مكرم، عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن أبي يعقوب به نحوه‏:‏ أن رجلاً من أهل العراق سأل ابن عمر عن دم البعوض يصيب الثوب‏.‏

فقال ابن عمر‏:‏ انظروا إلى أهل العراق، يسألون عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن بنت محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وذكر تمام الحديث‏.‏

ثم قال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو أحمد، ثنا سفيان، عن أبي الحجاف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني‏)‏‏)‏ - يعني‏:‏ حسناً وحسيناً -‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا تليد بن سليمان، كوفي، ثنا أبو الحجاف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة‏.‏

قال‏:‏ نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي والحسن والحسين وفاطمة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد بهما الإمام أحمد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن عمير، ثنا الحجاج - يعني‏:‏ ابن دينار - عن جعفر بن إياس، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن أبي هريرة‏.‏

قال‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه حسن وحسين، هذا على عاتقه الواحد، وهذا على عاتقه الآخر، وهو يلثم هذا مرة وهذا مرة، حتى انتهى إلينا، فقال له رجل‏:‏ يا رسول الله ‏!‏ والله إنك لتحبهما‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني‏)‏‏)‏‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وقال أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثني عقبة بن خالد، حدثني يوسف بن إبراهيم التميمي‏:‏ أنه سمع أنس بن مالك يقول‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي أهل بيتك أحب إليك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الحسن والحسين‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وكان يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ادع لي ابنيَّ فيشمهما ويضمهما إليه‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه الترمذي عن أبي سعيد الأشج به، وقال‏:‏ حسن غريب من حديث أنس‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسود بن عامر، وعفان، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أنس‏.‏ :‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر فيقول‏:‏ ‏(‏‏(‏الصلاة يا أهل البيت، ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً‏}‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن عفان به، وقال‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حدثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو أسامة، عن فضيل بن مرزوق، عن عدي، عن ثابت، عن البراء‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر حسناً وحسيناً، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أحبهما فأحبهما‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقد روى الإمام أحمد‏:‏ عن زيد بن الحباب، عن الحسين بن واقد‏.‏

وأهل السنن الأربعة من حديث الحسين بن واقد، عن بريدة، عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏صدق الله ‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 15‏]‏ نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتها‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا لفظ الترمذي، وقال‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد‏.‏

ثم قال‏:‏ حدثنا الحسين بن عرفة، ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن راشد، عن يعلى بن مرة‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏حسين مني، وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏

ورواه أحمد عن عفان، عن وهب، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم به‏.‏

ورواه الطبراني عن بكر بن سهل، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح بن راشد بن سعد، عن يعلى بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الحسن والحسين سبطان من الأسباط‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي نعيم، عن أبي سعيد الخدري‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه الترمذي‏:‏ من حديث سفيان الثوري وغيره، عن يزيد بن أبي زياد، وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقد رواه أبو القاسم البغوي عن داود بن رشيد، عن مروان الفزاري، عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، عن أبيه، عن أبي سعيد‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة، يحيى وعيسى صلى الله عليه وسلم‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجه النسائي من حديث مروان بن معاوية الفزاري به‏.‏

ورواه سويد بن سعيد، عن محمد بن حازم، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، عن ربيع بن سعد، عن أبي سابط قال‏:‏ دخل حسين بن علي المسجد، فقال جابر بن عبد الله‏:‏ من أحب أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى هذا، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وروى الترمذي والنسائي من حديث إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش، عن حذيفة‏:‏ أن أمه بعثته ليستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولها، قال‏:‏ فأتيته فصليت معه المغرب ثم صلى حين صلى العشاء، ثم انفتل فتبعته فسمع صوتي فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من هذا‏؟‏ حذيفة‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما حاجتك غفر الله لك ولأمك‏؟‏‏)‏‏)‏ إن هذا ملك لم ينزل إلى الأرض قبل هذه الليلة استأذن ربه بأن يسلم عليّ ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة‏.‏

ثم قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن غريب، ولا يعرف إلا من حديث إسرائيل‏.‏

وقد رُوي مثل هذا من حديث علي بن أبي طالب، ومن حديث الحسين نفسه، وعمر وابنه عبد الله، وابن عباس، وابن مسعود وغيرهم، وفي أسانيده كلها ضعف، والله أعلم‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا موسى بن عطية، عن أبيه، عن أبي هريرة‏.‏

قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحسن والحسين‏:‏ ‏(‏‏(‏من أحبني فليحب هذين‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان بن داود، ثنا إسماعيل - يعني‏:‏ ابن جعفر - أخبرني محمد - يعني‏:‏ ابن حرملة - عن عطاء‏.‏

أن رجلاً أخبره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يضم إليه حسناً وحسيناً ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أحبهما فأحبهما‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رُوي عن أسامة بن زيد، وسلمان الفارسي شيء يشبه هذا وفيه ضعف وسقم والله أعلم‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسود بن عامر، ثنا كامل وأبو المنذر ابنا كامل، قال أسود‏:‏ أنبأنا المعنى عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فإذا سجد وثب الحسين والحسن على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما أخذاً رفيقاً فيضعهما على الأرض، فإذا عاد عادا، حتى قضى صلاته أقعدهما على فخذيه‏.‏

قال‏:‏ فقمت إليه فقلت‏:‏ يا رسول الله أردهما إلى أمهما‏؟‏

قال‏:‏ فبرقت برقة فقال لهما‏:‏ ‏(‏‏(‏الحقا بأمكما‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فمكث ضؤها حتى دخلا على أمهما‏.‏

وقد روى موسى بن عثمان الحضرمي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة نحوه‏.‏

وقد روي عن أبي سعيد، وابن عمر قريب من هذا‏.‏

فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، ثنا معاذ بن معاذ، ثنا قيس بن الربيع، عن أبي المقدام عبد الرحمن الأزرق، عن علي قال‏:‏ دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم، فاستسقى الحسن أو الحسين فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاةٍ لنا كي يحلبها فدرت فجاءه الآخر فنحاه‏.‏

فقالت فاطمة‏:‏ يا رسول الله كأنه أحبهما إليك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا ولكنه استسقى قبله‏)‏‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني وإياك وهذين وهذا الراقد في مكان واحد يوم القيامة‏)‏‏)‏

تفرد به أحمد‏.‏

ورواه أبو داود الطيالسي‏:‏ عن عمر بن ثابت، عن أبيه، عن أبي فاختة، عن علي فذكر نحوه‏.‏

وقد ثبت‏:‏ أن عمر بن الخطاب كان يكرمهما ويحملهما، ويعطيهما كما يعطي أباهما، وجيء مرة بحلل من اليمن فقسمها بين أبناء الصحابة ولم يعطهما منها شيئاً، وقال‏:‏ ليس فيها شيء يصلح لهما، ثم بعث إلى نائب اليمن فاستعمل لهما حلتين تناسبهما‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنبأنا قبيصة بن عقبة، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث قال‏:‏ بينما عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة إذ رأى الحسين مقبلاً فقال‏:‏ هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ حدثني سليمان بن الدراوردي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع الحسن والحسين، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر وهم صغار لم يبلغوا، ولم يبايع صغيراً إلا منا‏.‏

وهذا مرسل غريب‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أخبرني يعلى بن عبيد، ثنا عبد الله بن الوليد الرصافي، عن عبد الله بن عبيد الله بن عميرة‏.‏

قال‏:‏ حج الحسين بن علي خمساً وعشرين حجة ماشياً ونجائبه تقاد بين يديه‏.‏

وحدثنا أبو نعيم - الفضل بن دكين - ثنا حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد، عن أبيه‏:‏ أن الحسين بن علي حج ماشياً وأن نجائبه لتقاد وراءه‏.‏

والصواب‏:‏ أن ذلك إنما هو الحسن أخوه، كما حكاه البخاري‏.‏

وقال المدائني‏:‏ جرى بين الحسن والحسين كلام فتهاجرا، فلما كان بعد ذلك أقبل الحسن إلى الحسين فأكب على رأسه يقبله، فقام الحسين فقبله أيضاً‏.‏

وقال‏:‏ إن الذي منعني من ابتدائك بهذا، أني رأيت أنك أحق بالفضل مني فكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به مني‏.‏

وحكى الأصمعي‏:‏ عن ابن عون‏:‏ أن الحسن كتب إلى الحسين يعيب عليه إعطاء الشعراء فقال الحسين‏:‏ إن أحسن المال ما وقى العرض‏.‏

وقد روى الطبراني‏:‏ حدثنا أبو حنيفة محمد بن حنيفة الواسطي، ثنا يزيد بن البراء بن عمرو ابن البراء الغنوي، ثنا سليمان بن الهيثم قال‏:‏ كان الحسين بن علي يطوف بالبيت فأراد أن يستلم فما وسع له الناس‏.‏

فقال رجل‏:‏ يا أبا فراس من هذا‏؟‏

فقال الفرزدق‏:‏

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم

يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

يغضي حياء ويغضى من مهابته * فما يكلم إلا حين يبتسم

في كفه خيزران ريحها عبق * بكف أورع في عرنينه شمم

مشتقة من رسول الله نسبته * طابت عناصره والخيم والشيم

لا يستطيع جواد بعد غايته * ولا يدانيه قوم إن هموا كرموا

من يعرف الله يعرف أوّلية ذا * فالدين من بيت هذا ناله أمم

أيُّ العشائر هم ليست رقابهم * لأولية هذا أوله نعم

هكذا أوردها الطبراني في ترجمة الحسين في معجمه الكبير، وهو غريب، فإن المشهور أنها من قيل الفرزدق في علي بن الحسين لا في أبيه، وهو أشبه فإن الفرزدق لم ير الحسين إلا وهو مقبل إلى الحج والحسين ذاهب إلى العراق‏.‏

فسأل الحسين الفرزدق عن الناس فذكر له ما تقدم ثم أن الحسين قتل بعد مفارقته له بأيام يسيرة، فمتى رآه يطوف بالبيت والله أعلم‏.‏

وروى هشام عن عوانة قال‏:‏ قال عبيد الله بن زياد لعمر بن سعد‏:‏ أين الكتاب الذي كتبته إليك في قتل الحسين‏؟‏

فقال‏:‏ مضيت لأمرك وضاع الكتاب‏.‏

فقال له ابن زياد‏:‏ لتجيئن به‏.‏

قال‏:‏ ضاع‏.‏

قال‏:‏ والله لتجيئن به‏.‏

قال‏:‏ ترك والله يقرأ على عجائز قريش أعتذر إليهن بالمدينة، أما والله لقد نصحتك في حسين نصيحة لو نصحتها إلى سعد بن أبي وقاص لكنت قد أديت حقه‏.‏

فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله، صدق عمر والله‏.‏

ولوددت والله أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأن حسيناً لم يقتل‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما أنكر ذلك عليه عبيد الله بن زياد‏.‏

 

فصل في شيء من أشعاره التي رويت عنه

فمن ذلك ما أنشده أبو بكر بن كامل، عن عبد الله بن إبراهيم وذكر أنه للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما

إغنَ عن المخلوق بالخالق * تسد على الكاذب والصادق

واسترزق الرحمن من فضله * فليس غير الله من رازق

من ظن أن الناس يغنونه * فليس بالرحمن بالواثق

أو ظن أن المال من كسبه * زلت به النعلان من حالق

عن الأعمش أن الحسين بن علي قال‏:‏

كلما زيد صاحب المال مالاً * زيد في همه وفي الاشتغال

قد عرفناك يا منغصة العيـ*ـش ويا دارَ كل فانٍ وبالي

ليس يصفو لزهدٍ طلب الزهـ * ـد إذا كان مثقلاً بالعيال

وعن إسحاق بن إبراهيم قال‏:‏ بلغني أن الحسين زار مقابر الشهداء بالبقيع فقال‏:‏

ناديت سكان القبور فأسكتوا * وأجابني عن صمتهم ترب الحصا

قالت أتدري ما فعلت بساكني * مزقت لحمهم وخرقت الكسا

وحشوت أعينهم تراباً بعد ما * كانت تأذى باليسير من القذا

أما العظام فإنني مزقتها * حتى تباينت المفاصل والشوا

قطعت ذا زادٍ من هذا كذا * فتركتها رمماً يطوف بها البلا

وأنشد بعضهم للحسين رضي الله عنه أيضاً‏:‏

لئن كانت الدنيا تعد نفيسةً * فدار ثواب الله أعلى وأنبل

وإن كانت الأبدان للموت أنشئت * فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل

وإن كانت الأرزاق شيئاً مقدراً * فقله سعي المرء في الرزق أجمل

وإن كانت الأموال للترك جمعها * فما بال متروك به المرء يبخل

ومما أنشد الزبير بن بكار من شعره في امرأته الرباب بنت أنيف، ويقال‏:‏ بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس الكلبي أم ابنته سكينة‏:‏

لعمرك إنني لأحب دارا * تحل بها سكينة والرباب

أحبهما وأبذل جل مالي * وليس للائمي فيها عتاب

ولست لهم وإن عتبوا مطيعاً * حياتي أو يعليني التراب

وقد أسلم أبوها على يدي عمر بن الخطاب وأمره عمر على قومه، فلما خرج من عنده خطب إليه علي بن أبي طالب أن يزوج ابنه الحسن أو الحسين من بناته، فزوج الحسن ابنته سلمى، والحسين ابنته الرباب، وزوج علياً ابنته الثالثة، وهي المحياة بنت امرئ القيس في ساعة واحدة، فأحب الحسين زوجته الرباب حباً شديداً وكان بها معجباً يقول فيها الشعر‏.‏

ولما قتل بكربلاء كانت معه فوجدت عليه وجداً شديداً، وذكر أنها أقامت على قبره سنة، ثم انصرفت وهي تقول‏:‏

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

وقد خطبها بعده خلق كثير من أشراف قريش فقالت‏:‏ ما كنت لأتخذ حمواً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله لا يؤويني رجلاً بعد الحسين سقف أبداً‏.‏

ولم تزل عليه كمدة حتى ماتت، ويقال‏:‏ أنها إنما عاشت بعده أياماً يسيرة فالله أعلم‏.‏

وابنتها سكينة بنت الحسين كانت من أجمل النساء حتى إنه لم يكن في زمانها أحسن منها فالله أعلم‏.‏

وروى أبو مخنف‏:‏ عن عبد الرحمن بن جندب أن ابن زياد بعد مقتل الحسين تفقد أشراف أهل الكوفة فلم ير عبيد الله بن الحر بن يزيد، فتطلبه حتى جاءه بعد أيام فقال‏:‏ أين كنت يا ابن الحر‏؟‏

قال‏:‏ كنت مريضاً‏.‏

قال‏:‏ مريض القلب أم مريض البدن‏؟‏

قال‏:‏ أما قلبي فلم يمرض، وأما بدني فقد منَّ الله عليه بالعافية‏.‏

فقال له ابن زياد‏:‏ كذبت، ولكنك كنت مع عدونا‏.‏

قال‏:‏ لو كنت مع عدوك لم يخف مكان مثلي، ولكان الناس شاهدوا ذلك‏.‏

قال‏:‏ وعقل عن ابن زياد عقلةً فخرج ابن الحر فقعد على فرسه‏.‏

ثم قال‏:‏ أبلغوه أني لا آتيه والله طائعاً‏.‏

فقال ابن زياد‏:‏ أين ابن الحر‏؟‏

قال‏:‏ خرج‏.‏

فقال‏:‏ عليَّ به، فخرج الشرط في طلبه فأسمعهم غليظ ما يكرهون، وترضى عن الحسين وعن أخيه وأبيه، ثم أسمعهم في ابن زياد غليظاً من القول، ثم امتنع منهم وقال في الحسين وفي أصحابه شعراً‏:‏

يقول أميرٌ غادرٌ حق غادرٍ * ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه

فيا ندمي أن لا أكون نصرته * لذو حسرةٍ ما أن تفارق لازمه

سقى الله أرواح الذين تبارزوا * على نصره سقياً من الغيث دائمه

وقفت على أجداثهم وقبورهم * فكان الحشى ينقض والعين ساجمه

لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى * سراعاً إلى الهيجا حماة حضارمه

تأسوا على نصر ابن بنت نبيهم * بأسيافهم أسَّاد غبل ضراغمه

فإن يقتلوا تلك النفوس التقية * على الأرض قد أضحت لذلك واجمة

فما إن رأى الراؤون أفضل منهم * لدى الموت سادات وزهر قمامه

أتقتلهم ظلماً وترجو ودادنا * فذى خطة ليست لنا بملائمه

لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم * فكم ناقمٍ منا عليكم وناقمه

أهمُّ مراراً أن أسير بجحفلٍ * إلى فئة زاغت عن الحق ظالمه

فيا بن زيادٍ استعد لحربنا * وموقف ضنكٍ تقصم الظهر قاصمه

وقال الزبير بن بكار‏:‏ قال سليمان بن قتيبة يرثي الحسين رضي الله عنه‏:‏

وإن قتيل ألطفِّ من آل هاشم * أذل رقاباً من قريشٍ فذلت

فإن تتبعوه عائذاً لبيتٍ تصبحوا * كعادٍ تعمت عن هداها فضلت

مررت على أبيات آل محمدٍ * فألفيتها أمثالها حيث حلت

وكانوا لنا غنماً فعادوا رزيةً * لقد عظمت تلك الرزايا وجلت

فلا يبعد الله الديار وأهلها * وإن أصبحت منهم بزعمي تحلت

إذا افتقرت قيس خبرنا فقيرها * وتقتلنا قيس إذا النعل زلت

وعند يزيد قطرةٌ من دمائنا * سنجزيهم يوماً بها حيث حلت

ألم تر أن الأرض أضحت مريضةً * لقتل حسينٍ والبلاد اقشعرت

ومما وقع من الحوادث في هذه السنة - أعني‏:‏ سنة إحدى وستين - بعد مقتل الحسين‏.‏

ففيها‏:‏ ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد سجستان وخراسان حين وفد عليه، وله من العمر أربعة وعشرون سنة، وعزل عنها أخويه عباداً وعبد الرحمن، وسار سلم إلى عمله فجعل ينتخب الوجوه والفرسان، ويحرض الناس على الجهاد‏.‏

ثم خرج في جحفل عظيم ليغزو بلاد الترك، ومعه امرأته أم محمد بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاص، فكانت أول امرأة من العرب قطع بها النهر، وولدت هناك ولداً أسموه صغدى، وبعثت إليها امرأة صاحب صغدى بتاجها من ذهب ولآلئ‏؟‏ ‏؟‏‏.‏

وكان المسلمون قبل ذلك لا يشتون في تلك البلاد، فشتى بها سلم بن زياد‏.‏

وبعث المهلب بن أبي صفرة إلى تلك المدينة التي هي للترك، وهي‏:‏ خوارزم فحاصرهم حتى صالحوه على نيف وعشرين ألف ألف، وكان يأخذ منهم عروضاً عوضاً، فيأخذ الشيء بنصف قيمته فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف، فحظي بذلك المهلب عند سلم بن زياد‏.‏

ثم بعث من ذلك ما اصطفاه ليزيد بن معاوية مع مرزبان ومعه وفد، وصالح سلم أهل سمرقند في هذه الغزوة على مالٍ جزيل‏.‏

وفيها‏:‏ عزل يزيد عن إمرة الحرمين عمرو بن سعيد، وأعاد إليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فولاه المدينة، وذلك أن ابن الزبير لما بلغه مقتل الحسين شرع يخطب الناس ويعظم قتل الحسين وأصحابه جداً، ويعيب على أهل الكوفة وأهل العراق ما صنعوه من خذلانهم الحسين، ويترحم على الحسين ويلعن من قتله‏.‏

