الجزء الثامن - ثم دخلت سنة خمس وستين

ثم دخلت سنة خمس وستين

فيها‏:‏ اجتمع إلى سليمان بن صرد نحو من سبعة عشر ألفاً، كلهم يطلبون الأخذ بثأر الحسين ممن قتله‏.‏

قال الواقدي‏:‏ لما خرج الناس إلى النخيلة كانوا قليلاً، فلم تعجب سليمان قلتهم، فأرسل حكيم بن منقذ فنادى في الكوفة بأعلى صوته‏:‏ يا ثارات الحسين، فلم يزل ينادي حتى بلغ المسجد الأعظم، فسمع الناس فخرجوا إلى النخيلة، وخرج أشراف الكوفة فكانوا قريباً من عشرين ألفاً أو يزيدون، في ديوان سليمان بن صرد‏.‏

فلما عزم على المسير بهم لم يصف معه منهم سوى أربعة آلاف، فقال المسيب بن نجية لسليمان‏:‏ إنه لا ينفعك الكاره، ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية، وباع نفسه لله عز وجل، فلا تنتظرن أحداً وامض لأمرك في جهادك عدوك، واستعن بالله عليهم‏.‏

فقام سليمان في أصحابه وقال‏:‏ يا أيها الناس ‏!‏ من كان إنما خرج لوجه الله وثواب الآخرة فذلك منا ونحن منه، ومن كان خروجه معنا للدنيا فليس منا ولا يصحبنا‏.‏

فقال الباقون معه‏:‏ ما للدنيا خرجنا، ولا لها طلبنا‏.‏

فقيل له‏:‏ أنسير إلى قتلة الحسين بالشام وقتلته عندنا بالكوفة كلهم مثل عمر بن سعد وغيره‏؟‏

فقال سليمان‏:‏ إن ابن زياد هو الذي جهز الجيش إليه وفعل به ما فعل، فإذا فرغنا منه عدنا إلى أعدائه بالكوفة، ولو قاتلتوهم أولاً، وهم أهل مصركم ما عدم الرجل منكم أن يرى رجلاً قد قتل أباه قد قتل أخاه أو حميمه، فيقع التخاذل، فإذا فرغتم من الفاسق ابن زياد لكم المراد‏.‏

فقالوا‏:‏ صدقت‏.‏

فنادى فيهم سيروا على اسم الله تعالى، فساروا عشية الجمعة لخمس مضين من ربيع الأول‏.‏

وقال في خطبته‏:‏ من كان خرج منكم للدنيا ذهبها وزبرجدها فليس معنا مما يطلب شيء، وإنما معنا سيوف على عواتقنا ورماح في أكفنا، وزاد يكفينا حتى نلقى عدونا‏.‏

فأجابوه إلى السمع والطاعة والحالة هذه، وقال لهم‏:‏ عليكم بابن زياد الفاسق أولاً، فليس له إلا السيف، وها هو قد أقبل من الشام قاصداً العراق‏.‏

فصمم الناس معه على هذا الرأي، فلما أزمعوا على ذلك بعث عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد أمراء الكوفة من جهة ابن الزبير، إلى سليمان بن صرد، يقولان له‏:‏ إنا نحب أن تكون أيدينا واحدة على ابن زياد، وأنهم يريدون أن يبعثوا معهم جيشاً ليقويهم على ما هم قد قصدوا له، وبعثوا بريداً بذلك ينتظرهم حتى يقدموا عليه‏.‏

فتهيأ سليمان بن صرد لقدومهم عليه في رؤوس الأمراء، وجلس في أبهته والجيوش محدقة به، وأقبل عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن طلحة في أشراف أهل الكوفة من غير قتلة الحسين لئلا يطمعوا فيهم، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص في هذه الأيام كلها لا يبيت إلا في قصر الإمارة عند عبد الله بن يزيد خوفاً على نفسه‏.‏

فلما اجتمع الأميران عند سليمان بن صرد قالا له وأشارا عليه‏:‏ أن لا يذهبوا حتى تكون أيديهما واحدة على قتال ابن زياد، ويجهزوا معهم جيشاً، فإن أهل الشام جمع كثير وجم غفير، وهم يحاجفون عن ابن زياد‏.‏

فامتنع سليمان من قبول قولهما وقال‏:‏ إنا خرجنا لأمر لا نرجع عنه ولا نتأخر فيه‏.‏

فانصرف الأميران راجعين إلى الكوفة، وانتظر سليمان بن صرد وأصحابه أصحابهم الذين كانوا قد واعدوهم من أهل البصرة وأهل المدائن فلم يقدموا عليهم ولا واحد منهم‏.‏

فقام سليمان في أصحابه خطيباً وحرضهم على الذهاب لما خرجوا عليه، وقال‏:‏ لو قد سمع إخوانكم بخروجكم للحقوكم سراعاً‏.‏

فخرج سليمان وأصحابه من النخيلة يوم الجمعة لخمس مضين من ربيع الأول سنة خمس وستين، فسار بهم مراحل، ما يتقدمون مرحلة إلى نحو الشام إلا تخلف عنه طائفة من الناس الذين معه، فلما مروا بقبر الحسين صاحوا صيحة واحدة، وتباكوا وباتوا عنده ليلة يصلون ويدعون، وظلوا يوماً يترحمون عليه ويستغفرون له ويترضون عنه ويتمنون أن لو كانوا ماتوا معه شهداء‏.‏

- قلت‏:‏ لو كان هذا العزم والاجتماع قبل وصول الحسين إلى تلك المنزلة، لكان أنفع له، وأنصر من اجتماع سليمان وأصحابه لنصرته بعد أربع سنين - ولما أرادوا الانصراف جعل لا يريم أحد منهم حتى يأتي القبر فيترحم عليه ويستغفر له، حتى جعلوا يزدحمون أشد من ازدحامهم عند الحجر الأسود‏.‏

ثم ساروا قاصدين الشام، فلما اجتازوا بقرقيسيا تحصن منهم زفر بن الحارث، فبعث إليه سليمان بن صرد‏:‏ إنا لم نأت لقتالكم فأخرج إلينا سوقاً فإنا إنما نقيم عندكم يوماً أو بعض يوم‏.‏

فأمر زفر بن الحارث أن يخرج إليهم سوق، وأمر للرسول إليه وهو المسيب بن نجبة بفرس وألف درهم‏.‏

فقال‏:‏ أما المال فلا‏.‏

وأما الفرس فنعم‏.‏

وبعث زفر بن الحارث إلى سليمان بن صرد و رؤوس الأمراء الذين معه إلى كل واحد عشرين جزوراً وطعاماً وعلفاً كثيراً، ثم خرج زفر بن الحارث فشيعهم‏.‏

وسار مع سليمان بن صرد وقال له‏:‏ إنه قد بلغني أن أهل الشام قد جهزوا جيشاً كثيفاً وعدداً كثيراً، مع حصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وأدهم بن محرز الباهلي، وربيعة بن مخارق الغنوي، وجبلة بن عبد الله الخثعمي‏.‏

فقال سليمان بن صرد‏:‏ على الله توكلنا وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏.‏

ثم عرض عليهم زفر أن يدخلوا مدينته أو يكونوا عند بابها، فإن جاءهم أحد كان معهم عليه، فأبوا أن يقبلوا وقالوا‏:‏ قد عرض علينا أهل بلدنا مثل ذلك فامتنعنا‏.‏

قال‏:‏ فإذا أبيتم ذلك فبادروهم إلى عين الوردة، فيكون الماء والمدينة والأسواق والسباق خلف ظهوركم، وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه‏.‏

ثم أشار عليهم بما يعتمدونه في حال القتال فقال‏:‏ ولا تقاتلوهم في فضاء فإنهم أكثر منكم عدداً فيحيطون بكم، فإني لا أرى معكم رجالاً والقوم ذووا رجال وفرسان، ومعهم كراديس فاحذروهم‏.‏

فأثنى عليه سليمان بن صرد والناس خيراً، ثم رجع عنهم، وسار سليمان بن صرد فبادر إلى عين الوردة فنزل غربيها، وأقام هناك قبل وصول أعدائه إليه، واستراح سليمان وأصحابه واطمأنوا‏.‏

 وقعة عين وردة

فلما اقترب أهل الشام إليهم خطب سليمان أصحابه فرغبهم في الآخرة وزهدهم في الدنيا، وحثهم على الجهاد، وقال‏:‏ إن قتلت فالأمير عليكم المسيب بن نجبة، فإن قتل فعبد الله بن سعد بن نفيل، فإن قتل فعبد الله بن والٍ، فإن قتل فرفاعة بن شداد‏.‏

ثم بعث بين يديه المسيب بن نجبة في خمسمائة فارس، فأغاروا على جيش ابن ذي الكلاع وهم عارون، فقتلوا منهم جماعة وجرحوا آخرين، واستاقوا نعماً‏.‏

وأتى الخبر إلى عبيد الله بن زياد فأرسل بين يديه الحصين بن نمير في اثني عشر ألفاً، فصبح سليمان بن صرد وجيشه واقفون في يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الأولى، وحصين بن نمير قائم في اثني عشر ألفاً، وقد تهيأ كل من الفريقين لصاحبه‏.‏

فدعا الشاميون أصحاب سليمان إلى الدخول في طاعة مروان بن الحكم، ودعا أصحاب سليمان الشاميين إلى أن يسلموا إليهم عبيد الله بن زياد فيقتلونه عن الحسين، وامتنع كل من الفريقين أن يجيب إلى ما دعا إليه الآخر، فاقتتلوا قتالاً شديداً عامة يومهم إلى الليل، وكانت الدائرة فيه للعراقيين على الشاميين‏.‏

فلما أصبحوا أصبح ابن ذي الكلاع وقد وصل إلى الشاميين في ثمانية عشرة ألف فارس، وقد أنّبه وشتمه ابن زياد، فاقتتل الناس في هذا اليوم قتالاً لم ير الشيب والمرد مثله قط، لا يحجز بينهم إلا أوقات الصلوات إلى الليل‏.‏

فلما أصبح الناس من اليوم الثالث وصل إلى الشاميين أدهم بن محرز في عشرة آلاف، وذلك في يوم الجمعة، فاقتتلوا قتالاً شديداً إلى حين ارتفاع الضحى، ثم استدار أهل الشام بأهل العراق، وأحاطوا بهم من كل جانب‏.‏

فخطب سليمان بن صرد الناس وحرضهم على الجهاد، فاقتتل الناس قتالاً عظيماً جداً، ثم ترجل سليمان بن صرد وكسر جفن سيفه ونادى‏:‏ يا عباد الله، من أراد الرواح، إلى الجنة والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فليأت إليَّ‏.‏

فترجل معه ناس كثيرون وكسروا جفون سيوفهم، وحملوا حتى صاروا في وسط القوم‏.‏

وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة حتى خاضوا في الدماء، وقُتل سليمان بن صرد أمير العراقيين، رماه رجل يقال له‏:‏ يزيد بن الحصين بسهم فوقع، ثم وثب، ثم وقع، ثم وثب ثم وقع، وهو يقول‏:‏ فزت ورب الكعبة، فأخذ الراية المسيب بن نجبة فقاتل بها قتالاً شديداً وهو يقول‏:‏

قد علمت ميالة الذوائب * واضحة اللبات والترائب

أني غداة الروع والتغالب * أشجع من ذي لبدةٍ مواثب

قصاع أقرانٍ مخوف الجانب

ثم قاتل قتالاً شديداً فقضى ابن نجبة نحبه، ولحق في ذلك الموقف صحبه رحمهم الله، فأخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل فقاتل قتالاً شديداً أيضاً‏.‏

وحمل حينئذ ربيعة بن مخارق على أهل العراق حملة منكرة، وتبارز هو وعبد الله بن سعد بن نفيل، ثم اتحدا فحمل ابن أخي ربيعة على عبد الله بن سعد فقتله‏.‏

ثم احتمل عمه فأخذ الراية عبد الله بن والٍ، فحرض الناس على الجهاد وجعل يقول‏:‏ الرواح إلى الجنة -وذلك بعد العصر - وحمل بالناس ففرق من كان حوله ثم قتل - وكان من الفقهاء المفتيين - قتله أدهم بن محرز الباهلي أمير حرب الشاميين ساعتئذٍ‏.‏

فأخذ الراية رفاعة بن شداد فانحاز بالناس وقد دخل الظلام، ورجع الشاميون إلى رحالهم، وانشمر رفاعة بمن بقي معه راجعاً إلى بلاده، فلما أصبح الشاميون إذا العراقيون قد كروا راجعين إلى بلادهم، فلم يبعثوا وراءهم طلباً ولا أحداً لما لقوا منهم من القتل والجراح‏.‏

فلما وصلوا إلى هيت إذا سعد بن حذيفة بن اليمان قد أقبل بمن معه من أهل المدائن، قاصدين إلى نصرتهم، فلما أخبروه بما كان من أمرهم وما حل بهم، ونعوا إليه أصحابهم ترحموا عليهم واستغفروا لهم، وتباكوا على إخوانهم، وانصرف أهل المدائن إليها، ورجع راجعة أهل الكوفة إليها، وقد قتل منهم خلق كثير وجم غفير‏.‏

وإذا المختار بن أبي عبيد كما هو في السجن لم يخرج منه، فكتب إلى رفاعة بن شداد يعزيه فيمن قتل منهم ويترحم عليهم، ويغبطهم بما نالوا من الشهادة، وجزيل الثواب ويقول‏:‏ مرحباً بالذين أعظم الله أجورهم ورضي عنهم، والله ما خطا منهم أحد خطوة إلا كان ثواب الله له فيها أعظم من الدنيا وما فيها‏.‏

إن سليمان قد قضى ما عليه وتوفاه الله وجعل روحه في أرواح النبيين والشهداء والصالحين، وبعد‏:‏ فأنا الأمير المأمون، قاتل الجبارين والمفسدين إن شاء الله، فأعدوا واستعدوا وأبشروا، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، والطلب بدماء أهل البيت‏.‏

وذكر كلاماً كثيراً في هذا المعنى‏.‏

وقد كان قبل قدومهم أخبر الناس بهلاكهم عن ربه الذي كان يأتي إليه من الشياطين، فإنه قد كان يأتي إليه شيطان فيوحي إليه قريباً مما كان يوحي شيطان مسيلمة إليه، وكان جيش سليمان بن صرد وأصحابه يسمى بجيش التوابين رحمهم الله‏.‏

وقد كان سليمان بن صرد الخزرجي صحابياً جليلاً نبيلاً عابداً زاهداً، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في ‏(‏الصحيحين‏)‏ وغيرهما، وشهد مع علي صفين، وكان أحد من كان يجتمع الشيعة في داره لبيعة الحسين، وكتب إلى الحسين فيمن كتب بالقدوم إلى العراق‏.‏

فلما قدمها تخلوا عنه، وقتل بكربلاء بعد ذلك، ورأى هؤلاء أنهم كانوا سبباً في قدومه، وأنهم خذلوه حتى قتل هو وأهل بيته، فندموا على ما فعلوه معه، ثم اجتمعوا في هذا الجيش وسموا جيشهم جيش التوابين، وسموا أميرهم سليمان بن صرد أمير التوابين، فقتل سليمان رضي الله عنه في هذه الوقعة بعين وردة سنة خمس وستين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة سبع وستين، والأول أصح‏.‏

وكان عمره يوم قتل ثلاثاً وتسعين سنة رحمه الله‏.‏

وحمل رأسه ورأس المسيب بن نجبة إلى مروان بن الحكم بعد الوقعةوكتب أمراء الشاميين إلى مروان بما فتح الله عليهم وأظفرهم من عدوهم، فخطب الناس وأعلمهم بما كان من أمر الجنود ومن قتل من أهل العراق، وقد قال‏:‏ أهلك الله رؤوس الضلال سليمان بن صرد وأصحابه‏.‏

وعلق الرؤوس بدمشق، وكان مروان بن الحكم قد عهد بالأمر من بعده إلى ولده عبد الملك، ثم من بعده عبد العزيز، وأخذ بيعة الأمراء على ذلك في هذه السنة، قاله ابن جرير وغيره‏.‏

وفيها‏:‏ دخل مروان بن الحكم، وعمرو بن سعيد الأشدق إلى الديار المصرية فأخذاها من نائبها الذي كان لعبد الله بن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جحدم، وكان سبب ذلك أن مروان قصدها فخرج إليه نائبها ابن جحدم فقابله مروان ليقاتله فاشتغل به‏.‏

وخلص عمرو بن سعيد بطائفة من الجيش من وراء عبد الرحمن بن جحدم فدخل مصر فملكها، وهرب عبد الرحمن، ودخل مروان إلى مصر فملكها، وجعل عليها ولده عبد العزيز‏.‏

وفيها‏:‏ بعث ابن الزبير أخاه مصعباً ليفتح له الشام، فبعث إليه مروان عمرو بن سعيد فتلقاه إلى فلسطين فهرب منه مصعب بن الزبير وكر راجعاً ولم يظفر بشيء‏.‏

واستقر ملك الشام ومصر لمروان‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ إن مروان حاصر مصر فخندق عبد الرحمن بن جحدم على البلد خندقاً، وخرج في أهل مصر إلى قتاله، وكانوا يتناوبون القتال ويستريحون، ويسمى ذلك يوم التراويح‏.‏

واستمر القتل في خواص أهل البلد فقتل منهم خلق كثير، وقتل يومئذ عبد الله بن يزيد بن معدي كرب الكلاعي أحد الأشراف‏.‏

ثم صالح عبد الرحمن مروان على أن يخرج إلى مكة بماله وأهله، فأجابه مروان إلى ذلك، وكتب إلى أهل مصر كتاب أمان بيده، وتفرق الناس وأخذوا في دفن موتاهم والبكاء عليهم‏.‏

وضرب مروان عنق ثمانين رجلاً تخلفوا عن مبايعته، وضرب عنق الأكيدر بن حملة اللخمي، وكان من قتلة عثمان، وذلك في نصف جمادى الآخر يوم توفي عبد الله بن عمرو بن العاص‏.‏

فما قدروا أن يخرجوا بجنازته، فدفنوه في داره واستولى مروان على مصر وأقام بها شهراً، ثم استعمل عليها ولده عبد العزيز، وترك عنده أخاه بشر بن مروان، وموسى بن نصير وزيراً له، وأوصاه بالإحسان إلى الأكابر ورجع إلى الشام‏.‏

وفيها‏:‏ جهز مروان جيشين، أحدهما مع حبيش بن دلجة العتيبـي ليأخذ له المدينة، وكان من أمره ما سنذكره‏.‏

والآخر مع عبيد الله بن زياد إلى العراق لينتزعه من نواب ابن الزبير، فلما كانوا ببعض الطريق لقوا جيش التوابين مع سليمان بن صرد وكان من أمرهم ما تقدم ذكره‏.‏