ويقول‏:‏ أما والله لقد قتلوه طويلاً بالليل قيامه، كثيراً في النهار صيامه، أما والله ما كان يستبدل بالقرآن الغنا والملاهي، ولا بالبكاء من خشية الله اللغو والحداء، ولا بالصيام شرب المدام وأكل الحرام، ولا بالجلوس في حلق الذكر طلب الصيد، - يُعرّض في ذلك بيزيد بن معاوية - فسوف يلقون غياً، ويؤلب الناس على بني أمية ويحثهم على مخالفته، وخلع يزيد‏.‏

فبايعه خلق كثير في الباطن، وسألوه أن يظهرها فلم يمكنه ذلك مع وجود عمرو بن سعيد، وكان شديداً عليه ولكن فيه رفق، وقد كان كاتبه أهل المدينة وغيرهم‏.‏

وقال الناس‏:‏ أما إذ قتل الحسين فليس ينازع أحد ابن الزبير، فلما بلغ ذلك يزيد شق ذلك عليه‏.‏

وقيل له‏:‏ إن عمرو بن سعيد لو شاء لبعث إليك برأس ابن الزبير، أو يحاصره حتى يخرجه من الحرم، فبعث فعزله وولى الوليد بن عُتبة فيها‏.‏

وقيل‏:‏ في مستهل ذي الحجة، فأقام للناس الحج فيها، وحلف يزيد ليأتيني ابن الزبير في سلسلة من فضة، وبعث بها مع البريد ومعه برنس من خزٍ ليبر يمينه، فلما مر البريد على مروان وهو بالمدينة وأخبره بما هو قاصد له وما معه من الغل، أنشأ مروان يقول‏:‏

فخذها فما هي للعزيز بخطةٍ * وفيها مقال لامرئ متذلل

أعامر إنَّ القوم ساموك خطةً * وذلك في الجيران غزل بمغزل

أراك إذا ما كنت في القوم ناصحاً * يقال له بالدلو أدبر وأقبل

فلما انتهت الرسل إلى عبد الله بن الزبير بعث مروان ابنيه عبد الملك، وعبد العزيز ليحضرا مراجعته في ذلك، وقال‏:‏ أسمعاه قولي في ذلك‏.‏

قال عبد العزيز‏:‏ فلما جلس الرسل بين يديه جعلت أنشده ذلك، وهو يسمع ولا أشعره، فالتفت إليّ فقال‏:‏ أخبرا أباكما أني أقول‏:‏

إني لمن نبعةٍ صمٌ مكاسرها * إذا تناوحت القصباء والعشر

ولا ألين لغير الحق أسأله * حتى يلين لضرس الماضغ الحجر

قال عبد العزيز‏:‏ فما أدري أيما كان أعجب ‏!‏‏!‏

قال أبو معشر‏:‏ لا خلاف بين أهل السير أن الوليد بن عتبة حج بالناس في هذه السنة، وهو أمير الحرمين وعلى البصرة والكوفة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان وسجستان سلم بن زياد أخو عبيد الله بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة‏.‏

 

 

ذكر من توفي فيها من الأعيان

 الحسين بن علي رضي الله عنهما

ومعه بضعة عشر من أهل بيته قتلوا جميعاً بكربلاء‏.‏ وقيل‏:‏ بضعة وعشرون كما تقدم‏.‏ وقتل معهم جماعة من الأبطال والفرسان‏.‏

 جابر بن عتيك بن قيس

أبو عبد الله الأنصاري السلمي، شهد بدراً وما معه، وكان حامل راية الأنصار يوم الفتح، كذا قال ابن الجوزي، قال‏:‏ وتوفي في هذه السنة عن إحدى وسبعين سنة‏.‏

 حمزة بن عمرو الأسلمي

صحابي جليل ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن عائشة أنها قالت‏:‏ سأل حمزة بن عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني كثير الصيام، أفأصوم في السفر‏؟‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شئت فصم وإن شئت فأفطر‏)‏‏)‏‏.‏

وقد شهد فتح الشام، وكان هو البشير للصديق يوم أجنادين‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وهو الذي بشر كعب بن مالك بتوبة الله عليه فأعطاه ثوبيه‏.‏

وروى البخاري في ‏(‏التاريخ‏)‏ بإسناد جيد عنه أنه قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاءت لي أصابعي حتى جمعت عليها كل متاع كان للقوم‏.‏

اتفقوا على أنه توفي في هذه السنة - أعني‏:‏ سنة إحدى وستين شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري الحجبي

صاحب مفتاح الكعبة، كان أبوه ممن قتله علي بن أبي طالب يوم أحد كافراً، وأظهر شيبة الإسلام يوم الفتح، وشهد حنيناً وفي قلبه شيء من الشك، وقد همَّ بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلع الله على ذلك رسوله فأخبره بما همَّ به، فأسلم باطناً وجاد إسلامه، وقاتل يومئذ وصبر فيمن صبر‏.‏

قال الواقدي عن أشياخه‏:‏ إن شيبة قال‏:‏ كنت أقول والله لو آمن بمحمد جميع الناس ما آمنت به‏.‏

فلما فتح مكة وخرج إلى هوازن خرجت معه رجاء أن أجد فرصة آخذ بثأر قريش كلها منه‏.‏

قال‏:‏ فاختلط الناس ذات يوم ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته فدنوت منه وانتضبت سيفي لأضربه به، فرفع لي شواظ من نار كاد يمحشني، فالتفت إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا شيبة ادن مني‏)‏‏)‏، فدنوت منه فوضع يده على صدري وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم أعذه من الشيطان‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما رفع يده حتى لهو يومئذ أحب إليّ من سمعي وبصري‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب فقاتل‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فتقدمت إلى العدو والله لو لقيت أبي لقتلته لو كان حياً، فلما تراجع الناس، قال لي‏:‏ ‏(‏‏(‏يا شيبة الذي أراد الله بك خير مما أردت لنفسك‏)‏‏)‏‏.‏

ثم حدثني بكل ما كان في نفسي مما لم يطلع عليه أحد إلا الله عز وجل، فتشهدت وقلت‏:‏ أستغفر الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏غفر الله لك‏)‏‏)‏‏.‏

وليَ الحجابة بعد عثمان بن طلحة واستقرت الحجابة في بنيه وبيته إلى اليوم، وإليه ينسب بنو شيبة، وهم حجبة الكعبة‏.‏

قال خليفة بن خياط وغير واحد‏:‏ توفي سنة تسع وخمسين‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ بقي إلى أيام يزيد بن معاوية‏.‏

وقال ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏‏:‏ مات في هذه السنة عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، صحابي انتقل إلى دمشق وله بها دار، ولما مات أوصى إلى يزيد بن معاوية وهو أمير المؤمنين‏.‏

 الوليد بن عقبة بن أبي معيط

ابن أبان بن أبي عمرو ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أبو وهب القرشي العبشمي، وهو أخو عثمان بن عفان لأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس‏.‏

وأمها‏:‏ أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وللوليد من الأخوة خالد، وعمارة، وأم كلثوم‏.‏

وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه بعد وقعة بدر من بين الأسرى صبراً بين يديه، فقال‏:‏ يا محمد من للصبية‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لهم النار‏)‏‏)‏

وكذلك فعل بالنضر بن الحارث‏.‏

وأسلم الوليد هذا يوم الفتح، وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقونه فظن أنهم إنما خرجوا لقتاله فرجع، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يجهز إليهم جيشاً، فبلغهم ذلك فجاء من جاء منهم ليعتذروا إليه ويخبرونه بصورة ما وقع، فأنزل الله تعالى في الوليد‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ‏}‏الآية ‏[‏الحجرات‏:‏ 6‏]‏‏.‏

ذكر ذلك غير واحد من المفسرين والله أعلم بصحة ذلك‏.‏

وقد حكى أبو عمرو بن عبد البر على ذلك الإجماع‏.‏ وقد ولاه عمر صدقات بني تغلب، وولاه عثمان نيابة الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، سنة خمس وعشرين، ثم شرب الخمر وصلى بأصحابه، ثم التفت إليهم فقال‏:‏ أزيدكم‏؟‏ ووقع منه تخبيط‏.‏

ثم إن عثمان جلده وعزله عن الكوفة بعد أربع سنين فأقام بها، فلما جاء علي إلى العراق سار إلى الرقة واشترى له عندها ضيعة، وأقام بها معتزلاً جميع الحروب التي كانت أيام علي ومعاوية وما بعدها إلى أن توفي بضيعته في هذه السنة، ودفن بضيعته وهي على خمسة عشر ميلاً من الرقة‏.‏

ويقال‏:‏ إنه توفي في أيام معاوية فالله أعلم‏.‏

روى له الإمام أحمد، وأبو داود حديثاً واحداً في فتح مكة، وقد ذكر ابن الجوزي وفاته في هذه السنة‏.‏

وذكر أيضاً وفاة أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية، وقد تقدم ذكر وفاتها في سنة إحدى وخمسين‏.‏

وقيل‏:‏ إنها توفيت سنة ثلاث وستين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة ست وستين، والصواب ما ذكرناه‏.‏

أم سلمة أم المؤمنين

 هند بنت أبي أمية حذيفة‏.‏

وقيل‏:‏ سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، القرشية المخزومية كانت أولاً تحت ابن عمها أبي سلمة بن عبد الأسد فمات عنها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها في شوال سنة ثنتين بعد وقعة بدر‏.‏

وقد كانت سمعت من زوجها أبي سلمة‏:‏ حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أبدله الله خيراً منها‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فلما مات أبو سلمة قلت ذلك، ثم قلت‏:‏ ومن هو خير من أبي سلمة أول رجل هاجر‏؟‏

ثم عزم الله لي فقلتها فأبدلني الله خيراً منه، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت من حسان النساء وعابداتهن‏.‏

قال الواقدي‏:‏ توفيت سنة تسع وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة‏.‏

وقال ابن أبي خيثمة‏:‏ توفيت في أيام يزيد بن معاوية‏.‏

قلت‏:‏ والأحاديث المتقدمة في مقتل الحسين تدل على أنها عاشت إلى ما بعد مقتله، والله أعلم‏.‏

ورضي الله عنها، والله سبحانه أعلم‏.‏

ثم دخلت سنة ثنتين وستين

يقال‏:‏ فيها قدم وفد المدينة النبوية على يزيد بن معاوية، فأكرمهم وأجازهم بجوائز سنية‏.‏

ثم عادوا من عنده بالجوائز فخلعوه وولوا عليهم عبد الله بن حنظلة الغسيل، فبعث إليهم يزيد جنداً في السنة الآتية إلى المدينة فكانت وقعة الحرة على ما سنبينه في التي بعدها إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد كان يزيد عزل عن الحجاز عمرو بن سعيد بن العاص، وولى عليهم الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فلما دخل المدينة احتاط على الأموال والحواصل والأملاك، وأخذ العبيد الذين لعمرو بن سعيد فحبسهم، - وكانوا نحو ثلاثمائة عبد - فتجهز عمرو بن سعيد إلى يزيد وبعث إلى عبيده أن يخرجوا من السجن ويلحقوا به، وأعد لهم إبلاً يركبونها، ففعلوا ذلك‏.‏

فما لحقوه حتى وصل إلى يزيد فأكرمه واحترمه ورحب به يزيد، وأدنى مجلسه، ثم أنه عاتبه في تقصيره في شأن ابن الزبير‏.‏

فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين الشاهد يرى مالاً يرى الغائب، وإن جل أهل مكة والحجاز ما لأوه علينا وأحبوه ولم يكن لي جند أقوى بهم عليه لو ناهضته، وقد كان يحذرني ويحترس مني، وكنت أرفق به كثيراً وأداريه لأستمكن منه فأثب عليه، مع أني قد ضيقت عليه ومنعته من أشياء كثيرة‏.‏

وجعلت على مكة وطرقها وشعابها رجالاً لا يدعون أحداً يدخلها حتى يكتبوا اسمه واسم أبيه، ومن أي بلاد هو وما جاء له، وماذا يريد، فإن كان من أصحابه أو ممن عرف أنه يريده رددته صاغراً، إلا خليت سبيله‏.‏

وقد وليت الوليد وسيأتيك من عمله وأمره ما لعلك تعرف به فضل مسارعتي واجتهادي في أمرك ومناصحتي لك إن شاء الله، والله يصنع لك ويكبت عدوك‏.‏

فقال له يزيد‏:‏ أنت أصدق ممن رماك وحملني عليك، وأنت ممن أثق به وأرجو معونته وأدخره لذات الصدع، وكفاية المهم وكشف نوازل الأمور العظام، في كلام طويل‏.‏

وأما الوليد بن عتبة‏:‏ فإنه أقام بالحجاز وقد همَّ مراراً أن يبطش بعبد الله بن الزبير فيجده متحذراً ممتنعاً قد أعد للأمور أقرانها‏.‏

وثار باليمامة رجل آخر يقال له‏:‏ نجدة بن عامر الحنفي حين قتل الحسين، وخالف يزيد بن معاوية، ولم يخالف ابن الزبير بل بقي على حدة، له أصحاب يتبعونه، فإذا كان ليلة عرفة دفع الوليد بن عتبة بالجمهور وتخلف عنه ابن الزبير وأصحاب نجدة، ثم يدفع كل فريق وحدهم‏.‏

ثم كتب نجدة إلى يزيد‏:‏ إنك بعثت إلينا رجلاً أخرق لا يتجه لأمر رشد، ولا يرعوي لعظة الحكيم، فلو بعثت إلينا رجلاً سهل الخلق لين الكنف، رجوت أن يسهل به من الأمور ما استوعر منها وأن يجتمع ما تفرق، فانظر في ذلك فإن فيه صلاح خواصنا وعوامنا إن شاء الله تعالى‏.‏

قالوا‏:‏ فعزل يزيد الوليد وولى عثمان محمد بن أبي سفيان، فسار إلى الحجاز وإذا هو فتى غرٌ حدثٌ غمر لم يمارس الأمور، فطمعوا فيه، ولما دخل المدينة بعث إلى يزيد منها وفداً فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة الحضرمي، والمنذر بن الزبير، ورجال كثير من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد فأكرمهم وأحسن إليهم وعظم جوائزهم‏.‏

ثم انصرفوا راجعين إلى المدينة، إلا المنذر بن الزبير فإنه سار إلى صاحبه عبيد الله بن زياد بالبصرة، وكان يزيد قد أجازه بمائة ألف نظير أصحابه من أولئك الوفد، ولما رجع وفد المدينة إليها أظهروا شتم يزيد وعيبه وقالوا‏:‏ قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر وتعزف عنده القينات بالمعازف، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه‏.‏

فتابعهم الناس على خلعه، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على الموت، وأنكر عليهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، ورجع المنذر بن الزبير من البصرة إلى المدينة فوافق أولئك على خلع يزيد، وأخبرهم عنه أنه يشرب الخمر ويسكر حتى ترك الصلاة، وعابه أكثر مما عابه أولئك‏.‏

فلما بلغ ذلك يزيد قال‏:‏ اللهم إني آثرته وأكرمته ففعل ما قد رأيت، فأدركه وانتقم منه‏.‏

ثم أن يزيداً بعث إلى أهل المدينة النعمان بن بشير ينهاهم عما صنعوا ويحذرهم غب ذلك ويأمرهم بالرجوع إلى السمع والطاعة ولزوم الجماعة، فسار إليهم ففعل ما أمره يزيد وخوفهم الفتنة‏.‏

وقال لهم‏:‏ إن الفتنة وخيمة، وقال‏:‏ لا طاقة لكم بأهل الشام‏.‏

فقال له عبد الله بن مطيع‏:‏ ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا وفساد ما أصلح الله من أمرنا‏؟‏

فقال له النعمان‏:‏ أما والله لكأني وقد تركت تلك الأمور التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب التي تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحى الموت بين الفريقين، وكأني بك قد ضربت جنب بغلتك إلي وخلفت هؤلاء المساكين - يعني‏:‏ الأنصار - يقتلون في سككهم ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم‏.‏

فعصاه الناس فلم يسمعوا منه فانصرف وكان الأمر والله كما قال سواء‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عتبة كذا قال وفيه نظر، فإنه إن كان في وفد أهل المدينة وقد رجعوا من عند يزيد فإنما وفد عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وإن كان قد حج بالناس فيها الوليد فما قدم وفد المدينة إلى يزيد إلا في أول سنة ثلاث وستين وهو أشبه والله أعلم‏.‏

 

 

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان

 بريدة بن الحصيب الأسلمي

كان إسلامه حين اجتاز به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مهاجر إلى المدينة عند كراع الغميم، فلما كان هناك تلقاه بريدة في ثمانين نفساً من أهله فأسلموا، وصلى بهم صلاة العشاء وعلمه ليلتئذٍ صدراً من سورة مريم‏.‏

ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بعد أُحد فشهد معه المشاهد كلها وأقام بالمدينة، فلما فتحت البصرة نزلها واختط بها داراً، ثم خرج إلى غزو خراسان فمات بمرو في خلافة يزيد بن معاوية‏.‏

ذكر موته غير واحد في هذه السنة‏.‏

 الربيع بن خيثم

أبو يزيد الثوري الكوفي، أحد أصحاب ابن مسعود قال له عبد الله بن مسعود‏:‏ ما رأيتك قط إلا ذكرت المخبتين، ولو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك‏.‏

وكان ابن مسعود يجله كثيراً‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ كان الربيع من معادن الصدق، وكان أورع أصحاب ابن مسعود‏.‏

وقال ابن معين‏:‏ لا يسأل عن مثله، وله مناقب كثيرة جداً، أرخ ابن الجوزي وفاته في هذه السنة‏.‏

 علقمة بن قيس أبو شبل النخعي الكوفي

كان من أكابر أصحاب ابن مسعود وعلمائهم وكان يشبه بابن مسعود، وقد روى علقمة عن جماعة من الصحابة وعنه خلق من التابعين‏.‏

 عقبة بن نافع الفهري

بعثه معاوية إلى إفريقية في عشرة آلاف فافتتحها، واختط القيروان، وكان موضعها غيضة لا ترام من السباع، والحيات، والحشرات، فدعا الله تعالى فجعلن يخرجن منها بأولادهن من الأوكار والحجار، فبناها ولم يزل بها حتى هذه السنة، غزا أقواماً من البربر والروم فقتل شهيداً رضي الله عنه‏.‏

 عمرو بن حزم

صحابي جليل استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على نجران وعمره سبع عشرة سنة وأقام بها مدة، وأدرك أيام يزيد بن معاوية‏.‏

 مسلم بن مخلد الأنصاري

الزرقي ولد عام الهجرة، وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر، وولي الجند بها لمعاوية ويزيد، ومات في ذي القعدة من هذه السنة‏.‏

 مسلم بن معاوية الديلمي

صحابي جليل شهد بدراً وأُحداً والخندق مع المشركين، وكانت له في المسلمين نكاية، ثم أسلم وحسن إسلامه، وشهد فتح مكة وحنيناً، وحج مع أبي بكر سنة تسع، وشهد حجة الوداع، وعَمَّر ستين سنة في الجاهلية ومثلها في الإسلام قاله الواقدي‏.‏

قال‏:‏ وأدرك أيام يزيد بن معاوية، وقال ابن الجوزي‏:‏ مات في هذه السنة‏.‏

وفيها‏:‏ توفيت الرباب بنت أنيف امرأة الحسين بن علي التي كانت حاضرة أهل العراق إذ هم يعدون في السبت أو في الجمعة على زوجها الحسين بن علي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وستين

ففيها كانت وقعة الحرة‏:‏ وكان سببها أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية وولوا على قريش عبد الله بن مطيع، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر‏.‏