واستمر جيش الشاميين ذاهباً إلى العراق، فلما كانوا بالجزيرة بلغهم موت مروان بن الحكم‏.‏

وكانت وفاته في شهر رمضان من هذه السنة، وكان سبب موته أنه تزوج بأم خالد امرأة يزيد بن معاوية، وهي أم هاشم بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة‏.‏

وإنما أراد مروان بتزويجه إياها ليصغر ابنها خالداً في أعين الناس، فإنه قد كان في نفوس كثير من الناس منه إن يملكوه بعد أخيه معاوية، فتزوج أمه ليصغر أمره‏.‏

فبينما هو ذات يوم داخل إلى عند مروان، إذ جعل مروان يتكلم فيه عند جلسائه، فلما جلس قال له فيما خاطبه به‏:‏ يا ابن الرطبة الأست‏.‏

فذهب خالد إلى أمه فأخبرها بما قال له، فقالت‏:‏ اكتم ذلك ولا تعلمه أنك أعلمتني بذلك‏.‏

فلما دخل عليها مروان قال لها‏:‏ هل ذكرني خالد عندك بسوء‏؟‏

فقالت له‏:‏ وما عساه يقول لك، وهو يحبك ويعظمك‏؟‏

ثم إن مروان رقد عندها، فلما أخذه النوم عمدت إلى وسادة فوضعتها على وجهه وتحاملت عليها هي وجواريها حتى مات غماً، وكان ذلك في ثالث شهر رمضان سنة خمس وستين بدمشق، وله من العمر ثلاث وستون سنة‏.‏

وقيل‏:‏ إحدى وثمانون سنة، وكانت إمارته تسعة أشهر‏.‏

وقيل‏:‏ عشرة أشهر إلا ثلاثة أيام‏.‏

 ترجمة مروان بن الحكم

هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، أبو عبد الملك ويقال‏:‏ أبو الحكم‏.‏

ويقال‏:‏ أبو القاسم، وهو صحابي عند طائفة كثيرة لأنه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه في حديث صلح الحديبية‏.‏

وفي رواية ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ عن مروان، والمسور بن مخرمة، عن جماعة من الصحابة الحديث بطوله‏.‏

وروى مروان عن عمر، وعثمان وكان كاتبه - أي‏:‏ كان كاتب عثمان - وعلي، وزيد بن ثابت، وبسيرة بنت صفوان الأزدية وكانت حماته‏.‏

وقال الحاكم أبو أحمد‏:‏ كانت خالته، ولا منافاة بين كونها حماته وخالته‏.‏

وروى عنه ابنه عبد الملك، وسهل بن سعد، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومجاهد وغيرهم‏.‏

قال الواقدي، ومحمد بن سعد‏:‏ أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ عنه شيئاً، وكان عمره ثمان سنين حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين، وقد كان مروان من سادات قريش وفضلائها‏.‏

روى ابن عساكر وغيره أن عمر بن الخطاب خطب امرأة إلى أمها فقالت‏:‏ قد خطبها جرير بن عبد الله البجلي وهو سيد شباب المشرق، ومروان بن الحكم وهو سيد شباب قريش، وعبد الله بن عمر وهو من قد علمتم‏.‏

فقالت المرأة‏:‏ أجادٌّ يا أمير المؤمنين‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قالت‏:‏ قد زوجناك يا أمير المؤمنين‏.‏

وقد كان عثمان بن عفان يكرمه ويعظمه، وكان كاتب الحكم بين يديه، ومن تحت رأسه جرت قضية الدار، وبسببه حصر عثمان بن عفان فيها‏.‏

وألح عليه أولئك أن يسلم مروان إليهم فامتنع عثمان أشد الامتناع، وقد قاتل مروان يوم الدار قتالاً شديداً، وقتل بعض الخوارج، وكان على الميسرة يوم الجمل، ويقال‏:‏ إنه رمى طلحة بسهم في ركبته فقتله فالله أعلم

وقال أبو الحكم‏:‏ سمعت الشافعي يقول‏:‏ كان علي يوم الجمل حين انهزم الناس يكثر السؤال عن مروان فقيل له في ذلك‏.‏

فقال‏:‏ إنه يعطفني عليه رحم ماسة، وهو سيد من شباب قريش‏.‏

وقال ابن المبارك‏:‏ عن جرير بن حازم، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر أنه قال لمعاوية‏:‏ من تركت لهذا الأمر من بعدك‏؟‏

فقال‏:‏ أما القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله، مروان بن الحكم‏.‏

وقد استنابه على المدينة غير مرة، يعزله ثم يعيده إليها، وأقام للناس الحج في سنين متعددة‏.‏

وقال حنبل‏:‏ عن الإمام أحمد، قال‏:‏ يقال‏:‏ كان عند مروان قضاء، وكان يتتبع قضايا عمر بن الخطاب‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ سمعت مالكاً يقول‏:‏ وذكر مروان يوماً فقال‏:‏ قال مروان‏:‏ قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة ثم أصبحت فيما أنا فيه، من إهراق الدماء وهذا الشأن‏.‏

وقال إسماعيل بن عياش‏:‏ عن صفوان بن عمرة، عن شريح بن عبيد وغيره‏.‏

قال‏:‏ كان مروان إذا ذكر الإسلام قال‏:‏

بنعمت ربي لا بما قدمت يدي * ولا بتراثي إنني كنت خاطئاً

وقال الليث عن يزيد بن حبيب، عن سالم أبي النضر أنه قال‏:‏ شهد مروان جنازة فلما صلى عليها انصرف، فقال أبو هريرة‏:‏ أصاب قيراطاً وحرم قيراطاً، فأخبر بذلك مروان فأقبل يجري حتى بدت ركبتاه، فقعد حتى أذن له‏.‏

وروى المدائني عن إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد‏:‏ أن مروان كان أسلف علي بن الحسين حتى يرجع إلى المدينة بعد مقتل أبيه الحسين ستة آلاف دينار، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه عبد الملك أن لا يسترجع من علي بن الحسين شيئاً، فبعث إليه عبد الملك بذلك فامتنع من قبولها، فألح عليه فقبلها‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ أنبأنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه‏:‏ أن الحسن والحسين كانا يصليان خلف مروان ولا يعيدانها، ويعتدان بها‏.‏

وقد روى عبد الرزاق‏:‏ عن الثوري، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال‏:‏ أول من قدم الخطبة على الصلاة يوم العيد مروان‏.‏

فقال له رجل‏:‏ خالفت السنة‏.‏

فقال له مروان‏:‏ إنه قد ترك ما هنالك‏.‏

فقال أبو سعيد‏:‏ أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ولما كان نائباً بالمدينة كان إذا وقعت معضلة جمع من عنده من الصحابة فاستشارهم فيها‏.‏

قالوا‏:‏ وهو الذي جمع الصيعان فأخذ بأعدلها فنسب إليه الصاع، فقيل‏:‏ صاع مروان‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثني ابن أبي علي اللهبي، عن إسماعيل بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ خرج أبو هريرة من عند مروان فلقيه قوم قد خرجوا من عنده فقالوا له‏:‏ يا أبا هريرة، إنه أشهدنا الآن على مائة رقبة أعتقها الساعة‏.

قال‏:‏ فغمز أبو هريرة يدي، وقال‏:‏ يا أبا سعيد، بك من كسب طيب خير من مائة رقبة‏.‏

قال الزبير‏:‏ البك الواحد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا بلغ بنو أبي فلان ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دولاً، ودين الله دخلاً، وعباد الله خولاً‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أبو يعلى عن زكريا بن زحمويه، عن صالح بن عمر، عن مطرف، عن عطية، عن أبي سعيد‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلاً اتخذوا دين الله دخلاً، وعباد الله خولاً، ومال الله دولاً‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه الطبراني عن أحمد بن عبد الوهاب، عن أبي المغيرة، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن راشد بن سعد، عن أبي ذر‏.‏

قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا بلغ بنو أمية أربعين رجلاً‏)‏‏)‏‏.‏

وذكره، وهذا منقطع‏.‏

ورواه العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة من قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً‏)‏‏)‏ فذكره‏.‏

ورواه البيهقي وغيره من حديث ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن ابن وهب، عن معاوية، وعبد الله بن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين اتخذوا مال الله بينهم دولاً، وعباد الله خولاً، وكتاب الله دغلاً، فإذا بلغوا ستة وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة‏)‏‏)‏‏.‏

وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عبد الملك بن مروان فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبو الجبابرة الأربعة‏)‏‏)‏‏.‏

وهذه الطرق كلها ضعيفة‏.‏

وروى أبو يعلى وغيره من غير وجه، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن بني الحكم يرقون على منبره وينزلون، فأصبح كالمتغيظ، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيت بني الحكم ينزون على منبري نزو القردة‏)‏‏)‏‏.‏

فما رئُي رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً بعد ذلك حتى مات‏.‏

ورواه الثوري عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب مرسلاً وفيه‏:‏ ‏(‏‏(‏فأوحى الله إليه إنما هي دنيا أعطوها‏)‏‏)‏‏.‏

فقرت عينه وهي قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏ يعني‏:‏ بلاء للناس واختباراً، وهذا مرسل وسنده إلى سعيد ضعيف‏.‏

وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة موضوعة، فلهذا أضربنا صفحاً عن إيرادها لعدم صحتها‏.‏

وقد كان أبوه الحكم من أكبر أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أسلم يوم الفتح، وقدم الحكم المدينة ثم طرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ومات بها‏.‏

ومروان كان أكبر الأسباب في حصار عثمان لأنه زور على لسانه كتاباً إلى مصر بقتل أولئك الوفد، ولما كان متولياً على المدينة لمعاوية كان يسب علياً كل جمعة على المنبر‏.‏

وقال له الحسن بن علي‏:‏ لقد لعن الله أباك الحكم وأنت في صلبه على لسان نبيه فقال‏:‏ لعن الله الحكم وما ولد والله أعلم

وقد تقدم أن حسان بن مالك لما قدم عليه مروان أرض الجابية، أعجبه إتيانه إليه، فبايع له وبايع أهل الأردن على أنه إذا انتظم له الأمر نزل عن الأمرة لخالد بن يزيد، ويكون لمروان إمرة حمص، ولعمرو بن سعيد نيابة دمشق، وكانت البيعة لمروان يوم الاثنين للنصف من ذي القعدة سنة أربع وستين، قاله الليث بن سعد وغيره‏.‏

وقال الليث‏:‏ وكانت وقعة مرج راهط في ذي الحجة من هذه السنة بعد عيد النحر بيومين‏.‏

قالوا‏:‏ فغلب الضحاك بن قيس، واستوثق له ملك الشام ومصر، فلما استقر ملكه في هذه البلاد بايع من بعده لولده عبد الملك، ثم من بعده لولده عبد العزيز - والد عمر بن عبد العزيز - وترك البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، لأنه كان لا يراه أهلاً للخلافة، ووافقه على ذلك مالك بن حسان، وإن كان خالاً لخالد بن يزيد، وهو الذي قام بأعباء بيعة عبد الملك، ثم إن أم خالد دبرت أمر مروان فسمته‏.‏

ويقال‏:‏ بل وضعت على وجهه وهو نائم وسادة فمات مخنوقاً، ثم إنها أعلنت الصراخ هي وجواريها وصحن‏:‏ مات أمير المؤمنين فجأة‏.‏

ثم قام من بعده ولده عبد الملك بن مروان كما سنذكره‏.‏

وقال عبد الله بن أبي مذعور‏:‏ حدثني بعض أهل العلم قال‏:‏ كان آخر ما تكلم به مروان‏:‏ وجبت الجنة لمن خاف النار، وكان نقش خاتمه العزة لله‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ حدثنا عدي بن أبي عمار، عن أبيه، عن حرب بن زياد قال‏:‏ كان نقش خاتم مروان آمنت بالعزيز الرحيم‏.‏

وكانت وفاته بدمشق عن إحدى‏.‏

وقيل‏:‏ ثلاث وستين سنة‏.‏

وقال أبو معشر‏:‏ كان عمره يوم توفي إحدى وثمانين سنة‏.‏

وقال خليفة‏:‏ حدثني الوليد بن هشام، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ مات مروان بدمشق لثلاث خلون من شهر رمضان سنة خمس وستين، وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه ابنه عبد الملك، وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً‏.‏

وقال غيره‏:‏ عشرة أشهر‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا وغيره‏:‏ كان قصيراً، أحمر الوجه أوقص، دقيق العنق، كبير الرأس واللحية، وكان يلقب خيط باطل‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وذكر سعيد بن كثير بن عفير أن مروان مات حين انصرف من مصر بالصنبرة ويقال‏:‏ بلد‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه مات بدمشق ودفن بين باب الجابية وباب الصغير‏.‏

وكان كاتبه عبيد بن أوس، وحاجبه المنهال مولاه، وقاضيه أبو إدريس الخولاني، وصاحب شرطته يحيى بن قيس الغساني، وكان له من الولد عبد الملك، وعبد العزيز، ومعاوية، وغير هؤلاء، وكان له عدة بنات من أمهات شتى‏.‏

 خلافة عبد الملك بن مروان

بويع له بالخلافة في حياة أبيه، فلما مات أبوه في ثالث رمضان منها جددت له البيعة بدمشق ومصر وأعمالهما، فاستقرت يده على ما كانت يد أبيه عليه، وقد كان أبوه قبل وفاته بعث بعثين‏:‏

أحدهما‏:‏ مع عبيد الله بن زياد إلى العراق لينتزعها من نواب ابن الزبير، فلقي في طريقه جيش التوابين مع سليمان بن صرد عند عين الوردة، فكان من أمرهم ما تقدم، من ظفره بهم، وقتله أميرهم وأكثرهم‏.‏

والبعث الآخر‏:‏ مع جيش بن دلجة إلى المدينة ليرتجعها من نائب ابن الزبير، فسار نحوها، فلما انتهى إليها هرب نائبها جابر بن الأسود بن عوف، وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، فجهز نائب البصرة من قبل ابن الزبير وهو الحارث بن عبد الله بن ربيعة، جيشاً من البصرة إلى ابن دلجة بالمدينة، فلما سمع بهم حُبيش بن دلجة سار إليهم‏.‏

وبعث ابن الزبير عباس بن سهل بن سعد نائباً عن المدينة، وأمره أن يسير في طلب حُبيش، فسار في طلبهم حتى لحقهم بالربذة، فرمى يزيد بن سياه حُبيشاً بسهم فقتله، وقتل بعض أصحابه وهزم الباقون، وتحصن منهم خمسمائة في المدينة، ثم نزلوا على حكم عباس بن سهل فقتلهم صبراً، ورجع فلُّهم إلى الشام‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ ولما دخل يزيد بن سياه الأسواري قاتل حبيش بن دلجة إلى المدنية مع عباس بن سهل كان عليه ثياب بياض وهو راكب برذوناً أشهب، فما لبث أن اسودت ثيابه ودابته مما يتمسح الناس به ومن كثرة ما صبوا عليه من الطيب و المسك‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة اشتدت شوكة الخوارج بالبصرة‏.‏

وفيها‏:‏ قتل نافع بن الأزرق وهو رأس الخوارج ورأس أهل البصرة، مسلم بن عبيس فارس أهل البصرة، ثم قتله ربيعة السلوطي وقتل بينهما نحو خمسة أمراء، وقتل في وقعة الخوارج قرة بن إياس المزني أبو معاوية، وهو من الصحابة‏.‏

ولما قتل نافع بن الأزرق رأست الخوارج عليهم عبيد الله بن ماحوز، فسار بهم إلى المدائن فقتلوا أهلها، ثم غلبوا على الأهواز وغيرها، وجبوا الأموال وأتتهم الأمداد من اليمامة والبحرين، ثم ساروا إلى أصفهان وعليها عتاب بن ورقاء الرياحي، فالتقاهم فهزمهم، ولما قتل أمير الخوارج ابن ماحوز كما سنذكر، أقاموا عليهم قطري بن الفجاءة أميراً‏.‏

ثم أورد ابن جرير قصة قتالهم مع أهل البصرة بمكان يقال له‏:‏ دولاب، وكانت الدولة للخوارج على أهل البصرة، وخاف أهل البصرة من الخوارج أن يدخلوا البصرة، فبعث ابن الزبير فعزل نائبها عبد الله بن الحارث المعروف‏:‏ بببّة، بالحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف‏:‏ بالقباع‏.‏

وأرسل ابن الزبير المهلب بن أبي صفرة الأزدي على عمل خراسان، فلما وصل إلى البصرة قالوا له‏:‏ إن قتال الخوارج لا يصلح إلا لك‏.‏

فقال‏:‏ إن أمير المؤمنين قد بعثني إلى خراسان، ولست أعصي أمره‏.‏

فاتفق أهل البصرة مع أميرهم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة على أن كتبوا كتاباً على لسان ابن الزبير إلى المهلب يأمره فيه بالمسير للخوارج ليكفهم عن الدخول إلى البصرة، فلما قرىء عليه الكتاب اشترط على أهل البصرة أن يقوي جيشه من بيت مالهم، وأن يكون له ما غلب عليه من أموال الخوارج، فأجابوه إلى ذلك‏.‏

ويقال‏:‏ إنهم كتبوا بذلك إلى ابن الزبير فأمضى لهم ذلك وسوّغه، فسار إليهم المهلب‏.‏

وكان شجاعاً بطلاً صنديداً، فلما أراد قتال الخوارج أقبلوا إليه يزفون في عدة لم ير مثلها من الدروع والزرود والخيول والسلاح، وذلك أن لهم مدة يأكلون تلك النواحي، وقد صار لهم تحمل عظيم مع شجاعة لا تدانا، وإقدام لا يسامى، وقوة لا تجارى، وسبق إلى حومة الوغى‏.‏

فلما تواقف الناس بمكان يقال له‏:‏ سل وسل أبرى اقتتلوا قتالاً شديداً عظيماً، وصبر كل من الفريقين صبراً باهراً، وكان في نحو من ثلاثين ألفاً، ثم إن الخوارج حملوا حملة منكرة، فانهزم أصحاب المهلب لا يلوي والد على ولد، ولا يلتفت أحد إلى أحد، ووصل إلى البصرة فُلاًّ لهم‏.‏

وأما المهلب فإنه سبق المنهزمين فوقف لهم بمكان مرتفع، وجعل ينادي‏:‏ إلى عباد الله، فاجتمع إليه من جيشه ثلاثة آلاف من الفرسان الشجعان، فقام فيهم خطيباً فقال في خطبته‏:‏

أما بعد، أيها الناس، فإن الله تعالى ربما يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلة، وأنتم فرسان الصبر وأهل النصر، وما أحب أن أحداً ممن انهزموا معكم الآن‏:‏ ‏{‏لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً‏}‏‏[‏التوبة‏:‏ 47‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ عزمت على كل رجل منكم إلا أخذ عشرة أحجار معه، ثم امشوا بنا إلى عسكرهم فإنهم الآن آمنون، وقد خرجت خيولهم في طلب إخوانكم، فوالله إني لأرجو أن لا ترجع خيولهم إلا وقد استبحتم عسكرهم، وتقتلوا أميرهم