فلما كان في أول هذه السنة أظهروا ذلك واجتمعوا عند المنبر فجعل الرجل منهم يقول‏:‏ قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي هذه، ويلقيها عن رأسه‏.‏

ويقول الآخر‏:‏ قد خلعته كما خلعت نعلي هذه، حتى اجتمع شيء كثير من العمائم والنعال هناك، ثم اجتمعوا على إخراج عامل يزيد من بين أظهرهم، وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان ابن عم يزيد، وعلى إجلاء بني أمية من المدينة‏.‏

فاجتمعت بنو أمية في دار مروان بن الحكم، وأحاط بهم أهل المدينة يحاصرونهم، واعتزل الناس علي بن الحسين زين العابدين، وكذلك عبد الله بن عمر بن الخطاب لم يخلعا يزيد، ولا أحد من بيت ابن عمر‏.‏

وقد قال ابن عمر لأهله‏:‏ لا يخلعن أحد منكم يزيد فتكون الفيصل ويوري الصيلم بيني وبينه، وسيأتي هذا الحديث بلفظه وإسناده في ترجمة يزيد، وأنكر على أهل المدينة في مبايعتهم لابن مطيع وابن حنظلة على الموت‏.‏

وقال‏:‏ إنما كنا نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر، وكذلك لم يخلع يزيد أحد من بني عبد المطلب‏.‏

وقد سئل محمد بن الحنفية في ذلك فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وناظرهم وجادلهم في يزيد ورد عليهم ما اتهموا يزيد به من شرب الخمر وتركه بعض الصلوات كما سيأتي مبسوطاً في ترجمة يزيد قريباً إن شاء الله‏.‏

وكتب بنو أمية إلى يزيد بما هم فيه من الحصر والإهانة، والجوع والعطش، وأنه لم يبعث إليهم من ينقذهم مما هم فيه وإلا استؤصلوا عن آخرهم، وبعثوا ذلك مع البريد‏.‏

فلما قدم بذلك على يزيد وجده جالساً على سريره ورجلاه في ماء يتبرد به مما به من النقرس في رجليه، فلما قرأ الكتاب انزعج لذلك وقال‏:‏ ويلك ‏!‏ ما فيهم ألف رجل‏؟‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فهل لا قاتلوا ساعة من نهار‏؟‏

ثم بعث إلى عمرو بن سعيد بن العاص فقرأ عليه الكتاب واستشاره فيمن يبعثه إليهم، وعرض عليه أن يبعثه إليهم فأبى عليه ذلك، وقال‏:‏ إن أمير المؤمنين عزلني عنها وهي مضبوطة وأمورها محكمة، فأما الآن فإنما دماء قريش تراق بالصعيد فلا أحب أن أتولى ذلك منهم، ليتول ذلك من هو أبعد منهم مني‏.‏

قال‏:‏ فبعث البريد إلى مسلم بن عقبة المزني وهو شيخ كبير ضعيف فانتدب لذلك وأرسل معه يزيد عشرة آلاف فارس‏.‏

وقيل‏:‏ اثنا عشر ألفاً وخمسة عشر ألف رجل، وأعطى كل واحد منهم مائة دينار‏.‏

وقيل‏:‏ أربعة دنانير، ثم استعرضهم وهو على فرس له‏.‏

قال المدائني‏:‏ وجعل على أهل دمشق عبد الله بن مسعدة الفزاري، وعلى أهل حمص حصين بن نمير السكوني، وعلى أهل الأردن حبيش بن دلجة القيني، وعلى أهل فلسطين روح بن زنباع الجذامي وشريك الكناني، وعلى أهل قنسرين طريف بن الحسحاس الهلالي، وعليهم مسلم بن عقبة المزني من غطفان، وإنما يسميه السلف مسرف بن عقبة‏.‏

فقال النعمان بن بشير‏:‏ يا أمير المؤمنين ولني عليهم أكفك - وكان النعمان أخا عبد الله بن حنظلة لأمه عمرة بنت رواحة - فقال يزيد‏:‏ لا ‏!‏ ليس لهم إلا هذا الغشمة، والله لأقتلنهم بعد إحساني إليهم وعفوي عنهم مرة بعد مرة‏.‏

فقال النعمان‏:‏ يا أمير المؤمنين أنشدك الله في عشيرتك وأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال عبد الله بن جعفر‏:‏ أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك أيقبل منهم‏؟‏

قال‏:‏ إن فعلوا فلا سبيل عليهم‏.‏

وقال يزيد لمسلم بن عقبة‏:‏ ادع القوم ثلاثاً فإن رجعوا إلى الطاعة فاقبل منهم وكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة ثلاثاً ثم أكفف عن الناس، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه واستوص به خيراً، وأدن مجلسه، فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه‏.‏

وأمر مسلم إذا فرغ من المدينة أن يذهب إلى مكة لحصار ابن نمير‏.‏

وقال له‏:‏ إن حدث بك أمر فعلى الناس حصين بن نمير السكوني‏.‏

وقد كان يزيد كتب إلى عبيد الله بن زياد أن يسير إلى الزبير فيحاصره بمكة، فأبى عليه وقال‏:‏ والله لا أجمعهما للفاسق أبداً، أقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغزو البيت الحرام‏؟‏

وقد كانت أمه مرجانة قالت له حين قتل الحسين‏:‏ ويحك ماذا صنعت وماذا ركبت‏؟‏

وعنفته تعنيفاً شديداً‏.‏

قالوا‏:‏ وقد بلغ يزيد أن ابن الزبير يقول في خطبته‏:‏ يزيد القرود، شارب الخمور، تارك الصلوات، منعكف على القينات‏.‏

فلما جهز مسلم بن عقبة واستعرض الجيش بدمشق جعل يقول‏:‏

أبلغ أبا بكرٍ إذا الجيش سرى * وأشرف الجيش على وادي القرى

أجمع سكران من القوم ترى * يا عجبا من ملحد في أم القرى

مخادعٌ للدين يقضي بالفرى

وفي رواية‏:‏

أبلغ أبا بكرٍ إذا الأمر انبرى * ونزل الجيش على وادي القرى

عشرون ألفاً بين كهلٍ وفتى * أجمع سكران من القوم ترى

قالوا‏:‏ وسار مسلم بمن معه من الجيوش إلى المدينة، فلما اقترب منها اجتهد أهل المدينة في حصار بني أمية‏.‏

وقالوا لهم‏:‏ والله لنقتلنكم عن آخركم أو تعطونا موثقاً أن لا تدلوا علينا أحداً من هؤلاء الشاميين، ولا تمالئوهم علينا، فأعطوهم العهود بذلك‏.‏

فلما وصل الجيش تلقاهم بنو أمية فجعل مسلم يسألهم عن الأخبار فلا يخبره أحد، فانحصر لذلك‏.‏

جاءه عبد الملك بن مروان فقال له‏:‏ إن كنت تريد النصر فأنزل شرقي المدينة في الحرة، فإذا خرجوا إليك كانت الشمس في أقفيتكم وفي وجوههم، فادعهم إلى الطاعة، فإن أجابوك وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، فإن الله ناصرك عليهم إذ خالفوا الإمام وخرجوا عن الطاعة‏.‏

فشكره مسلم بن عقبة على ذلك، وامتثل ما أشار به، فنزل شرقي المدينة في الحرة، ودعا أهلها ثلاثة أيام، كل ذلك يأبون إلا المحاربة والمقاتلة‏.‏

فلما مضت الثلاثة قال لهم في اليوم الرابع - وهو يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين -‏.‏

قال لهم‏:‏ يا أهل المدينة مضت الثلاث وإن أمير المؤمنين قال لي‏:‏ إنكم أصله وعشيرته، وأنه يكره إراقة دمائكم، وأنه أمرني أن أؤجلكم ثلاثاً فقد مضت، فماذا أنتم صانعون‏؟‏

أتسالمون أم تحاربون‏؟‏

فقالوا‏:‏ بل نحارب‏.‏

فقال‏:‏ لا تفعلوا بل سالموا ونجعل جدنا وقوتنا على هذا الملحد - يعني‏:‏ ابن الزبير -‏.‏

فقالوا‏:‏ يا عدو الله، لو أردت ذلك لما مكناك منه، أنحن نذركم تذهبون فتلحدون في بيت الله الحرام، ثم تهيأوا للقتال، وقد كانوا اتخذوا خندقاً بينهم وبين ابن عقبة، وجعلوا جيشهم أربعة أرباع على كل ربع أمير، وجعلوا أجمل الأرباع الربع الذي فيه عبد الله بن حنظلة الغسيل، ثم اقتتلوا قتالاً شديداً، ثم انهزم أهل المدينة إليها‏.‏

وقد قتل من الفريقين خلق من السادات والأعيان، منهم‏:‏ عبد الله بن مطيع، وبنون له سبعة بين يديه، وعبد الله بن حنظلة الغسيل، وأخوه لأمه محمد بن ثابت بن شماس، ومحمد بن عمرو بن حزم، وقد مر به مروان وهو مجندل فقال‏:‏ رحمك الله، فكم من سارية قد رأيتك تطيل عندها القيام والسجود‏.‏

ثم أباح مسلم بن عقبة، الذي يقول فيه السلف‏:‏ مسرف بن عقبة - قبحه الله من شيخ سوء ما أجهله - المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد، لا جزاه الله خيراً، وقتل خيراً خلقاً من أشرافها وقرائها، وانتهب أموالاً كثيرة منها، ووقع شرُّ عظيم وفساد عريض على ما ذكره غير واحد‏.‏

فكان ممن قتل بين يديه صبراً معقل بن سنان، وقد كان صديقه قبل ذلك، ولكن أسمعه في يزيد كلاماً غليظاً، فنقم عليه بسببه، واستدعى بعلي بن الحسين فجاء يمشي بين مروان بن الحكم وابنه عبد الملك، ليأخذ له بهما عنده أماناً، ولم يشعر أن يزيد أوصاه به‏.‏

فلما جلس بين يديه استدعى مروان بشراب - وقد كان مسلم بن عقبة حمل معه من الشام ثلجاً إلى المدينة فكان يشاب له بشرابه - فلما جيء بالشراب شرب مروان قليلاً ثم أعطى الباقي لعلي بن الحسين ليأخذ له بذلك أماناً، وكان مروان مواداً لعلي بن الحسين‏.‏

فلما نظر إليه مسلم بن عقبة قد أخذ الإناء في يده قال له‏:‏ لا تشرب من شرابنا‏.‏

ثم قال له‏:‏ إنما جئت مع هذين لتأمن بهما‏؟‏

فارتعدت يد علي بن الحسين وجعل لا يضع الإناء من يده ولا يشربه‏.‏

ثم قال له‏:‏ لولا أن أمير المؤمنين أوصاني بك لضربت عنقك، ثم قال له‏:‏ إن شئت أن تشرب فاشرب، وإن شئت دعونا لك بغيرها‏.‏

فقال‏:‏ هذه الذي في كفي أريد، فشرب‏.‏

ثم قال له مسلم بن عقبة‏:‏ قم إلى ههنا فاجلس، فأجلسه معه على السرير، وقال له‏:‏ إن أمير المؤمنين أوصاني بك، وإن هؤلاء شغلوني عنك‏.‏

ثم قال لعلي بن الحسين‏:‏ لعل أهلك فزعوا‏.‏

فقال‏:‏ إي والله‏.‏

فأمر بدابته فأسرجت ثم حمله عليها حتى ردّه إلى منزله مكرماً‏.‏

ثم استدعى بعمرو بن عثمان بن عفان - ولم يكن خرج مع بني أمية - فقال له‏:‏ إنك إن ظهر أهل المدينة قلت‏:‏ أنا معكم، وإن ظهر أهل الشام، قلت‏:‏ أنا ابن أمير المؤمنين، ثم أمر به فنتفت لحيته بين يديه - وكان ذا لحية كبيرة -‏.‏

قال المدائني‏:‏ وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، يقتلون من وجدوا من الناس، ويأخذون الأموال‏.‏

فأرسلت سعدى بنت عوف المرية إلى مسلم بن عقبة تقول له‏:‏ أنا بنت عمك فمر أصحابك أن لا يتعرضوا لإبلنا بمكان كذا وكذا‏.‏

فقال لأصحابه‏:‏ لا تبدأوا إلا بأخذ إبلها أولاً‏.‏

وجاءته امرأة فقالت‏:‏ أنا مولاتك، وابني في الأسارى، فقال‏:‏ عجلوه لها، فضربت عنقه‏.‏

وقال‏:‏ أعطوها رأسه، أما ترضين أن لا يقتل حتى تتكلمي في ابنك‏؟‏

ووقعوا على النساء حتى قيل‏:‏ إنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج والله أعلم‏.‏

قال المدائني‏:‏ عن أبي قرة قال‏:‏ قال هشام بن حسان‏:‏ ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرة من غير زوج‏.‏ :

 وقد اختفى جماعة من سادات الصحابة منهم‏:‏ جابر بن عبد الله، وخرج أبو سعيد الخدري فلجأ إلى غار في جبل، فلحقه رجل من أهل الشام، قال‏:‏ فلما رأيته انتضيت سيفي فقصدني‏.‏

فلما رآني صمم على قتلي، فشممت سيفي ثم قلت‏:‏ ‏(‏‏(‏إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين‏)‏‏)‏ فلما رأى ذلك، قال‏:‏ من أنت‏؟‏

قلت‏:‏ أنا أبو سعيد الخدري‏.‏

قال‏:‏ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏ فمضى وتركني‏.‏

قال المدائني‏:‏ وجيء إلى مسلم بسعيد بن المسيب فقال له‏:‏ بايع ‏!‏

فقال‏:‏ أبايع على سيرة أبي بكر وعمر‏.‏

فأمر بضرب عنقه، فشهد رجل إنه مجنون فخلى سبيله‏.‏

وقال المدائني‏:‏ عن عبد الله القرشي وأبي إسحاق التميمي قالا‏:‏ لما انهزم أهل المدينة يوم الحرة صاح النساء والصبيان، فقال ابن عمر‏:‏ بعثمان ورب الكعبة‏.‏

قال المدائني‏:‏ عن شيخ من أهل المدينة‏.‏

قال‏:‏ سألت الزهري‏:‏ كم كان القتلى يوم الحرة‏؟‏

قال‏:‏ سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي، وممن لا أعرف من حر وعبد وغيرهم عشرة آلاف‏.‏

قال‏:‏ وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وانتهبوا المدينة ثلاثة أيام‏.‏

قال الواقدي، وأبو معشر‏:‏ كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة، سنة ثلاث وستين‏.‏

قال الواقدي‏:‏ عن عبد الله بن جعفر، عن ابن عوف قال‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة‏:‏ عبد الله بن الزبير، وكانوا يسمونه العائذ - يعني‏:‏ العائذ بالبيت - ويرون الأمر شورى، وجاء خبر الحرة إلى أهل مكة ليلة مستهل المحرم مع سعيد مولى المسور بن مخرمة، فحزنوا حزناً شديداً وتأهبوا لقتال أهل الشام‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وقد رويت قصة الحرة على غير ما رواه أبو مخنف‏:‏ فحدثني أحمد بن زهير، ثنا أبي، سمعت وهب بن جرير، ثنا جويرية بن أسماء قال‏:‏ سمعت أشياخ أهل المدينة يحدثون أن معاوية لما حضرته الوفاة دعا ابنه يزيد‏.‏

فقال له‏:‏ إن لك من أهل المدينة يوماً، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفت نصيحته لنا، فلما هلك معاوية وفد إلى يزيد وفد من أهل المدينة، وكان ممن وفد إليه عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر -وكان شريفاً فاضلاً سيداً عابداً - ومعه ثمانية بنين له، فأعطاه يزيد مائة ألف درهم، وأعطى بنيه كل واحد منهم عشرة آلاف، سوى كسوتهم وحملاتهم‏.‏

ثم رجعوا إلى المدينة، فلما قدمها أتاه الناس فقالوا له‏:‏ ما وراءك‏؟‏

فقال‏:‏ جئتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بنيَّ هؤلاء لجاهدته بهم‏.‏

قالوا‏:‏ قد بلغنا أنه أعطاك وأخدمك وأجزاك وأكرمك‏.‏

قال‏:‏ قد فعل وما قبلت منه إلا لأتقوى له على قتاله، ثم فحض الناس فبايعوه‏.‏

فبلغ ذلك يزيد فبعث إليهم مسلم بن عقبة، وقد بعث أهل المدينة إلى كل ماء بينهم وبين الشام فصبوا فيه زقاً من قطران وغوَّروه، فأرسل الله على جيش الشام السماء مدراراً بالمطر، فلم يستقوا بدلو حتى وردوا المدينة‏.‏

فخرج أهل المدينة بجموع كثيرة وهيئة لم ير مثلها، فلما رآهم أهل الشام هابوهم وكرهوا قتالهم، وكان أميرهم مسلم شديد الوجع، فبينما الناس في قتالهم إذ سمعوا التكبير من خلفهم في جوف المدينة، قد أقحم عليهم بنو حارثة من أهل الشام وهم على الجدر، فانهزم الناس، فكان من أصيب في الخندق أعظم ممن قتل‏.‏

فدخلوا المدينة وعبد الله بن حنظلة مستند إلى الجدار يغط نوماً، فنبهه ابنه، فلما فتح عينيه ورأى ما صنع الناس، أمر أكبر بنيه فتقدم فقاتل حتى قتل‏.‏

فدخل مسلم بن عقبة المدينة فدعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد بن معاوية، ويحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء‏.‏

وقد روى ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد الصمد من تاريخه من كتاب ‏(‏المجالسة‏)‏ لأحمد بن مروان المالكي‏:‏ ثنا الحسين بن الحسن اليشكري، ثنا الزيادي عن الأصمعي ح‏.‏

وحدثني محمد بن الحارث، عن المدائني قال‏:‏ لما قتل أهل الحرة هتف هاتف بمكة على أبي قبيس مساء تلك الليلة، وابن الزبير جالس يسمع‏:‏

والصائمون القانتو* ن أولو العبادة والصلاح

المهتدون المحسنو* ن السابقون إلى الفلاح

ماذا بواقم والبقيـ*ـع من الجحاجحة الصباح

وبقاع يثرب ويحهنـ*ـن من النوادب والصياح

قتل الخيار بنوا الخيا * ر ذوي المهابة والسماح

فقال ابن الزبير‏:‏ يا هؤلاء قتل أصحابكم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقد أخطأ يزيد خطأً فاحشاً في قوله لمسلم بن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام، وهذا خطأ كبير فاحش، مع ما انضم إلى ذلك من قتل خلق من الصحابة وأبنائهم، وقد تقدم أنه قتل الحسين وأصحابه على يدي عبيد الله بن زياد‏.‏

وقد وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد ولا يوصف، مما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقد أراد بإرسال مسلم بن عقبة توطيد سلطانه وملكه، ودوام أيامه من غير منازع، فعاقبه الله بنقيض قصده، وحال بينه وبين ما يشتهيه، فقصمه الله قاصم الجبابرة، وأخذه أخذً عزيز مقتدر، وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد

قال البخاري في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ حدثنا الحسين بن حريث، ثنا الفضل بن موسى، ثنا الجعد، عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها‏.‏

قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث أبي عبد الله القراظ المديني - واسمه دينار - عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يريد أحد المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص - أو ذوب الملح في الماء -‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية لمسلم من طريق أبي عبد الله القراظ عن سعد وأبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أنس بن عياض، ثنا يزيد بن خصيفة، عن عطاء بن يسار، عن السائب بن خلاد‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أخاف أهل المدينة ظلماً أخافه الله وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه النسائي من غير وجه عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خصيفة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن عطاء بن يسار، عن خلاد بن منجوف بن الخزرج أخبره فذكره‏.‏

وكذلك رواه الحميدي، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن يزيد بن خصيفة‏.‏

ورواه النسائي أيضاً‏:‏ عن يحيى بن حبيب بن عربي، عن حماد، عن يحيى بن سعيد، عن مسلم بن أبي مريم، عن عطاء بن يسار، عن ابن خلاد - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فذكره‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ أخبرني حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، عن أبي بكر، عن عطاء بن يسار، عن السائب بن خلاد، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الدار قطني‏:‏ ثنا علي بن أحمد بن القاسم، ثنا أبي، ثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، ثنا أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الله بن أنيس الأنصاري، عن محمد وعبد الرحمن ابني جابر بن عبد الله قالا‏:‏ خرجنا مع أبينا يوم الحرة وقد كف بصره فقال‏:‏ تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقلنا‏:‏ يا أبة وهل أحد يخيف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من أخاف أهل هذا الحي من الأنصار فقد أخاف ما بين هذين‏)‏‏)‏ - ووضع يده على جبينه -‏.‏

قال الدار قطني‏:‏ تفرد به سعد بن عبد العزيز لفظاً وإسناداً‏.‏

وقد استدل بهذا الحديث وأمثاله من ذهب إلى الترخيص في لعنة يزيد بن معاوية، وهو رواية عن أحمد بن حنبل اختارها الخلال، وأبو بكر عبد العزيز، والقاضي أبو يعلى، وابنه القاضي أبو الحسين، وانتصر لذلك أبو الفرج بن الجوزي في مصنف مفرد، وجوز لعنته‏.‏

ومنع من ذلك آخرون وصنفوا فيه أيضاً لئلا يجعل لعنة وسيلة إلى أبيه أو أحد من الصحابة، وحملوا ما صدر عنه من سوء التصرفات على أنه تأول وأخطأ‏.‏

وقالوا‏:‏ إنه كان مع ذلك إماماً فاسقاً، والإمام إذا فسق لا يعزل بمجرد فسقه على أصح قولي العلماء، بل ولا يجوز الخروج عليه لما في ذلك من إثارة الفتنة، ووقوع الهرج وسفك الدماء الحرام، ونهب الأموال، وفعل الفواحش مع النساء وغيرهن، وغير ذلك مما كل واحدة فيها من الفساد أضعاف فسقه كما جرى مما تقدم إلى يومنا هذا‏.‏

وأما ما يذكره بعض الناس من أن يزيد لما بلغه خبر أهل المدينة وما جرى عليهم عند الحرة من مسلم بن عقبة وجيشه، فرح بذلك فرحاً شديداً، فإنه كان يرى أنه الإمام وقد خرجوا عن طاعته، وأمروا عليهم غيره، فله قتالهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ولزوم الجماعة‏.‏

كما أنذرهم بذلك على لسان النعمان بن بشير ومسلم بن عقبة كما تقدم، وقد جاء في ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏ ‏(‏‏(‏من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائناً من كان‏)‏‏)‏‏.‏

وأما ما يوردونه عنه من الشعر في ذلك واستشهاده بشعر ابن الزبعري في وقعة أُحد التي يقول فيها‏:‏

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حلت بفنائهم برَّكها * واستحر القتل في عبد الأشل

قد قتلنا الضعف من أشرافهم * وعدنا ميل بدرٍ فاعتدل

وقد زاد بعض الروافض فيها فقال‏:‏

لعبت هاشم بالملك فلا * ملك جاءه ولا وحيٌ نزل

فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فلعنة الله عليه ولعنه اللاعنين، وإن لم يكن قاله فلعنه الله على من وضعه عليه ليشنع به عليه‏.‏

وسيذكر في ترجمة يزيد بن معاوية قريباً، وما ذكر عنه وما قيل فيه، وما كان يعانيه من الأفعال والقبائح والأقوال في السنة الآتية، فإنه لم يمهل بعد وقعة الحرة وقتل الحسين إلا يسيراً حتى قصمه الله الذي قصم الجبابرة قبله وبعده، إنه كان عليماً قديراً‏.‏

وقد توفي في هذه السنة خلق من المشاهير والأعيان من الصحابة وغيرهم في وقعة الحرة مما يطول ذكرهم‏.‏

فمن مشاهيرهم من الصحابة عبد الله بن حنظلة أمير المدينة في وقعة الحرة، ومعقل بن سنان، وعبيد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه، ومسروق بن الأجدع‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وستين

ففيها‏:‏ في أول المحرم منها سار مسلم بن عقبة إلى مكة قاصداً قتال ابن الزبير ومن التفَّ عليه من الأعراب، على مخالفة يزيد بن معاوية، واستخلف على المدينة روح بن زنباع‏.‏

فلما بلغ ثنية هرشا بعث إلى رؤوس الأجناد فجمعهم، فقال‏:‏ إن أمير المؤمنين عهد إليّ إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حُصين بن نمير السكوني، ووالله لو كان الأمر لي ما فعلت‏.‏

ثم دعا به فقال‏:‏ انظر يا بن بردعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به، ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز ابن الزبير قبل ثلاث‏.‏

ثم قال‏:‏ اللهم إني لم أعمل عملاً قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أحب إليّ من قتل أهل المدينة، وأجزى عندي في الآخرة‏.‏

وإن دخلت النار بعد ذلك إني لشقي، ثم مات قبحه الله ودفن بالمسلك فيما قاله الواقدي‏.‏

ثم أتبعه الله بيزيد بن معاوية فمات بعده في ربيع الأول لأربع عشرة ليلة خلت منه، فما متعهما الله بشيء مما رجوه وأملوه، بل قهرهم القاهر فوق عباده، وسلبهم الملك، ونزعه منهم من ينزع الملك ممّن يشاء‏.‏

وسار حصين بن نمير بالجيش نحو مكة فانتهى إليها لأربع بقين من المحرم فيما قاله الواقدي‏.‏

وقيل‏:‏ لسبع مضين منه‏.‏

وقد تلاحق بابن الزبير جماعات ممن بقي من أشراف أهل المدينة، وانضاف إليه نجدة بن عامر الحنفي - من أهل اليمانة - في طائفة من أهلها ليمنعوا البيت من أهل الشام، فنزل حصين بن نمير ظاهر مكة، وخرج إليه ابن الزبير في أهل مكة ومن التفّ معه فاقتتلوا عند ذلك قتالاً شديداً‏.‏

وتبارز المنذر بن الزبير ورجل من أهل الشام فقتل كل واحد منهما صاحبه، وحمل أهل الشام على أهل مكة حملة صادقة‏.‏

فانكشف أهل مكة، وعثرت بغلة عبد الله بن الزبير به، فكرّ عليه المسور بن مخرمة ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف وطائفة فقاتلوا دونه حتى قتلوا جميعاً، وصابرهم ابن الزبير حتى الليل فانصرفوا عنه ثم اقتتلوا في بقية شهر المحرم وصفراً بكماله‏.‏

فلما كان يوم السبت ثالث ربيع الأول سنة أربع وستين نصبوا المجانيق على الكعبة ورموها حتى بالنار، فاحترق جدار البيت في يوم السبت، وهذا قول الواقدي، وهم يقولون‏:‏

خطَّاره مثل الفتيق المزبد * ترمى بها جدران هذا المسجد

وجعل عمر بن حوطة السدوسي يقول‏:‏

كيف ترى صنيع أم فروة * تأخذهم بين الصفا والمروة

وأم فروة اسم المنجنيق‏.‏

وقيل‏:‏ إنما احترقت لأن أهل المسجد جعلوا يوقدون النار وهم حول الكعبة، فعلقت النار في بعض أستار الكعبة فسرت إلى أخشابها وسقوفها فاحترقت‏.‏

وقيل‏:‏ إنما احترقت لأن ابن الزبير سمع التكبير على بعض جبال مكة في ليلة ظلماء، فظن أنهم أهل الشام، فرفعت نار على رمح لينظروا من هؤلاء الذين على الجبل، فأطارت الريح شررة من رأس الرمح إلى ما بين الركن اليماني والأسود من الكعبة، فعلقت في أستارها وأخشابها فاحترقت، وأسود الركن وانصدع في ثلاثة أمكنة منه‏.‏

واستمر الحصار إلى مستهل ربيع الآخر، وجاء الناس نعُي يزيد بن معاوية، وأنه قد مات لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين، وهو ابن خمس أو ثمان، أو تسع وثلاثين سنة‏.‏

فكانت ولايته ثلاث سنين وستة أو ثمانية أشهر، فغُلب أهل الشام هنالك وانقلبوا صاغرين، فحينئذ خمدت الحرب وطفئت نار الفتنة‏.‏

ويقال‏:‏ إنهم مكثوا يحاصرون ابن الزبير بعد موت يزيد نحو أربعين ليلة، ويذكر أن ابن الزبير علم بموت يزيد قبل أهل الشام، فنادى فيهم‏:‏ يا أهل الشام قد أهلك الله طاغيتكم، فمن أحب منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل، ومن أحب أن يرجع إلى شامه فليرجع، فلم يصدق الشاميون أهل مكة فيما أخبروهم به‏.‏

حتى جاء ثابت بن قيس بن القيقع بالخبر اليقين‏.‏

ويذكر أن حصين بن نمير دعاه ابن الزبير ليحدثه بين الصفين فاجتمعا حتى اختلفت رؤوس فرسيهما، وجعلت فرس حصين تنفر ويكفها‏.‏

فقال له ابن الزبير‏:‏ مالك‏؟‏

فقال‏:‏ أن الحمام تحت رجلي فرسي تأكل من الروث فأكره أن أطأ حمام الحرم‏.‏ فقال له‏:‏ تفعل هذا وأنت تقتل المسلمين‏؟‏

فقال له حصين‏:‏ فأذن لنا فلنطف بالكعبة ثم نرجع إلى بلادنا، فأذن لهم فطافوا‏.‏

وذكر ابن جرير أن حصيناً وابن الزبير اتعدا ليلة أن يجتمعا فاجتمعا بظاهر مكة، فقال له حصين‏:‏ إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر بعده، فهلم فارحل معي إلى الشام، فوالله لا يختلف عليك اثنان‏.‏

فيقال‏:‏ إن ابن الزبير لم يثق منه بذلك، وأغلظ له في المقال فنفر منه ابن نمير وقال‏:‏ أنا أدعوه إلى الخلافة وهو يغلظ لي في المقال‏؟‏

ثم كر بالجيش راجعاً إلى الشام‏.‏

وقال‏:‏ أعده بالملك، ويتواعد بالقتل‏؟‏

ثم ندم ابن الزبير على ما كان منه إليه من الغلظة، فبعث إليه يقول له‏:‏ أما الشام فلست آتية، ولكن خذ لي البيعة على من هناك، فإني أؤمنكم وأعدل فيكم‏.‏

فبعث إليه يقول له‏:‏ إن من يبتغيها من أهل البيت بالشام لكثير‏.‏

فرجع فاجتاز بالمدينة فطمع فيه أهلها وأهانوهم إهانة بالغة، وأكرمهم علي بن الحسين زين العابدين، وأهدى لحصين ابن نمير قتاً وعلفاً وارتحلت، بنو أمية مع الجيش إلى الشام فوجدوا معاوية بن يزيد بن معاوية قد استخلف مكان أبيه بدمشق عن وصية من أبيه له بذلك، والله سبحانه أعلم بالصواب‏.‏

 وهذه ترجمة يزيد بن معاوية

هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أمير المؤمنين أبو خالد الأموي‏.‏

ولد سنة خمس أو ست أو سبع وعشرين، وبويع له بالخلافة في حياة أبيه أن يكون ولي العهد من بعده، ثم أكد ذلك بعد موت أبيه في النصف من رجب سنة ستين، فاستمر متولياً إلى أن توفي في الرابع عشر من ربيع الأول سنة أربع وستين‏.‏

وأمه ميسون بنت مخول بن أنيف بن دلجة بن نفاثة بن عدي بن زهير بن حارثة الكلبي‏.‏

روى عن أبيه معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين‏)‏‏)‏‏.‏

وحديثاً آخر في الوضوء‏.‏

وعنه ابنه خالد، وعبد الملك بن مروان، وقد ذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة، وهي العليا، وقال‏:‏ له أحاديث، وكان كثير اللحم، عظيم الجسم، كثير الشعر، جميلاً طويلاً، ضخم الهامة، محدد الأصابع غليظها مجدراً‏.‏

وكان أبوه قد طلق أمه وهي حامل به، فرأت أمه في المنام أنه خرج منها قمر من قُبلها، فقصّت رؤياها على أمها فقالت‏:‏ إن صدقت رؤياك لتلدن من يبايع له بالخلافة‏.‏

وجلست أمه ميسون يوماً تمشطه وهو صبي صغير، وأبوه معاوية مع زوجته الحظية عنده في المنظرة، وهي فاختة بنت قرظة، فلما فرغت من مشطه نظرت أمه إليه فأعجبها فقبلته بين عينيه، فقال معاوية عند ذلك‏:‏

إذا مات لم تفلح مزينة بعده * فنوطي عليه يا مزين التمائما

وانطلق يزيد يمشي وفاختة تتبعه بصرها ثم قالت‏:‏ لعن الله سواد ساقي أمك‏.‏

فقال معاوية‏:‏ أما والله إنه لخير من ابنك عبد الله - وهو ولده منها وكان أحمق -‏.‏

فقالت فاختة‏:‏ لا والله لكنك تؤثر هذا عليه‏.‏

فقال‏:‏ سوف أبين لك ذلك حتى تعرفينه قبل أن تقومي من مجلسك هذا، ثم استدعى بابنها عبد الله فقال له‏:‏ إنه قد بدا لي أن أعطيك كل ما تسألني في مجلسي هذا‏.‏

فقال‏:‏ حاجتي أن تشتري لي كلباً فارهاً وحماراً فارهاً‏.‏

فقال‏:‏ يا بني أنت حمار وتشتري لك حماراً‏؟‏ قم فاخرج‏.‏

ثم قال لأمه‏:‏ كيف رأيت‏؟‏

ثم استدعى بيزيد فقال‏:‏ إني قد بدا لي أن أعطيك كل ما تسألني في مجلسي هذا، فسلني ما بدا لك‏.‏

فخر يزيد ساجداً ثم قال حين رفع رأسه‏:‏ الحمد لله الذي بلغ أمير المؤمنين هذه المدة، وأراه فيّ هذا الرأي‏.‏

حاجتي أن تعقد لي العهد من بعدك، وتوليني العام صائفة المسلمين، وتأذن لي في الحج إذا رجعت، وتوليني الموسم، وتزيد أهل الشام عشرة دنانير لكل رجل في عطائه، وتجعل ذلك بشفاعتي، وتعرض لأيتام بني جمح، وأيتام بني سهم، وأيتام بني عدي‏.‏

فقال‏:‏ مالك ولأيتام بني عدي‏؟‏

فقال‏:‏ لأنهم حالفوني وانتقلوا إلى داري‏.‏

فقال معاوية‏:‏ قد فعلت ذلك كله، وقبّل وجهه‏.‏

ثم قال لفاختة بنت قرظة‏:‏ كيف رأيت‏؟‏

فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين أوصه بي فأنت أعلم به مني، ففعل‏.‏

وفي رواية‏:‏ أن يزيد لما قال له أبوه‏:‏ سلني حاجتك‏.‏

قال له يزيد‏:‏ اعتقني من النار أعتق الله رقبتك منها‏.‏

قال‏:‏ وكيف‏؟‏

قال‏:‏ لأني وجدت في الآثار أنه من تقلد أمر الأمة ثلاثة أيام حرّمه الله على النار، فاعهد إليّ بالأمر من بعدك ففعل‏.‏

وقال العتبي‏:‏ رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاماً له فقال له‏:‏ اعلم أن الله أقدر عليك منك عليه، سوأة لك ‏!‏‏!‏ أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع عليك‏؟‏

والله لقد منعتني القدرة من الانتقام من ذوي الأحن، وإن أحسن من عفا لمن قدر‏.‏

قلت‏:‏ وقد ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا مسعود يضرب غلاماً له فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه‏)‏‏)‏‏.‏

قال العتبي‏:‏ وقدم زياد بأموال كثيرة وبسفط مملوء جواهر على معاوية فسرّ بذلك معاوية، فقام زياد فصعد المنبر ثم أفتخر بما يفعله بأرض العراق من تمهيد الممالك لمعاوية‏.‏

فقام يزيد فقال‏:‏ إن تفعل ذلك يا زياد فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن عبيد إلى حرب بني أمية‏.‏

فقال له معاوية‏:‏ اجلس فداك أبي وأمي‏.‏

وعن عطاء بن السائب قال‏:‏ غضب معاوية على ابنه يزيد فهجره‏.‏

فقال له الأحنف بن قيس‏:‏ يا أمير المؤمنين إنما هم أولادنا، ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء ظليلة، وأرض ذليلة، إن غضبوا فارضهم، وإن طلبوا فأعطهم، ولا تكن عليهم ثقلاً فيملوا حياتك ويتمنوا موتك‏.‏

فقال معاوية‏:‏ لله درك يا أبا بحر، يا غلام ائت يزيد فأقره مني السلام وقل له‏:‏ إن أمير المؤمنين قد أمر لك بمائة ألف درهم، ومائة ثوب‏.‏

فقال يزيد‏:‏ من عند أمير المؤمنين‏؟‏

فقال الأحنف، فقال يزيد‏:‏ لا جرم لأقاسمنه، فبعث إلى الأحنف بخمسين ألفاً وخمسين ثوباً‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا ابن عائشة، عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ كان يزيد في حداثته صاحب شراب يأخذ مأخذ الأحداث، فأحس معاوية بذلك فأحب أن يعظه في رفق، فقال‏:‏ يا بني ما أقدرك على أن تصل إلى حاجتك من غير تهتك يذهب بمروءتك وقدرك، ويشمت بك عدوك، ويسيء بك صديقك، ثم قال‏:‏ يا بني إني منشدك أبياتاً فتأدب بها واحفظها، فأنشده‏:‏

أنصب نهاراً في طلاب العلا * واصبر على هجر الحبيب القريب

حتى إذا الليل أتى بالدجا * واكتحلت بالغمض عين الرقيب

فباشر الليل بما تشتهي * فإنما الليل نهار الأريب

كم فاسقٍ تحسبه ناسكاً * قد باشر الليل بأمرٍ عجيب

غطى عليه الليل أستاره * فبات في أمنٍ وعيشٍ خصيب

ولذة الأحمق مكشوفةٌ * يسعى بها كل عدوٍ مريب

قلت‏:‏ وهذا كما جاء في الحديث ‏(‏‏(‏من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل‏)‏‏)‏‏.‏

وروى المدائني‏:‏ أن عبد الله بن عباس وفد إلى معاوية فأمر معاوية ابنه يزيد أن يأتيه فيعزيه في الحسن بن علي، فلما دخل على ابن عباس رحَّب به وأكرمه، وجلس عنده بين يديه، فأراد ابن عباس أن يرفع مجلسه فأبى وقال‏:‏ إنما أجلس مجلس المعزي لا المهني‏.‏

ثم ذكر الحسن فقال‏:‏ رحم الله أبا محمد أوسع الرحمة وأفسحها، وأعظم الله أجرك وأحسن عزاك، وعوضك من مصابك ما هو خيرٌ لك ثواباً وخير عقبى‏.‏

فلما نهض يزيد من عنده قال ابن عباس‏:‏ إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس، ثم أنشد متمثلاً‏:‏

مغاض عن العوراء لا ينطقوا بها * وأصل وراثات الحلوم الأوائل

وقد كان يزيد أول من غزى مدينة قسطنطينية في سنة و تسع وأربعين في قول يعقوب بن سفيان‏.‏