ففعل الناس ذلك، فزحف بهم المهلب بن أبي صفرة على معشر الخوارج فقتل منهم خلقاً كثيراً نحواً من سبعة آلاف، وقتل عبيد الله بن الماحوز في جماعة كثيرة من الأزارقة، واحتاز من أموالهم شيئاً كثيراً‏.‏

وقد أرصد المهلب خيولاً بينه وبين الذين يرجعون من طلب المنهزمين، فجعلوا يقتطعون دون قومهم، وانهزم فلهم إلى كرمان وأرض أصبهان، وأقام المهلب بالأهواز حتى قدم مصعب بن الزبير إلى البصرة، وعزل عنها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة كما سيأتي قريباً‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة وجّه مروان بن الحكم قبل مهلكه ابنه محمداً إلى الجزيرة، وذلك قبل مسيره إلى مصر‏.‏

قلت‏:‏ محمد بن مروان هذا هو والد مروان الحمار وهو مروان بن محمد بن مروان، وهو آخر خلفاء بني أمية، ومن يده استلبت الخلافة العباسيون كما سيأتي‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة عزل ابن الزبير أخاه عبيد الله عن إمرة المدينة وولاها أخاه مصعباً، وذلك أن عبيد الله خطب الناس فقال في خطبته‏:‏ وقد رأيتم ما صنع الله بقوم صالح في ناقة قيمتها خمسمائة درهم‏.‏

فلما بلغت أخاه قال‏:‏ إن هذا لهو التكلف، وعزله‏.‏

ويسمى عبيد الله مقِّوم الناقة لذلك‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي آخرها عزل ابن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وولى عليها عبد الله بن مطيع الذي كان أمير المهاجرين يوم الحرة، لما خلعوا يزيد‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة كان الطاعون الجارف بالبصرة‏.‏

وقال ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏‏:‏ كان في سنة أربع وستين‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنما كان في سنة تسع وستين، وهذا هو المشهور الذي ذكره شيخنا الذهبي وغيره، وكان معظم ذلك بالبصرة، وكان ذلك في ثلاثة أيام، فمات في أول يوم من الثلاثة من أهل البصرة سبعون ألفاً، وفي اليوم الثاني منها‏:‏ إحدى وسبعون ألفاً، وفي اليوم الثالث منه ثلاثة وسبعون ألفاً‏.‏

وأصبح الناس في اليوم الرابع موتى إلا قليل من آحاد الناس، حتى ذكر أن أم الأمير بها ماتت فلم يوجد لها من يحملها، حتى استأجروا لها أربعة أنفس‏.‏

وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني‏:‏ حدثنا عبيد الله، ثنا أحمد بن عصام، حدثني معدي، عن رجل، يكنى أبا النفيد، وكان قد أدرك من هذا الطاعون، قال‏:‏ كنا نطوف بالقبائل، وندفن الموتى، فلما كثروا لم نقو على الدفن، فكنا ندخل الدار وقد مات أهلها فنسد بابها عليهم‏.‏

قال‏:‏ فدخلنا داراً ففتشناها فلم نجد فيها أحداً حياً فسددنا بابها، فلما مضت الطواعين كنا نطوف فنفتح تلك السدد عن الأبواب، ففتحنا سدة الباب الذي كنا فتشناه - أو قال الدار التي كنا سددناه - وفتشناها فإذا نحن بغلام في وسط الدار طري دهين، كأنما أخذ ساعتئذ من حجر أمه‏.‏

قال‏:‏ فبينما نحن وقوف على الغلام نتعجب منه إذ دخلت كلبة من شق في الحائط فجعلت تلوذ بالغلام والغلام يحبو إليها حتى مص من لبنها‏.‏

قال معدي‏:‏ وأنا رأيت ذلك الغلام في مسجد البصرة وقد قبض على لحيته‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة بنى عبد الله بن الزبير الكعبة البيت الحرام، يعني‏:‏ أكمل بناءها وأدخل فيها الحجر، وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثني عبد العزيز بن خالد بن رستم الصنعاني، أبو محمد، حدثني زياد بن جبل‏:‏ أنه كان بمكة يوم كان عليها ابن الزبير، فسمعته يقول‏:‏

حدثتني أمي أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة‏:‏ ‏(‏‏(‏لولا قرب عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم فأزيد في الكعبة من الحجر‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأمر ابن الزبير فحفروا فوجدوا تلاعاً أمثال الإبل، فحركوا منها تلعة - أو قال صخرة - فبرقت برقة فقال‏:‏ أقروها على أساسها، فبناها ابن الزبير وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر‏.‏

قلت‏:‏ هذا الحديث له طرق متعددة عن عائشة في ‏(‏الصحاح‏)‏، و‏(‏الحسان‏)‏، و‏(‏المسانيد‏)‏، وموضوع سياق طرق ذلك في كتاب ‏(‏الأحكام‏)‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

وذكر ابن جرير في هذه السنة حروباً جرت بين عبد الله بن خازم بخراسان، وبين الحرشي ابن هلال القزيعي يطول تفصيلها‏.‏

قال‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة مصعب بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن مطيع، وعلى البصرة الحارث بن عبد الله ابن أبي ربيعة المخزومي‏.‏

وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏ عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل أبو محمد السهمي، كان من خيار الصحابة وعلمائهم وعبادهم، وكتب عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، أسلم قبل أبيه، ولم يكن أصغر من أبيه إلا باثني عشرة سنة‏.‏

وكان واسع العلم مجتهداً في العبادة، عاقلاً، وكان يلوم أباه في القيام مع معاوية، وكان سميناً، وكان يقرأ الكتابين القرآن والتوراة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه بكى حتى عمي، وكان يقوم الليل ويصوم يوماً ويفطر يوماً ويصوم يوماً‏.‏

استنابه معاوية على الكوفة، ثم عزله عنها بالمغيرة بن شعبة، توفي في هذه السنة بمصر‏.‏

وقتل بمكة عبد الله بن سعدة الفزاري، له صحبة، نزل دمشق‏.‏

وقيل‏:‏ إنه من سبي فزارة‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وستين

ففيها‏:‏ وثب المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب بالكوفة ليأخذوا ثأر الحسين بن علي فيما يزعم، وأخرج عنها عاملها عبد الله بن مطيع، وكان سبب ذلك أنه لما رجع أصحاب سليمان بن صرد مغلوبين إلى الكوفة وجدوا المختار بن أبي عبيد مسجوناً فكتب إليهم يعزيهم في سليمان بن صرد، ويقول‏:‏ أنا عوضه وأنا أقتل قتلة الحسين‏.‏

فكتب إليه رفاعة بن شداد وهو الذي رجع بمن بقي من جيش التوابين نحن على ما تحب، فشرع المختار يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏.‏

وقال لهم فيما كتب به إليهم خفية‏:‏ أبشروا فإني لو قد خرجت إليهم جردت فيما بين المشرق والمغرب من أعدائكم السيف فجعلتهم بإذن الله ركاماً، وقتلهم أفراداً وتوأماً، فرحب الله بمن قارب منهم واهتدى، ولا يبعد الله إلا من أبى وعصى‏.‏

فلما وصلهم الكتاب قرؤوه سراً وردوا إليه‏:‏ إنا كما تحب، فمتى أحببت أخرجناك من محبسك، فكره أن يخرجوه من مكانه على وجه القهر لنواب الكوفة، فتلطف فكتب إلى زوج أخته صفية، وكانت امرأة صالحة، وزوجها عبد الله بن عمر بن الخطاب‏.‏

فكتب إليه أن يشفع في خروجه عند نائبي الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة فكتب ابن عمر إليهما يشفع عندهما فيه، فلم يمكنهما رده، وكان فيما كتب إليهما ابن عمر‏:‏ قد علمتما ما بيني وبينكما من الود، وما بيني وبين المختار من القرابة والصهر، وأنا أقسم عليكما لما خليتما سبيله والسلام‏.‏

فاستدعيا به فضمنه جماعة من أصحابه، واستحلفه عبد الله بن يزيد إن هو بغى للمسلمين غائلة فعليه ألف بدنة ينحرها تجاه الكعبة، وكل مملوك له عبد وأمة حر، فالتزم لهما بذلك، ولزم منزله، وجعل يقول‏:‏ قاتلهما الله، أما حلفاني بالله، فإني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير‏.‏

وأما إهدائي ألف بدنة فيسير، وأما عتقي مماليكي فوددت أنه قد استتم لي هذا الأمر ولا أملك مملوكاً واحداً، واجتمعت الشيعة عليه وكثر أصحابه وبايعوه في السر‏.‏

وكان الذي يأخذ البيعة له ويحرض الناس عليه خمسة، وهم السائب بن مالك الأشعري، ويزيد بن أنس، وأحمد بن شميط، ورفاعة بن شداد، وعبد الله بن شداد الجشمي‏.‏

ولم يزل أمره يقوى ويشتد ويستفحل ويرتفع، حتى عزل عبد الله بن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد بن طلحة، وبعث عبد الله بن مطيع نائباً عليها، وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة نائباً على البصرة‏.‏

فلما دخل عبد الله بن مطيع المخزومي إلى الكوفة في رمضان سنة خمس وستين، خطب الناس وقال في خطبته‏:‏ إن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير أمرني أن أسير في فيئكم بسيرة عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان‏.‏

فقام إليه السائب بن مالك الشيعي فقال‏:‏ لا نرضى إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا، ولا نريد سيرة عثمان - وتكلم فيه - ولا سيرة عمر، وإن كان لا يريد للناس إلا خيراً، وصدقه على ما قال بعض أمراء الشيعة

فسكت الأمير وقال‏:‏ إني سأسير فيكم بما تحبون من ذلك‏.‏

وجاء صاحب الشرطة وهو إياس بن مضارب البجلي إلى ابن مطيع فقال‏:‏ إن هذا الذي يرد عليك من رؤوس أصحاب المختار، ولست آمن من المختار، فابعث إليه فاردده إلى السجن فإن عيوني قد أخبروني أن أمره قد استجمع له، وكأنك به وقد وثب في المصر‏.‏

فبعث إليه عبد الله بن مطيع زائدة بن قدامة وأميراً آخر معه، فدخلا على المختار فقالا له‏:‏ أجب الأمير‏.‏

فدعا بثيابه وأمر بإسراج دابته، وتهيأ للذهاب معهما، فقرأ زائدة بن قدامة‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ‏}‏الآية‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏‏.‏ فألقى المختار نفسه وأمر بقطيفة أن تلقى عليه، وأظهر أنه مريض، وقال‏:‏ أخبرا الأمير بحالي، فرجعا إلى ابن مطيع فاعتذرا عنه، فصدقهما ولها عنه‏.‏

فلما كان شهر المحرم من هذه السنة عزم المختار على الخروج لطلب الأخذ بثأر الحسين فيما يزعم، فلما صمم على ذلك اجتمعت عليه الشيعة وثبطوه عن الخروج الآن إلى وقت آخر، ثم أنفذوا طائفة منهم إلى محمد بن الحنفية يسألونه عن أمر المختار وما دعا إليه‏.‏

فلما اجتمعوا به كان ملخص ما قال لهم‏:‏ إنا لا نكره أن ينصرنا الله بمن شاء من خلقه، وقد كان المختار بلغه مخرجهم إلى محمد بن الحنفية، فكره ذلك وخشي أن يكذبه فيما أخبر به عنه، فإنه لم يكن بإذن محمد بن الحنفية، وهمّ بالخروج قبل رجوع أولئك، وجعل يسجع لهم سجعاً من سجع الكهان بذلك‏.‏

ثم كان الأمر على ما سجع به، فلما رجعوا أخبروه بما قال ابن الحنفية، فعند ذلك قوي أمر الشيعة على الخروج مع المختار بن أبي عبيد‏.‏

وقد روى أبو مخنف أن أمراء الشيعة قالوا للمختار‏:‏ اعلم أن جميع أمراء الكوفة مع عبد الله بن مطيع وهم إلب علينا، وأنه إن بايعك إبراهيم بن الأشتر النخعي وحده أغنانا عن جميع من سواه‏.‏

فبعث إليه المختار جماعة يدعونه إلى الدخول معهم في الأخذ بثأر الحسين، وذكروه سابقة أبيه مع علي رضي الله عنه‏.‏

فقال‏:‏ قد أجبتكم إلى ما سألتم، على أن أكون أنا ولي أمركم‏.‏

فقالوا‏:‏ إن هذا لا يمكن، لأن المهدي قد بعث لنا المختار وزيراً له وداعياً إليه‏.‏

فسكت عنهم إبراهيم بن الأشتر فرجعوا إلى المختار فأخبروه‏.‏

فمكث ثلاثاً ثم خرج في جماعة من رؤوس أصحابه إليه، فدخل علي بن الأشتر فقام إليه واحترمه وأكرمه وجلس إليه، فدعاه إلى الدخول معهم، وأخرج له كتاباً على لسان ابن الحنفية يدعوه إلى الدخول مع أصحابه من الشيعة فيما قاموا فيه من نصرة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، والأخذ بثأرهم‏.‏

فقال ابن الأشتر‏:‏ إنه قد جائتني كتب محمد بن الحنفية بغير هذا النظام‏.‏

فقال المختار‏:‏ إن هذا زمان وهذا زمان‏.‏

فقال ابن الأشتر‏:‏ فمن يشهد أن هذا كتابه‏؟‏

فتقدم جماعة من أصحاب المختار فشهدوا بذلك، فقام ابن الأشتر من مجلسه وأجلس المختار فيه وبايعه، ودعا لهم بفاكهة وشراب من عسل‏.‏

قال الشعبي‏:‏ وكنت حاضراً أنا وأبي أمر إبراهيم بن الأشتر ذلك المجلس، فلما انصرف المختار قال إبراهيم بن الأشتر‏:‏ يا شعبي ما ترى فيما شهد به هؤلاء‏؟‏

فقلت‏:‏ إنهم قراء وأمراء ووجوه الناس، ولا أراهم يشهدون إلا بما يعلمون‏.‏

قال‏:‏ وكتمته ما في نفسي من اتهامهم، ولكني كنت أحب أن يخرجوا للأخذ بثأر الحسين، وكنت على رأي القوم‏.‏

ثم جعل إبراهيم يختلف إلى المختار في منزله هو ومن أطاعه من قومه، ثم اتفق رأي الشيعة على أن يكون خروجهم ليلة الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة - سنة ست وستين -‏.‏

وقد بلغ ابن مطيع أمر القوم وما اشتوروا عليه، فبعث الشرط في كل جانب من جوانب الكوفة وألزم كل أمير أن يحفظ ناحيته من أن يخرج منها أحد، فلما كان ليلة الثلاثاء خرج إبراهيم بن الأشتر قاصداً إلى دار المختار في مائة رجل من قومه، وعليهم الدروع تحت الأقبية، فلقيه إياس بن مضارب فقال له‏:‏ أين تريد يا ابن الأشتر في هذه الساعة‏؟‏ إن أمرك لمريب، فوالله لا أدعك حتى أحضرك إلى الأمير فيرى فيك رأيه‏.‏

فتناول ابن الأشتر رمحاً من يد رجل فطعنه في ثغرة نحره فسقط، وأمر رجلاً فاحتز رأسه وذهب به إلى المختار فألقاه بين يديه‏.‏

فقال له المختار‏:‏ بشرك الله بخير، فهذا طائر صالح‏.‏

ثم طلب إبراهيم من المختار أن يخرج في هذه الليلة، فأمر المختار بالنار أن ترفع وأن ينادي شعار أصحابه‏:‏ يا منصور أمت، يا ثارات الحسين‏.‏

ثم نهض المختار فجعل يلبس درعه وسلاحه وهو يقول‏:‏

قد علمت بيضاء حسناء الطلل * واضحة الخدين عجزاء الكفل

أني غداة الروع مقدام بطل

وخرج بين يديه إبراهيم بن الأشتر فجعل يتقصد الأمراء الموكلين بنواحي البلد فيطردهم عن أماكنهم واحداً واحداً‏.‏

وينادي بشعار المختار، وبعث المختار أبا عثمان النهدي فنادى بشعار المختار‏:‏ يا ثارات الحسين‏.‏

فاجتمع الناس إليه من ههنا وههنا، وجاء شبث بن ربعي فاقتتل هو والمختار عند داره وحصره حتى جاء ابن الأشتر فطرده عنه، فرجع شبث إلى ابن مطيع وأشار عليه أن يجمع الأمراء إليه، وأن ينهض بنفسه، فإن أمر المختار قد قوي واستفحل‏.‏

وجاءت الشيعة من كل فج عميق إلى المختار، فاجتمع إليه في أثناء الليل قريب من أربعة آلاف، فأصبح وقد عبى جيشه وصلى بهم الصبح، فقرأ فيها‏:‏ ‏{‏والنازعات غرقاً‏}‏ و‏{‏عبس وتولى‏}‏ في الثانية قال بعض من سمعه‏:‏ فما سمعت إماماً أفصح لهجة منه‏.‏

وقد جهز ابن مطيع جيشه ثلاثة آلاف عليهم شبث بن ربعي، وأربع آلاف أخرى مع راشد بن إياس بن مضارب، فوجه المختار بن الأشتر في ستمائة فارس وستمائة راجل إلى راشد بن إياس، وبعث نعيم بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل إلى شبث بن ربعي‏.‏

فأما ابن الأشتر فإنه هزم قرنه راشد بن إياس وقتله وأرسل إلى المختار يبشره، وأما نعيم بن هبيرة فإنه لقي شبث بن ربعي فهزمه شبث وقتله وجاء فأحاط بالمختار وحصره‏.‏

وأقبل إبراهيم بن الأشتر نحوه فاعترض له حسان بن فائد بن العبسي في نحو من ألفي فارس من جهة ابن مطيع، فاقتتلوا ساعة‏.‏

فهزمه إبراهيم، ثم أقبل نحو المختار فوجد شبث بن ربعي قد حصر المختار وجيشه، فما زال حتى طردهم فكروا راجعين، وخلص إبراهيم إلى المختار، وارتحلوا من مكانهم ذلك إلى غيره في ظاهر الكوفة‏.‏

فقال له إبراهيم بن الأشتر‏:‏ اعمد بنا إلى قصر الإمارة فليس دونه أحد يرد عنه‏.‏

فوضعوا ما معهم من الأثقال، وأجلسوا هنالك ضعفة المشايخ والرجال، واستخلف على من هنالك أبا عثمان النهدي، وبعث بين يديه ابن الأشتر، وعبأ المختار جيشه كما كان، وسار نحو القصر‏.‏

فبعث ابن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل، فبعث إليه المختار يزيد بن أنس وسار هو وابن الأشتر أمامه حتى دخل الكوفة من باب الكناسة، وأرسل ابن مطيع شمر بن ذي الجوشن الذي قتل الحسين في ألفين آخرين، فبعث إليه المختار سعد بن منقذ الهمداني، وسار المختار حتى انتهى إلى سكة شبث‏.‏

وإذا نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة في خمسة آلاف، وخرج ابن مطيع من القصر في الناس، واستخلف عليه شبث بن ربعي، فتقدم ابن الأشتر إلى الجيش الذي مع ابن مساحق، فكان بينهم قتال شديد، قتل فيه رفاعة بن شداد أمير جيش التوابين الذين قدم بهم، وعبد الله بن سعد وجماعة غيرهم‏.‏

ثم انتصر عليهم ابن الأشتر فهزمهم، وأخذ بلجام دابة ابن مساحق فمت إليه بالقرابة، فأطلقه، وكان لا ينساها بعد لابن الأشتر‏.‏:‏

ثم تقدم المختار بجيشه إلى الكناسة وحصروا ابن مطيع بقصره ثلاثاً، ومعه أشراف الناس سوى عمرو بن حريث فإنه لزم داره، فلما ضاق الحال على ابن مطيع وأصحابه استشارهم فأشار عليه شبث بن ربعي أن يأخذ له ولهم من المختار أماناً، فقال‏:‏ ما كنت لأفعل هذا وأمير المؤمنين مطاع بالحجاز وبالبصرة‏.‏

فقال له‏:‏ فإن رأيت أن تذهب بنفسك مختفياً حتى تلحق بصاحبك فتخبره بما كان من الأمر وبما كان منا في نصره وإقامة دولته‏.‏

فلما كان الليل خرج ابن مطيع مختفياً حتى دخل دار أبي موسى الأشعري، فلما أصبح الناس أخذ الأمراء إليهم أماناً من ابن الأشتر فأمنهم، خرجوا من القصر وجاؤوا إلى المختار فبايعوه، ثم دخل المختار إلى القصر فبات فيه، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر‏.‏

فخرج المختار إلى المسجد فصعد المنبر وخطب الناس خطبة بليغة، ثم دعا الناس إلى البيعة وقال‏:‏ فوالذي جعل السماء سقفاً مكفوفاً والأرض فجاجاً سبلاً، ما بايعتم بعد بيعة علّي أهدى منها‏.‏

ثم نزل فدخل الناس يبايعونه على كتاب الله وسنة رسوله، والطلب بثأر أهل البيت، وجاء رجل إلى المختار فأخبره أن ابن مطيع في دار أبي موسى، فأراه أنه لا يسمع قوله، فكرر ذلك ثلاثاً فسكت الرجل، فلما كان الليل بعث المختار إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم‏.‏

وقال له‏:‏ اذهب فقد أخذت بمكانك - وكان له صديقاً قبل ذلك - فذهب ابن مطيع إلى البصرة وكره أن يرجع إلى ابن الزبير وهو مغلوب، وشرع المختار يتحبب إلى الناس بحسن السيرة، ووجد في بيت المال تسعة آلاف ألف‏.‏

فأعطى الجيش الذين حضروا معه القتال نفقات كثيرة، واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل اليشكري، وقرب أشراف الناس فكانوا جلساءه، فشق ذلك على الموالي الذين قاموا بنصره، وقالوا‏:‏ لأبي عمرة كيسان مولى غزينة - وكان على حرسه - قدم والله أبو إسحاق العرب وتركنا‏.‏

فأنهى ذلك أبو عمرة إليه، فقال‏:‏ بل هم مني وأنا منهم، ثم قال‏:‏ {‏إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏22‏]‏‏.‏

فقال لهم أبو عمرة‏:‏ أبشروا فإنه سيدنيكم ويقربكم، فأعجبهم ذلك وسكتوا‏.‏

ثم إن المختار بعث الأمراء إلى النواحي والبلدان والرساتيق، من أرض العراق وخراسان، وعقد الألوية والرايات، وقرر الإمارة والولايات، وجعل يجلس للناس غدوة وعشية يحكم بينهم، فلما طال ذلك عليه استقصى شريحاً فتكلم في شريح طائفة من الشيعة‏.‏

وقالوا‏:‏ إنه شهد حجر بن عدي، وأنه لم يبلغ عن هانئ بن عروة كما أرسله به، وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء‏.‏

فلما بلغ شريحاً ذلك تمارض ولزم بيته، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم عزله وجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي قاضياً‏.‏

 فصل تتبع قتلة الحسين رضي الله عنه‏.‏

ثم شرع المختار يتتبع قتلة الحسين من شريف ووضيع فيقتله، وكان سبب ذلك أن عبيد الله بن زياد كان قد جهزه مروان من دمشق ليدخل الكوفة، فإن ظفر بها فليبحها ثلاثة أيام، فسار ابن زياد قاصداً الكوفة فلقي جيش التوابين فكان من أمرهم ما تقدم‏.‏

ثم سار من عين وردة حتى انتهى إلى الجزيرة فوجد بها قيس غيلان، وهم من أنصار ابن الزبير، وقد كان مروان أصاب منهم قتلى كثيرة يوم مرج راهط، فهم إلب عليه، وعلى ابنه عبد الملك من بعده، فتعوق عن المسير سنة وهو في حرب قيس غيلان بالجزيرة‏.‏

ثم وصل إلى الموصل فانحاز نائبها عنه إلى تكريت، وكتب إلى المختار يعلمه بذلك فندب المختار يزيد بن أنس في ثلاثة آلاف اختارها‏.‏

وقال له‏:‏ إني سأمدك بالرجال بعد الرجال‏.‏

فقال له‏:‏ لا تمدني إلا بالدعاء‏.‏

وخرج معه المختار إلى ظاهر الكوفة فودعه ودعا له وقال له‏:‏ ليكن خبرك في كل يوم عندي، وإذا لقيت عدوك فناجزك فناجزه، ولا تؤخر فرصة‏.‏

ولما بلغ مخرجهم ابن زياد جهز بين يديه سريتين، إحداهما مع ربيعة بن مخارق ثلاثة آلاف، والأخرى مع عبد الله بن حملة ثلاثة آلاف، وقال‏:‏ أيكم سبق فهو الأمير، وإن سبقتما معاً فالأمير عليكم أسنكما‏.‏

فسبق ربيعة بن مخارق إلى يزيد بن أنس فالتقيا في طرف أرض الموصل مما يلي الكوفة، فتواقفا هنالك، ويزيد بن أنس مريض مدنف، وهو مع ذلك يحرض قومه على الجهاد، ويدور على الأرباع، وهو محمول مضنى وقال للناس‏:‏ إن هلكت فالأمير على الناس عبد الله بن ضمرة الفزاري، وهو رأس الميمنة، وإن هلك فمسعر بن أبي مسعر رأس الميسرة، وكان ورقاء بن خالد الأسدي على الخيل‏.‏

وهو وهؤلاء الثلاثة أمراء الأرباع، وكان ذلك في يوم عرفة من سنة ست وستين عند إضاءة الصبح، فاقتتلوا هم والشاميون قتالاً شديداً، واضطربت كل من الميمنتين والميسرتين، ثم حمل ورقاء على الخيل فهزمها وفر الشاميون وقتل أميرهم ربيعة بن مخارق‏.‏

واحتاز جيش المختار ما في معسكر الشاميين، ورجع فرارهم فلقوا الأمير الآخر عبد الله بن حملة، فقال‏:‏ ما خبركم‏؟‏

فأخبروه فرجع بهم وسار بهم نحو يزيد بن أنس فانتهى إليهم عشاء، فبات الناس متحاجزين، فلما أصبحوا توافقوا على تعبئتهم، وذلك يوم الأضحى من سنة ست وستين، فاقتتلوا قتالاً شديداً‏.‏

فهزم جيش المختار جيش الشاميين أيضاً، وقتلوا أميرهم عبد الله بن حملة، واحتووا على ما في معسكرهم، وأسروا منهم ثلاثمائة أسير، فجاؤوا بهم إلى يزيد بن أنس وهو على آخر رمق، فأمر بضرب أعناقهم‏.‏

ومات يزيد بن أنس من يومه ذلك وصلى عليه خليفته ورقاء بن عامر ودفنه، وسقط في أيدي أصحابه وجعلوا يتسللون راجعين إلى الكوفة، فقال لهم ورقاء‏:‏ يا قوم، ماذا ترون‏؟‏

إنه قد بلغني أن ابن زياد قد أقبل في ثمانين ألفاً من الشام، ولا أرى لكم بهم طاقة، وقد هلك أميرنا، وتفرق عنا طائفة من الجيش من أصحابنا، فلو انصرفنا راجعين إلى بلادنا، ونظهر أنا إنما انصرفنا حزناً منا على أميرنا لكان خيراً لنا من أن نلقاهم فيهزموننا ونرجع مغلوبين، فاتفق رأي الأمراء على ذلك، فرجعوا إلى الكوفة‏.‏

فلما بلغ خبرهم أهل الكوفة، وأن يزيد بن أنس قد هلك، أرجف أهل الكوفة بالمختار وقالوا‏:‏ قتل يزيد بن أنس في المعركة وانهزم جيشه، وعما قليل يقدم عليكم ابن زياد فيستأصلكم ويشتف خضراكم‏.‏

ثم تمالؤا على الخروج على المختار، وقالوا‏:‏ هو كذاب، واتفقوا على حربه وقتاله وإخراجه من بين أظهرهم، واعتقدوا أنه كذاب‏.‏

وقالوا‏:‏ قد قدم موالينا على أشرافنا، وزعم أن ابن الحنفية قد أمره بالأخذ بثأر الحسين وهو لم يأمره بشيء، وإنما هو متقول عليه، وانتظروا بخروجهم عليه أن يخرج من الكوفة إبراهيم بن الأشتر فإنه قد عينه المختار أن يخرج في سبعة آلاف للقاء ابن زياد‏.‏

فلما خرج ابن الأشتر اجتمع أشراف الناس ممن كان في جيش قتلة الحسين وغيرهم في دار شبث بن ربعي، وأجمعوا أمرهم على قتال المختار، ثم وثبوا فركبت كل قبيلة مع أميرها في ناحية من نواحي الكوفة، وقصدوا قصر الإمارة، وبعث المختار عمرو بن ثوبة بريداً إلى إبراهيم بن الأشتر ليرجع إليه سريعاً‏.‏ وبعث المختار إلى أولئك يقول لهم‏:‏ ماذا تنقمون‏؟‏ فإني أجيبكم إلى جميع ما تطلبون، وإنما يريد أن يثبطهم عن مناهضته حتى قدم إبراهيم بن الأشتر، وقال‏:‏ إن كنتم لا تصدقونني في أمر محمد بن الحنفية فابعثوا من جهتكم وأبعث من جهتي من يسأله عن ذلك‏.‏

ولم يزل يطاولهم حتى قدم ابن الأشتر بعد ثلاث فانقسم هو والناس فرقتين، فتكفل المختار بأهل اليمن، وتكفل ابن الأشتر بمضر، وعليهم شبث بن ربعي، وكان ذلك بإشارة المختار، حتى لا يتولى ابن الأشتر بقتال قومه من أهل اليمن فيحنو عليهم وكان المختار شديداً عليهم‏.‏

ثم اقتتل الناس في نواحي الكوفة قتالاً عظيماً، وكثرت القتلى بينهم من الفريقين، وجرت فصول وأحوال حربية يطول استقاؤها، وقتل جماعة من الأشراف منهم عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الكندي، وسبعمائة وثمانين رجلاً من قومه، وقتل من مضر بضعة عشر رجلاً‏.‏

ويعرف هذا اليوم بجبانة السبيع، وكان ذلك يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، ثم كانت النصرة للمختار عليهم، وأسر منهم خمسمائة أسير‏.‏

فعرضوا عليه فقال‏:‏ انظروا من كان منهم شهد مقتل الحسين فاقتلوه، فقتل منهم مائتان وأربعون رجلاً، وقتل أصحابه منهم من كان يؤذيهم ويسيء إليهم بغير أمر المختار، ثم أطلق الباقين، وهرب عمرو بن الحجاج الزبيدي، وكان ممن شهد قتل الحسين فلا يدري أين ذهب من الأرض‏.‏

 مقتل شمر بن ذي الجوشن أمير السرية التي قتلت حسناً

وهرب أشراف الكوفة إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير، وكان ممن هرب لقصده شمر بن ذي الجوشن قبحه الله، فبعث المختار في أثره غلاماً له يقال‏:‏ زرنب، فلما دنا منه قال شمر لأصحابه‏:‏ تقدموا وذروني وراءكم بصفة أنكم هربتم وتركتموني حتى يطمع فيَّ هذا العلج‏.‏

فساقوا وتأخر شمر فأدركه زرنب فعطف عليه شمر فدق ظهره فقتله، وسار شمر وتركه، وكتب كتاباً إلى مصعب بن الزبير وهو بالبصرة ينذره بقدومه عليه، ووفادته إليه، وكان كل من فر من هذه الوقعة يهرب إلى مصعب بالبصرة، وبعث شمر الكتاب مع علج من علوج قرية قد نزل عندها يقال لها‏:‏ الكلبانية عند نهرٍ إلى جانب تلٍ هناك‏.‏

فذهب ذلك العلج فلقيه علج آخر فقال له‏:‏ إلى أين تذهب‏؟‏

قال‏:‏ إلى مصعب‏.‏

قال‏:‏ ممن‏؟‏

قال‏:‏ من شمر‏.‏

فقال‏:‏ اذهب معي إلى سيدي، وإذا سيده أبو عمرة أميري حرس المختار، وهو قد ركب في طلب شمر فدله العلج على مكانه فقصده أبو عمرة، وقد أشار أصحاب شمر عليه أن يتحول من مكانه ذلك، فقال لهم‏:‏ هذا كله فرق من الكذاب، والله لا أرتحل من ههنا إلى ثلاثة أيام حتى أملأ قلوبهم رعباً‏.‏

فلما كان الليل كابسهم أبو عمرة في الخيل فأعجلهم أن يركبوا أو يلبسوا أسلحتهم، وثار إليهم شمر بن ذي الجوشن فطاعنهم برمحه وهو عريان، ثم دخل خيمته فاستخرج منها سيفاً وهو يقول‏:‏

نبهتم ليث عرينٍ باسلا * جهماً محياه يدق الكاهلا

لم ير يوماً عن عدوٍ ناكلا * إلا أكرَّ مقاتلاً أو قاتلا

يزعجهم ضرباً ويروي العاملا

ثم ما زال يناضل عن نفسه حتى قتل، فلما سمع أصحابه وهم منهزمون صوت التكبير، وقول أصحاب المختار‏:‏ الله أكبر قتل الخبيث، عرفوا أنه قد قتل قبحه الله‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ عن يونس بن أبي إسحاق قال‏:‏ ولما خرج المختار من جبانة السبيع، وأقبل إلى القصر- يعني‏:‏ منصرفه من القتال - ناداه سراقة بن مرداس بأعلا صوته وكان في الأسرى‏.‏

أمنن عليّ اليوم يا خير معد * وخير من حل بشحر والجند

وخير من لبى وصام وسجد

قال‏:‏ فبعث إلى السجن فاعتقله ليلة، ثم أطلقه من الغد، فأقبل إلى المختار وهو يقول‏:‏

ألا أخبر أبا إسحاق أنا * نزونا نزوةً كانت علينا

خرجنا لا نرى الضعفاء شيئاً * وكان خروجنا بطراً وشينا

نراهم في مصافهم قليلاً * وهم مثل الربا حين التقينا

برزنا إذ رأيناهم فلما * رأينا القوم قد برزوا إلينا

رأينا منهم ضرباً وطحناً * وطعناً صائباً حتى انثنينا

نصرت على عدوك كل يومٍ * بكل كثيبةٍ تنعى حسيناً

كنصر محمدٍ في يوم بدرٍ * ويوم الشعب إذ لاقى حُنينا

فاسجح إذ ملكت فلو ملكنا * لجرنا في الحكومة واعتدينا

تقبل توبةً مني فإني * سأشكر إذ جعلت العفو دينا

وجعل سراقة بن مرداس يحلف أنه رأى الملائكة على الخيول البلق بين السماء والأرض، وأنه لم يأسره إلا واحد من أولئك الملائكة، فأمره المختار أن يصعد المنبر فيخبر الناس بذلك‏.‏

فصعد المنبر فأخبر الناس بذلك، فلما نزل خلا به المختار، فقال له‏:‏ إني قد عرفت أنك لم تر الملائكة، وإنما أردت بقولك هذا‏:‏ أني لا أقتلك، ولست أقتلك فاذهب حيث شئت لئلا تفسد على أصحابي‏.‏

فذهب سراقة إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير وجعل يقول‏:‏

ألا أخبر أبا إسحاق أني * رأيت البلق دهماً مصمتات

كفرت بوحيكم وجعلت نذراً * عليّ قتالكم حتى الممات

رأيت عيناي ما لم تبصراه * كلانا عالمٌ بالترهات

إذا قالوا‏:‏ أقول لهم كذبتم * وإن خرجوا لبست لهم أداتي

قالوا‏:‏ ثم خطب المختار أصحابه فحرضهم في خطبته تلك على من قتل الحسين من أهل الكوفة المقيمين بها، فقالوا‏:‏ ما ذنبنا نترك أقواماً قتلوا حسيناً يمشون في الدنيا أحياء آمنين، بئس ناصرو آل محمد، إني إذاً كذاب كما سميتموني أنتم، فإني بالله أستعين عليهم‏.‏

فالحمد لله الذي جعلني سيفاً أضربهم، ورمحاً أطعنهم، وطالب وترهم، وقائماً بحقهم، وأنه كان حقاً على الله أن يقتل من قتلهم، وأن يذل من جهل حقهم، فسموهم ثم اتبعوهم حتى تقتلوهم، فإنه لا يسيغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم، وأنفي من في المصر منهم‏.‏

ثم جعل يتتبع من في الكوفة - وكانوا يأتون بهم حتى يوقفوا بين يديه، فيأمر بقتلهم على أنواع من القتلات مما يناسب ما فعلوا -‏.‏

ومنهم من حرقه بالنار، ومنهم من قطع أطرافه وتركه حتى مات، ومنهم من يرمى بالنبال حتى يموت، فأتوه بمالك ابن بشر فقال له المختار‏:‏ أنت الذي نزعت برنس الحسين عنه‏؟‏

فقال‏:‏ خرجنا ونحن كارهون فامنن علينا‏.‏

فقال‏:‏ اقطعوا يديه ورجليه‏.‏

ففعلوا به ذلك ثم تركوه يضطرب حتى مات، وقتل عبد الله بن أسيد الجهني وغيره شر قتلة‏.‏