وقال خليفة بن خياط‏:‏ سنة خمسين‏.‏

ثم حج بالناس في تلك السنة بعد مرجعه من هذه الغزوة من أرض الروم‏.‏

وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أول جيش يغزو مدينة قيصر مغفور لهم‏)‏‏)‏‏.‏

وهو الجيش الثاني الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه عند أم حرام فقالت‏:‏ ادع الله أن يجعلني منهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت من الأولين‏)‏‏)‏‏.‏

يعني‏:‏ جيش معاوية حين غزا قبرص، ففتحها في سنة سبع وعشرين أيام عثمان بن عفان، وكانت معهم أم حرام فماتت هنالك بقبرص، ثم كان أمير الجيش الثاني ابنه يزيد بن معاوية، ولم تدرك أم حرام جيش يزيد هذا‏.‏

وهذا من أعظم دلائل النبوة‏.‏

وقد أورد الحافظ ابن عساكر ههنا الحديث الذي رواه محاضر، عن الأعمش، عن إبراهيم بن عبيدة، عن عبد الله‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم‏)‏‏)‏‏.‏

وكذلك رواه عبد الله بن شفيق عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله‏.‏

ثم أورد من طريق حماد بن سلمة عن أبي محمد، عن زرارة بن أوفى قال‏:‏ القرن عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرن وكان آخره موت يزيد بن معاوية‏.‏

قال‏:‏ قال أبو بكر بن عياش‏:‏ حج بالناس يزيد بن معاوية في سنة إحدى وخمسين وثنتين وخمسين وثلاث خمسين‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا أبو كريب، ثنا رشد بن عمرو بن الحارث، عن أبي بكير بن الأشج أن معاوية قال ليزيد‏:‏ كيف تراك فاعلاً إن وليت‏؟‏

قال‏:‏ يمتع الله بك يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ لتخبرني‏.‏

قال‏:‏ كنت والله يا أبة عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب‏.‏

فقال معاوية‏:‏ سبحان الله يا بنيَّ والله لقد جهدت على سيرة عثمان بن عفان فما أطقتها فكيف بك وسيرة عمر‏؟‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى‏.‏

قال‏:‏ قال معاوية ليزيد وهو يوصيه عند الموت‏:‏ يا يزيد ‏!‏‏!‏ اتق الله فقد وطأت لك هذا الأمر، ووليتُ من ذلك ما وليت، فإن يك خيراً فأنا أسعد به، وإن كان غير ذلك شقيت به‏.‏

فارفق بالناس وأغمض عما بلغك من قول تؤذي به وتنتقص به، وطأ عليه يهنك عيشك، وتصلح لك رعيتك، وإياك والمناقشة وحمل الغضب، فإنك تهلك نفسك ورعيتك، وإياك وخيرة أهل الشرف واستهانتهم والتكبر عليهم، ولنْ لهم ليناً بحيث لا يروا منك ضعفاً ولا خوراً، وأوطئهم فراشك وقربهم إليك وأدنهم منك فإنهم يعلموا لك حقك، ولا تهنهم ولا تستخف بحقهم فيهينوك ويستخفوا بحقك ويقعوا فيك‏.‏

فإذا أردت أمراً فادع أهل السن والتجربة من أهل الخير من المشايخ وأهل التقوى فشاورهم ولا تخالفهم، وإياك والاستبداد برأيك فإن الرأي ليس في صدر واحد، وصدق من أشار عليك إذا حملك على ما تعرف، واخزن ذلك عن نسائك وخدمك؛ وشمر إزارك، وتعاهد جندك، وأصلح نفسك تصلح لك الناس، لا تدع لهم فيك مقالاً فإن الناس سراع إلى الشر‏.‏

واحضر الصلاة، فإنك إذا فعلت ما أوصيك به عرف الناس لك حقك، وعظمت مملكتك، وعظمت في أعين الناس‏.‏

واعرف شرف أهل المدينة ومكة فإنهم أصلك وعشيرتك، واحفظ لأهل الشام شرفهم فإنهم أهل طاعتك، واكتب إلى أهل الأمصار بكتاب تعدهم فيه منك بالمعروف، فإن ذلك يبسط آمالهم، وإن وفد عليك وافد من الكور كلها فأحسن إليهم وأكرمهم فإنهم لمن ورائهم، ولا تسمعن قول قاذف ولا ما حل فإني رأيتهم وزراء سوء‏.‏

ومن وجه آخر أن معاوية قال ليزيد‏:‏ إن لي خليلاً من أهل المدينة فأكرمه‏.‏

قال‏:‏ ومن هو‏؟‏

قال‏:‏ عبد الله بن جعفر‏.‏

فلما وفد بعد موت معاوية على يزيد أضعف جائزته التي كان معاوية يعطيه إياها، وكانت جائزته على معاوية ستمائة ألف، فأعطاه يزيد ألف ألف‏.‏

فقال له‏:‏ بأبي أنت وأمي، فأعطاه ألف ألف أخرى‏.‏

فقال له ابن جعفر‏:‏ والله لا أجمع أبوي لأحد بعدك‏.‏

ولما خرج ابن جعفر من عند يزيد وقد أعطاه ألفي ألف، رأى على باب يزيد بخاتي مبركات قد قدم عليها هدية من خراسان، فرجع عبد الله بن جعفر إلى يزيد فسأله منها ثلاث بخاتي ليركب عليها إلى الحج والعمرة، وإذا وفد إلى الشام على يزيد‏.‏

فقال يزيد للحاجب‏:‏ ما هذه البخاتي التي على الباب‏؟‏ - ولم يكن شعر بها -‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هذه أربعمائة بختية جاءتنا من خراسان تحمل أنواع الألطاف - وكان عليها أنواع من الأموال كلها -‏.‏

فقال‏:‏ اصرفها إلى أبي جعفر بما عليها‏.‏

فكان عبد الله بن جعفر يقول‏:‏ أتلومونني على حسن الرأي في هذا‏؟‏ - يعني‏:‏ يزيد -‏.‏

وقد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم، والحلم، والفصاحة، والشعر، والشجاعة، وحسن الرأي في الملك‏.‏

وكان ذا جمال حسن المعاشرة، وكان فيه أيضاً إقبال على الشهوات وترك بعض الصلوات في بعض الأوقات، وإماتتها في غالب الأوقات‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عبد الرحمن، ثنا حيوة، حدثني بشير بن أبي عمرو الخولاني‏:‏ أن الوليد بن قيس حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يكون خلفٌ من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً، ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة مؤمن ومنافق وفاجر‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت للوليد‏:‏ ما هؤلاء الثلاثة‏؟‏

قال‏:‏ المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمؤمن يؤمن به‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا زهير بن حرب، ثنا الفضل بن دكين، ثنا كامل أبو العلاء‏:‏ سمعت أبا صالح سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏تعوذوا بالله من سنة سبعين، ومن إمارة الصبيان‏)‏‏)‏‏.‏

وروى الزبير بن بكار، عن عبد الرحمن بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال في يزيد بن معاوية‏:‏

لست منا وليس خالك منا * يا مضيع الصلوات للشهوات

قال‏:‏ وزعم بعض الناس أن هذا الشعر لموسى بن يسار، ويعرف بموسى شهوات‏.‏

وروي عن عبد الله بن الزبير أنه سمع جارية له تغني بهذا البيت فضربها وقال قولي‏:‏

أنت منا وليس خالك منا * يا مضيع الصلوات للشهوات

وقال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا الحكم بن موسى، ثنا يحيى بن حمزة، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي عبيدة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يزال أمر أمتي قائماً بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا منقطع بين مكحول وأبي عبيدة بل معضل‏.‏

وقد رواه ابن عساكر من طريق صدقة بن عبد الله الدمشقي عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة‏.‏

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يزال أمر هذه الأمة قائماً بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ وهو منقطع أيضاً بين مكحول وأبي ثعلبة‏.‏

وقال أبو يعلى‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن عوف، عن خالد بن أبي المهاجر، عن أبي العالية‏.‏

قال‏:‏ كنا مع أبي ذر بالشام فقال أبو ذر‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أول من يغير سنتي رجل من بني أمية‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه ابن خزيمة‏:‏ عن بندار، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن عوف‏:‏ حدثنا مهاجر بن أبي مخلد، حدثني أبو العالية، حدثني أبو مسلم، عن أبي ذر فذكر نحوه‏.‏

وفيه قصة وهي‏:‏ أن أبا ذر كان في غزاة عليهم يزيد بن أبي سفيان فاغتصب يزيد من رجل جارية، فاستعان الرجل بأبي ذر على يزيد أن يردّها عليه، فأمره أبو ذر أن يردها عليه، فتلكأ فذكر أبو ذر له الحديث فردها‏.‏

وقال يزيد لأبي ذر‏:‏ نشدتك بالله أهو أنا‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

وكذا رواه البخاري في ‏(‏التاريخ‏)‏ وأبو يعلى عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ والحديث معلول ولا نعرف أن أبا ذر قدم الشام زمن عمر بن الخطاب‏.‏

قال‏:‏ وقد مات يزيد بن أبي سفيان زمن عمر فولى مكانه أخاه معاوية‏.‏

وقال عباس الدوري‏:‏ سألت ابن معين‏:‏ أسمع أبو العالية من أبي ذر‏؟‏

قال‏:‏ لا إنما يروي عن أبي مسلم عنه‏.‏

قلت‏:‏ فمن أبو مسلم هذا‏؟‏

قال‏:‏ لا أدري‏.‏

وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذم يزيد بن معاوية كلها موضوعة لا يصح شيء منها، وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف أسانيده وانقطاع بعضه والله أعلم‏.‏

قال الحارث بن مسكين‏:‏ عن سفيان، عن شبيب، عن عرقدة بن المستظل‏.‏

قال‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب يقول‏:‏ قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب، إذا ساسهم من لم يدرك الجاهلية ولم يكن له قدم في الإسلام‏.‏

قلت‏:‏ يزيد بن معاوية أكثر ما نقم عليه في عمله شرب الخمر، وإتيان بعض الفواحش، فأما قتل الحسين فإنه كما قال جده سفيان يوم أُحد لم يأمر بذلك ولم يسؤه‏.‏

وقد قدمنا أنه قال‏:‏ لو كنت أنا لم أفعل معه ما فعله ابن مرجانة - يعني‏:‏ عبيد الله بن زياد -‏.‏

وقال للرسل الذين جاؤوا برأسه‏:‏ قد كان يكفيكم من الطاعة دون هذا، ولم يعطهم شيئاً، وأكرم آل بيت الحسين، وردّ عليهم جميع ما فقد لهم وأضعافه، وردهم إلى المدينة في محامل وأهبة عظيمة، وقد ناح أهله في منزله على الحسين حين كان أهل الحسين عندهم ثلاثة أيام‏.‏

وقيل‏:‏ إن يزيد فرح بقتل الحسين أول ما بلغه ثم ندم على ذلك‏.‏

فقال أبو عبيدة معمر بن المثنى‏:‏ إن يونس بن حبيب الجرمي حدثه قال‏:‏ لما قتل ابن زياد الحسين ومن معه بعث برؤوسهم إلى يزيد، فسرّ بقتله أولاً وحسنت بذلك منزلة ابن زياد عنده، ثم لم يلبث إلا قليلاً حتى ندم ‏!‏

فكان يقول‏:‏ وما كان عليّ لو احتملت الأذى وأنزلته في داري وحكمته فيما يريده، وإن كان عليّ في ذلك وكف ووهن في سلطاني، حفظاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورعاية لحقه وقرابته‏.‏

ثم يقول‏:‏ لعن الله ابن مرجانة فإنه أحرجه واضطره، وقد كان سأله أن يخلي سبيله أو يأتيني أو يكون بثغر من ثغور المسلمين حتى يتوفاه الله، فلم يفعل، بل أبى عليه وقتله، فبغّضني بقتله إلى المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة، فأبغضني البر والفاجر بما استعظم الناس من قتلي حسيناً، مالي ولابن مرجانة قبحه الله وغضب عليه‏.‏

ولما خرج أهل المدينة عن طاعته وخلعوه وولوا عليهم ابن مطيع وابن حنظلة، لم يذكروا عنه - وهم أشد الناس عداوة له - إلا ما ذكروه عنه من شرب الخمر، وإتيانه بعض القاذورات، لم يتهموه بزندقة كما يقذفه بذلك بعض الروافض‏.‏

بل قد كان فاسقاً والفاسق لا يجوز خلعه لأجل ما يثور بسبب ذلك من الفتنة ووقوع الهرج، كما وقع زمن الحرة، فإنه بعث إليهم من يردّهم إلى الطاعة وأنظرهم ثلاثة أيام، فلما رجعوا قاتلهم وغير ذلك، وقد كان في قتال أهل الحرة كفاية، ولكن تجاوز الحد بإباحة المدينة ثلاثة أيام، فوقع بسبب ذلك شر عظيم كما قدمنا‏.‏

وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعات أهل بيت النبوة ممن لم ينقض العهد، ولا بايع أحداً بعد بيعته ليزيد‏.‏

كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل بن علية، حدثني صخر بن جويرية، عن نافع‏.‏

قال‏:‏ لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد ثم قال‏:‏ أما بعد، فإنا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان، وإن من أعظم الغدر إلا أن يكون الإشراك بالله، أن يبايع رجل رجلاً على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته‏)‏‏)‏‏.‏

فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون الفيصل بيني وبينه‏.‏

وقد رواه مسلم والترمذي من حديث صخر بن جويرية، وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقد رواه أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني‏:‏ عن صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر فذكر مثله‏.‏

ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع‏:‏ إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب‏.‏

فقال لهم‏:‏ ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة، متحرياً للخير، يسأل عن الفقه، ملازماً للسنة‏.‏

قالوا‏:‏ فإن ذلك كان منه تصنعاً لك‏.‏

فقال‏:‏ وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع‏؟‏

أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر‏؟‏

فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا‏.‏

قالوا‏:‏ إنه عندنا لحق وإن لم يكن رأيناه‏.‏

فقال لهم‏:‏ أبى الله ذلك على أهل الشهادة‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏} ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏، ولست من أمركم في شيء‏.‏

قالوا‏:‏ فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك فنحن نوليك أمرنا‏.‏

قال‏:‏ ما أستحل القتال على ما تريدونني عليه تابعاً ولا متبوعاً

قالوا‏:‏ فقد قاتلت مع أبيك‏.‏

قال‏:‏ جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه‏.‏

فقالوا‏:‏ فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا‏.‏

قال‏:‏ لو أمرتهما قاتلت‏.‏

قالوا‏:‏ فقم معنا مقاماً تحض الناس فيه على القتال‏.‏

قال‏:‏ سبحان الله ‏!‏‏!‏ آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذاً ما نصحت لله في عباده‏.‏

قالوا‏:‏ إذاً نكرهك‏.‏

قال‏:‏ إذاً آمر الناس بتقوى الله ولا يرضون المخلوق بسخط الخالق، وخرج إلى مكة‏.‏

وقال أبو القاسم البغوي‏:‏ حدثنا مصعب الزبيري، ثنا ابن أبي حازم، عن هشام، عن زيد بن أسلم، عن أبيه‏:‏ أن ابن عمر دخل وهو معه على ابن مطيع، فلما دخل عليه‏.‏

قال‏:‏ مرحباً بأبي عبد الرحمن ضعوا له وسادة‏.‏

فقال‏:‏ إنما جئتك لأحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من نزع يداً من طاعة فإنه يأتي يوم القيامة لا حجة له، ومن مات مفارق الجماعة فإنه يموت موتة جاهلية‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه مسلم من حديث هشام بن سعد، عن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر به‏.‏

وتابعه إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه‏.‏

وقد رواه الليث عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر فذكره‏.‏

وقال أبو جعفر الباقر‏:‏لم يخرج أحد من آل أبي طالب ولا من بني عبد المطلب أيام الحرة، ولما قدم مسلم بن عقبة المدينة أكرمه وأدنى مجلسه وأعطاه كتاب أمان‏.‏

وروى المدائني أن مسلم بن عقبة بعث روح بن زنباع إلى يزيد ببشارة الحرة، فلما أخبره بما وقع قال‏:‏ وا قوماه، ثم دعا الضحاك بن قيس الفهري فقال له‏:‏ ترى ما لقي أهل المدينة‏؟‏ فما الذي يجبرهم‏؟‏

قال‏:‏ الطعام والأعطية‏.‏

فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته‏.‏

وهذا خلاف ما ذكره كذبة الروافض عنه من أنه شمت بهم واشتفى بقتلهم، وأنه أنشد ذكراً وأثراً شعر ابن الزبعري المتقدم ذكره‏.‏

وقال أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان بن بسام‏:‏ حدثني محمد بن القاسم، سمعت الأصمعي يقول‏:‏ سمعت هارون الرشيد ينشد ليزيد بن معاوية‏:‏

إنها بين عامر بن لؤيٍ * حين تمنى وبين عبد مناف

ولها في الطيبين جدودٌ * ثم نالت مكارم الأخلاف

بنت عم النبي أكرم من * يمشي بنعلٍ على التراب وحافي

لن تراها على التبدل والغلـ*ـظة إلا كدرة الأصداف

وقال الزبير بن بكار‏:‏ أنشدني عمي مصعب ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان‏:‏

آب هذا الهم فاكتنفا * ثمَّ مر النوم فامتنعا

راعياً للنجم أرقبه * فإذا ما كوكبٌ طلعا

حام حتى أنني لأرى * أنه بالغور قد وقعا

ولها بالمطارون إذا * أكل النمل الذي جمعا

نزهه حتى إذا بلغت * نزلت من خلّق تبعا

في قبابٍ وسط دسكرةٍ *حولها الزيتون قد ينعا

ومن شعره‏:‏

وقائلةٌ لي حين شبهت وجهها * ببدر الدجى يوماً وقد ضاق منهجي

تشبهني بالبدر هذا تناقصٌ * بقدري ولكن لست أول من هجي

ألم تر أنَّ البدر عند كماله * إذا بلغ التشبيه عاد كدملجي

فلا فخر إن شبهت بالبدر مبسمي * وبالسحر أجفاني وبالليل مدعجي

قد ذكره الزبير بن بكار، عن أبي محمد الجزري قال‏:‏ كانت بالمدينة جارية مغنية يقال لها‏:‏ سلامة، من أحسن النساء وجهاً، وأحسنهن عقلاً، وأحسنهن قداً، قد قرأت القرآن‏.‏

وروت الشعر وقالته، وكان عبد الرحمن بن حسان، والأحوص بن محمد يجلسان إليها‏.‏

فعلقت الأحوص فصدت عن عبد الرحمن، فرحل ابن حسان إلى يزيد بن معاوية إلى الشام فامتدحه ودله على سلامة وجمالها وحسنها وفصاحتها‏.‏

وقال‏:‏ لا تصلح إلا لك يا أمير المؤمنين، وأن تكون من سمارك، فأرسل يزيد فاشتريت له وحملت إليه، فوقعت منه موقعاً عظيماً، وفضلها على جميع من عنده، ورجع عبد الرحمن إلى المدينة فمر بالأحوص فوجده مهموماً، فأراد أن يزيده إلى ما به من الهم هماً فقال‏:‏

يا مبتلى بالحب مقروحا * لاقى من الحب تباريحا

أفحمه الحب فما ينثني * إلا بكاس الحب مصبوحا

وصار ما يعجبه مغلقاً * عنه وما يكره مفتوحا

قد حازها من أصبحت عنده * ينال منها الشمَّ والريحا

خليفة الله فسل الهوى * وعزَّ قلباً منك مجروحا

قال‏:‏ فأمسك الأحوص عن جوابه ثم غلبه وجدة عليها فسار إلى يزيد فامتدحه فأكرمه يزيد وحظي عنده، فدست إليه سلامة خادماً وأعطته مالاً على أن يدخله إليها، فأخبر الخادم يزيد بذلك‏.‏