 مقتل خولي بن يزيد الأصبحي الذي احتز رأس الحسين

بعث إليه المختار أبا عمرة صاحب حرسه، فكبس بيته فخرجت إليهم امرأته فسألوها عنه فقالت‏:‏ لا أدري أين هو، وأشارت بيدها إلى المكان الذي هو مختف فيه - وكانت تبغضه من ليلة قدم برأس الحسين معه إليها، وكانت تلومه على ذلك - واسمها العبوق بنت مالك بن نهار بن عقرب الحضرمي‏.‏

فدخلوا عليه فوجدوه قد وضع على رأسه قوصرة فحملوه إلى المختار فأمر بقتله قريباً من داره، وأن يحرق بعد ذلك‏.‏

وبعث المختار إلى حكيم بن فضيل السنبسي - وكان قد سلب العباس بن علي بن أبي طالب يوم قتل الحسين - فأخذ فذهب أهله إلى عدي بن حاتم، فركب ليشفع فيه عند المختار، فخشي أولئك الذين أخذوه أن يسبقهم عدي إلى المختار فيشفعه فيه‏.‏

فقتلوا حكيماً قبل أن يصل إلى المختار، فدخل عدي فشفع فيه فشفعه فيه، فلما رجعوا وقد قتلوه شتمهم عدي وقام متغضباً عليهم وقد تقلد منّة المختار‏.‏

وبعث المختار إلى يزيد بن ورقاء وكان قد قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل، فلما أحاط الطلب بداره خرج فقاتلهم فرموه بالنبل والحجارة حتى سقط، ثم حرقوه وبه رمق الحياة‏.‏

وطلب المختار سنان بن أنس، الذي كان يدعي أنه قتل الحسين، فوجدوه قد هرب إلى البصرة أو الجزيرة فهدمت داره، وكان محمد بن الأشعث بن قيس ممن هرب إلى مصعب فأمر المختار بهدم داره، وأن يبنى بها دار حجر بن عدي التي كان زياد هدمها

 

 

مقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الذين قتلوا الحسين

قال الواقدي‏:‏ كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه جالساً ذات يوم، إذ جاء غلام له ودمه يسيل على عقبيه، فقال له سعد‏:‏ من فعل بك هذا‏؟‏

فقال‏:‏ ابنك عمر‏.‏

فقال سعد‏:‏ اللهم اقتله وأسل دمه‏.‏

وكان سعد مستجاب الدعوة‏.‏

فلما خرج المختار على الكوفة استجار عمر بن سعد بعبد الله بن جعدة بن هبيرة، وكان صديقاً للمختار من قرابته من علي، فأتى المختار فأخذ منه لعمر بن سعد أماناً مضمونه أنه آمن على نفسه، وأهله، وماله ما أطاع ولزم رحله ومصره، ما لم يحدث حدثاً‏.‏

وأراد المختار ما لم يأت الخلاء فيبول أو يغوط‏.‏

ولما بلغ عمر بن سعد أن المختار يريد قتله، خرج من منزله ليلاً يريد السفر نحو مصعب أو عبيد الله بن زياد، فنمى للمختار بعض مواليه ذلك‏.‏

فقال المختار‏:‏ وأي حدث أعظم من هذا‏؟‏

وقيل‏:‏ إن مولاه قال له ذلك، وقال له‏:‏ تخرج من منزلك ورحلك‏؟‏ ارجع، فرجع‏.‏

ولما أصبح بعث إلى المختار يقول له‏:‏ هل أنت مقيم على أمانك‏؟‏

وقيل‏:‏ إنه أتى المختار يتعرف منه ذلك فقال له المختار‏:‏ اجلس‏.‏

وقيل‏:‏ إنه أرسل عبد الله بن جعدة إلى المختار يقول له‏:‏ هل أنت مقيم على أمانك له‏؟‏

فقال له المختار‏:‏ اجلس، فلما جلس قال المختار لصاحب حرسه‏:‏ اذهب فأتني برأسه فذهب إليه فقتله وأتاه برأسه‏.‏

وفى رواية‏:‏ أن المختار قال ليلة‏:‏ لأقتلن غداً رجلاً عظيم القدمين، غائر العينين، مشرف الحاجبين، يسر بقتله المؤمنون والملائكة المقربون، وكان الهيثم بن الأسود حاضراً فوقع في نفسه أنه أراد عمر بن سعد فبعث إليه ابنه الغرثان فأنذره، فقال‏:‏ كيف يكون هذا بعد ما أعطاني من العهود والمواثيق‏؟‏

وكان المختار حين قدم الكوفة أحسن السيرة إلى أهلها أولاً، وكتب لعمر بن سعد كتاب أمان إلا أن يحدث حدثاً‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ وكان أبو جعفر الباقر يقول‏:‏ إنما أراد المختار إلا أن يدخل الكنيف فيحدث فيه، ثم أن عمر بن سعد قلق أيضاً، ثم جعل يتنقل من محلة إلى محلة، ثم صار أمره أنه رجع إلى داره، وقد بلغ المختار انتقاله من موضع إلى موضع، فقال‏:‏ كلا والله إن في عنقه سلسلة ترده لوجهه، إن يطير لأدركه دم الحسين فأخذ برجله‏.‏

ثم أرسل إليه أبا عمرة فأراد الفرار منه فعثر في جبته فضربه أبو عمرة بالسيف حتى قتله، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار‏.‏

فقال المختار لابنه حفص وكان جالساً عند المختار فقال‏:‏ أتعرف هذا الرأس‏؟‏

فاسترجع وقال‏:‏ نعم ولا خير في العيش بعده‏.‏

فقال‏:‏ صدقت، ثم أمر فضربت عنقه ووضع رأسه مع رأس أبيه‏.‏

ثم قال المختار‏:‏ هذا بالحسين وهذا بعلي بن الحسين الأكبر، ولا سواء، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنمله من أنامله‏.‏

ثم بعث المختار برأسيهما إلى محمد بن الحنفية، وكتب إليه كتاباً في ذلك‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد بن علي من المختار بن أبي عبيد، سلام عليك أيها المهدي، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد‏:‏

فإن الله بعثني نقمة على أعدائكم فهم بين قتيل وأسير، وطريد وشريد، فالحمد لله الذي قتل قاتلكم، ونصر مؤازركم، وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه، وقد قتلنا ممن اشترك في دم الحسين وأهل بيته كل من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقي، ولست بمنحجم عنهم حتى يبلغني أنه لم يبق وجه على الأرض منهم أحد، فاكتب إلي أيها المهدي برأيك أتبعه وأكون عليه، والسلام عليك أيها المهدي ورحمه الله وبركاته‏.‏

ولم يذكر ابن جرير أن محمد بن الحنفية رد جوابه، مع أن ابن جرير قد تقصى هذا الفصل، وأطال شرحه، ويظهر من غبون كلامه قوة وجده وغرامه، ولهذا توسع في إيراده بروايات أبي مخنف لوط بن يحيى، وهو متهم فيما يرويه، ولا سيما في باب التشيع‏.‏

وهذا المقام للشيعة فيه غرام وأي غرام، إذ فيه الأخذ بثأر الحسين وأهله من قتلتهم، والانتقام منهم، ولا شك أن قتل قتلته كان متحتماً، والمبادرة إليه كان مغنماً، ولكن إنما قدرة الله على يد المختار الكذاب الذي صار بدعواه إتيان الوحي إليه كافراً‏.‏

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر‏)‏‏)‏‏.‏

وقال تعالى في كتابه الذي هو أفضل ما يكتبه الكاتبون‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏ 129‏]‏‏.‏

وقال بعض الشعراء‏:‏

وما من يد إلا يد الله فوقها * ولا ظالم إلا سيبلى بظالم

وسيأتي في ترجمة المختار ما يدل على كذبه وافترائه، وادعائه نصرة أهل البيت، وهو في نفس الأمر متستر بذلك ليجمع عليه رعاعاً من الشيعة الذين بالكوفة، ليقيم لهم دولة ويصول بهم ويجول على مخالفيه صولة‏.‏

ثم إن الله تعالى سلط عليه من انتقم منه، وهذا هو الكذاب الذي قال فيه الرسول في حديث أسماء بنت الصديق‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه سيكون في ثقيف كذاب ومبير‏)‏‏)‏‏.‏

فهذا هو الكذاب وهو يظهر التشيع، وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد ولي الكوفة من جهة عبد الملك بن مروان كما سيأتي، وكان الحجاج عكس هذا، كان ناصبياً جلداً ظالماً غاشماً، ولكن لم يكن في طبقة هذا، متهم على دين الإسلام ودعوة النبوة، وأنه يأتيه الوحي من العليَّ العلام‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة بعث المختار المثنى بن مخرمة العبدي إلى البصرة يدعو إليه من استطاع من أهلها، فدخلها وابتنى بها مسجداً يجتمع فيه إليه قومه، فجعل يدعو إلى المختار، ثم أتى مدينة الورق فعسكر عندها فبعث إليه الحارث بن عبد الله بن ربيعة القباع - وهو أمير البصرة قبل أن يعزل بمصعب -جيشاً مع عباد بن الحصين أمير الشرطة، وقيس بن الهيثم‏.‏

فقاتلوه وأخذوا منه المدينة وانهزم أصحابه، وكان قد قام بنصرتهم بنو عبد القيس، فبعث إليهم الجيش فبعثوا إليه فأرسل الأحنف بن قيس وعمرو بن عبد الرحمن المخزومي ليصلحا بين الناس، وساعدهما مالك بن مسمع، فانحجز الناس بعضهم عن بعض، ورجع إلى المختار في نفر يسير مغلولاً مغلوباً مسلوباً‏.‏

وأخبر المختار بما وقع من الصلح على يدي الأحنف وغيره من أولئك الأمراء، وطمع المختار فيهم وكاتبهم في أن يدخلوا معه فيما هو فيه من الأمر‏.‏

وكان كتابه إلى الأحنف بن قيس من المختار إلى الأحنف بن قيس ومن قبله من الأمراء‏:‏ أفسلم أنتم أما بعد‏:‏

فويل لبني ربيعة من مضر، وأن الأحنف يورد قومه سقر، حيث لا يستطيع لهم صدر، وإني لا أملك لكم ما قد خط في القدر، وقد بلغني أنكم سميتموني الكذاب، وقد كُذِّب الأنبياء من قبلي ولست بخير منهم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، ثنا الحسن بن حماد، عن حماد بن علي، عن مجالد، عن الشعبي‏.‏

قال‏:‏ دخلت البصرة فقعدت إلى حلقة فيها الأحنف بن قيس، فقال بعض القوم‏:‏ ممن أنت‏؟‏

فقلت‏:‏ رجل من أهل الكوفة‏.‏

فقال‏:‏ أنتم موالٍ لنا‏.‏

قلت‏:‏ وكيف‏؟‏

قال‏:‏ أنقذناكم من أيدي عبيدكم من أصحاب المختار‏.‏

قلت‏:‏ أتدري ما قال شيخ من همدان فينا وفيكم‏؟‏

فقال الأحنف‏:‏ وما قال‏؟‏

قلت‏:‏ قال‏:‏ :‏

 أفخرتم أن قتلتم أعبداً * وهزمتم مرةً آل عدل

فإذا فاخرتمونا فاذكروا * ما فعلنا بكم يوم الجمل

بين شيخٍ خاضبٍ عثبونه * وفتى البيضاء وضاحاً دقل

جاء يهدج في سابغةٍ * فذبحناه ضحىً ذبح الجمل

وعفونا فنسيتم عفونا * وكفرتم نعمة الله الأجل

وقتلتم بحسينٍ منهم * بدلاً من قومكم شر بدل

قال‏:‏ فغضب الأحنف وقال‏:‏ يا غلام هات الصحيفة، فأتى بصحيفة فيها‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم من المختار بن أبي عبيد إلى الأحنف بن قيس، أما بعد‏.‏

فويل لبني ربيعة من مضر، فإن الأحنف يورد قومه سقر حيث لا يقدرون على الصدر، وقد بلغني أنكم تكذبوني، فإن كُذِّبتُ فقد كُذِّبتْ رسل من قبلي، ولست بخير منهم، ثم قال الأحنف‏:‏ هذا منا أو منكم‏.‏

 فصل خداع المختار ومكره بابن الزبير‏.‏

ولما علم المختار أن ابن الزبير لا ينام عنهم، وأن جيش الشام من قبل عبد الملك مع ابن زياد يقصدونه في جمع كثير لا يرام، شرع يصانع ابن الزبير ويعمل على خداعه والمكر به، فكتب إليه‏:‏

إني كنت بايعتك على السمع والطاعة والنصح لك، فلما رأيتك قد أعرضت عني تباعدت عنك، فإن كنت على ما أعهد منك فأنا على السمع والطاعة لك، والمختار يخفي هذا كل الإخفاء عن الشيعة، فإذا ذكر له أحد شيئاً من ذلك أظهر لهم أنه أبعد الناس من ذلك‏.‏

فلما وصل كتابه إلى ابن الزبير أراد أن يعلم أصادق أم كاذب، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، فقال له‏:‏ تجهز إلى الكوفة فقد وليتكها‏.‏

فقال‏:‏ وكيف وبها المختار‏؟‏

فقال‏:‏ يزعم أنه سامع لنا مطيع، وأعطاه قريباً من أربعين ألفاً يتجهز بها، فسار فلما كان ببعض الطريق لقيه زائدة بن قدامة من جهة المختار في خمسمائة فارس ملبسة، ومعه سبعون ألفاً من المال، وقد تقدم إليه المختار فقال‏:‏ أعطه المال، فإن هو انصرف وإلا فأره الرجال فقاتله حتى ينصرف‏.‏

فلما رأى عمر بن عبد الرحمن الجد، قبض المال وسار إلى البصرة فاجتمع هو وابن مطيع بها عند أميرها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وذلك قبل وثوب المثنى بن مخرمة كما تقدم، وقبل وصول مصعب بن الزبير إليها‏.‏

وبعث عبد الملك بن مروان ابن عمه عبد الملك بن الحارث بن الحكم في جيش إلى وادي القرى ليأخذوا المدينة من نواب ابن الزبير‏.‏

وكتب المختار إلى ابن الزبير‏:‏ إن أحببت أن أمدك بمدد، وإنما يريد خديعته ومكايدته‏.‏

فكتب إليه ابن الزبير‏:‏ إن كنت على طاعتي فلست أكره ذلك، فابعث بجند إلى وادي القرى ليكونوا مدداً لنا على قتال الشاميين‏.‏

فجهز المختار ثلاثة آلاف عليهم شرحبيل بن ورس الهمداني، ليس فيهم من العرب إلا سبعمائة، وقال له‏:‏ سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلت فاكتب إلي حتى يأتيك أمري، وإنما يريد أخذ المدينة من ابن الزبير، ثم يركب بعد ذلك إلى مكة ليحاصر ابن الزبير بها، وخشي ابن الزبير أن يكون المختار بعث ذلك الجيش مكراً‏.‏

فبعث العباس بن سهل بن سعد الساعدي في ألفين، وأمره أن يستعين بالأعراب وقال لهم‏:‏ إن رأيتموهم في طاعتي وإلا فكايدوهم حتى يهلكهم الله‏.‏

فأقبل العباس بن سهل حتى لقي ابن ورس بالرقيم، وقد بقي ابن ورس في جيشه، فاجتمعا على ماء هنالك، فقال له العباس‏:‏ ألستم في طاعة ابن الزبير‏؟‏

فقال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فإنه قد أمرني أن نذهب إلى وادي القرى فنقاتل من به من الشاميين‏.‏

فقال له ابن ورس‏:‏ فإني لم أومر بطاعتك، وإنما أمرني أن أدخل المدينة ثم أكتب إلى صاحبي فإنه يأمرني بأمره، ففهم عباس مغزاه، ولم يظهر له أنه فطن لذلك‏.‏

فقال له‏:‏ رأيك أفضل، فاعمل ما بدا لك‏.‏

ثم نهض العباس من عنده وبعث إليهم الجزر والغنم والدقيق، وقد كان عندهم حاجة شديدة إلى ذلك وجوع كثير، فجعلوا يذبحون ويطبخون ويختبزون ويأكلون على ذلك الماء، فلما كان الليل بيتهم عباس بن سهل فقتل أميرهم وطائفة منهم نحواً من سبعين، وأسر منهم خلقاً كثيراً فقتل أكثرهم، ورجع القليل منهم إلى المختار، وإلى بلادهم خائبين‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ فحدثني أبو يوسف أن عباس بن سهل انتهى إليهم وهو يقول‏:‏

أنا ابن سهلٍ فارسٍ غير وكل * أروع مقدامٌ إذا الكبش نكل

وأعتلي رأس الطرماح البطل * بالسيف يوم الروع حتى ينجدل

فلما بلغ خبرهم المختار قام في أصحابه خطيباً فقال‏:‏ إن الفجار الأشرار قتلوا الأبرار الأخيار، إلا إنه كان أمراً مأتياً، وقضاء مقضياً‏.‏

ثم كتب إلى محمد بن الحنفية مع صالح بن مسعود الخثعمي‏:‏ كتاباً يذكر فيه أنه بعث إلى المدينة جيشاً لنصرته، فغدر بهم جيش ابن الزبير، فإن رأيت أن أبعث جيشاً آخر إلى المدينة وتبعث من قبلك رسلاً إليهم فافعل‏.‏

فكتب إليه ابن الحنفية‏:‏ أما بعد، فإن أحب الأمور كلها إليّ ما أطيع الله فيه، فأطع الله فيما أسررت وأعلنت، واعلم أني لو أردت القتال لوجدت الناس إليّ سراعاً، والأعوان لي كثيرة، ولكني أعتزلهم وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين‏.‏

وقال لصالح بن مسعود‏:‏ قل للمختار فليتق الله وليكف عن الدماء‏.‏

فلما انتهى إليه كتاب محمد بن الحنفية قال‏:‏ إني قد أمرت بجمع البر واليسر، وبطرح الكفر والغدر‏.‏

وذكر ابن جرير من طريق المدائني وأبي مخنف‏:‏ أن ابن الزبير عمد إلى ابن الحنفية وسبعة عشر رجلاً من أشراف أهل الكوفة فحبسهم حتى يبايعوه، فكرهوا أن يبايعوا إلا من اجتمعت عليه الأمة، فتهددهم وتوعدهم واعتقلهم بزمزم، فكتبوا إلى المختار بن أبي عبيد يستصرخونه ويستنصرونه، ويقولون له‏:‏

إن ابن الزبير قد توعدنا بالقتل والحريق، فلا تخذلونا كما خذلتم الحسين وأهل بيته‏.‏

فجمع المختار الشيعة وقرأ عليهم الكتاب وقال‏:‏ هذا صريخ أهل البيت يستصرخكم ويستنصركم‏.‏

فقام في الناس بذلك وقال‏:‏ لست أنا بأبي إسحاق إن لم أنصركم نصراً مؤزراً، وإن لم أرسل إليهم الخيل كالسيل يتلوه السيل، حتى يحل بابن الكاهلية الويل‏.‏

ثم وجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكباً من أهل القوة، وظبيان بن عمر التيمي في أربعمائة، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، وكتب إلى محمد بن الحنفية مع الطفيل بن عامر بتوجيه الجنود إليه‏.‏

فنزل أبو عبد الله الجدلي بذات عرق حتى تلاحق به نحو من مائة وخمسين فارساً، ثم سار بهم حتى دخل المسجد الحرام نهاراً جهاراً وهم يقولون‏:‏ يا ثارات الحسين‏.‏

وقد أعد ابن الزبير الحطب لابن الحنفية وأصحابه ليحرقهم به إن لم يبايعوه، وقد بقي من الأجل يومان، فعمدوا - يعني أصحاب المختار - إلى محمد بن الحنفية فأطلقوه من سجن ابن الزبير، وقالوا‏:‏ إن أذنت لنا قاتلنا ابن الزبير‏.‏

فقال‏:‏ إني لا أرى القتال في المسجد الحرام‏.‏

فقال لهم ابن الزبير‏:‏ ليس نبرح وتبرحون حتى يبايع وتبايعوا معه، فامتنعوا عليه ثم لحقهم بقية أصحابهم فجعلوا يقولون وهم داخلون الحرم‏:‏ يا ثارات الحسين‏.‏

فلما رأى ابن الزبير ذلك منهم خافهم وكف عنهم، ثم أخذوا محمد بن الحنفية وأخذوا من الحجيج مالاً كثيراً فسار بهم حتى دخل شعب علي، واجتمع معه أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال‏.‏

هكذا أورده ابن جرير وفي صحتها نظر والله أعلم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان نائبه بالمدينة أخاه مصعب، ونائبه على البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وقد استحوذ المختار على الكوفة، وعبد الله بن خازم على بلاد خراسان، وذكر حروباً جرت فيها لعبد الله بن خازم يطول ذكرها‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة سار إبراهيم بن الأشتر إلى عبيد الله بن زياد، وذلك لثمان بقين من ذي الحجة

 فصل مسير إبراهيم بن الأشتر إلى عبيد الله بن زياد

وقال أبو مخنف عن مشايخه‏:‏ ما هو إلا أن فرغ المختار من جبانة السبيع وأهل الكناسة، فما ترك ابن الأشتر إلا يومين حتى أشخصه إلى الوجه الذي كان وجهه فيه لقتال أهل الشام‏.‏

فخرج يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، وخرج معه المختار يودعه في وجوه أصحابه، وخرج معهم خاصة المختار، ومعهم كرسي المختار على بغل أشهب ليستنصروا به على الأعداء، وهم حافون به يدعون ويستصرخون ويستنصرون ويتضرعون‏.‏

فرجع المختار بعد أن وصاه بثلاث قال‏:‏ يا ابن الأشتر اتق الله في سرك وعلانيتك، وأسرع السير، وعاجل عدوك بالقتال‏.‏

واستمر أصحاب الكرسي سائرين مع ابن الأشتر، فجعل ابن الأشتر يقول‏:‏ اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، سنة بني إسرائيل والذي نفسي بيده إذ عكفوا على عجلهم، فلما جاوز القنطرة هو وأصحابه رجع أصحاب الكرسي‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وكان سبب اتخاذ هذا الكرسي ما حدثني به عبد الله بن أحمد بن شيبويه، حدثني أبي، ثنا سليمان، ثنا عبد الله بن المبارك، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، حدثني معد بن خالد، حدثني طفيل بن جعدة بن هبيرة قال‏:‏ أعدمت مرة من الورق فإني كذلك إذ مررت بباب رجل هو جار لي له كرسي قد ركبه وسخ شديد، فخطر في بالي أن لو قلت في هذا، فرجعت فأرسلت إليه أن أرسل إلي بالكرسي‏.‏

فأرسل به، فأتيت المختار فقلت له‏:‏ إني كنت أكتمك شيئاً وقد بدا لي أن أذكره إليك‏.‏

قال‏:‏ وما هو‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ كرسي كان جعدة بن هبيرة يجلس عليه كأنه كان يرى أن فيه أثرة من علم‏.‏

قال‏:‏ سبحان الله ‏!‏‏!‏ فلم أخرت هذا إلى اليوم‏؟‏ ابعثه إليَّ‏.‏

قال‏:‏ فجئت به وقد غسل فخرج عوداً ناضراً وقد شرب الزيت، فأمر لي باثني عشر ألفاً، ثم نودي في الناس‏:‏ الصلاة جامعة‏.‏

قال‏:‏ فخطب المختار الناس فقال‏:‏ إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وأنه قد كان في بني إسرائيل تابوت يستنصرون به، وإن هذا مثله‏.‏

ثم أمر فكشف عنه أثوابه وقامت السبابية فرفعوا أيديهم وكبروا ثلاثاً، فقام شبث بن ربعي فأنكر على الناس وكاد أن يُكَفر من يصنع بهذا التابوت هذا التعظيم‏.‏

وأشار بأن يكسر ويخرج من المسجد ويرمى في الخنس، فشكرها الناس لشبث بن ربعي‏.‏

فلما قيل‏:‏ هذا عبيد الله بن زياد قد أقبل، وبعث المختار ابن الأشتر، بعث معه بالكرسي يحمل على بغل أشهب قد غشي بأثواب الحرير، عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة‏.‏

فلما تواجهوا مع الشاميين كما سيأتي وغلبوا الشاميين وقتلوا ابن زياد، ازداد تعظيمهم لهذا الكرسي حتى بلغوا به الكفر‏.‏

قال الطفيل بن جعدة فقلت‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، وندمت على ما صنعت، وتكلم الناس في هذا الكرسي وكثر عيب الناس له، فغيب حتى لا يرى بعد ذلك‏.‏

وذكر ابن الكلبي أن المختار طلب من آل جعدة بن هبيرة الكرسي الذي كان علي يجلس عليه فقالوا‏:‏ ما عندنا شيء مما يقول الأمير، فألح عليهم حتى علموا أنهم لو جاؤوا بأي كرسي كان لقبله منهم‏.‏

فحملوا إليه كرسياً من بعض الدور فقالوا‏:‏ هذا هو، فخرجت شبام، وشاكر، وسائر رؤس المختارية وقد عصبوه بالحرير والديباج‏.‏

وحكى أبو مخنف‏:‏ أن أول من سدن هذا الكرسي موسى بن أبي موسى الأشعري، ثم أن الناس عتبوا عليه في ذلك فرفعه إلى حوشب البرسمي، وكان صاحبه حتى هلك المختار قبحه الله‏.‏

ويروى أن المختار كان يظهر أنه لا يعلم بما يعظم أصحابه هذا الكرسي، وقد قال في هذا الكرسي أعشى همدان‏:‏

شهدت عليكم أنكم سبائية * وأني بكم يا شرطة الشرك عارف

وأقسم ما كُرْسِيُّكُمْ بسكينةٍ * وإن كان قد لفت عليه اللفائف

وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت * شبام حواليه ونهد وخارف

وإني امرؤٌ أحببت آل محمدٍ * وتابعت وحياً ضمنته المصاحف

وتابعت عبد الله لما تتابعت * عليه قريشٌ شمطها والغطارف

وقال المتوكل الليثي‏:‏

أبلغ أبا إسحاق إن جئته * أني بِكُرْسِيُّكم كافر

تنزوا شبامٌ حول أعواده * وتحمل الوحي له شاكر

محمرةٌ أعينهم حوله * كأنهن الحمص الحادر

قلت‏:‏ هذا وأمثاله مما يدل على قلة عقل المختار وأتباعه، وضعفه علمه وكثرة جهله، ورادءة فهمه، وترويجه الباطل على أتباعه وتشبهه الباطل بالحق ليضل به الطغام، ويجمع عليه جهال العوام‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة وقع في مصر طاعون هلك فيه خلق كثير من أهلها‏.‏

وفيها‏:‏ ضرب الدنانير عبد العزيز بن مروان بمصر، وهو أول من ضربها بها‏.‏

قال صاحب ‏(‏مرآت الزمان‏)‏ وفيها‏:‏ ابتدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة الجامع الأقصى، وكملت عمارته في سنة ثلاث وسبعين‏.‏

وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة، وكان يخطب في أيام منى وعرفة، ومقام الناس بمكة، وينال من عبد الملك ويذكر مساوي بني مروان، ويقول‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الحكم وما نسل، وأنه طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعينه، وكان يدعو إلى نفسه، وكان فصيحاً، فمال معظم أهل الشام إليه‏.‏

وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجوا، فبنى القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ويستعطف قلوبهم، وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة‏.‏

وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم، ففتح بذلك على نفسه بأن شنع ابن الزبير عليه، وكان يشنع عليه بمكة ويقول‏:‏ ضاهى بها فعل الأكاسرة في إيوان كسرى، والخضراء، كما فعل معاوية‏.‏

ولما أراد عبد الملك عمارة بيت المقدس وجه إليه بالأموال والعمال، ووكل بالعمل رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام مولاه، وجمع الصناع من أطراف البلاد وأرسلهم إلى بيت المقدس، وأرسل إليه بالأموال الجزيلة الكثيرة، وأمر رجاء بن حيوة ويزيد أن يفرغا الأموال إفراغاً ولا يتوقفا فيه‏.‏

فبثوا النفقات وأكثروا، فبنوا القبة فجاءت من أحسن البناء، وفرشاها بالرخام الملون، وعملا للقبة جلالين أحدهما من اليود الأحمر للشتاء، وآخر من أدم للصيف، وحفا القبة بأنواع الستور، وأقاما لها سدنة وخداماً بأنواع الطيب والمسك والعنبر والماورد والزعفران، ويعملون منه غالية ويبخرون القبة والمسجد من الليل‏.‏

وجعل فيها من قناديل الذهب والفضة وسلاسل الذهب والفضة شيئاً كثيراً، وجعل فيها العود القماري المغلف بالمسك وفرشاها والمسجد بأنواع البسط الملونة‏.‏

وكانوا إذا أطلقوا البخور شم من مسافة بعيدة، وكان إذا رجع الرجل من بيت المقدس إلى بلاده توجد منه رائحة المسك والطيب والبخور أياماً، ويعرف أنه قد أقبل من بيت المقدس، وأنه دخل الصخرة، وكان فيه من السدنة والقوم القائمين بأمره خلق كثير، ولم يكن يومئذٍ على وجه الأرض بناء أحسن ولا أبهى من قبة صخرة بيت المقدس، بحيث إن الناس التهوا بها عن الكعبة والحج، وبحيث كانوا لا يلتفتون في موسم الحج وغيره إلى غير المسير إلى بيت المقدس‏.‏

وافتتن الناس بذلك افتناناً عظيماً، وأتوه من كل مكان، وقد عملوا فيه من الإشارات والعلامات المكذوبة شيئاً كثيراً مما في الآخرة، فصوروا فيه صورة الصراط وباب الجنة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووادي جهنم، وكذلك في أبوابه ومواضع منه، فاغتر الناس بذلك وإلى زماننا‏.‏

وبالجملة أن صخرة بيت المقدس لما فرغ من بنائها لم يكن لها نظير على وجه الأرض بهجة ومنظراً، وقد كان فيها من الفصوص والجواهر والفسيفساء وغير ذلك شيء كثير، وأنواع باهرة‏.‏

ولما فرغ رجاء بن حيوة، ويزيد بن سلام من عمارتها على أكمل الوجوه فضل من المال الذي أنفقاه على ذلك ستمائة ألف مثقال‏.‏

وقيل‏:‏ ثلاثمائة ألف مثقال، فكتبا إلى عبد الملك يخبرانه بذلك، فكتب إليهما‏:‏ قد وهبته منكما‏.‏

فكتبا إليه‏:‏ إنا لو استطعنا لزدنا في عمارة هذا المسجد من حلي نسائنا‏.‏

فكتب إليهما‏:‏ إذ أبيتما أن تقبلاه فأفرغاه على القبة والأبواب، فما كان أحد يستطيع أن يتأمل القبة مما عليها من الذهب القديم والحديث‏.‏

فلما كان في خلافة أبي جعفر المنصور قدم بيت المقدس في سنة أربعين ومائة، فوجد المسجد خراباً، فأمر أن يقلع ذلك الذهب والصفائح التي على القبة والأبواب، وأن يعمروا بها ما تشعث في المسجد، ففعلوا ذلك‏.‏

وكان المسجد طويلاً فأمر أن يؤخذ من طوله ويزداد في عرضه، ولما كمل البناء كتب على القبة ممايلي الباب القبلي‏:‏ أمر ببنائه بعد تشعيثه أمير المؤمنين عبد الملك سنة اثنتين وستين من الهجرة النبوية، وكان طول المسجد من القبلة إلى الشمال سبعمائة وخمسة وستون ذراعاً، وعرضه أربعمائة وستون ذراعاً، وكان فتوح القدس سنة ستة عشر والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 

 ثم دخلت سنة سبع وستين

ففيها‏:‏ كان مقتل عبيد الله بن زياد على يدي إبراهيم بن الأشتر النخعي، وذلك أن إبراهيم بن الأشتر خرج من الكوفة يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة في السنة الماضية‏.‏

ثم استهلت هذه السنة وهو سائر لقصد ابن زياد في أرض الموصل، فكان اجتماعهما بمكان يقال له‏:‏ الخازر، بينه وبين الموصل خمسة فراسخ، فبات ابن الأشتر تلك الليلة ساهراً لا يستطيع النوم‏.‏

فلما كان قريب الصبح نهض فعبى جيشه وكتَّبَ كتائبه، وصلى بأصحابه الفجر في أول وقت، ثم ركب فناهض جيش ابن زياد، وزحف بجيشه رويداً وهو ماشٍ في الرجالة حتى أشرف من فوق تلٍ على جيش ابن زياد، فإذا هم لم يتحرك منهم أحد‏.‏

فلما رأوهم نهضوا إلى خيلهم وسلاحهم مدهوشين، فركب ابن الأشتر فرسه وجعل يقف على رايات القبائل فيحرضهم على قتال ابن زياد ويقول‏:‏

هذا قاتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جاءكم الله به وأمكنكم الله منه اليوم، فعليكم به فإنه قد فعل في ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يفعله فرعون في بني إسرائيل هذا ابن زياد قاتل الحسين الذي حال بينه وبين ماء الفرات أن يشرب منه هو وأولاده ونساؤه، ومنعه أن ينصرف إلى بلده أو يأتي يزيد بن معاوية حتى قتله‏.‏

ويحكم ‏!‏‏!‏ اشفوا صدوركم منه، وارووا رماحكم وسيوفكم من دمه، هذا الذي فعل في آل نبيكم ما فعل، قد جاءكم الله به‏.‏

ثم أكثر من هذا القول وأمثاله، ثم نزل تحت رايته، وأقبل ابن زياد في خيله ورجله في جيش كثيف قد جعل على ميمنته حصين بن نمير وعلى الميسرة عمير بن الحباب السلمي - وكان قد اجتمع بابن الأشتر ووعده أنه معه وأنه سيهزم بالناس غداً - وعلى خيل ابن زياد شرحبيل بن الكلاع، وابن زياد في الرجالة يمشي معهم‏.‏

فما كان إلا أن تواقفا الفريقان حتى حمل حصين بن نمير بالميمنة على ميسرة أهل العراق فهزمها، وقتل أميرها علي بن مالك الجشمي فأخذ رايته من بعده ولده محمد بن علي فقتل أيضاً، واستمرت الميسرة ذاهبة فجعل الأشتر يناديهم‏:‏

إلي يا شرطة الله، أنا ابن الأشتر، وقد كشف عن رأسه ليعرفوه، فالتاثوا به وانعطفوا عليه، واجتمعوا إليه، ثم حملت ميمنة أهل الكوفة على ميسرة أهل الشام‏.‏

وقيل‏:‏ بل انهزمت ميسرة أهل الشام وانحازت إلى ابن الأشتر، ثم حمل ابن الأشتر بمن معه وجعل يقول لصاحب رايته‏:‏ ادخل برايتك فيهم‏.‏

وقاتل ابن الأشتر يومئذٍ قتالاً عظيماً، وكان لا يضرب بسيفه رجلاً إلا صرعه، وكثرت القتلى بينهم‏.‏

وقيل‏:‏ إن ميسرة أهل الشام ثبتوا وقاتلوا قتالاً شديداً بالرماح ثم بالسيوف، ثم أردف الحملة ابن الأشتر فانهزم جيش الشام بين يديه، فجعل يقتلهم كما يقتل الحملان، واتبعهم بنفسه ومن معه من الشجعان، وثبت عبيد الله بن زياد في موقفه حتى اجتاز به ابن الأشتر فقتله وهو لا يعرفه، لكن قال لأصحابه‏:‏

التمسوا في القتلى رجلاً ضربته بالسيف فنفحتني منه ريح المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه، وهو واقف عند راية منفردة على شاطئ نهر خازر‏:‏ فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد، وإذا هو قد ضربه ابن الأشتر فقطعه نصفين، فاحتزوا رأسه وبعثوه إلى المختار إلى الكوفة مع البشارة بالنصر والظفر بأهل الشام‏.‏

وقتل من رؤوس أهل الشام أيضاً‏:‏ حصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع‏.‏

واتبع الكوفيون أهل الشام فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم أكثر ممن قتل، واحتازوا ما في معسكرهم من الأموال والخيول‏.‏

وقد كان المختار بشر أصحابه بالنصر قبل أن يجيء الخبر، فما ندري أكان ذلك تفاؤلاً منه أو اتفاقاً وقع له أو كهانة‏.‏

وأما على ما كان يزعم أصحابه أنه أوحى إليه بذلك فلا، فإن من اعتقد ذلك كفر ومن أقرهم على ذلك كفر، لكن قال‏:‏ إن الوقعة كانت بنصيبين فأخطأ مكانها، فإنها إنما كانت بأرض الموصل، وهذا مما انتقده عامر الشعبي على أصحاب المختار حين جاءه الخبر‏.‏

وقد خرج المختار من الكوفة ليتلقى البشارة، فأتى المدائن فصعد منبرها فبينما هو يخطب إذ جاءته البشارة وهو هنالك‏.‏

قال الشعبي‏:‏ فقال لي بعض أصحابه‏:‏ أما سمعته بالأمس يخبرنا بهذا‏؟‏

فقلت له‏:‏ زعم أن الوقعة كانت بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما قال البشير‏:‏ إنهم كانوا بالخازر من أرض الموصل‏.‏

فقال‏:‏ والله لا تؤمن يا شعبي حتى ترى العذاب الأليم‏.‏

ثم رجع المختار إلى الكوفة‏.‏

وفي غيبته هذه تمكن جماعة ممن كان قاتله يوم جبانة السبيع والكناسة من الخروج إلى مصعب بن الزبير إلى البصرة، وكان منهم شبث بن ربعي، وأما ابن الأشتر فإنه بعث بالبشارة وبرأس ابن زياد وبعث رجلاً على نيابة نصيبين واستمر مقيماً في تلك البلاد، وبعث عمالاً إلى الموصل وأخذ سنجار ودارا وما ولاها من الجزيرة‏.‏