فقال‏:‏ امض لرسالتها، ففعل وأدخل الأحوص عليها وجلس يزيد في مكان يراهما ولا يريانه، فلما بصرت الجارية بالأحوص بكت إليه وبكى إليها، وأمرت فأُلقي له كرسي فقعد عليه، وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه شدة شوقه إليه فلم يزالا يتحدثان إلى السحر، ويزيد يسمع كلامهما من غير أن يكون بينهما ريبة، حتى إذا همَّ الأحوص بالخروج قال‏:‏

أمسى فؤادي في همٍ وبلبال * من حب من لم أزل منه على بال

فقالت‏:‏

صحا المحبُّون بعد النأي إذ يئسوا * وقد يئست وما أضحوا على حال

فقال‏:‏

من كان يسلو بيأس عن أخي ثقةٍ * فعنك سلامٌ ما أمسيت بالسالي

فقالت‏:‏

والله والله لا أنساك يا شجني * حتى تفارق مني الروح أوصالي

فقال‏:‏

والله ما خاب من أمسى وأنت له * يا قرة العين في أهلٍ وفي مال

قال‏:‏ ثم ودعها وخرج، فأخذه يزيد ودعا بها فقال‏:‏ أخبراني عما كان في ليلتكما وأصدقاني، فأخبراه وأنشداه ما قالا، فلم يحرفا منه حرفاً ولا غّيرا شيئاً مما سمعه‏.‏

فقال لها يزيد‏:‏ أتحبينه‏؟‏

قالت‏:‏ إي والله يا أمير المؤمنين‏:‏

حباً شديداً جرى كالروح في جسدي * فهل يفرق بين الروح والجسد‏؟‏

فقال له‏:‏ أتحبها‏؟‏

فقال‏:‏ إي والله يا أمير المؤمنين‏:‏

حباً شديداً تليداً غير مطرفٍ * بين الجوانح مثل النار يضطرم

فقال يزيد‏:‏ إنكما لتصفان حباً شديداً خذها يا أحوص فهي لك، ووصله صلة سنية‏.‏

فرجع بها الأحوص إلى الحجاز وهو قرير العين‏.‏

وقد روي أن يزيد كان قد اشتهر بالمعازف وشرب الخمر والغنا والصيد، واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، وما من يوم إلا يصبح فيه مخموراً‏.‏

وكان يشد القرد على فرس مسرجة بحبال ويسوق به، ويلبس القرد قلانس الذهب، وكذلك الغلمان، وكان يسابق بين الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه‏.‏

وقيل‏:‏ إن سبب موته أنه حمل قردة وجعل ينقزها فعضته‏.‏

وذكروا عنه غير ذلك والله أعلم بصحة ذلك‏.‏

وقال عبد الرحمن بن أبي مدعور‏:‏ حدثني بعض أهل العلم قال‏:‏ آخر ما تكلم به يزيد بن معاوية‏:‏ اللهم لا تؤاخذني بما لم أحبه، ولم أرده، واحكم بيني وبين عبيد الله بن زياد‏.‏

وكان نقش خاتمه آمنت بالله العظيم‏.‏

مات يزيد بحوارين من قرى دمشق في رابع عشر ربيع الأول‏.‏

وقيل‏:‏ يوم الخميس للنصف منه، سنة أربع وستين‏.‏

وكانت ولايته بعد موت أبيه في منتصف رجب سنة ستين، وكان مولده في سنة خمس‏.‏

وقيل‏:‏ سنة ست‏.‏

وقيل‏:‏ سبع وعشرين‏.‏

ومع هذا فقد اختلف في سنّه ومبلغ أيامه في الإمارة على أقوال كثيرة، وإذا تأملت ما ذكرته لك من هذه التحديدات انزاح عنك الإشكال من هذا الخلاف، فإن منهم من قال‏:‏ جاوز الأربعين حين مات فالله أعلم‏.‏

ثم حمل بعد موته إلى دمشق وصلى عليه ابنه معاوية بن يزيد أمير المؤمنين يومئذٍ، ودفن بمقابر باب الصغير‏.‏

وفي أيامه وسع النهر المسمى بيزيد في ذيل جبل قاسيون، وكان جدولاً صغيراً فوسعه أضعاف ما كان يجري فيه من الماء‏.‏

وقال ابن عساكر‏:‏ حدثنا أبو الفضل محمد بن محمد بن الفضل بن المظفر العبدي قاضي البحرين من لفظه وكتبه لي بخطه - قال‏:‏ رأيت يزيد بن معاوية في النوم فقلت له‏:‏ أنت قتلت الحسين‏؟‏

فقال‏:‏ لا ‏!‏

فقلت له‏:‏ هل غفر الله لك‏؟‏

قال‏:‏ نعم، وأدخلني الجنة‏.‏

قلت‏:‏ فالحديث الذي يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى معاوية يحمل يزيد‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏رجل من أهل الجنة يحمل رجلاً من أهل النار‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ ليس بصحيح‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وهو كما قال، فإن يزيد بن معاوية لم يولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وإنما ولد بعد العشرين من الهجرة‏.‏

وقال أبو جعفر بن جرير‏:‏

 أولاد يزيد بن معاوية وعددهم

فمنهم معاوية بن يزيد بن معاوية يكنى أبا ليلى، وهو الذي يقول فيه الشاعر‏:‏

إني أرى فتنة قد حان أولها * والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا

وخالد بن يزيد يكنى أبا هاشم كان يقال‏:‏ إنه أصاب علم الكيمياء، وأبو سفيان، وأمهما أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس‏.‏

وقد تزوجها بعد يزيد بن مروان بن الحكم وهي التي يقول فيها الشاعر‏:‏

أنعمي أم خالدٍ * ربَّ ساعٍ كقاعد

وعبد العزيز بن يزيد ويقال له‏:‏ الأسوار، وكان من أرمى العرب، وأمه أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر وهو الذي يقول فيه الشاعر‏:‏

زعم الَّناس أنَّ خير قريشٍ * كلهم حين يذكرون الأساور

وعبد الله الأصغر، وأبو بكر، وعتبة، وعبد الرحمن، والربيع، ومحمد، لأمهات أولاد شتىَّ‏.‏

ويزيد، وحرب، وعمر، وعثمان‏.‏

فهؤلاء خمسة عشر ذكراً، وكان له من البنات‏:‏ عاتكة، ورملة، وأم عبد الرحمن، وأم يزيد، وأم محمد، فهؤلاء خمس بنات‏.‏

وقد انقرضوا كافة فلم يبق ليزيد عقب، والله سبحانه أعلم‏.‏

 إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية

أبي عبد الرحمن ويقال‏:‏ أبو يزيد‏.‏

ويقال‏:‏ أبو يعلى القرشي الأموي، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، بويع له بعد موت أبيه - وكان ولي عهده من بعده - في رابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين‏.‏

وكان رجلاً صالحاً ناسكاً، ولم تطل مدته‏.‏

قيل‏:‏ إنه مكث في الملك أربعين يوماً‏.‏

وقيل‏:‏ عشرين يوماً‏.‏

وقيل‏:‏ شهرين‏.‏

وقيل‏:‏ شهراً ونصف‏.‏

وقيل‏:‏ ثلاثة أشهر وعشرون يوماً‏.‏

وقيل‏:‏ أربعة أشهر فالله أعلم‏.‏

وكان في مدة ولايته مريضاً لم يخرج إلى الناس، وكان الضحاك بن قيس هو الذي يصلي بالناس ويسد الأمور، ثم مات معاوية بن يزيد هذا عن إحدى وعشرين‏.‏

وقيل‏:‏ ثلاث وعشرين سنة وثمانية عشر يوماً‏.‏

وقيل‏:‏ تسع عشرة سنة‏.‏

وقيل‏:‏ ثلاث وعشرون سنة‏.‏

وقيل‏:‏ إنما عاش ثماني عشرة سنة‏.‏

وقيل‏:‏ تسع عشرة سنة‏.‏

وقيل‏:‏ عشرون‏.‏

وقيل‏:‏ خمس وعشرون فالله أعلم‏.‏

وصلى عليه أخوه خالد‏.‏

وقيل‏:‏ عثمان بن عنبسة‏.‏

وقيل‏:‏ الوليد بن عتبة وهو الصحيح، فإنه أوصى إليه بذلك، وشهد دفنه مروان بن الحكم، وكان الضحاك بن قيس هو الذي يصلي بالناس بعده حتى استقر الأمر لمروان بالشام‏.‏

ودفن بمقابر باب الصغير بدمشق، ولما حضرته الوفاة، قيل له‏:‏ ألا توصي‏.‏

فقال‏:‏ لا أتزوّد مرارتها إلى آخرتي وأترك حلاوتها لبني أمية‏.‏

وكان رحمه الله أبيض شديد البياض، كثير الشعر، كبير العينين، جعد الرأس، أقنى الأنف، مدور الرأس، جميل الوجه، كثير شعر الوجه دقيقه، حسن الجسم‏.‏

قال أبو زرعة الدمشقي‏:‏ معاوية، وعبد الرحمن، وخالد أخوه، وكانوا من صالحي القوم، وقال فيه بعض الشعراء - وهو عبد الله بن همام البلوي -‏:‏

تلقاها يزيدٌ عن أبيه * فدونكها معاوي عن يزيدا

أديروها بني حربٍ عليكم * ولا ترموا بها الغرض البعيدا

ويروى أن معاوية بن يزيد هذا نادى في الناس‏:‏ الصلاة جامعة ذات يوم، فاجتمع الناس فقال لهم فيما قال‏:‏ يا أيها الناس ‏!‏ إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة منكم كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم من هو صالح لذلك، وقد تركت لكم أمركم فولوا عليكم من يصلح لكم‏.‏

ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج منه حتى مات رحمه الله تعالى‏.‏

ويقال‏:‏ إنه سقي‏.‏

ويقال‏:‏ إنه طعن‏.‏

ولما دفن حضر مروان دفنه، فلما فرغ منه قال مروان‏:‏ أتدرون من دفنتم‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم معاوية بن يزيد‏.‏

فقال مروان‏:‏ هو أبو ليلى الذي قال فيه أرثم الفزاري‏:‏

إني أرى فتنة تغلي مراجلها * والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا

قالوا‏:‏ فكان الأمر كما قال، وذلك أن أبا ليلى توفي من غير عهد منه إلى أحد، فتغلب إلى الحجاز عبد الله بن الزبير، وعلى دمشق وأعمالها مروان بن الحكم، وبايع أهل خراسان سلم بن زياد حتى يتولى على الناس خليفة، وأحبوه محبة عظيمة، وسار فيهم سلم سيرة حسنة أحبوه عليها، ثم أخرجوه من بين أظهرهم‏.‏

وخرج القراء والخوارج بالبصرة وعليهم نافع بن الأزرق، وطردوا عنهم عبيد الله بن زياد بعدما كانوا بايعوه عليهم حتى يصير للناس إمام، فأخرجوه عنهم، فذهب إلى الشام بعد فصول يطول ذكرها‏.‏

وقد بايعوا بعده عبد الله بن الحارث بن نوفل المعروف ببَّة، وأمه هند بنت أبي سفيان، وقد جعل على شرطة البصرة هميان بن عدي السدوسي، فبايعه الناس في مستهل جمادى الآخرة سنة أربع وستين‏.‏

وقد قال الفرزدق‏:‏

وبايعت أقواماً وفيت بعهدهم * وببة قد بايعته غير نادم

فأقام فيها أربعة أشهر ثم لزم بيته، فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير إلى أنس بن مالك يأمره أن يصلي بالناس، فصلى بهم شهرين، ثم كان ما سنذكره‏.‏

وخرج نجدة بن عامر الحنفي باليمامة، وخرج بنو ماحورا في الأهواز وفارس وغير ذلك على ما سيأتي تفصيله قريباً إن شاء الله تعالى‏.‏

 

إمارة عبد الله بن الزبير

وعند ابن حزم وطائفة أنه أمير المؤمنين آنذاك‏.‏

قد قدمنا أنه لما مات يزيد أقلع الجيش عن مكة، وهم الذين كانوا يحاصرون ابن الزبير هو عائذ بالبيت، فلما رجع حصين بن نمير السكوني بالجيش إلى الشام، استفحل ابن الزبير بالحجاز وما والاها، وبايعه الناس بعد يزيد بيعة هناك‏.‏

واستناب على أهل المدينة أخاه عبيد الله بن الزبير، وأمره بإجلاء بني أمية عن المدينة فأجلاهم فرحلوا إلى الشام، وفيهم مروان بن الحكم وابنه عبد الملك‏.‏

ثم بعث أهل البصرة إلى ابن الزبير بعد حروب جرت بينهم وفتن كثيرة يطول استقصاؤها، غير أنهم في أقل من ستة أشهر أقاموا عليهم نحواً من أربعة أمراء من بينهم ثم تضطرب أمورهم‏.‏

ثم بعثوا إلى ابن الزبير وهو بمكة يخطبونه لأنفسهم، فكتب إلى أنس بن مالك ليصلي بهم‏.‏

ويقال‏:‏ إن أول من بايع الزبير مصعب بن عبد الرحمن‏.‏

فقال الناس‏:‏ هذا أمر فيه صعوبة، وبايعه عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن علي بن أبي طالب، وبعث إلى ابن عمر، وابن الحنفية، وابن عباس ليبايعوا فأبوا عليه‏.‏

وبويع في رجب بعد أن أقام الناس نحو ثلاثة أشهر بلا إمام‏.‏

وبعث ابن الزبير إلى أهل الكوفة عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله على الخراج، واستوثق له المصران جميعاً، وأرسل إلى مصر فبايعوه‏.‏

واستناب عليها عبد الرحمن بن جحدر، وأطاعت له الجزيرة، وبعث على البصرة الحارث بن عبد الله بن ربيعة، وبعث إلى اليمن فبايعوه، وإلى خراسان فبايعوه، وإلى الضحاك بن قيس بالشام فبايع‏.‏

وقيل‏:‏ إن أهل دمشق وأعمالها من بلاد الأردن لم يبايعوه، لأنهم بايعوا مروان بن الحكم لما رجع الحصين بن نمير من مكة إلى الشام‏.‏ :‏

وقد كان التف على عبد الله بن الزبير جماعة من الخوارج يدافعون عنه، منهم‏:‏ نافع بن الأزرق، وعبد الله بن أباض، وجماعة من رؤوسهم‏.‏

فلما استقر أمره في الخلافة قالوا فيما بينهم‏:‏ إنكم قد أخطأتم لأنكم قاتلتم مع هذا الرجل ولم تعلموا رأيه في عثمان بن عفان - وكانوا ينتقصون عثمان - فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان فأجابهم فيه بما يسوؤهم، وذكر لهم ما كان متصفاً به من الإيمان والتصديق، والعدل والإحسان والسيرة الحسنة، والرجوع إلى الحق إذا تبين له‏.‏

فعند ذلك نفروا عنه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا فيها بأبدانهم وأديانهم ومذاهبهم، ومسالكهم المختلفة المنتشرة، التي لا تنضبط ولا تنحصر، لأنها مفرعة على الجهل وقوة النفوس، والاعتقاد الفاسد، ومع هذا استحوذوا على كثير من البلدان والكور، حتى انتزعت منهم على ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله‏.‏

 ذكر بيعة مروان بن الحكم

وكان سبب ذلك أن حصين بن نمير لما رجع من أرض الحجاز وارتحل عبيد الله بن زياد من البصرة إلى الشام، وانتقلت بنو أمية من المدينة إلى الشام، اجتمعوا إلى مروان بن الحكم بعد موت معاوية بن يزيد‏.‏

وقد كان معاوية بن يزيد قد عزم على أن يبايع لابن الزبير بدمشق، وقد بايع أهلها الضحاك بن قيس على أن يصلح بينهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع الناس على إمام، والضحاك يريد أن يبايع لابن الزبير‏.‏

وقد بايع لابن الزبير النعمان بن بشير بحمص، وبايع له زفر بن عبد الله الكلابي بقنسرين، وبايع له نائل بن قيس بفلسطين، وأخرج منها روح بن زنباع الجذامي، فلم يزل عبيد الله بن زياد والحصين بن نمير بمروان بن الحكم يحسنون له أن يتولى، حتى ثنوه عن رأيه وحذروه من دخول سلطان ابن الزبير وملكه إلى الشام‏.‏

وقالوا له‏:‏ أنت شيخ قريش وسيدها‏:‏ فأنت أحق بهذا الأمر‏.‏

فرجع عن البيعة لابن الزبير، وخاف ابن زياد الهلاك إن تولى غير بني أمية، فعند ذلك التف هؤلاء كلهم مع قومه بني أمية ومع أهل اليمن على مروان، فوافقهم على ما أرادوا، وجعل يقول‏:‏ ما فات شيء‏.‏

وكتب حسان بن مالك بن بحدل الكلبي إلى الضحاك بن قيس يثنيه عن المبايعة لابن الزبير، ويعرفه أيادي بني أمية عنده وإحسانهم، ويذكر فضلهم وشرفهم‏.‏

وقد بايع حسان بن مالك أهل الأردن لبني أمية، وهو يدعو إلى ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان‏.‏

وبعث الضحاك كتاباً بذلك، وأمره أن يقرأ كتابه على أهل دمشق يوم الجمعة على المنبر، وبعث بالكتاب مع رجل يقال له‏:‏ ناغضة بن كريب الطابجي‏.‏

وقيل‏:‏ هو من بني كلب وقال له‏:‏ إن لم يقرأه هو على الناس فاقرأه أنت، فأعطاه الكتاب فسار إلى الضحاك فأمره بقراءة الكتاب فلم يقبل، فقام ناغض فقرأه على الناس فصدقه جماعة من أمراء الناس، وكذبه آخرون‏.‏

وثارت فتنة عظيمة بين الناس، فقام خالد بن يزيد بن معاوية وهو شاب حدث على درجتين من المنبر فسكن الناس، ونزل الضحاك فصلى بالناس الجمعة، وأمر الضحاك بن قيس بأولئك الذين صدقوا ناغضة أن يسجنوا‏.‏

فثارت قبائلهم فأخرجوهم من السجن، واضطرب أهل دمشق في ابن الزبير وبني أمية، وكان اجتماع الناس لذلك ووقوفهم بعد صلاة الجمعة بباب الجيرون، فسمي هذا اليوم يوم جيرون‏.‏

قال المدائني‏:‏ وقد أراد الناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان أن يتولى عليهم فأبى، وهلك في تلك الليالي، ثم أن الضحاك بن قيس صعد منبر المسجد الجامع فخطبهم به، ونال من يزيد بن معاوية‏.‏

فقام إليه شاب من بني كلب فضربه بعصى كانت معه، والناس جلوس متقلدي سيوفهم، فقام بعضهم إلى بعض فاقتتلوا في المسجد قتالاً شديداً، فقيس ومن لف لفيفها يدعون إلى ابن الزبير وينصرون الضحاك بن قيس، وبنو كلب يدعون إلى بني أمية وإلى البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، ويتعصبون ليزيد وأهل بيته‏.‏

فنهض الضحاك بن قيس فدخل دار الإمارة وأغلق الباب، ولم يخرج إلى الناس إلا يوم السبت لصلاة الفجر‏.‏

ثم أرسل إلى بني أمية فجمعهم إليه فدخلوا عليه وفيهم مروان بن الحكم، وعمرو بن سعيد بن العاص، وخالد، وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية‏.‏