وقال أبو أحمد الحاكم‏:‏ كان مقتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة ست وستين، والصواب‏:‏ سنة سبع وستين‏.‏

وقد قال سراقة بن مرداس البارقي يمدح ابن الأشتر على قتله ابن زياد‏:‏ :

أتاكم غلام من عرانين مذحج * جريءٌ على الأعداء غير نكول

فيا بن زيادٍ بؤ بأعظم هالكٍ * وذق حدَّ ماضي الشفرتين صقيل

ضربناك بالعضب الحسام بحده * إذا ما أتانا قتيلاً بقتيل

جزى الله خيراً شرطة الله إنهم * شفوا من عبيد الله أمس غليلي

 وهذه ترجمة ابن زياد

هو عبيد الله بن زياد بن عبيد، المعروف‏:‏ بابن زياد بن أبي سفيان، ويقال له‏:‏ زياد بن أبيه، وابن سمية، أمير العراق بعد أبيه زياد‏.‏

وقال ابن معين‏:‏ ويقال له عبيد الله بن مرجانة وهي أمه‏.‏

وقال غيره‏:‏ وكانت مجوسية، وكنيته أبو حفص، وقد سكن دمشق بعد يزيد بن معاوية، وكانت له دار عند الديماس تعرف بعده بدار ابن عجلان، وكان مولده في سنة تسع وثلاثين فيما حكاه ابن عساكر عن أبي العباس أحمد بن يونس الضبي‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وروى الحديث عن معاوية، وسعد بن أبي وقاص، ومعقل بن يسار‏.‏

وحدث عنه الحسن البصري، وأبو المليح بن أسامة‏.‏

وقال أبو نعيم الفضل ابن دكين‏:‏ ذكروا أن عبيد الله بن زياد حين قتل الحسين كان عمره ثمانياً وعشرين سنة‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا يكون مولده سنة ثلاث وثلاثين فالله أعلم‏.‏

وقد روى ابن عساكر‏:‏ أن معاوية كتب إلى زياد‏:‏ أن أوفد إليَّ ابنك، فلما قدم عليه لم يسأله معاوية عن شيء إلا نفذ منه، حتى سأله عن الشعر فلم يعرف منه شيئاً، فقال له‏:‏ ما منعك من تعلم الشعر‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إني كرهت أن أجمع في صدري مع كلام الرحمن كلام الشيطان‏.‏

فقال معاوية‏:‏ اغرب فوالله ما منعني من الفرار يوم صفين إلا قول ابن الأطنابة حيث يقول‏:‏

أبت لي عفتي وأبي بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإعطائي على الإعدام مالي * وإقدامي على البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريح

لأدفع عن مآثر صالحاتٍ * وأحمي بعد عن إنفٍ صحيح

ثم كتب إلى أبيه‏:‏ أن روِّه من الشعر، فرواه حتى كان لا يسقط عنه منه شيء بعد ذلك، ومن شعره بعد ذلك‏:‏

سيعلم مروان بن نسوة أنني * إذا التقت الخيلان أطعنها شزراً

وإني إذا حل الضيوف ولم أجد * سوى فرسي أو سعته لهم نحراً

وقد سأل معاوية يوماً أهل البصرة عن ابن زياد فقالوا‏:‏ إنه لظريف ولكنه يلحن‏.‏

فقال‏:‏ أوليس اللحن أظرف له‏؟‏

قال ابن قتيبة وغيره‏:‏ إنما أرادوا أنه يلحن في كلامه، أي‏:‏ يلغز، وهو ألحن بحجته كما قال الشاعر في ذلك‏:‏

منطقٌ رائعٌ ويلحن أحياناً * وخير الحديث ما كان لحناً

وقيل‏:‏ إنهم أرادوا أنه يلحن في قوله لحناً وهو ضد الإعراب‏.‏

وقيل‏:‏ أرادوا اللحن الذي هو ضد الصواب وهو الأشبه والله أعلم‏.‏

فاستحسن معاوية منه السهولة في الكلام وأنه لم يكن ممن يتعمق في كلامه ويفخمه، ويتشدق فيه‏.‏

وقيل‏:‏ أرداوا أنه كانت فيه لكنة من كلام العجم، فإن أمه مرجانة كانت سيروية وكانت بنت بعض ملوك الأعاجم يزدجرد أو غيره، قالوا‏:‏ وكان في كلامه شيء من كلام العجم‏.‏

قال يوماً لبعض الخوارج‏:‏ أهروري أنت‏؟‏ يعني‏:‏ أحروري أنت‏؟‏

وقال يوماً‏:‏ من كاتلنا كاتلناه، أي‏:‏ من قاتلنا قاتلناه، وقول معاوية‏:‏ ذاك أظرف له، أي‏:‏ أجود له حيث نزع إلى أخواله، وقد كانوا يوصفون بحسن السياسة وجودة الرعاية ومحاسن الشيم‏.‏

ثم لما مات زياد سنة ثلاث وخمسين ولى معاوية على البصرة سمرة بن جندب سنة ونصفاً، ثم عزله وولى عليها عبد الله بن عمرو بن غيلان بن سلمة ستة أشهر، ثم عزله وولى عليها ابن زياد سنة خمس وخمسين‏.‏

فلما تولى يزيد الخلافة جمع له بين البصرة والكوفة، فبنى في إمارة يزيد البيضاء، وجعل باب القصر الأبيض الذي كان لكسرى عليها‏.‏

وبنى الحمراء وهي على سكة المربد، فكان يشتي في الحمراء ويصيف في البيضاء‏.‏

قالوا‏:‏ وجاء رجل إلى ابن زياد فقال‏:‏ أصلح الله الأمير إن امرأتي ماتت، وإني أريد أن أتزوج أمها‏.‏

فقال له‏:‏ كم عطاؤك في الديوان‏؟‏

فقال‏:‏ سبعمائة‏.‏

فقال‏:‏ يا غلام حط من عطائه أربعمائة‏.‏

ثم قال له‏:‏ يكفيك من فقهك هذا ثلاثمائة‏.‏

قالوا‏:‏ وتخاصمت أم الفجيج وزوجها إليه وقد أحبت المرأة أن تفارق زوجها‏.‏

فقال أبو الفجيج‏:‏ أصلح الله الأمير إن خير شطري الرجل آخره، وإن شر شطري المرأة آخرها‏.‏

فقال‏:‏ وكيف ذلك‏؟‏

فقال‏:‏ إن الرجل إذا أسن اشتد عقله واستحكم رأيه وذهب جهله، وإن المرأة إذا أسنت ساء خلقها وقل عقلها وعقم رحمها واحتد لسانها‏.‏

فقال‏:‏ صدقت خذ بيدها وانصرف‏.‏

وقال يحيى بن معين‏:‏ أمر ابن زياد لصفوان بن محرز بألفي درهم فسرقت، فقال‏:‏ عسى أن يكون خيراً‏.‏

فقال أهله‏:‏ كيف يكون هذا خيراً‏؟‏ فبلغ ذلك ابن زياد فأمر له بألفين آخرين، ثم وجد الألفين فصارت أربعة آلاف فكان خيراً‏.‏

وقيل‏:‏ لهند بنت أسماء بن خارجة - وكانت قد تزوجت بعده أزواجاً من نواب العراق - من أعز أزواجك عندك وأكرمهم عليك‏؟‏

فقالت‏:‏ ما أكرم النساء أحد إكرام بشير بن مروان، ولا هاب النساء هيبة الحجاج بن يوسف، ووددت أن القيامة قد قامت فأرى عبيد الله بن زياد واشتفي من حديثه والنظر إليه - وكان أتى عذارتها وقد تزوجت بالآخرين أيضاً‏.‏

وقال عثمان بن أبي شيبة‏:‏ عن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال‏:‏ أول من جهر بالمعوذتين في الصلاة المكتوبة ابن زياد، قلت‏:‏ يعني‏:‏ والله أعلم في الكوفة، فإن ابن مسعود كان لا يكتبهما في مصحفه وكان فقهاء الكوفة عن كبراء أصحاب ابن مسعود يأخذون والله أعلم‏.‏

وقد كانت في ابن زياد جرأة وإقدام ومبادرة إلى ما لا يجوز، وما لا حاجة له به، لما ثبت في الحديث الذي رواه أبو يعلى ومسلم، كلاهما عن شيبان بن فروخ، عن جرير، عن الحسن أن عائذ بن عمرو دخل على عبيد الله بن زياد فقال‏:‏ أي بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شر الرعاء الحطمة، فإياك أن تكون منهم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له‏:‏ اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ وهل كان فيهم نخالة‏؟‏ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم‏.‏

وقد روى غير واحد عن الحسن أن عبيد الله بن زياد دخل على معقل بن يسار يعوده فقال له‏:‏ إني محدثك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما من رجل استرعاه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ذكر غير واحد أنه لما مات معقل صلى عليه عبيد الله بن زياد ولم يشهد دفنه، واعتذر بما ليس يجدي شيئاً وركب إلى قصره، ومن جراءته إقدامه على الأمر بإحضار الحسين إلى بين يديه وإن قتل دون ذلك، وكان الواجب عليه أن يجيبه إلى سؤاله الذي سأله فيما طلب من ذهابه إلى يزيد أو إلى مكة أو إلى أحد الثغور‏.‏

فلما أشار عليه شمر بن ذي الجوشن بأن الحزم أن يحضر عندك وأنت تسيره بعد ذلك إلى حيث شئت من هذه الخصال أو غيرها، فوافق شمراً على ما أشار به من إحضاره بين يديه فأبى الحسين أن يحضر عنده ليقضي فيه بما يراه ابن مرجانة‏.‏

وقد تعس وخاب وخسر، فليس لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر بين يدي ابن مرجانة الخبيث‏.‏

وقد قال محمد بن سعد‏:‏ أنبأنا الفضل بن دكين، ومالك بن إسماعيل قالا‏:‏ حدثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك بن كردوس، عن حاجب عبيد الله بن زياد قال‏:‏ دخلت معه القصر حين قتل الحسين قال‏:‏ فاضطرم في وجهه ناراً أو كلمة نحوها‏.‏

فقال‏:‏ بكمه هكذا على وجهه وقال‏:‏ لا تحدثن بها أحداً‏.‏

وقال شريك‏:‏ عن مغيرة قال‏:‏ قالت مرجانة لابنها عبيد الله‏:‏ يا خبيث قتلت ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ لا ترى الجنة أبداً‏.‏

وقد قدمنا أن يزيد بن معاوية لما مات بايع الناس في المصرين لعبيد الله حتى يجتمع الناس على إمام، ثم خرجوا عليه فأخرجوه من بين أظهرهم، فسار إلى الشام فاجتمع بمروان، وحَسُنَ له أن يتولى الخلافة ويدعو إلى نفسه ففعل ذلك، وخالف الضحاك بن قيس، ثم انطلق عبيد الله إلى الضحاك بن قيس فما زال به حتى أخرجه من دمشق إلى مرج راهط‏.‏

ثم حَسُنَ له أن دعا إلى بيعة نفسه وخلع ابن الزبير ففعل، فانحل نظامه ووقع ما وقع بمرج راهط، من قتل الضحاك وخلق معه هنالك، فلما تولى مروان أرسل ابن زياد إلى العراق في جيش فالتقى هو جيش التوابين مع سليمان بن صرد فكسرهم، واستمر قاصداً الكوفة في ذلك الجيش، فتعوق في الطريق بسبب من كان يمانعه من أهل الجزيرة من الأعداء الذين هم من جهة ابن الزبير‏.‏

ثم اتفق خروج ابن الأشتر إليه في سبعة آلاف، وكان مع ابن زياد أضعاف ذلك، ولكن ظفر به ابن الأشتر فقتله شر قتلة على شاطئ نهر الخازر قريباً من الموصل بخمس مراحل‏.‏

قال أبو أحمد الحاكم‏:‏ وكان ذلك يوم عاشوراء‏.‏

قلت‏:‏ وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين، ثم بعث ابن الأشتر برأسه إلى المختار ومعه رأس الحصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع وجماعة من رؤساء أصحابهم، فسر بذلك المختار‏.‏

فقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثني يوسف بن موسى بن جرير، عن يزيد بن أبي زياد قال‏:‏ لما جيء برأس ابن مرجانة وأصحابه طرحت بين يدي المختار فجاءت حية رقيقة ثم تخللت الرؤوس حتى دخلت في فم ابن مرجانة وخرجت من منخره، ودخلت في منخره وخرجت من فمه، وجعلت تدخل وتخرج من رأسه من بين الرؤوس‏.‏

ورواه الترمذي من وجه آخر بلفظ آخر فقال‏:‏ حدثنا واصل بن عبد الأعلا بن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير‏.‏

قال‏:‏ لما جيء برأس عبيد الله وأصحابه فنصبت في المسجد فيالرحبة، فانتهيت إليها وهم يقولون‏:‏ قد جاءت قد جاءت، فإذا حية قد جاءت تتخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد، فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت، ثم قالوا‏:‏ قد جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثة‏.‏

قال الترمذي‏:‏ وهذا حديث حسن صحيح‏.‏

وقال أبو سليمان بن زيد‏:‏ وفي سنة ست وستين، قالوا فيها‏:‏ قتل ابن زياد والحصين بن نمير، وليّ قتلهما إبراهيم بن الأشتر، وبعث برأسيهما إلى المختار فبعث بهما إلى ابن الزبير، فنصبت بمكة والمدينة‏.‏

وهكذا حكى ابن عساكر، عن أبي أحمد الحاكم وغيره أن ذلك كانت في سنة ست وستين‏.‏

زاد أبو أحمد في يوم عاشوراء، وسكت ابن عساكر عن ذلك‏.‏

والمشهور أن ذلك كانت في سنة سبع وستين كما ذكره ابن جرير وغيره، ولكن بعث الرؤوس إلى ابن الزبير في هذه السنة متعذر لأن العداوة كانت قد قويت وتحققت بين المختار وابن الزبير في هذه السنة‏.‏

وعما قليل أمر ابن الزبير أخاه مصعباً أن يسير إلى البصرة إلى الكوفة لحصار المختار وقتاله والله أعلم‏.‏

 مقتل المختار بن أبي عبيد على يدي مصعب بن الزبير

كان عبد الله بن الزبير قد عزل في هذه السنة عن نيابة البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المعروف بالقباع، وولاها لأخيه مصعب بن الزبير، ليكون رداً وقرناً وكفؤاً للمختار‏.‏

فلما قدم مصعب البصرة دخلها متلثماً فيمم المنبر، فلما صعده قال الناس‏:‏ أمير أمير، فلما كشف اللثام عرفه الناس فأقبلوا إليه وجاء القباع فجلس تحته بدرجة، فلما اجتمع الناس قام مصعب خطيباً فاستفتح القصص حتى بلغ ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ وأشار بيده نحو الشام أو الكوفة‏.‏ :

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ‏} ‏[‏القصص‏:‏ 5‏]‏ وأشار إلى الحجاز‏.‏

وقال‏:‏ يا أهل البصرة إنكم تلقبون أمراءكم، وقد سميت نفسي الجزار، فاجتمع عليه الناس وفرحوا له، ولما انهزم أهل الكوفة حين خرجوا على المختار فقهرهم وقتل منهم من قتل، كان لا ينهزم أحد من أهلها إلا قصد البصرة‏.‏

ثم خرج المختار ليلتقي بالذي جاء بالرؤوس والبشارة، فاغتنم من بقي بالكوفة من أعداء المختار غيبته فذهبوا إلى البصرة فراراً من المختار لقلة دينه وكفره، ودعواه أنه يأتيه الوحي وأنه قدم الموالي على الأشراف، واتفق أن ابن الأشتر حين قتل ابن زياد واستقل بتلك النواحي، فأحرز بلاداً وأقاليم ورساتيق لنفسه‏.‏

واستهان بالمختار، فطمع مصعب فيه وبعث محمد بن الأشعث بن قيس على البريد إلى المهلب بن أبي صفرة، وهو نائبهم على خراسان، فقدم في تجمل عظيم ومال ورجال، وعَدَدٍ وعِددٍ، وجيش كثيف، ففرح به أهل البصرة وتقوى به مصعب، فركب في أهل البصرة ومن اتبعهم من أهل الكوفة فركبوا في البحر والبر قاصدين الكوفة‏.‏

وقدم مصعب بين يديه عباد بن الحصين، وجعل على ميمنته عمر بن عبيد الله بن معمر، وعلى الميسرة المهلب بن أبي صفرة، ورتب الأمراء على راياتها وقبائلها، كمالك بن مسمع، والأحنف بن قيس، وزياد بن عمر، وقيس بن الهيثم وغيرهم‏.‏

وخرج المختار بعسكره فنزل المدار وقد جعل على مقدمته أبا كامل الشاكري، وعلى ميمنته عبد الله بن كامل، وعلى ميسرته عبد الله بن وهب الجشمي، وعلى الخيل وزير بن عبد الله السلولي، وعلى الموالي أبا عمرة صاحب شرطته‏.‏

ثم خطب الناس وحثهم على الخروج، وبعث بين يديه الجيوش، وركب هو وخلق من أصحابه وهو بيشرهم بالنصر، فلما انتهى مصعب إلى قريب الكوفة لقيتهم الكتائب المختارية فحملت عليهم الفرسان الزبيرية، فما لبثت المختارية إلا يسيراً حتى هربوا على حمية، وقد قتل منهم جماعة من الأمراء، وخلق من القراء، وطائفة كثيرة من الشيعة الأغبياء، ثم انتهت الهزيمة إلى المختار‏.‏ وقال الواقدي‏:‏ لما انتهت مقدمة المختار إليه جاء مصعب فقطع الدجلة إلى الكوفة وقد حصن المختار القصر واستعمل عليه عبد الله بن شداد، وخرج المختار بمن بقي معه فنزل حروراء، فلما قرب جيش مصعب منه جهز إلى كل قبيلة كردوساً‏.‏

فبعث إلى بكر بن وائل سعيد بن منقذ، وإلى عبد القيس مالك بن منذر، وإلى العالية عبد الله بن جعدة، وإلى الأزد مسافر بن سعيد، وإلى بني تميم سليم بن يزيد الكندي، وإلى محمد بن الأشعث السائب بن مالك‏.‏

ووقف المختار في بقية أصحابه فاقتتلوا قتالاً شديداً إلى الليل، فقتل أعيان أصحاب المختار، وقتل تلك الليلة محمد بن الأشعث وعمير بن علي بن أبي طالب، وتفرق عن المختار باقي أصحابه، فقيل له‏:‏ القصر القصر‏.‏

فقال‏:‏ والله ما خرجت منه وأنا أريد أن أعود إليه، ولكن هذا حكم الله، ثم ساروا إلى القصر فدخل وجاءه مصعب ففرق القبائل في نواحي الكوفة، واقتسموا المحال، وخلصوا إلى القصر، وقد منعوا المختار المادة والماء، وكان المختار يخرج فيقاتلهم ثم يعود إلى القصر‏.‏

ولما اشتد عليه الحصار قال لأصحابه‏:‏ إن الحصار لا يزيدنا إلا ضعفاً، فانزلوا بنا حتى نقاتل حتى الليل حتى نموت كراماً، فوهنوا فقال‏:‏ أما فوالله لا أعطي بيدي‏.‏

ثم اغتسل وتطيب وتحنط وخرج فقاتل هو ومن معه حتى قتلوا‏.‏

وقيل‏:‏ بل أشار عليه جماعة من أساورته بأن يدخل القصر دار إمارته، فدخله وهو ملوم مذموم، وعن قريب ينفذ فيه القدر المحتوم، فحاصره مصعب فيه وجميع أصحابه حتى أصابهم من جهد العطش ما الله به عليم، وضيق عليهم المسالك والمقاصد، وانسدت عليهم أبواب الحيل وليس فيهم رجل رشيد ولا حليم‏.‏

ثم جعل المختار يجيل فكرته ويكرر رويته في الأمر الذي قد حل به، واستشار من عنده في هذا السبب الشيء الذي قد اتصل سببه بسببه من الموالي والعبيد، ولسان القدر والشرع يناديه‏:‏ ‏{‏قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ‏}‏‏[‏سبأ‏:‏ 49‏]‏‏.‏

ثم قوي عزمه قوة الشجاعة المركبة فيه، على أن أخرجته من بين من كان يحالفه ويواليه، ورأى أن يموت على فرسه، حتى يكون عليها انقضاء آخر نفسه، فنزل حميةً وغضباً، وشجاعة وصلباً، وهو مع ذلك لا يجد مناصاً ولا مفراً ولا مهرباً، وليس معه من أصحابه سوى تسعة عشر، ولعله إن كان قد استمر على ما عاش عليه أن لا يفارقه التسعة عشر الموكلون بسقر‏.‏

ولما خرج من القصر سأل أن يخلى سبيله فيذهب في أرض الله، فقالوا له‏:‏ إلا على حكم الأمير‏.‏

والمقصود‏:‏ أنه لما خرج من القصر تقدم إليه رجلان شقيقان أخوان، وهما‏:‏ طرفة وطراف ابنا عبد الله بن دجاجة من بني حنيفة، فقتلاه بمكان الزياتين من الكوفة، واحتزا برأسه وأتيا به إلى مصعب بن الزبير، وقد دخل قصر الإمارة، فوضع بين يديه، كما وضع رأس ابن زياد بين يدي المختار‏.‏

وكما وضع رأس الحسين بين يدي ابن زياد، وكما سيوضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك بن مروان، فلما وضع رأس المختار بين يدي مصعب أمر لهما بثلاثين ألفاً‏.‏

وقد قتل مصعب جماعة من المختارية، وأسر منهم خمسمائة أسير، فضرب أعناقهم عن آخرهم في يوم واحد، وقد قتل من أصحاب مصعب في الوقعة محمد بن الأشعث بن قيس، وأمر مصعب بكف المختار فقطعت وسمرت إلى جانب المسجد، فلم يزل هناك حتى قدم الحجاج فسأل عنها‏.‏

فقيل له‏:‏ هي كف المختار، فأمر بها فرفعت وانتزعت من هنالك، لأن المختار كان من قبيلة الحجاج‏.‏

والمختار هو الكذاب، والمبير الحجاج، ولهذا أخذ الحجاج بثأره من ابن الزبير فقتله وصلبه شهوراً‏.‏

وقد سأل مصعب أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار عنه، فقالت‏:‏ ما عسى أن أقول فيه إلا ما تقولون أنتم فيه‏.‏

فتركها واستدعى بزوجته الأخرى، وهي‏:‏ عمرة بنت النهمان بن بشير، فقال لها‏:‏ ما تقولين فيه‏؟‏

فقالت‏:‏ رحمه الله، لقد كان عبداً من عباد الله الصالحين‏.‏

فسجنها وكتب إلى أخيه إنها تقول‏:‏ إنه نبي، فكتب إليه أن أخرجها فاقتلها، فأخرجها إلى ظاهر البلد فضربت ضربات حتى ماتت‏.‏

فقال في ذلك عمر بن أبي رمثة المخزومي‏:‏

إن من أعجب العجائب عندي * قتل بيضاء حرة عطبول

قتلت هكذا على غير جرمٍ * إن لله درها من قتيل

كتب القتل والقتال علينا * وعلى الغانيات جر الذيول

وقال أبو مخنف‏:‏ حدثني محمد بن يوسف أن مصعباً لقي عبد الله بن عمر بن الخطاب فسلم عليه فقال ابن عمر‏:‏ من أنت‏؟‏

فقال‏:‏ أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير‏.‏

فقال له ابن عمر‏:‏ نعم، أنت قاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة‏؟‏ عش ما استطعت‏.‏

فقال له مصعب‏:‏ إنهم كانوا كفرة سحرة‏.‏

فقال ابن عمر‏:‏ والله لو قتلت عدلهم غنماً من تراث أبيك لكان ذلك سرفاً‏.‏

 وهذه ترجمة المختار بن أبي عبيد الثقفي

هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عفرة بن عميرة بن عوف بن ثقيف الثقفي‏.‏

أسلم أبوه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، فلهذا لم يذكره أكثر الناس في الصحابة، وإنما ذكره ابن الأثير في ‏(‏الغابة‏)‏‏.‏

وقد كان عمر بعثه في جيش كثيف في قتال الفرس سنة ثلاث عشرة، فقتل يومئذ شهيداً، وقتل معه نحو من أربعة آلاف من المسلمين، كما قدمنا، وعرف ذلك الجسر به، وهو الجسر على دجلة ويقال له‏:‏ إلى اليوم جسر أبي عبيد‏.‏

وكان له من الولد صفية بنت أبي عبيد، وكانت من الصالحات العابدات‏.‏

وهي زوجة عبد الله بن عمر بن الخطاب، وكان عبد الله لها مكرماً ومحباً، وماتت في حياته‏.‏

وأما أخوها المختار هذا فإنه كان أولاً ناصبياً يبغض علياً بغضاً شديداً، وكان عند عمه في المدائن، وكان عمه نائبها‏.‏

فلما دخلها الحسن بن علي خذله أهل العراق وهو سائر إلى الشام لقتال معاوية بعد مقتل أبيه، فلما أحس الحسن منهم بالغدر فرَّ منهم إلى المدائن في جيش قليل، فقال المختار لعمه‏:‏ لو أخذت الحسن فبعثته إلى معاوية لاتخذت عنده اليد البيضاء أبداً‏.‏

فقال له عمه‏:‏ بئس ما تأمرني به يا ابن أخي، فما زالت الشيعة تبغضه حتى كان من أمر مسلم بن عقيل بن أبي طالب ما كان، وكان المختار من الأمراء بالكوفة، فجعل يقول‏:‏ أما لأنصرنه‏.‏

فبلغ ابن زياد ذلك، فحبسه بعد ضربه مائة جلدة، فأرسل ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يتشفع فيه، فأرسل يزيد إلى ابن زياد فأطلقه وسيره إلى الحجاز في عباءة، فصار إلى ابن الزبير بمكة فقاتل معه حين حصره أهل الشام قتالاً شديداً، ثم بلغ المختار ما قال أهل العراق فيه من التخبيط، فسار إليهم وترك ابن الزبير‏.‏

ويقال‏:‏ إنه سأل ابن الزبير أن يكتب له كتاباً إلى ابن مطيع نائب الكوفة ففعل، فسار إليها، وكان يظهر مدح ابن الزبير في العلانية ويسبه في السر، ويمدح محمد بن الحنفية ويدعو إليه، وما زال حتى استحوذ على الكوفة بطريق التشيع وإظهار الأخذ بثأر الحسين‏.‏

وبسبب ذلك التفت عليه جماعات كثيرة من الشيعة وأخرج عامل ابن الزبير منها، واستقر ملك المختار بها، ثم كتب إلى الزبير يعتذر إليه ويخبره أن ابن مطيع كان مداهناً لبني أمية، وقد خرج من الكوفة، وأنا ومن بها في طاعتك، فصدقه ابن الزبير لأنه كان يدعو إليه على المنبر يوم الجمعة على رؤوس الناس، ويظهر طاعته‏.‏

ثم شرع في تتبع قتلة الحسين ومن شهد الوقعة بكربلاء من ناحية ابن زياد

فقتل منهم خلقاً كثيراً، وظفر برؤوس كبار منهم كعمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الذين قتلوا الحسين، وشمر بن ذي الجوشن أمير الألف الذين ولوا قتل الحسين، وسنان بن أبي أنس، وخولي بن يزيد الأصبحي، وخلق غير هؤلاء‏.‏

وما زال حتى بعث سيف نقمته إبراهيم بن الأشتر في عشرين ألفاً إلى ابن زياد، وكان ابن زياد حين التقاه في جيش أعظم من جيشه - في أضعاف مضاعفة - كانوا ثمانين ألفاً‏.‏

وقيل‏:‏ ستين ألفاً، فقتل ابن الأشتر ابن زياد وكسر جيشه، واحتاز ما في معسكره، ثم بعث برأس ابن زياد ورؤوس أصحابه مع البشارة إلى المختار، ففرح بذلك فرحاً شديداً، ثم إن المختار بعث برأس ابن زياد، ورأس حصين بن نمير ومن معهما إلى ابن الزبير بمكة، فأمر ابن الزبير بها فنصبت على عقبة الحجون‏.‏

وقد كانوا نصبوها بالمدينة، وطابت نفس المختار بالملك، وظن أنه لم يبق له عدو ولا منازع، فلما تبين ابن الزبير خداعه ومكره وسوء مذهبه، بعث أخاه مصعباً أميراً على العراق، فسار إلى البصرة فجمع العساكر فما تم سرور المختار حتى سار إليه مصعب بن الزبير من البصرة في جيش هائل، فقتله واحتز رأسه وأمر بصلب كفه على باب المسجد‏.‏

وبعث مصعب برأس المختار مع رجل من الشرط على البريد، إلى أخيه عبد الله بن الزبير، فوصل مكة بعد العشاء فوجد عبد الله يتنفل، فما زال يصلي حتى أسحر ولم يلتفت إلى البريد الذي جاء بالرأس، فلما كان قريب الفجر قال‏:‏ ما جاء بك‏؟‏

فألقى إليه الكتاب فقرأه، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين معي الرأس‏.‏

فقال‏:‏ ألقه على باب المسجد‏.‏

فألقاه ثم جاء فقال‏:‏ جائزتي يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ جائزتك الرأس الذي جئت به تأخذه معك إلى العراق‏.‏

ثم زالت دولة المختار كأن لم تكن، وكذلك سائر الدول، وفرح المسلمون بزوالها، وذلك لأن الرجل لم يكن في نفسه صادقاً، بل كان كاذباً يزعم أن الوحي يأتيه على يد جبريل‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن نمير، حدثنا عيسى القارئ، أبو عمير بن السدي، عن رفاعة القباني قال‏:‏ دخلت على المختار فألقى لي وسادة وقال‏:‏ لولا أن أخي جبريل قام عن هذه لألقيتها لك‏.‏

قال‏:‏ فأردت أن أضرب عنقه‏.‏

قال‏:‏ فذكرت حديثاً حدثنيه أخي عمر بن الحمق، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أيما مؤمن أمن مؤمناً على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن حماد بن سلمة، حدثني عبد الملك بن عمير، عن رفاعة بن شداد‏.‏

قال‏:‏ كنت أقوم على رأس المختار فلما عرفت كذبه هممت أن أسل سيفي فأضرب عنقه، فذكرت حديثاً حدثناه عمر بن الحمق‏.‏

قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من آمن رجلاً على نفسه فقتله أعطى لواء غدر يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه النسائي، وابن ماجه، من غير وجه عن عبد الملك بن عمير وفي لفظ لهما‏:‏ ‏(‏‏(‏من أمن رجلاً على دم فقتله فأنا بري من القاتل، وإن كان المقتول كافراً‏)‏‏)‏‏.‏ وفي سند هذا الحديث اختلافوقد قيل لابن عمر‏:‏ إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه‏.‏

فقال‏:‏ صدق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏‏.‏

وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال‏:‏ قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني عنده، وكان يتعاهد مبيتي بالليل‏.‏

قال‏:‏ فقال لي‏:‏ اخرج فحدث الناس، قال‏:‏ فخرجت فجاء رجل، فقال‏:‏ ما تقول في الوحي‏؟‏

فقلت‏:‏ الوحي وحيان، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ‏}‏‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فهموا أن يأخذوني‏.‏

فقلت‏:‏ ما لكم وذاك ‏!‏ إني مفتيكم وضيفكم‏.‏

فتركوني، وإنما أراد عكرمة أن يعرض بالمختار وكذبه في ادعائه أن الوحي ينزل عليه‏.‏

وروى الطبراني من طريق أنيسة بنت زيد بن الأرقم‏:‏ أن أباها دخل على المختار بن أبي عبيد فقال له‏:‏ يا أبا عامر لو شفت رأي جبريل وميكائيل‏.‏

فقال له زيد‏:‏ خسرت وتعست، أنت أهون على الله من ذلك، كذاب مفترٍ على الله ورسوله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن إسحاق بن يوسف، ثنا ابن عوف الصديق الناجي‏:‏ أن الحجاج بن يوسف دخل على أسماء بنت أبي بكر الصديق، بعد ما قتل ابنها عبد الله بن الزبير، فقال‏:‏ إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل به وفعل‏.‏

فقالت له‏:‏ كذبت، كان باراً بالوالدين، صواماً قواماً، والله لقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول، وهو مبير‏.‏

هكذا رواه أحمد بهذا السند واللفظ‏.‏

وقد أخرجه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ في كتاب ‏(‏الفضائل‏)‏، عن عقبة بن مكرم العمي البصري، عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي، عن الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل، عن أبي عقرب واسمه معاوية بن سلم، عن أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن في ثقيف كذاباً ومبيراً‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث قصة طويلة في مقتل الحجاج ولدها عبد الله في سنة ثلاث وسبعين كما سيأتي‏.‏

وقد ذكر البيهقي هذا الحديث في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏‏:‏ وقد ذكر العلماء أن الكذاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان يظهر التشيع ويبطن الكهانة، وأسرّ إلى أخصائه أنه يوحى إليه، ولكن ما أدري هل كان يدّعي النبوة أم لا‏؟‏

وكان قد وضع له كرسي يعظم ويحف به الرجال ويستر بالحرير، ويحمل على البغال، وكان يضاهي به تابوت بني إسرائيل المذكور في القرآن، ولا شك أنه كان ضالاً مضلاً أراح الله المسلمين منه بعد ما انتقم به من قوم آخرين من الظالمين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏ 129

وأما المبير‏:‏ فهو القتّال وهو الحجاج بن يوسف الثقفي نائب العراق لعبد الملك بن مروان، الذي انتزع العراق من يد مصعب بن الزبير، كما سيأتي بيانه قريباً‏.‏

وذكر الواقدي‏:‏ أن المختار لم يزل مظهراً موافقة ابن الزبير حتى قدم مصعب إلى البصرة في أول سنة سبع وستين وأظهر مخالفته فسار إليه مصعب فقاتله، وكان المختار في نحو من عشرين ألفاً‏.‏

وقد حمل عليه المختار مرة فهزمه، ولكن لم يثبت جيش المختار حتى جعلوا ينصرفون إلى مصعب ويدعون المختار، وينقمون عليه ما هو فيه من الكهانة والكذب، فلما رأى المختار ذلك انصرف إلى قصر الإمارة فحاصره مصعب فيه أربعة أشهر، ثم قتله في رابع عشر من رمضان سنة سبع وستين، وله من العمر سبع وستون سنة فيما قيل‏.‏

 فصل استقرار مصعب بن الزبير بالكوفة

ولما استقر مصعب بن الزبير بالكوفة بعث إلى إبراهيم بن الأشتر ليقدم عليه، وبعث إليه عبد الملك بن مروان ليقدم عليه، فحار بن الأشتر في أمره، وشاور أصحابه إلى أيهما يذهب، ثم اتفق رأيهم على الذهاب إلى بلدهم الكوفة، فقدم ابن الأشتر على مصعب بن الزبير فأكرمه وعظمه واحترمه كثيراً‏.‏

وبعث مصعب المهلب بن أبي صفرة على الموصل، والجزيرة، وأذربيجان، وأرمينية، وكان قد استخلف على البصرة حين خرج منها عبيد الله بن عبد الله بن معمر، وأقام هو بالكوفة‏.‏

ثم لم تنسلخ هذه السنة حتى عزله أخوه عبد الله بن الزبير عن البصرة، وولى عليها ابنه حمزة بن عبد الله بن الزبير، وكان شجاعاً جواداً مخلطاً يعطي أحياناً حتى لا يدع شيئاً، ويمنع أحياناً ما لم يمنع مثله، وظهرت خفة وطيش في عقله، وسرعة في أمره‏.‏

فبعث الأحنف إلى عبد الله بن الزبير فعزله وأعاد إلى ولايتها أخاه مصعباً مضافاً إلى ما بيده من ولاية الكوفة، قالوا‏:‏ وخرج حمزة بن عبد الله بن الزبير من البصرة بمال كثير من بيت مالها، فعرض له مالك بن مسمع، فقال‏:‏ لا ندعك تذهب بأعطياتنا، فضمن له عبيد الله بن معمر العطاء فكف عنه‏.‏

فلما انصرف حمزة لم يقدم على أبيه مكة، بل عدل إلى المدينة، فأودع ذلك المال رجالاً فكلهم غل ما أودعه وجحده، سوى رجل من أهل الكتاب، فأدى إليه أمانته‏.‏

فلما بلغ أباه ما صنع قال‏:‏ أبعده الله، أردت أن أباهي به بني مروان فنكص‏.‏

وذكر أبو مخنف‏:‏ أن حمزة بن عبد الله بن الزبير ولي البصرة سنة كاملة فالله أعلم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وحج بالناس فيها عبد الله بن الزبير، وكان عامله على الكوفة أخاه مصعباً، وعلى البصرة ابنه حمزة‏.‏

وقيل‏:‏ بل كان رجع إليها أخوه، وعلى خراسان وتلك البلاد عبد الله بن خازم السلمي من جهة ابن الزبير والله سبحانه أعلم‏.‏ وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏ الوليد بن عقبة بن أبي معيط‏.‏

وأبو الجهم، وهو صاحب الأنبجانية المذكورة في الحديث الصحيح‏.‏

وفيها‏:‏ قتل خلق كثير يطول ذكرهم‏.‏