قال المدائني‏:‏ فاعتذر إليهم مما كان منه، واتفق معهم أن يركب معهم إلى حسان بن مالك الكلبي فيتفقوا على رجل يرتضونه من بني أمية للإمارة، فركبوا جميعاً إليه، فبينما هم يسيرون إلى الجابية لقصد حسان، إذ جاء معن بن ثور بن الأخنس في قومه قيس‏.‏

فقال له‏:‏ إنك دعوتنا إلى بيعة ابن الزبير فأجبناك، وأنت الآن ذاهب إلى هذا الأعرابي ليستخلف ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية‏.‏

فقال له الضحاك‏:‏ وما الرأي‏؟‏

قال‏:‏ الرأي أن نظهر ما كنا نسر، وأن ندعو إلى طاعة ابن الزبير ونقاتل عليها من أباها‏.‏

فمال الضحاك بمن معه فرجع إلى دمشق، فأقام بها بمن معه من الجيش من قيس ومن لف لفيفها، وبعث إلى أمراء الأجناد وبايع الناس لابن الزبير، وكتب بذلك إلى ابن الزبير يعلمه بذلك، فذكره ابن الزبير لأهل مكة وشكره على صنيعه، وكتب إليه بنيابة الشام‏.‏

وقيل‏:‏ بل بايع لنفسه بالخلافة فالله أعلم‏.‏

والذي ذكره المدائني أنه إنما دعا إلى بيعة ابن الزبير أولاً، ثم حسن له عبيد الله بن زياد أن يدعو إلى نفسه، وذلك إنما فعله مكراً منه وكباراً ليفسد عليه ما هو بصدده، فدعا الضحاك إلى نفسه ثلاثة أيام، فنقم الناس عليه ذلك وقالوا‏:‏ دعوتنا إلى بيعة رجل فبايعناه، ثم خلعته بلا سبب ولا عذر، ثم دعوتنا إلى نفسك‏؟‏

فرجع إلى البيعة لابن الزبير فسقط بذلك عند الناس، وذلك الذي أراد ابن زياد‏.‏

وكان اجتماع عبيد الله بن زياد به بعد اجتماعه بمروان وتحسينه له أن يدعو إلى نفسه، ثم فارق مروان ليخدع له الضحاك، فنزل عنده بدمشق وجعل يركب إليه كل يوم، ثم أشار ابن زياد على الضحاك أن يخرج من دمشق إلى الصحراء ويدعو بالجيوش إليه ليكون أمكن له‏.‏

فركب الضحاك إلى مرج راهط فنزل بمن معه من الجنود، وعند ذلك اجتمع بنو أمية ومن اتبعهم بالأردن، واجتمع إليهم من هنالك من قوم حسان بن مالك من بني كلب‏.‏

ولما رأى مروان بن الحكم ما أنتظم من البيعة لابن الزبير، وما استوثق له من الملك، وعزم على الرحيل إليه لمبايعته وليأخذ منه أماناً لبني أمية‏.‏

فسار حتى بلغ أذرعات فلقيه ابن زياد مقبلاً من العراق فصده عن ذلك وهجّن رأيه، واجتمع إليه عمرو بن سعيد بن العاص، وحصين بن نمير، وابن زياد، وأهل اليمن وخلق‏.‏

فقالوا لمروان‏:‏ أنت كبير قريش، وخالد بن يزيد غلام، وعبد الله بن الزبير كهل، فإنما يقرع الحديد بعضه ببعض، فلا تناوئه بهذا الغلام، وارم بنحرك في نحره، ونحن نبايعك، ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه بالجابية في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة، سنة أربع وستين، قاله الواقدي‏.‏

فلما تمهد له الأمر سار بمن معه نحو الضحاك بن قيس فالتقيا بمرج راهط، فغله مروان بن الحكم وقتله وقتل من قيس مقتلة لم يسمع بمثلها، على ما سيأتي تفصيله في أول سنة خمس وستين‏.‏

فإن الواقدي وغيره قالوا‏:‏ إنما كانت هذه الوقعة في المحرم من أول سنة خمس وستين‏.‏

وفي رواية محمد بن سعد‏:‏ وعن الواقدي وغيره قالوا‏:‏ إنما كانت في أواخر هذه السنة‏.‏

وقال الليث بن سعد، والواقدي، والمدائني، وأبو سليمان بن يزيد، وأبو عبيدة وغير واحد‏:‏ كانت وقعة مرج راهط للنصف من ذي الحجة سنة أربع وستين والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 وقعة مرج راهط ومقتل الضحّاك بن قيس الفهري رضي الله عنه

قد تقدم أن الضحاك كان نائب دمشق لمعاوية بن أبي سفيان، وكان يصلي عنهم إذا اشتغلوا أو غابوا، ويقيم الحدود ويسد الأمور، فلما مات معاوية قام بأعباء بيعة يزيد ابنه، ثم لما مات يزيد بايع الناس لمعاوية بن يزيد، فلما مات معاوية بن يزيد بايعه الناس من دمشق حتى تجتمع الناس على إمام‏.‏

فلما اتسعت البيعة لابن الزبير عزم على المبايعة له، فخطب الناس يوماً وتكلم في يزيد بن معاوية وذمه‏.‏

فقامت فتنة في المسجد الجامع حتى اقتتل الناس فيه بالسيوف، فسكن الناس ثم دخل دار الإمارة من الخضراء وأغلق عليه الباب، ثم اتفق مع بني أمية على أن يركبوا إلى حسان بن مالك بن بحدل وهو بالأردن فيجتمعوا عنده على من يراه أهلاً للإمارة‏.‏

وكان حسان يريد أن يبايع لابن أخته خالد بن يزيد، ويزيد بن ميسون، وميسون بنت بحدل، أخت حسان، فلما ركب الضحاك معهم انخذل بأكثر الجيش فرجع إلى دمشق فامتنع بها، وبعث إلى أمراء الأجناد فبايعهم لابن الزبير‏.‏

وسار بنو أمية ومعهم مروان، وعمرو بن سعيد، وخالد، وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية، حتى اجتمعوا بحسان بن مالك بالجابية‏.‏

وليس لهم قوة طائلة بالنسبة إلى الضحاك بن قيس، فعزم مروان على الرحيل إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ أماناً منه لبني أمية، فإنه كان قد أمر بإجلائهم عن المدينة‏.‏

فسار حتى وصل إلى أذرعات، فلقيه عبيد الله بن زياد مقبلاً من العراق، فاجتمع به ومعه حصين بن نمير، وعمرو بن سعيد بن العاص، فحسنوا إليه أن يدعو إلى نفسه، فإنه أحق بذلك من ابن الزبير الذي قد فارق الجماعة، وخلع ثلاثة من الخلفاء، فلم يزالوا بمروان حتى أجابهم إلى ذلك‏.‏

وقال له عبيد الله بن زياد‏:‏ وأنا ذاهب لك إلى الضحاك إلى دمشق فأخدعه لك وأخذل أمره، فسار إليه وجعل يركب إليه كل يوم ويظهر له الود والنصحية والمحبة، ثم حسن له أن يدعو إلى نفسه ويخلع ابن الزبير فإنك أحق بالأمر منه، لأنك لم تزل في الطاعة مشهوراً بالأمانة، وابن الزبير خارج عن الناس‏.‏

فدعا الضحاك الناس إلى نفسه ثلاثة أيام فلم يصمد معه، فرجع إلى الدعوة لابن الزبير، ولكن انحط بها عند الناس‏.‏

ثم قال له ابن زياد‏:‏ إن من يطلب ما تطلب لا ينزل المدن والحصون، وإنما ينزل الصحراء ويدعو إليه بالجنود، فبرز الضحاك إلى مرج راهط فنزله، وأقام ابن زياد بدمشق، وبنو أمية بتدمر، وخالد وعبد الله عند خالهم حسان بالجابية‏.‏

فكتب ابن زياد إلى مروان يأمره أن يظهر دعوته، فدعا إلى نفسه، وتزوج بأم خالد بن يزيد - وهي أم هاشم بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة - فعظم أمره وبايعه الناس واجتمعوا عليه‏.‏

وسار إلى مرج راهط نحوه الضحاك بن قيس، وركب إليه عبيد الله بن زياد، وأخوه عباد بن زياد، حتى اجتمع مع مروان ثلاثة عشر ألفاً، وبدمشق من جهته يزيد بن أبي النمر، وقد أخرج عامل الضحاك منها وهو يمد مروان بالسلاح والرجال وغير ذلك‏.‏

ويقال‏:‏ كان نائبه على دمشق يومئذٍ عبد الرحمن بن أم الحكم، وجعل مروان على ميمنته عبيد الله بن زياد، وعلى ميسرته عمرو بن سعيد بن العاص، وبعث الضحاك إلى النعمان بن بشير فأمده النعمان بأهل حمص عليهم شرحبيل بن ذي الكلاع‏.‏

وركب إليه زفر بن الحارث الكلابي في أهل قنسرين‏.‏

فكان الضحاك في ثلاثين ألفاً، على ميمنته زياد بن عمرو العقيلي، وعلى ميسرته زكريا بن شمر الهلالي، فتصافوا وتقاتلوا بالمرج عشرين يوماً، يلتقون بالمرج في كل يوم فيقتتلون قتالاً شديداً

ثم أشار عبيد الله على مروان أن يدعوهم إلى الموادعة خديعة فإن الحرب خديعة، وأنت وأصحابك على الحق، وهم على الباطل، فنودي الناس بذلك، ثم غدر أصحاب مروان فمالوا يقتلونهم قتالاً شديداً، وصبر الضحاك صبراً بليغاً‏.‏

فقتل الضحاك بن قيس في المعركة، قتله رجل يقال له‏:‏ زحمة بن عبد الله من بني كلب، طعنه بحربة فأنفذه ولم يعرفه‏.‏

وصبر مروان وأصحابه صبراً شديداً حتى فر أولئك بين يديه، فنادى مروان‏:‏ ألا لا تتبعوا مدبراً، ثم جيء برأس الضحاك‏.‏

ويقال‏:‏ أن أول من بشره بقتله روح بن زنباع الجذامي، واستقر ملك الشام بيد مروان بن الحكم‏.‏

وروي أنه بكى على نفسه يوم مرج راهط، فقال‏:‏ أبعد ما كبرت وضعفت صرت إلى أن أقتل بالسيوف على الملك ‏؟‏‏.‏

قلت‏:‏ ولم تطل مدته في الملك إلا تسعة أشهر على ما سنذكره‏.‏

وقد كان الضحاك بن قيس بن خالد الأكبر بن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك، أبو أنيس الفهري أحد الصحابة على الصحيح‏.‏

وقد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أحاديث عدة، وروى عنه جماعة من التابعين‏.‏

وهو أخو فاطمة بنت قيس وكانت أكبر منه بعشر سنين، وكان أبو عبيدة بن الجراح عمه‏.‏

حكاه ابن أبي حاتم‏.‏

وزعم بعضهم أنه لا صحبة له‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه قبل البلوغ‏.‏

وفي رواية عن الواقدي أنه قال‏:‏ ولد الضحاك قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين‏.‏

وقد شهد فتح دمشق وسكنها وله بها دار عند حجر الذهب مما يلي نهر بردى، وكان أميراً على أهل دمشق يوم صفين مع معاوية، ولما أخذ معاوية الكوفة استنابه بها في سنة أربع وخمسون‏.‏

وقد روى البخاري في ‏(‏التاريخ‏)‏‏:‏ أن الضحاك قرأ سورة ‏(‏‏(‏ص‏)‏‏)‏ في الصلاة فسجد فيها فلم يتابعه علقمة وأصحاب ابن مسعود في السجود‏.‏

ثم استنابه معاوية عنده على دمشق فلم يزل عنده حتى مات معاوية وتولى ابنه يزيد، ثم ابنه معاوية بن يزيد، ثم صار أمره إلى ما ذكرنا‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان بن مسلم، ثنا حماد بن سلمة، أنبأنا علي بن زيد، عن الحسن أن الضحاك بن قيس كتب إلى الهيثم حين مات يزيد بن معاوية‏:‏ السلام عليك، أما بعد‏:‏

فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، فتناً كقطع الدخان، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوام أخلاقهم ودينهم بعرض من الدنيا قليل‏)‏‏)‏‏.‏

وإن يزيد بن معاوية قد مات وأنتم إخواننا وأشقاؤنا فلا تسبقونا حتى نحتال لأنفسنا‏.‏

وقد روى ابن عساكر من طريق ابن قتيبة عن العباس بن الفرج الرياشي، عن يعقوب بن إسحاق بن ثوبة، عن حماد بن زيد‏.‏

قال‏:‏ دخل الضحاك بن قيس على معاوية فقال معاوية منشداً له‏:‏

تطاولت للضحاك حتى رددته * إلى حسبٍ في قومه متقاصر

فقال الضحاك‏:‏ قد علم قومنا أنا أحلاس الخيل‏.‏

فقال‏:‏ صدقت، أنتم أحلاسها ونحن فرسانها يريد معاوية أنتم راضة وساسة، ونحن الفرسان‏.‏

ورأى أن أصل الكلمة من الحلس وهو كساء يكون تحت البرذعة أي أنه لازم ظهر الفرس كما يلزم الحلس ظهر البعير والدابة‏.‏

وروى أن مؤذن دمشق قال للضحاك بن قيس‏:‏ والله أيها الأمير، إني لأحبك في الله‏.‏

فقال له الضحاك‏:‏ ولكني والله أبغضك في الله‏.‏

قال‏:‏ ولِمَ أصلحك الله‏؟‏

قال‏:‏ لأنك تتراءى في أذانك وتأخذ على تعليمك أجراً‏.‏

قتل الضحاك رحمه الله يوم مرج راهط، وذلك للنصف من ذي الحجة سنة أربع وستين، قاله الليث بن سعد، وأبو عبيدة، والواقدي، وابن زير، والمدائني‏.‏

 وفيها مقتل النعمان بن بشير الأنصاري

وأمه عمرة بنت رواحة، كان النعمان أول مولود ولد بالمدينة بعد الهجرة للأنصار، في جمادى الأول سنة ثنتين من الهجرة، فأتت به أمه تحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وبشرها بأنه يعيش حميداً، ويقتل شهيداً، ويدخل الجنة، فعاش في خير وسعة‏.‏

ولي نيابة الكوفة لمعاوية تسعة أشهر، ثم سكن الشام، وولي قضاءها بعد فضالة بن عبيد، وفضالة بعد أبي الدرداء‏.‏

وناب بحمص لمعاوية، وهو الذي رد آل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بأمر يزيد له في ذلك، وهو الذي أشار على يزيد بالإحسان إليهم فرق لهم يزيد وأحسن إليهم وأكرمهم، ثم لما كانت وقعة مرج راهط وقتل الضحاك بن قيس، وكان النعمان قد أمده بأهل حمص‏.‏

فقتلوه بقرية يقال لها‏:‏ بيرين، قتله رجل يقال له‏:‏ خالد بن خلي المازني، وقتل خلي بن داود وهو جد خالد بن خلي‏.‏

وقد رثته ابنته فقالت‏:‏

ليت ابن مرنة وابنه * كانوا لقتلك واقية

وبني أمية كلهم * لم تبق منهم باقية

جاء البريد بقتله * يا للكلاب العاوية

يستفتحون برأسه * دارت عليهم فانية

فلأبكين سريرةً * ولأبكين علانية

ولا بكينك ما حييـ*ـت مع السباع العادية

وقيل‏:‏ إن أعشى همدان قدم على النعمان بن بشير وهو على حمص وهو مريض‏.‏

فقال له النعمان‏:‏ ما أقدمك‏؟‏

قال‏:‏ لتصلني وتحفظ قرابتي وتقضي ديني‏.‏

فقال‏:‏ والله ما عندي، ولكني سائلهم لك شيئاً‏.‏

ثم قام فصعد المنبر ثم قال‏:‏ يا أهل حمص، إن هذا ابن عمكم من العراق، وهو مسترفدكم شيئاً، فما ترون‏؟‏

فقالوا‏:‏ احتكم في أموالنا، فأبى عليهم‏.‏

فقالوا‏:‏ قد حكمنا من أموالنا كل رجل دينارين -وكانوا في الديوان عشرين ألف رجل - فعجلها له النعمان من بيت المال أربعين ألف دينار، فلما خرجت أعطياتهم أسقط من عطاء كل رجل منهم دينارين‏.‏

ومن كلام النعمان بن بشير رضي الله عنه قوله‏:‏ إن الهلكة كل الهلكة أن تعمل السيئات في زمان البلاء‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا أبو اليمان، ثنا إسماعيل بن عياش، عن أبي رواحة‏:‏ يزيد ابن أيهم، عن الهيثم بن مالك الطائي، سمعت النعمان بن بشير على المنبر يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن للشيطان مصالي وفخوخاً، وإن من مصاليه وفخوخه البطر بنعم الله، والفخر بعطاء الله، والكبر على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله‏)‏‏)‏‏.‏

ومن أحاديثه الحسان الصحاح ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الحلال بَيّن، والحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه‏.‏

ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب‏)‏‏)‏‏.‏

رواه البخاري ومسلم‏.‏

وقال أبو مسهر‏:‏ كان النعمان بن بشير على حمص عاملاً لابن الزبير، فلما تملك مروان خرج النعمان هارباً فاتبعه خالد بن خلي الكلاعي فقتله‏.‏

قال أبو عبيدة وغير واحد‏:‏ في هذه السنة‏.‏

وقد روى محمد بن سعد بأسانيده أن معاوية تزوج امرأة جميلة جداً، فبعث إحدى امرأتيه - قيسون أو فاختة - لتنظر إليها، فلما رأتها أعجبتها جداً، ثم رجعت إليه فقال‏:‏ كيف رأيتيها‏؟‏

قالت‏:‏ بديعة الجمال، غير أني رأيت تحت سرتها خالاً أسود، وإني أحسب أن زوجها يقتل ويلقى رأسه في حجرها‏.‏

فطلقها معاوية وتزوجها النعمان بن بشير، فلما قتل أتي برأسه فألقي في حجرها، سنة خمس وستين‏.‏

وقال سليمان بن زير‏:‏ قتل بسلمية سنة ست وخمسين‏.‏

وقال غيره‏:‏ سنة خمس وستين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة ستين والصحيح ما ذكرناه‏.‏

وفيها‏:‏ توفي المسوَّر بن مخرمة بن نوفل، صحابي صغير، أصابه حجر المنجنيق مع ابن الزبير بمكة وهو قائم يصلي في الحجر‏.‏

وهو من أعيان من قتل في حصار مكة وهو المسوّر بن مخرمة بن نوفل، أبو عبد الرحمن الزهري، أمه عاتكة أخت عبد الرحمن بن عوف، له صحبة ورواية، ووفد على معاوية، وكان ممن يلزم عمر بن الخطاب‏.‏

وقيل‏:‏ إنه كان ممن يصوم الدهر، وإذا قدم مكة طاف لكل يوم غاب عنها سبعاً، وصلى ركعتين‏.‏

وقيل‏:‏ إنه وجد يوم القادسية إبريق ذهب مرصع بالياقوت فلم يدر ما هو، فلقيه رجل من الفرس فقال له‏:‏ بعنيه بعشرة آلاف، فعلم أنه شيء له قيمة، فبعث به إلى سعد بن أبي وقاص فنفله إياه، فباعه بمائة ألف‏.‏

ولما توفي معاوية قدم مكة فأصابه حجر المنجنيق مع ابن الزبير لما رموا به الكعبة، فمات من بعد خمسة أيام، وغسله عبد الله بن الزبير، وحمله في جملة من حمل إلى الحجون‏.‏

وكانوا يطأون به القتلى، ويمشون به بين أهل الشام، واحتكر المسوّر بن مخرمة طعاماً في زمن عمر بن الخطاب، فرأى سحاباً فكرهه، فلما أصبح عدا إلى السوق فقال‏:‏ من جاءني أعطيته‏.‏

فقال عمر‏:‏ أجننت يا أبا مخرمة‏؟‏

فقال‏:‏ لا والله يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت سحاباً فكرهت ما فيه الناس فكرهت أن أربح فيه شيئاً‏.‏

فقال له عمر‏:‏ جزاك الله خيراً‏.‏

ولد المسوَّر بمكة بعد الهجرة بسنتين‏.‏

المنذر بن الزبير بن العوام

ولد في خلافة عمر بن الخطاب، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وقد غزا المنذر القسطنطينية مع يزيد بن معاوية، ووفد على معاوية فأجازه بمائة ألف، وأقطعه أرضاً، فمات معاوية قبل أن يقبض المال‏.‏

وكان المنذر بن الزبير، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام يقاتلون أهل الشام بالنهار، ويطعمانهم بالليل‏.‏

قتل المنذر بمكة في حصارها مع أخيه، ولما مات معاوية أوصى إلى المنذر أن ينزل في قبره‏.‏

مصعب بن عبد الرحمن بن عوف

كان شاباً ديناً فاضلاً‏.‏

قتل مصعب أيضاً في حصار مكة مع ابن الزبير‏.‏

وممن قتل في وقعة الحرة محمد بن أبي بن كعب، وعبد الرحمن بن أبي قتادة، وأبو حكيم معاذ بن الحارث الأنصاري الذي أقامه عمر يصلي بالناس‏.‏

وقتل يومئذ ولدان لزينب بنت أم سلمة، وزيد بن محمد بن سلمة الأنصاري قتل يومئذ، وقتل معه سبعة من إخوته وغير هؤلاء رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين‏.‏

وفيها‏:‏ توفي الأخنس بن شريق، شهد فتح مكة وكان مع علي يوم صفين‏.‏

وفي هذه السنة - أعني‏:‏ سنة أربع وستين - جرت حروب كثيرة وفتن منتشرة ببلاد المشرق، واستحوذ على بلاد خراسان رجل يقال له‏:‏ عبد الله بن خازم، وقهر عمالها وأخرجهم منها، وذلك بعد موت يزيد وابنه معاوية، قبل أن يستقر ملك ابن الزبير على تلك النواحي‏.‏

وجرت بين عبد الله بن خازم هذا وبين عمرو بن مرثد حروب يطول ذكرها وتفصيلها، اكتفينا بذكرها إجمالاً إذ لا يتعلق بذكرها كبير فائدة، وهي حروب فتنة وقتال بغاة بعضهم في بعض، والله المستعان‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة بعد موت معاوية بن يزيد بايع أهل خراسان سلم بن زياد بن أبيه، وأحبوه حتى أنهم سموا باسمه في تلك السنة أكثر من ألف غلام مولود، ثم نكثوا واختلفوا فخرج عنهم سلم وترك عليهم المهلب بن أبي صفرة‏.‏

وفيها‏:‏ اجتمع ملأ الشيعة على سليمان بن صرد بالكوفة، وتواعدوا النخيلة ليأخذوا بثأر الحسين بن علي بن أبي طالب، وما زالوا في ذلك مجدين، وعليه عازمين، من مقتل الحسين بكربلاء من يوم عاشوراء عشرة المحرم سنة إحدى وستين‏.‏

وقد ندموا على ما كان منهم من بعثهم إليه، فلما أتاهم خذلوه وتخلوا عنه ولم ينصروه، فجادت بوصل حين لا ينفع الوصل، فاجتمعوا في دار سليمان بن صرد وهو صحابي جليل، وكان رؤوس القائمين في ذلك خمسة‏:‏

سليمان بن صرد الصحابي، والمسيب بن نجية الفزاري أحد كبار أصحاب علي، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد الله بن والٍ التيمي، ورفاعة بن شداد البجلي‏.‏

وكلهم من أصحاب علي رضي الله عنه، فاجتمعوا كلهم بعد خطب ومواعظ على تأمير سليمان بن صرد عليهم، فتعاهدوا وتعاقدوا، وتواعدوا النخيلة، وأن يجتمع من يستجيب لهم إلى ذلك الموضع بها في سنة خمس وستين، ثم جمعوا من أموالهم وأسلحتهم شيئاً كثيراً وأعدوه لذلك‏.‏

وقام المسيب بن نجية خطيباً فيهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ أما بعد فقد ابتلينا بطول العمر وكثرة الفتن، وقد ابتلانا الله فوجدنا كاذبين في نصرة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن كتبنا إليه وراسلناه، فأتانا طمعاً في نصرتنا إياه، فخذلناه وأخلفناه، وأتينا به إلى من قتله وقتل أولاده وذريته وقراباته الأخيار‏.‏

فما نصرناهم بأيدينا، ولا خذلنا عنهم بألسنتنا، ولا قويناهم بأموالنا، فالويل لنا جميعاً ويلاً متصلاً أبداً لا يفتر ولا يبيد دون أن نقتل قاتله والممالئين عليه، أو أن نُقتل دون ذلك وتذهب أموالنا وتخرب ديارنا‏.‏

أيها الناس قوموا في ذلك قومة رجل واحد، وتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم‏.‏

وذكر كلاماً طويلاً‏.‏

ثم كتبوا إلى جميع إخوانهم أن يجتمعوا بالنخيلة في السنة الآتية

وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان وهو أمير على المدائن يدعوه إلى ذلك، فاستجاب له ودعا إليه سعد من أطاعه من أهل المدائن، فبادروا إليه بالاستجابة والقبول، وتمالأوا عليه وتواعدوا النخيلة في التاريخ المذكور‏.‏

وكتب سعد بن حذيفة إلى سليمان بن صرد بذلك ففرح أهل الكوفة من موافقة أهل المدائن لهم على ذلك، وتنشطوا لأمرهم الذي تمالأوا عليه‏.‏

فلما مات يزيد بن معاوية وابنه معاوية بعد قليل، طمعوا في الأمر، واعتقدوا أن أهل الشام قد ضعفوا، ولم يبق من يقيم لهم أمراً، فاستشاروا سليمان في الظهور وأن يخرجوا إلى النخيلة قبل الميقات‏.‏

فنهاهم عن ذلك وقال‏:‏ لا ‏!‏ حتى يأتي الأجل الذي واعدنا إخواننا فيه، ثم هم في الباطن يعدون السلاح والقوة ولا يشعر بهم جمهور الناس، وحينئذٍ عمد جمهور أهل الكوفة إلى عمرو بن حريث نائب عبيد الله بن زياد على الكوفة فأخرجوه من القصر، واصطلحوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الملقب دحروجة، فبايع لعبد الله بن الزبير، فهو يسد الأمور حتى تأتي نواب ابن الزبير‏.‏

فلما كان يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان من هذه السنة - أعني‏:‏ سنة أربع وستين - قدم أميران إلى الكوفة من جهة ابن الزبير، أحدهما عبد الله بن يزيد الخطمي، على الحرب والثغر، والآخر إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي، على الخراج والأموال‏.‏

وقد كان قدم قبلهما بجمعة واحدة للنصف من هذا الشهر المختار بن أبي عبيد - وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب - فوجد الشيعة قد التفت على سليمان بن صرد وعظموه تعظيماً زائداً، وهم معدون للحرب‏.‏

فلما استقر المختار عندهم بالكوفة، دعا إلى إمامة المهدي محمد بن علي بن أبي طالب، وهو محمد بن الحنفية في الباطن، ولقبه المهدي، فاتبعه على ذلك كثير من الشيعة وفارقوا سليمان بن صرد، وصارت الشيعة فرقتين‏:‏

الجمهور منهم مع سليمان يريدون الخروج على الناس ليأخذوا بثأر الحسين‏.‏

وفرقة أخرى مع المختار، يريدون الخروج للدعوة إلى إمامة محمد بن الحنفية، وذلك عن غير أمر ابن الحنفية ورضاه، وإنما يتقولون عليه ليروجوا على الناس به، وليتوصلوا إلى أغراضهم الفاسدة‏.‏

وجاءت العين الصافية إلى عبد الله بن يزيد الخطمي نائب ابن الزبير بما تمالأ عليه فرقتا الشيعة على اختلافهما من الخروج على الناس والدعوة إلى ما يريدون‏.‏

وأشار من أشار عليه بأن يبادر إليهم ويحتاط عليهم، ويبعث الشرط والمقاتلة فيقمعهم عما هم مجمعون عليه من إرادة الشر والفتنة‏.‏

فقام خطيباً في الناس وذكر في خطبته ما بلغه عن هؤلاء القوم، وما أجمعوا عليه من الأمر، وأن منهم من يريد الأخذ بثأر الحسين، ولقد علموا أنني لست ممن قتله، وإني والله لممن أصيب بقتله وكره قتله، فرحمه الله ولعن قاتله‏.‏

وإني لا أتعرض لأحد قبل أن يبدأني بالشر، وإن كان هؤلاء يريدون الأخذ بثأر الحسين فليعمدوا إلى ابن زياد فإنه هو الذي قتل الحسين وخيار أهله فليأخذوا منه بالثأر، ولا يخرجوا بسلاحهم على أهل بلدهم، فيكون فيه حتفهم واستئصالهم‏.‏

فقام إبراهيم بن محمد بن طلحة الأمير الآخر فقال‏:‏ أيها الناس لا يغرنكم من أنفسكم كلام هذا المداهن، إنا والله قد استيقنا من أنفسنا أن قوماً يريدون الخروج علينا، ولنأخذن الوالد بالولد، والولد بالوالد، والحميم بالحميم، والعريف بما في عرافته، حتى تدينوا بالحق، وتذلوا للطاعة‏.‏

فوثب إليه المسيب بن نجية الفزاري فقطع كلامه فقال‏:‏ يا ابن الناكثين أتهددنا بسيفك وغشمك‏؟‏

أنت والله أذل من ذلك، إنا لا نلومك على بغضنا، وقد قتلنا أباك وجدك، وإنا لنرجوا أن نلحقك بهما قبل أن تخرج من هذا القصر‏.‏

وساعد المسيب بن نجية من أصحاب إبراهيم بن محمد بن طلحة جماعة من العمال، وجرت فتنه وشيء كبير في المسجد، فنزل عبد الله بن يزيد الخطمي عن المنبر وحالوا أن يوفقوا بين الأميرين، فلم يتفق لهم ذلك‏.‏

ثم ظهرت الشيعة أصحاب سليمان بن صرد بالسلاح، وأظهروا ما كان في أنفسهم من الخروج على الناس، وركبوا مع سليمان بن صرد فقصدوا نحو الجزيرة وكان من أمرهم ما سنذكره‏.‏

وأما المختار بن عبيد الثقفي الكذاب فإنه قد كان بغيضاً إلى الشيعة من يوم طعن الحسين وهو ذاهب إلى الشام بأهل العراق، فلجأ إلى المدائن، فأشار المختار على عمه وهو نائب المدائن بأن يقبض على الحسين ويبعثه إلى معاوية فيتخذ بذلك عنده اليد البيضاء، فامتنع عم المختار من ذلك، فأبغضته الشيعة بسبب ذلك‏.‏

فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان وقتله ابن زياد، كان المختار يومئذ بالكوفة فبلغ ابن زياد أنه يقول‏:‏ لأقومن بنصرة مسلم ولآخذن بثأره، فأحضره بين يديه وضرب عينه بقضيب كان بيده فشترها، وأمر بسجنه‏.‏

فلما بلغ أخته سجنه بكت وجزعت عليه، وكانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع عنده في إخراج المختار من السجن، فبعث يزيد إلى ابن زياد‏:‏ أن ساعة وقوفك على هذا الكتاب تخرج المختار بن عبيد من السجن، فلم يمكن ابن زياد غير ذلك‏.‏

فأخرجه وقال له‏:‏ إن وجدتك بعد ثلاثة أيام بالكوفة ضربت عنقك‏.‏

فخرج المختار إلى الحجاز وهو يقول‏:‏ والله لأقطعن أنامل عبيد الله بن زياد، ولأقتلن بالحسين بن علي على عدد من قتل بدم يحيى بن زكريا‏.‏

فلما استفحل أمر عبد الله بن الزبير بايعه المختار بن عبيد، وكان من كبار الأمراء عنده، ولما حاصره الحصين بن نمير مع أهل الشام، قاتل المختار دون ابن الزبير أشد القتال‏.‏

فلما بلغه موت يزيد بن معاوية واضطراب أهل العراق، نقم على ابن الزبير في بعض الأمر، وخرج من الحجاز فقصد الكوفة فدخلها في يوم الجمعة والناس يتهيئون للصلاة، فجعل لا يمر بملأ إلا سلم عليه، وقال‏:‏ أبشروا بالنصر‏.‏

ودخل المسجد فصلى إلى سارية هنالك حتى أقيمت الصلاة، ثم صلى من بعد الصلاة حتى صليت العصر، ثم انصرف فسلم عليه الناس وأقبلوا إليه وعليه وعظموه، وجعل يدعو إلى إمامة المهدي محمد بن الحنفية، ويظهر الانتصار لأهل البيت، وأنه ما جاء إلا بصدد أن يقيم شعارهم، ويظهر منارهم، ويستوفي ثأرهم‏.‏

ويقول للناس الذين اجتمعوا على سليمان بن صرد من الشيعة- وقد خشي أن يبادروا إلى الخروج مع سليمان - فجعل يخذلهم ويستميلهم إليه‏.‏

ويقول لهم‏:‏ إني قد جئتكم من قبل ولي الأمر، ومعدن الفضل، ووصي الرضى، والإمام المهدي، بأمر فيه الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام النعماء‏.‏

وأن سليمان بن صرد يرحمنا الله وإياه إنما هو غشمة من الغشم، وشن بال ليس بذي تجربة للأمور، ولا له علم بالحروب، إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم، وإني إنما أعمل على مثل مُثل لي، وأمر قد بُينّ لي، فيه عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني وأطيعوا أمري‏.‏

ثم أبشروا وتباشروا، فإني لكم بكل ما تأملون وتحبون كفيل‏.‏

فالتف عليه خلق كثير من الشيعة، ولكن الجمهور منهم مع سليمان بن صرد، فلما خرجوا مع سليمان إلى النخيلة قال عمر بن سعد بن أبي وقاص، وشبث بن ربعي وغيرهما لعبد الله بن زياد، نائب الكوفة‏:‏ إن المختار بن أبي عبيد أشد عليكم من سليمان بن صرد‏.‏

فبعث إليه الشرط فأحاطوا بداره فأخذه فذهب به إلى السجن مقيداً‏.‏

وقيل‏:‏ بغير قيد، فأقام به مدة ومرض فيه‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ فحدثني يحيى بن أبي عيسى أنه قال‏:‏ دخلت إليه مع حميد بن مسلم الأزدي نعوده ونتعاهده‏.‏

فسمعته يقول‏:‏ أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامة والقفار، والملائكة الأبرار، والمصلين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن جثَّار خطار، ومهند بتار، بجند من الأخيار، وجموع من الأنصار، ليسوا بميل الأغمار، ولا بعزل أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين، وجبرت صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت ثأر أولاد النبيين، لم أبك على زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا دنا‏.‏

قال‏:‏ وكان كلما أتيناه وهو في السجن يردد علينا هذا القول حتى خرج‏.‏

 ذكر هدم الكعبة وبنائها في أيام ابن الزبير

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة هدم ابن الزبير الكعبة، وذلك لأنه مال جدارها من رمي المنجنيق فهدم الجدار حتى وصل إلى أساس إبراهيم‏.‏

وكان الناس يطوفون ويصلون من وراء ذلك، وجعل الحجر الأسود في تابوت في سرق من حرير، وادخر ما كان في الكعبة من حلي وثياب وطيب، عند الخزان، حتى أعاد ابن الزبير بناءها على ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يبنيها عليه من الشكل‏.‏

وذلك كما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ وغيرهما من المسانيد والسنن، من طرق عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة ولأدخلت فيها الحجر، فإن قومك قصرت بهم النفقة، ولجعلت لها باباً شرقياً وباباً غربياً، يدخل الناس من أحدهما ويخرجون من الآخر، ولألصقت بابها بالأرض فإن قومك رفعوا بابها ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا‏)‏‏)‏‏.‏

فبناها ابن الزبير على ذلك كما أخبرته به خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزاه الله خيراً‏.‏

ثم لما غلبه الحجاج بن يوسف في سنة ثلاث وسبعين كما سيأتي، هدم الحائط الشمالي وأخرج الحجر كما كان أولاً، وأدخل الحجارة التي هدمها في جوف الكعبة فرصها فيه، فارتفع الباب وسد الغربي‏.‏

وتلك آثاره إلى الآن، وذلك بأمر عبد الملك بن مروان في ذلك، ولم يكن بلغه الحديث، فلما بلغه الحديث قال‏:‏ وددنا أنا تركناه وما تولى من ذلك‏.‏

وقد هم ابن المنصور المهدي أن يعيدها على ما بناها ابن الزبير، واستشار الإمام مالك بن أنس في ذلك، فقال‏:‏ إني أكره أن يتخذها الملوك لعبة، - يعني‏:‏ يتلاعبون في بنائها بحسب آرائهم - فهذا يرى رأي ابن الزبير، وهذا يرى رأي عبد الملك بن مروان، وهذا يرى رأياً آخر، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان عامله على المدينة أخوه عبيد الله، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وعلى قضائها سعيد بن المرزبان، وامتنع شريح أن يحكم في زمان الفتنة‏.‏

وعلى البصرة عمر بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم، وكان في آواخر هذه السنة وقعة مرج راهط كما قدمنا‏.‏

وقد استقر ملك الشام لمروان بن الحكم، وذلك بعد ظفره بالضحاك بن قيس وقتله له في الوقعة‏.‏

وقيل‏:‏ إن فيها دخل مروان مصر وأخذها من نائبها الذي من جهة ابن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جحدر‏.‏

واستقرت يد مروان على الشام ومصر وأعمالها والله أعلموقال الواقدي‏:‏ لما أراد ابن الزبير هدم البيت شاور الناس في هدمها، فأشار عليه جابر بن عبد الله، وعبيد بن عمير بذلك‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم حتى يتهاون الناس بحرمتها، ولكن أرى أن تصلح ما يتهدم من بنيانها‏.‏

ثم إن ابن الزبير استخار الله ثلاثة أيام، ثم غدا في اليوم الرابع فبدأ ينقض الركن إلى الأساس، فلما وصلوا إلى الأساس وجدوا أصلاً بالحجر مشبكاً كأصابع اليدين، فدعا ابن الزبير خمسين رجلاً فأمرهم أن يحفروا‏.‏

فلما ضربوا بالمعاول في تلك الأحجار المشبكة ارتجت مكة فتركه على حاله، ثم أسس عليه البناء، وجعل للكعبة بابين موضوعين بالأرض، باب يدخل منه وباب يخرج منه، ووضع الحجر الأسود بيده، وشده بفضة لأنه كان قد تصدع، وزاد في وسع الكعبة عشرة أذرع، ولطخ جدرانها بالمسك وسترها بالديباج‏.‏

ثم اعتمر من مساجد عائشة، وطاف بالبيت وصلى وسعى، وأزال ما كان حول الكعبة من الزبالة، وما كان حولها من الدماء، وكانت الكعبة قد وهت من أعلاها إلى أسفلها من حجارة المنجنيق، واسود الركن وانصدع الحجر الأسود من النار التي كانت حول الكعبة، وكان سبب تجديد ابن الزبير لها ما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث عائشة المتقدم ذكره والله أعلم‏.‏